أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل في الموالاة والمعاداة

    ج/ 28 ص -190-وقال شيخ الإسلام رحمه الله ‏:‏
    فصل
    في الولاية والعداوة
    فإن المؤمنين أولياء الله، وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله، وأعداء المؤمنين‏.‏ وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبين أن ذلك من لوازم الإيمان ، ونهى عن موالاة الكفار، وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين، وبين حال المنافقين في موالاة الكافرين‏.‏
    فأما ‏[‏موالاة المؤمنين‏]‏ فكثيرة، كقوله‏:
    ‏‏"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏"‏‏[‏المائدة‏:‏ 55 56‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ‏"‏[‏الأنفال‏:‏72-75‏]‏‏.‏ وقال تعإلى‏:‏ ‏"أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62،63‏]‏‏.‏

    ج/ 28 ص -191-وقال‏:‏ ‏"لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏"‏ إلى آخر السورة ‏[‏ سورة الممتحنة‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏"‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوُرِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏"ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَي لَهُمْ‏"‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"وَإِن تَظَاهَرَا عليه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ على الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ إليهودَ وَالنَّصَارَي أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَي أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَي اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ‏"‏ إلى قوله‏:‏

    ج/ 28 ص -192-‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏"[‏المائدة‏:‏ 51-57‏]‏‏.‏ إلى تمام الكلام‏.‏ وقال‏:‏ ‏"لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَي كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عليهمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إليه مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏"‏‏[‏المائدة‏:‏78- 81‏]‏‏.‏
    فذم من يتولي الكفار من أهل الكتاب قبلنا، وبين أن ذلك ينافي الإيمان‏:‏ ‏
    "بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا إلىمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"سَبِيلاً‏"[‏النساء‏:‏ 138 141‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عليكم سُلْطَانًا مُّبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 144-145‏]‏‏.‏
    وقال عن المنافقين‏
    :‏‏"وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏، كما قال عن الكفار المنافقين من أهل الكتاب‏:‏ ‏"وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عليكم لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 76‏]‏‏.‏

    ج/ 28 ص -193-وقال‏:‏ ‏"أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ‏"‏، نزلت فيمن تولي إليهود من المنافقين وقال‏:‏ ‏"مَّا هُم مِّنكُمْ‏"‏، ولا من إليهود، ‏"وَيَحْلِفُونَ على الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَإلىوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏"‏[‏المجادلة‏:‏ 14 22‏]‏‏.‏ وقال‏:‏‏"أَلَمْ تَر إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ‏"‏[‏الحشر‏:‏ 11‏]‏ إلى تمام القصة، وقال‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا على أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَي الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَي لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ‏"‏ ‏[‏محمد‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏
    وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم؛ ولهذا ذكر في ‏[‏سورة المائدة‏]‏ أئمة المرتدين عقب النهى عن موالاة الكفار قوله‏:‏ ‏
    "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

    ج/ 28 ص -194-فذكر المنافقين، والكفار المهادنين، وأخبر أنهم يسمعون لقوم آخرين لم يأتوك، وهو استماع المنافقين والكفار المهادنين للكفار المعلنين الذين لم يهادنوا، كما أن في المؤمنين من قد يكون سماعا للمنافقين كما قال‏:‏ ‏"وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏‏.‏
    وبعض الناس يظن أن المعني‏:‏ سماعون لأجلهم، بمنزلة الجاسوس ، أي‏:‏ يسمعون ما يقول وينقلونه إليهم، حتى قيل لبعضهم‏:‏ أين في القرآن الحيطان لها آذان ‏؟‏ قال‏:‏ في قوله‏:‏ ‏
    "وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏"‏‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏"سَمَّاعُونَ لِلْكَذِب‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏‏.‏ أي‏:‏ ليكذبوا‏:‏ إن اللام لام التعدية، لا لام التبعية؛ وليس هذا معني الآيتين، وإنما المعني فيكم من يسمع لهم، أي‏:‏ يستجيب لهم ويتبعهم‏.‏ كما في قوله‏:‏ ‏[‏سمع اللّه لمن حمده‏]‏ استجاب اللّه لمن حمده، أي‏:‏ قبل منه، يقال‏:‏ فلان يسمع لفلان، أي‏:‏ يستجيب له ويطيعه‏.‏
    وذلك أن المسمع وإن كان أصله نفس السمع الذي يشبه الإدراك، لكن إذا كان المسموع طلبًا، ففائدته وموجبه الاستجابة والقبول‏.‏ وإذا كان المسموع خبرا، ففائدته التصديق والاعتقاد، فصار يدخل

    ج/ 28 ص -195-مقصوده وفائدته في مسماه نفيا وإثباتا،فيقال‏:‏فلان يسمع لفلان، أي‏:‏ يطيعه في أمره، أو يصدقه في خبره‏.‏ وفلان لا يسمع ما يقال له، أي‏:‏ لا يصدق الخبر ولا يطيع الأمر، كما بين اللّه السمع عن الكفار في غير موضع، كقوله‏:‏ ‏"وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء‏"‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 45‏]‏؛ وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس بالحركة، وإيجاب علم القلب حركة القلب، فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه، والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه‏.‏ فحيث انتفي موجب ذلك، دل على انتفاء مبدئه؛ ولهذا قال تعإلى‏:‏ ‏"إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَي يَبْعَثُهُمُ اللّهُ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏] ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة، أي‏:‏ يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان، لا يسمعون ما فيها من تإلىف الحروف المتضمنة للمعاني السمع الذي لابد أن يكون بالقلب مع الجسم، فقال تعإلى‏:‏‏"سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏"‏، يقول‏:‏ هم يستجيبونّ ‏"لِقَوْمٍ آخَرِينَ‏"‏، وأولئك ‏"لَمْ يَأْتُوكَ‏"‏، وأولئك ‏"يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ‏"‏ يقولون لهؤلاء الذين أتوك‏:‏ ‏"إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏"‏، كما ذكروا في سبب نزول

    ج/ 28 ص -196-الآية‏:‏ أنهم قالوا في حد الزنا، وفي القتل‏:‏ اذهبوا إلى هذا النبي الأمي، فإن حكم لكم بما تريدونه، فاقبلوه، وإن حكم بغيره، فأنتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه ‏؟‏‏!‏
    فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه ولو كانوا بمنزلة الجاسوس، لم يخص ذلك بالسماع، بل يرون ويسمعون، وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه ، لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم‏.‏
    يبين ذلك أنه قال‏:‏ ‏
    "لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏ أي‏:‏ لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم، ثم قال‏:‏ وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم؛ ولو كان المعني‏:‏ وفيكم من تجسس لهم، لم يكن مناسبا، وإنما المقصود أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة، وفيكم من يسمع منهم، حصل الشر‏.‏ وأما الجس، فلم يكونوا يحتاجون إليه، فإنهم بين المؤمنين، وهم يوضعون خلالهم‏.‏
    مما يبين ذلك أنه قال‏:‏ ‏
    "سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏، فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام، وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام‏:‏ غذاء الجسوم، وغذاء القلوب، فإنهما غذاءان

    ج/ 28 ص -197-خبيثان‏:‏ الكذب والسحت‏.‏ وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه، يسمع الكذب، كشهادة الزور؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏"‏[‏المائدة‏:‏63‏]‏‏.‏
    فلما كان هؤلاء يستجيبون لغير الرسول، كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم، لم يجب عليه الحكم بينهم، فإنهم متخيرون بين القبول منه، والقبول ممن يخالفه، فكان هو متخيرا في الحكم بينهم، والإعراض عنهم‏.‏ وإنما يجب عليه الحكم بين من لابد له منه من المؤمنين‏.‏
    وإذا ظهر المعني، تبين فصل الخطاب في وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب كالمستأمن، والمهادن، والذمي، فإن فيه نزاعا مشهوراً بين العلماء‏.‏ قيل‏:‏ ليس بواجب للتخير‏.‏ وقيل‏:‏ بل هو واجب، والتخيير منسوخ بقوله‏:‏ ‏
    "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏‏.‏ قال الأولون‏:‏ أما الأمر هنا‏:‏ أن يحكم بما أنزل اللّه إذا حكم، فهو أمر بصفة الحكم، لا بأصله، كقوله‏:‏ ‏"وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، وهذا أصوب، فإن النسخ لا يكون بمحتمل، فكيف بمرجوح‏؟‏ وقيل‏:‏ يجب في مظالم العباد دون غيرها‏.‏ والخلاف في ذلك مشهور في

    ج/ 28 ص -198-مذهب الإمام أحمد، وغيره من الأئمة‏.‏
    وحقيقة الآية‏:‏ إن كان مستجيبا لقوم آخرين، لم يأتوه، لم يجب عليه الحكم بينهم، كالمعاهد‏:‏ من المستأمن وغيره، الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دارهم، وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم، فيكون متخيراً بين الطاعة لحكم اللّه ورسوله، وبين الإعراض عنه‏.‏ وأما من لم يكن إلا مطيعاً لحكم اللّه ورسوله، ليس عنه مندوحة، كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه، وليس له من ينصره من أهل دينه، فهذا ليس في الآية تخيير‏.‏ وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب، فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولي أن يوجب ذلك‏.‏
    وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة،وبين ترك ذلك، لم يجب عليه الحكم بينهم‏.‏ وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم‏.‏
    ومن هذا الباب‏:‏ من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق، بل غرضه من يوافقه على هواه، كائنا من كان، سواء كان صحيحاً أو باطلا‏.‏ فهذا سماع لغير ما بعث اللّه به رسوله، فإن اللّه إنما بعث رسوله

    ج/ 28 ص -199-بالهدي ودين الحق، فليس على خلفاء رسول اللّه أن يفتوه ويحكموا له، كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين، لم يستجيبوا للّه ورسوله‏.‏
    ومن جنس موالاة الكفار التي ذم اللّه بها أهل الكتاب والمنافقين‏:‏ الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب اللّه، كما قال تعإلى‏:‏ ‏
    "أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَي مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقد عرف أن سبب نزولها شأن كعب بن الأشرف أحد رؤساء إليهود لما ذهب إلى المشركين، ورجح دينهم على دين محمد وأصحابه‏.‏ والقصة قد ذكرناها في ‏[‏الصارم المسلول‏]‏ لما ذكرنا قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من لكعب بن الأشرف‏؟‏ فإنه قد آذي اللّه ورسوله‏"‏‏.‏
    ونظير هذه الآية قوله تعإلى عن بعض أهل الكتاب‏:‏ ‏"وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 101، 102‏]‏‏.‏ فأخبر أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب اللّه، كما يفعله كثير من إليهود، وبعض المنتسبين إلى الإسلام من اتباعهم كتب السحرة أعداء إبراهيم وموسى من المتفلسفة ونحوهم ،

    ج/ 28 ص -200-وهو كإيمانهم بالجبت والطاغوت، فإن الطاغوت هو ‏:‏ الطاغي من الأعيان، والجبت‏:‏ هو من الأعمال والأقوال، كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ الجبت السحر، والطاغوت الشيطان؛ ولهذا قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏العيافة والطيرة، والطرق من الجبت‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
    وكذلك ما أخبر عن أهل الكتاب بقوله‏:‏ ‏
    "قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عليه وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏ أي‏:‏ ومن عبد الطاغوت ، فإن أهل الكتاب كان منهم من أشرك، وعبد الطواغيت‏.‏
    فهنا ذكر عبادتهم للطاغوت، وفي ‏[‏البقرة‏]‏ ذكر اتباعهم للسحر، وذكر في ‏[‏النساء‏]‏ إيمانهم بهما جميعا بالجبت والطاغوت‏.‏
    وأما التحاكم إلى غير كتاب اللّه، فقد قال‏:‏
    ‏"أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إلىكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ‏"‏[‏النساء‏:‏ 60، 61‏]‏‏.‏
    والطاغوت‏:‏ فعلوت من الطغيان‏.‏ كما أن الملكوت‏:‏ فعلوت من الملك‏.‏ والرحموت، والرهبوت، والرغبوت‏:‏ فعلوت من الرحمة،

    ج/ 28 ص -201-والرهبة، والرغبة‏.‏ والطغيان‏:‏ مجاوزة الحد، وهو الظلم والبغي‏.‏ فالمعبود من دون اللّه إذا لم يكن كارها لذلك‏:‏ طاغوت؛ ولهذا سمي النبي ﷺ الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال‏:‏ ‏"‏ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت‏"‏‏.‏ والمطاع في معصية اللّه، والمطاع في اتباع غير الهدي ودين الحق سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب اللّه، أو مطاعا أمره المخالف لأمر اللّه هو طاغوت؛ ولهذا سمي من تحوكم إليه، من حاكم بغير كتاب اللّه طاغوت، وسمي اللّه فرعون وعادا طغاة وقال في صيحة ثمود‏:‏ ‏"فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ‏"‏[‏الحاقة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
    فمن كان من هذه الأمة موإلىاً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب، ببعض أنواع الموالاة، ونحوها‏:‏ مثل إتيانه أهل الباطل، واتباعهم في شيء من مقالهم، وفعالهم الباطل، كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك، وذلك مثل متابعتهم في آرائهم وأعمالهم، كنحو أقوال الصابئة وأفعالهم، من الفلاسفة ونحوهم، المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال إليهود، والنصاري، وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال المجوس والمشركين وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة‏.‏
    ومن تولي أمواتهم، أو أحياءهم، بالمحبة والتعظيم والموافقة، فهو منهم كالذين وافقوا أعداء إبراهيم الخليل‏:‏ من الكِلدانيين وغيرهم

    ج/ 28 ص -202-من المشركين، عباد الكواكب أهل السحر، والذين وافقوا أعداء موسى، من فرعون وقومه بالسحر‏.‏ أو ادعي أنه ليس ثم صانع غير الصنعة، ولا خالق غير المخلوق، ولا فوق السموات إله، كما يقوله الاتحادية، وغيرهم من الجهمية‏.‏ والذين وافقوا الصابئة والفلاسفة فيما كانوا يقولونه في الخالق، ورسله‏:‏ في أسمائه وصفاته ، والمعاد، وغير ذلك‏.‏
    ولا ريب أن هذه الطوائف، وإن كان كفرها ظاهراً، فإن كثيرا من الداخلين في الإسلام، حتى من المشهورين بالعلم، والعبادة، والإمارة، قد دخل في كثير من كفرهم، وعظمهم، ويري تحكيم ما قرروه من القواعد ونحو ذلك‏.‏ وهؤلاء كثروا في المستأخرين، ولبسوا الحق الذي جاءت به الرسل بالباطل الذي كان عليه أعداؤهم‏.‏
    واللّه تعإلى يحب تمييز الخبيث من الطيب، والحق من الباطل، فيعرف أن هؤلاء الأصناف منافقون، أو فيهم نفاق ، وإن كانوا مع المسلمين، فإن كون الرجل مسلما في الظاهر لا يمنع أن يكون منافقاً في الباطن، فإن المنافقين كلهم مسلمون في الظاهر، والقرآن قد بين صفاتهم وأحكامهم‏.‏ وإذا كانوا موجودين على عهد رسول اللّه ﷺ، وفي عزة الإسلام، مع ظهور أعلام النبوة، ونور الرسالة، فهم مع بعدهم عنهما أشد وجودا، لاسيما وسبب النفاق هو سبب الكفر، وهو المعارض لما جاءت به الرسل‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML