فصل "غزوة الخندق وتفسير سورة الأحزاب"
فإذًا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق. فإذا قرأ الإنسان [سورة الأحزاب] وعرف من المنقولات فى الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازى، كيف كانت صفة الواقعة التى نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك، وجد مصداق ما ذكرنا. وأن الناس انقسموا فى هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة. كما انقسموا فى تلك. وتبين له كثير من المتشابهات.
ج/ 28 ص -441- افتتح الله السورة بقوله:"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ" [الأحزاب: 1]، وذكر فى أثنائها قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ" [الأحزاب:47، 48]، ثم قال: "وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا" [الأحزاب: 2، 3]. فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة التى هى سنته وبأن يتوكل على الله. فبالأولى يحقق قوله: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ"، وبالثانية يحقق قوله: "إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". ومثل ذلك قوله: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود: 123]، وقوله: "عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [الشورى: 10].
وهذا وإن كان مأمورا به فى جميع الدين، فإن ذلك فى الجهاد أوكد؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين، وذلك لا يتم إلا بتأييد قوى من الله؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة. ففيه سنام المحبة، كما فى قوله: "فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ" [المائدة: 54]. وفيه سنام التوكل، وسنام الصبر، فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ولهذا قال تعالى:"وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" [النحل: 41، 42]، وقال:
ج/ 28 ص -442-"قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" [الأعراف: 128].
ولهذا كان الصبر واليقين اللذان هما أصل التوكل يوجبان الإمامة فى الدين، كما دل عليه قوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" [السجدة: 24].
ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التى هى محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" [العنكبوت: 69]. فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس فى شىء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله يقول: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" وفى الجهاد أيضا:حقيقة الزهد فى الحياة الدنيا، وفى الدار الدنيا.
وفيه أيضا: حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن جاهد فى سبيل الله، لا فى سبيل الرياسة، ولا فى سبيل المال، ولا فى سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هى العليا.
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال
ج/ 28 ص -443- تعالى:"إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ" [التوبة: 111]. و"الجَنَّةَ" اسم للدار التى حوت كل نعيم. أعلاه النظر إلى الله، إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، مما قد نعرفه وقد لا نعرفه، كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله ﷺ: "أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا.
ثم إنه تعالى قال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا" [الأحزاب: 9].
وكان مختصر القصة: أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاؤوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بنى أسد، وأشجع، وفزارة، وغيرهم من قبائل نجد. واجتمعت أيضا اليهود، من قريظة، والنضير. فإن بنى النضير كان النبى ﷺ قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله تعالى فى [سورة الحشر]. فجاؤوا فى الأحزاب إلى قريظة وهم معاهدون للنبى ﷺ، ومجاورون له، قريبًا من
ج/ 28 ص -444- المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا فى الأحزاب. فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة. فرفع النبى ﷺ الذرية من النساء والصبيان فى آطام المدينة، وهى مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر. وجعل ظهرهم إلى سلع وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام وجعل بينه وبين العدو خندقا. والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة. وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات.
وفى هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغل وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة، ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم. ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين. ومقصودهم الاستيلاء على الدار، واصطلام أهلها. كما نزل أولئك بنواحى المدينة بإزاء المسلمين.
ودام الحصار على المسلمين عام الخندق على ما قيل: بضعا وعشرين ليلة. وقيل: عشرين ليلة.
وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول
ج/ 28 ص -445- انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه؛ يوم الاثنين حادى أو ثانى عشر جمادى الأولى، يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة. واجتمع بهم الداعى، وخاطبهم فى هذه القضية. وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى فى قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم: ألقى الله فى قلوب عدوهم الروع والانصراف.
وكان عام الخندق برد شديد، وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا" [الأحزاب: 9].
وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات حتى كره أكثر الناس ذلك. وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة. وكان ذلك من أعظم الأسباب التى صرف الله به العدو؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله. وهلك أيضًا منهم من شاء الله. وظهر فيهم وفى بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغنى عن بعض كبار المقدمين فى أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا، أعدونا فى الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدًا للمسلمين، لو يصطادونهم، لكن فى تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة.
ج/ 28 ص -446-وقال الله فى شأن الأحزاب:"إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا" [الأحزاب: 10، 11].
وهكذا هذا العام. جاء العدو من ناحيتى علو الشام وهو شمال الفرات وهو قبلى الفرات فزاغت الأبصار زيغًا عظيمًا، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو، وتوجهه إلى دمشق. وظن الناس بالله الظنونا. هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام. وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها. وهذا إذا أحسن ظنه قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو، سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام. وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية، وأهل التحديث والمبشرات أمانى كاذبة، وخرافات لاغية. وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب، ليس له عقل
ج/ 28 ص -447- يتفهم، ولا لسان يتكلم.
وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب. ولا يميز فى التحديث بين المخطئ والصائب. ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدى لدفع ما يتخيل أنه معارض لها فى بادئ الروية.
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسمًا بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء، "هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا" [الأحزاب: 11]. ابتلاهم الله بهذا الابتلاء، الذى يكفر به خطيآتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات، ما استوجبوا به أعلى الدرجات. قال الله تعالى:"وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا" [الأحزاب: 12]. وهكذا قالوا فى هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية، والخلافة الرسالية، وحزب الله المحدثون عنه. حتى حصل لهؤلاء التأسى برسول الله ﷺ، كما قال الله تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [الأحزاب:21].
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم.
ج/ 28 ص -448- وأما الذين فى قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم فى هذه السورة، فذكروا هنا، وفى قوله: "لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ"[الأحزاب: 60]، وفى قوله: "فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ" [الأحزاب: 32].
وذكر الله مرض القلب فى مواضع، فقال تعالى: "إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ" [الأنفال: 49].
والمرض فى القلب كالمرض فى الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون فى القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال، من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته.
وذلك كما فسروه هو من ضعف الإيمان، إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته. فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك، كلها أمراض. وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التى فيه.
وعلى هذا فقوله: "فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ" [الأحزاب: 32] هو إرادة الفجور، وشهوة الزنا، كما فسروه به. ومنه قول النبى ﷺ:
ج/ 28 ص -449- "وأى داء أدوأ من البخل؟!".
وقد جعل الله تعالى كتابه شفاء لما فى الصدور، وقال النبى ﷺ: "إنما شفاء العِىِّ السؤال".
وكان يقول فى دعائه: "اللهم إنى أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء".
ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض فى قلبه، كما ذكروا أن رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال: لو صححت لم تخف أحدًا. أى: خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك؛ ولهذا أوجب الله على عباده ألا يخافوا حزب الشيطان، بل لا يخافون غيره تعالى فقال: "إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" [آل عمران: 175] أى: يخوفكم أولياءه. وقال لعموم بنى إسرائيل تنبيهًا لنا: "وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" [البقرة: 40].
وقال: "فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ" [المائدة: 44]. وقال: "لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي" [البقرة: 150]. وقال تعالى: "الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ" [المائدة: 3]. وقال: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ" [التوبة: 18]. وقال:
ج/ 28 ص -450-"الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ" [الأحزاب: 39]. وقال: "أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ" [التوبة: 13].
فدلت هذه الآية وهى قوله تعالى: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ" [الأحزاب: 12] على أن المرض والنفاق فى القلب يوجب الريب فى الأنباء الصادقة التى توجب أمن الإنسان من الخوف،حتى يظنوا أنها كانت غرورًا لهم، كما وقع فى حادثتنا هذه سواء.
ثم قال تعالى: "وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا" [الأحزاب: 13]، وكان النبى ﷺ قد عسكر بالمسلمين عند سَلْع، وجعل الخندق بينه وبين العدو. فقالت طائفة منهم: لا مقام لكم هنا؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة. وقيل: لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى دين الشرك. وقيل: لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم.
وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغى الدخول فى دولة التتار. وقال بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن، بل ننتقل عنها، إما إلى الحجاز واليمن، وإما إلى مصر. وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد
ج/ 28 ص -451- استسلم لهم أهل العراق، والدخول تحت حكمهم.
فهذه المقالات الثلاث قد قيلت فى هذه النازلة. كما قيلت فى تلك. وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين فى قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة: لا مقام لكم بهذه الأرض.
ونفى المقام بها أبلغ من نفى المقام. وإن كانت قد قرئت بالضم أيضًا. فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان، فكيف يقيم به؟!
قال الله تعالى: "وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا" [الأحزاب: 13].
وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون والناس مع النبى ﷺ عند سَلْع داخل الخندق، والنساء والصبيان فى آطام المدينة: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، أى: مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل وأصل العورة: الخالى الذى يحتاج إلى حفظ وستر. يقال: اعور مجلسك إذا ذهب ستره، أو سقط جداره. ومنه عورة العدو. وقال مجاهد والحسن: أى ضائعة تخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلى العدو، فلا نأمن على أهلنا، فائذن لنا أن
ج/ 28 ص -452- نذهب إليها؛لحفظ النساء والصبيان. قال الله تعالى:"وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ"؛ لأن الله يحفظها "إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا" فهم يقصدون الفرار من الجهاد، ويحتجون بحجة العائلة.
وهكذا أصاب كثيرًا من الناس فى هذه الغزاة. صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة، كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون فى ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم فى حصن دمشق، لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله ﷺ. وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله؟ قال الله تعالى: "وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا" [الأحزاب: 14]، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة وهى الافتتان عن الدين بالكفر، أو النفاق لأعطوا الفتنة، ولجاؤوها من غير توقف.
وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم. ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام وتلك فتنة عظيمة لكانوا معه على ذلك. كما ساعدهم فى العام الماضى أقوام بأنواع من الفتنة فى الدين والدنيا، ما بين ترك واجبات، وفعل محرمات، إما فى حق الله، وإما فى حق العباد. كترك الصلاة، وشرب
ج/ 28 ص -453- الخمور، وسب السلف، وسب جنود المسلمين، والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين، وحريمهم. وأخذ أموال الناس، وتعذيبهم، وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم، إلى غير ذلك من أنواع الفتنة.
ثم قال تعالى: "وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا" [الأحزاب: 15]، وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديمًا وحديثًا فى هذه الغزوة. فإن فى العام الماضى، وفى هذا العام فى أول الأمر كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر، ثم فر منهزمًا، لما اشتد الأمر.
ثم قال الله تعالى: "قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا" [الأحزاب: 16]، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل. فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون؛ ولذلك قال النبى ﷺ: "إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه". والفرار من القتل كالفرار من الجهاد. وحرف [لن] ينفى الفعل فى الزمن المستقبل. والفعل نكرة. والنكرة فى سياق النفى تعم جميع أفرادها. فاقتضى ذلك: أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدًا. وهذا خبر الله الصادق. فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله فى خبره.
ج/ 28 ص -454- والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن. فإن هؤلاء الذين فروا فى هذا العام لم ينفعهم فرارهم، بل خسروا الدين والدنيا، وتفاوتوا فى المصائب. والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك فى الدين والدنيا، حتى الموت الذى فروا منه كثر فيهم. وقل فى المقيمين. فما منع الهرب من شاء الله. والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد، ولا قتل، بل الموت قل فى البلد من حين خرج الفارون. وهكذا سنة الله قديمًا وحديثًا.
ثم قال تعالى: "وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا" [الأحزاب: 16]، يقول: لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة، ثم تموتون. فإن الموت لابد منه.وقد حكى عن بعض الحمقى أنه قال: فنحن نريد ذلك القليل. وهذا جهل منه بمعنى الآية. فإن الله لم يقل: إنهم يمتعون بالفرار قليلاً. لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدًا. ثم ذكر جوابًا ثانيًا: أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل. ثم ذكر جوابًا ثالثًا: وهو أن الفار يأتيه ما قضى له من المضرة، ويأتى الثابت ما قضى له من المسرة. فقال:"قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا" [الأحزاب: 17]. ونظيره قوله فى سياق آيات الجهاد: "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ" الآية [النساء: 78].
ج/ 28 ص -455-وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [آل عمران: 156]. فمضمون الأمر: أن المنايا محتومة، فكم ممن حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد لما احتضر: لقد حضرت كذا وكذا صفًا، وإن ببدنى بضعًا وثمانين، ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهاأنذا أموت على فراشى كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء.
ثم قال تعالى: "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا" [الأحزاب: 18]. قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك! اجلس فلا تخرج. ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن ائتونا بالمدينة، فإنا ننتظركم. يثبطونهم عن القتال. وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدًا. فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم. فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة. فانصرف بعضهم من عند النبى ﷺ، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ. فقال: أنت هاهنا، ورسول الله ﷺ بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إلىَّ، فقد أحيط بك وبصاحبك.
ج/ 28 ص -456- فوصف المثبطين عن الجهاد وهم صنفان بأنهم إما أن يكونوا فى بلد الغزاة، أو فى غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول، أو بالعمل، أو بهما. وإن كانوا فى غيره راسلوهم، أو كاتبوهم: بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة، ليكونوا معهم بالحصون، أو بالبعد. كما جرى فى هذه الغزاة.
فإن أقوامًا فى العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو، وأقوامًا بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم: هلم إلينا. قال الله تعالى فيهم: "وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ" [الأحزاب: 18، 19] أى: بخلاء عليكم بالقتال معكم، والنفقة فى سبيل الله. وقال مجاهد: بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة. وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله، من نصره ورزقه الذى يجريه بفعل غيره، فإن أقوامًا يشحون بمعروفهم، وأقوامًا يشحون بمعروف الله وفضله. وهم الحساد.
ثم قال تعالى: "فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" [الأحزاب: 19]، من شدة الرعب الذى فى قلوبهم، يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره ولا يطرف. فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل.
"فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ" [الأحزاب: 19]، ويقال فى اللغة:
ج/ 28 ص -457- [صلقوكم] وهو رفع الصوت بالكلام المؤذى. ومنه: [الصالقة] وهى التى ترفع صوتها بالمصيبة. يقال: صلقه، وسلقه وقد قرأ طائفة من السلف بها، لكنها خارجة عن المصحف إذا خاطبه خطابًا شديدًا قويًا. ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغًا فى خطبته، لكن الشدة هنا فى الشر لا فى الخير. كما قال: "بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ" [الأحزاب: 19]. وهذا السلق بالألسنة الحادة، يكون بوجوه:
تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذى جرى علينا بشؤمكم، فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.
وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا.
وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم، كما قال تعالى: "إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [الأنفال: 49].
وتارة يقولون: أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا
ج/ 28 ص -458- أنفسكم والناس معكم.
وتارة يقولون أنواعًا من الكلام المؤذى الشديد. وهم مع ذلك أشحة على الخير، أى: حراص على الغنيمة والمال الذى قد حصل لكم. قال قتادة: إن كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم. يقولون: أعطونا، فلستم بأحق بها منا. فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق. وأما عند الغنيمة فأشح قوم. وقيل: أشحة على الخير، أى: بخلاء به، لا ينفعون، لا بنفوسهم ولا بأموالهم.
وأصل الشح: شدة الحرص الذى يتولد عنه البخل والظلم، من منع الحق، وأخذ الباطل. كما قال النبى ﷺ: "إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمَرَهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا". فهؤلاء أشحاء على إخوانهم، أى: بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير، أى: حراص عليه. فلا ينفقونه، كما قال: "وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ" [العاديات: 8]، ثم قال تعالى: "يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا" [الأحزاب: 20].
فوصفهم بثلاثة أوصاف:
ج/ 28 ص -459-أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد. وهذه حال الجبان الذى فى قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.
الوصف الثانى: أن الأحزاب إذا جاؤوا تمنوا ألا يكونوا بينكم، بل يكونون فى البادية بين الأعراب، يسألون عن أنبائكم: إيش خبر المدينة؟ وإيش جرى للناس؟
والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلاً. وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس فى هذه الغزوة كما يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه منهم من خبرهم.
ثم قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" [الأحزاب: 21]، فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلى رسول الله ﷺ، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه. فليتأسوا به فى التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها، وإهانة له. فإنه لو كان كذلك ما ابتلى بها رسول الله ﷺ خير الخلائق بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك،
ج/ 28 ص -460- فيكون فى حقه عذابًا كالكفار والمنافقين.
ثم قال تعالى: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" [الأحزاب: 22]. قال العلماء: كان الله قد أنزل فى سورة البقرة: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ" [البقرة: 214]، فبين الله سبحانه منكرًا على من حسب خلاف ذلك أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم ب[البأساء]، وهى الحاجة والفاقة. و[الضراء] وهى الوجع والمرض. و[الزلزال] وهى زلزلة العدو.
فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا: "هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" [الأحزاب: 22]، وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال. وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانًا وتسليما لحكم الله وأمره. وهذه حال أقوام فى هذه الغزوة قالوا ذلك.
وكذلك قوله: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ" [الأحزاب: 23] أى: عهده الذى عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل، أو عاش. و[النحب]: النذر والعهد. وأصله من النحيب. وهو
ج/ 28 ص -461- الصوت. ومنه: الانتحاب فى البكاء، وهو الصوت الذى تكلم به فى العهد. ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق فى اللقاء ومن صدق فى اللقاء فقد يقتل صار يفهم من قوله: "قَضَى نَحْبَهُ" أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب: نذر الصدق فى جميع المواطن؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت. وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ" [الأحزاب: 23] أى: أكمل الوفاء. وذلك لمن كان عهده مطلقًا بالموت، أو القتل. "وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ" قضاءه، إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد. وأصل القضاء: الإتمام والإكمال.
"لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا" [الأحزاب: 24]. بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزى الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا فى إيمانهم، كما قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحجرات: 15] فحصر الإيمان فى المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون فى قولهم: آمنا، لا من قال، كما قالت الأعراب: "آمنا" [الحجرات: 14]، والإيمان لم يدخل فى قلوبهم، بل انقادوا واستسلموا. وأما المنافقون فهم بين أمرين: إما أن يعذبهم، وإما أن يتوب عليهم. فهذا حال الناس فى الخندق وفى هذه الغزاة.
ج/ 28 ص -462- وأيضًا، فإن الله تعالى ابتلى الناس بهذه الفتنة، ليجزى الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون، لينصروا الله ورسوله، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم. ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين؛ فإن منهم من ندم. والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها.
وقد ذكر أهل المغازى منهم ابن إسحاق أن النبى ﷺ قال فى الخندق: "الآن نغزوهم، ولا يغزونا"، فما غزت قريش ولا غطفان، ولا اليهود المسلمين بعدها، بل غزاهم المسلمون، ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة. كذلك إن شاء الله هؤلاء الأحزاب من المغل وأصناف الترك ومن الفرس، والمستعربة، والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام، الآن نغزوهم ولا يغزونا. ويتوب الله على من يشاء من المسلمين، الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم، ويحسن ظنهم بالإسلام، وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم. فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولى الأبصار، كما قال:"وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا" [الأحزاب: 25].
ج/ 28 ص -463- فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا ريح شديدة باردة وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرًا. إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين، فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم، والبرد الشديد، والريح العاصف، والجوع المزعج، ما الله به عليم.
وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التى وقعت فى هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة. وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة. وفيه لله حكمة وسر، فلا تكرهوه. فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده، حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل: سبب رحيلهم. وابتلى به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه. وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضى حلب: يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله فى قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه. فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو، جزاء منه، وبيانًا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل، وإن تباعدت الديار.
ج/ 28 ص -464- وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغل والكرج وألقى بينهم تباغضًا وتعاديًا، كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان، وبين اليهود. كما ذكر ذلك أهل المغازى. فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك، كما ذكره أهل المغازى، مثل عروة بن الزبير، والزهرى، وموسى بن عقبة، وسعيد بن يحيى الأموى، ومحمد بن عائذ، ومحمد بن إسحاق، والواقدى، وغيرهم.
ثم تبقى بالشام منهم بقايا، سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم، مضافاً إلى عسكر حماة وحلب، وما هنالك. وثبت المسلمون بإزائهم. وكانوا أكثر من المسلمين بكثير، لكن فى ضعف شديد وتقربوا إلى حماة، وأذلهم الله تعالى فلم يقدموا على المسلمين قط. وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم، فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار، كما جرى فى غزوة الخندق، حيث قتل على بن أبى طالب رضي الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامرى لما اقتحم الخندق، هو ونفر قليل من المشركين.
كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين. وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم. وساق المسلمون خلفهم فى آخر
ج/ 28 ص -465- النوبات،فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات.وبعضهم فى جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم، وخالطوهم، وأصاب المسلمون بعضهم. وقيل: إنه غرق بعضهم.
وكان عبورهم وخلو الشام منهم فى أوائل رجب، بعد أن جرى ما بين عبور قازان أولاً وهذا العبور رجفات ووقعات صغار، وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة؛ لأجل الغزاة، لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا. وثبت بإزائهم المقدم الذى بحماة، ومن معهم من العسكر، ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم، ونالوا أجرًا عظيمًا. وقد قيل: إنهم كانوا عدة كمانات، إما ثلاثة، أو أربعة. فكان من المقدر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقى فى قلوب عدوهم الرعب فيهربون، لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل [تيزين]
و[الفوعة] و[معرة مصرين] وغيرها ما لم يكونوا وطئوه فى العام الماضى.
وقيل: إن كثيرًا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم، لكن هؤلاء ظلمة، ومن أعان ظالمًا بلى به، والله تعالى يقول: "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" [الأنعام: 129].
وقد ظاهروهم على المسلمين الذين كفروا من أهل الكتاب،من
ج/ 28 ص -466- أهل [سيس] والأفرنج. فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهى الحصون ويقال للقرون: الصياصى ويقذف فى قلوبهم الرعب. وقد فتح الله تلك البلاد. ونغزوهم إن شاء الله تعالى فنفتح أرض العراق وغيرها، وتعلو كلمة الله ويظهر دينه؛ فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس. وخرجت عن سنن العادة. وظهر لكل ذى عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التى بارك فيها للعالمين بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم، وكر العدو كرة فلم يلو عن.. وخذل الناصرون فلم يلووا على... وتحير السائرون فلم يدروا من... ولا إلى... وانقطعت الأسباب الظاهرة. وأهطعت الأحزاب القاهرة، وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق.
فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة، وأساسًا
ج/ 28 ص -467- لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفى صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
قال الشيخ رحمه الله: كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر فى جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد. ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم، وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم. فكتبته فى رجب، والله أعلم. والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.