أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل عن قوله "لا غيبة لفاسق" وهل تجوز غيبة المعين أو النوع

    ج/ 28 ص -219-وَسُئلَ عن قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏لاغيبة لفاسق‏"‏، وما حد الفسق‏؟‏ ورجل شاجر رجلين‏:‏ أحدهما شارب خمر، أو جليس فى الشرب، أو آكل حرام، أو حاضر الرقص، أو السماع للدف، أو الشبابة‏:‏ فهل على من لم يسلم عليه إثم ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    أما الحديث فليس هو من كلام النبى ﷺ، ولكنه مأثور عن الحسن البصرى، أنه قال‏:‏ أترغبون عن ذكر الفاجر‏؟‏ اذكروه بما فيه يحذره الناس‏.‏ وفى حديث آخر‏:‏ من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له‏.‏ وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء‏.‏
    أحدهما‏:‏ أن يكون الرجل مظهرا للفجور، مثل‏:‏الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة، فإذا أظهر المنكر، وجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبى ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ وفى المسند والسنن عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه أنه قال‏:‏ أيها

    ج/ 28 ص -220-الناس، إنكم تقرؤون القرآن وتقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏ وإنى سمعت رسول الله ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه، أوشك أن يعمهم اللّه بعقاب منه‏"‏‏.‏ فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يهجر ويذم على ذلك‏.‏ فهذا معنى قولهم‏:‏ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له‏.‏ بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفيا، فإن هذا يستر عليه، لكن ينصح سرا، ويهجره من عرف حاله حتى يتوب، ويذكر أمره على وجه النصيحة‏.‏
    النوع الثانى‏:‏ أن يستشار الرجل فى مناكحته ومعاملته أو استشهاده، ويعلم أنه لا يصلح لذلك، فينصحه مستشاره ببيان حاله، كما ثبت فى الصحيح أن النبى ﷺ قالت له فاطمة بنت قيس‏:‏ قد خطبنى أبو جهم ومعاوية، فقال لها‏:‏ ‏"‏أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له‏"‏‏.‏ فبين النبى ﷺ الخاطبين للمرأة‏.‏ فهذا حجة لقول الحسن‏:‏ أترغبون عن ذكر الفاجر ‏!‏ اذكروه بما فيه يحذره الناس، فإن النصح فى الدين أعظم من النصح فى الدنيا، فإذا كان النبى ﷺ نصح المرأة فى دنياها، فالنصيحة فى الدين أعظم‏.‏
    وإذا كان الرجل يترك الصلوات، ويرتكب المنكرات، وقد عاشره

    ج/ 28 ص -221-من يخاف أن يفسد دينه، بين أمره له لتتقى معاشرته‏.‏ وإذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة، ويخاف أن يضل الرجل الناس بذلك، بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله‏.‏ وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه اللّه تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان‏:‏ مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد، أو تباغض، أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهرا للنصح، وقصده فى الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان و‏"‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى‏"‏، بل يكون الناصح قصده أن اللّه يصلح ذلك الشخص، وأن يكفى المسلمين ضرره فى دينهم ودنياهم، ويسلك فى هذا المقصود أيسر الطرق التى تمكنه‏.‏
    ولا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة، كما فى الحديث أنه قال‏:‏ ‏"‏من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر‏"‏، ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له‏:‏ إن فيهم صائما‏.‏ فقال‏:‏ ابدؤوا به، أما سمعتم اللّه يقول‏:‏
    ‏"وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏"‏‏؟‏‏!‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏ بين عمر بن عبد العزيز رضى اللّه عنه أن اللّه جعل حاضر

    ج/ 28 ص -222-المنكر كفاعله؛ ولهذا قال العلماء‏:‏ إذا دعى إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر، لم يجز حضورها، وذلك أن اللّه تعالى قد أمرنا بإنكار المنكر بحسب الإمكان، فمن حضر باختياره، ولم ينكره، فقد عصى اللّه ورسوله بترك ما أمره به، من بغض إنكاره والنهى عنه‏.‏ وإذا كان كذلك، فهذا الذى يحضر مجالس الخمر باختياره من غير ضرورة، ولا ينكر المنكر كما أمره اللّه، هو شريك الفساق فى فسقهم فيلحق بهم‏.‏
    وَسئِلَ رَحِمَه اللّه عن الغيبة ‏:‏
    هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه ‏؟‏ وما حكم ذلك ‏؟‏ أفتونا بجواب بسيط؛ ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين‏.‏ أصل الكلام فى هذا أن يعلم أن الغيبة هى كما فسرها النبى ﷺ فى الحديث الصحيح لما سئل عن الغيبة فقال‏:‏
    ‏"‏هى ذكرك أخاك بما يكره‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول اللّه، أرأيت إن كان فى أخى ما أقول ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بهته‏"‏‏.‏
    بين ﷺ الفرق بين الغيبة والبهتان، وأن الكذب

    ج/ 28 ص -223-عليه بهت له، كما قال سبحانه ‏:‏ ‏"وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ‏"‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وفى الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إن اليهود قوم بهت‏"‏‏.‏
    فالكذب على الشخص حرام كله، سواء كان الرجل مسلما أو كافراً، براً أو فاجراً، لكن الافتراء على المؤمن أشد، بل الكذب كله حرام‏.‏
    ولكن تباح عند الحاجة الشرعية المعاريض وقد تسمى كذبًا؛ لأن الكلام يعنى به المتكلم معنى، وذلك المعنى يريد أن يفهمه المخاطب، فإذا لم يكن على ما يعنيه فهو الكذب المحض، وإن كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب، فهذه المعاريض، وهى كذب باعتبار الأفهام، وإن لم تكن كذبا باعتبار الغاية السائغة‏.‏ ومنه قول النبى ﷺ‏:‏
    ‏"‏لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن فى ذات اللّه‏:‏ قوله لسارة‏:‏ أختى ، وقوله ‏"بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏"‏‏[‏الأنبياء‏:‏63‏]‏، وقوله‏:‏‏"إِنِّي سَقِيمٌ‏"‏‏[‏الصافات‏:‏89‏]‏‏"‏، وهذه الثلاثة معاريض‏.‏
    وبها احتج العلماء على جواز التعريض للمظلوم، وهو أن يعنى بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب؛ ولهذا قال من قال من

    ج/ 28 ص -224-العلماء‏:‏ إن ما رخص فيه رسول اللّه ﷺ إنما هو من هذا، كما فى حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبى ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ليس الكاذب بالذى يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمى خيرا‏"‏‏.‏ ولم يرخص فيما يقول الناس‏:‏ إنه كذب، إلا فى ثلاث‏:‏ فى الإصلاح بين الناس، وفى الحرب؛ وفى الرجل يحدث امرأته، قال‏:‏ فهذا كله من المعاريض خاصة‏.‏
    ولهذا نفى عنه النبى ﷺ اسم الكذب باعتبار القصد والغاية، كما ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏الحرب خدعة‏"‏، وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها‏.‏ ومن هذا الباب قول الصديق فى سفر الهجرة عن النبى ﷺ‏:‏ هذا الرجل يهدينى السبيل‏.‏ وقول النبى ﷺ للكافر السائل له في غزوة بدر‏:‏
    ‏"‏نحن من ماء‏"‏، وقوله للرجل الذى حلف على المسلم الذى أراد الكفار أسره‏:‏ ‏"‏إنه أخى‏"‏، وعنى أخوة الدين، وفهموا منه أخوة النسب، فقال النبى ﷺ‏:‏ ‏"‏إن كنت لأبرهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم‏"‏‏.‏
    والمقصود هنا أن النبى ﷺ فرق بين الاغتياب وبين البهتان، وأخبر أن المخبر بما يكره أخوه المؤمن عنه إذا كان صادقا فهو المغتاب، وفى قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏ذكرك أخاك بما

    ج/ 28 ص -225-يكره‏"‏ موافقة لقوله تعالى‏:‏ ‏"وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ‏"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏‏.‏ فجعل جهة التحريم كونه أخًا أخوة الإيمان؛ ولذلك تغلظت الغيبة بحسب حال المؤمن، فكلما كان أعظم إيماناً كان اغتيابه أشد‏.‏
    ومن جنس الغيبة الهمز واللمز، فإن كلاهما فيه عيب الناس والطعن عليهم، كما فى الغيبة، لكن الهمز هو الطعن بشدة وعنف، بخلاف اللمز فإنه قد يخلو من الشدة والعنف، كما قال تعالى‏
    :‏ ‏"وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏ أى‏:‏ يعيبك ويطعن عليك‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ‏"‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ أى‏:‏ لا يلمز بعضكم بعضًا، وقال‏:‏ ‏"هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ‏"‏ ‏[‏القلم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏"‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏ ‏.‏
    إذا تبين هذا فنقول‏:‏ ذكر الناس بما يكرهون هو فى الأصل على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ ذكر النوع‏.‏ والثانى‏:‏ ذكر الشخص المعين الحى أو الميت‏.‏
    أما الأول فكل صنف ذمه اللّه ورسوله يجب ذمه، ولىس ذلك من الغيبة، كما أن كل صنف مدحه اللّه ورسوله يجب مدحه، وما لعنه اللّه ورسوله لعن، كما أن من صلى اللّه عليه وملائكته يصلى عليه‏.‏ فاللّه تعالى ذم الكافر، والفاجر، والفاسق، والظالم، والغاوى، والضال،

    ج/ 28 ص -226-والحاسد، والبخيل، والساحر، وآكل الربا، وموكله، والسارق، والزانى، والمختال، والفخور، والمتكبر الجبار، وأمثال هؤلاء كما حمد المؤمن التقى، والصادق، والبار، والعادل، والمهتدى، والراشد، والكريم، والمتصدق، والرحيم، وأمثال هولاء‏.‏ ولعن رسول اللّه ﷺ آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، والمحِلّل والمحلَّل له، ولعن من عمل عَمل قوم لوط‏.‏ ولعن من أحدث حدثا أو آوى محدثاً، ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها، ولعن اليهود والنصارى حيث حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها، ولعن اللّه الذين يكتمون ما أنزل اللّه من البينات من بعد ما بينه للناس، وذكر لعنة الظالمين ‏.‏
    واللّه هو وملائكته يصلون على النبى، ويصلون على الذين آمنوا‏.‏ والصابر المسترجع عليه صلاة من ربه ورحمة‏.‏ واللّه وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، ويستغفر له كل شىء حتى الحيتان والطير، وأمر اللّه نبيه أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات‏.‏
    فإذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه، والنهى عن الشر والتحذير منه، فلابد من ذكر ذلك، ولهذا كان النبى ﷺ إذا بلغه أن أحداً فعل ما ينهى عنه يقول‏:
    ‏ ‏"‏ما بال رجال يشترطون

    ج/ 28 ص -227-شروطا ليست فى كتاب اللّه‏؟‏ من اشترط شرطًا ليس فى كتاب اللّه، فهو باطل وإن كان مائة شرط‏"‏، ‏"‏ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها‏؟‏ واللّه إنى لأتقاكم للّه وأعلمكم بحدوده‏"‏، ‏"‏ما بال رجال يقول أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم ولا أفطر، ويقول الآخر‏:‏ أما أنا فأقوم ولا أنام، ويقول الآخر‏:‏ لا أتزوج النساء، ويقول الآخر‏:‏ لا آكل اللحم، لكنى أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتى فليس منى‏"‏‏.‏
    وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن بغير الأسماء التى علق اللّه بها ذلك‏:‏ مثل أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما يراد به التعريف، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏"‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏62، 63‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏63‏]‏‏.‏ وقد قال ﷺ‏:‏ ‏"‏إن آل أبى فلان ليسوا لى بأولياء، إنما وليى اللّه وصالح المؤمنين‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ألا إن أوليائى المتقون حيث كانوا ومن كانوا‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إن اللّه أذهب عنكم عُبْيَة الجاهلية، وفخرها بالآباء‏.‏ الناس رجلان‏:‏ مؤمن تقى، وفاجر شقى‏.‏

    ج/ 28 ص -228-الناس من آدم وآدم من تراب‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إنه لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى‏"‏‏.‏
    فذكر الأزمان والعدل بأسماء الإيثار والولاء والبلد والانتساب إلى عالم أو شيخ إنما يقصد بها التعريف به ليتميز عن غيره‏.‏ فأما الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة، فإنما تكون بالأشياء التى أنزل اللّه بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أى صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أى صنف كان‏.‏ قال تعالى‏:‏
    ‏"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏"[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏"‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا‏"‏ [‏الكهف‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏"‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ ‏.‏
    ومن كان فيه إيمان وفيه فجور، أعطى من الموالاة بحسب إيمانه،

    ج/ 28 ص -229-ومن البغض بحسب
    فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي، كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يُجْعَل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال اللّه تعإلى‏:‏
    ‏"وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الْأُخْرَي فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ‏"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9، 10 ‏]‏، فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي، وقال تعإلى‏:‏ ‏"أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏"‏ [‏ص‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقد قال تعإلى‏:‏ ‏"وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليوْمِ الْآخِرِ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏، فهذا الكلام في الأنواع‏.‏
    وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر في مواضع‏.‏
    منها‏:‏المظلوم له أن يذكر ظالمه بما فيه، إما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه،كما قالت هند‏:‏ يا رسول اللّه، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي‏.‏ فقال لها النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏"‏‏.‏ كما قال ﷺ‏:‏ ‏"‏لَي الواجد يحل عرضه وعقوبته‏"‏‏.‏ وقال وَكِيع‏:‏ عرضه‏:‏ شكايته، وعقوبته‏:‏ حبسه، وقال تعإلى‏:‏ ‏"لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِم‏"‏[‏النساء‏:‏ 148‏]‏‏.‏

    ج/ 28 ص -230-وقد روي‏:‏ أنها نزلت في رجل نزل بقوم فلم يقروه‏.‏ فإذا كان هذا فيمن ظلم بترك قراه الذي تنازع الناس في وجوبه، وإن كان الصحيح أنه واجب، فكيف بمن ظلم بمنع حقه الذي اتفق المسلمون على استحقاقه إياه ‏؟‏‏!‏ أو يذكر ظالمه على وجه القصاص من غير عدوان، ولا دخول في كذب، ولا ظلم الغير، وترك ذلك أفضل‏.‏
    ومنها‏:‏ أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم كما في الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي ﷺ من تنكح‏؟‏ وقالت‏:‏ إنه خطبني معاوية وأبو جهم فقال‏:
    ‏ ‏"‏أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء‏"‏ وروي‏:‏ ‏"‏لا يضع عصاه عن عاتقه‏"‏، فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك، وهذا يؤذيك بالضرب‏.‏ وكان هذا نصحاً لها، وإن تضمن ذكر عيب الخاطب‏.‏
    وفي معني هذا نصح الرجل فيمن يعامله، ومن يوكله ويوصي إليه، ومن يستشهده، بل ومن يتحاكم إليه‏.‏ وأمثال ذلك‏.‏ وإذا كان هذا في مصلحة خاصة، فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين‏:‏ من الأمراء والحكام والشهود والعمال‏:‏ أهل الديوان وغيرهم‏؟‏ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم، كما قال النبي ﷺ‏:‏

    ج/ 28 ص -231-‏"‏الدين النصيحة، الدين النصيحة‏"‏ قالوا‏:‏ لمن يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏للّه ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم‏"‏‏.‏
    وقد قالوا لعمر بن الخطاب في أهل الشوري‏:‏ أَمِّرْ فلانا وفلانا، فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة وهم أفضل الأمة أمراً جعله مانعاً له من تعيينه‏.‏
    وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة‏:‏ مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون، كما قال يحيي بن سعيد‏:‏ سألت مالكا والثوري والليث بن سعد أظنه والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ، فقالوا‏:‏ بين أمره‏.‏ وقال بعضهم لأحمد بن حنبل‏:‏ إنه يثقل على أن أقول فلان كذا، وفلان كذا‏.‏ فقال‏:‏ إذا سكت أنت وسكت أنا، فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم ‏؟‏‏!‏
    ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل‏:‏ الرجل يصوم ويصلى ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع‏؟‏ فقال‏:‏ إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل‏.‏ فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس

    ج/ 28 ص -232-الجهاد في سبيل اللّه؛ إذ تطهير سبيل اللّه ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين‏.‏ ولولا من يقيمه اللّه لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا، لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء‏.‏
    وقد قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏"‏‏.‏ وذلك أن اللّه يقول في كتابه‏:‏ ‏"لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ‏"‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنه أنزل الحديد، كما ذكره‏.‏ فقوام الدين بالكتاب الهادي، والسيف الناصر ‏"وَكَفَي بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 31‏]‏‏.‏
    والكتاب هو الأصل؛ ولهذا أول ما بعث اللّه رسوله أنزل عليه الكتاب، ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد‏.‏
    وأعداء الدين نوعان‏:‏ الكفار، والمنافقون‏.‏ وقد أمر اللّه نبيه

    ج/ 28 ص -233- بجهاد الطائفتين في قوله‏:‏ ‏"جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عليهمْ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73، والتحريم 9‏]‏ في آيتين من القرآن‏.‏
    فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب، ويلبسونها على الناس، ولم تبين للناس، فسد أمر الكتاب، وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله‏.‏
    وإذا كان أقوام ليسوا منافقين، لكنهم سماعون للمنافقين، قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً، وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين، كما قال تعإلى‏:‏ ‏
    "لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏، فلابد أيضاً من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم، وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلابد من التحذير من تلك البدع، وإن اقتضي ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق، لكن قالوها ظانين أنها هدي، وأنها خير، وأنها دين، ولو لم تكن كذلك، لوجب بيان حالها‏.‏
    ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية، ومن

    ج/ 28 ص -234-يغلط في الرأي والفتيا، ومن يغلط في الزهد والعبادة، وإن كان المخطئ المجتهد مغفورًا له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة واجب، وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله‏.‏ ومن علم منه الاجتهاد السائغ، فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوي موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله من حقوقه‏:‏ من ثناء ودعاء وغير ذلك، وإن علم منه النفاق، كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله ﷺ‏:‏ مثل عبد الله بن أبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة عبد الله بن سبأ وأمثاله مثل عبد القدوس بن الحجاج، ومحمد بن سعيد المصلوب فهذا يذكر بالنفاق‏.‏ وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقًا أو مؤمنًا مخطئًا ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدًا بذلك وجه الله تعإلى وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله‏.‏ فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه، كان آثمًا‏.‏
    وكذلك القاضي والشاهد والمفتي،كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار، وقاض في الجنة‏:‏ رجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة، ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار،

    ج/ 28 ص -235-ورجل علم الحق فقضي بخلاف ذلك فهو في النار‏"‏‏.‏ وقد قال تعإلى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ على أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَي بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَي أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏، واللَي‏:‏ هو الكذب‏.‏ والإعراض‏:‏ كتمان الحق، ومثله ما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما‏"‏‏.‏
    ثم القائل في ذلك بعلم لابد له من حسن النية، فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد، كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء‏.‏ وإن تكلم لأجل الله تعإلى مخلصًا له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله، من ورثة الأنبياء، خلفاء الرسل‏.‏ وليس هذا الباب مخالفًا لقوله‏:‏ ‏"‏الغيبة ذكرك أخاك بما يكره‏"‏، فإن الأخ هو المؤمن، والأخ المؤمن إن كان صادقًا في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله، وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه، بل عليه أن يقوم بالقسط، ويكون شاهدًا لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه‏.‏ومتى كره هذا الحق،كان ناقصًا في إيمانه،ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه،فلم يعتبر كراهته من الجهة التي نقص منها إيمانه؛ إذ كراهته لما

    ج/ 28 ص -236- لا يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله،كما قال تعإلى‏:‏ ‏"وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏‏.‏
    ثم قد يقال‏:‏ هذا لم يدخل في حديث الغيبة لفظًا ومعني‏.‏ وقد يقال‏:‏ دخل في ذلك الذين خص منه، كما يخص العموم اللفظي والعموم المعنوي‏.‏ وسواء زال الحكم لزوال سببه أو لوجود مانعه، فالحكم واحد‏.‏ والنزاع في ذلك يؤول إلى اللفظ، إذ العلة قد يعني بها التامة، وقد يعني بها المقتضية‏.‏ والله أعلم وأحكم‏.‏ وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏
    وقال رحمه الله تعإلى ‏:‏
    فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يري أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه، فيري موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم‏.‏

    ج/ 28 ص -237-ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتي‏.‏ تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول‏:‏ ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله‏.‏ ويقول‏:‏ والله إنه مسكين، أو رجل جيد؛ ولكن فيه كيت وكيت‏.‏ وربما يقول‏:‏ دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضمًا لجنابه‏.‏ ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقًا، وقد رأينا منهم ألوانًا كثيرة من هذا وأشباهه‏.‏
    ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه، فيقول‏:‏ لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان، لما بلغني عنه كيت وكيت، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده‏.‏ أو يقول‏:‏ فلان بليد الذهن قليل الفهم، وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه‏.‏
    ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين‏:‏ الغيبة، والحسد‏.‏ وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح؛ ليسقط ذلك عنه‏.‏
    ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب، ليضحك غيره

    ج/ 28 ص -238-باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به‏.‏
    ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول‏:‏ تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت‏؟‏‏!‏ ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت‏؟‏ وكيف فعل كيت وكيت‏؟‏ فيخرج اسمه في معرض تعجبه‏.‏
    ومنهم من يخرج الاغتنام، فيقول‏:‏ مسكين فلان، غمني ما جري له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به‏.‏ وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه‏.‏
    ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر‏.‏ والله المستعان‏.‏

    ج/ 28 ص -239-وسئل رحمه الله عن رجل مقبول القول عند الحكام يخرج للفرجة في الزهر في مواسم الفرج، حيث يكون مجمع الناس، ويري المنكر ولا يقدر على إزالته، وتخرج امرأته أيضًا معه، هل يجوز ذلك‏؟‏ وهل يقدح في عدالته‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار، إلا لموجب شرعي‏:‏ مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لابد فيه من حضوره، أو يكون مكرهًا‏.‏ فأما حضوره لمجرد الفرجة، وإحضار امرأته تشاهد ذلك، فهذا مما يقدح في عدالته ومروءته إذا أصر عليه‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 28 ص -240-وسئل رحمه الله عن بلد ‏[‏ماردين‏]‏ هل هي بلد حرب أم بلد سلم‏؟‏ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا‏؟‏ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك‏؟‏ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله‏.‏ دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ‏[‏ماردين‏]‏ أو غيرها‏.‏ وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة، سواء كانوا أهل ‏[‏ماردين‏]‏، أو غيرهم‏.‏ والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه، وجبت الهجرة عليه‏.‏ وإلا استحبت ولم تجب‏.‏
    ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك، بأي طريق أمكنهم، من تغيب، أو تعريض، أو مصانعة‏.‏ فإذا لم يمكن إلا بالهجرة، تعينت‏.‏
    ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض

    ج/ 28 ص -241-أهل ‏[‏ماردين‏]‏ وغيرهم‏.‏
    وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة‏:‏ فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين‏.‏ ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML