أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

رسالة ابن تيمية لما قدم التتار إلى حلب عسكر مصر وبقى عسكر الشام

    ج/ 28 ص -410- وكتب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه لما قدم العدو من التتار سنة تسع وتسعين وستمائة إلى حلب، وانصرف عسكر مصر، وبقي عسكر الشام‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم
    إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة، وأسبغ عليهم نعمه باطنة وظاهرة، ونصرهم نصرا عزيزا، وفتح عليهم فتحًا كبيرًا، وجعل لهم من لدنه سلطانًا نصيراً، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين إلى صراطه المستقيم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلى على صفوته من خليقته، وخيرته من بريته، محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
    أما بعد‏:‏ فإن الله عز وجل بعث محمدًا ﷺ بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدا، وجعله خاتم النبيين، وسيد ولد آدم من الناس أجمعين، وجعل كتابه الذي أنزله

    ج/ 28 ص -411- عليه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ فهم يوفون سبعين فرقة، هم خيرها وأكرمها على الله، وقد أكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا‏.‏ فليس دين أفضل من دينهم الذي جاء به رسولهم، ولا كتاب أفضل من كتابهم، ولا أمة خيرًا من أمتهم، بل كتابنا ونبينا وديننا وأمتنا أفضل من كل كتاب ودين ونبي وأمة‏.‏
    فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم،
    ‏"وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ‏"‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏، واحفظوا هذه التي بها تنالون نعيم الدنيا والآخرة، واحذروا أن تكونوا ممن بدل نعمة الله كفرًا، فتعرضون عن حفظ هذه النعمة ورعايتها، فيحيق بكم ما حاق بمن انقلب على عقبيه، واشتغل بما لا ينفعه من أمر الدنيا عما لا بد له منه من مصلحة دينه ودنياه، فخسر الدنيا والآخرة‏.‏
    فقد سمعتم ما نعت الله به الشاكرين والمنقلبين حيث يقول‏:
    ‏ ‏"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏ أنزل الله سبحانه هذه الآية وما قبلها وما بعدها في غزوة أحد،لما انكسر المسلمون مع النبي ﷺ،

    ج/ 28 ص -412- عليه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ فهم يوفون سبعين فرقة، هم خيرها وأكرمها على الله، وقد أكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا‏.‏ فليس دين أفضل من دينهم الذي جاء به رسولهم، ولا كتاب أفضل من كتابهم، ولا أمة خيرًا من أمتهم، بل كتابنا ونبينا وديننا وأمتنا أفضل من كل كتاب ودين ونبي وأمة‏.‏
    فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم،
    ‏"وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ‏"‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏، واحفظوا هذه التي بها تنالون نعيم الدنيا والآخرة، واحذروا أن تكونوا ممن بدل نعمة الله كفرًا، فتعرضون عن حفظ هذه النعمة ورعايتها، فيحيق بكم ما حاق بمن انقلب على عقبيه، واشتغل بما لا ينفعه من أمر الدنيا عما لا بد له منه من مصلحة دينه ودنياه، فخسر الدنيا والآخرة‏.‏
    فقد سمعتم ما نعت الله به الشاكرين والمنقلبين حيث يقول‏:
    ‏ ‏"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏ أنزل الله سبحانه هذه الآية وما قبلها وما بعدها في غزوة أحد،لما انكسر المسلمون مع النبي ﷺ،

    ج/ 28 ص -413- بقوم من النبيين الكذابين، كمسيلمة الكذاب، وطليحة الأسدي، وغيرهما، فقام إلى جهادهم الشاكرون، الذين ثبتوا على الدين، أصحاب رسول الله ﷺ، من المهاجرين والأنصار، والطلقاء، والأعراب، ومن اتبعهم بإحسان، الذين قال الله عز وجل فيهم‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، هم أولئك الذين جاهدوا المنقلبين على أعقابهم الذين لم يضروا الله شيئًا‏.‏
    وما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم، وسيعمل بها آخرون‏.‏ فمن كان من الشاكرين الثابتين على الدين، الذين يحبهم الله عز وجل ورسوله، فإنه يجاهد المنقلبين على أعقابهم، الذين يخرجون عن الدين، ويأخذون بعضه ويدعون بعضه، كحال هؤلاء القوم المجرمين المفسدين، الذين خرجوا على أهل الإسلام، وتكلم بعضهم بالشهادتين، وتسمي بالإسلام من غير التزام شريعته، فإن عسكرهم مشتمل على أربع طوائف‏:‏
    كافرة باقية على كفرها‏:‏ من الكرج، والأرمن، والمغل‏.‏
    وطائفة كانت مسلمة فارتدت عن الإسلام، وانقلبت على عقبيها‏:‏ من العرب، والفرس، والروم، وغيرهم‏.‏ وهؤلاء أعظم جرمًا عند الله

    ج/ 28 ص -414- وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلى من وجوه كثيرة‏.‏ فإن هؤلاء يجب قتلهم حتمًا ما لم يرجعوا إلى ما خرجوا عنه، لا يجوز أن يعقد لهم ذمة، ولا هدنة، ولا أمان، ولا يطلق أسيرهم، ولا يفادي بمال ولا رجال، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، ولا يسترقون، مع بقائهم على الردة بالاتفاق‏.‏ ويقتل من قاتل منهم، ومن لم يقاتل؛ كالشيخ الهرم، والأعمي، والزمن، باتفاق العلماء‏.‏ وكذا نساؤهم عند الجمهور‏.‏
    والكافر الأصلى يجوز أن يعقد له أمان وهدنة، ويجوز المن عليه والمفاداة به إذا كان أسيرًا عند الجمهور، ويجوز إذا كان كتابياً أن يعقد له ذمة، ويؤكل طعامهم، وتنكح نساؤهم، ولا تقتل نساؤهم إلا أن يقاتلن بقول أو عمل، باتفاق العلماء‏.‏ وكذلك لا يقتل منهم إلا من كان من أهل القتال عند جمهور العلماء، كما دلت عليه السنة‏.‏
    فالكافر المرتد أسوأ حالاً في الدين والدنيا من الكافر المستمر على كفره‏.‏ وهؤلاء القوم فيهم من المرتدة ما لا يحصي عددهم إلا الله‏.‏ فهذان صنفان‏.‏
    وفيهم أيضًا من كان كافرًا فانتسب إلى الإسلام ولم يلتزم شرائعه‏:‏ من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، والكف عن دماء

    ج/ 28 ص -415- المسلمين وأموالهم، والتزام الجهاد في سبيل الله، وضرب الجزية على اليهود والنصاري، وغير ذلك‏.‏
    وهؤلاء يجب قتالهم بإجماع المسلمين، كما قاتل الصديق مانعي الزكاة، بل هؤلاء شر منهم من وجوه، وكما قاتل الصحابة أيضًا مع أمير المؤمنين على رضي الله عنه الخوارج بأمر رسول الله ﷺ، حيث قال ﷺ في وصفهم‏:‏
    ‏"‏تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏لو يعلم الذين يقاتلون ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏هم شر الخلق والخليقة، شر قتلي تحت أديم السماء، خير قتلي من قتلوه‏"‏‏.‏ فهؤلاء مع كثرة صيامهم وصلاتهم وقراءتهم، أمر النبي ﷺ بقتالهم، وقاتلهم أمير المؤمنين على، وسائر الصحابة الذين معه، ولم يختلف أحد في قتالهم، كما اختلفوا في قتال أهل البصرة والشام؛ لأنهم كانوا يقاتلون المسلمين‏.‏ فإن هؤلاء شر من أولئك من غير وجه، وإن لم يكونوا مثلهم في الاعتقاد؛ فإن معهم من يوافق رأيه في المسلمين رأي الخوارج‏.‏ فهذه ثلاثة أصناف‏.‏
    وفيهم صنف رابع شر من هؤلاء‏.‏وهم قوم ارتدوا عن شرائع

    ج/ 28 ص -416- الإسلام وبقوا مستمسكين بالانتساب إليه‏.‏ فهؤلاء الكفار المرتدون، والداخلون فيه من غير التزام لشرائعه، والمرتدون عن شرائعه لا عن سمته، كلهم يجب قتالهم بإجماع المسلمين، حتى يلتزموا شرائع الإسلام،وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله،وحتى تكون كلمة الله التي هي كتابه وما فيه من أمره ونهيه وخبره هي العليا‏.‏ هذا إذا كانوا قاطنين في أرضهم، فكيف إذا استولوا على أراضي الإسلام‏:‏ من العراق، وخراسان، والجزيرة، والروم، فكيف إذا قصدوكم وصالوا عليكم بغيا وعدوانًا‏؟‏‏!‏ ‏"أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عليهمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ على مَن يَشَاء وَاللّهُ عليمٌ حَكِيمٌ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 13- 15‏]‏‏.‏
    واعلموا أصلحكم الله أن النبي ﷺ قد ثبت عنه من وجوه كثيرة أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة‏"‏، وثبت أنهم بالشام‏.‏
    فهذه الفتنة قد تفرق الناس فيها ثلاث فرق‏:‏ الطائفة المنصورة، وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين‏.‏ والطائفة المخالفة،وهم هؤلاء

    ج/ 28 ص -417- القوم، ومن تحيز إليهم من خبالة المنتسبين إلى الإسلام‏.‏ والطائفة المخذلة، وهم القاعدون عن جهادهم؛ وإن كانوا صحيحي الإسلام‏.‏ فلينظر الرجل أيكون من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة‏؟‏فما بقي قسم رابع‏.‏
    واعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في كتابه‏:‏
    ‏"قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 52‏]‏ يعني‏:‏ إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة‏.‏ فمن عاش من المجاهدين كان كريمًا له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة‏.‏ ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة‏.‏ قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏يعطي الشهيد ست خصال‏:‏ يغفر له بأول قطرة من دمه، ويري مقعده من الجنة، ويكسي حلة من الإيمان، ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين، ويوقي فتنة القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر‏"‏ رواه أهل السنن‏.‏ وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، أعدها الله سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيله‏"‏، فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد‏.‏ وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت، الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام‏"‏، وقال رجل‏:‏ أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تستطيعه‏"‏‏.‏

    ج/ 28 ص -418- قال‏:‏ أخبرني به‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تفتر‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏"‏فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله‏"‏‏.‏ وهذه الأحاديث في الصحيحين وغيرهما‏.‏
    وكذلك اتفق العلماء فيما أعلم على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد‏.‏ فهو أفضل من الحج، وأفضل من الصوم التطوع، وأفضل من الصلاة التطوع‏.‏
    والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود‏.‏ فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالى عند أفضل البقاع؛ ولهذا كان النبي ﷺ وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة؛ لمعان منها‏:‏ أنهم كانوا مرابطين بالمدينة‏.‏ فإن الرباط هو المقام بمكان يخيفه العدو ويخيف العدو، فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط، والأعمال بالنيات‏.‏ قال رسول الله ﷺ‏
    :‏ ‏"‏رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل‏"‏‏.‏ رواه أهل السنن وصححوه‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سلمان، أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا أجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان‏"‏، يعني‏:‏ منكر ونكير‏.‏ فهذا في الرباط فكيف الجهاد‏؟‏‏!‏

    ج/ 28 ص -419- وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد أبدًا‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار‏"‏، فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل، فكيف بما هو أشق منه، كالثلج، والبرد، والوحل‏؟‏‏!‏
    ولهذا عاب الله عز وجل المنافقين الذين يتعللون بالعوائق، كالحر والبرد، فقال سبحانه وتعالى‏:‏
    ‏"فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏، وهكذا الذين يقولون‏:‏ لا تنفروا في البرد، فيقال‏:‏ نار جهنم أشد بردًا‏.‏ كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏اشتكت النار إلى ربها، فقالت‏:‏ ربي أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر والبرد فهو من زمهرير جهنم‏"‏، فالمؤمن يدفع بصبره على الحر والبرد في سبيل الله حر جهنم وبردها، والمنافق يفر من حر الدنيا وبردها حتى يقع في حر جهنم وزمهريرها‏.‏
    واعلموا أصلحكم الله أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا
    والذين هم محسنون‏.‏ وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون‏.‏ والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم، ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم‏.‏ فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن

    ج/ 28 ص -420- عاقبته ‏"وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه، والحمد لله رب العالمين‏.‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏"‏[‏الصف‏:‏ 10- 14‏]‏‏.‏
    واعلموا أصلحكم الله أن من أعظم النعم على من أراد الله به خيرًا أن أحياه إلى هذا الوقت الذى يجدد الله فيه الدين، ويحيى فيه شعار المسلمين، وأحوال المؤمنين والمجاهدين، حتى يكون شبيهاً بالسابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار‏.‏ فمن قام فى هذا الوقت بذلك، كان من التابعين لهم بإحسان، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم‏.‏ فينبغى للمؤمنين أن يشكروا الله تعالى على هذه المحنة التي

    ج/ 28 ص -421- حقيقتها منحة كريمة من الله، وهذه الفتنة التى باطنها نعمة جسيمة، حتى والله لو كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وغيرهم حاضرين فى هذا الزمان، لكان من أفضل أعمالهم جهاد هؤلاء القوم المجرمين‏.‏
    ولا يفوت مثل هذه الغزاة إلا من خسرت تجارته، وسفه نفسه، وحرم حظًا عظيمًا من الدنيا والآخرة، إلا أن يكون ممن عذر الله تعالى كالمريض، والفقير، والأعمى وغيرهم، وإلا فمن كان له مال وهو عاجز ببدنه فليغز بماله‏.‏ ففى الصحيحين عن النبى ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه فى أهله بخير فقد غزا‏"‏، ومن كان قادرًا ببدنه وهو فقير، فليأخذ من أموال المسلمين ما يتجهز به سواء كان المأخوذ زكاة، أو صلة، أو من بيت المال، أو غير ذلك، حتى لو كان الرجل قد حصل بيده مال حرام وقد تعذر رده إلى أصحابه لجهله بهم ونحو ذلك، أو كان بيده ودائع أو رهون أو عوار قد تعذر معرفة أصحابها فلينفقها فى سبيل الله، فإن ذلك مصرفها‏.‏
    ومن كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد؛ فإن الله عز وجل يغفر ذنوبه، كما أخبر الله فى كتابه بقوله سبحانه وتعالى‏:
    ‏ ‏"يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏"‏‏[‏الصف‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ومن أراد التخلص من الحرام والتوبة ولا يمكن رده إلى أصحابه فلينفقه فى سبيل الله على أصحابه، فإن ذلك طريق حسنة إلى

    ج/ 28 ص -422- خَلاَصه، مع ما يحصل له من أجر الجهاد‏.‏
    وكذلك من أراد أن يُكَفِّر الله عنه سيئاته فى دعوى الجاهلية وحميتها فعليه بالجهاد؛ فإن الذين يتعصبون للقبائل وغير القبائل مثل قيس ويمن، وهلال وأسد ونحو ذلك كل هؤلاء إذا قتلوا، فإن القاتل والمقتول فى النار، كذلك صح عن النبى ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار‏"‏‏.‏ قيل‏:‏يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إنه كان حريصًا على قتل أخيه‏"‏‏.‏ أخرجاه فى الصحيحين‏.‏وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏من قتل تحت راية عَمِيَّة‏:‏ يغضب لعَصَبِيَّة، ويدعو لعصبية فهو فى النار‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏من تَعَزَّى بعزاء أهل الجاهلية فأعِضُّوه بهن أبيه ولا تَكْنُوا‏"‏ فسمع أبى بن كعب رجلاً يقول‏:‏ يا لفلان، فقال‏:‏ اعضض أيْرَ أبيك، فقال‏:‏ يا أبا المنذر، ما كنت فاحشاً‏.‏ فقال‏:‏ بهذا أمرنا رسول الله ﷺ‏.‏ رواه أحمد فى مسنده‏.‏
    ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏من تعزى بعزاء الجاهلية‏"‏ يعنى‏:‏ يتعزى بعزواتهم، وهى الانتساب إليهم فى الدعوة، مثل قوله‏:‏ يا لقيس‏!‏ يا ليمن‏!‏ ويا لهلال‏!‏ ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو قرابته، أو لأصدقائه دون غيرهم، كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله‏.‏ فإن

    ج/ 28 ص -423- كتابهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وربهم إله واحد، لا إله إلا هو، له الحمد فى الأولى والآخرة، وله الحكم، وإليه ترجعون‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 102- 106‏]‏‏.‏ قال ابن عباس رضى الله عنهما ‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والبدعة‏.‏
    فالله، الله، عليكم بالجماعة والائتلاف على طاعة الله ورسوله، والجهاد فى سبيله؛ يجمع الله قلوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويحصل لكم خير الدنيا والآخرة‏.‏ أعاننا الله وإياكم على طاعته وعبادته، وصرف عنا وعنكم سبيل معصيته، وأتانا وإياكم فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، ووقانا عذاب النار، وجعلنا وإياكم ممن رضى الله عنه وأعد له جنات النعيم، إنه على كل شىء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏ والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم‏.

    ج/ 28 ص -424-وقال قدس الله روحه‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين‏.‏ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏ فإنا نحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شىء قدير، ونسأله أن يصلى على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا‏.‏
    أما بعد‏:‏ فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده،
    ‏"وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا‏"‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏ والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله‏:‏ ‏"وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا‏"‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 26، 27‏]‏‏.‏

    ج/ 28 ص -425- فإن هذه الفتنة التى ابتلى بها المسلمون مع هذا العدو المفسد، الخارج عن شريعة الإسلام، قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله ﷺ فى المغازى التى أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين، مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرًا إلى يوم القيامة، فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد ﷺ، يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظى والمعنوى، أو بالعموم المعنوى‏.‏ وعهود الله فى كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة، كما نالت أولها‏.‏ وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم، لتكون عبرة لنا‏.‏ فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها‏.‏ فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين‏.‏ ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة، وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال‏:‏ ‏"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى‏"‏‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏ أى‏:‏ هذه القصص المذكورة فى الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر فى الحروب من السير المكذوبة‏.‏
    وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون‏:‏

    ج/ 28 ص -426-"فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏ وقال فى سيرة نبينا محمد ﷺ مع أعدائه ببدر وغيرها‏:‏ ‏"قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقال تعالى فى محاصرته لبنى النضير‏:‏ ‏"هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ‏"‏‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم‏.‏
    وذكر فى غير موضع‏:‏ أن سنته فى ذلك سنة مطردة، وعادته مستمرة‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏
    "لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا‏"‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏"وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا‏"‏‏[‏الفتح‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏ وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين‏.‏

    ج/ 28 ص -427- فينبغى للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه فى عباده‏.‏ودأب الأمم وعاداتهم،لا سيما فى مثل هذه الحادثة العظيمة التى طبق الخافقين خبرها، واستطار فى جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم‏.‏ وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم‏.‏ وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار‏.‏ وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار‏.‏ وظن المنافقون والذين فى قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورًا‏.‏ وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدًا، وزين ذلك فى قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قومًا بورًا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحى منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقى للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين فى قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى‏.‏
    فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقى وسعيد، كما يتفرقون كذلك

    ج/ 28 ص -428- فى اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه‏.‏ وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرسه‏.‏ كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال‏.‏ وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال‏.‏ وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع‏.‏ وهم درجات عند الله فى المنفعة والدفاع‏.‏ ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى‏.‏ وبليت فيها السرائر‏.‏ وظهرت الخبايا التى كانت تكنها الضمائر‏.‏ وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه فى المآل‏.‏ وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا‏.‏ كما حمد ربه من صدق فى إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلاً‏.‏ وبان صدق ما جاء به الآثار النبوية، من الأخبار بما يكون‏.‏ وواطأتها قلوب الذين هم فى هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التى أريها المؤمنون‏.‏ وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة‏.‏ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب‏:‏ حزب مجتهد فى نصر الدين‏.‏ وآخر خاذل له‏.‏ وآخر خارج عن شريعة الإسلام‏.‏
    وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور‏.‏ وآخر قد غره بالله الغرور‏.‏ وكان هذا الامتحان تمييزًا من الله وتقسيمًا؛

    ج/ 28 ص -429-"لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا‏"‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏‏.‏
    ووجه الاعتبار فى هذه الحادثة العظيمة‏:‏ أن الله تعالى بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولاً، ثم إيجابًا له ثانيًا لما هاجر إلى المدينة، وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله، فغزا بنفسه ﷺ مدة مقامه بدار الهجرة، وهو نحو عشر سنين؛ بضعًا وعشرين غزوة‏.‏ أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك‏.‏ أنزل الله فى أول مغازيه ‏[‏سورة الأنفال‏]‏ وفى آخرها ‏[‏سورة براءة‏]‏‏.‏ وجمع بينهما فى المصحف؛ لتشابه أول الأمر وآخره، كما قال أمير المؤمنين عثمان لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة‏.‏
    وكان القتال منها فى تسع غزوات‏.‏
    فأول غزوات القتال بدر، وآخرها حنين، والطائف‏.‏ وأنزل الله فيها ملائكته، كما أخبر به القرآن؛ ولهذا صار الناس يجمعون بينهما فى القول، وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانًا وزمانًا؛ فإن بدرًا كانت فى رمضان، فى السنة الثانية من الهجرة، ما بين المدينة ومكة، شامى مكة، وغزوة حنين فى آخر شوال من السنة الثامنة‏.‏ وحنين واد قريب من الطائف، شرقى مكة‏.‏ ثم قسم النبى ﷺ

    ج/ 28 ص -430-غنائمها بالجِعْرَانة واعتمر من الجعرانة‏.‏ ثم حاصر الطائف فلم يقاتله أهل الطائف زحفًا وصفوفًا وإنما قاتلوه من وراء جدار‏.‏ فآخر غزوة كان فيها القتال زحفًا واصطفافًا هى غزوة حنين‏.‏ وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رؤوسهم، مع قلة المسلمين وضعفهم؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضع عشر، ليس معهم إلا فرسان، وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد‏.‏ وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات، فى قوة وعدة وهيئة وخيلاء‏.‏
    فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة، وفيها النبى ﷺ وأصحابه‏.‏ فخرج إليهم النبى ﷺ وأصحابه فى نحو من ربع الكفار، وتركوا عيالهم بالمدينة، لم ينقلوهم إلى موضع آخر‏.‏ وكانت أولاً الكَرَّة للمسلمين عليهم، ثم صارت للكفار‏.‏ فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفرًا قليلاً حول النبى ﷺ منهم من قتل، ومنهم من جرح‏.‏ وحرصوا على قتل النبى ﷺ حتى كسروا رباعيته، وشجوا جبينه، وهشموا البيضة على رأسه‏.‏ وأنزل الله فيها شطرًا من سورة آل عمران، من قوله‏:‏ ‏
    "وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏، وقال فيها‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏،

    ج/ 28 ص -431-وقال فيها‏:‏ ‏"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏، وقال فيها‏:‏ ‏"أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏‏.‏
    وكان الشيطان قد نعق فى الناس‏:‏ أن محمدًا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب‏.‏ ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏
    وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا فى العام الماضى‏.‏ وكانت هزيمة المسلمين فى العام الماضى بذنوب ظاهرة، وخطايا واضحة، من فساد النيات، والفخر والخيلاء، والظلم، والفواحش، والإعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله، والبغى على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم فى أول الأمر راضيًا منهم بالموادعة والمسالمة، شارعًا فى الدخول فى الإسلام‏.‏

    ج/ 28 ص -432- وكان مبتدئًا فى الإيمان والأمان، وكانوا قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان‏.‏
    فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا، وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغى والمكر، والنكث، والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام‏.‏
    فقد كان فى نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم الذى هو على الحال المذكورة لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف‏.‏ كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة‏.‏ وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين؛ فإن النبى ﷺ قال‏:‏ ‏"‏لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له‏"‏‏.‏
    فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة وقيل‏:‏ بسنتين قد ابتلى المسلمون عام الخندق، كذلك فى هذا العام ابتلى المؤمنون بعدوهم، كنحو ما ابتلى المسلمون مع

    ج/ 28 ص -433- النبى ﷺ عام الخندق،وهى غزوة الأحزاب التى أنزل الله فيها ‏[‏سورة الأحزاب‏]‏ وهى سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة، التى نصر الله فيها عبده ﷺ، وأعز فيها جنده المؤمنين، وهزم الأحزاب الذين تحزبوا عليه وحده بغير قتال، بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم‏.‏ ذكر فيها خصائص رسول الله ﷺ، وحقوقه، وحرمته، وحرمة أهل بيته، لما كان هو القلب الذى نصره الله فيها بغير قتال‏.‏ كما كان ذلك فى غزوتنا هذه سواء‏.‏ وظهر فيها سر تأييد الدين،كما ظهر فى غزوة الخندق‏.‏ وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق‏.‏
    وذلك أن الله تعالى منذ بعث محمدًا ﷺ وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام‏:‏
    قسمًا مؤمنين‏:‏ وهم الذين آمنوا به ظاهرًا وباطنًا‏.‏
    وقسمًا كفارا‏:‏ وهم الذين أظهروا الكفر به‏.‏
    وقسمًا منافقين‏:‏ وهم الذين آمنوا ظاهرًا، لا باطنًا‏.‏
    ولهذا افتتح ‏[‏سورة البقرة‏]‏ بأربع آيات فى صفة المؤمنين، وآيتين فى صفة الكافرين‏.‏ وثلاث عشرة آية فى صفة المنافقين‏.‏
    وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما

    ج/ 28 ص -434- دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وكما فسره أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه فى الحديث المأثور عنه فى الإيمان ودعائه وشعبه‏.‏
    فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه فى الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبىّ وغيره؛ بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك، مما لا يكون صاحبه إلا عدوًا لله ورسوله‏.‏ وهذا القدر كان موجودًا فى زمن رسول الله ﷺ، وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى‏.‏ فإذا كانت مع قوتها وكان النفاق معها موجودًا فوجوده فيما دون ذلك أولى‏.‏
    وكما أنه ﷺ كان يعلم بعض المنافقين، ولا يعلم بعضهم، كما بينه قوله‏:‏
    ‏"وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ‏"‏‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏، كذلك خلفاؤه بعده وورثته، قد يعلمون بعض المنافقين، ولا يعلمون بعضهم‏.‏ وفى المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون، فى الخاصة والعامة‏.‏ ويسمون ‏[‏الزنادقة‏]‏‏.‏
    وقد اختلف العلماء فى قبول توبتهم فى الظاهر، لكون ذلك لا

    ج/ 28 ص -435- يعلم؛ إذ هم دائمًا يظهرون الإسلام‏.‏ وهؤلاء يكثرون فى المتفلسفة من المنجمين، ونحوهم، ثم فى الأطباء، ثم فى الكتاب أقل من ذلك‏.‏ ويوجدون فى المتصوفة والمتفقهة، وفى المقاتلة والأمراء، وفى العامة أيضًا‏.‏ ولكن يوجدون كثيرًا فى نحل أهل البدع، لاسيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس فى أحد من أهل النحل؛ ولهذا كانت الخُرَّمِيَّة، والباطنية، والقرامطة، والإسماعيلية، والنُّصَيْريَّة، ونحوهم من المنافقية الزنادقة، منتسبة إلى الرافضة‏.‏
    وهؤلاء المنافقون فى هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام، بل يتركونهم وما هم عليه‏.‏ وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم فى الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء، والسبى، لا لأجل الدين‏.‏
    فهذا ضرب النفاق الأكبر‏.‏
    وأما النفاق الأصغر، فهو النفاق فى الأعمال ونحوها؛ مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا ائتمن، أو يفجر إذا خاصم‏.‏ ففى الصحيحين عن النبى ﷺ‏:‏
    ‏"‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان‏"‏، وفى رواية صحيحة‏:‏ ‏"‏وإن صلى، وصام،وزعم أنه مسلم‏"‏، وفى الصحيحين

    ج/ 28 ص -436- عن عبد الله بن عمرو عن النبى ﷺ قال‏:‏ ‏"‏أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها‏:‏ إذا حدث كذب‏.‏ وإذا وعد أخلف‏.‏ وإذا عاهد غدر‏.‏ وإذا خاصم فجر‏"‏‏.‏
    ومن هذا الباب‏:‏ الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين‏.‏ قال النبى ﷺ‏:‏ ‏"‏من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من نفاق‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ وقد أنزل الله ‏[‏سورة براءة‏]‏ التى تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين‏.‏ أخرجاه فى الصحيحين عن ابن عباس، قال‏:‏ هى الفاضحة، ما زالت تنزل‏:‏ ‏"‏ومنهم‏"‏، ‏"‏ومنهم‏"‏ حتى ظنوا ألا يبقى أحد إلا ذكر فيها‏.‏ وعن المقداد بن الأسود قال‏:‏ هى ‏[‏سورة البحوث‏]‏؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين‏.‏ وعن قتادة قال‏:‏ هى المثيرة؛ لأنها أثارت مخازى المنافقين‏.‏
    وعن ابن عباس قال‏:‏ هى المبعثرة‏.‏ والبعثرة والإثارة متقاربان‏.‏
    وعن ابن عمر‏:‏ أنها المقشقشة؛ لأنها تبرئ من مرض النفاق‏.‏ يقال‏:‏ تقشقش المريض إذا برأ‏.‏ وقال الأصمعى‏:‏وكان يقال لسورتى الإخلاص‏:‏ المقشقشتان؛ لأنهما يبرئان من النفاق‏.‏

    ج/ 28 ص -437- وهذه السورة نزلت فى آخر مغازى النبى ﷺ غروة تبوك عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام، وظهر‏.‏ فكشف اللّه فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن، وترك الجهاد‏.‏ ووصفهم بالبخل عن النفقة فى سبيل اللّه، والشح على المال‏.‏ وهذان داءان عظيمان‏:‏ الجبن والبخل‏.‏ قال النبى ﷺ‏:‏ ‏"‏شر ما فى المرء شح هالع، وجبن خالع‏"‏‏.‏ حديث صحيح؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏"وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 180‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ
    مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏"‏
    [‏الأنفال‏:‏ 16‏]‏‏.‏
    وأما وصفهم بالجبن والفزع، فقال تعالى‏:‏
    ‏"وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏ فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا أنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو‏.‏ ف ‏"لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً‏"‏ يلجؤون إليه من المعاقل والحصون التى يفر إليها من يترك الجهاد، أو‏"مَغَارَاتٍ‏" وهى جمع مغارة‏.‏ ومغارات سميت بذلك؛ لأن الداخل يغور فيها، أى‏:‏ يستتر كما يغور الماء‏.‏ ‏"أو مدخلا‏"‏

    ج/ 28 ص -438- وهو الذى يتكلف الدخول إليه، إما لضيق بابه، أو لغير ذلك، أى‏:‏ مكانا يدخلون إليه‏.‏ ولو كان الدخول بكلفة ومشقة‏.‏ ‏"لَّوَلَّوْاْ‏"‏ عن الجهاد ‏"إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏"‏ أى‏:‏ يسرعون إسراعا لا يردهم شىء، كالفرس الجموح الذى إذا حمل لا يرده اللجام‏.‏ وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين فى حادثتنا، وفيما قبلها من الحوادث، وبعدها‏.‏
    وكذلك قال فى ‏[‏سورة محمد‏]‏ ﷺ‏:‏
    ‏"فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ‏"‏ أى‏:‏ فبعدا لهم ‏"طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ‏"‏[‏محمد‏:‏ 20، 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏"‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏،فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد‏.‏
    وقال تعالى‏:
    ‏ ‏"لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏44، 45‏]‏‏.‏ فهذا إخبار من اللّه بأن المؤمن لا يستأذن الرسول فى ترك الجهاد، وإنما يستأذنه الذى لا يؤمن، فكيف بالتارك من غير استئذان ‏؟‏‏!‏
    ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متظافرة على هذا المعنى‏.‏

    ج/ 28 ص -439- وقال فى وصفهم بالشح‏:‏‏"وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ فهذه حال من أنفق كارها، فكيف بمن ترك النفقة رأساً‏؟‏‏!‏ وقال‏:‏ ‏"وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 75، 76‏]‏‏.‏
    وقال فى السورة‏:
    ‏‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 34، 35‏]‏، فانتظمت هذه الآية حال من أخذ المال بغير حقه، أو منعه من مستحقه من جميع الناس؛ فإن الأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد‏.‏ وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون أى‏:‏ يعرضون ويمنعون‏.‏ يقال‏:‏ صد عن الحق صدودا، وصد غيره صدا ‏.‏
    وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل‏:‏ من وقف، أو عَطِيَّة على

    ج/ 28 ص -440-الدين، كالصلاة، والنذور التى تنذر لأهل الدين، ومن الأموال المشتركة، كأموال بيت المال، ونحو ذلك‏.‏ فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين‏.‏
    ثم قال‏:‏
    ‏"وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ‏"‏، فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة فى سبيل اللّه‏.‏ والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل اللّه، سواء كان ملكاً أو مقدماً، أو غنياً، أو غير ذلك‏.‏ وإذا دخل فى هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب، فما كنز من الأموال المشتركة التى يستحقها عموم الأمة ومستحقها‏:‏ مصالحهم أولى وأحرى‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML