أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب الربا

    ج/ 29 ص -418-باب الربا
    وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    عن تحريم الربا، وما يفعل من المعاملات بين الناس اليوم؛ ليتوصلوا بها إلى الربا، وإذا حل الدين يكون المديون معسرا، فيقلب الدين في معاملة أخرى بزيادة مال، وما يلزم ولاة الأمور في هذا، وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد في معاملة الربا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    المراباة حرام بالكتاب والسنة، والإجماع‏.‏ وقد لعن رسول الله ﷺ آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه‏.‏ ولعن المحلل، والمحلل له‏.‏ قال الترمذي‏:‏حديث صحيح، فالاثنان ملعونان‏.‏
    وإن كان أصل الربا في الجاهلية‏:‏ أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل قال له‏:‏ أتقضي‏؟‏ أم تربي‏؟‏ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال

    ج/ 29 ص -419-والأصل واحد‏.‏ وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين‏.‏
    وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توسلوا بمعاملة أخري، فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين، وأما الصحابة فلم يكن بينهم نزاع أن هذا محرم، فإنما الأعمال بالنيات، والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة‏.‏
    والله تعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الربوية‏.‏ وأما إذا حل الدين وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا كان عليه الوفاء، فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره‏.‏
    والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية، بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقطوا الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي منها وفي دينه منها بحسب الإمكان‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 29 ص -420-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    فصل

    فيمن أوقع العقود المحرمة ثم تاب
    قال الله تعالى في الربا‏:‏ ‏
    "وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 279‏]‏ ‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا في موضعه‏.‏
    وقد قال تعالى لما ذكر الخلع والطلاق، فقال في الخلع‏:‏ ‏
    "وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏229231‏]‏ ،

    ج/ 29 ص -421-وقال تعالى‏:‏ ‏"إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليوم الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏"‏[‏الطلاق‏:‏13‏]‏ ‏.‏
    فالطلاق المحرم، كالطلاق في الحيض، وفي طهر قد أصابها فيه‏.‏ حرام بالنص والإجماع، وكالطلاق الثلاث عند الجمهور، وهو تعد لحدود الله، وفاعله ظالم لنفسه، كما ذكر الله تعالى‏:‏
    ‏"وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ‏.‏ والظالم لنفسه إذا تاب تاب الله عليه؛ لقوله‏:‏ ‏"وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏110‏]‏ ، فهو إذا استغفره غفر له ورحمه، وحينئذ يكون من المتقين، فيدخل في قوله‏:‏ ‏"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 2،3‏]
    والذين ألزمهم عمر ومن وافقه بالطلاق المحرم كانوا عالمين بالتحريم، وقد نهوا عنه فلم ينتهوا، فلم يكونوا من المتقين، فهم ظالمون لتعديهم الحدود، مستحقون للعقوبة‏.‏ ولذلك قال ابن عباس لبعض المستفتين‏:‏ إن عمك لم يتق الله، فلم يجعل له فرجا ولا مخرجا، ولو اتقي الله

    ج/ 29 ص -422-لجعل له فرجًا ومخرجًا‏.‏
    وهذا إنما يقال لمن علم أن ذلك محرم وفعله‏.‏ فأما من لا يعلم بالتحريم فإنه لا يستحق العقوبة، ولا يكون متعديا، فإنه إذا عرف أن ذلك محرم، تاب من عوده إليه، والتزم ألا يفعله‏.‏
    والذين كان النبي ﷺ يجعل ثلاثتهم واحدة في حياته كانوا يتوبون، وكذلك من طلق في الحيض، كما طلق ابن عمر، فكانوا يتوبون فيصيرون متقين، ومن لم يتب فهو الظالم لنفسه، كما قال‏:‏ ‏
    "بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏"‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏‏.‏
    فحصر الظلم فيمن لم يتب، فمن تاب فليس بظالم، فلا يجعل متعديا لحدود الله، بل وجود قوله كعدمه، ومن لم يتب فهو محل اجتهاد‏.‏
    فعمر عاقبهم بالإلزام، ولم يكن هناك تحليل، فكانوا لاعتقادهم أن النساء يحرمن عليهم لا يقعون في الطلاق المحرم، فانكفوا بذلك عن تعدي حدود الله‏.‏ فإذا صاروا يوقعون الطلاق المحرم، ثم يردون النساء بالتحليل المحرم، صاروا يفعلون المحرم مرتين، ويتعدون حدود الله مرتين، بل ثلاثا، بل أربعا؛ لأن طلاق الأول كان تعديا لحدود الله، وكذلك نكاح المحلل لها، ووطؤه لها قد صار بذلك ملعونا هو

    ج/ 29 ص -423-والزوج الأول‏.‏ فقد تعديا حد الله، هذا مرة أخري، وذاك مرة‏.‏ والمرأة ووليها لما علموا بذلك وفعلوه كانوا متعدين لحدود الله، فلم يحصل بالالتزام في هذه الحال انكفاف عن تعدي حدود الله، بل زاد التعدي لحدود الله، فترك التزامهم بذلك وإن كانوا ظالمين غير تائبين خير من إلزامهم به‏.‏ فذلك الزنا يعود إلى تعدي حدود الله مرة بعد مرة‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ فالذي استفتي ابن عباس ونحوه لو قيل له‏:‏ تب‏.‏ لتاب؛ ولهذا كان ابن عباس يفتي أحيانا بترك اللزوم، كما نقل عنه عكرمة وغيره‏.‏ وعمر ما كان يجعل الخلية والبرية إلا واحدة رجعية ولما قال‏.‏
    قال عمر‏:‏
    ‏"وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏ ‏.‏ وإذا كان الإلزام عاما ظاهرا كان تخصيص البعض بالإعانة نقضا لذلك، ولم يوثق بتوبته‏.‏ فالمراتب أربعة‏.‏
    أما إذا كانوا يتقون الله ويتوبون، فلا ريب أن ترك الإلزام كما كان في عهد النبي ﷺ وأبي بكر خير‏.‏
    وإن كانوا لا ينتهون إلا بإلزام فينتهون حينئذ، ولا يوقعون المحرم،

    ج/ 29 ص -424-ولا يحتاجون إلى تحليل‏.‏ فهذا هو الدرجة الثانية التي فعلها فيهم عمر‏.‏
    والثالثة‏:‏ أن يحتاجوا إلى التحليل المحرم، فهنا ترك الإلزام خير‏.‏
    والرابعة‏:‏ أنهم لا ينتهون، بل يوقعون المحرم، ويلزمون به بلا تحليل‏.‏ فهنا ليس في إلزامهم به فائدة إلا آصار وأغلال لم توجب لهم تقوي الله، وحفظ حدوده، بل حرمت عليه نساؤهم، وخربت ديارهم فقط‏.‏ والشارع لم يشرع ما يوجب حرمة النساء وتخريب الديار، بل ترك إلزامهم بذلك أقل فسادا، وإن كانوا أذنبوا فهم مذنبون على التقديرين، لكن تخريب الديار أكثر فسادا، والله لا يحب الفساد‏.‏
    وأما ترك الإلزام فليس فيه إلا أنه أذنب ذنبا بقوله، ولم يتب منه، وهذا أقل فسادا من الفساد الذي قصد الشارع دفعه ومنعه بكل طريق‏.‏
    وسئل عما إذا أبدل قمحا بقمح‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا أبدل قمحا بقمح، كيلا بكيل، مثلا بمثل، جاز‏.‏ وإن كان بزيادة لم يجز‏.‏

    ج/ 29 ص -425-وسئل عن امرأة باعت أسورة ذهب بثمن معين إلى أجل معين، هل يجوز‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا بيعت بذهب أو فضة إلى أجل لم يجز ذلك باتفاق الأئمة، بل يجب رد الأسورة إن كانت باقية، أو رد بدلها إن كانت فائتة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏ هل يجوز بيع الحياصة بنسيئة، بزائد عن ثمنها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما الحياصة التي فيها ذهب أو فضة، فلا تباع إلى أجل بفضة أو ذهب، لكن تباع بعرض إلى أجل‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 29 ص -426-وسئل عن حديث‏:‏ ‏"‏رخص في العرايا أن تباع بخرصها‏"‏ فما خرصها‏؟‏ و‏"‏نهى عن بيع المصراة، والمحفلة‏"‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أما ‏[‏المصراة، والمحفلة‏]‏ فهي البهيمة من الإبل والغنم وغيرهما تترك حتى يجتمع اللبن في ضرعها أياما، ثم تباع، يظن المشتري أنها تحلب كل يوم مثل ذلك‏.‏ فهذا من التدليس والغش، وقد حرمه النبي ﷺ عموما، وخصوصا وجعل للمشتري الخيار ثلاثا إذا حلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها، ورد عوض اللبن الذي كان موجودا وقت العقد، وجعل ﷺ عوضه صاعا من تمر‏.‏
    وأما بيع الغرر الذي لا يمكن البائع تسليمه، مثل أن يبيع عبده الآبق، وبعيره أو فرسه الشارد، أو طيره الذي خرج من قفصه، أو من حبله، ونحو ذلك، فإن بيع مثل هذه الأمور من ‏[‏
    باب المخاطرة والقمار‏]‏ فإن المبيع إن قدر عليه كان المشتري قد قمر البائع، حيث أخذ ماله بدون قيمته، وإن لم يقدر عليه كان البائع قد قمر المشتري،

    ج/ 29 ص -427-وفي كل منهما أكل مال الآخر بالباطل‏.‏ وشر من ذلك أن يبيعه ما في بطن الدابة، وكذلك إذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها، فهذه من أنواع الغرر‏.‏ وقد نهى النبي ﷺ عنها عموما، وخصوصا‏.‏ وكل ذلك من الميسر الذي حرمه الله في القرآن‏.‏
    وكذلك بيع الحصاة، مثل أن يقول‏:‏ بعتك من هذه الأرض إلى حيث تبلغ هذه الحصاة، أو بعتك من هذه الثياب، أو الشياه، أو الغلمان، أو غيره ما تقع عليه هذه الحصاة، فيكون المبيع مجهول القدر، أو العين، أو الوصف‏.‏
    وأما ‏[‏العرايا‏]‏ ، فإن النبي ﷺ استثناها مما نهى عنه من المزابنة؛ وذلك أنه ﷺ نهى عن المزابنة، والمحاقلة‏.‏ ‏[‏ والمزابنة‏]‏ أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر‏.‏ و‏[‏المحاقلة‏]‏ أن يشتري الحنطة في سنبلها بخرصها من الحنطة‏.‏ والخرص هو‏:‏ الحزر والتقدير‏.‏ فيقال‏:‏ كم في هذه النخلة‏؟‏ فقال‏:‏ خمسة أوسق فيقال‏:‏ اشتريته بخمسة أوسق‏.‏ أو كم في هذا الحقل من البر فيقال‏:‏ خمسة أوسق، فيقال‏:‏ اشتريته بخمسة أوسق‏.‏
    وهذا الحكم عام في كل ما يباع إلا بقدره، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة، إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا

    ج/ 29 ص -428-الحنطة بالحنطة إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا التمر بالتمر إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الملح بالملح إلا مثلا بمثل‏"‏‏.‏ ونهى ﷺ عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمي‏.‏ فإذا بيعت هذه الأموال بمثلها جزافا لم يجز ذلك؛ لأن النبي ﷺ نهى عن بيعها إلا متماثلة، فإذا لم يعلم التماثل لم يجز البيع؛ ولهذا يقول الفقهاء‏:‏ الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل‏.‏ والتماثل يعلم بالكيل والوزن‏.‏
    وأما الخرص‏:‏ فهو ظن وحسبان، يقدر به عند الحاجة والضرورة، فأما مع إمكان الكيل والوزن فلا‏.‏ فنهى النبي ﷺ عن المحاقلة، والمزابنة؛ لأنهم يحزرون من غير حاجة، وأباح ذلك في العرايا لأجل الحاجة؛ لأن المشتري يحتاج إلى أكل الرطب بالتمر خرصا؛ لأجل حاجته إلى ذلك‏.‏ ورخص في ذلك في القليل الذي تدعو إليه الحاجة، وهو ما دون النصاب، وهو ما دون خمسة أوسق‏.‏ وكذلك يجوز لحاجة البائع إلى البيع‏.‏ كما قد بسط ذلك في موضعه‏.‏
    ولفظ ‏[‏العرايا‏]‏ معناه في اللغة‏:‏ هي النخلات التي يعيرها الرجل لغيره، أي‏:‏ يعطيه إياها ليأكل ثمرها، ثم يعيدها إليه، كما قال الشاعر يمدح فيه بالكرم‏:‏

    ج/ 29 ص -429-فليست بسنهاء ولا رجبية ** ولكن عرايا في السِّنين الجوائح
    وهذا كما يقال للماشية ‏[‏المنيحة‏]‏ ‏:‏ مثل أن يعطيه الناقة أو الشاة ليشرب لبنها، ثم يعيدها إليه، وهو من جنس العارية‏.‏ وهو أن يعيره داره ليسكنها ثم يعيدها إليه‏.‏
    ومنه إفقار الظهر؛ وهو أن يعطيه دابته ليركب فقارها، ثم يعيدها إليه‏.‏ فهذا أصل هذه اللفظة، لكن حكم العرايا، هل هو مخصوص بما كان موهوبا للمشتري‏؟‏ أو عام في ذلك وفي غيره‏؟‏ فيه قولان للعلماء‏.‏ والأول قول مالك‏.‏ والثاني قول الشافعي، وفي مذهب أحمد القولان‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل اشتري قمحا بثمن معلوم إلى وقت معلوم، ثم إنه ما حصل لصاحب القمح شيء، ثم داره عقدا، وارتهن عليه ملكا، وأنه أخذ ذلك بيعا وشراء بذلك العقد، فهل البيع جائز‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا اشتري قمحا بثمن إلى أجل، ثم عوض البائع عن ذلك الثمن سلعة إلى أجل لم يجز؛ فإن هذا بيع دين بدين‏.‏ وكذلك

    ج/ 29 ص -430-إن احتال على أن يزيده في الثمن، ويزيده ذلك في الأجل، بصورة يظهر رباها لم يجز ذلك، ولم يكن له عنده إلا الدين الأول‏.‏ فإن هذا هو الربا الذي أنزل الله فيه القرآن؛ فإن الرجل يقول لغريمه عند محل الأجل‏:‏ تقضي أو تربي، فإن قضاه وإلا زاده هذا في الدين، وزاده هذا في الأجل فحرم الله ورسوله ذلك، وأمر بقتال من لم ينته‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل اضطر إلى قرضة دراهم، فلم يجد من يقرضه إلا رجل يأخذ الفائدة، فيأتي السوق يشتري له بضاعة بخمسين، ويبيعها له بربح معين إلى مدة معينة، فهل هي قنطرة الربا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا اشتري له بضاعة، وباعها له فاشتراها منه، أو باعها للثالث صاحبها الذي اشتراها المقرض منه، فهذا ربا‏.‏
    والأحاديث عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين في تحريم ذلك كثيرة؛ مثل حديث عائشة لأم ولد زيد بن أرقم، قالت لها‏:‏ يا أم المؤمنين، إني ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء، بثمانمائة درهم نسيئة ثم ابتعته منه بستمائة نقدا‏.‏ فقالت عائشة‏:‏ بئس

    ج/ 29 ص -431-ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب‏.‏ فقالت‏:‏ يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم أجد إلا رأس مالي‏؟‏ فقالت عائشة‏:‏ ‏"فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ ‏.‏ وعن أنس بن مالك‏:‏ أنه سئل عن مثل ذلك‏.‏ فقال‏:‏ هذا ما حرم الله‏.‏
    وأما الذي لم يعد إلى البائع بحال، بل باعها المشتري من مكان آخر لجاره، فهذا يسمي ‏[‏التورق‏]‏ وقد تنوزع في كراهته‏.‏ فكرهه عمر بن عبد العزيز، والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في إحدى الروايتين‏.‏ وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ التورق أخية الربا، أي‏:‏ أصل الربا‏.‏ وهذا القول أقوي‏.‏
    وسئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف ومائتي درهم، فباعه فرسا أو قماشا بألف درهم، واشتراه منه بألف ومائتي درهم إلى أجل معلوم، فهل يجوز ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يحل له ذلك، بل هو ربا باتفاق الصحابة وجمهور

    ج/ 29 ص -432-العلماء، كما دلت على ذلك سنة رسول الله ﷺ‏.‏ سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل باع حريرة، ثم ابتاعها لأجل زيادة درهم، فقال‏:‏دراهم بدراهم، دخلت بينهما حريرة‏.‏
    وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال‏:‏هذا مما حرم الله ورسوله‏.‏ وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم في نحو ذلك‏:‏ بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب‏.‏
    فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فسواء باع المعطي الأجل، أو باع الأجل المعطي، ثم استعاد السلعة‏.‏ وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا‏"‏‏.‏ وفيه أيضا عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا تبايعتم بالعينة؛ واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم‏"‏ وهذا كله في بيع العينة، وهو بيعتان في بيعة‏.‏
    وقال ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح مالم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ فحرم النبي ﷺ أن يبيع الرجل

    ج/ 29 ص -433-شيئا، ويقرضه مع ذلك؛ فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض، حتى ينفعه، فهو ربا‏.‏
    وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه الرجلان، بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، فإنه ربا، سواء كان يبيع ثم يبتاع، أو يبيع ويقرض، وما أشبه ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل تداين دينا، فدخل به السوق، فاشتري شيئا بحضرة الرجل، ثم باعه عليه بفائدة، هل يجوز ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذا على ثلاثة أوجه‏:‏
    الأول‏:‏ أن يكون بينهم مواطأة لفظية، أو عرفية، على أن يشتري السلعة من رب الحانوت، فهذا لا يجوز‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يشتريها منه على أن يعيدها إليه‏.‏ فهذا أيضا لا يجوز، فقد دخلت أم ولد زيد بن أرقم على عائشة، فقالت‏:‏ يا أم المؤمنين، إني ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم نسيئة، ثم ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة‏:‏ بئسما شريت، وبئس

    ج/ 29 ص -434-ما اشتريت، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب‏.‏ وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا‏"‏، وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال‏:‏دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة‏.‏ وقال أنس بن مالك‏:‏ هذا مما حرم الله ورسوله‏.‏
    والوجه الثالث‏:‏ أن يشتري السلعة سرا، ثم يبيعها للمستدين بيانا، فيبيعها أحدهما، فهذه تسمي ‏[‏التورق‏]‏ ؛ لأن المشتري ليس غرضه في التجارة، ولا في البيع، ولكن يحتاج إلى دراهم، فيأخذ مائة، ويبقي عليه مائة وعشرون مثلا‏.‏ فهذا قد تنازع فيه السلف والعلماء‏.‏ والأقوي أيضا أنه منهي عنه، كما قال عمر بن عبد العزيز ما معناه‏:‏ أن التورق أصل الربا؛ فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل؛ لما في ذلك من ضرر المحتاج، وأكل ماله بالباطل، وهذا المعني موجود في هذه الصورة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي‏.‏
    وإنما الذي أباحه الله البيع والتجارة، وهو أن يكون المشتري غرضه أن يتجر فيها‏.‏ فأما إذا كان قصده مجرد الدراهم بدراهم أكثر منها، فهذا لا خير فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 29 ص -435-وسئل رحمه الله عن رجل يداين الناس كل مائة بمائة وأربعين، ويجعل سلفا على حرير، فإذا جاء الأجل، وأعسر المديون عن وفائه قال له‏:‏ عاملني، فيأخذ رب الحرير من عنده، ويقول للمديون‏:‏ اشتريت مني هذا الحرير بمائة وتسعين، إلا أنه يأتيه على حساب كل مائة بمائة وأربعين‏.‏ وإذا قبضه المديون منه قال‏:‏ أوفني هذا الحرير عن السلف الذي لي عندك‏.‏ وإذا جاءت السنة الثانية طالبه بالدراهم المذكورة، فأعسرت عليه، أو بعضها‏.‏ قال‏:‏ عاملني، فيحسب المتبقي والأصل، ويجعل ذلك سلفا على حرير‏.‏ فما يجب على هذا الرجل‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذا هوعين الربا الذي أنزل فيه القرآن؛ فإنه كان يكون للرجل على الرجل الدين، فيأتي إليه عند محل الأجل، فيقول‏:‏ إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن وفاه وإلا زاده المدين في الدين، وزاده الغريم في الأجل، حتى يتضاعف المال‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ‏"‏ [‏البقرة‏:‏278 280‏]‏‏.‏

    ج/ 29 ص -436-وهذه المعاملة التي يفعلها مثل هذا المربي، مقصودها مقصود أولئك المشركين المربين، لكن هذا أظهر صورة المعاملة، وهذا لا ينفعه باتفاق أصحاب محمد ﷺ؛ فإن هذا المربي يبيعه ذلك الحرير إلى أجل؛ ليوفيه إياه عن دينه، فهو بمنزلة أن يبيعه إياه إلى أجل ليشتريه بأقل من ذلك، وقد سئل ابن عباس عن مثل هذا، فقال‏:‏ هذا حرام، حرمه الله ورسوله‏.‏ وسألت أم ولد زيد بن أرقم عائشة أم المؤمنين عن مثل هذا، فقالت‏:‏ إني بعت من زيد غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم ابتعته بستمائة، فقالت لها عائشة‏:‏ بئس ما اشتريت، وبئس ما بعت،أخبري زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب‏.‏ قالت‏:‏ يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم أجد إلا رأس مالي‏.‏فقالت عائشة‏:‏ ‏"فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏275‏]‏ ‏.‏ وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا‏"‏‏.‏ وقد قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا يحل سلف وبيع‏"‏، فنهى أن يبيع ويقرض ليحابيه في البيع؛ لأجل القرض‏.‏ وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏إنما الأعمال بالنيات‏"‏، فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ

    ج/ 29 ص -437-دراهم بدراهم إلى أجل، فبأي طريق توصل إلى ذلك كان حراما؛ لأن المقصود حرام لا يحل قصده، بل قد نهى السلف عن كثير من ذلك سدا للذرائع؛ لئلا يفضي إلى هذا المقصود‏.‏ وهذا المربي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره‏.‏ فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل، فإنه يعفي عنه‏.‏ وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط؛ لقوله‏:‏ ‏"وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ ، والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل أراد الاستدانة من رجل، فقال‏:‏ أعطيك كل مائة بكسب كذا، وتبايعا بينهما شيئا من عروض التجارة، فلما استحق الدين طلبه بالدين فعجز عنه‏.‏ فقال‏:‏ اقلب على الدين بكسب كذا وكذا في المائة، وتبايعا بينهما عقارا، وفي آخر كل سنة يفعل معه مثل ذلك، وفي جميع المبايعات غرضهم الحلال، فصار المال عشرة آلاف درهم، فهل يحل لصاحب الدين مطالبة الرجل بما زاد في هذه المدة الطويلة‏؟‏ وهل لولي الأمر إنكار ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    قول القائل لغيره‏:‏ أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا

    ج/ 29 ص -438-حرام، وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه باتفاق المسلمين‏.‏ وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية‏.‏ والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله، ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك‏.‏ وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية، وعقوبة من يفعلها ورد الناس فيها إلى رؤوس أموالهم؛ دون الزيادات؛ فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏278280‏]
    وسئل عن رجل له مع رجل معاملة، فتأخر له معه دراهم، فطالبه وهو معسر، فاشتري له بضاعة من صاحب دكان، وباعها له بزيادة مائة درهم حتى صبر عليه، فهل تصح هذه المعاملة‏؟‏

    ج/ 29 ص -439-فأجاب‏:‏
    لا تجوز هذه المعاملة، بل إن كان الغريم معسرا، فله أن ينتظره‏.‏
    وأما المعاملة التي يزاد فيها الدين والأجل فهي معاملة ربوية، وإن أدخلا بينهما صاحب الحانوت‏.‏ والواجب أن صاحب الدين لا يطالب إلا برأس ماله، لا يطالب بالزيادة التي لم يقبضه‏.‏
    وسئل قدس الله روحه عن ‏[‏العينة‏]‏ ‏:‏ هل هي جائزة في دين الإسلام‏؟‏ أم لا‏؟‏ وهل يجوز لأحد أن يقلد فيها بعض من رأي جوازها من الفقهاء، أم يجب عليه أن يحتاط لدينه ويتبع النصوص الواردة في ذلك، ومن تاب من ‏[‏مسألة العينة‏]‏ المذكورة، هل يحل له ما ربحه بطريقها‏؟‏ أم يجب عليه إخراج الربح ورده إلى أربابه إن قدر، أو التصدق بذلك‏؟‏ فإن عاد إليها مقلدا بعد العلم ببطلانها، هل يجوز له ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏ وكذلك ما تقولون في ‏[‏مسألة الثلاثية‏]‏ ‏؟‏ و‏[‏مسألة التورق‏]‏ ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أما إذا كان قصد الطالب أخذ دراهم بأكثر منها إلى أجل، والمعطي يقصد إعطاءه ذلك فهذا ربا لا ريب في تحريمه، وإن تحيلا على ذلك بأي طريق كان؛ فإنما الأعمال بالنيات،

    ج/ 29 ص -440-وإنما لكل امرئ ما نوي؛ فإن هذين قد قصدا الربا الذي أنزل الله في تحريمه القرآن، وهو الربا الذي أنزل الله فيه قوله‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278280‏]
    وكان الرجل في الجاهلية يكون له على الرجل دين، فيأتيه عند محل الأجل، فيقول له‏:‏ إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده المدين في المال، وزاده الغريم في الأجل، فيكون قد باع المال بأكثر منه إلى أجل، فأمرهم الله إذا تابوا ألا يطالبوا إلا برأس المال، وأهل الحيل يقصدون ما تقصده أهل الجاهلية، لكنهم يخادعون الله، ولهم طرق‏:‏
    أحدها‏:‏ أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقل من ذلك نقدا، كما قالت أم ولد زيد ابن أرقم لعائشة‏:‏ إني بعت من زيد غلاما إلى العطاء بثمانمائة، وابتعته بستمائة نقدا‏.‏ فقالت لها عائشة‏:‏ بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أخبري زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب‏.‏ قالت‏:‏ يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي، فقرأت عائشة‏:‏
    ‏"فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللّهِ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ ‏.‏

    ج/ 29 ص -441-وقيل لابن عباس‏:‏ رجل باع حريرة إلى أجل، ثم ابتاعها بأقل من ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ دراهم، بدراهم، دخلت بينهما حريرة‏.‏
    وسئل أنس بن مالك عن نحو ذلك، فقال‏:‏ هذا مما حرمه الله ورسوله‏.‏ وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا‏"‏‏.‏ وهؤلاء قد باعوا بيعتين في بيعة‏.‏
    وكذلك إذا اتفقا على المعاملة الربوية، ثم أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعا بقدر المال، فاشتراه المعطي، ثم باعه الآخذ إلى أجل، ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك‏.‏ فيكون صاحب الحانوت واسطة بينهما بجعل، فهذا أيضا من الربا الذي لا ريب فيه‏.‏
    وكذلك إذا ضما إلى القرض محاباة في بيع أو إجارة أو غير ذلك، مثل أن يقرضه مائة، ويبيعه سلعة تساوي خمسمائة، أو يؤجره حانوتا يساوي كراه مائة بخمسين، فهذا أيضا من الربا، ومن رواية الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ فقد حرم النبي ﷺ السلف وهو القرض مع البيع‏.‏
    والأصل في هذا الباب أن الشراء على ثلاثة أنواع‏:‏

    ج/ 29 ص -442-أحدها‏:‏ أن يشتري السلعة من يقصد الانتفاع بها كالأكل والشرب واللباس والركوب والسكني، ونحو ذلك، فهذا هو البيع الذي أحله الله‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يشتريها من يقصد أن يتجر فيها، إما في ذلك البلد، وإما في غيره، فهذه هي التجارة التي أباحها الله‏.‏
    والثالث‏:‏ ألا يكون مقصوده لا هذا ولا هذا، بل مقصوده دراهم لحاجته إليها‏.‏ وقد تعذر عليه أن يستسلف قرضا، أو سلما فيشتري سلعة ليبيعها، ويأخذ ثمنها، فهذا هو ‏[‏التورق‏]‏ وهو مكروه في أظهر قولي العلماء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، كما قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ التورق أخية الربا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إذا استقمت بنقد، ثم بعت بنقد، فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد، ثم بعت بنسيئة، فتلك دراهم بدراهم‏.‏
    ومعنى كلامه‏:‏ إذا استقمت‏:‏ إذا قومت، يعني‏:‏ إذا قومت السلعة بنقد، وابتعتها إلى أجل، فإنما مقصودك دراهم بدراهم، هكذا ‏[‏التورق‏]‏ يقوم السلعة في الحال، ثم يشتريها إلى أجل بأكثر من ذلك‏.‏ وقد يقول لصاحبه‏:‏ أريد أن تعطيني ألف درهم، فكم تربح‏؟‏ فيقول‏:‏ مائتين، أو نحو ذلك‏.‏ أو يقول‏:‏ عندي هذا المال يساوي ألف

    ج/ 29 ص -443-درهم، أو يحضران من يقومه بألف درهم، ثم يبيعه بأكثر منه إلى أجل، فهذا مما نهى عنه في الصحيح‏.‏
    وما اكتسبه الرجل من الأموال بالمعاملات التي اختلفت فيها الأمة، كهذه المعاملات المسؤول عنها، وغيرها، وكان متأولا في ذلك، ومعتقدا جوازه لاجتهاد، أو تقليد، أو تشبه ببعض أهل العلم، أو لأنه أفتاه بذلك بعضهم، ونحو ذلك‏.‏ فهذه الأموال التي كسبوها وقبضوها ليس عليهم إخراجها، وإن تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في ذلك، وأن الذي أفتاهم أخطأ، فإنهم قبضوها بتأويل، فليسوا أسوأ حالا مما اكتسبه الكفار بتأويل باطل‏.‏
    فإن الكفار إذا تبايعوا بينهم خمرا أو خنزيرا، وهم يعتقدون جواز ذلك، وتقابضوا من الطرفين، أو تعاملوا بربا صريح، يعتقدون جوازه وتقابضوا من الطرفين، ثم أسلموا، ثم تحاكموا إلينا، أقررناهم على ما بأيديهم، وجاز لهم بعد الإسلام أن ينتفعوا بذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ ، فأمرهم بترك ما بقي لهم في الذمم، ولم يأمرهم بإعادة ما قبضوه‏.‏
    وكان بعض نواب عمر بالعراق يأخذ من أهل الذمة الجزية خمرا، ثم يبيعها لهم، فكتب إليه عمر ينهاه عن ذلك‏.‏ وقال‏:‏ إن رسول

    ج/ 29 ص -444-الله ﷺ قال‏:‏ ‏"‏لعن الله إليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها، وأكلوا أثمانها‏"‏، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أثمانها‏.‏ فنهاهم عمر عن بيع الخمر، وقال‏:‏ ولّوا بيعها الكفار‏.‏ فإذا باعوها هم لأهل دينهم، وقبضوا أثمانها جاز للمسلمين أن يأخذوا ذلك الثمن منهم؛ ولهذا قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام‏"‏‏.‏
    بل أكثر العلماء كمالك وأحمد وأبي حنيفة يقولون بما دلت عليه سنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه الراشدين، وهو‏:‏ أن الكفار المحاربين إذا استولوا على أموال المسلمين بالمحاربة، ثم أسلموا بعد ذلك، أو عاهدوا، فإنها تقر بأيديهم، كما أقر النبي ﷺ بيد المشركين ما كانوا أخذوه من أموال المسلمين حال الكفر؛ لأنهم لم يعتقدوا تحريم ذلك وقد أسلموا، والإسلام يجب ما قبله، فإنما غفر لهم بالإسلام ما تقدم من الكفر، والأعمال صاروا مكتسبين لها بما لا يأثمون به‏.‏
    وإذا كان الأمر كذلك،فالمسلم المتأول الذي يعتقد جواز ما فعله من المبايعات والمؤاجرات والمعاملات التي يفتي فيها بعض العلماء، إذا أقبض بها أموال، وتبين لأصحابها فيما بعد أن القول الصحيح تحريم ذلك،لم يحرم عليهم ما قبضوه بالتأويل،كما لم يحرم على الكفار بعد الإسلام

    ج/ 29 ص -445-ما اكتسبوه في حال الكفر بالتأويل،ويجوز لغيرهم من المسلمين الذين يعتقدون تحريم ذلك أن يعاملوهم فيه،كما يجوز للمسلم أن يعامل الذمي فيما في يده من ثمن الخمر، وغيره، لكن عليهم إذا سمعوا العلم أن يتوبوا من هذه المعاملات الربوية‏.‏ ولا يصلح أن يقلد فيها أحدا ممن يفتي بالجواز تقليدا لبعض العلماء؛ فإن تحريم هذه المعاملات ثابت بالنصوص والآثار، ولم يختلف الصحابة في تحريمها، وأصول الشريعة شاهدة بتحريمها‏.‏
    والمفاسد التي لأجلها حرم الله الربي موجودة في هذه المعاملات، مع زيادة مكر وخداع، وتعب وعذاب‏.‏ فإنهم يكلفون من الرؤية والصفة والقبض وغير ذلك من أمور يحتاج إليها في البيع المقصود، وهذا البيع ليس مقصودا لهم، وإنما المقصود أخذ دراهم بدراهم، فيطول عليهم الطريق التي يؤمرون بها، فيحصل لهم الربا، فهم من أهل الربا المعذبين في الدنيا قبل الآخرة، وقلوبهم تشهد بأن هذا الذي يفعلونه مكر وخداع وتلبيس؛ ولهذا قال أيوب السختياني‏:‏ يخادعون الله، كما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون على‏.‏
    والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وقد صنفت كتابًا كبيرًا في هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 29 ص -446-وسئل عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالا، هل يجوز‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا باع السلعة إلى أجل، واشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالا، فهذه تسمي ‏[‏مسألة العينة‏]‏، وهي غير جائزة عند أكثر العلماء؛ كأبي حنيفة ومالك، وأحمد، وغيرهم‏.‏ وهو المأثور عن الصحابة؛ كعائشة وابن عباس، وأنس بن مالك‏.‏ فإن ابن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل، ثم اشتريت بأقل‏.‏ فقال‏:‏ دراهم بدراهم، دخلت بينهما حريرة‏.‏
    وأبلغ من ذلك أن ابن عباس قال‏:‏ إذا استقمت بنقد، ثم بعت بنسيئة، فتلك دراهم بدراهم‏.‏ فبين أنه إذا قوم السلعة بدراهم، ثم باعها إلى أجل، فيكون مقصوده دراهم بدراهم، والأعمال بالنيات‏.‏ وهذه تسمي ‏[‏التورق‏]‏ ‏.‏
    فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها، وتارة يشتريها

    ج/ 29 ص -447-ليتجر بها، فهذان جائزان باتفاق المسلمين‏.‏ وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ دراهم، فينظر كم تساوي نقدا، فيشتري بها إلى أجل، ثم يبيعها في السوق بنقد، فمقصوده الورق، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء، كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد‏.‏
    وأما عائشة فإنها قالت لأم ولد زيد بن أرقم لما قالت لها‏:‏ إني ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة وبعته منه بستمائة‏.‏ فقالت عائشة ‏:‏ بئس ما بعت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله ﷺ بطل، إلا أن يتوب‏.‏ قالت‏:‏ يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي، فقالت لها عائشة‏:‏ ‏
    "فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللّهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ ‏وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ لمن باع بيعتين في بيعة‏:‏ ‏"‏فله أوكسهما، أو الربا‏"‏ وهذا إن تواطآ على أن يبيع، ثم يبتاع، فماله إلا الأوكس، وهو الثمن الأقل، أو الربا‏.‏
    وأصل هذا الباب‏:‏ أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي‏.‏ فإن كان قد نوي ما أحله الله فلا بأس، وإن نوى ما حرم الله، وتوصل إليه بحيلة، فإن له ما نوي‏.‏ والشرط بين الناس

    ج/ 29 ص -448-ما عدوه شرطا، كما أن البيع بينهم ما عدوه بيعا، والإجارة بينهم ما عدوه إجارة، وكذلك النكاح بينهم ما عدوه نكاحا؛ فإن الله ذكر البيع والنكاح، وغيرهما في كتابه، ولم يرد لذلك حد في الشرع، ولا له حد في الفقه‏.‏
    والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع؛ كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة باللغة؛ كالشمس والقمر والبر والبحر، وتارة بالعرف كالقبض والتفريق‏.‏
    وكذلك العقود كالبيع والإجارة والنكاح والهبة، وغير ذلك، فما تواطأ الناس على شرط، وتعاقدوا، فهذا شرط عند أهل العرف‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل دين رجلا شعيرا بستين درهم الغرارة إلى وقت معلوم، فلما جاء وقت الأجل طالبه، فقال المديون‏:‏ ما أعطيك غير شعير، وكان الشعير يساوي ثلاثين درهما الغرارة فهل له أن يأخذ شعيرا‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، فمذهب الفقهاء السبعة

    ج/ 29 ص -449-ومالك وأحمد في المنصوص عنه‏:‏ أن ذلك لا يجوز‏.‏ فمن باع مالا ربويًا كالحنطة والشعير وغيرهما إلى أجل، لم يجز أن يعتاض عن ثمنه بحنطة أو شعير، أو غير ذلك مما لا يباع به نسيئة؛ لأن الثمن لم يقبض، فكأنه قد باع حنطة أو شعيرًا بحنطة أو شعير إلى أجل متفاضلًا، وهذا لا يجوز باتفاق المسلمين‏.‏
    وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ هذا يجوز، وهو اختيار أبي محمد المقدسي من أصحاب أحمد؛ لأن البائع إنما يستحق الثمن في ذمة المشتري، وبه اشتري، فأشبه ما لو قبضه ثم اشتري من غيره، وأما إن باع ما عند المشتري من حنطة أو شعير، واستوفي حقه من الثمن، فذلك جائز بلا ريب، وإذا كان البائع قد أخذ الحنطة أو الشعير بدون قيمته، فذلك أخف، والله أعلم‏.
    وسئل رحمه الله عن رجل اشترى أربع أرادب قمح بمائة درهم إلى أجل معلوم، فعند استحقاق المائة وجده يبيع القمح بعشرة دراهم، كل أردب، فهل يجوز أن يأخذ بالمائة عشرة أرادب قمح‏؟‏ أو فول‏؟‏ أو شعير‏؟‏ من الحبوب‏؟‏

    ج/ 29 ص -450-فأجاب‏:‏
    هذه المسألة فيها نزاع مشهور؛ إذا باعه حنطة أو شعيرًا أو نحوهما من الربويات إلى أجل، واعتاض عن ثمن ذلك حنطة أو شعيرًا أو نحوهما مما لا يباع بالأول نسأ‏.‏ فعند مالك وأحمد وغيرهما أن ذلك لا يجوز، وعند أبي حنيفة والشافعي أنه يجوز، وهو قول بعض أصحاب أحمد‏.‏
    وسئل عمن يبيع فضة خالصة بفضة مغشوشة‏:‏ الدرهم بدرهم ونصف‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يجوز بيع الفضة بالفضة إلا مثلًا بمثل‏.‏ وإذا كان الغش الذي في الفضة لا يقصد بالفضة جاز‏.‏
    وأما إن كانت الفضة أكثر من الفضة لم يجز، لا سيما إن كانت الفضة التي في المغشوش أكثر من الخالصة، فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل‏.‏

    ج/ 29 ص -451-وسئل عن بيع الفضة بالفضة المغشوشة متفاضلًا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كانت الفضة الخالصة في أحدهما، بقدر الفضة الخالصة في الأخري، وهي المقصودة، والنحاس يذهب‏.‏ وقد علم قدر ذلك بالتحري، والاجتهاد‏.‏ فهذا يجوز في أحد قولي العلماء‏.‏ وكذلك إذا كانت الفضة المفردة أكثر من الفضة المغشوشة بشيء يسير بقدر النحاس، فهذا يجوز في أظهر قولي العلماء‏.‏
    وأما إذا كانت الفضة المغشوشة أكثر من المفردة، فإنه لا يجوز‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن بيع الأكاديس الأفرنجية بالدراهم الإسلامية، مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب، بل فضة هذه الدراهم أكثر، هل تجوز المقابضة بينهما‏؟‏ أم لا‏؟‏

    ج/ 29 ص -452-فأجاب‏:‏
    هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء، والجواز فيه له مأخذان، بل ثلاثة‏:‏
    أحدها‏:‏ أن هذه الفضة معها نحاس، وتلك فضة خالصة، والفضة المقرونة بالنحاس أقل‏.‏ فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلًا من الدراهم الخالصة، فالفضة التي في المائة أقل من سبعين‏.‏ فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز، على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة ‏[‏مُد عَجْوَة‏]‏ كما هو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏
    وهو أيضًا مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، إذا كان الربوي تبعًا لغيره، كما إذا باع شاة ذات لبن بلبن، ودارًا مموهة بالذهب بذهب، والسيف المحلي بفضة بفضة أو ذهب ونحو ذلك‏.‏
    والذين منعوا من مسألة ‏[‏مُدّ عَجْوةَ‏]‏ وهو بيع الربوي بجنسه، إذا كان معهما أو مع أحدهما من غير جنسه قد علله طائفة منهم من أصحاب الشافعي وأحمد بأن الصفقة إذا اشتملت على عوضين مختلفين انقسم الثمن عليهما بالقيمة، وهذه علة ضعيفة؛ فإن الانقسام إذا باع شقصًا مشفوعًا، وما ليس بمشفوع كالعبد والسيف والثوب إذا كان لا يحل عاد الشريك إلى الأخذ بالشفعة‏.‏ فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه‏.‏

    ج/ 29 ص -453-والصحيح عند أكثرهم كون ذلك ذريعة إلى الربا، بأن يبيع ألف درهم في كيس بألفي درهم، ويجعل الألف الزائدة في مقابلة الكيس، كما يجوز ذلك من يجوزه من أصحاب أبي حنيفة‏.‏
    والصواب في مثل هذا أنه لا يجوز؛ لأن المقصود بيع دراهم بدراهم متفاضلة، فمتي كان المقصود ذلك حرم التوسل اليه بكل طريق، فإنما الأعمال بالنيات‏.‏
    وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصًا؛ مثل القلادة التي بيعت يوم حنين وفيها خرز معلق بذهب، فقال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا تباع حتى تفصل‏"‏، فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد، فنهى النبي ﷺ عن بيع هذا بهذا حتى تفصل؛ لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهبًا بذهب مثله، وزيادة خرز، وهذا لا يجوز‏.‏
    وإذا علم المأخذ، فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء؛ إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ولا هو بما يحتمل أن

    ج/ 29 ص -454-يكون فيه ذلك، فيجوز التفاوت‏.‏
    المأخذ الثاني‏:‏ مأخذ من يقول‏:‏ يجوز بيع الربوي بالربوي على سبيل التحري والخرص عند الحاجة إلى ذلك، إذا تعذر الكيل أو الوزن، كما يقول ذلك مالك والشافعي وأحمد في بيع العرايا بخرصها، كما مضت به السنة في جواز بيع الرطب بالتمر خرصًا؛ لأجل الحاجة‏.‏ ويجوز ذلك في كل الثمار في أحد الأقوال في مذهب أحمد، وغيره‏.‏ وفي الثاني لا يجوز، وفي الثالث يجوز في العنب والرطب خاصة، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي‏.‏ وكما يقول نظير ذلك مالك وأصحابه في بيع الموزون على سبيل التحري عند الحاجة، كما يجوز بيع الخبز بالخبز على وجه التحري، وجوزوا بيع اللحم باللحم على وجه التحري في السفر‏.‏
    قالوا‏:‏ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، ولا ميزان عندهم، فيجوز كما جازت العرايا‏.‏ وفرقوا بين ذلك، وبين الكيل؛ فإن الكيل ممكن، ولو بالكف‏.‏
    وإذا كانت السنة قد مضت بإقامة التحري والاجتهاد مقام العلم بالكيل أو الوزن عند الحاجة، فمعلوم أن الناس يحتاجون إلى بيع هذه الدراهم المغشوشة بهذه الخالصة، وقد عرفوا مقدار ما فيها من الفضة

    ج/ 29 ص -455-بأخبار أهل الضرب، وأخبار الصيارفة وغيرهم ممن سبك هذه الدراهم، وعرف قدر ما فيها من الفضة، فلم يبق في ذلك جهل مؤثر، بل العلم بذلك أظهر من العلم بالحرص، أو نحو ذلك، وهم إنما مقصودهم دراهم بدراهم بقدر نصيبهم، ليس مقصودهم أخذ فضة زائدة‏.‏ ولو وجدوا من يضرب لهم هذه الدراهم فضة خالصة من غير اختيارهم، بحيث تبقي في بلادهم لفعلوا ذلك، وأعطوه أجرته‏.‏ فهم ينتفعون بما يأخذونه من الدراهم الخالصة، ولا يتضررون بذلك‏.‏ وكذلك أرباب الخالصة إذا أخذوا هذه الدراهم، فهم ينتفعون بذلك لا يتضررون‏.‏
    وهذا ‏[‏مأخذ ثالث‏]‏ يبين الجواز، وهو‏:‏ أن الربا إنما حرم لما فيه من أخذ الفضل، وذلك ظلم يضر المعطي، فحرم لما فيه من الضرر‏.‏ وإذا كان كل من المتقابضين مقابضة أنفع له من كسر دراهمه، وهو إلى ما يأخذه محتاج، كان ذلك مصلحة لهما، هما يحتاجان اليها، والمنع من ذلك مضرة عليهما‏.‏ والشارع لا ينهى عن المصالح الراجحة، ويوجب المضرة المرجوحة، كما قد عرف ذلك من أصول الشرع‏.‏
    وهذا كما أن من أخذ ‏[‏السفتجة‏]‏ من المقرض، وهو أن يقرضه دراهم يستوفيها منه في بلد آخر، مثل أن يكون المقرض غرضه حمل دراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه في بلد دراهم المقرض، ويكتب

    ج/ 29 ص -456-له سفتجة أي ورقة إلى بلد دراهم المقترض، فهذا يجوز في أصح قولي العلماء‏.‏
    وقيل‏:‏ ينهى عنه؛ لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة كان ربا، والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأي النفع بأمن خطر الطريق، إلى نقل دراهمه إلى بلد دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض‏.‏ والشارع لا ينهى عما ينفع الناس، ويصلحهم، ويحتاجون اليه؛ وإنما ينهى عما يضرهم، ويفسدهم، وقد أغناهم الله عنه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عمن اشترى الفلوس‏:‏ أربعة عشر قرطاسًا بدرهم، ويصرفها ثلاثة عشر بدرهم، هل يجوز‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان يصرفها للناس بالسعر العام جاز ذلك، وإن اشتراها رخيصة‏.‏
    وأما من باع سلعة بدراهم، فإنه لا يجب عليه أن يقتضي عن شيء منها فلوسًا، إلا باختياره‏.‏ وكذلك من اشتراها بدراهم فعليه أن يوفىها دراهم، فإن تراضيا على التعويض عن الثمن، أو بعضه بفلوس بالسعر الواقع جاز‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 29 ص -457-وسئل عن الفلوس، وبيع بعضها ببعض متفاضلا، وصرفها بالدراهم من غير تقابض في الحال، ودافع الدرهم يأخذ ببعضه فلوسًا، وببعضه قطعة من فضة‏.‏ فأجاب‏:‏
    إذا دفع الدرهم فقال‏:‏ أعطني بنصفه فضة، وبنصفه فلوسًا‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ أعطني بوزن هذه الدراهم الثقيلة أنصافا، أو دراهم خفافًا؛ فإنه يجوز، سواء كانت مغشوشة، أو خالصة‏.‏
    ومن الفقهاء من يكره ذلك، ويجعله من باب ‏[‏مُدّ عَجْوةَ‏]‏ لكونه باع فضة ونحاسا بفضة ونحاس‏.‏
    وأصل مسألة ‏[‏مُدّ عَجْوَة‏]‏ ‏:‏ أن يبيع مالا ربويا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ المنع مطلقًا؛ كما هو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد‏.‏
    والثاني‏:‏ الجواز مطلقا؛ كقول أبي حنيفة، ويذكر رواية عن أحمد‏.‏

    ج/ 29 ص -458-والثالث‏:‏ الفرق بين أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا، أو لا يكون، وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه‏.‏ فإذا باع تمرًا في نواه بنوي، أو تمرًا منزوع النوي‏.‏ أو شاة فيها لبن، بشاة ليس فيها لبن، أو بلبن، ونحو ذلك، فإنه يجوز عندهما، بخلاف ما إذا باع ألف درهم بخمسمائة درهم في منديل؛ فإن هذا لا يجوز‏.‏
    فمن كان قصده بيع الربوي بجنسه متفاضلا لم يجز، وإن كام تبعًا غير مقصود جاز‏.‏ ومالك رحمه الله يقدر ذلك بالثلث‏.‏
    وهكذا إذا باع حنطة فيها شعير يسير بحنطة فيها شعير يسير، فإن ذلك يجوز عند الجمهور‏.‏ وكذلك إذا باع الدراهم التي فيها غش بجنسها؛ فإن الغش غير مقصود، والمقصود بيع الفضة بالفضة، وهما متماثلان‏.‏
    وكذلك صرف الفلوس بالدراهم المغشوشة، يقول من يكرهه‏:‏ إنه بيع فضة ونحاس، بنحاس‏.‏ والصحيح الذي عليه الجمهور أن هذا كله جائز‏.‏

    ج/ 29 ص -459-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    فصل

    وأما بيع الفضة بالفلوس النافقة‏:‏ هل يشترط فيها الحلول والتقابض، كصرف الدراهم بالدنانير‏؟‏ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد‏:‏
    إحداهما‏:‏ لابد من الحلول والتقابض؛ فإن هذا من جنس الصرف؛ فإن الفلوس النافقة تشبه الأثمان، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفًا‏.‏
    والثانية‏:‏ لا يشترط الحلول والتقابض؛ فإن ذلك معتبر في جنس الذهب والفضة، سواء كان ثمنًا أو كان صرفًا، أو كان مكسورًا، بخلاف الفلوس، ولأن الفلوس هي في الأصل من ‏[‏باب العروض‏]‏ والثمنية عارضة لها‏.‏
    وأيضًا، هذا مبني على الأصل الآخر، وهو أن بيع النحاس متفاضلا هل يجوز‏؟‏ على قولين معروفين فيه، وفي سائر الموزونات؛ كالحديد بالحديد، والرصاص بالرصاص، والقطن بالقطن، والكتان بالكتان،

    ج/ 29 ص -460-والحرير بالحرير‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلا، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأحمد في أشهر الروايتين عنه‏.‏
    والثاني‏:‏ أن ذلك جائز، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخري، اختارها طائفة من أصحابه‏.‏
    ومن قال بالتحريم اختلفوا في المعمول من ذلك؛ كثياب القطن، والكتان، والأسطال، وقدور النحاس، وغير ذلك‏.‏ هل يجري فيه الربا‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏
    أصحها‏:‏ الفرق بين ما يقصد وزنه بعد الصنعة؛ كثياب الحرير، والأسطال، ونحوهما وبين ما لا يقصد وزنه؛ كثياب القطن، والكتان، والإبر وغيرها‏.‏
    وعلى هذا، فالفلوس يجري فيها الربا عند من يقول‏:‏ إن معمول النحاس يجري فيه، ومن اعتبر قصد الوزن لم يجر الربا فيها عنده؛ لأنه لا يقصد وزنها في العادة، وإنما تنفق عددًا‏.‏
    لكن من قال‏:‏ هي أثمان‏.‏ فهل يجري فيها الربا من هذه الجهة‏؟‏ على وجهين لهم‏.‏ وكذلك فيها وجهان في وجوب الزكاة فيها، وفي إخراجها عن الزكاة، وغير ذلك‏.‏ والوجهان في مذهب أحمد، وغيره‏.‏

    ج/ 29 ص -461-وسئل عن رجل قال لإنسان‏:‏ أعطني بهذه الدراهم أنصافًا، قال له‏:‏ ما يجوز، فهل يجوز ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذه فيها نزاع بين العلماء، لكن الأكثرون على جواز ذلك؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في ظاهر مذهبه‏.‏
    فإن المسألة التي نقلتها الفقهاء مسألة ‏[‏مد عجوة‏]‏ على ثلاثة أقسام يجمعها أنه بيع ربوي بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ‏:‏
    القسم الأول‏:‏ أن يكون المقصود بيع ربوي بجنسه متفاضلا، ويضم إلى الأقل غير الجنس حيلة، مثل أن يبيع ألفي دينار بألف دينار في منديل، أو قفيز حنطة بقفيز وغرارة، ونحو ذلك‏.‏ فإن الصواب في مثل هذا القول بالتحريم، كما هو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ وإلا فلا يعجز أحد في ربا الفضل أن يضم إلى القليل شيئًا من هذا‏.‏
    القسم الثاني‏:‏ أن يكون المقصود بيع غير ربوي مع ربوي، وإنما دخل الربوي ضمنا وتبعا؛ كبيع شاة ذات

    ج/ 29 ص -462-صوف ولبن بشاة ذات صوف ولبن، أو سيف فيه فضة يسيرة بسيف أو غيره، أو دار مموهة بذهب بدار، ونحو ذلك‏.‏ فهنا الصحيح في مذهب مالك وأحمد جواز ذلك‏.‏
    وكذلك لو كان المقصود بيع الربوي بغير الربوي، مثل بيع الدار والسيف ونحوهما بذهب، أو بيعه بجنسه، وهما متساويان‏.‏
    ومسألة الدراهم المغشوشة في زماننا من هذا الباب؛ فإن الفضة التي في أحد الدرهمين كالفضة التي في الدرهم الآخر‏.‏ وأما النحاس فهو تابع غير مقصود؛ ولهذا كان الصحيح جواز ذلك، بخلاف القسم الثالث، وهو ما إذا كان كلاهما مقصودًا؛ مثل بيع مد عجوة ودرهم بمدعجوة ودرهم، أو مدين، أو درهمين، أو بيع دينار بنصف دينار وعشرة دراهم، أو بيع عشرة دراهم ورطل نحاس بعشرة دراهم ورطل نحاس، فمثل هذه فيها نزاع مشهور‏.‏ فأبو حنيفة يجوز ذلك، والشافعي يحرمه‏.‏ وعن أحمد روايتان‏.‏ ولمالك تفصيل بين الثلث وغيره‏.‏

    ج/ 29 ص -463-وسئل رحمه الله عن الذهب المخيش إذا علم مقدار ما فيه من الفضة والذهب، فهل يجوز بيعه بأحدهما إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذا على ثلاثة أنواع‏:‏
    أحدها‏:‏ أن يكون المقصود بيع فضة بفضة متفاضلا، أو بيع ذهب بذهب متفاضلا، ويضم إلى الأنقص من غير جنسه حيلة، فهذا لا يجوز أصلا‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يكون المقصود بيع أحدهما، وبيع عرض بأحدهما، وفي العرض ما ليس مقصودًا‏:‏ مثل بيع السلاح بأحدهما وفيه حيلة يسيرة، أو بيع عقار بأحدهما وفي سقفه وحيطانه كذلك؛ مثل بيع غنم ذات صوف بصوف، وذات لبن بلبن، فهذا يجوز عند أكثر العلماء، وهو الصواب‏.‏
    وبيع الفضة المخيشة بذهب يذهب عند السبك بفضة مثله، هو من هذا الباب؛ فإذا بيعت الفضة المصنوعة المخيشة بذهب، أو بيعت

    ج/ 29 ص -464-بذهب مقبوض جاز ذلك، وإذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة أكثر منها لأجل الصناعة لم يجز‏.‏
    والثالث‏:‏ أن يكون كلا الأمرين مقصودا؛ مثل أن يكون على السلاح ذهب أو فضة كثير؛ فهذا إذا كان معلوم المقدار وبيع بأكثر من ذلك؛ ففيه نزاع مشهور‏.‏ والأظهر أنه جائز‏.‏ وإذا بيعت الفضة المصنوعة المخيشة بذهب، أو بيعت بذهب مغشوش، جاز ذلك، وإذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة أكثر منها لم يجز‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وقال رحمه الله‏:‏
    فصل
    وأما بيع الدراهم النقرة التي تكون فضتها نحو الثلثين، بالدراهم السود التي تكون فضتها نحو الربع، أو أقل، أو أكثر، فهذه مما تتعلق بمسألة ‏[‏مُدّ عَجْوةَ‏]‏
    وجماعها‏:‏ أن يبيع ربويا معه غيره بجنس ذلك الربوي، والناس فيها بين طرفي التحريم، والتحليل، وبين متوسط‏.‏

    ج/ 29 ص -465-فإذا كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا، وقد أدخل الغير حيلة، كمن يبيع ألفي درهم بألف درهم في منديل، أو قفيزي حنطة بقفيز في زنبيل، فهذا لا ريب في تحريمه‏.‏ كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد‏.‏
    وإن كان المقصود هو البيع الجائز، وما فيه من مقابلة ربوي بربوي هو داخل على وجه التبع؛ كبيع الغنم بالغنم، وفي كل منهما لبن وصوف، أو بيع غنم ذات لبن بلبن، وبيع دار مموهة بذهب، وبيع الحلية الفضية بذهب، وعليهما ذهب يسير موهت به، ونحو ذلك‏.‏
    فهذا الصواب فيه أنه جائز، كما هو المشهور من مذهب أحمد، وغيره، كما جاز دخول الثمرة قبل بدو صلاحها، في البيع تبعا، وقد جاء مع ذلك الحديث الذي رواه مسلم مرفوعا، كما رواه سالم عن أبيه، ورواه نافع عن ابن عمر مرفوعا‏:‏ ‏"‏من باع عبدا له، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع‏"‏‏.‏
    وأما إن كان كلا الصنفين مقصودا، ففيهما النزاع المشهور‏.‏ ومنهم من منعه؛ إما لكونه ذريعة إلى الربا، وإما لكون الصفقة المشتملة على عوضين مختلفين ينقسم الثمن عليهما بالقيمة، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في إحدى روايتيه‏.‏

    ج/ 29 ص -466-ومنهم من جوزه كمذهب أبي حنيفة وغيره‏.‏ والرواية الأخري عن أحمد‏:‏ إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره‏.‏
    إذا عرف ذلك، فبيع النقرة المغشوشة بالنقرة المغشوشة جائز على الصحيح، كبيع الشاة اللبون باللبون، إذا تماثلا في الصفة، أو النحاس‏.‏ وأما بيع النقرة بالسوداء، إذا لم يقصد به فضة بفضة متفاضلا، فإن النحاس الذي في السوداء مقصود، وهي قرينة بين النقرة والفلوس، فهذه تخرج على النزاع المشهور في مسألة ‏[‏مدعجوة‏]‏ إذ قد باع فضة ونحاسا بفضة ونحاس مقصودين، والأشبه الجواز في ذلك، وفي سائر هذا الباب، إذا لم يشتمل على الربا المحرم‏.‏
    والأصل حمل العقود على الصحة، والحاجة داعية إلى ذلك، وحديث الخرز المعلقة بالذهب، لم يعلم كون الذهب المفرد أكثر من الذي مع الخرز، والتقويم في العوضين المختلفين كان للحاجة‏.‏ هذا إن كان النحاس ينتفع به، إذا تخلص من الفضة؛ فإن كان لا ينتفع به، فذلك كبيع الفضة بالفضة، يعتبر فيه التماثل، ويلغي فيه ما لا خبرة للناس بمقدار الفضة‏.‏ والله أعلم

    ج/ 29 ص -467-وسئل عن جماعة تبيع بدراهم، وتوفي عن بعضها فلوسا محاباة، ثم تخبر عن الثمن بالثمن المسمي‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس لهم أن يوفوا فلوسًا إلا برضا البائع، وإذا أوفوا فلوسًا فليس لهم أن يوفوها إلا بالسعرالواقع، كما أمر النبي ﷺ عبد الله بن عمر لما قال له‏:‏ إنا نبيع بالذهب، ونقتضي الورق، ونبيع بالورق ونقتضي الذهب، فقال‏:‏ ‏"‏لا بأس به، بسعر يومه، إذا افترقتما، وليس بينكما شيء‏"‏‏.‏
    وحينئذ، فتخيير الثمن على التقدير سواء؛ وذلك لأن هذا ربح فيما لم يضمن‏.‏ وعلى هذا التقدير فجميع الديون والاعتياض عنها سواء؛ لأن التقديرين يجريان مجري واحدًا‏.‏ فاستيفاء أحدهما عن الآخر كاستيفاء أحدهما عن نفسه، فلا يكون ذلك من باب المعاوضة، فلا تجوز فيه الزيادة بالشرط، كما لا يجوز في القرض ونحوه مما يوجب المماثلة‏.‏
    فإذا اتفقا على أن يوفى أحدهما أكثر من قيمته، كان كالاتفاق

    ج/ 29 ص -468-على أن يوفى عنه أكثر من جنسه؛ بخلاف الزيادة من غير شرط‏.‏ وعلى هذا فالفلوس النافقة قد يكون فيها شوب أقوي من الأثمان، فتوفيتها عن أحد النقدين، كتوفية أحدهما عن صاحبه، فيه العلتان؛ لحديث ابن عمر‏.‏ يحسبها بنقدين في الحكم، ويقتصر به عن الأثمان‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن الفلوس تشتري نقدا بشيء معلوم، وتباع إلى أجل بزيادة، فهل يجوز ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين العلماء وهو صرف الفلوس النافقة بالدراهم، هل يشترط فيها الحلول‏؟‏ أم يجوز فيها النسأ‏؟‏ على قولين مشهورين، هما قولان في مذهب أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل‏:‏
    أحدهما‏:‏ وهو منصوص أحمد، وقول مالك، وإحدي الروايتين عن أبي حنيفة‏:‏ أنه لا يجوز‏.‏ وقال مالك‏:‏ وليس بالحرام البين‏.‏
    والثاني‏:‏ وهو قول الشافعي وأبي حنيفة في الرواية الأخرى،

    ج/ 29 ص -469-وابن عقيل من أصحاب أحمد‏:‏أنه يجوز‏.‏ومنهم من يجعل نهى أحمد للكراهة؛فإنه قال‏:‏هو يشبه الصرف‏.‏ والأظهر المنع من ذلك؛ فإن الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان، وتجعل معيار أموال الناس‏.‏
    ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم‏.‏ ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلا، بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه؛ للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضا، وضرب لهم فلوسا أخري، أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها، فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها‏.‏
    وأيضا، فإذا اختلفت مقادير الفلوس، صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس، وفي السنن عن النبي ﷺ‏:‏ أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا من بأس‏.‏ فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس، والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسًا، ويتجر بذلك، حصل بها المقصود

    ج/ 29 ص -470-من الثمنية‏.‏
    وكذلك الدراهم، فإن النبي ﷺ نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين؛ ونهى عن صرف الدراهم بالدنانير، إلا يدًا بيد‏.‏ وتحريم النسأ متفق عليه بين الأمة‏.‏ وتحريم التفاضل يدا بيد قد ثبت فيه أحاديث صحيحة، وقال به جمهور الأمة، ولكن لله ولرسوله في الشريعة من الحكمة البالغة، والنعمة التامة، والرحمة العامة، ما قد يخفي على كثير من العلماء‏.‏
    وقد اختلفوا في كثير من ‏[‏مسائل الربا‏]‏ قديما وحديثا، واختلفوا في تحريم التفاضل في الأصناف الستة‏:‏ الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والملح‏:‏ هل هو التماثل‏؟‏ وهو الكيل والوزن، أو هو الثمنية والطعم، أو هو الثمنية والتماثل مع الطعم والقوت وما يصلحه‏؟‏ أو النهي غير معلل، والحكم مقصور على مورد النص‏؟‏ على أقوال مشهورة‏.‏
    والأول‏:‏ مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايات عنه‏.‏
    والثاني‏:‏ قول الشافعي، وأحمد في رواية‏.‏
    والثالث‏:‏ قول أحمد في رواية ثالثة اختارها أبو محمد، وقول مالك قريب من هذا، وهذا القول أرجح من غيره‏.‏
    والرابع‏:‏ قول داود وأصحابه، ويروي عن قتادة‏.‏ ورجح ابن عقيل هذا القول في مفرداته، وضعف

    ج/ 29 ص -471-الأقوال المتقدمة‏.‏ وفيها قول شاذ‏:‏ أن العلة المالية، وهو مخالف للنصوص، ولإجماع السلف‏.‏ والاتحاد في الجنس شرط على كل قول من ربا الفضل‏.‏
    والمقصود هنا الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم‏.‏ والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية؛ لا الوزن، كما قاله جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات؛ كالرصاص، والحديد، والحرير، والقطن، والكتان‏.‏
    ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا‏.‏ والمنازع يقول‏:‏ جواز هذا استحسان، وهو نقيض للعلة‏.‏ ويقول‏:‏ إنه جوز هذا للحاجة؛ مع أن القياس تحريمه، فيلزمه أن يجعل العلة الربا بما ذكره‏.‏ وذلك خلاف قوله‏.‏ وتخصيص العلة الذي قد سمي استحسانا إن لم يبين دليل شرعي يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة، واختصاص صورة التخصيص، بمعني يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع، والأحاديث،وإلا كانت العلة فاسدة‏.‏
    والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا

    ج/ 29 ص -472-يقصد الانتفاع بعينها‏.‏ فمتي بيع بعضها ببعض إلى أجل، قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب؛ فإن ذلك إنما يحصل بقبضها، لا بثبوتها في الذمة؛ مع أنها ثمن من طرفين، فنهي الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل‏.‏ فإذا صارت الفلوس أثمانًا صار فيها المعني، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل‏.‏
    كما أن النبي ﷺ نهى عن بيع الكالئ بالكالئ‏.‏
    وهو المؤخر بالمؤخر، ولم ينه عن بيع دين ثابت في الذمة يسقط إذا بيع بدين ثابت في الذمة يسقط؛فإن هذا الثاني يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين؛ ولهذا كان هذا جائزا في أظهر قولي العلماء؛ كمذهب مالك وأبي حنيفة، وغيرهما، بخلاف ما إذا باع دينا يجب في الذمة ويشغلها بدين يجب في الذمة؛ كالمسلم إذا أسلم في سلعة ولم يقبضه رأس المال، فإنه يثبت في ذمة المستسلف دين السلم، وفي ذمة المسلف رأس المال، ولم ينتفع واحد منهما بشيء‏.‏ ففيه شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التي هي وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد‏.‏ كما أن السلع هي المقصودة بالأثمان، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل، كما لا يباع كالئ بكالئ؛ لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنية، ومقصود العقود، بخلاف كون المال موزونا ومكيلا؛ فإن هذا صفة لما

    ج/ 29 ص -473-به يقدر، ويعلم قدره؛ ولأن في ذلك معني يناسب تحريم التفاضل فيه‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ المكيلات والموزونات متماثلة، وعلة التحريم نفي التماثل‏.‏ قيل‏:‏ العاقل لا يبيع شيئا بمثله إلى أجل، ولكن قد يقرض الشيء ليأخذ مثله بعد حين‏.‏ والقرض هو تبرع من جنس العارية، كما سماه النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏منيحة ورق، أو منيحة ذهب‏"‏ ‏.‏ فالمال إذا دفع إلى من يستوفي منفعته مدة، ثم يعيده إلى صاحبه، كان هذا تبرعا من صاحبه بنفعه تلك المدة، وإن كان لكل نوع اسم خاص‏.‏ فيقال في النخلة‏:‏ عارية، ويقال فيما يشرب لبنه‏:‏ منيحة‏.‏ ثم قد يعيد اليه عين المال إن كان مقصودًا، وإلا أعاد مثله، والدراهم لا تقصد عينها، فإعادة المقترض نظيرها، كما يعيد المضارب نظيرها‏.‏ وهو رأس المال؛ ولهذا سمي قرضا؛ ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله، وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال، باتفاق العلماء‏.‏ والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته كما يستحق مثله في الغصب والإتلاف،ومثل هذا لا يبيعه عاقل،وإنما يباع الشيء بمثله،فيما إذا اختلفت الصفة‏.‏
    والشارع طلب إلغاء الصفة في الأثمان، فأراد أن تباع الدراهم بمثل وزنها، ولا ينظر إلى اختلاف الصفات مع خفة وزن كل درهم، كما يفعله من يطلب دراهم خفافا، إما ليعطيها للظلمة، وإما ليقضي بها،

    ج/ 29 ص -474-وإما لغير ذلك، فيبدل أقل منها عددا، وهو مثلها وزنا، فيريد المربي ألا يعطيه ذلك إلا بزيادة في الوزن، فهذا إخراج الأثمان عن مقصودها، وهذا مما حرمه النبي ﷺ بلا ريب، بخلاف مواضع تنازع العلماء فيها، ليس هذا موضع تفصيلها‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن يبخس المكيال والميزان‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما بخس المكيال والميزان، فهو من الأعمال التي أهلك الله بها قوم شعيب، وقص علينا قصتهم في غير موضع من القرآن؛ لنعتبر بذلك‏.‏ والإصرار على ذلك من أعظم الكبائر، وصاحبه مستوجب تغليظ العقوبة، وينبغي أن يؤخذ منه ما بخسه من أموال المسلمين على طول الزمان، ويصرف في مصالح المسلمين، إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه‏.‏
    والكيال والوزان الذي يبخس الغير، هو ضامن محروم، مأثوم‏.‏ وهو من أخسر الناس صفقة؛ إذ باع آخرته بدنيا غيره‏.‏ ولا يحل أن يجعل بين الناس كيالا أو وزانا يبخس أو يحابي، كما لا يحل أن يكون بينهم مقوم يحابي، بحيث يكيل أو يزن أو يقوم لمن يرجوه أو يخاف من شره، أو يكون له جاه ونحوه، بخلاف ما يكيل أو يزن

    ج/ 29 ص -475-أو يقوم لغيرهم، أو يظلم من يبغضه، ويزيد من يحبه‏.‏
    قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ ‏.‏ والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML