ج/ 29 ص -476-باب بَيْع الأصُول والثمَار
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله ورضي عنه عن رجل اشترى دارا ولم يكن لها بروز، ثم إنه هدمها وعمرها، وأحدث بروزا وسلما وبابا في زقاق غير نافذ، فخاف من الدعوي عليه، والأيمان بالله تعالى: أنه ما أحدث في هذه الدار شيئًا. فملكها للغير، وذكر أنه باعها بالمهلة، وعمل هذا البيع أحبولة ومواطأة حتى يضيع الحق، فهل تلزم اليمين لمن أحدث وباع؟ أم تلزم الذي اشتري، وهو لم يحدث شيئًا؟
فأجاب:
الحمد لله، بيعها لا يسقط الدعوي، ولا اليمين الواجبة بالدعوي، وصاحب الحق له أن يدعي على المشتري المستولي على ما أحدث؛ ليزال الإحداث. وله أن يدعي على البائع المحدث له، الممكن له المشتري من الاستيلاء، فعلى أيهما ادعى صحت دعواه.
ج/ 29 ص -477-وسئل رحمه الله عن رجل بني دارًا عالية وسافلة، وأجري العالية على السافلة، ثم باعها في صفقتين لاثنين، ولم يذكر لمشتري السفلي أن عليه حق ماء وقد تضرر؟
فأجاب:
أما البيع فيقع على الصورة الواقعة، لكن إذا لم يعلم المشتري أن على سطحه حقًا لغيره، فله الفسخ، أو الأرش.
وسئل عن رجل باع زرعا أخضر قبل أن يدرك، هل يجوز ذلك؟
فأجاب:
بيع الزرع بشرط التبقية لا يجوز باتفاق العلماء. وإن اشتراه بشرط القطع جاز بالاتفاق. وإن باعه مطلقًا لم يجز عند جماهير العلماء؛ فإن النبي ﷺ نهى عن بيع الحب حتى يشتد، والعنب حتى يسود.
ج/ 29 ص -478-وسئل رحمه الله عن ملك بستان شجره مختلف: منه ما يبدو صلاحه؛ كالمشمش. ومنه ما يتأخر بدو صلاحه؛ كالرمان. ومنه ما يبدو صلاحه بينهما؛ كالعنب والتين والرطب، وأنتم لا تصححون البيع إلا بعد بدو الصلاح فكيف يمكن الاحتياط الشرعي مع هذا الاختلاف في بدو الصلاح بتقدمه وتأخره وتوسطه. فإن باع مثلا المشمش عند صلاحه، ولم تجوزوا بيع العنب حيث هو في ذلك الوقت حصرم على ما لم يكن لهم، أفتونا؟
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة لها صورتان:
إحداهما: أن يضمن البستان ضمانا بحيث يكون الضامن هو الذي يزرع أرضه، ويسقي شجره، كالذي يستأجر الأرض. والأخري إنما يكون اشترى مجرد الثمرة؛ بحيث يكون مؤنة السقي والإصلاح على البائع دون المشتري، والمشتري ليس له إلا الثمرة، ولا مؤنة عليه.
ج/ 29 ص -479-فأما الصورة الأولي، فللعلماء فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها داخلة في النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. وعلى هذا فمنهم من يحتال على ذلك بإجارة الأرض والمساقاة على الشجر، كما يذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وبعض أصحاب أحمد: منهم القاضي أبو يعلى في [كتاب إبطال الحيل] والمنصوص عن أحمد بطلان هذه الحيل، وهو مذهب مالك وغيره، وكثير من الصور تكون باطلة بالإجماع.
والقول الثاني: يفرق بين أن تكون الأرض كثيرة أو قليلة، فإن كانت الأرض البيضاء أكثر من الثلثين والشجر أقل من الثلث، جاز إجارة الأرض، ودخل فيها بيع الثمر ضمنا وتبعا، وهذا قول مالك. وفي وقف الثلث قولان.
