أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل هل تظهر العداوة لمن قال القرآن مخلوق أم يدارون

    وقال رحمه اللّه ‏:‏
    فصل
    فى مسائل إسحاق بن منصور وذكره الخلال فى ‏[‏كتاب السنة‏]‏ فى باب مجانبة من قال‏:‏ القرآن مخلوق عن إسحاق أنه قال لأبى عبد اللّه‏:‏ من قال‏:‏ القرآن مخلوق‏؟‏ قال‏:‏ ألحق به كل بلية‏.‏ قلت‏:‏ فيظهر العداوة لهم أم يداريهم‏؟‏ قال‏:‏ أهل خراسان لا يقوون بهم‏.‏ وهذا الجواب منه مع قوله فى القدرية‏:‏ لو تركنا الرواية عن القدرية، لتركناها عن أكثر أهل البصرة، ومع ما كان يعاملهم به فى المحنة‏:‏ من الدفع بالتى هى أحسن، ومخاطبتهم بالحجج، يفسر ما فى كلامه وأفعاله من هجرهم، والنهى عن مجالستهم ومكالمتهم، حتى هجر فى زمن غير ما أعيان من الأكابر، وأمر بهجرهم لنوع ما من التجهم‏.‏
    فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير، والعقوبة نوع من أنواع الهجرة

    ج/ 28 ص -211-التى هى ترك السيئات، فإن النبى ﷺ قال‏:‏ ‏"‏المهاجر من هجر السيئات‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏من هجر ما نهى اللّه عنه‏"‏، فهذا هجرة التقوى‏.‏ وفى هجرة التعزير والجهاد‏:‏ هجرة الثلاثة الذين خلفوا، وأمر المسلمين بهجرهم حتى تيب عليهم‏.‏
    فالهجرة تارة تكون من نوع التقوى، إذا كانت هجرا للسيئات، كما قال تعالى‏:
    ‏‏"وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 68، 69‏]‏، فبين سبحانه أن المتقين خلاف الظالمين، وأن المأمورين بهجران مجالس الخوض فى آيات اللّه هم المتقون‏.‏ وتارة تكون من نوع الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏.‏ وإقامة الحدود وهو عقوبة من اعتدى وكان ظالما‏.‏
    وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة؛فلهذا اختلف حكم الشرع فى نوعى الهجرتين‏:‏ بين القادر والعاجز، وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته وقوته وضعفه، كما يختلف الحكم بذلك فى سائر أنواع الظلم، من الكفر والفسوق والعصيان‏.‏ فإن كل ما حرمه اللّه، فهو ظلم؛ إما فى حق اللّه فقط، وإما فى حق عباده، وإما فيهما‏.‏ وما أمر به من هجر الترك والانتهاء وهجر العقوبة والتعزير، إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة

    ج/ 28 ص -212-دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان فى السيئة حسنة راجحة، لم تكن سيئة، وإذا كان فى العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة، لم تكن حسنة، بل تكون سيئة، وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة‏.‏
    فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التى هى ظلم وذنب وإثم وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهى عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله‏.‏ فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحضها على فعل ضد ظلمه‏:‏ من الإيمان والسنة ونحو ذلك، فإذا لم يكن فى هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورا بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك‏:‏ أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية‏.‏ فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم، سقط الأمر بفعل هذه الحسنة‏.‏ وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوى‏.‏ وكذلك لما كثر القدر فى أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم، لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم‏.‏ فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس؛ ولهذا كان الكلام فى هذه المسائل فيه تفصيل‏.‏

    ج/ 28 ص -213-وكثير من أجوبة الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول ﷺ إنما يثبت حكمها فى نظيرها‏.‏
    فإن أقواما جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر‏.‏ والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات، وفعلوا به محرمات‏.‏ وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض، لا ترك المنتهى الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهى الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهى عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا، فهم بين فعل المنكر أو ترك النهى عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا‏.‏ ودين اللّه وسط بين الغالى فيه، والجافى عنه‏.‏ واللّه سبحانه أعلم‏.‏

    ج/ 28 ص -214-وَسُئِلَ شيخُ الإسلام عن مسلم بدرت منه معصية فى حال صباه توجب مهاجرته ومجانبته‏.‏ فقالت طائفة منهم‏:‏ يستغفر اللّه، ويصفح عنه، ويتجاوز عن كل ما كان منه‏.‏ وقالت طائفة أخرى‏:‏ لا تجوز أخوته، ولا مصاحبته، فأى الطائفتين أحق بالحق‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا ريب أن من تاب إلى اللّه توبة نصوحاً، تاب اللّه عليه، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ أى‏:‏ لمن تاب‏.‏
    وإذا كان كذلك، وتاب الرجل، فإن عمل عملا صالحاً سنة من الزمان، ولم ينقض التوبة، فإنه يقبل منه ذلك، ويجالس ويكلم‏.‏ وأما إذا تاب ولم تمض عليه سنة، فللعلماء فيه قولان مشهوران، منهم من يقول‏:‏ فى الحال يجالس، وتقبل شهادته‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ لابد من مضى سنة، كما فعل عمر بن الخطاب بصَبِيغ بن عسل‏.‏ وهذه من

    ج/ 28 ص -215-مسائل الاجتهاد‏.‏ فمن رأى أن تقبل توبة هذا التائب، ويجالس فى الحال قبل اختباره، فقد أخذ بقول سائغ‏.‏ ومن رأى أنه يؤخر مدة حتى يعمل صالحاً، ويظهر صدق توبته، فقد أخذ بقول سائغ‏.‏ وكلا القولين ليس من المنكرات‏.‏
    وقال الشيخ‏:‏
    نهى اللّه عن إشاعة الفاحشة بقوله تعالى‏:‏ ‏
    "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وكذلك أمر بستر الفواحش، كما قال النبى ﷺ‏:‏ ‏"‏من ابتلى بشىء من هذه القاذورات، فليستتر بستر اللّه، فإنه من يبدلنا صفحته، نقم عليه الكتاب‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏كل أمتى معافى إلا المجاهرين والمجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره اللّه، فيصبح يتحدث به‏"‏‏.‏ فما دام الذنب مستورا، فمصيبته على صاحبه خاصة‏.‏ فإذا أظهر ولم ينكر، كان ضرره عاما، فكيف إذا كان فى ظهوره تحريك غيره إليه؛ ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيره أشكال الشعر الغزلى الرقيق، لئلا تتحرك النفوس إلى الفواحش‏.‏ فلهذا أمر من ابتلى بالعشق أن يعف ويكتم، فيكون حينئذ ممن قال اللّه فيه‏:‏ ‏"إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏"‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 28 ص -216-وقال رحمه اللّه ‏:‏
    وأما تارك الصلاة ونحوه، من المظهرين لبدعة أو فجور، فحكم المسلم يتنوع كما تنوع الحكم فى حق رسول اللّه ﷺ فى حق مكة وفى المدينة‏.‏ فليس حكم القادر على تعزيرهم بالهجرة حكم العاجز، ولا هجرة من لا يحتاج إلى مجالستهم كهجرة المحتاج‏.‏ والأصل أن هجرة الفجار نوعان‏:‏ هجرة ترك، وهجرة تعزير‏.‏ أما الأولى، فقد دل عليها قوله تعالى‏:‏‏
    "وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا‏"‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏‏.‏
    ومن هذا الباب هجرة المسلم من دار الحرب‏.‏
    فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات، ويهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة‏.‏ وأما هجر التعزير، فمثل هجر النبى ﷺ وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا‏.‏ وهجر عمر والمسلمين لصَبِيغ، فهذا من نوع العقوبات‏.‏فإذا كان يحصل

    ج/ 28 ص -217-بهذا الهجر حصول معروف، أو اندفاع منكر، فهى مشروعة‏.‏ وإن كان يحصل بها من الفساد ما يزيد على فساد الذنب، فليست مشروعة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئلَ عن شارب الخمر هل يسلم عليه ‏؟‏ وهل إذا سلم رد عليه ‏؟‏ وهل تشيع جنازته‏؟‏ وهل
    يكفر إذا شك فى تحريمها ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    الحمد للّه‏.‏ من فعل شيئا من المنكرات، كالفواحش، والخمر، والعدوان، وغير ذلك، فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبى ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏ فإن كان الرجل متسترا بذلك، وليس معلنا له، أنكر عليه سرا وستر عليه، كما قال النبى ﷺ‏:‏ ‏"‏من ستر عبدا ستره اللّه فى الدنيا والآخرة‏"‏‏.‏ إلا أن يتعدى ضرره‏.‏ والمتعدى لابد من كف عدوانه، وإذا نهاه المرء سرا فلم ينته، فعل ما يَنْكَفُّ به من هجر وغيره، إذا كان ذلك أنفع فى الدين‏.‏
    وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانية، ولم

    ج/ 28 ص -218-يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة‏.‏
    وينبغى لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتا، كما هجروه حيا، إذا كان فى ذلك كف لأمثاله من المجرمين، فيتركون تشييع جنازته، كما ترك النبى ﷺ الصلاة على غير واحد من أهل الجرائم، وكما قيل لسَمُرة بن جندب‏:‏ أن ابنك مات البارحة‏.‏ فقال‏:‏ لو مات لم أصل عليه، يعنى لأنه أعان على قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه‏.‏ وقد ترك النبى ﷺ الصلاة على قاتل نفسه‏.‏ وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم فى ترك الجهاد الواجب حتى تاب اللّه عليهم‏.‏ فإذا أظهر التوبة، أظهر له الخير‏.‏
    وأما من أنكر تحريم شىء من المحرمات المتواترة، كالخمر والميتة والفواحش، أو شك فى تحريمه، فإنه يستتاب ويعرف التحريم‏.‏ فإن تاب وإلا قتل‏.‏ وكان مرتدًا عن دين الإسلام، ولم يصل عليه، ولم يدفن بين المسلمين‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML