ج/ 28 ص -468- وسئل شيخ الإسلام تقى الدين عمن يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويعتقدون أن الإمام الحق بعد رسول الله ﷺ هو على ابن أبى طالب، وأن رسول الله ﷺ نص على إمامته، وأن الصحابة ظلموه ومنعوه حقه، وأنهم كفروا بذلك، فهل يجب قتالهم؟ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله.
فلو قالوا: نصلى ولا نزكى، أو نصلى الخمس ولا نصلى الجمعة ولا الجماعة، أو نقوم بمبانى الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، أو نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله ﷺ ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه، أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين، وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة،
ج/ 28 ص -469- أو قالوا: إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين، أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله ﷺ وسنته، وما عليه جماعة المسلمين، فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها، كما جاهد المسلمون مانعى الزكاة، وجاهدوا الخوارج وأصنافهم، وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام.
وذلك لأن الله تعالى يقول فى كتابه: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه" [الأنفال: 39]. فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى: "فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ" [التوبة: 5]، فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر، وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ" [البقرة: 278، 279]، فقد أخبر تعالى أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله، والربا آخر ما حرم الله فى القرآن، فما حرمه قبله أوكد. وقال تعالى: "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ" [المائدة: 33].
ج/ 28 ص -470- فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول فى طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله، ومن عمل فى الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى فى الأرض فسادًا؛ ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة، حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال، وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين فى الأرض فسادًا. وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه، ويقرون بالإيمان بالله ورسوله.
فالذى يعتقد حل دماء المسلمين، وأموالهم، ويستحل قتالهم، أولى بأن يكون محاربًا لله ورسوله، ساعيًا فى الأرض فسادًا من هؤلاء. كما أن الكافر الحربى الذى يستحل دماء المسلمين وأموالهم، ويرى جواز قتالهم، أولى بالمحاربة من الفاسق الذى يعتقد تحريم ذلك. وكذلك المبتدع الذى خرج عن بعض شريعة رسول الله ﷺ وسنته، واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله ﷺ وشريعته، وأموالهم، هو أولى بالمحاربة من الفاسق وإن اتخذ ذلك دينًا يتقرب به إلى الله. كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينًا تتقرب به إلى الله.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التى يعتقد أصحابها أنها ذنوب. وبذلك مضت سنة رسول الله
ج/ 28 ص -471- ﷺ؛ حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة، وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم، والصلاة خلفهم مع ذنوبهم، وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله، ونهى عن لعنته، وأخبر عن ذى الخويصرة وأصحابه مع عبادتهم وورعهم أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وقد قال تعالى فى كتابه: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء: 65].
فكل من خرج عن سنة رسول الله ﷺ وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضي بحكم رسول الله ﷺ فى جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى فى قلوبهم حرج من حكمه. ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة.
وبذلك جاءت سنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه الراشدين. ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال: لما توفى رسول الله ﷺ، وارتد من ارتد من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم
ج/ 28 ص -472- وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"؟ فقال أبو بكر: ألم يقل: "إلا بحقها"؟! فإن الزكاة من حقها. والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق. فاتفق أصحاب رسول الله ﷺ على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا امتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم.
وهذا الاستنباط من صِدِّيق الأمة قد جاء مصرحًا به. ففى الصحيحين عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، فأخبر ﷺ أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات.
وهذا مطابق لكتاب الله. وقد تواتر عن النبى ﷺ من وجوه كثيرة، وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه، ذكرها مسلم فى صحيحه، وأخرج منها البخارى غير وجه. وقال الإمام أحمد رحمه الله: صح الحديث فى الخوارج من عشرة أوجه. قال ﷺ: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه
ج/ 28 ص -473- مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل"، وفى رواية: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"، وفى رواية: "شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه".
وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب ومن معه من أصحاب رسول الله ﷺ، قاتلهم بحرورى لما خرجوا عن السنة والجماعة، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم؛ فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب، وأغاروا على ماشية المسلمين. فقام أمير المؤمنين على بن أبى طالب وخطب الناس، وذكر الحديث، وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال، فاستحل قتالهم، وفرح بقتلهم فرحًا عظيمًا، ولم يفعل فى خلافته أمرًا عامًا كان أعظم عنده من قتال الخوارج. وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين، حتى كفروا عثمان وعليا. وكانوا يعملون بالقرآن فى زعمهم، ولا يتبعون سنة رسول الله ﷺ التى يظنون أنها تخالف القرآن. كما يفعله سائر أهل البدع مع كثرة عبادتهم وورعهم.
وقد ثبت عن على فى صحيح البخارى وغيره، من نحو ثمانين وجهًا، أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر. وثبت عنه
ج/ 28 ص -474- أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية. وروى عنه بأسانيد جيدة أنه قال: لا أوتى بأحد يفضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى. وعنه أنه طَلَب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر برجل فَضله على أبى بكر أن يجلد لذلك. وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عَسْل؛ لما ظن أنه من الخوارج: لو وجدتك محلوقًا لضربت الذى فيه عيناك.
فهذه سنة أمير المؤمنين على وغيره، قد أمر بعقوبة الشيعة؛ الأصناف الثلاثة، وأخفهم المفَضِّلة. فأمر هو وعمر بجلدهم. والغالية يقتلون باتفاق المسلمين، وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة فى على وغيره، مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم: بيت صاد، وبيت سين، ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع، أو ينكرون القيامة، أو ينكرون ظواهر الشريعة، مثل الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت الحرام، ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم، وكتمان أسرارهم، وزيارة شيوخهم. ويرون أن الخمر حلال لهم، ونكاح ذوات المحارم حلال لهم.
فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى، فإن لم يظهر
ج/ 28 ص -475- عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم فى الدرك الأسفل من النار، ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرًا. فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة، ولا يحل نكاح نسائهم، ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم مرتدون من شر المرتدين. فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون، كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب، وإذا كانوا فى قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة، وألزموا بشرائع الإسلام التى تجب على المسلمين.
وليس هذا مختصًا بغالية الرافضة، بل من غلا فى أحد من المشايخ، وقال: إنه يرزقه، أو يسقط عنه الصلاة أو أن شيخه أفضل من النبى، أو أنه مستغن عن شريعة النبى ﷺ، وأن له إلى الله طريقًا غير شريعة النبى ﷺ، أو أن أحدًا من المشايخ يكون مع النبى ﷺ كما كان الخضر مع موسى.
وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين، وقتل الواحد المقدور عليه منهم.
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة،فقد روى عنهما أعنى: عمر وعلى قتلهما أيضًا. والفقهاء وإن تنازعوا فى قتل الواحد
ج/ 28 ص -476- المقدور عليه من هؤلاء، فلم يتنازعوا فى وجوب قتالهم إذا كانوا ممتنعين؛ فإن القتال أوسع من القتل، كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة، وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به.
وهذه النصوص المتواترة عن النبى ﷺ فى الخوارج، قد أدخل فيها العلماء لفظًا أو معنى من كان فى معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله ﷺ وجماعة المسلمين، بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية، مثل الخرمية، والقرامطة، والنصيرية، وكل من اعتقد فى بشر أنه إله، أو فى غير الأنبياء أنه نبى، وقاتل على ذلك المسلمين فهو شر من الخوارج الحرورية.
والنبى ﷺ إنما ذكر الخوارج الحرورية؛ لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده، بل أولهم خرج فى حياته. فذكرهم لقربهم من زمانه، كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها فى ذلك الزمان، مثل قوله: "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" [الإسراء: 31]، وقوله: "مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" [المائدة: 54]، ونحو ذلك. ومثل تعيين النبى ﷺ قبائل من الأنصار، وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميم وأسد وغطفان وغيرهم بأحكام؛ لمعان قامت به، وكل من وجدت فيه تلك المعانى ألحق بهم؛ لأن
ج/ 28 ص -477- التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم، بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم؛ هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم.
وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرًا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم؛ فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليًا، وأتباع عثمان وعلى فقط، دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك.
والرافضة كَفَّرتْ أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكَفَّروا جماهير أمة محمد ﷺ من المتقدمين والمتأخرين.
فيُكفِّرون كلَّ من اعتقد فى أبى بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة، أو تَرضي عنهم كما رضي الله عنهم، أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم؛ ولهذا يكفرون أعلام الملة، مثل سعيد بن المسيب، وأبى مسلم الخولانى، وأويس القرنى، وعطاء بن أبى رباح، وإبراهيم النَّخَعِى، ومثل مالك والأوزاعى، وأبى حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والثورى، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وفضيل بن عياض، وأبى سليمان الدارانى، ومعروف الكرخى، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التسترى، وغير هؤلاء. ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور، كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك،
ج/ 28 ص -478- وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو، والعامة وأهل الحديث. ويرون فى أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم، وأن المائعات التى عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة، ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى؛ لأن أولئك عندهم كفار أصليون، وهؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلى.
ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فيعاونون التتار على الجمهور. وهم كانوا من أعظم الأسباب فى خروج جنكزخان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام، وفى قدوم هولاكو إلى بلاد العراق، وفى أخذ حلب، ونهب الصالحية، وغير ذلك، بخبثهم ومكرهم؛ لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم.
وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر فى النوبة الأولى. وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين. وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين، والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر، وكذلك لما فتح المسلمون الساحل عكة وغيرها ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم. وكل هذا الذى وصفت بعض أمورهم، وإلا فالأمر أعظم من ذلك.
ج/ 28 ص -479- وقد اتفق أهل العلم بالأحوال: أن أعظم السيوف التى سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها، وأعظم الفساد الذى جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة، إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم.
فهم أشد ضررًا على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية؛ ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة. فليس فى الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبًا ولا أكثر تصديقًا للكذب وتكذيبًا للصدق منهم، وسيما النفاق فيهم أظهر منه فى سائر الناس، وهى التى قال فيها النبى ﷺ: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"، وفى رواية: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال؛ ولهذا يستعملون التقية التى هى سيما المنافقين واليهود، ويستعملونها مع المسلمين "يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" [الفتح: 11]، ويحلفون ما قالوا وقد قالوا، ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه.
وقد أشبهوا اليهود فى أمور كثيرة، لاسيما السامرة من اليهود؛ فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف، يشبهونهم فى دعوى الإمامة فى
ج/ 28 ص -480- شخص أو بطن بعينه، والتكذيب لكل من جاء بحق غيره يدعونه، وفى اتباع الأهواء أو تحريف الكلم عن مواضعه، وتأخير الفطر، وصلاة المغرب، وغير ذلك، وتحريم ذبائح غيرهم.
ويشبهون النصارى فى الغلو فى البشر والعبادات المبتدعة، وفى الشرك، وغير ذلك.
وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين، وهذه شيم المنافقين، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [المائدة: 51]، وقال تعالى: "تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" [المائدة: 80، 81]. وليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة، وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين، ولا الصلاة خلفهم، ولا طاعتهم فى طاعة الله، ولا تنفيذ شىء من أحكامهم؛ لاعتقادهم أن ذلك لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم. ويرون أن المعصوم قد دخل فى السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، وهو إلى الآن لم يخرج، ولا رآه أحد، ولا علَّم أحدًا دينًا، ولا
ج/ 28 ص -481- حصل به فائدة، بل مضرة. ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به، ولا يكون مؤمنًا إلا من آمن به، ولا يدخل الجنة إلا أتباعه، مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادى، أو من استحوذ عليهم بالباطل، مثل ابن العود ونحوه، ممن قد كتب خطه مما ذكرناه من المخازى عنهم، وصرح بما ذكرناه عنهم، وبأكثر منه.
وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التى فى الكتاب والسنة، وكل من آمن بقدر الله وقضائه،فآمن بقدرته الكاملة،ومشيئته الشاملة،وأنه خالق كل شىء.
وأكثر محققيهم عندهم يرون أن أبا بكر وعمر، وأكثر المهاجرين والأنصار، وأزواج النبى ﷺ مثل عائشة وحفصة، وسائر أئمة المسلمين وعامتهم، ما آمنوا بالله طرفة عين قط؛ لأن الإيمان الذى يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلاً من أصله، كما يقوله بعض علماء السنة. ومنهم من يرى أن فرج النبى ﷺ الذى جامع به عائشة وحفصة لابد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم؛ لأن وطء الكوافر حرام عندهم.
ومع هذا يردون أحاديث رسول الله ﷺ الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخارى ومسلم، ويرون أن
ج/ 28 ص -482- شعر شعراء الرافضة، مثل الحميرى، وكوشيار الديلمى، وعمارة اليمنى خيرًا من أحاديث البخارى ومسلم. وقد رأينا فى كتبهم من الكذب والافتراء على النبى ﷺ وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب فى كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل.
وهم مع هذا يعطلون المساجد التى أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة، ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد. وقد لعن رسول الله ﷺ من اتخذ المساجد على القبور، ونهى أمته عن ذلك. وقال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك". ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات، حتى إن من مشائخهم من يفضلها على حج البيت الذى أمر الله به ورسوله. ووصف حالهم يطول.
فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج. وهذا هو السبب فيما شاع فى العرف العام: أن أهل البدع هم الرافضة. فالعامة شاع عندها أن ضد السنى هو الرافضى فقط؛ لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله ﷺ وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء.
ج/ 28 ص -483- وأيضا، فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم، وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذى لا وجود له. فمستند الخوارج خير من مستندهم.
وأيضا، فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال، وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله. وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ؛ فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية، وطلب أن يفسد الإسلام، كما فعل بولص النصرانى، الذى كان يهوديا فى إفساد دين النصارى.
وأيضا، فغالب أئمتهم زنادقة، إنما يظهرون الرفض؛ لأنه طريق إلى هدم الإسلام، كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان فى زمن المعتصم مع بابك الخرمى، وكانوا يسمون [الخرمية] و[المحمرة]. و[القرامطة الباطنية] الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك، وأخذوا الحجر الأسود، وبقى معهم مدة، كأبى سعيد الجنابى وأتباعه. والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر، وبنوا القاهرة، وادعوا أنهم فاطميون، مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريؤون من نسب رسول الله ﷺ، وأن نسبهم متصل
بالمجوس واليهود، واتفاق أهل العلم بدين رسول الله ﷺ أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى، بل الغالية الذين يعتقدون
ج/ 28 ص -484- إلهية على والأئمة. ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة، الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك.
وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك، لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى؛ ولهذا كان ملك الكفار [هولاكو] يقرر أصنامهم.
وأيضا، فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد، وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد.
وأما ذكر المستفتى أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد ﷺ. فهذا عين الكذب، بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه إلا الله؛ فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه، وتارة يكذبون بمعانى التنزيل. وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم يعلم كل أحد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا ﷺ.
فإن الله قد ذكر فى كتابه من الثناء على الصحابة والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته. وذكر فى كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولى الأمر ما هم خارجون عنه. وذكر فى كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون. وذكر فى كتابه من النهى عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون
ج/ 28 ص -485- عنه. وذكر فى كتابه من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم، وتحريم الغيبة والهمز، واللمز، ما هم أعظم الناس استحلالا له. وذكر فى كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف والنهى عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه. وذكر فى كتابه من طاعة رسول الله ﷺ ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه. وذكر فى كتابه من حقوق أزواجه ما هم برآء منه. وذكر فى كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه. فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث؛ لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التى اتخذت أوثانا من دون الله. وهذا باب يطول وصفه.
وقد ذكر فى كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به. وذكر فى كتابه من قصص الأنبياء والنهى عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به. وذكر فى كتابه من أنه على كل شىء قدير، وأنه خالق كل شىء، وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما هم كافرون به. ولا تحتمل الفتوى إلا الإشارة المختصرة.
ومعلوم قطعا أن إيمان الخوارج بما جاء به محمد ﷺ أعظم من إيمانهم. فإذا كان أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه قد قتلهم ونهب عسكره ما فى عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال، فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم، كما أخذ أمير المؤمنين علي بن
ج/ 28 ص -486- أبى طالب أموال الخوارج.
ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ، كقتال أمير المؤمنين على بن أبى طالب لأهل الجمل وصفين، فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام، وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها.
فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التى يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك، وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله ﷺ وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية، وليس لهم تأويل سائغ؛ فإن التأويل السائغ هو الجائز الذى يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب، كتأويل العلماء المتنازعين فى موارد الاجتهاد. وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعى الزكاة، والخوارج، واليهود، والنصارى. وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء.
ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه المسائل فى مختصراتهم.
وكثير من الأئمة المصنفين فى الشريعة لم يذكروا فى مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية، كمانعى الزكاة والخوارج ونحوهم، إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام، كأهل
ج/ 28 ص -487- الجمل وصفين. وهذا غلط، بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين، كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه، والسنة، والحديث، والتصوف، والكلام وغيرهم.
وأيضا، فقد جاءت النصوص عن النبى ﷺ بما يشملهم وغيرهم، مثل ما رواه مسلم فى صحيحه، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبية، ويقاتل للعصبية، فليس منى، ومن خرج على أمتى يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يبقى لذى عهدها فليس منى"، فقد ذكر ﷺ البغاة الخارجين عن طاعة السلطان، وعن جماعة المسلمين، وذكر أن أحدهم إذا مات، مات ميتة جاهلية، فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة، بل كل طائفة تغالب الأخرى. ثم ذكر قتال أهل العصبية، كالذين يقاتلون على الأنساب مثل قيس ويمن، وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته، ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم، وذكر أن من فعل هذا فليس منه.
وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها. فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة، يقتلون المؤمن والمعاهد، لا يرون لأحد من ولاة
ج/ 28 ص -488- المسلمين طاعة سواء كان عدلا أو فاسقا، إلا لمن لا وجود له. وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوى الأنساب، وهى العصبية للدين الفاسد، فإن فى قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس فى قلب أحد. وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله، مستقدمهم، ومستأخرهم. وأمثلهم عندهم الذى لا يلعن ولا يستغفر.
وأما خروجهم يقتلون المؤمن والمعاهد، فهذا أيضا حالهم، مع دعواهم أنهم هم المؤمنون وسائر الأمة كفار. وروى مسلم فى صحيحه عن محمد بن شريح قال:قال رسول الله ﷺ: "إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان"، وفى لفظ: "فاقتلوه"، وفى لفظ: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه".
وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين؛ فإنهم لا يقرون لولى أمر بطاعة، سواء كان عدلا أو فاسقا، ولا يطيعونه لا فى طاعة ولا فى غيرها، بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور، كالخلفاء الراشدين، والعلماء المسلمين، ومشائخهم، لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذى لا وجود له فما آمن
ج/ 28 ص -489- بالله ورسوله.
وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء، لاشتمال مذاهبهم على شر مما اشتملت عليه مذاهب الخوارج؛ وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجاً عن السنة والجماعة، مع وجود بقية الخلفاء الراشدين، وبقايا المهاجرين والأنصار، وظهور العلم والإيمان، والعدل فى الأمة، وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة، وسلطان القدرة، حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة.
وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلى ومن معهما من الأنواع التى فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك، وجعلوا موارد الاجتهاد، بل الحسنات ذنوبا، وجعلوا الذنوب كفرا؛ ولهذا لم يخرجوا فى زمن أبى بكر وعمر؛لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم.
ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف؛ فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية، والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها. كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبى ﷺ كانت أفضل. فالسنن ضد البدع، فكل ما قرب منه ﷺ مثل سيرة أبى بكر وعمر، كان أفضل مما
ج/ 28 ص -490- تأخر كسيرة عثمان وعلى، والبدع بالضد، كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه، وأقربها من زمنه الخوارج. فإن التكلم ببدعتهم ظهر فى زمانه، ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا فى خلافة أمير المؤمنين على رضي الله عنه.
ثم ظهر فى زمن على التكلم بالرفض، لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين رضي الله عنه بل لم يظهر اسم الرفض إلا حين خروج زيد بن على بن الحسين بعد المائة الأولى لما أظهر الترحم على أبى بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة فسموا [رافضة]، واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم. واتبعه آخرون فسموا [زيدية] نسبة إليه.
ثم فى أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة، فردها بقايا الصحابة، كابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبى سعيد، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم، ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك.
ثم فى أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية نفاة الصفات ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية فى إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون؛ فإنه أظهر التجهم، وامتحن الناس عليه، وعرب كتب
ج/ 28 ص -491- الأعاجم، من الروم، واليونانيين، وغيرهم. وفى زمنه ظهرت [الخرمية] وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام، وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة، والباطنية، والإسماعيلية. وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض فى الظاهر. وصارت الرافضة الإمامية فى زمن بنى بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة، فيهم الخروج، والرفض، والقدر، والتجهم.
وإذا تأمل العالم ما ناقضوه من نصوص الكتاب والسنة لم يجد أحدا يحصيه إلا الله. فهذا كله يبين أن فيهم ما فى الخوارج الحرورية وزيادات.
وأيضا، فإن الخوارج الحرورية كانوا ينتحلون اتباع القرآن بآرائهم، ويدعون اتباع السنن التى يزعمون أنها تخالف القرآن. والرافضة تنتحل اتباع أهل البيت، وتزعم أن فيهم المعصوم الذى لا يخفى عليه شىء من العلم، ولا يخطئ، لا عمدا، ولا سهوا، ولا رشدا. واتباع القرآن واجب على الأمة، بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذى بعث به رسوله، وكذلك أهل بيت رسول الله ﷺ، تجب محبتهم، وموالاتهم، ورعاية حقهم. وهذان الثقلان اللذان وصى بهما رسول الله ﷺ. فروى مسلم فى صحيحه، عن زيد بن أرقم قال:خطبنا رسول الله ﷺ بغَدِير يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فقال :"يا أيها الناس، إنى تارك فيكم الثقلين وفى رواية:أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله فيه الهدى
ج/ 28 ص -492- والنور" فرغب فى كتاب الله، وفى رواية: "هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، وعترتى أهل بيتى. أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى". فقيل لزيد بن أرقم: مَنْ أهلُ بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة، آل العباس، وآل على، وآل جعفر، وآل عقيل.
والنصوص الدالة على اتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا. وقد روى عن النبى ﷺ من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته: "والذى نفسى بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلى"، وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد، وطهرهم من الصدقة التى هى أوساخ الناس، وجعل لهم حقا فى الخمس والفىء، وقال ﷺ فيما ثبت فى الصحيح: "إن الله اصطفى بنى إسماعيل، واصطفى كنانة من بنى إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بنى هاشم من قريش، واصطفانى من بنى هاشم، فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا". ولو ذكرنا ما روى فى حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب، فإن دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة.
ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة، وتبرؤوا من الناصبة الذين يكفرون على بن أبى طالب ويفسقونه،
ج/ 28 ص -493- ويتنقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك، أو يعرض عن حقوقهم الواجبة، أو يغلو فى تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق. وتبرؤوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين، ويكفرون عامة صالحى أهل القبلة. وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك، كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج، وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين، لكن القرآن أعظم.
فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض، مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله، ومخالفة لصحابته وقرابته، ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته.
وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فى إجماع الخلفاء، وفى إجماع العترة هل هو حجة يجب اتباعها؟ والصحيح أن كليهما حجة؛ فإن النبى ﷺ قال: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ". وهذا حديث صحيح فى السنن. وقال ﷺ: "إنى تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتى، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض". رواه الترمذى وحسنه، وفيه نظر. وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية فى زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة.
ج/ 28 ص -494- والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم هم شر من الخوارج الذين نص النبى ﷺ على قتالهم ورغب فيه. وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته. ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول ﷺ شمل الجميع، ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى أو من باب كونهم فى معناهم. فإن الحديث روى بألفاظ متنوعة، ففى الصحيحين واللفظ للبخارى عن على ابن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال:إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ حديثا، فوالله لأن أخر من السماء أحب إلىَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بينى وبينكم، فإن الحرب خدعة، وإنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: "سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة". وفى صحيح مسلم: عن زيد بن وهب أنه كان فى الجيش الذين كانوا مع على رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج. فقال على: يا أيها الناس، إنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشىء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشىء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشىء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم،
ج/ 28 ص -495- لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدى عليه شعرات بيض". والله إنى لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا فى سرح الناس، فسيروا على اسم الله. وذكر الحديث إلى آخره.
وفى مسلم أيضا عن عبد الله بن رافع كاتب على رضي الله عنه أن الحرورية لما خرجت وهو مع على قالوا: لا حكم إلا لله. فقال على: كلمة حق أريد بها باطل. إن رسول الله ﷺ وصف ناسا إنى لأعرف صفتهم فى هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه من أبغض خلق الله إليه،منهم رجل أسود إحدى يديه طِبْى شاة أو حلمة ثدى. فلما قتلهم على بن طالب قال: انظروا. فنظروا فلم يجدوا شيئاً. فقال: ارجعوا، فوالله ما كذبت ولا كُذِبت مرتين أو ثلاثا ثم وجدوه فى خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه.
وهذه العلامة التى ذكرها النبى ﷺ هى علامة أول من يخرج منهم، ليسوا مخصوصين بأولئك القوم، فإنه قد أخبر
ج/ 28 ص -496- فى غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال. وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر.
وأيضا، فالصفات التى وصفها تعم غير ذلك العسكر؛ ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا، مثل ما فى الصحيحين، عن أبى سلمة، وعطاء بن يسار: أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية: هل سمعت رسول الله ﷺ يذكرها؟ قال: لا أدرى، ولكن رسول الله ﷺ يقول: "يخرج فى هذه الأمة ولم يقل: منها قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أو حلوقهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر الرامى إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى فى الفوقة هل علق بها شىء من الدم". اللفظ لمسلم. وفى الصحيحين أىضا عن أبى سعيد، قال: بينما النبى ﷺ يقسم جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمى وفى رواية: أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: "ويلك! من يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل؟". قال عمر بن الخطاب: ائذن لى فأضرب عنقه. قال: "دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شىء،
ج/ 28 ص -497- ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شىء، قد سبق الفرث والدم". وذكر ما فى الحديث.
فهؤلاء أصل ضلالهم: اعتقادهم فى أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم. ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفراً. ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها.
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، فى كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام، حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية، وفى الصحيحين فى حديث أبى سعيد: "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"، وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم؛ فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره. وفى حديث أبى سعيد: أن النبى ﷺ ذكر قوما يكونون فى أمته: "يخرجون فى فرقة من الناس، سيماهم التحليق". قال: "هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق". وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم.
ج/ 28 ص -498- وأخرجا فى الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى، ورواه البخارى من حديث عبد الله بن عمر، ورواه مسلم من حديث أبى ذر، ورافع بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وغيرهم، وروى النسائى عن أبى بَرْزَة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله ﷺ يذكر الخوارج؟ قال: نعم. سمعت رسول الله ﷺ بأذنى، ورأيته بعينى، إن رسول الله ﷺ أتى بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه، ومن عن شماله، ولم يعط من وراءه شيئاً. فقام رجل من ورائه، فقال: يا محمد، ما عدلت فى القسمة رجل أسود مطموم الشعر، عليه ثوبان أبيضان فغضب رسول الله ﷺ غضبا شديدا، وقال له: "والله لا تجدون بعدى رجلا هو أعدل منى"، ثم قال: "يخرج فى آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة ". وفى صحيح مسلم، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر، قال: قال رسول الله ﷺ: "إن بعدى من أمتى أو سيكون بعدى من أمتى قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة". قال ابن الصامت: فلقيت
ج/ 28 ص -499- رافع بن عمرو الغفارى أخا الحكم بن عمرو الغفارى، قلت: ما حديث سمعته من أبى ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله ﷺ.
فهذه المعانى موجودة فى أولئك القوم الذين قتلهم على رضي الله عنه وفى غيرهم. وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله ﷺ، مثل ما يقال: إن النبى ﷺ قاتل الكفار، أى: قاتل جنس الكفار، وإن كان الكفر أنواعا مختلفة، وكذلك الشرك أنواع مختلفة، وإن لم تكن الآلهة التى كانت العرب تعبدها هى التى تعبدها الهند والصين والترك، لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه.
وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان فى معنى أولئك، ويجب قتالهم بأمر النبى ﷺ، كما وجب قتال أولئك. وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة، وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير.
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج، كالحرورية، والرافضة، ونحوهم فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم، كالداعية إلى مذهبه، ونحو ذلك ممن فيه
ج/ 28 ص -500- فساد. فإن النبى ﷺ قال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم"، وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد". وقال عمر لصَبِيع بن عَسْل: لو وجدتك محلوقا لضربت الذى فيه عيناك. ولأن على بن أبى طالب طلب أن يقتل عبد الله ابن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين فى الأرض. فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا، ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول، أو كان فى قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبى ﷺ قتل ذلك الخارجى ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام؛ ولهذا ترك على قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقاً كثيراً، وكانوا داخلين فى الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة، ولم يكن يتبين له أنهم هم.
وأما تكفيرهم وتخليدهم، ففيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد. والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التى يقولونها التى يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التى هى من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هى كفر أيضا. وقد ذكرت دلائل ذلك فى غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده فى النار، موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه.فإنا نطلق
ج/ 28 ص -501-القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذى لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة فى "قاعدة التكفير".
ولهذا لم يحكم النبى ﷺ بكفر الذى قال: إذا أنا مت فأحرقونى، ثم ذرونى فى اليم، فوالله لأن قدر الله علىَّ ليعذبنى عذابا لا يعذبه أحداً من العالمين، مع شكه فى قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفر من قامت عليه الحجة التى يكفر تاركها، دون غيره. والله أعلم.