ج/ 29 ص -332-باب الشروط في البَيْع
وسئل رَحمه اللّه عن رجل مسلم اشتري جارية كتابية وشرط له البائع أنها طباخة جيدة، وأنها تصنع الخمر والنبيذ، فهل يصح ؟
فأجاب:
اشتراط كونها تصنع الخمر والنبيذ،شرط باطل، باتفاق المسلمين،والعقد مع ذلك فاسد.
أما على قول من يقول: إن الشرط الفاسد يفسد العقد، كما هو المشهور من مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين فظاهر.
وأما على القول الآخر، فإنه لو باعها بدون شرط لم يجز أن يشتري الجارية؛ لأجل كونها تصنع الخمر، كما لا يجوز أن يشتري عينا ليعصي اللّه بها، مثل أن يشتري عصيرًا ليعمله خمرًا، ويشتري سلاحا ليقاتل المسلمين في أصح قولي العلماء، كما هو مذهب مالك، وأحمد،
ج/ 29 ص -333-وغيرهما، كما قال تعالى: "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: 2] .
وسئل عن رجل اشترى من رجل دارا بألف درهم، وهي تساوي ألفي درهم، ثم إن المشتري أجر البائع الدار مدة من الشهور بدراهم معلومة في تاريخه على الفور، وهو بينهما بيع أمانة في الباطن: هل يصح هذا العقد على هذا الحكم؟ وهل يلزم البائع الأصلي مبلغ مدة الإجارة؟ أم لا ؟. وقد ورد في الحديث أنه روي عن أبي بن كعب، وابن مسعود وابن عباس رضي اللّه عنهم عن النبي ﷺ: "أنه نهي عن قرض جر منفعة". وهل ذلك من نوع ذلك أم لا ؟ وهل جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه استسلف من رجل بكرًا، فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكرا، فقلت:لم أجد في الإبل إلا جملًا خيارا رباعيا، فقال النبي ﷺ: "أعطه، فإن خياركم أحسنكم قضاء"، وهل ذلك من الأحاديث الصحاح أم لا؟.
فأجاب:
إذا كان المقصود أن يأخذ أحدهما من الآخر دراهم،
ج/ 29 ص -334-وينتفع المعطي بعقار الآخر مدة مقام الدراهم في ذمته، فإذا أعاد الدراهم اليه أعاد اليه العقار، فهذا حرام بلا ريب، وهذا دراهم بدراهم مثلها، ومنفعة الدار، وهو الربا البين. وقد اتفق العلماء على أن المقرض متي اشترط زيادة على قرضه، كان ذلك حراما، وكذلك إذا تواطآ على ذلك في أصح قولي العلماء، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن. ولا بيع ما ليس عندك". حرم النبي ﷺ الجمع بين السلف والبيع؛ لأنه إذا أقرضه، وباعه حاباه في البيع لأجل القرض، وكذلك إذا آجره وباعه. وما يظهرونه من بيع الأمانة الذي يتفقون فيه على أنه إذا جاءه بالثمن أعاد اليه المبيع، هو باطل باتفاق الأئمة، سواء شرطه في العقد، أو تواطآ عليه قبل العقد، على أصح قولي العلماء. والواجب في مثل هذا أن يعاد العقار إلى ربه، والمال إلى ربه، ويعزر كل من الشخصين إن كانا علما بالتحريم. والقرض الذي يجر منفعة قد ثبت النهي عنه عن غير واحد من الصحابة الذين ذكرهم السائل وغيرهم، كعبد اللّه بن سلام، وأنس بن مالك، وروي ذلك مرفوعًا إلى النبي ﷺ، رواه ابن ماجه وغيره.
وفي صحيح البخاري عن عبد اللّه بن سلام: إنك بأرض، الربا فيها فاش، فإذا أقرضت رجلا قرضا فأهدي لك حمل تبن، أو حمل
ج/ 29 ص -335-قت، فاحسبه له من قرضه. وقال رجل لابن عباس: إني أقرضت سماكًا عشرين درهما، فأهدي لي سمكة، فقومتها ثلاثة عشر درهما، فقال: لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم. وحديث البكر حديث صحيح.
فإذا وفاه المقرض خيرًا من قرضه بلا مواطأة جاز ذلك، وإن وفاه أكثر من قرضه ففيه قولان للعلماء؛ وذلك لأن هذا زيادة بعد وفاء القرض، بخلاف ما إذا أهدي اليه قبل الوفاء، فإنه إذا لم يحسبه من القرض كان القرض باقيا في ذمته، على أن يأخذه مع الهدية، والهدية إنما كانت بسبب القرض. وقد قال النبي ﷺ:"ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا اللّه، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلى، أفلا قعد في بيت أبيه، أو أمه، فينظر أيهدي اليه؟ أم لا؟".
فبين أن الهدية إذا كانت بسبب ألحقت به؛ فلهذا كان المأثور عن الصحابة وجمهور الأئمة: أن الهدية قبل الوفاء تحسب لصاحبها، بخلاف زيادة الصفة في الوفاء.
وأما صورة: وهو أن يتواطآ على أن يبتاع منه العقار بثمن، ثم يؤجره إياه إلى مدة، وإذا جاءه بالثمن أعاد اليه العقار، فهنا المقصود أن المعطي شيئا، أدي الأجرة مدة بقاء المال في ذمته، ولا فرق بين أخذ المنفعة، وبين عوض المنفعة، الجميع حرام.
ج/ 29 ص -336-وهذا وإن كان قد رخص فيه طائفة من الفقهاء، بناء على أن ذلك لم يشترط في العقد، وأن المواطأة والنية لا تؤثر في العقود.فالصواب الذي عليه الكتاب والسنة،واتفق عليه الصحابة،وهو قول أكثر الأئمة: تحريم مثل ذلك.وأن النيات معتبرة في العقود،كما قال النبي ﷺ:"إنما الأعمال بالنيات،وإنما لكل امرئ ما نوي"،والشرط المتقدم كالمقارن له.
وقد عاتب اللّه من أسقط الواجبات، واستحل المحرمات بالحيل، والمخادعات، كما ذكر ذلك في سورة [ن] وفي قصة أهل السبت، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم اللّه بأدني الحيل". وقال أيوب السختياني: يخادعون اللّه كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون على. ودلائل هذا مبسوطة في كتاب كبير.
ج/ 29 ص -337-وقال شيخ الإِسلام تقي الدّين رَحمِهُ اللَّه تعالى:
فصل
في قول النبي ﷺ لعائشة: "ابتاعيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق".
فإن هذا أشكل على كثير من الناس، حتى إن منهم من قال: انفرد به هشام دون الزهري، وظن ذلك علة فيه. والحديث في الصحيحين لا علة فيه.
ومنهم من قال:"اشترطي لهم":بمعني عليهم.قالوا:ومثله قوله تعالى:"وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ" [غافر:52] أي:عليهم اللعنة.ونقل هذا حرملة عن الشافعي.ونقل عن المزني وهو ضعيف.
أما أولا: فإن قوله: "اشترطي لهم" صريح في معناه، واللام للاختصاص، وأما قوله: "وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ" فمثل قوله: "لَهُمُ الْعَذَابُ" [هود:20] ، و"لَهُمْ خِزْيٌ" [المائدة:33] ، وهو معني صحيح؛ ليس المراد أنهم يملكون اللعنة،
ج/ 29 ص -338-بل هنا إذا قيل:"وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ" فالمراد أنهم يجزون بها، وإذا قيل: عليهم، فالمراد الدعاء عليهم باللعنة، فالمعنيان مفترقان. وقد يراد بقوله: [عليهم] الخبر أي: وقعت عليهم، فحرف الاستعلاء غير ما أفاده حرف الاختصاص، وإن كانا يشتركان في أن أولئك ملعونون. وقوله: "اشترطي لهم" مباين لمعني اشترطي عليهم، فكيف يفسر معني اللفظ بمعني ضده ؟!
وأيضا، فعائشة قد كانت اشترطت ذلك عليهم، وقالت: إن شاؤوا عددتها لهم عدة واحدة، ويكون ولاؤك لي فامتنعوا.
وأيضا، فإن ثبوت الولاء للمعتق، لا يحتاج إلى اشتراطه، بل هو إذا أعتق كان الولاء له، سواء شرط ذلك على البائع، أو لم يشرط.
يبقي حمل الحديث على أن هذا يشعر بأن الولاء إنما يصير لهم إذا شرطته، وهذا باطل. ومن تدبر الحديث تبين له قطعا أن الرسول لم يرد هذا.
وأما ما دل عليه الحديث، فأشكل عليهم من جهتين: من جهة أن الرسول كيف يأمر بالشرط الباطل. والثاني من جهة أن الشرط الباطل، كيف لا يفسد العقد.
وقد أجاب طائفة بجواب ثالث، ذكره أحمد وغيره؛ وهو أن
ج/ 29 ص -339-القوم كانوا قد علموا أن هذا الشرط منهي عنه، فأقدموا على ذلك بعد نهي النبي ﷺ، فكان وجود اشتراطهم كعدمه، وبين لعائشة أن اشتراطك لهم الولاء لا يضرك، فليس هو أمرًا بالشرط، لكن إذنًا للمشتري في اشتراطه، إذا أبي البائع أن يبيع إلا به، وإخبارًا للمشتري أن هذا لا يضره، ويجوز للإنسان أن يدخل في مثل ذلك. فهو إذن في الشراء مع اشتراط البائع ذلك، وإذن في الدخول معهم في اشتراطه لعدم الضرر في ذلك، ونفس الحديث صريح في أن مثل هذا الشرط الفاسد، لا يفسد العقد. وهذا هو الصواب. وهو قول ابن أبي ليلي وغيره، وهو مذهب أحمد في أظهر الروايتين عنه.
وإنما استشكل الحديث من ظن أن الشرط الفاسد يفسد العقد، وليس كذلك، لكن إن كان المشترط يعلم أنه شرط محرم لا يحل اشتراطه فوجود اشتراطه كعدمه؛ مثل هؤلاء القوم. فيصح اشتراء المشتري، ويملك المشتري، ويلغو هذا الشرط الذي قد علم البائع أنه محرم لا يجوز الوفاء به.
وأما أولئك القوم، فإن كانوا قد علموا بالنهي قبل استفتاء عائشة فلا شبهة. لكن ليس في الحديث ما يدل عليه، بل فيه أن النبي ﷺ قام عشية فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب اللّه ؟! من اشترط شرطًا ليس في كتاب اللّه فهو باطل، وإن كان مائة شرط"، وهذا كان عقب استفتاء عائشة، وقد علم أولئك
ج/ 29 ص -340-بهذا بلا ريب، وكان عقد عائشة معهم بعد هذا الإعلام من الرسول ﷺ؛ فإما أن يكونوا تابوا عن هذا الشرط، أو أقدموا عليه مع العلم بالتحريم. وحنيئذ فلا يضر اشتراطه. هذا هو الذي يدل عليه الحديث وسياقه. ولا إشكال فيه وللّه الحمد والمنة.
وأما إن كان المشترط لمثل هذا الشرط الباطل جاهلا بالتحريم، ظانا أنه شرط لازم، فهذا لا يكون البيع في حقه لازما، ولا يكون أيضا باطلا. وهذا ظاهر مذهب أحمد، بل له الفسخ إذا لم يعلم أن هذا الشرط لا يجب الوفاء به؛ فإنه إنما رضي بزوال ملكه بهذا الشرط، فإذا لم يحصل له فملكه له إن شاء، وإن شاء أن ينفذ البيع أنفذه، كما لو ظهر بالمبيع عيب، وكالشروط الصحيحة إذا لم يوف له بها، إذا باع بشرط رهن أو ضمين فلم يأت به، فله الفسخ وله الإمضاء.
والقول بأن البيع باطل في مثل هذا ضعيف، مخالف للأصول، بل هو غير لازم يتسلط فيه المشتري على الفسخ، كالمشتري للمعيب وللمصراة، ونحوهما؛ فإن حقه مخير بتمكينه من الفسخ. وقد قيل في مذهب أحمد: إن له أرش ما نقص من الثمن بإلغاء هذا الشرط، كما قيل مثل ذلك في المعيب، وهو أشهر الروايتين عنه. والرواية الأخري لا يستحق إلا الفسخ؛ وإنما له الأرش بالتراضي، أو عند تعذر الرد، كقول جمهور الفقهاء. وهذا أصح؛ فإنه كما أن المشترط لم يرض إلا
ج/ 29 ص -341-بالشرط، فلا يلزم البيع بدونه، بل له الخيار، فكذلك الآخر لم يرض إلا بالثمن المسمي، وإن كان رضي به مع الشرط، فإذا ألغي الشرط وصار الولاء له، فهو لم يرض بأكثر من الثمن في هذه الصورة، بل إن شاء فسخ البيع، فلا يلزم بالزيادة، بل إذا أعطي الثمن فإن شاء الآخر قبل وأمضي، وإن شاء فسخ البيع، وإن تراضيا بالأرش جاز، لكن لا يلزم به واحد منهما إلا برضاه، فإنه معاوضة عن الجزء الفائت.
وهكذا يقال في نظائر هذا؛ مثل الصفقة إذا تفرقت. وقيل: يصح البيع في الحلال بقسطه من الثمن، كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ فإن الذي تفرقت عليه له الفسخ إذا كان لم يرض ببيع هذا بقسطه إلا مع ذلك.
وأصل العقود: أن العبد لا يلزمه شيء إلا بالتزامه، أو بإلزام الشارع له. فما التزمه فهو ما عاهد عليه، فلا ينقض العهد، ولا يغدر.وما أمره الشارع به فهو مما أوجب اللّه عليه أن يلتزمه وإن لم يلتزمه، كما أوجب عليه أن يصل ما أمر اللّه به أن يوصل من الإيمان بالكتب والرسل، ومن صلة الأرحام؛ ولهذا يذكر اللّه في كتابه هذا وهذا، كقوله: "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ" [الرعد: 20، 21] .
ج/ 29 ص -342-فما أمر اللّه به أن يوصل فهو إلزام من اللّه به، وما عاهد عليه الإنسان فقد التزمه، فعليه أن يوفي بعهد اللّه، ولا ينقض الميثاق إذا لم يكن ذلك مخالفًا لكتاب اللّه. فمن اشترط شرطا مخالفًا لكتاب اللّه؛ مثل أن يريد به أن يستحل ما حرم اللّه، كالذي يبيع الأمة أو يعتقها ويشرط وطأها بعد خروجها من ملكه، أو يبيع غيره مملوكا ويشرط أن يكون ولاؤه له لا للمعتق، أو يزوج أمته أو قرابته ويشرط أن يكون النسب لغير الأب، أو يكون النسب له، فاللّه قد أمر أن يدعي الولد لأبيه، والولاء لحمة كلحمة النسب. فمن ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين. وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه نهي عن بيع الولاء وعن هبته. ولهذا كان عند جمهور العلماء لا يورث أيضا، ولكن يورث به كالنسب، ويكون الولاء للكبر، فقد تبين أن الحديث حق كما جاء، واللّه أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"، وهذا يبين أن الوفاء بالشروط في النكاح أولي منها في البيع؛ ولهذا قال كثير من السلف والخلف: إنه إذا اشترط شرطًا مخالفًا لكتاب اللّه، مثل أن يشترط أن يتزوجها بلا مهر، أو بمهر محرم، فهذا نكاح باطل، كنكاح الشِّغار وغيره. وهذا مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين.
ج/ 29 ص -343-وقد نهى النبي ﷺ عن نكاح الشغار، وأبطله الصحابة؛ فإنهم أشغروا النكاح عن مهر. هذا هو العلة في نصوص أحمد المشهورة عنه، وهو قول مالك وغيره. وعند طائفة من أصحابه: العلة ما قاله الشافعي، وهو التشريك في البضع. والأول أصح. وهذا لا معني له؛ فإن البضع لم يحصل فيه اشتراك، بل كل من الزوجين ملك بضع امرأة بلا شركة، وإن كان قد جعل صداقها بضع الأخري، فالمرأة الحرة لم تملك بضع المرأة، ولا يمكن هذا؛ فإن امرأة لا تتزوج امرأة، ولكن جعلت لوليها ما تستحقه من المهر، فوليها هو الذي ملك البضع، وجعل صداقها ملك وليها البضع، وهي لم تملك شيئا؛ فلهذا كان شغارًا. والمكان الشاغر الخالي. وشغرت هذه الجهة، أي خلت. ومن أصدقت شيئا ولم يحصل لها ما أصدقته لم يكن النكاح لازما، وأعطيت بدله، كما في البيع وأولي: "فإن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج".
ومن التزمت بالنكاح من غير أن تحصل ما رضيته، فقد التزمت بالنكاح الذي لم ترض به، وهذا خلاف الكتاب والسنة. وإذا كان مثل هذا لا يجوز في البيع، فإنه لا يجوز في النكاح أولي. والشارع لم يلزمها النكاح على هذا الوجه، ولا هي التزمته، وإنما يجب على الإنسان ما يجب بإلزام الشارع، أو بالتزامه، وكلاهما منتف، فلا معني
ج/ 29 ص -344-لالتزامها بنكاح لم ترض به.
وقول من قال: المهر ليس بمقصود، كلام لا حقيقة له؛ فإنه ركن في النكاح، وإذا شرط فيه كان أوكد من شرط الثمن؛ لقوله: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". والأموال تباح بالبدل، والفروج لا تستباح إلا بالمهور؛ وإنما ينعقد النكاح بدون فرضه وتقريره، لا مع نفيه. والنكاح المطلق ينصرف إلى مهر المثل، وكذلك البيع على الصحيح وهو إحدى الروايتين عن أحمد ينعقد بالسعر فلا فرق، كما قد بسط في مواضع.
والذي يثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن النكاح ينعقد بدون فرض المهر. أي بدون تقديره، لا أنه ينعقد مع نفيه، بل قد قال تعالى: "قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عليهمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ" [الأحزاب: 50] ، لما جوز للنبي ﷺ أن يتزوج بلا مهر فرض عليهم ألا يتزوجوا بلا مهر. وكذلك دل عليه القرآن في غير موضع، فلا بد من مهر مسمي مفروض، أو مسكوت عن فرضه، ثم إن فرض ما تراضيا به، وإلا فلها مهر نسائها، كما قضي به النبي ﷺ في بَرْوَع بنت واشق. وأين هذا من هذا ؟! والناس دائمًا يتناكحون مطلقا، وقد تراضوا بالمهر المعتاد في مثل ذلك، وهو مهر المثل، كما يتبايعون دائمًا، وقد تراضوا بالسعر الذي يبيع به البائع في
ج/ 29 ص -345-مثل تلك الأوقات، كما يشترون الخبز والأدم والفاكهة واللحم وغير ذلك من الخباز واللحام والفومي وغير ذلك، وقد رضوا أن يعطيهم ثمن المثل، وهو السعر الذي يبيع به للناس، وهو ما ساغ به مثل تلك السلعة في ذلك المكان والزمان، وهذا البيع صحيح، نص عليه أحمد، وإن كان في مذهبه نزاع فيه.
فصل
وأصل الدين: أنه لا واجب إلا ما أوجبه اللّه ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه اللّه ورسوله، ولا مكروه إلا ما كرهه اللّه ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله اللّه ورسوله، ولا مستحب إلا ما أحبه اللّه ورسوله. فالحلال ما حلله اللّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللّه ورسوله، والدين ما شرعه اللّه ورسوله؛ ولهذا أنكر اللّه على المشركين وغيرهم ما حللوه أو حرموه أو شرعوه من الدين بغير إذن من اللّه.
والذي يوجبه اللّه على العبد قد يوجبه ابتداء؛ كإيجابه الإيمان والتوحيد على كل أحد. وقد يوجبه؛ لأن العبد التزمه وأوجبه على نفسه، ولولا ذلك لم يوجبه؛ كالوفاء بالنذر للمستحبات. وبما التزمه في العقود المباحة؛ كالبيع والنكاح والطلاق، ونحو ذلك، إذا لم يكن
ج/ 29 ص -346-واجبًا. وقد يوجبه للأمرين؛ كمبايعة الرسول على السمع والطاعة له، وكذلك مبايعة أئمة المسلمين، وكتعاقد الناس على العمل بما أمر اللّه به ورسوله.
ونفس التزام شرائع الإسلام من هذا الباب. فإن المؤمن التزمها بالإيمان، وشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه؛ فإن هذه الشهادة توجب عليه الوفاء بموجبها، وهو تصديق الرسول فيما أتي به عن اللّه، وطاعته فيما أوجبه وأمر به؛ لأنه قد بلغ عن اللّه أن طاعته طاعته، ومعصيته معصيته. وهذه الأصول مبسوطة في مواضع.
والمقصود هنا أنه إذا كان أصل الشرع أنه لا يلزمه إلا بإلزام الشارع له، أو بالتزامه إياه. فإذا تنازع الفقهاء في فرع من فروع هذا الأصل رد اليه. ومن الفقهاء من يوفي به. ومنهم من لا يوفي به، بل ينقضه في كثير من المسائل، وإن كان الغالب عليه الوفاء به في أكثر المسائل، ومن ذلك [مسائل النكاح والشروط فيه] .
فإن القاعدة أيضًا: أن الأصل في الشروط الصحة واللزوم، إلا ما دل الدليل على خلافه. وقد قيل: بل الأصل فيها عدم الصحة، إلا ما دل الدليل على صحته؛ لحديث عائشة. والأول هو الصحيح؛ فإن الكتاب والسنة قد دلا على الوفاء بالعقود والعهود، وذم الغدر
ج/ 29 ص -347-والنكث؛ ولكن إذا لم يكن المشروط مخالفًا لكتاب اللّه وشرطه، فإذا كان المشروط مخالفا لكتاب اللّه وشرطه كان الشرط باطلا. وهذا معني قوله ﷺ: "من اشترط شرطا ليس في كتاب اللّه فهو باطل،وإن كان مائة شرط، كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق".
فإن قوله: "من اشترط شرطا" أي: مشروطا، وقوله: "ليس في كتاب اللّه" أي: ليس المشروط في كتاب اللّه، فليس هو مما أباحه اللّه، كاشتراط الولاء لغير المعتق، والنسب لغير الوالد، وكالوطء بغير ملك يمين، ولا نكاح، ونحو ذلك مما لم يبحه اللّه بحال. ومن ذلك تزوج المرأة بلا مهر؛ ولهذا قال: "كتاب اللّه أحق،وشرط اللّه أوثق". وهذا إنما يقال: إذا كان المشروط يناقض كتاب اللّه وشرطه، فيجب تقديم كتاب اللّه وشرطه، ويقال: "كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق".
وأما إذا كان نفس الشرط والمشروط لم ينص اللّه على حله، بل سكت عنه، فليس هو مناقضا لكتاب اللّه وشرطه، حتى يقال: "كتاب اللّه أحق، وشرطه أوثق"، فقوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب اللّه" أي: مخالفًا لكتاب اللّه. وسواء قيل: المراد من الشرط المصدر، أو المفعول؛ فإنه متي خالف أحدهما كتاب اللّه خالفه الآخر، بخلاف ما سكت عنه. فهذا أصل.
ج/ 29 ص -348-والأصل الثاني: أن الشرط المخالف لكتاب اللّه إذا لم يرضيا إلا به،فقد التزما ما حرمه اللّه. فلا يلزم، كما لو نذر المعصية. وسواء كانا عالمين أو جاهلين، وإن اشترطه أحدهما على الآخر يعتقد جوازه فلم يرض إلا به، فلا يلزمه العقد إلا أن يكون التزمه للّه، فيلزمه ما كان للّه؛ دون مالم يكن؛ كالنذر، والوقف، والوصية، وغير ذلك مما تتفرق فيه الصفقة. وإن عرف أنه حرام وشرطه فهو كشرط أهل بريرة،شرطه باطل، ولا يبطل العقد.
ولا فرق في ذلك بين النكاح والبيع، وغير ذلك من العقود. فمن الفقهاء من أبطل شروطا كثيرة في النكاح بلا حجة. ثم الشرط الباطل في النكاح قالوا: يبطل، ويصح النكاح بدونه، والمشترط للنكاح لم يرض إلا به، والشروط في النكاح أوكد منها في البيع؛ لقوله ﷺ: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". فلزمهم من مخالفة النصوص في مواضع كثيرة، وإلزام الخلق بشيء لم يلتزموه، ولا ألزمهم اللّه به. فأوجبوا على الناس مالم يوجبه اللّه ورسوله. ثم قد يتوسعون في الطلاق الذي يبغضه اللّه، فيحرمون على الناس ما لم يحرمه اللّه ورسوله، ثم يبيحون ذلك بالعقود المشروطة فيها الشروط الفاسدة. فيحللون مالم يحلله اللّه ورسوله.
مثال ذلك: أن شرط التحليل في العقد شرط حرام باطل بالاتفاق.
ج/ 29 ص -349-إذا شرط أنه يطلقها إذا أحلها، وكذلك شرط الطلاق بعد أجل مسمي. فشرط الطلاق في النكاح إذا مضي الأجل أو بعد التحليل شرط باطل بالاتفاق، مع القول بتحريم المتعة، فإن اللّه لم يبح النكاح إلى أجل، ولم يبح نكاح المحلل. فقال طائفة من الفقهاء: يصح العقد، ويبطل الشرط، كما يقوله أبو حنيفة والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين. ويكون العقد لازما. ثم كثير من هؤلاء فرق بين التوقيت، وبين الاشتراط. فقالوا: إذا قال: تزوجتها إلى شهر، فهو نكاح متعة، وهو باطل. وطرد بعضهم القياس. وهو قول زُفَر، وخرج وجها في مذهب أحمد: أنه يصح العقد، ويلغو التوقيت، كما قالوا: يلغو الشرط.
ولو قال في نكاح التحليل: على أنك إذا أحللتها طلقها، فهو شرط، كما لو قال في المتعة: على أنه إذا انقضي الأجل طلقها. وإن قال: فلا نكاح بينكما. فقيل: فيه قولان للشافعي، وغيره. قيل: يلحق بالشرط الفاسد، فيصح النكاح. وقيل: بالتوقيت، فيبطل النكاح.
ولو شرط الخيار في النكاح، ففيه ثلاثة أقوال:هي ثلاث روايات عن أحمد.قيل: يصح العقد والشرط.وقيل:يبطلان.وقيل:يصح العقد دون الشرط.فالأظهر في هذا الشرط أنه يصح.وإذا قيل ببطلانه، لم يكن العقد لازما بدونه؛فإن الأصل في الشرط الوفاء،وشرط الخيار مقصود صحيح،لاسيما في النكاح. وهذا يبني
ج/ 29 ص -350-على أصل.وهو: أن شرط الخيار في البيع:هل الأصل صحته،أو الأصل بطلانه،لكن جوز ثلاثا على خلاف الأصل؟فالأول قول أئمة الفقهاء؛مالك،وأحمد،وابن أبي ليلي،وأبي يوسف، ومحمد.والثاني قول أبي حنيفة والشافعي؛ولهذا أبطلا الخيار في أكثر العقود:النكاح وغيره.
وكذلك تعليق النكاح على شرط، فيه ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد. وأصحاب الشافعي وأحمد يفرقون في النكاح بين شرط يرفع العقد كالطلاق، وبين غيره، مثل اشتراط عدم المهر، أو عدم الوطء أو عدم القسم، وفي مذهب أحمد خلاف في شرط عدم المهر، ونحوه.
والصواب أن كل شرط: فإما أن يكون مباحًا فيكون لازمًا يجب الوفاء به، وإذا لم يوف به ثبت الفسخ، كاشتراط نوع أو نقد في المهر. ولا يجوز أن يجعل النكاح لازمًا مع عدم الوفاء، بل يخير المشترط بين إمضائه وبين الفسخ، كالشروط في البيع، وكالمعيب؛ فإنه يرد بالعيب في البيع بالاتفاق، وكذلك في النكاح عند الجمهور. قال طائفة من المدنيين، وغيرهم، لا ترد الحرة بعيب، وقالوا: النكاح لا يقبل الفسخ، فلم يجوزوا فسخه بعيب ولا شرط. ثم هم وسائر المسلمين يوجبون في الإيلاء على المولي إما الفيأة، وإما الطلاق. وهم يقولون:
ج/ 29 ص -351-يقع الطلاق عقب انقضاء المدة إذا لم يفئ وإذا كان الزوج عِنِّينًا أو مجبوبا، فعامتهم على أن لها الفسخ، لكن قالوا: المرأة لا يمكنها الطلاق. والجمهور على ثبوت الخيار بالجنون والجذام والبرص، كما قاله عمر بن الخطاب،ثم خص الفسخ كثير منهم بما يمنع النكاح، كما أبطلوا النكاح بالشرط الذي يرفع العقد. وتفصيل هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن مقتضي الأصول والنصوص: أن الشرط يلزم، إلا إذا خالف كتاب اللّه. وإذا كان لازما لم يلزم العقد بدونه. فالمسلمون كلهم يجوزون أن يشترط في المهر شيئًا معينا، مثل هذا العبد، وهذه الفرس، وهذه الدار، لكن يقولون: إذا تعذر تسليم المهر لزم بدله، فلم يملك الفسخ، وإن كان المنع من جهته. وهذا ضعيف، مخالف للأصول، فإن لم يقل بامتناع العقد فقد يتعذر تسليم العقد، فلا أقل من أن تمكن المرأة من الفسخ؛ فإنها لم ترض وتبح فرجها إلا بهذا، فإذا تعذر فلها الفسخ. وهم يقولون: المهر ليس هو المقصود الأصلي. فيقال: كل شرط فهو مقصود، والمهر أوكد من الثمن، لكن هنا الزوجان معقود عليهما، وهما عاقدان، بخلاف البيع فإنهما عاقدان، غير معقود عليهما، وهذا يقتضي أنه إذا فات فالمرأة مخيرة بين الفسخ وبين المطالبة بالبدل، كالعيوب في البيع، لكون المعقود عليه وهما الزوجان باقيين، فالفائت جزء من المعقود عليه فهو كالعيب الحادث
ج/ 29 ص -352-في السلعة قبل التمكن من القبض يوجب الفسخ، ولا يبطل العقد. هذا مقتضي الأصول والنصوص والقياس.
وإن كان الشرط باطلا، ولم يعلم المشترط ببطلانه، لم يكن العقد لازما؛ بل إن رضي بدون الشرط وإلا فله الفسخ. هذا هو الأصل، وأما إلزامه بعقد لم يرض به، ولا ألزمه الشارع أن يعقده، فهذا مخالف لأصول الشرع، ومخالف للعدل الذي أنزل اللّه به الكتاب، وأرسل به الرسل. وهم جعلوا الأصل أن الحرة لا ترد بعيب قالوا: فلا يفسخ النكاح بفوات الشرط؛ لأنهما من جنس واحد، وقالوا: يصح النكاح بلا تقدير مهر، فيصح مع نفي المهر، فيصح مع كل الشروط الفاسدة.
وأما صحته بدون فرض المهر، فهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، لكن إذا اعتقد عدم وجوب المهر،فإن المهر المطلق مهر المثل، وأما مع نفيه ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره. والقول بالبطلان قول أكثر السلف، كما في مذهب مالك وغيره. وهو الصواب لدلالة الكتاب والسنة عليه، وحديث الشغار. قالوا: فثبت الفرق بين النكاح والبيع من هاتين الجهتين: عدم الفسخ بفوات الشرط الصحيح،والصحة مع الشرط الفاسد. فيقال:
ج/ 29 ص -353-أما عدم الفسخ بفوات الشرط الصحيح، وقول من قال: لا ترد الحرة بعيب. فهذا ليس له أصل في كلام الشارع البتة، بل متي كان الشرط صحيحًا وفات، فلمشترطه الفسخ. ثم الشرط المتقدم على العقد هل هو كالمقارن له؟ فيه قولان. والصحيح أنه كالمقارن، وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك، ووجه في مذهب الشافعي، يخرج من السر والعلانية، وأحمد يوجب ما سمي في العلانية، وإن كان دون ما اتفق عليه في السر، لكن يوجب ذلك ظاهرًا، ويأمرهم أن يوفوا بما شرطوا له، فعلى هذا لم يحكم بالسر لعدم ثبوته، وإن ثبت حكم به.
وإن قيل: لا يحكم به مطلقًا، فلأنهم أظهروا خلاف ما أبطنوه، والنكاح مبناه على الإعلان لا على الإسرار، وهذا بخلاف شرط لم يظهروا ما يناقضه في النكاح والبيع وغيرهما، فهذا يجب الوفاء به عنده، وهو يؤثر في العقد. والشافعي إذا قال في النكاح: إنه يؤخذ بالسر، ففي غيره أولى.
وأما صحته مع الشرط الفاسد، فالأصل فيه عدم تقدير المهر، وليس هذا شرطًا فاسدًا؛ بدليل أن الشرط الفاسد لا يحل اشتراطه، وهذا النكاح حلال، فلو تزوجها ولم يفرض مهرًا، لكن على عادة الناس أنه لابد لها من مهر؛ إما أن يتراضيا، وإما أن يكون لها مهر نسائها، فهذا النكاح حلال ليس فيه شرط فاسد. فمن ذينك القياسين
ج/ 29 ص -354-الفاسدين فرقوا بين النكاح والبيع، وألزموا الناس بنكاح لم يرضوا به وإن شرطوا فيه شرطًا صحيحًا، كما ألزموا الرجل بنكاح المرأة المعيبة، وهو لم يرض بنكاح معيبة.
فإن قيل: فلم فرق بين عيوب الفرج وغيرها؟ قيل:قد علم أن عيوب الفرج المانعة من الوطء لا يرضي بها في العادة؛فإن المقصود بالنكاح الوطء،بخلاف اللون والطول والقصر ونحو ذلك مما ترد به الأمة؛فإن الحرة لا تقلب، كما تقلب الأمة،والزوج قد رضي رضا مطلقًا، وهو لم يشرط صفة فبانت بدونها.فإن شرط ففيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد.والصواب أنه له الفسخ، وكذا بالعكس،وهو مذهب مالك، والشرط إنما يثبت لفظًا أو عرفًا،وفي البيع دل العرف على أنه لم يرض إلا بسليم من العيوب، وكذلك في النكاح لم يرض بمن لا يمكن وطؤها، والعيب الذي يمنع كمال الوطء لا أصله فيه قولان في مذهب أحمد،وغيره.وأما ما يمكن معه الوطء وكمال الوطء فلا تنضبط فيه أغراض الناس.
والشارع قد أباح، بل أحب له النظر إلى المخطوبة، وقال: "إذا ألقي الله في قلب أحدكم خطبة امرأة، فلينظر إليها، فإنه أحري أن يؤدم بينهما"، وقال لمن خطب امرأة من الأنصار: انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا"، وقوله: "أحري أن يؤدم بينهما" يدل على أنه إذا
ج/ 29 ص -355-عرفها قبل النكاح دام الود، وأن النكاح يصح وإن لم يرها، فإنه لم يعلل الرؤية بأنه يصح معه النكاح. فدل على أن الرؤية لا تجب. وأن النكاح يصح بدونها، وليس من عادة المسلمين ولا غيرهم أن يصفوا المرأة المنكوحة بذلك، بخلاف البيع؛ فإنه إما ألا يصح، وإما أن يملك خيار الرؤية، وإن كان قد ذكر في مذهب أحمد رواية ضعيفة أنه يصح بلا رؤية ولا صفة، ولا يثبت خيار.
وهذا الفرق إنما هو للفرق بين النساء والأموال: أن النساء يرضي بهن في العادة على الصفات المختلفة، والأموال لا يرضي بها على الصفات المختلفة؛ إذ المقصود بها التمول، وهو يختلف باختلاف الصفات، والمقصود بالنكاح المصاهرة، والاستمتاع، وذلك يحصل مع اختلاف الصفات. فهذا فرق شرعي معقول في عرف الناس. أما إذا عرف أنه لم يرض لاشتراطه صفة فبانت بخلافها، وبالعكس، فإلزامه بما لم يرض به مخالف للأصول. ولو قال: ظننتها أحسن مما هي أو ما ظننت فيها هذا، ونحو ذلك. كان هو المفرط، حيث لم يسأل عن ذلك، ولم يرها، ولا أرسل من رآها. وليس من الشرع ولا العادة أن توصف له في العقد، كما توصف الإماء في السلم؛ فإن الله صان الحرائر عن ذلك، وأحب سترهن؛ ولهذا نهيت المرأة أن تعقد نكاحًا، فإذا كن لا يباشرن العقد، فكيف يوصفن؟ وأما الرجل فأمره ظاهر،
ج/ 29 ص -356-يراه من يشاء فليس فيه عيب يوجب الرد، والمرأة إذا فرط الزوج فالطلاق بيده.
وسئل رحمه الله عن رجل ابتاع عبدًا بشرط الإبراء من سائر العيوب، خلا الإباق، فلما ابتاعه هرب عنه، فما يلزم البائع؟
فأجاب:
إن كان مقرًا بالإباق قبل البيع، فهذا عيب يستحق الرد. وإذا كان البائع قد كتم هذا العيب حتي أبق عند المشتري، فإن المشتري في أحد القولين يطالبه، بجميع الثمن، كما هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، بل هو المنصوص.