ج/ 29 ص -357-باب الخيار
سئل رحمه الله عن رجلين تبايعا عينًا، وشرطا لكل واحد منهما فسخ البيع وإمضاءه في مدة معتبرة شرعًا: فهل يعتبر الخيار في الإمضاء والفسخ؟ أو في الفسخ دون الإمضاء؟ ويكون ذكر الإمضاء لغوًا أو لا يعتبران معًا؟ فإن قيل: إن ذكر الإمضاء لغو فلا كلام. وإن قيل: إنهما يعتبران، ولكل من اللفظين أثر في الحكم، فإذا اختار أحدهما الإمضاء والآخر الفسخ، فهل القول قول من اختار الفسخ، أو السابق منهما؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا كان الأمر كما ذكر، واختار أحدهما فسخ البيع فله فسخه بدون رضي الآخر، ولو سبق الآخر بالإمضاء. والإمضاء المقرون بالفسخ يقصد به ترك الفسخ: أي لكل منهما أن يفسخه، وألا يفسخه؛ فإنه إذا لم يفسخاه إلى انقضاء المدة، لا يقصد به التزام الآخر بالعقد؛ لأن تفسيره بذلك ينافي أن
ج/ 29 ص -358-يكون للآخر الفسخ، وهو قد جعل لكل منهما الفسخ.
وإن أراد بإمضائه: إمضاءه هو العقد، بمعني إسقاط حقه من الخيار، كان ذلك صحيحًا، ولكن إذا سقط خياره لم يسقط خيار الآخر، ولكن المعني المعروف في مثل هذه العبارة: أن لكل منهما أن يفسخه، وألا يفسخه. وإذا لم يفسخه فقد أمضاه. ونظير هذا قوله تعالى: "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ" [البقرة: 231] ، فإن التسريح هو ترك الإمساك، بحيث لا يحبسها. ولا يحتاج التسريح إلى إحداث طلاق، كذلك إمضاء العقد لا يحتاج إلى إحداث إمضاء. والله أعلم.
وسئل عن رجل أعطى نطعًا لدلال يبيعه، فنادي عليه الدلال، فزاد نصف درهم، فراح الدلال إلى نائب الحسبة، فقال له: هذا صاحب النطع زاد فيه نصف درهم، فطلبه، وقيل له ذلك، فأنكر وحلف بالطلاق خوفًا على نفسه وإزالة ما في صدور من سمعه وأنه حلف أنه ما فعله، فهل يقع به الطلاق؟
فأجاب:
المالك إذا زاد في السلعة كان ظالما ناجشًا، وهو شر
ج/ 29 ص -359-من التاجر الذي ليس بمالك، وهو الذي يزيد في السلعة ولا يقصد شراءها؛ ولهذا لو نجش أجنبي لم يبطل البيع، وأما البائع إذا ناجش، أو واطأ من ينجش، ففي بطلان البيع قولان في مذهب أحمد وغيره. ومثل هذا ينبغي تعزيره على أمرين: على نجشه، وعلى حلفه بالطلاق يمينًا فاجرة، وليس فعله المحرم عذرًا له في اليمين الفاجرة.
وسئل رحمه الله تعالى عمن يسوم السلعة بثمن كثير، ويبيعها بأزيد من القيمة المعتادة، وقد يكون المشتري جاهلًا بالقيمة، هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب:
أما إذا كان المشتري مسترسلا وهو الجاهل بقيمة المبيع لم يجز للبائع أن يغبنه غبنًا يخرج عن العادة، بل عليه أن يبيعه بالقيمة المعتادة، أو قريب منها. فإن غبنه غبنًا فاحشًا فللمشتري الخيار في فسخ البيع وإمضائه. فقد روي في الحديث: "غبن المسترسل ربا". وثبت في الصحاح: أن النبي ﷺ نهى عن تلقي الجلب حتي يهبط به السوق. وأثبت الخيار للبائع إذا هبط. وذلك لأن البائع قبل أن يهبط السوق يكون جاهلًا بقيمة السلع، فنهى النبي ﷺ عن أن يخرج المشتري إليه، ويبتاع منه؛ لما في ذلك من تغريره والتدليس. وأثبت له الخيار إذا علم بحقيقة الحال.
ج/ 29 ص -360-فهكذا كل من كان جاهلًا بالقيمة،لا يجوز تغريره والتدليس عليه؛ مثل أن يسام سومًا كثيرًا خارجًا عن العادة ليبذل ما يقارب ذلك، بل يباع البيع المعروف غير المنكر. والله أعلم.
وسئل عن بيع المسترسل؟
فأجاب:
أما البيع فلا يجوز أن يباع المسترسل إلا بالسعر الذي يباع به غيره، لا يجوز لأحد استرسل إليه أن يغبن في الربح غبنا يخرج عن العادة. وقد قدر ذلك بعض العلماء بالثلث. وبعضهم بالسدس. وآخرون قالوا: يرجع في ذلك إلى عادة الناس، فما جرت به عادتهم من الربح على المماكسين يربحونه على المسترسل.
والمسترسل قد فسر بأنه الذي لا يماكس، بل يقول: خذ أعطني، وبأنه الجاهل بقيمة المبيع، فلا يغبن غبنًا فاحشًا، لا هذا ولا هذا، وفي الحديث "غبن المسترسل ربًا".
ومن علم منه أنه يغبنهم فإنه يستحق العقوبة، بل يمنع من الجلوس في سوق المسلمين، حتي يلتزم طاعة الله ورسوله، وللمغبون أن يفسخ البيع فيرد السلعة ويأخذ الثمن، وإذا تاب هذا الغابن الظالم ولم يمكنه أن يرد إلى المظلومين حقوقهم فليتصدق بمقدار ما ظلمهم به وغبنهم؛
ج/ 29 ص -361-لتبرأ ذمته بذلك من ذلك.
و[بيع المساومة] إذا كان مع أهل الخبرة بالأسعار التي يشترون بها السلع في غالب الأوقات، فإنه يباع غيرهم كما يباعون، فلا يربح على المسترسل أكثر من غيره، وكذلك المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند هذا الشخص، ينبغي أن يربح عليه مثل ما يربح على غير المضطر؛ فإن في السنن: أن النبي ﷺ "نهى عن بيع المضطر". ولو كانت الضرورة إلى مالا بد منه؛ مثل لو يضطر الناس إلى ما عنده من الطعام واللباس، فإنه يجب عليه ألا يبيعهم إلا بالقيمة المعروفة، ولهم أن يأخذوا ذلك منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره، ولا يعطوه زيادة على ذلك. والله أعلم.
وقال:
فصل
وبيع المغشوش الذي يعرف قدر غشه، إذا عرف المشتري بذلك، ولم يدلسه على غيره جائز، كالمعاملة بدراهمنا المغشوشة. وأما إذا كان قدره مجهولًا كاللبن الذي يخلط بالماء، ولا يقدر قدر الماء، فهذا منهى عنه، وإن علم المشتري أنه مغشوش.
ج/ 29 ص -362-ومن باع مغشوشًا لم يحرم عليه من الثمن إلا مقدار ثمن الغش، فعليه أن يعطيه لصاحبه، أو يتصدق به عنه إن تعذر رده، مثل من يبيع معيبًا مغشوشًا بعشرة، وقيمته لو كان سالما عشرة، وبالعيب قيمته ثمانية. فعليه إن عرف المشتري أن يدفع إليه الدرهمين إن اختار، وإلا رد إليه المبيع، وإن لم يعرفه تصدق عنه بالدرهمين. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن قوم يعملون عبيًا، يدخلون فيه صوفًا لا ينتفع به، يسمونه [السلاقة] فيخلطونه بمشاق الكتان تدليسًا منهم، ويبيعونه على أنه صوف جيد، وربما عرفه التاجر، لكن التاجر يكتم ذلك على المشتري، فما يجب على صانعه؟ وهل يتجر فيه ويكتمه عن مشتريه؟ وما حكمه في نفس عمله؟ وما يجب على من عمل ذلك من المسلمين؟ وما يجب على ولاة الأمور في ذلك إذا كانوا يخلطون المشاق في الصوف الأبيض، وقد نهوا عن ذلك غير مرة، ويعودوا إليه؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس للصانع أن يصنع ذلك، ولا للبائع أن يبيعه، ولو علم المشتري أن فيه عيبًا، فإن مقدار الغش غير معلوم. وقد روي عن النبي ﷺ: أنه نهى أن يشاب
ج/ 29 ص -363-اللبن بالماء للبيع بخلاف الشرب، فإذا خلط اللبن بالماء للشرب جاز، وأما للبيع فلا، ولو علم المشتري أنه مخلوط بالماء؛ لأن المشتري لا يعلم مقدار الخلط، فيبقي البيع مجهولًا، وهو غرر. وهكذا كل ما كان من المغشوش الذي لا يعلم قدر غشه، فإنه ينهى عن بيعه، وعن عمله لمن يبيعه، وكذلك خلط المشاق بالصوف الأبيض، وكل ما كان من الغش في المطاعم والملابس وغير ذلك إذا لم يعلم مقدار الغش، فإنه ينهى عن ذلك.
وقد أفتي طائفة من العلماء من أصحاب مالك، وأحمد، وغيرهما: أن من صنع مثل هذا فإنه يجوز أن يعاقب بتمزيق الثوب الذي غشه، والتصدق بالطعام الذي غشه، كما شق النبي ظروف الخمر وكسر دنانها، وكما أمر عمر وعلى رضي الله عنهما بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وقد نص عليه أحمد وغيره، وكما أمر النبي ﷺ عبد الله بن عمر أن يحرق الثوبين المعصفرين، رواه مسلم في صحيحه. وكما حرق موسي عليه السلام العجل، ولم يعده إلى أهله، وكما تكسر آلات الملاهي. ونظائر هذه متعددة. وهي مبنية على أن العقوبات في الأموال تتبع حيث جاءت بها الشريعة، كالعقوبات بالأبدان.
وادعي طائفة من العلماء أن ذلك منسوخ، ولا حجة معهم بذلك أصلًا، فكما أن البدن إذا قام به الفجور قد يتلف، فالمال الذي قام
ج/ 29 ص -364-به صنعة الفجور مثل الأصنام المنحوتة يجوز تكسيرها وتحريقها، كما حرق النبي ﷺ الأصنام، وكذلك من صنع صنعة محرمة من طعام أو لباس ونحو ذلك. والله أعلم.
وسئل عن دار لرجل باع ثلثها لزيد، ثم باع الباقي لعمرو من ملكه: الثلث، والثلثين بالوكالة عن زيد، وتوفي زيد ومن حقوقها قناة ظهرت مستحقة النقل، والإزالة، بحكم تعدي ضررها للغير، وتعذر الرد لإحداث زيادة كثيرة من البناء: فهل يجب أرش القناة على البائع لعمرو؟ وإذا وجب، فهل يطلب بأرش الحصة التي باعها بالوكالة عن المشتري منه؟ أم يختص الطلب بما باعه عن نفسه؟
فأجاب:
الأرش الواجب بسبب العيب في الثمن إن كان الثمن لم يقبضه المشتري سقط من الثمن قدر الأرش. وإن كان قبضه للبائع أو وكيله فله أن يطالب البائع بالأرش. ثم الوكيل إن ضمن عهدة البيع، أو لم يسم موكله في العقد فهو ضامن للأرش، فيجوز مطالبته به. وإن سماه في العقد، ولم يضمن العهدة فهل يكون ضامنًا لذلك؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد، وغيره. والله أعلم.
ج/ 29 ص -365-وسئل قدس الله روحه ونور ضريحه عن دار بين شخصين باعها أحدهما عن نفسه، وعن شريكه بالوكالة لشخص آخر، ثم إن المشتري بني فوق ما اشتراه بناء كبيرًا، ومن حقوقه قناة ملاصقة جدار تربة، فندت الجدار، وسرت النداوة إلى القبر، فرفع ملاك التربة المشتري للحسبة، فشهدت البينة أر
باب الخبرة بتندية الجدار، ووصول ذلك إلى القبر، وأن القناة محدثة على الجدار، وأنه ضرر يجب إزالتها من مكانها، فألزم المشتري بنقلها، فهل ما أحدثه المشتري من البناء والهدم يمنع الرد؟ أم لا؟ وإذا منع، فهل يثبت الأرش؟ وإذا ثبت، فهل هو على الفور يسقط بتأخيره؟ أم على التراخي فلا يسقط بالتأخير؟ وما ألزم بهدمه وهدمه هل يسقط أرشه، أم لا؟ وإن قيل: إنه على الفور، فأشهد على نفسه بطلب الأرش، ثم تصرف بعد ذلك الإشهاد، فهل يسقط أم لا؟ وإذا كان له ذلك. فتكون المطالبة للوكيل بما باعه من ملكه، وملك موكله، أم ملكه فقط؟
فأجاب:
أما القناة إذا كانت محدثة حيث لا يجوز إحداثها، فإنه يلزم محدثها بإزالة ما لا يجوز إحداثه. والمشتري إن لم يعلم بذلك بل
ج/ 29 ص -366-اعتقد أن هذا حق للملك، لا يجوز إزالته، فتبين الأمر بخلاف ذلك كان هذا عيبًا.
فإذا بني في العقار قبل علمه بالعيب، ثم علم أنه عيب، فليس إلا الأرش دون الرد في أحد قولي العلماء. كأبي حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين عنه. وفي الأخري وهو قول مالك له الرد أيضًا. ويكون شريكًا للبائع بما أحدثه من الزيادة فيه ولا يلزم بالهدم مجانًا؛ لأنه بني بحق.
وخيار الرد بالعيب على التراخي عند جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبهما، ولهما قول كمذهب الشافعي أنه على الفور. فإذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فعل سقط خياره بالاتفاق. فإذا بني بعد علمه بالعيب سقط خياره.
وأما إذا أشهد بطلب الأرش استحقه، كان له أن يطالب به بعد ذلك، ولا يسقط الأرش بتصرفه. والبائع يطالب بالدرك من أرش أو رد فيما باعه من ملكه. وأما إذا باعه من ملك موكله فإن كان لم يسمه في البيع طولب أيضًا بدرك المبيع، وإن كان سماه. فهل يجوز مطالبته؟ ويكون ضامنًا لعهدة المبيع؟ على قولين للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
ج/ 29 ص -367-وأما إن كان المشتري ألزم بالأرش؛ لأجل القناة المحدثة التي لا يجوز إحداثها، فله أن يطالب البائع الغار له بأرش ما لزمه بغرره.
وسئل رحمه الله عن أناس يتعانون خروج المياه، مثل ماء الورد وغيره، ثم إنهم يأخذون حرقان الورد، وينقعونه، ويستخرجوه عن العادة، وكذلك الينوفر ينقعونه يابسًا، فهل يجوز لهم أن يفعلوا ذلك، ويبيعوه؟
فأجاب:
لا يجوز خلط الماء الأول بالماء الثاني لمن يريد بيعه، ولو علم بذلك المشترون، كما روي عن النبي ﷺ: أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع، ولا بأس به للشرب؛ فإن هذه المائعات إذا شيبت لم يعرف مقدار ما يدخلها من الغش. وعلى ولي الأمر عقوبة من يفعل ذلك، وسلوك طريق يمتنعون بها عن الغش.
ج/ 29 ص -368-وسئل شيخ الإسلام عن عمل [الكيمياء] ، هل تصح بالعقل، أو تجوز بالشرع؟
فأجاب:
الحمد لله، ما يصنعه بنو آدم من الذهب والفضة وغيرهما من أنواع الجواهر والطيب وغير ذلك، مما يشبهون به ما خلقه الله من ذلك، مثل ما يصنعونه من اللؤلؤ، والياقوت، والمسك، والعنبر، وماء الورد، وغير ذلك، فهذا كله ليس مثل ما يخلقه الله من ذلك، بل هو مشابه له من بعض الوجوه، ليس هو مساويًا له في الحد والحقيقة. وذلك كله محرم في الشرع بلا نزاع بين علماء المسلمين، الذين يعلمون حقيقة ذلك.
ومن زعم أن الذهب المصنوع مثل المخلوق، فقوله باطل في العقل والدين.
وحقيقة [الكيمياء] إنما هي تشبيه المخلوق، وهو باطل في العقل، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فهو سبحانه لم يخلق شيئًا يقدر العباد أن يصنعوا مثل ما خلق، وما
ج/ 29 ص -369-يصنعونه فهو لم يخلق لهم مثله: فإنه سبحانه أقدرهم على أن يصنعوا طعامًا مطبوخًا، ولباسًا منسوجًا، وبيوتًا مبنية، وهو لم يخلق لهم مثل ما يصنعونه من المطبوخات والمنسوجات والبيوت المبنية. وما خلقه الله سبحانه من أنواع الحيوان والنبات والمعدن، كالإنسان والفرس والحمار والأنعام والطير والحيتان فإن بني آدم لا يقدرون أن يصنعوا مثل هذه الدواب. وكذلك الحنطة، والشعير، والباقلا، واللوبيا، والعدس، والعنب، والرطب، وأنواع الحبوب والثمار لا يستطيع الآدميون أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى. وإنما يشبهونه ببعض هذه الثمار، كما قد يصنعون ما يشبه الحيوان، حتي يصوروا الصورة كأنها صورة حيوان.
وكذلك المعادن؛ كالذهب، والفضة، والحديد، والنحاس والرصاص، لا يستطيع بنو آدم أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله؛ وإنما غايتهم أن يشبهوا من بعض الوجوه، فيصفرون وينقلون، مع اختلاف الحقائق؛ ولهذا يقولون: تعمل تصفيرة؟ ويقولون: نحن صباغون.
وهذه [القاعدة] التي يدل عليها استقراء الوجود: من أن المخلوق لا يكون مصنوعًا، والمصنوع لا يكون مخلوقًا، هي ثابتة عند المسلمين، وعند أوائل المتفلسفة الذين تكلموا في الطبائع، وتكلموا في الكيمياء وغيرها؛ فإن الله قال في كتابه: "أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" [الرعد: 16] ،
ج/ 29 ص -370-وفي الصحيح عن النبي ﷺ فيما يروي عن الله أنه قال: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة! فليخلقوا بعوضة!". وقد ثبت عن النبي ﷺ: أنه لعن المصورين.وقال: "من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"، وقال: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله". وهذا التصوير ليس فيه تلبيس وغش، فإن كل أحد يعلم أن صورة الحيوان المصورة ليست حيوانًا.
ولهذا يفرق في هذا التصوير بين الحيوان وغير الحيوان. فيجوز تصوير صورة الشجر والمعادن في الثياب والحيطان ونحو ذلك؛ لأن النبي ﷺ قال:"من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"؛ ولهذا قال ابن عباس للمستفتي الذي استفتاه: صور الشجر وما لا روح فيه. وفي السنن عن النبي ﷺ أن جبريل قال له في الصورة: "مر بالرأس فليقطع"؛ ولهذا نص الأئمة على ذلك، وقالوا: الصورة هي الرأس، لا يبقي فيها روح، فيبقي مثل الجمادات. وهذا التصوير ليس فيه غش ولا تلبيس؛ فإن كل أحد يفرق بين المصور وبين المخلوق.
وأما الكيمياء، فإنه يشبه فيها المصنوع بالمخلوق، وقصد أهلها إما
ج/ 29 ص -371-أن تجعل هذا كهذا، فينفقونه ويعاملون به الناس، وهذا من أعظم الغش. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه مر برجل يبيع طعامًا، فأدخل يده فيه، فوجده مبلولًا. فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" فقال: يا رسول الله، أصابته السماء يعني المطر فقال: "هلا وضعت هذا على وجهه، من غشنا فليس منا"، وقوله: "من غشنا فليس منا" كلمة جامعة في كل غاش.
وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشًا؛ ولهذا لا يظهرون للناس إذا عاملوهم أن هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم إلا من يريد غشهم. وقد قال الأئمة: إنه لا يجوز بيع المغشوش الذي لا يعلم مقدار غشه، وإن بين للمشتري أنه مغشوش. وقد روي عن النبي ﷺ: أنه نهى عن أن يشاب اللبن بالماء للبيع، وأرخص في ذلك للشرب. وبيع المغشوش لمن لا يتبين له أنه مغشوش حرام بالإجماع، والكيمياء لا يعلم مقدار الغش فيها، فلا يجوز عملها ولا بيعها بحال.
مع أن الناس إذا علموا أن الذهب والفضة من الكيمياء لم يشتروه. ولو قيل لهم: إنه يثبت على الروباص، أو غير ذلك، بل القلوب مفطورة على إنكار ذلك، والولاة ينكرون على من يجدونه يعمل ذلك، ولو كان أحدهم ممن يعمل ذلك في الباطن فيحتاج أن ينكره في الظاهر؛
ج/ 29 ص -372-لأنه منكر في فطر الآدميين، ولا تجد من يعاني ذلك إلا مستخفيًا بذلك، أو مستعينًا بذي جاه، وعلى أصحابه من الذلة والصَّغَار وسواد الوجوه، ما على أهل الفرية والكذب والتدليس كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" [الأعراف: 152] . قال أبو قِلاَبة: هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وهؤلاء أهل فرية وغش وتدليس في الدين، وكلاهما من المفترين.
وأما القدماء فقد قالوا: إن الصناعة لا تعمل عمل الطبيعة، وأخبروا أن المصنوع لا يكون كالمطبوع؛ ولهذا كان المصنفون منهم في الكيمياء إذا حققوا قالوا: لما كان المقصود بها إنما هو التشبيه، فالطريق في التشبيه كذا وكذا. فيسلكون الطرق التي يحصل بها التشبيه، وهي مع تنوعها وكثرتها ووصول جماعات إليها واتفاقهم فيها: عسرة على أكثر الخلق، كثيرة الآفات، والمنقطع عن الوصول أضعاف الواصلين مع كثرتهم، فجماهير من يطلب الكيمياء لا يصل إلى المصنوع الذي هو مغشوش باطل طبعًا، محرم شرعًا، بل هم يطلبون الباطل الحرام، ويتمنوه ويتحاكون فيه الحكايات، ويطالعون فيه المصنفات، وينشدون فيه الأشعار، ولا يصلون إلى حقيقة الكيمياء وهو المغشوش بمنزلة أتباع المنتظر الذي في السرداب، وأتباع رجال الغيب الذين لا يراهم
ج/ 29 ص -373-أحد من الناس، وأمثال هؤلاء الذين يطلبون ما لا حقيقة له معتقدين وجوده، ويموتون وهم لم يصلوا إليه، وإن وصلوا إلى من يدعي لقاءه من الكذابين.
وكذلك طلاب الكيمياء الذين يقال لهم: [الحدبان] لكثرة انحنائهم على النفخ في الكير، أكثرهم لا يصلون إلى الحرام، ولا ينالون المغشوش، وأما خواصهم فيصلون إلى الكيمياء، وهي محرمة باطلة، لكنها على مراتب:
منها: ما يستحيل بعد بضع سنين. ومنها: ما يستحيل بعد ذلك؛ لكن المصنوع يستحيل ويفسد ولو بعد حين، بخلاف الذهب المعدني المخلوق فإنه لا يفسد ولا يستحيل؛ولهذا ذكروا أن محمد بن زكريا الرازي المتطبب وكان من المصححين للكيمياء عمل ذهبًا وباعه للنصاري، فلما وصلوا إلى بلادهم استحال، فردوه عليه، ولا أعلم في الأطباء من كان أبلغ في صناعة الكيمياء منه. وأما الفلاسفة الذين هم أحذق في الفلسفة منه، مثل يعقوب ابن إسحاق الكندي، وغيره.فإنهم أبطلوا الكيمياء، وبينوا فسادها، وبينوا الحيل الكيماوية.
ولم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء، ولا من علماء الدين، ولا من مشايخ المسلمين، ولا من الصحابة، ولا من التابعين لهم
ج/ 29 ص -374-بإحسان. وأقدم من رأينا، ويحكي عنه شيء في الكيمياء خالد بن يزيد بن معاوية، وليس هو ممن يقتدي به المسلمون في دينهم، ولا يرجعون إلى رأيه، فإن ثبت النقل عنه فقد دلس عليه، كما دلس على غيره. وأما جابر ابن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية، فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم، ولا بين أهل الدين، وهؤلاء لا يعدون أحد أمرين: إما أن يعتقد أن الذهب المصنوع كالمعدني جهلًا وضلالًا كما ظنه غيرهم. وإما أن يكون علم أنه ليس مثله، ولكنه لبس ودلس، فما أكثر من يتحلي بصناعة الكيمياء؛ لما في النفوس من محبة الذهب والفضة، حتي يقول قائلهم: لو غني بها مغن لرقص الكون. وعامتهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، ويظهرون للطماع أنهم يعملون الكيمياء حتي يأكلوا ماله، ويفسدوا حاله. وحكاياتهم في هذا ال
باب عند الناس أشهر من أن تحتاج إلى نقل مستقر، تدل على أن أهل الكيمياء يعاقبون بنقيض قصدهم، فتذهب أموالهم حيث طلبوا زيادة المال بما حرمه الله بنقص الأموال، كما قال الله تعالى: "يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ" [البقرة: 276] .
والكيمياء أشد تحريمًا من الربا. قال القاضي أبو يوسف: من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث كذب. ويروي هذا الكلام عن مالك، والشافعي
ج/ 29 ص -375-رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال لي رأس من رؤوسهم لما نهيته عنها، وبينت له فسادها وتحريمها ولما ظهرت عليه الحجة: أخذ يستعفي عن المناظرة، ويذكر أنه منقطع بالجدال، وقال فيما قال : النبي ﷺ كان يعرف الكيمياء، فقلت له: كذب، بل هو مستلزم للكفر، فإن الله قال في كتابه: "وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ" [التوبة: 92] ، وهذه الآية نزلت بالإجماع في غزوة تبوك، وكان النبي ﷺ قد حض فيها الناس على الصدقة، حتي جاء رجل بناقة مخطومة مزمومة، فقال له النبي ﷺ: "لك بها سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة"، وجاء أبو عقيل بصاع فطعن فيه بعض المنافقين، وقال فيها: كان الله غنيًا عن صاع هذا، وجاء آخر بصرة كادت يده تعجز عن حملها، فقالوا: هذا مراءٍ. فأنزل الله تعالى: "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ إليمٌ" [التوبة:79] ، وجاء عثمان بن عفان بألف ناقة، فأعوزت خمسين، فكملها بخمسين فرس، فقال النبي ﷺ: "ما ضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم"، وصارت هذه من مناقبه المشهورة، فيقال: مجهز جيش العسرة.
ج/ 29 ص -376-وقد قال الله: "لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى" إلى قوله: "وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ" [التوبة: 92] . وقد قيل: إنهم طلبوا أن يحملهم على النعال. وسواء أريد بالبغال النعال التي تلبس، أو الدواب التي تركب، فقد أخبر الله عن نبيه أنه قال لهم: "لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، وقد كان هو يحض الناس على الإنفاق غاية الحض. فلو كانت الكيمياء حقٍا مباحًا وهو يعلمها، لكان من الواجب أن يعمل منها ما يجهز به الجيش، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن نسب إلى النبي ﷺ ذلك فقد نسبه إلى ما نزهه الله عنه.
وأيضًا، فإن علماء الأمة لم يوجب أحد منهم في الكيمياء حقًا؛ لا خمسًا ولا زكاة، ولا غير ذلك، وقد اتفقوا على أن في الركاز الخمس، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ. والركاز الذي لا ريب فيه؛ هو دفن الجاهلية. وهي الكنوز المدفونة في الأرض؛ كالمعادن. فأهل الحجاز لا يجعلونها من الركاز، وهو مذهب أحمد وغيره، وأهل العراق يجعلونها من الركاز، ومن العلماء من يفرق بين أن يوجد المال جملة، وبين ألا يوجد. وللشافعي فيها أقوال معروفة وجمهور العلماء يوجبون في المعدن حقًا؛ إما الزكاة، وإما الخمس.
ج/ 29 ص -377-ولو كانت الكيمياء حقًا حلالًا لكان الواجب فيها أعظم من الخمس وأعظم من الزكاة، فإنها ذهب عظيم بسعي يسير، أيسر من استخراج المعادن، والركاز، لكن هي عند علماء الدين من الغش الباطل المحرم الذي لا يحل عمله، ولا اتخاذه مالا، فضلًا عن أن يوجبوا فيها ما يجب في المال الحلال.
وقال لي المخاطب فيها: فإن موسي ﷺ كان يعمل الكيمياء. قلت له: هذا كذب، لم ينقل هذا عن موسى أحد من علماء المسلمين، ولا علماء أهل الكتاب، بل قد ذكروا عنهم أن موسي كان له عليهم حق يأكل منه، ولو كان يعمل الكيمياء لكان يأكل منها.
قال: فإن قارون كان يعمل الكيمياء، قلت: وهذا أيضًا باطل؛ فإنه لم يقله عالم معروف، وإنما يذكره مثل الثعلبي في تفسيره عمن لا يسمي. وفي تفسير الثعلبي الغَثّ والسمين، فإنه حاطب ليل، ولو كان مال قارون من الكيمياء لم يكن له بذلك اختصاص؛ فإن الذين عملوا الكيمياء خلق كثير لا يحصون، والله سبحانه قال: "وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ" [القصص: 76]، فاخبر أنه آتاه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، والكنوز إما أن يكون هو كنزها، كما قال: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ" الآية [التوبة: 34] ،
ج/ 29 ص -378-وإما أن يكون اطلع على كنائز مدفونة وهو الركاز، وهذا لا ريب أنه موجود.
ثم إنه مات هذا الرجل وكان خطيبًا بجامع، فلم يشهد جنازته من جيرانه وغيرهم من المسلمين إلا أقل من عشرة، وكان يعاني السحر والسيميا، وكان يشتري كتبًا كثيرة من كتب العلم، فشهدت بيع كتبه لذلك، فقام المنادي ينادي على [كتب الصنعة] وكانت كثيرة يعني كتب الكيمياء؛ فإنهم يقولون: هي علم الحجر المكرم، وهي علم الحكمة، ويعرفونها بأنواع من العبارات، وكان المتولي لذلك من أهل السيف والديوان شهودًا، فقلت لولي الأمر: لا يحل بيع هذه الكتب؛ فإن الناس يشترونها فيعملون بما فيها، فيقولون: هؤلاء [زغلية] فيقطعون أيديهم. وإذا بعتم هذه الكتب تكونون قد مكنتموهم من ذلك، وأمرت المنادي فألقاها ببركة كانت هناك، فألقيت حتي أفسدها الماء، ولم يبق يعرف ما فيها.
ومما يوضح ذلك: أن الكيمياء لم يعملها رجل له في الأمة لسان صدق، لا عالم متبع، ولا شيخ يقتدي به، ولا ملك عادل، ولا وزير ناصح، وإنما يفعلها شيخ ضال مبطل، مثل ابن سبعين وأمثاله، أو مثل بني عبيد. أو ملك ظالم، أو رجل فاجر. وإن التبس أمرها على بعض أهل العقل والدين، فغالبهم ينكشف لهم أمرها في الآخر، ولا
ج/ 29 ص -379-يستطيعون عملها صيانة من الله لهم لحسن قصدهم، وما أعلم أن رجلًا من خيار المسلمين أنفق منها أو أكل منها.
وما يذكره بعض الناس أن أولياء الله يعملون بها. فهذا لا يعدو ما يقوله أحد أمرين: إما أن يكون كاذبًا. وإما أن يكون قد ظن من يعملها أنه من أولياء الله، المخصوصين بمثل هذه الكرامة، فهذا جهل؛ فإن الكيمياء يعملها المشرك واليهودي والنصراني والفاجر والمبتدع، لا يختص بها أولياء الله، بل لا يعرف ولي ثابت الولاية يعملها، ومن ذكرها ممن يدعي أنه من الأولياء مثل صاحب [الفصوص] وأمثال هؤلاء فهؤلاء في كلامهم في الدين من الخطأ والضلال أعظم مما في كلامهم في الكيمياء، فإذا كان كلامهم في التوحيد والنبوة واليوم الآخر فيه من الضلال ما هو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، بل ما لم يقله اليهود والنصاري فكيف يكون كلامهم في الكيمياء؟
ثم من اغتر بما ذكره صاحب [كتاب السعادة] فيه، وفي [كتاب جواهر القرآن] وأمثالهما من الكتب، ففي هذه الكتب من الكلام المردود والمخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ما لا يخفي على عالم بذلك، وقد رد علماء المسلمين ما في هذه الكتب من أقوال المتفلسفة وأشباهها من الضلال المخالف للكتاب والسنة. ومن الناس من يطعن في نقل هذه الكتب عمن أضيفت إليه، ويقول: إنه كذب
ج/ 29 ص -380-عليه في نسبة هذه الكتب إليه. ومنهم من يقول: بل قد رجع عن ذلك؛ فإنه قد ثبت عنه في غير موضع نقيض ما يقوله في هذه الكتب، ومات على مطالعة البخاري ومسلم.
نعم، خرق العادات للأولياء جائز، مثل أن يصير النبات ذهبًا. وذلك مما لا يكون طريقه طريق الكيمياء المعمولة بالمعالجات الطبيعية، وبين هذين من الفرق ما بين عصا موسي، وعصي السحرة، فإن تلك كانت حية تسعي، وتلك يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
وبالجملة، فإذا كان طائفة من المنتسبين إلى العلم والعبادة اعتقدوا أن علم الكيمياء حق وحلال، فهذا لا يفيد شيئًا؛ فإن قول طائفة من العلماء والعباد خالفهم من هو أكبر منهم وأجل عند الأمة لا يحتج به إلا أحمق؛ فإنه إن كان التقليد حجة فتقليد الأكبر الأعلم الأعبد أولي. وإن لم يكن حجة لم ينفعه ذكره لهؤلاء. وعلى التقديرين فلا يفيد هذا شيئًا. ويكفيه أن خيار هذه الأمة من القرون الذين بعث فيهم رسول الله ﷺ، ثم الذين يلونهم، لم يدخلوا في شيء من هذا، إذ لو كانت حلالًا لدخلوا فيها، كما دخلوا في سائر المباحات؛ فإنهم كانوا يكتسبون الأموال بالوجوه، واكتساب المال مع إنفاقه في طاعة الله عمل صالح. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "على كل مسلم صدقة". قالوا: فمن لم يجد، قال:
ج/ 29 ص -381-"يعمل بيده فينفع نفسه، ويتصدق". قالوا: فإن لم يستطع، قال: "يعين صانعًا، أو يصنع لأخرق". قالوا: فإن لم يستطع، قال: "يكف نفسه عن الشر، فإنها صدقة يتصدق بها على نفسه".
ومما يوضح الأمر في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى خلق الأشياء أجناسًا وأصنافًا وأنواعًا، تشترك في شيء، ويمتاز بعضها عن بعض بشيء، كما أن الدواب تشترك في أنها تحس وتتحرك بالإرادة فهذا لازم لها كلها؛ ولهذا قال النبي ﷺ: "أصدق الأسماء حارث وهمام". إذ كل إنسان لابد له من حرث، وهو كسبه وعمله، ولا بد له من هم، هو مبدأ إرادته، ويمتاز بعض الدواب عن بعض بما ي
فصل بينه وبين غيره. فهذه الخواص الفاصلة مختصة، كما أن الصفات المشتركة عامة، وهذا كالنطق للإنسان، والصهيل للفرس، والرغاء للبعير، والنهيق للحمار، وأمثال ذلك.
وكذلك النباتات، تشترك مع الدواب في أنها تنمي وتغذي، ولكن ليس للنبات حس، ولا إرادة تتحرك بها، والمعدن مشارك في بعض ذلك. وقد علم أن هذه الأصناف التي تسمي الأنواع التي يفضل بعضها عن بعض بهذه الخواص الفاضلة إذا تقومت بهذه الفضول الخواص لم يكن لبشر أن يجعلها من أنواع أخر، ولا
ج/ 29 ص -382-أن يجعل ذلك الفضل ويلبسها فضلًا آخر، فلا يمكنه أن يجعل الحنطة شعيرًا، ولا الفرس حمارًا، ولا الحمار ثورًا. وكذلك لا يمكنه أن يجعل الفضة ذهبًا ولا النحاس فضة، وأمثال ذلك، وإنما غايته يشبه وجوده، ويدلس.
ومن زعم من الكيماوية أن الفضة ذهب لم يستكمل نضجه، فقد كذب، بل لهذا معدن، ولهذا معدن، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه قيل له: أي الناس أكرم؟ فقال: "أتقاهم". فقالوا: لسنا نسألك عن هذا؛ فقال: "يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله". فقالوا: لسنا نسألك عن هذا. فقال: "أفعن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة"، فكما أن قريشًا ليس أصلها أصل تميم، وعدنان ليس أصلها أصل قحطان، والعرب ليس أصلها أصل العجم، فكذلك ليس أصل الذهب أصل الفضة، ولا أصل الفضة أصل الذهب، وإن قدر أن معدن الذهب يكون فيه فضة، كما يكون في معدن الفضة نحاس، فكذلك خبث المعادن.
ومعلوم أن المستخرج من المعدن لابد من تصفيته من خبثه، والناس يعلمون ماشاء الله من معادن الفضة لا يخرج منها ذهب. ولو كانت الفضة إذا أكمل طبخها صارت ذهبًا، لكان يخرج من معادن الفضة ذهب، إلا أن يقال: ليس من طبيعة ذلك المعدن حرارة طبخها. فيقال: هذا أيضًا مما يبطل الكيماوية؛ وذلك أن الله سبحانه يخلق
ج/ 29 ص -383-الذهب في معادن بحرارة ورطوبة، ويخلقها في المعدن كما يخلق الأجنة في بطون الأرحام، وكما يخلق في الحرث من الأشجار والزرع بحرارة يخلقها، وما يخلق به من الحرارة التي أودعها في تلك الأجسام لا تقوم مقامه حرارة النار التي نصنعها نحن.
وبالجملة، فاستقراء هذين الأصلين أن المخلوق لا يكون مصنوعًا، والمصنوع لا يكون مخلوقًا، وأن الأنواع المفضلة بخواصها لا يمكن أن ينقل منها نوع إلى نوع آخر يظهر ذلك بالعقل، والدلالة الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة، والإجماع أيضًا في ذلك، ثم ما فطر الله عباده وسوي بين بلاده من إنكار ذلك وعقوبة فاعليه في الجملة ظاهر، وإن فعله بعضهم باطنًا.
ثم إن الذين يصنعون الكيمياء، ويدعون أنها حق حلال لو بيع لأحدهم ذهب، وقيل له: هو من عمل الكيمياء لم يشتره، كما يشتري المعدني، وإن صنع به كما يصنع بذهبه الذي يعلمه من الاعتبار، بل قد جبلت قلوب الناس على أن من فعل هذا نسبوه إلى الغش والزغل والتمويه، والناس شهداء الله في الأرض.
وأيضًا، فإن فضلاء أهل [الكيمياء] يضمون إليها الذي يسمونه السيميا كما يصنع ابن سبعين، والسهروردي المقتول، والحلاج،
ج/ 29 ص -384-وأمثالهم. وقد علم أنه محرم بكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع الأمة، بل أكثر العلماء على أن الساحر كافر، يجب قتله. وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله، وروي ذلك مرفوعًا عنه عن النبي ﷺ. وقد قال الله تعالى: "وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى" [طه: 69] . وقال تعالى: "وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ" [البقرة: 102، 103].
فبين سبحانه أن طلاب السحر يعلمون أن صاحبه ما له في الآخرة من خلاق: أي من نصيب، ولكن يطلبون به الدنيا. من الرئاسة والمال. "وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا" [البقرة: 103] ، لحصل لهم من ثواب الله في الدنيا والآخرة ما هو خير لهم مما يطلبونه.
ولهذا تجد الذين يدخلون في السحر، ودعوة الكواكب،
ج/ 29 ص -385-وتسبيحاتها، فيخاطبونها، ويسجدون لها،إنما مطلوب أحدهم المال والرئاسة، فيكفر ويشرك بالله؛ لأجل ما يتوهمه من حصول رئاسة ومال، ولا يحصل له إلا ما يضره ولا ينفعه، كما يدل عليه استقراء أحوال العالم.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه عد من الكبائر الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس، والربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من أنواع السحر، وأصنافه متنوعة.
وإنما المقصود هنا أنك تجد [السيميا] التي هي من السحر كثيرًا ما تقترن بالكيمياء؛ ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السحر من أعظم المحرمات، فإذا كانت الكيمياء تقرن به كثيرًا، ولا تقترن بأهل العلم والإيمان، علم أنها ليست من أعمال أهل العلم والإيمان، بل من أعمال أهل الكفر والفسوق والعصيان. وهذا كله فيمن وصل إلى الكيمياء وعملها، وقدر على أن ينفق منها ولا ينكر عليه، وأكثر الطالبين لها لم يوصلوا إلى ذلك، ولم يقدروا عليه، ومن وصل منهم إلى ذلك مرة تعذر عليه في غالب الأوقات، مع حصول المفسدات.
ومن استقرأ أحوال طالبيها وجد تحقيق ما قاله الأئمة، حيث قالوا:
ج/ 29 ص -386-من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث كذب. وكم أنفقوا فيها من الأموال، وكم صحبوا بها من الرجال، وكم أكثروا فيها من القيل والقال، وكم علقوا بها الأطماع والآمال، وكم سهروا فيها من الليالي، ولم يظفروا إلا بخسارة الدنيا والدين، ونقص العقل والعلم، ونصب العرض والذل والصغار والحاجة والإقتار، وكثرة الهموم والأحزان، وصحبة شرار الأقران، والاشتغال عما ينفعهم في المعاش والمعاد، والإعراض عما ينفع في الآخرة من الزاد.
لا سيما وهي كثيرًا ما تقود أصحابها إلى أنواع المعاصي والفسوق؛ إذ طالبها يبغيها بغية العاشق للمعشوق، بل قد تؤول إلى الكفر بالرحمن، والإعراض عن الإيمان والقرآن، والدخول في أضاليل المشركين. وعباد الأوثان، وهو خسارة الدنيا والدين، لم يحصل إلا على طمع كاذب، كالبرق الخالب، والسراب الذي "يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [النور: 39] ، فهم في ذلك بمنزلة من يظن في أهل الكفر من القسيسين والرهبان أنهم من عباد الله أهل الإيمان، أو من يظن في أهل البدع والكذب والتلبيس أنهم من أولياء الله الذين "أَلا إِنَّ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [يونس: 62 64] .
ج/ 29 ص -387-بل كثير منهم يظن في المتنبئ الكذاب؛ كمسيلمة، والعنسي، ونحوهما، أنهم بمنزلة الأنبياء الصادقين؛ كإبراهيم، وموسى، وعيسي، ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين. واشتباه الحق بالباطل، واشتباه النبي بالمتنبئ، والمتكلم بعلم بالمتكلم بجهل، والولي الصادق بالمرائي الكاذب، هو كاشتباه الذهب المعدني بالذهب المصنوع، وقد فرق الله بين الحق والباطل، وإنما اهتدي للفرق التام أهل العلم والإيمان من أمة محمد ﷺ. الذين قال الله فيهم: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [البقرة: 213] .
وهي الأمة الوسط، الذين هم شهداء الله في الأرض على خلقه في الحق، وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، جعلنا الله وسائر إخواننا من أتباعهم، والمقتدين بهم، وحشرنا في زمرتهم، بمنه وفضله.
ومن أعظم حجج [الكيماوية] : استدلالهم بالزجاج، قالوا:
ج/ 29 ص -388-فإن الزجاج معمول من الرمل والحصي، ونحو ذلك، فقاسوا على ذلك ما يعملونه من الكيمياء. وهذه حجة فاسدة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يخلق للناس زجاجًا؛ لا في معدن، ولا في غيره؛ وإنما الزجاج من قسم المصنوعات، كالآجر والفخار ونحوهما مما يطبخ في النار. وقد تقدم أن الله سبحانه وتعالى جعل لبني آدم قدرة على أن يعملوا أنواعًا من المطاعم والملابس والمساكن، وكذلك جعل لهم قدرة على ما يصنعونه من الآنية من الفخار، والزجاج، ونحو ذلك، ولم يخلق لهم سبيلًا على أن يصنعوا مثل ما خلق الله.
وإذا تبين أن الزجاج من قسم المصنوعات دون المخلوقات، ليس فيه ما يشتبه المصنوع بالمخلوق، بطلت حجة الكيمياء.
فإن أصل المخلوقات التي خلقها الله لا يمكن البشر أن يصنعوا مثلها، ولا يمكنهم نقل نوع مخلوق من الحيوان والنبات والمعدن إلى نوع آخر مخلوق، وهذا مطرد لا ينقض.والله أعلم.
وسئل رَحمه الله عن رجل باع ملكًا وعقارًا، ثم خرج مستحقًا، فهل يحاسب المشتري بالثمن من أجرة المبيع، إذا كان له أجرة؟ وهل يتوقف استحقاق
ج/ 29 ص -389-الأجرة على انتفاع المشتري بالبيع؟ أم لا؟ وهل يرجع المشتري على البائع بما يجب عليه في الشرع من الأجرة للمبيع مدة مقامه في يده، أو بالثمن الذي دفعه؟
فأجاب:
إذا كان المشتري عالما بالغصب، فهو ظالم ضامن للمنفعة، سواء انتفع بها أو لم ينتفع، وإن لم يعلم فقرار الضمان على البائع الظالم، وإذا انتزع المبيع من يد المشتري، فله أن يطالب بالثمن الذي قبضه، وإن أخذ منه الأجرة وهو مغرور رجع بها على البائع الغار. والله أعلم.
وسئل عمن يقول: إن [السيميا] و [الكيمياء] علمان من علوم الأنبياء والأولياء. ويروي بعضهم في الكيمياء وهو الفضة الخدماء أو المخدمة من أسفاها أكل الحلال ونحو ذلك؟
فأجاب:
وأما من قال: إن [السيميا والكيمياء] من علوم الأنبياء والأولياء فكاذب مفتر، لم يعرف عن نبي من الأنبياء أنه تكلم لا في هذا، ولا في هذا، ولا عن ولي مقبول عند الأمة.
أما [السيميا] فإنها من السحر، "وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى" [طه: 69] .
ج/ 29 ص -390-ولا ريب أن السحرة قد يشتبهون بالأنبياء والأولياء، ويأتون ما يظن أن يضاهي ما تأتي به الأنبياء، كما أتي سحرة فرعون بما يضاهون به معجزة موسى، "فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ" إلى قوله: "سَاجِدِينَ" [الشعراء: 45، 46]
وأما [الكيمياء] : فهو المشبه بالذهب والفضة المخلوقين. والكيمياء لا تختص بهذين، بل تصنع كيمياء الجواهر. كاللؤلؤ والزبرجد. وكيمياء المشمومات: كالمسك والعنبر والورد، وكيمياء المطعومات. وهي باطلة طبعًا، محرمة شرعًا، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من غشنا فليس منا".
و [الكيمياء] من الغش؛ فإن الله لم يخلق شيئًا إلا بقدر، والخلق لا يصنعون مثل ما خلق الله تعالى، قال الله تعالى: "أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ" [الرعد: 16] . وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة".
والفلاسفة يقولون: إن الصناعة لا تعمل عمل الطبيعة: يعني أن المصنوع من الذهب والفضة وغيرهما لا يكون مثل المطبوع الذي خلق بالقوة الطبيعية السارية في الأجسام؛ ولهذا لا يوجد من المخلوقات ما صنع الخلق مثله، وما يصنعه الخلق لم يخلق لهم مثله، فهم يطحنون
ج/ 29 ص -391-الطعام، وينسجون الثياب، ويبنون البيوت، ولم يخلق لهم مثل ذلك.
وكذلك الزجاج يصنعونه من الرمل والحصي، ولم يخلق مثله. وهذا مما احتج به الكيماوية على صحة الكيمياء، وهي حجة باطلة لما ذكر، فإنه لو خلق زجاج، وصنع زجاج مثله، لكان في هذا حجة، وليس الأمر كذلك.
وجماهير العقلاء من الأولين والآخرين، الذين تكلموا بعلم في هذا الباب، يعلمون أن الكيمياء مشبه، وأن الذهب المخلوق من المعادن ما يمكن أن يصنع مثله، بل ولا يصنع، وكل ينكشف قريبًا، أو بعيدًا، ولكن منه ما هو شديد الشبه، ومنه ما هو أبعد شبهًا منه. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وسئل عن رجل اشتري عبدًا سليمًا من العيب، ثم باعه كذلك، فسرق العبد من المشتري الثاني مبلغًا وأبق، فهل يرجع بالثمن على البائع الأول؟ أو الثاني؟ أو بالأرش، أم لا؟
فأجاب:
للمشتري أن يطالب بالأرش بلا نزاع بين العلماء، ومعني
ج/ 29 ص -392-ذلك: أن يقوم العبد ولا عيب فيه، ويقوم وبه هذان العيبان، فما نقص من القيمة نقص من الثمن بحسابه، فإذا كانت قيمته سليمًا أربعمائة، وقيمته معيبًا مائتان، حط عنه نصف الثمن.
وهل يرجع بالثمن كله على السيد الذي دلس العيب؟ فهذا فيه نزاع مشهور بين العلماء. فمذهب مالك وأحمد في أنص الروايتين عنه أنه يرجع عليه بالثمن كله. وقد ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد في القول الآخر يرجع عليه بذلك.
وسئل عن رجل اشترى جارية فبانت عاشقة في سيدها الذي باعها، وباعها الثاني لثالث، فهل للثالث أن يردها على الثاني؟ وهل يردها الثاني على الأول؟ أم لا؟
فأجاب:
نعم، هذا عيب ينقص القيمة في العادة نقصًا بينًا، فإذا ثبت ولم يعلم به المشتري كان له أن يردها على بائعه المشتري الثاني، وإذا كان المشتري الثاني لم يعلم العيب فله أن يردها على البائع الأول. والله أعلم.
ج/ 29 ص -393-وسئل عن رجل اشتري جارية صحيحة سالمة فهربت من يوم ابتاعها من غير ضرب، ولا إجحاف، فهل للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن قبل حضور الجارية، ووجودها، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كانت الجارية معروفة بالإباق قبل ذلك، وكتم البائع هذا العيب، وأبقت عند المشتري، فللمشتري أن يطالب البائع بالثمن في أصح قولي العلماء، كما هو مذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه من القولين. وفي القول الآخر يطالب بالأرش.
وإن لم تكن أبقت قبل ذلك، ولكن أبقت بسبب ما فعل بها المشتري، فلا شيء على البائع. وإذا حدث به عيب إباق أو غيره بعد القبض، فلا رد له عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وأما مالك فيقول: له الرد بذلك إلى تمام ثلاثة أيام، وما بعد ذلك إلى سنة وله الرد بالجنون والجذام والبرص. والله أعلم.
ج/ 29 ص -394-وسئل عن دابة لم يعلم أحد المتبايعين بها عيبًا، فمكثت عنده مقدار شهر، ثم وجد بها عيبًا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا ظهر بها عيب قديم قبل البيع، ولم يكن علم به، فله أن يردها بذلك العيب؛ ما لم يظهر منه ما يدل على الرضا به.
وسئل عن رجل باع قمحًا فبذره فتلف، فطلب المشتري من البائع خراج الأرض، فهل يجب على البائع ذلك؟ وهل للمشتري أن يطالبه بذلك؟ وإذا ادعي المشتري أن العيب كان من البائع؟
فأجاب:
إذا باعه وسلم اليه المبيع، ثم تلف بعد ذلك عند المشتري، أو بذره المشتري فتلف، فلا ضمان على البائع، بل يستحق جميع الثمن إلا أن يكون به عيب، أو تدليس، ونحو ذلك.
ج/ 29 ص -395-وإن ادعي المشتري أن تلفه بسبب عيب كان فيه، وكان ذلك القمح قد اشتري منه غير هذا المشتري، وشهدوا أنه سليم من العيب، لم يقبل قول المشتري، وإن لم يكن للبائع بينة، فالقول قوله مع يمينه، إذا لم يقم المشتري بينة.
وأيضًا، فإذا قال أهل الخبرة: إن المعيب لا ينبت النبات المعتاد، وهذا قد نبت النبات المعتاد، ثم هاف، كان حجة للبائع.
وسئل عن رجل باع زوجته دارًا بيع أمانة بأربعمائة درهم، وقد استوفت الدراهم من الأجرة، فهل يجوز لها أخذ شيء آخر، وقد أخذت الأربعمائة، فهل يحرم عليها؟
فأجاب:
الحمد لله، وحده، المقصود بهذا وأمثاله أن يعطيه المال، ويستغل العقار عن منفعة المال، فما دام المال في ذمة الآخذ فإنه يستغل العقار، وإذا رد عليه المال أخذ العقار، وهذا على هذا الوجه لا يجوز باتفاق المسلمين. وإن قصدا ذلك وأظهرا صورة بيع لم يجز على أصح قولي العلماء أيضًا.
ومن صحح ذلك فلابد أن يكون بيعه شرعيا، فإذا شرط أنه
ج/ 29 ص -396-إذا جاء بالثمن أعاد اليه العقار، كان هذا بيعًا باطلًا. والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له في أصح قولي العلماء.
وحينئذ، فما حصل للمرأة من الأجرة بعد أن علمت التحريم تحسبه من رأس المال، وما قبضته قبل ذلك: فهو على الخلاف المذكور، وإن اصطلحا على ذلك فهو أحسن. وما قبضته بعقد مختلف تعتقد صحته لم يجب عليها رده في أصح القولين.
وسئل عن رجل طلب من إنسان أن يقرضه دراهم، وللرجل كرم، فامتنع إلا أن يبيعه الكرم بمائة درهم، وأنه إذا جاء بالدراهم أعاد اليه الكرم، فباعه الكرم بهذا الشرط، ولم يذكر الشرط في العقد، ثم بعد العقد قال المشتري لجماعة شهود: اشهدوا على أنه متي جاء هذا بدراهمي أعدت اليه كرمه: فهل يكون هذا البيع صحيحًا، أم لا؟ وهل يجب على المشتري القيام بما شرطه على نفسه في إعادة الكرم ؟ وإذا مكر المشتري بالبائع، هل يجوز له ذلك؟
فأجاب:
ليس هذا بيعًا لازمًا، بل عليه أن يرد عليه كرمه إذا أعطاه دراهمه، ولا يحل له أن يمكر به.
ج/ 29 ص -397-وسئل عن امرأة اشترت خرقة تخيطها، ثم بعد ذلك وجدتها خامية وفيها فزور، فهل تلزم التاجر إن ردتها اليه؟
فأجاب:
لها أن تطالبه بأرش العيب القديم، وإذا كان قد نقص بما أحدثته فيه من العيب كان لها الرد مع أرش العيب الحادث في أصح قولي العلماء. والله أعلم.
وسئل عن رجل باع ملكًا لابنة تحت حجره بألف وثمانين بيع أمانة وهو يساوي أربعة آلاف درهم، وشهدت الشهود، وذكروا في المكتوب أن ابنة البائع أذنت في البيع، ولم يكن الشهود حضروها، ولا لها جلية عندهم، فهل يصح هذا البيع؟
فأجاب:
الحمد لله، بيع الأمانة بيع باطل، والواجب رد العوض، وبيع الأب مثل هذا الغبن العظيم لا يجوز، والمحجور عليها لا يصح
ج/ 29 ص -398-إذنها والإشهاد عليها بالإذن في مثل ذلك، بل إذا عرف ذلك فسخ البيع بكل حال.
وسئل رحمه الله:
هل ذكر أحد من العلماء أن المشتري الأول إذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت يكون ضامنًا لها؟ أو أن جواز التصرف والضمان متلازمان طردًا وعكسًا؟ فالنزاع في ذلك مشهور؟
فأجاب:
القولان في مذهب أحمد، وهو طريقة القاضي وأصحابه.
والمتأخرون من أصحاب أحمد مع أبي حنيفة والشافعية يقولون بتلازم التصرف والضمان، فعندهم أن ما دخل في ضمان المشتري جاز تصرفه فيه، وما لم يدخل في ضمانه لم يجز تصرفه فيه؛ ولهذا طرد الشافعي ذلك في بيع الثمار على الشجر، فلم يقل بوضع الجوائح؛ بناء على أن المشتري إذا قبضها، وجاز تصرفه فيها، صار ضمانها عليه.
والقول الثاني في مذهب أحمد الذي ذكره الخرقي، وغيره من المتقدمين، وعليه تدل أصول أحمد: أن الضمان والتصرف لا يتلازمان؛ ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد: أن الثمار إذا تلفت قبل تمكن المشتري
ج/ 29 ص -399-من جذاذها. كانت من ضمان البائع، مع أن ظاهر مذهبه أنه يجوز للمشتري التصرف فيها بالبيع وغيره، فجوز تصرفه فيها مع كون ضمانها على البائع. وقد ثبت بالسنة أن الثمار من ضمان البائع، كما في صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: "إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنها شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟!" .
ولكن الرواية الأخري عنه في منع التصرف في هذه الثمار يوافق الطريقة الأولى.
ومن الحجة لهذه الطريقة: أن منافع الإجارة مضمونة على المؤجر قبل الاستيفاء، بمعني أنها إن تلفت بآفة سماوية كموت الدابة، وتعطلت المنافع كانت من ضمان المؤجر؛ لأنها تلفت قبل التمكن من استيفائها، مع أنه يجوز للمستأجر التصرف فيها حتى بالبيع في ظاهر المذهب، وإن كان عنه رواية أخرى لا يؤجرها بأكثر من الأجرة، إذا لم يحدث فيها زيادة؛ لئلا يربح فيما لم يضمن، وهي مذهب أبي حنيفة. وأبو حنيفة عنده أن المنافع لا تملك بالعقد، وإنما تملك بالاستيفاء شيئًا فشيئًا.
وأحمد في المشهور عنه هو وغيره يجوزون إجارتها بأكثر من الأجرة، ويقولون: هذا ليس ربحًا لم يضمن؛ لأن هذه المنافع مضمونة على
ج/ 29 ص -400-المشتري، بمعني أنه لو تركها مع القدرة على استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، وإنما تكون مضمونة على البائع إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها؛ ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد في [باب الضمان] ضمان العقد الفرق بين ما يتمكن من قبضه، وما لم يتمكن، ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره. ومن ذلك أن الخرقي وغيره يقولون: إن الصُّبْرَة المتعينة المبيعة جزافًا تدخل في ضمان المشتري بالعقد، ولا يجوزون للمشتري بيعها حتى ينقلها، لحديث ابن عمر، وابن عمر روي الحكمين جميعًا. قال من السنة: أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعًا فهو من ملك المبتاع، وقال ما رواه البخاري عنه: "كنا نبتاع الطعام جزافًا، فنهينا أن نبيعه في مكانه حتى ننقله إلى رحالنا"، فقد جاز التصرف حيث يكون الضمان على البائع، كما في الثمار، ومنع التصرف حيث يكون الضمان على المشتري كالصبرة من الطعام، فثبت عدم التلازم بينهما.
ومن حجة هذا القول: أنه ليس كل ما دخل في ضمان المشتري يجوز تصرفه فيه، بدليل المقبوض قبضًا فاسدًا، والمقبوض في قبض فاسد.
أما الأول فلو اشتري قفيزا من صبرة، أو رطلا من زُبرة، ونحو ذلك مما يشترط في إقباضه الكيل أو الوزن، فقبض الصبرة كلها، أو الزبرة كلها، فإن هذا قبض فاسد، لا يبيح له التصرف إلا بتميز ملكه
ج/ 29 ص -401-عن ملك البائع؛ ومع هذا فلو تلفت تحت يده كانت مضمونة.
وأيضا، فليس المشتري ممنوعا من جميع التصرفات، بل السنة إنما جاءت في البيع خاصة، ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعا. وقد تنازع الناس في الهبة وغيرها. وقد تنازع الناس في غلة الطعام المبيع قبل النهي عن قبضه، فإنه هو الذي ثبت في النصوص، واتفق عليه العلماء. وكذلك اختلفوا في تفريع هذا الأصل.
وأصول الشريعة توافق هذه الطريقة، فليس كل ما كان مضمونًا على شخص كان له التصرف فيه؛ كالمغصوب، والعارية. وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضمونا على المتصرف؛ كالمالك: له أن يتصرف في المغصوب، والمعار، فيبيع المغصوب من غاصبه، وممن يقدر على تخليصه منه، وإن كان مضمونًا على الغاصب، كما أن الضمان بالخراج، فإنما هو فيما اتفق ملكا ويدًا. وأما إذا كان الملك لشخص، واليد لآخر؛ فقد يكون الخراج للمالك، والضمان على القابض.
وأيضا، فبيع الدين ممن هو عليه جائز في ظاهر مذهب أحمد والشافعي، وكذلك أبوحنيفة. وعند مالك يجوز بيعه ممن ليس هو عليه، وهو رواية عن أحمد؛ مع أن الدين ليس مضمونًا على المالك.
وأيضا، فالبائع إذا مكن المشتري من القبض، فقد قضي ما عليه؛
ج/ 29 ص -402-وإنما المشتري هو المفرط بترك القبض، فيكون الضمان عليه، بخلاف ما إذا لم يمكنه من القبض بألا يوفيه التوفية المستحقة، فلا يكيله ولا يزنه ولا يعده، فإنه هنا بمنزلة ما لم يوفه إياه من الدين. وإذا لم يفعل البائع ما يجب عليه من التوفية، كان هو المفرط،فكان الضمان عليه، إذ التفريط يناسب الضمان.
وأما حل التصرف وحرمته فله أسباب أخر:
فقد يكون السبب التمكن من التسليم حتى لا يشابه بيع الغرر. وإذا لم ينقله من مكانه، فقد ينكر البائع البيع، ويفضي إلى النزاع.وقد لا يمكنه البائع من التسليم، كما اشترط في الرهن:القبض؛ لأن مقصوده استيفاء الحق من المرهون عند تعذر استيفاء الحق من الراهن. وهذا إنما يتم بأن يكون قابضًا للرهن، بخلاف ما إذا كان بيد الراهن، فإنه يحول بينهما.
وقد يكون سبب ذلك أن المقصود بالعقود هو التقابض، وبالقبض يتم العقد، ويحصل مقصوده؛ ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا الينا وقد تعاقدوا عقودا يجوزونها وتقابضوها، لم نفسخها؛ وإن كانت محرمة في دين المسلمين، وإن كان قبل التقابض نقضناها؛ لئلا يفضي إلى الإذن بعد الإسلام في قبض محرم، فالبيع قبل قبضه لم يتم ملك المشتري عليه،
ج/ 29 ص -403-بل هو يتعرض للآفات شرعًا وكونًا، فكان بيعها قبل القبض من جنس بيع الغرر؛ ولهذا نهي عن بيع المغانم قبل القبض؛ ولهذا نهي النبي ﷺ عن بيع ما ليس عنده؛ لعدم تمكنه من القبض الواجب عليه بالعقد. وإن كان من الناس من يجعل الحديث متناولا للدين والعين، ويجعل التسليم مستثني منه. ومنهم من يخصه بالعين، ويفسره ببيع عين لم يملكها، ويجعل معني "ما ليس عندك": ما ليس في ملكك. ومنهم من يحمله على الملك واليد جميعا، أو يشترط في المبيع أن يكون مملوكا مقبوضا، فلا يجوز بيع المملوك الذي لا يتمكن من تسليمه، وهو من بيع الغرر: كالعبد الآبق، والفرس الشارد.
وهذا حجة من منع بيع الدين ممن ليس عليه. قال: لأنه غرر ليس بمقبوض. ومن جوزه قال: بيعه كالحوالة عليه، وكبيع المودع والمعار، فإنه مقبوض حكمًا؛ ولهذا جوزنا بيع الثمار. وظاهر مذهب أحمد أنه: إذا اشتري ثمرة بادية الصلاح، وقبض ثمنها، فإنها تكون من ضمان البائع؛ لأن عليه القبض إلى كمال الجذاذ، والمشتري لم يتمكن من جذاذها، ولكن جاز تمكنه منها إذا خلي بينه وبينها، بجعل التصرف، وقبضها التخلية، وجعل في الضمان قبضها التمكن من الانتفاع الذي هو المقصود بالعقد. ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها، ولم يطرد إلى التوهم فيها قياس كما تراه.
ج/ 29 ص -404-وكثير منهم لا يلحظ فيها معني، بل يتمسك فيها بظاهر النصوص، وكل منهما قد يتناقض فيها، لكن قد جعل على حمل المذاهب فيها. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل اشتري صُبْرَة مجازفة، ثم تلفت على ملك المشتري قبل قبضها، ثم باعها قبل قبضها من غير أن يعلم تلفها.
فإذا قلنا: إن المشتري الأول لم يجز له بيعها قبل قبضها. فتلفت، فهل هي من ماله؟ أو من مال البائع الأول؟ وهل ذكر أحد من العلماء: أن المشتري الأول إذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت، يكون ضامنا لها، أو أن جواز التصرف والضمان متلازمان طردا وعكسًا؟.
فأجاب:
الحمد لله، أما في هذه الصورة، فالبيع باطل بالاتفاق، إذا تلف المبيع وقت العقد، سواء باعها بالصفة، أو بغير الصفة، أو باعها برؤية سابقة على العقد، بل في مثل هذه الصورة لو تلفت بعد العقد، وقبل وجودها على الصفة، أو الرؤية الأولي، لا يفسخ البيع. فأما إذا تبين أنها كانت تالفة حين العقد، فالبيع باطل بلا ريب.
وأما ضمانها، فظاهر مذهب مالك وأحمد: أن التلف من ضمان
ج/ 29 ص -405-المشتري؛ لما احتج به من حديث الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا، فهو من ضمان المشتري" إذ ظاهر مذهب أحمد أن ما كان متعينًا بالعقد لا يحتاج إلى توفية بكيل أو وزن ونحوهما، بحيث يكون المشتري قد تمكن من قبضه، فهو من ضمانه، قبضه أو لم يقبضه.
وأما مذهب أبي حنيفة والشافعي: فإنها من ضمان البائع، وهي الرواية الأخري عن أحمد، واختارها أبو محمد، لكن الصواب في ذلك متنوع. فمذهب أبي حنيفة: لا يدخل المبيع كله في ضمان المشتري إلا بالقبض، إلا العقار. وعند الشافعي: العقار وغيره سواء، وهو رواية عن أحمد.
وعن أحمد رواية بالفرق بين المكيل والموزون وغيرهما. ورواية بالفرق بين الطعام وغيره. ورواية بالفرق بين المطعوم: المكيل الموزون وغيره. وهذا في القبض عنه، كالروايات في الربا.
ج/ 29 ص -406-وقال رَحِمَهُ الله:
فصل
في المقبوض بعقد فاسد
أصله: أن العقد الصحيح يوجب على كل من المتعاقدين ما اقتضاه العقد، مثل ما يوجب التقابض، في البيع، والإجارة، والنكاح، ونحو ذلك من المعاوضات اللازمة، فإن لزومها يقتضي وجوب الوفاء بها وتحريم نقضها.
وأما [العقود الجائزة] من الوكالات بأنواعها، والمشاركات بأصنافها، فإنها لا توجب الوفاء مطلقا؛ إذ العقد ليس بلازم يجب الوفاء به، بل هو جائز مباح، وصاحبه مخير بين إمضائه وفسخه، وإذا فسخه كان نقضًا له، لكن ما دام العقد موجودا فعليه الوفاء بموجبه من حفظ المال، فإنه عقد أمانة.
وأما تحريم العدوان كالخيانة فذاك واجب بالشرع لا بالعقل، إذ يحرم عليه العدوان في مال من ائتمنه، وغيره، لكن العقد أوجب ذلك أيضا وزاده توكيدًا.
ج/ 29 ص -407-وأما وجوب التصرف عليه، بحيث يكون العامل في المضاربة، والمزارعة، والمساقاة، إذا ترك التصرف الذي اقتضاه العقد مفرطا، فهذا هو الظاهر؛ فإن العقد وإن كان جائزًا، فما دام موجودًا فله موجبان: الحفظ بمنزلة الوديعة، والتصرف الذي اقتضاه العقد. وهذا قياس مذهبنا؛ لأنا نوجب على أحد الشريكين من المعاوضة بالبيع والعمارة ما يحتاج اليه الآخر في العرف؛ مثل عمارة ما استهدم هذا في شركة الأملاك، فكذلك في شركة العقود؛ فإن مقصودها هو التصرف. فترك التصرف في المضاربة والمساقاة والمزارعة قد يكون أعظم ضررًا من ترك عمارة المكان المستهدم في شركة الأملاك.
ومن ترك بيع العين والمنفعة المشتركة؛ لأنه هناك يمكن الشريك أن يبيع نصيبه، وهنا غره وضيع عليه منفعة ماله، فإذا كان العقد فاسدًا لم يثبت جميع مقتضاه من وجوب التقابض والتصرف، وحل التصرف والانتفاع ونحو ذلك، فإذا اتصل به القبض فهو قبض مأذون فيه بعقد، فليس مثل قبض الغاصب الذي هو بغير إذن؛ ولهذا قال الفقهاء: ما ضمن بالقبض في العقد الصحيح ضمن بالقبض في العقد الفاسد؛ كالمبيع والمؤجر. وما لم يضمن بالقبض في العقد الصحيح لا يضمن بالقبض في العقد الفاسد، كالأمانات من المضاربة والشركة ونحوها؛ لوجود الإذن؛ ولهذا تنازع العلماء في حصول الملك بالقبض فيه، وفيما يستحقه من
ج/ 29 ص -408-العوض، هل هو المسمي، أو عوض المثل، أو نحو ذلك. وذلك أن الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن ذلك قبض بغير إذن المالك، وهذا قبض بإذن المالك.
الثاني: أن هذا قبض اقتضاه عقد، وإن كان فيه فساد، وذاك قبض لم يقتضه عقد بحال؛ ولهذا نوجب في ظاهر المذهب المسمي في النكاح الفاسد، وفي المضاربة الفاسدة، ونحوها على أحد القولين.
فإن كان المقبوض به موجودا وأراد الرد رده، وإن كان فائتا رد مثله إذا أمكن. فإذا تعذر رد العين أو المثل فلابد من رد عوض، مثل أن يكون المبيع ليس من ذوات الأمثال، بل من ذوات القيم، ومثل المنافع المستوفاة بالإجارة الفاسدة، ومثل عمل العامل في المشاركة الفاسدة: من المساقاة والمضاربة ونحوها. فمن أصحابنا من يوجب رد القيمة في هذه الصورة، كقول الشافعي، بناء على أن المستحق رد العين أو المنفعة، وقد تعذر عينه ومثله فينقل إلى القيمة، كما لو ضمنت بالإتلاف أو الغصب.
وطرد الشافعي هذا في المسمي الفاسد في النكاح، والمغصوب، فأوجب مهر المثل؛ بناء على أنه كان يجب رد البضع لفساد التسمية، فلما لم يمكن رده رد بدله، وهو مهر المثل، وخالفه بعض أصحابه،
ج/ 29 ص -409-والجمهور من أصحابنا وغيرهم، وسائر العلماء أوجبوا بدل المهر المسمي مثله أو قيمته؛ لا بدل البضع، وهو الصواب قطعا؛ لأن النكاح هنا لم يفسد، فلم يجب رد المستحق به وهو البضع، وإذا لم يجب رد البضع لم يجب رد بدله، بل الواجب هو إعطاء المسمي إن أمكن، وإلا فبدله، فكان بدل المسمي هو الواجب، وهو أقرب إلى ما تراضوا به من بدل البضع، وفي سائر العقود إذا فسدت نوجب رد العين أو بدلها. وظاهر كلام أحمد أن الواجب في المشاركة مثل المضاربة ونحوها المسمي أيضا؛ كالنكاح الفاسد، على ظاهر المذهب. وهذا القول أقوى.
بل الصواب أنه لا يجب في الفاسد قيمة العين، أو المنفعة مطلقا، وذلك؛ لأن العين لو أمكن ردها أو رد مثلها لكان ذلك هو الواجب؛ لأن العقد لما انتفي وجب إعادة كل حق إلى مستحقه،والمثل يقوم مقام العين. أما إذا كان الحق قد فات مثل الوطء في النكاح الفاسد، والعمل في المؤاجرات والمضاربات، والغبن في المبيع، فالقيمة ليست مثلا له.
وإنما تجب في بعض المواضع؛ كالمتلف والمغصوب الذي تعذر مثله، للضرورة؛ إذ ليس هناك شيء يوجد أقرب إلى الحق من القيمة، فكان ذلك هو العدل الممكن، كما قلنا مثل ذلك في القصاص،
ج/ 29 ص -410-ودية الخطأ وأرش الجراح. واعتبرنا القيمة بتقويم الناس؛ إذ ليس هناك متعاقدان تراضيا بشيء. وأما هنا فقد تراضيا بأن يكون المسمي بدلا عن العين أو المنفعة، والناس يرضون لها ببدل آخر، فكان اعتبار تراضيهما أولي من اعتبار رضا الناس.
فإن قيل: هما إنما تراضيا بهذا البدل في ضمن صحة العقد، ووجوب موجباته، وذلك منتف هنا؟ قيل: والناس إنما يجعلون هذا قيمة في ضمن عقد صحيح له موجباته. فلما تعذر العقد هنا قدرنا وجود عقد يعرف به البدل الواجب فيه، فتقدير عقدهما الذي عقداه أولي من تقدير ما لم يوجد بحال، ولا رضيا به، ولم يعقده غيرهما. فإذا كان لابد من التقدير والتقريب، فما كان أشبه بالواقع كان أولي بالتقدير وأقرب إلى الصواب.
فتبين بهذا أن إيجاب مهر المثل في النكاح الفاسد، إنما هو شبيه لها بمن يتزوج من أمثالها نكاحا صحيحا لازما، فتحتاج فيه إلى شيئين: إلى تقدير مثلها، وتقدير نكاح صحيح، فيه مسمي. فقسناها على أمثالها، وقسنا فاسدها على صحيح أولئك، وهذا في غاية البعد، وإذا أوجبنا المسمي في الفاسد قسنا فاسدها بصحيحها، وهي إلى نفسها أقرب من غيرها اليها. ثم عقدهما الفاسد وعقدهما الصحيح أقرب من عقدهما الفاسد إلى عقد غيرهما الصحيح. وأما إذا كان وطئ بشبهة بلا نكاح، فهنا يوجب مهر مثلها.
ج/ 29 ص -411-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
فصل
قاعدة في المقبوض بعقد فاسد
وذلك أنه لا يخلو: إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه، أو لا يعتقد الفساد.
فالأول يكون بمنزلة الغاصب؛ حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه، لكنه لشبهة العقد، وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه؟ أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف؟ هذا فيه خلاف مشهور في الملك. هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد؟وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد؛ مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام؛ مثل بيع الخمر، والربا، والخنزير؛ فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم الينا أمضيت لهم، ويملكون ما قبضوه بها بلا نزاع؛ لقوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" [البقرة:278] ، فأمر بترك ما بقي.
وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسخ العقد، ووجب رد المال إن كان باقيا، أو بدله إن كان فائتا. والأصل فيه قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"
ج/ 29 ص -412-إلى قوله: "وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ" [البقرة: 278، 279] ، أمر الله تعالى برد ما بقي من الربا في الذمم، ولم يأمر برد ما قبضوه قبل الإسلام، وجعل لهم مع ما قبضوه قبل الإسلام رؤوس الأموال. فعلم أن المقبوض بهذا العقد قبل الإسلام يملكه صاحبه، أما إذا طرأ الإسلام وبينهما عقد ربا فينفسخ، وإذا انفسخ من حين الإسلام استحق صاحبه ما أعطاه من رأس المال، ولم يستحق الزيادة الربوية التي لم تقبض، ولم يجب عليه من رأس المال ما قبضه قبل الإسلام؛ لأنه ملكه بالقبض في العقد الذي اعتقد صحته، وذلك العقد أوجب ذلك القبض، فلو أوجبناه عليه لكنا قد أوجبنا عليه رده، وحاسبناه به من رأس المال الذي استحق المطالبة به، وذلك خلاف ما تقدم.
وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد؛ مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل، ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته، ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بعضها؛ فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة
ج/ 29 ص -413-لم تنقض بعد ذلك؛ لا بحكم، ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد.
وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل التقابض، أو استفتياه إذا تبين لهما الخطأ، فرجع عن الرأي الأول، فما كان قد قبض بالاعتقاد الأول أمضي. وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال، وزيادة ربوية، أسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال. ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول، كأهل الذمة وأولي؛ لأن ذلك الاعتقاد باطل قطعا.
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
فصل
إذا كان إيجاب المسمي أو مثله أقرب إلى التسوية في الفاسد الذي يتعذر رده، رد المقبوض أو مثله من إيجاب، مثل العوض المسمي في العقد على مثال هذا المضمون.
فنقول: المثل من فاسد فسد مثله، فليس المؤجل مثل الحال، ولا أحد النوعين مثل الآخر، فلو أسلم اليه دراهم في شيء سلما، ولم
ج/ 29 ص -414-يتغير سعره، وقلنا: هو سلم. فإن رد اليه رأس ماله في الحال، أو مثله، فهذا هو الواجب.
وأما إذا أخره إلى حين حلول السلم، ثم أراد رد مثل رأس ماله، فليس هذا مثلا له. فإذا أوجبنا المسلم فيه بقيمته وقت الإسلاف كان أقرب إلى العدل، فإنهما تراضيا أن يأخذ بهذه الدراهم من المسلم فيه، لا من غيره، لكن لم يتفقا على القدر، فردهما إلى القيمة العادلة هو الواجب بالقياس؛ فإن قبض الثمن قبل قبض المثمن. ولو اشتري سلعة لم يقطع فيها، وقلنا هو بيع فاسد، فإذا تعذر رد العين ومثلها ردت القيمة بالسعر وقت القبض، فكما أوجبنا هنا قيمة المقبوض من العوض، نوجب هناك قيمة المقبوض من الدراهم.
ونظيرها من كل وجه: أن يكون المبيع مكيلا، أو موزونا، لم يقطع ثمنه، لكنه مؤجل إلى حول، فحين يحل الأجل إن رد حنطة مثلا لم يكن مثلا لتلك المقبوضة؛ لاختلاف القيمة، فإعطاء قيمة المقبوض وقت قبض السلعة مؤجلا إلى حين قبض الثمن أشبه بالعدل. فهذا في الثمن والمثمن سواء.
والأصل فيه أن كل ما كان أقرب إلى ما تعاقدا عليه، وتراضيا به؛ كان أولي بالاستحقاق مما لم يتعاقدا عليه ولم يتراضيا به، وأن
ج/ 29 ص -415-المضمون بالغصب والإتلاف إذا لم يكن مثليا فإنه يقدر بالقيمة لا بالعقود، فتقدير المضمون بذلك العقد أولي من تقديره بالمضمون بعقد آخر، لكن هذه المسألة مسألة الحلول والتأجيل مبنية على أصل آخر، وهو أن اختلاف الأسعار يؤثر في التماثل، وهذا مذكور في موضعه. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل عاقد رجلا بثغر الإسكندرية على غلة ذكر أنها مودعة في ناحية ببيروت، وأعطاه الثمن، وأرسل وكيله ليسلم ذلك للمشتري، فلم يجد الغلة، بل وجدها تحت الحوطة، كل ذلك بعد أن أشهد المشتري على نفسه أنه تسلم الغلة المذكورة، فهل يجوز لهذا البائع تأخير ما قبضه من الثمن؟ وهل له في ذلك شبهة، ويعطي البائع بتأخير الثمن عمن سلمه بعد المطالبة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا لم يجد المبيع الغائب، أو وجده ولم يتمكن من قبضه، فله فسخ البيع إن كانت العين مغصوبة. وإن تلفت انفسخ البيع ووجب على البائع أن يرد عليه الثمن إذا طلبه المشتري، ولا ينفعه إشهاد المشتري عليه بالقبض، إذا كان قد أشهد
ج/ 29 ص -416-قبل القبض، وإن قامت عليه بينة بالإقرار، وكان الإقرار صحيحا، فله تحليف البائع أن باطن الإقرار كظاهره في أصح قولي العلماء.
وأما إذا علم كذب الإقرار، بأن يكون قد أقر بالقبض قبل التمكن منه، لم يصح هذا الإقرار كله إذا صح بيع الغائب، بأن يبيعه بالصفة على مذهب مالك، وأحمد في المشهور.
وأما من أبطل بيعه مطلقا كالشافعي، وأحمد في رواية، فالبيع باطل من أصله، وأبوحنيفة يصححه مطلقا، وأحمد في رواية، لكن له الخيار عند الرؤية بكل حال، وبكل حال فالأئمة متفقون على أن على البائع دفع الثمن إذا طلبه المشتري والحالة هذه. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عمن باع بيعًا وجحد البيع، وأشهد المشتري على نفسه بالفسخ، فما الحكم في ذلك؟
فأجاب:
إذا جحد البيع وفسخه المشتري كذلك، لم يكن للبائع إلزام المشتري ثانيا بالقبض. والله أعلم.
ج/ 29 ص -417-وسئل عن رجل اشتري ملكا بثمن معين، ودفع الثمن بمحضر شهود كتاب التبايع، وثبت الكتاب، وحكم به حكام المسلمين الأربعة، ثم استحق الملك المشتري مستحق غير البائع، وأثبت استحقاقه بذلك الشرع، ورفع يد المشتري عما اشتراه منه، والرجل يومئذ غائب فوق مسافة القصر، وله أملاك حاضرة وأموال، فهل إذا طلب الرجل المذكور من الحاكم الذي ببلد المشتري الذي حكم له على الغائب بنظير ما قبض الغائب من الرجل المشتري من ثمن المبيع يجيبه إلى ذلك، والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم إذا ظهر المبيع مستحقا، فللمشتري أن يرجع بالثمن على من قبضه منه، أو ببدله. فإذا كان القابض منه غائبا حكم عليه إذا قامت الحجة، وسلم إلى المحكوم له حقه من مال الغائب مع بقائه على حجته. والله أعلم.