الثالث: جواز ذلك مطلقا، سواء كانت الأرض أقل أو أكثر، وهذا قول طائفة من السلف والخلف منهم ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد، وغيره، وهذا هو المأثور عن الصحابة. فإنه قد روي حرب الكرماني وأبو زُرْعة الدمشقي وغيرهما بإسناد ثابت: أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قبل حديقة أسيد بن حضير لما مات ثلاث سنين، وتسلف القبالة، ووفي بها دينا كان على أسيد. ومثل
ج/ 29 ص -480-هذه القصة لابد أن تنتشر، ولم ينكرها أحد.
وأيضا، فإنه وضع الخراج على أرض الخراج والأعيان والخراج أجرة: في مذهب مالك والشافعي، وأحمد في المشهور والأرض ذات شجر فأجر الجميع، وهذا القول أصح الأقوال، وبه ترك الخراج عن المسلمين في مثل ذلك، وله مأخذان:
أحدهما: أنه لابد من إجارة الأرض، وذلك لا يمكن إلا مع الشجر، فجاز للحاجة لعدم إمكان التبعيض، كما أنه إذا بدي بعض ثمر الشجر جاز بيع جميعها اتفاقا، بل إذا بدي الصلاح في شجرة كان صلاحا لذلك النوع في تلك الحديقة، عند جماهير العلماء، وفي سائر البساتين نزاع، وذلك أنه يدخل في الفرد، والعقود تبعا ما لا يدخل استقلالا، كما يدخل أساس الحيطان ودواخلها، وعمل الحيوانات، وما يدخل من الزيادة بعد بدو الصلاح، وكما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "من باع نخلا قد أبرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع".
وإذا اشترط المبتاع الثمر المؤبر جاز بالنص والإجماع، وهو ثمر لم يبد صلاحه جاز بيعه تبعا لغيره، وغير ذلك. ويجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها، كما جاز بيع العرايا بالتمر، وكما جوز من جوز المضاربة والمساقاة والمزارعة تبعا. ومن القياس عنده أن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك عنده إجارة كما
ج/ 29 ص -481-هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي.
ومن جعل ذلك مشاركة وجعلها أصلا آخر يجوز ذلك نصا، لا قياسًا، وليس هو مخالفا للقياس، كما هو مذهب جمهور السلف، وطوائف من الخلف من أصحاب أبي حنيفة كصاحبيه، ومن أصحاب الشافعي كالخطابي وغيره، وهو مذهب أحمد وغيره، فهنا أتم نظرا.
والمأخذ الثاني: أن النبي ﷺ إنما نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، كما نهى عن بيع الحب قبل اشتداده، وعن بيع العنب حتى يسود، ثم إنه يجوز مع ذلك عند الأئمة الأربعة إجارة الأرض لمن يعمل عليها، حتى ينبت الزرع، وليس ذلك تبعا للحب وكذلك تقبيل الشجر لمن يعمل عليها حتى تثمر، ليس هو تبعًا للثمرة. ألا ترى أن المزارعة على الأرض بجزء من الأرض، كالمساقاة على الشجر بجزء من الثمر، وأن إعارة الأرض كإعارة الشجر،وأن انتفاع أهل الوقف بزرع الأرض كانتفاعهم بثمر الشجر.فالثمرة وإن كانت أعياناً فإنها تجري مجري الفوائد، والنفع في الوقف، والمضاربة، والمساقاة؛ لأنه يستخلف بدلها، كما أن استرضاع الظئر لما كان مستخلفا بدله جري مجري النفع؛ ولهذا في باب بيع الثمر بعد بدو صلاحه، إنما تكون مؤونة كمال الصلاح على البائع. وأما القبالة التي فعلها عمر، فإنما يقوم فيها بسقي الشجر، ومؤونة حصول الثمر المتقبل، فلا
ج/ 29 ص -482-يقاس هذا بهذا. ويعلم أن نهي النبي ﷺ عن بيع الثمر حتي يبدو صلاحه لم يتناول هذه القبالة بلا ريب. ثم إن قدر أن الشجر لم يطلع أو تلف بعد إطلاعه بدون تفريط المتقبل، كان بمنزلة تعطل المنفعة في الإجارة، وهو لا يستحق أجرة إلا إذا تمكن المستأجر من الانتفاع.
الصورة الثانية: أن يكون المشتري مجرد الثمرة فقط، ومؤونة السقي على البائع، فهذه المسألة إذا كان البستان مشتملا على أنواع، ففيها أيضا قولان:
أحدهما وهو قول الليث بن سعد : أنه يجوز بيع جميع البستان، إذا صلح نوع منه، كما يجوز بيع النوع جميعه، إذا بدا صلاح بعضه؛ وذلك لأن التفريق فيه ضرر عظيم، وذلك لأن المشتري للنوع قد يتفق في النوع الآخر، وقد لا يتفق من يشتري نوعا دون نوع، وهذا القول أقوي من القول الثاني، وهو المنع مطلقا، كما هو المشهور، والجواز هنا بمجرد الحاجة، وذلك أن بيع المزابنة أعظم من بيع الثمر قبل بدو صلاحه، فإنه بيع ربوي بجنسه خرصا. والربا أعظم من الغرر لاسيما ونهيه عن بيع الثمرة، حتي يبدو صلاحها، قد خص منه مواضع كما خص بيعه مع الشجر.
فعلم أن النهي لم يتناول بيعه مع غيره مطلقاً، بل قد يقال: إنما
ج/ 29 ص -483-نهى عنه مفرداً، كما نهى عن الذهب والحرير مفرداً، ويباح مع غيره ما لا يباح مفرداً؛ ولأنه بيع رطب بجنسه الربوي يابسا، وهذا محرم بالنص أيضا، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقد جاز من دخول المعدوم في بيع الثمرة ما لم يثبت نظيره في المزابنة.
فإذا كان النبي ﷺ قد أرخص في العرايا استثناء من المزابنة للحاجة، فلأن يجوز بيع النوع تبعاً للنوع، مع أن الحاجة إلى ذلك أشد وأولي، ولا يلزم من منعه مفرداً منعه مضموماً. ألا تري أن الحمل لا يجوز إفراده بالبيع، وبيع الحيوان الحامل جائز بالإجماع، وإن اشترط كونه حاملا، ونظائره كثيرة في الشريعة.
وسر الشريعة في ذلك كله: أن الفعل إذا اشتمل على مفسدة منع منه إلا إذا عارضها مصلحة راجحة، كما في إباحة الميتة للمضطر. وبيع الغرر نهى عنه؛ لأنه من نوع الميسر الذي يفضي إلى أكل المال بالباطل، فإذا عارض ذلك ضرر أعظم من ذلك، أباحه دفعا لأعظم الفسادين باحتمال أدناهما. واللّه أعلم.
ج/ 29 ص -484-وَقال الشيخ رحمه اللّه:
فصل
وأما بيع المقاثي كالبطيخ والخيار والقثاء ونحو ذلك، فإنه وإن كان من العلماء في مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد من قال: لا يباع إلا لقطة لقطة، جعلا لذلك من باب بيع الثمر قبل بدو صلاحه. والصحيح أنه يجوز بيعها بعروقها جملة، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي، وأحمد، وهو مذهب مالك وغيره، لكن هذا القول له مأخذان.
أحدهما: أن العروق كأصول الشجر. فبيع الخضروات بعروقها قبل بدو صلاحها كبيع الشجر بثمره قبل بدو صلاحه يجوز تبعا. وهذا مأخذ طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وإن كان هذا على خلاف أصوله.
والمأخذ الثاني وهو الصحيح: أن هذه لم تدخل في نهي النبي ﷺ، بل تصح مع العروق الذي هو اللقطة
ج/ 29 ص -485-الموجودة، واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثاة، وإن كانت تلك معدومة لم توجد؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ولا يمكن بيعها إلا كذلك، وبيعها لقطة لقطة متعذر أو متعسر، لعدم التمييز، وكلاهما منتف شرعاً، والشريعة استقرت على أن ما يحتاج إلى بيعه يجوز بيعه، وإن كان معدوما؛ كالمنافع، وأجر الثمر الذي لم يبد صلاحه مع الأصل، والذي بدا صلاحه مطلقا.
وأيضا، فإنهم يقولون: هذه معلومة في العرف والعادة، كالعلم بالثمار، وتلفها بعد ذلك كتلف الثمار بالجائحة، وتلف منافع الإجارة من جنسه. وثبت بالنص أن الجوائح توضع بلا محذور في ذلك أصلا، بل المنع من بيع ذلك من الفساد، واللّه لا يحب الفساد. وإن كان بيع ذلك قد يفضي إلى نوع من الفساد، فالفساد في تحريم ذلك أعظم، فيجب دفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما؛ إذ ذلك قاعدة مستقرة في الشريعة.
وسئل رَحمه اللّه عن رجل له سواقي يزرع فيها: اللفت، والجزر، والفجل، والقصب، والقلقاس، فهل يجوز بيعه في الأرض ؟
فأجاب:
أما بيع القصب ونحوه سواء بيع على أن يقلع، أو يقطع من مكان معروف في العادة، وإن كان مغطي بورقه، فإن هذا الغطاء
ج/ 29 ص -486-لا يمنع صحة البيع، كبيع الحب في سنبله، وكبيع الجوز واللوز في قشريه؛ فإن بيع جميع هذا جائز عند جماهير المسلمين الأولين والآخرين؛ كأبي حنيفة ومالك وأحمد، وقول في مذهب الشافعي، وهو عمل المسلمين من زمن نبيهم، إلى هذا الزمان، في جميع الأعصار والأمصار.
وقد دل على هذا أن النبي ﷺ نهى عن بيع الحب حتي يشتد، وعن بيع العنب حتي يسود. فإن هذا يدل على جواز بيعه بعد اشتداده، كما دل نهيه عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها على جواز البيع بعد بدو الصلاح.
وأيضا، فإن هذا ليس من بيع الغَرَر، فإنه معلوم في العادة. وأما بيع الجزر واللفت والفجل والقلقاس، ونحو ذلك، ففيه قولان مشهوران:
أحدهما: لا يجوز حتي يقلع، بناء على أنه مغيب لم ير ولم يوصف؛ كسائر الأعيان الغائبة التي لم تر، ولم توصف. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور من مذهب أحمد.
والثاني: أنه يجوز بيعه إذا رأي ما ظهر منه على الوجه المعروف، وهذا قول مالك، وقول في مذهب أحمد. وهذا أصح القولين، وعليه عمل المسلمين قديما وحديثا، ولا تتم مصلحة الناس إلا بهذا؛ فإن تأخير بيعه إلى حين قلعه، يتعذر تارة ويتعسر أخري، ويفضي إلى
ج/ 29 ص -487-فساد الأموال.
وأما كون ذلك مغيبًا فيكون غررًا، فليس كذلك، بل إذا رؤي من المبيع ما يدل على ما لم ير جاز البيع باتفاق المسلمين؛ في مثل بيع العقار، والحيوان. وكذلك ما يحصل الحرج بمعرفة جميعه يكتفي برؤية ما يمكن منه، كما في بيع الحيطان. وما مأكوله في جوفه والحيوان الحامل، وغير ذلك، فالصواب جواز بيع مثل هذا. واللّه أعلم.
وسئل عن بيع ما في بطن الأرض من اللفت والجزر والقلقاس ونحوه، هل يجوز أم لا؟
فأجاب:
أما بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه؛ كاللفت، والجزر، والقلقاس، والفجل والثوم، والبصل، وشبه ذلك ففيه قولان للعلماء:
أحدهما: أنه لا يجوز، كما هو المشهور عن أصحاب الشافعي، وأحمد وغيرهما. قالوا: لأن هذه أعيان غائبة لم تر ولم توصف، فلا يجوز بيعها كغيرها من الأعيان الغائبة، وذلك داخل في نهي النبي ﷺ
ج/ 29 ص -488-عن بيع الغرر .
والثاني: أن بيع ذلك جائز. كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك، وغيره، وهو قول في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول هو الصواب لوجوه.
منها: أن هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلون بما يظهر من الورق على المغيب في الأرض، كما يستدلون بما يظهر من العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلون بما يظهر من الحيوان على بواطنه.ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك،والمرجع في ذلك اليهم.
والثاني: أن العلم في جميع المبيع يشترط في كل شيء بحسبه، فما ظهر بعضه وخفي بعضه، وكان في إظهار باطنه مشقة وحرج، اكتفي بظاهره؛ كالعقار، فإنه لا يشترط رؤية أساسه، ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان، وكذلك أمثال ذلك.
الثالث: أنه ما احتيج إلى بيعه فإنه يوسع فيه ما لا يوسع في غيره؛ فيبيحه الشارع للحاجة مع قيام السبب الخاص، كما أرخص في بيع العرايا بخرصها، وأقام الخرص مقام الكيل عند الحاجة، ولم يجعل ذلك من المزابنة التي نهى عنها؛ فإن المزابنة بيع المال بجنسه مجازفة إذا كان
ج/ 29 ص -489-ربويا بالاتفاق، وإن كان غير ربوي فعلى قولين، وكذلك رخص النبي ﷺ في ابتياع الثمر بعد بدو صلاحه بشرط التبقية، مع أن إتمام الثمر لم يخلق بعد، ولم ير. فجعل ما لم يوجد ولم يخلق ولم يعلم تابعا لذلك، والناس محتاجون إلى بيع هذه النباتات في الأرض.
ومما يشبه ذلك بيع المقاثي؛ كمقاثي البطيخ والخيار والقثاء، وغير ذلك، فمن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما من يقول: لا يجوز بيعها إلا لقطة لقطة. وكثير من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما قالوا: إنه يجوز بيعها مطلقا على الوجه المعتاد، وهذا هو الصواب؛ فإن بيعها لا يمكن في العادة إلا على هذا الوجه، وبيعها لقطة لقطة إما متعذر، وإما متعسر؛ فإنه لا يتميز لقطة عن لقطة؛ إذ كثير من ذلك لا يمكن التقاطه، ويمكن تأخيره. فبيع المقثاة بعد ظهور صلاحها كبيع ثمرة البستان بعد بدو صلاحها، وإن كان بعض المبيع لم يخلق بعد ولم ير؛ ولهذا إذا بدا صلاح بعض الشجرة كان صلاحا لباقيها باتفاق العلماء، ويكون صلاحها صلاحا لسائر ما في البستان من ذلك النوع في أظهر قولي العلماء. وقول جمهورهم: بل يكون صلاحًا لجميع ثمرة البستان التي جرت العادة بأن يباع جملة في أحد قولي العلماء. وهذه المسائل وغيرها مما ذكرنا في هذا الجواب مبسوطة في غير هذا الموضع.
ج/ 29 ص -490-وسئل رحمه اللّه عن بيع قصب السكر، والقلقاس، واللفت والجزر ونحو ذلك، وهو قائم في الأرض، وفي بيع البطيخ ونحوه من المقاثي؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما بيع قصب السكر فلا شبهة فيه، إلا ما يذكر من كونه في قشره الذي يكون صونًا له، فبيعه كبيع الجوز واللوز والباقلا في قشريه، وبيع ذلك جائز عند جماهير علماء المسلمين، وهو قول سلف الأمة، وعملها المتصل من لدن أصحاب رسول اللّه ﷺ إلى هذا الزمان، ولا تتم مصلحة الناس إلا بذلك، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، وقول في مذهب الشافعي، فإنه لما مرض أمر أن يشتري له باقلا أخضر، وذلك في مرض موته، فهو متأخر عن نهيه الذي في كتبه.
وقد دل على ذلك أنه ﷺ نهى عن بيع العنب حتي يسود، وعن بيع الحب حتي يشتد. وذلك يدل على جواز بيع ذلك بعد اسوداده واشتداده، فيدل على جواز بيع الحب في سنبله،
ج/ 29 ص -491-وهو من صور النزاع كالباقلا في قشريه. والذي كره بيع ذلك يظنه من الغرر الذي نهى عنه رسول اللّه ﷺ، وليس الأمر كذلك؛ لوجهين:
أحدهما: أن المشترين يعلمون ذلك كما يعلمون كثيرًا من المبيعات المتفق على جواز بيعها، بل علمهم بذلك أقوي من علمهم بكثير منها.
والثاني: أنه لو فرض أن في ذلك جهلا فالشريعة استقرت على ما يحتاج إلى بيعه مع الغرر؛ ولهذا أذن النبي ﷺ في بيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح. ثم إنه بعد ذلك أمر بوضع الجوائح إذا أصابتها.
وأيضا، فإنه أذن في بيع العقار بقوله ﷺ: "من كان له شرك في أرض، أو ربعة، أو حائط، فلا يحل له أن يبيع حتي يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك". وقد أجمع المسلمون على جواز بيع العقار مع أن أساس الحيطان، وداخلها مغيب.
وكذلك أذن في بيع الثمار قبل بدو صلاحها تبعا للأصل، بقوله ﷺ في الحديث المتفق عليه: "من باع نخلا مؤبرًا، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع"، وذلك أن بيع الغرر نهى عنه لما فيه من الميسر، والقمار، المتضمن لأكل المال بالباطل. فإذا
ج/ 29 ص -492-كان في بعض الصور من فوات الأموال وفسادها ونقصها على أصحابها بتحريم البيع أعظم مما فيها مع حله لم يجز دفع الفساد القليل بالتزام الفساد الكثير، بل الواجب ما جاءت به الشريعة، وهو تحصيل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما. والفتيا لا تحتمل البسط أكثر من هذا.
وَقَال شيخ الإسلام قدسَ اللّه روحه:
فصل
وأما بيع القلقاس والجزر واللفت ونحو ذلك، فهو جائز عند طوائف من أهل العلم، وهو مذهب مالك، وقول في مذهب الإمام أحمد، وإن كان المشهور عنه كمذهب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يجوز. والقول الأول هو الصواب؛ فإن الأصل المتفق عليه بين العلماء في ذلك كون المبيع معلومًا العلم المعتبر في المبيع، فنهي النبي ﷺ عن بيع الغرر يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة بذلك. وأهل الخبرة يقولون: إنهم يعلمون ذلك في حال كونه في الأرض، بحيث يخرج عن كونه غررًا، ويستدلون على ذلك بما يقلعونه منه، كما يعلم
ج/ 29 ص -493-المبيع المنفصل عن الأرض برؤية بعضه إذا كان متشابه الأجزاء. ثم إن ظهر الخفي دون الظاهر بما لم تجر به العادة، كان ذلك إما غَبنًا، وإما تدليسا، بل أهل الخبرة يقولون: إنهم يعلمون ذلك أكثر مما يعلمون كثيرًا من المنفصل.
وكون المبيع معلوما أو غير معلوم لا يؤخذ عن الفقهاء بخصوصهم، بل يؤخذ عن أهل الخبرة بذلك الشيء، وإنما المأخوذ عنهم ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها. وقد قال اللّه تعالى: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" [البقرة: 3] ، والإيمان بالشيء مشروط بقيام دليل يدل عليه. فعلم أن الأمور الغائبة عن المشاهدة قد تعلم بما يدل عليها، فإذا قال أهل الخبرة: إنهم يعلمون ذلك كان المرجع اليهم في ذلك، دون من لم يشاركهم في ذلك، وإن كان أعلم بالدين منهم، كما قال النبي ﷺ لهم في تأبير النخل: "أنتم أعلم بدنياكم. فما كان من أمر دينكم فإلي". ثم يترتب الحكم الشرعي على ما تعلمه أهل الخبرة، كما يترتب على التقويم والقيامة والخرص، وغير ذلك.
ج/ 29 ص -494-وسئل عن إنسان عاقد إنسانًا على قصب، وقلقاس، وهو تحت الأرض قبل إدراكه، فعند إدراكه غرق، وقد طلب منه ثمنه بلا مكاتبة ولا تسليم، فما يجب في ذلك ؟
فأجاب:
ما تلف من ذلك فهو من ضمان البائع، سواء كان البيع صحيحًا أو فاسدًا، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: "إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك من ثمنها شيء، بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ ".