ج/ 28 ص -121-فصل
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين، فإن رسالة الله: إما إخبار وإما إنشاء. فالإخبار عن نفسه وعن خلقه: مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد.
والإنشاء الأمر والنهي والإباحة. وهذا كما ذكر في أن: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن، لتضمنها ثلث التوحيد، إذ هو قصص، وتوحيد، وأمر. وقوله سبحانه في صفة نبينا ﷺ: "يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ" هو بيان لكمال رسالته، فإنه ﷺ هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ونهى عن كل منكر، وأحل كل طيب وحرم كل خبيث، ولهذا روي عنه أنه قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وقال في الحديث المتفق عليه: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل
ج/ 28 ص -122-رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها، ويقولون: لولا موضع اللبنة فأنا تلك اللبنة". فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث.
وأما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات كما قال: "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ" [النساء: 160]. وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث كما قال تعالى: "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" [آل عمران: 93].
وتحريم الخبائث يندرج في معنى [النهي عن المنكر] كما أن إحلال الطيبات يندرج في [الأمر بالمعروف] لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول، الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف وقد قال الله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [المائدة: 5] فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا. وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" [لآل عمران: 110]. وقال تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" [التوبة: 71]
ج/ 28 ص -123-، ولهذا قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة. فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس: فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق.
وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف، ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك. بل منهم من لم يجاهد والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم، لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال موسى لقومه: "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ" [المائدة: 21] "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" [المائدة: 22] إلى قوله: "قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" [المائدة: 24]. وقال تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" [البقرة: 246]
ج/ 28 ص -124-فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك، ولهذا لم تحل لهم الغنائم، ولم يكونوا يطئون بملك اليمين.
ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنو إسرائيل، كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خرج علينا النبي ﷺ يومًا فقال: "عرضت على الأمم، فجعل يمر النبي ومعه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه. ثم قيل لي: انظر فرأيت سوادًا كثيرًا سد الأفق فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادًا كثيرًا سد الأفق فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي ﷺ فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك وكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء أبناؤنا فبلغ النبي ﷺ فقال: هم الذين لا يتطيرون والا يكتوون، ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون: فقام عكاشة بن محصن فقال:
ج/ 28 ص -125-أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ فقال: سبقك بها عكاشة".
ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة، لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب، أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى، أو خلقه بباطل: لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف: من الكلم الطيب والعمل الصالح، بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف وما لم تنه عنه فليس من المنكر.
وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر: فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أو تنهى كلها عن معروف؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران: 104]. وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم، إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة: فكيف يشترط فيما هو من توابعها؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم. ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه:
ج/ 28 ص -126-كان التفريط منهم لا منه.
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضًا كذلك فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته، إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته، كما قال النبي ﷺ: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
وإذا كان كذلك فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر. وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح.
وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذم المفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم وهذا معنى
ج/ 28 ص -127-قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" [المائدة: 105] والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال.
وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال، إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبي ﷺ: "وذلك أدنى - أو - أضعف الإيمان" وقال: "ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان. وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته: إنكم تقرءون هذه الآية "عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" [المائدة: 105] وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت النبي ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
ج/ 28 ص -128-والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقًا، من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر كما في حديث أبي ثعلبة الخشني: سألت عنها رسول الله ﷺ قال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا يدان لك به فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر للعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله".
فيأتي بالأمر والنهي معتقدًا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء، كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك وكان فساده أعظم من صلاحه، ولهذا "أمر النبي ﷺ بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة وقال: أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم".
وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع. ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة. وأما أهل الأهواء - كالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم
ج/ 28 ص -129-ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: [التوحيد] الذي هو سلب الصفات، و [العدل] الذي هو التكذيب بالقدر، و [المنزلة بين المنزلتين] و[إنفاذ الوعيد] و[الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] الذي منه قتال الأئمة. وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع.
وجماع ذلك داخل في [القاعدة العامة]: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد.
فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل إن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوها جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا من منكر، ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر. ولم ينه
ج/ 28 ص -130-عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف. ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر وسعيًا في معصية الله ورسوله.
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقًا وينهى عن المنكر مطلقًا. وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه.
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيا فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية. وهذا باب واسع ولا
ج/ 28 ص -131-حول ولا قوة إلا بالله. ومن هذا الباب إقرار النبي ﷺ لعبد الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه، ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه وقال له سعد بن معاذ قولا الذي أحسن فيه: حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه. وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان المعروف وبغضه للمنكر، وإرادته لهذا، وكراهته لهذا: موافقة لحب الله وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين. وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته: فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد قال: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16].
فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان.
وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته: فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل كما قد بيناه في غير هذا الموضع: فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا
ج/ 28 ص -132-بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله وهذا من نوع الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ" [القصص: 50]، فإن أصل الهوى محبة النفس ويتبع ذلك بغضها ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لا يلام عليه، فإن ذلك قد لا يملك وإنما يلام على اتباعه، كما قال تعالى: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ" [ص: 26] وقال تعالى: "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ" [القصص: 50]، وقال النبي ﷺ: "ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا. وثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه".
والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ووجد وإرادة، وغير ذلك فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات.
فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، كما قال تعالى: "فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ" [القصص: 50] وقال تعالى: "ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ" [الروم: 28] الآية،
ج/ 28 ص -133-إلى أن قال: "بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ" [الروم: 29] وقال تعالى: "وَقَدْ فصل لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ" [الأنعام: 119] الآية وقال تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ" [المائدة: 77] وقال تعالى: "وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليهود وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ" [البقرة: 120] وقال تعالى في الآية الأخرى: "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 145] وقال: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ" [المائدة: 49].
ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء، كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء وذلك إن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله، ولهذا قال تعالى في موضع: "وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ" [الأنعام: 119]، وقال في موضع آخر: "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ" [القصص: 50].
فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه. ومقدار حبه
ج/ 28 ص -134-وبغضه: هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟ وهو هدى الله الذي أنزله على رسوله، بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض. لا يكون متقدما فيه بين يدي الله ورسوله، فإنه قد قال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [الحجرات: 1] ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله.
ومجرد الحب والبغض هوى، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله: ولهذا قال: "وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ" [ص: 26] فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله. وهو السبيل إليه.
وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [الملك: 2] وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخلصه وأصوبه. فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابا والخالص: أن يكون الله والصواب أن يكون على السنة. فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده، كما في الصحيح عن النبي ﷺ قال: "يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو كله للذي أشرك".
ج/ 28 ص -135-وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله وله خلق الخلق وهو حقه على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحا، وهو ما أمر الله به ورسوله وهو الطاعة فكل طاعة عمل صالح وكل عمل صالح طاعة وهو العمل المشروع المسنون، إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب وهو العمل الصالح وهو الحسن وهو البر وهو الخير، وضده المعصية والعمل الفاسد والسيئة والفجور والظلم. ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين: النية والحركة كما قال النبي ﷺ: "أصدق الأسماء حارث وهمام" فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية، لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها: أن يراد الله بذلك العمل. والعمل المحمود: الصالح، وهو المأمور به، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.
وإذا كان هذا حد كل عمل صالح: فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه ولا يكون عمله صالحا إن لم يكن بعلم وفقه وكما قال عمر بن عبد العزيز: من عبد الله بغير علم
ج/ 28 ص -136-كان ما يفسد أكثر مما يصلح. وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: "العلم إمام العمل والعمل تابعه"، وهذا ظاهر فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلا وضلالا واتباعا للهوى كما تقدم وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام. فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما.
ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي.
ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود. ولا بد في ذلك من الرفق كما قال النبي ﷺ: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه وقال: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف".
ولا بد أيضًا أن يكون حليما صبورا على الأذى، فإنه لا بد أن يحصل له أذى، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
كما قال لقمان لابنه: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" [لقمان: 17] ولهذا أمر الله الرسل - وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالصبر كقوله لخاتم الرسل، بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة. فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" [المدثر: 1] بعد أن أنزلت عليه سورة. اقرأ التي بها
ج/ 28 ص -137-نبئ فقال:"يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" [المدثر: 1] "قُمْ فَأَنذِرْ" [المدثر: 2] "وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ" [المدثر: 3] "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ" [المدثر: 4] "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" [المدثر: 5] "وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ" [المدثر: 6] "وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ" [المدثر: 7]، فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة وختمها بالأمر بالصبر ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر وقال: "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا" [الطور: 48] وقال تعالى: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" [المزمل: 10] "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" [الأحقاف: 35] "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ" [القلم: 48] "وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ" [النحل: 127] "وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [هود: 115].
فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه والصبر بعده وإن كان كل من الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به حليمًا فيما ينهى عنه".
وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس، فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه، وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو
ج/ 28 ص -138-أقل: فإن ترك الأمر الواجب معصية: فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار والمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل، وقد يكون الثاني شرًا من الأول: وقد يكون دونه، وقد يكونان سواء، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم: وقد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكونان سواء.
ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه: أن المعاصي سبب المصائب، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال وأن الطاعة سبب النعمة فإحسان العمل سبب لإحسان الله قال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" [الشورى: 30]، وقال تعالى:"مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ" [النساء: 79] وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ" [آل عمران: 155] وقال: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران: 165]، وقال: "أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ" [الشورى: 34] وقال: "وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ" [الشورى: 48] وقال تعالى: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" [الأنفال: 33].
ج/ 28 ص -139-وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وقوم فرعون: في الدنيا. وأخبر بما يعاقبهم به في الآخرة، ولهذا قال مؤمن آل فرعون: "يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ" [غافر: 30] "مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ" [غافر: 31] "وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ" [غافر: 32]، "يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" [غافر: 32]، وقال تعالى: "كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" [القلم: 33] وقال: "سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ" [التوبة: 101] وقال: "وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [السجدة: 21] وقال: "فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ" [الدخان: 10]. إلى قوله: "يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ" [الدخان: 16].
ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا وما أعده لهم في الآخرة وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط، إذ عذاب الآخرة أعظم، وثوابها أعظم، وهي دار القرار.
وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب في الدنيا تبعا، كقوله في قصة يوسف: "وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 56] "وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" [يوسف: 57] وقال: "فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [آل عمران: 148]
ج/ 28 ص -140-وقال: "وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ" [النحلل: 41] "الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" [النحلل: 42] وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ" [العنكبوت: 27]. وأما ذكره لعقوبة الدنيا والآخرة ففي سورة: "وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا" [النازعات: 1] "وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا" [النازعات: 2]، ثم قال: "يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ" [النازعات: 6] "تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ" [النازعات: 7] فذكر القيامة مطلقًا ثم قال: "هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى" [النازعات: 15] "إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى" [النازعات: 16] "اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى" [النازعات: 17] إلى قوله: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى" [النازعات: 26] ثم ذكر المبدأ والمعاد م
فصلاً فقال: "أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا" [النازعات: 27]. إلى قوله تعالى: "فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى" [النازعات: 34]. إلى قوله تعالى: "فَأَمَّا مَن طَغَى" [النازعات: 37] "وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" [النازعات: 38] "فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى" [النازعات: 39] "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى" [النازعات: 40] "فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" [النازعات: 41] إلى آخر السورة. وكذلك في [المزمل] ذكر قوله: "وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أولى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا" [المزمل: 11] "إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا" [المزمل: 12] "وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا" [المزمل: 13]، إلى قوله تعالى: "كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا" [المزمل: 15] "فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا" [المزمل: 16].
كذلك في [سورة الحاقة] ذكر قصص الأمم، كثمود وعاد وفرعون
ج/ 28 ص -141-ثم قال تعالى: "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ" [الحاقة: 13] "وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً" [الحاقة: 14] إلى تمام ما ذكره من أمر الجنة والنار. وكذلك في سورة [ن والقلم]، ذكر قصة أهل البستان الذين منعوا حق أموالهم وما عاقبهم به ثم قال: "كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" [القلم: 33]. كذلك في [سورة التغابن] قال: "أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [التغابن: 5] "ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" [التغابن: 6] ثم قال: "زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ" [التغابن: 7].
وكذلك في سورة [ق] ذكر حال المخالفين للرسل، وذكر الوعد والوعيد في الآخرة. وكذلك في [سورة القمر] ذكر هذا وهذا. كذلك في [آل حم] مثل حم غافر، والسجدة، والزخرف، والدخان وغير ذلك. إلى غير ذلك مما لا يحصى. فإن التوحيد والوعد والوعيد هو أول ما أنزل، كما في صحيح
ج/ 28 ص -142-البخاري عن يوسف بن ماهك قال: "إني عند عائشة أم المؤمنين إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك. قالت: لم؟ قال: لعلى أؤلف القرآن عليه. فإنه يقرأ غير مؤلف قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل إنما نزل أول ما نزل منه سورة من الم
فصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا لقد نزل بمكة على محمد ﷺ وإني لجارية ألعب: "بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ" [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة و النساء إلا وأنا عنده قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور".
وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليهم آخرون إنكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا، إذ الإنسان ظلوم جهول والظلم والجهل أنواع فيكون ظلم الأول وجهله من نوع وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر.
ج/ 28 ص -143-ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها، ومن تبعهم من العامة من الفتن: هذا أصلها، يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي: التي هي الأهواء الدينية والشهوانية، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا وذلك أن أسباب الضلال والغي البدع في الدين والفجور في الدنيا وهي مشتركة: تعم بني آدم، لما فيهم من الظلم والجهل، فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره، كالزنا بلواط وغيره، أو شرب خمر، أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب، أو نحو ذلك. ومعلوم أن هذه المعاصي وإن كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضًا ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد.
فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وإن لم يحصل، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات، فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها؟ فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي وأما الآخر فظلوم حسود. وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله فما كان
ج/ 28 ص -144-جنسه مباحا من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال: إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم، والبخل والحسد. وأصلهما الشح كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا". ولهذا قال الله تعالى في وصف الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين: "وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا" [الحشر: 9] أي: لا يجدون الحسد مما أوتي إخوانهم من المهاجرين، "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" [الحشر: 9] ثم قال: "وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الحشر: 9].
ورئي عبد الرحمن بن عوف يطوف بالبيت ويقول: رب قني شح نفسي رب قني شح نفسي فقيل له في ذلك فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد وقيت البخل والظلم والقطيعة أو كما قال.
فهذا الشح الذي هو شدة حرص النفس يوجب البخل بمنع ما هو عليه، والظلم بأخذ مال الغير. ويوجب قطيعة الرحم، ويوجب الحسد، وهو: كراهة ما أختص به الغير والحسد فيه بخل وظلم، فإنه بخل بما أعطيه غيره، وظلمه بطلب زوال ذلك عنه.
فإذا كان هذا في جنس الشهوات المباحة، فكيف بالمحرمة:
ج/ 28 ص -145-كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك؟ وإذا وقع فيها اختصاص فإنه يصير فيها نوعان: أحدهما: بغضها لما في ذلك من الاختصاص والظلم، كما يقع في الأمور المباحة الجنس. والثاني: بغضها لما في ذلك من حق الله. ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام: أحدها: ما فيها ظلم الناس، كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق، والحسد ونحو ذلك. والثاني: ما فيه ظلم الناس فقط، كشرب الخمر والزنا، إذا لم يتعد ضررهما. والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر، ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم، كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان وقد قال الله تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" [الأعراف: 33].
ج/ 28 ص -146-وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام.
وقد قال النبي ﷺ: "ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم"، فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له، والتعدي عليه في حقه. وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث. فهي قد تظلم من لا يظلمها، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم تفعلها، فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير وقد تصبر، ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه ما لم يكن فيها قبل ذلك ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين، يكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين، وإن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب، والجهاد على ذلك من الدين.
ج/ 28 ص -147-والناس هنا ثلاثة أقسام:
قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الأمر الذي كان عنده منكرًا - ينهى عنه ويعاقب عليه، ويذم صاحبه ويغضب عليه - مرضيا عنده وصار فاعلا له وشريكا فيه، ومعاونا عليه، ومعاديًا لمن نهى عنه وينكر عليه. وهذا غالب في بني آدم يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه. وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول، فلذلك لا يعدل بل ربما كان ظالما في الحالين يرى قومًا ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم، فيرضى أولئك المنكرون ببعض الشيء فينقلبون أعوانا له. وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه. وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك، أو يرضوه ببعض ذلك، فتراه قد صار عونا لهم. وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره. وقوم يقومون ديانة صحيحة يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا.
وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير أمة أخرجت للناس:
ج/ 28 ص -148-يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة. وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث: أمارة، ومطمئنة، ولوامة.
فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء. والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ" [الفجر: 27] "ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً" [الفجر: 27] "فَادْخُلِي فِي عِبَادِي" [الفجر: 28] "وَادْخُلِي جَنَّتِي" [الفجر: 28]. والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتتلون: تارة كذا. وتارة كذا. وتخلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال ﷺ: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر": أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانًا وصلاحًا، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة: لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسم الوسط. ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة على كثر القسم الثالث، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين، وصار ذلك في بعض الولاة
ج/ 28 ص -149-وبعض الرعايا ثم كثر ذلك بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين: وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنه مع الحق والعدل ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى. فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه: ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى كما قال تعالى: "فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ" [الشورى: 15]. وهذا أيضًا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات.
وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين. فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها: فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم، كما هو الواقع، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانه، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير. فكم ممن لم يرد خيرًا ولا شرًا حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره -
ج/ 28 ص -150-يفعله ففعله فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.
ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر: له مثل من تبعه من الأجر والوزر كما قال النبي ﷺ: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا"، وذلك لاشتراكهم في الحقيقة. وأن حكم الشيء حكم نظيره. وشبه الشيء منجذب إليه. فإذا كان هذان داعيين قويين: فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم. وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم: إما للمعاونة على ذلك، كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم. وإما بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر، فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير: إما حسدًا له على ذلك، لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم. وإما لئلا يكون له عليهم حجة. وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، ولئلا يكونوا تحت منته وخطره
ج/ 28 ص -151-ونحو ذلك من الأسباب قال الله تعالى: "وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ" [البقرة: 109] وقال تعالى في المنافقين: "وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء" [النساء: 89].
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ودت الزانية لو زنى النساء كلهن. والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد وقد يختارونها في النوع، كالزاني الذي يود أن غيره يزني، والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضًا، لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها.
وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر. فإن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وجه ينتهي إلى حد الإكراه، أولا ينتهي إلى حد الإكراه ثم إن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه: متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به. وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى. وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه. وهذه حال غالب الظالمين القادرين.
وهذا الموجود في المنكر نظيره في المعروف وأبلغ منه كما قال
ج/ 28 ص -152-تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" [البقرة: 165] فإن داعي الخير أقوى، فإن الإنسان فيه داع يدعوه إلى الإيمان والعلم، والصدق والعدل، وأداء الأمانة فإذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع آخر، لا سيما إذا كان نظيره، لا سيما مع المنافسة وهذا محمود حسن. فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين، ويبغضه إذا لم يفعل: صار له داع ثالث، فإذا أمروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع. ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات، كما يقابل الطبيب المرض بضده. فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه وذلك بشيئين: بفعل الحسنات. وترك السيئات مع وجود ما ينفي الحسنات ويقتضي السيئات. وهذه أربعة أنواع.
ويؤمر أيضًا بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وإمكانه، قال تعالى: "وَالْعَصْرِ" [العصر: 1] "إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ" [العصر: 2] "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ". وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: "لو فكر الناس كلهم في سورة والعصر لكفتهم". وهو كما قال. فإن الله تعالى أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمنا صالحًا، ومع غيره موصيًا بالحق موصيًا بالصبر.
وإذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو
ج/ 28 ص -153-الدرجة وعظيم الأجر، كما سئل النبي ﷺ: "أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء: ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه. فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه. ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة" وحينئذ فيحتاج من الصبر ما لا يحتاج إليه غيره: وذلك هو سبب الإمامة في الدين، كما قال تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" [السجدة: 24].
فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الصبر على فعل الأذى وعلى ما يقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم: وغير ذلك من أنواع الصبر. ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن به ويتنعم به ويغتذي به وهو اليقين، كما في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "يا أيها الناس سلوا الله اليقين، والعافية، فإنه لم يعط أحد بعد اليقين خيرا من العافية فسلوهما الله".
وكذلك إذا أمر غيره يحسن أو أحب موافقته على ذلك، أو نهى
ج/ 28 ص -154-غيره عن شيء، فيحتاج أن يحسن إلى ذلك الغير إحسانا يحصل به مقصوده، من حصول المحبوب واندفاع المكروه، فإن النفوس لا تصبر على المر إلا بنوع من الحلو، لا يمكن غير ذلك، ولهذا أمر الله تعالى بتأليف القلوب، حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبا في الصدقات. وقال تعالى لنبيه ﷺ: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" [الأعراف: 199]. وقال تعالى: "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" [البلد: 17] فلا بد أن يصبر وأن يرحم وهذا هو الشجاعة والكرم.
ولهذا يقرن الله بين الصلاة والزكاة تارة، وهي الإحسان إلى الخلق وبينهما وبين الصبر تارة. ولا بد من الثلاثة: الصلاة، والزكاة، والصبر. لا تقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك، في صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم، لا سيما كلما قويت الفتنة والمحنة، فالحاجة إلى ذلك تكون أشد، فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا به. ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء في شعرهم. وكذلك يتذامون بالبخل والجبن.
والقضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقا، كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل، وذم الكذب والظلم. وقد قال النبي ﷺ لما سأله الأعراب، حتى اضطروه إلى سمرة فتعلقت بردائه، فالتفت إليهم
ج/ 28 ص -155-وقال: "والذي نفسي بيده لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمته عليكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جبانًا ولا كذوبًا".
لكن يتنوع ذلك بتنوع المقاصد والصفات، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. ولهذا جاء الكتاب والسنة بذم البخل والجبن، ومدح الشجاعة والسماحة في سبيله دون ما ليس في سبيله، فقال النبي ﷺ: "شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع". وقال: "من سيدكم يا بني سلمة؟ فقالوا الجد بن قيس على أنا نزنه بالبخل فقال: وأي داء أدوأ من البخل؟" وفي رواية: "إن السيد لا يكون بخيلاً بل سيدكم الأبيض الجعد البراء بن معرور". وكذلك في الصحيح قول جابر بن عبد الله لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: إما أن تعطيني وإما أن تبخل عني فقال تقول: وإما أن تبخل عني وأي داء أدوأ من البخل؟ فجعل البخل من أعظم الأمراض. وفي صحيح مسلم عن سلمان بن ربيعة قال: "قال عمر: قسم النبي ﷺ قسْمًا فقلت: يا رسول الله والله لغير هؤلاء أحق به منهم فقال: إنهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش وبين أن يبخلوني ولست بباخل يقول: إنهم يسألوني مسألة لا تصلح فإن أعطيتهم وإلا قالوا: هو بخيل فقد خيروني بين أمرين مكرهين لا يتركوني من أحدهما: الفاحشة والتبخيل. والتبخيل أشد، فأدفع
ج/ 28 ص -156-الأشد بإعطائهم".
والبخل جنس تحته أنواع: كبائر، وغير كبائر قال تعالى: "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [آل عمران: 180]. وقال: "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" [النساء: 36] إلى قوله: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا" [النساء: 36] "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ" [النساء: 37] وقال تعالى: "وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ" [التوبة: 54]. وقال: "فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ" [التوبة: 76] "فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ" [التوبة: 77]. وقال: "وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ" [محمد: 38]. وقال: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ" [الماعون: 4] "االَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ" [الماعون: 5] "الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ" [الماعون: 6] "وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ" [الماعون: 7]. وقال: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" [التوبة: 34] "يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ" [التوبة: 35] الآية.
وما في القرآن من الأمر بالإيتاء والإعطاء وذم من ترك ذلك: كله ذم للبخل وكذلك ذمه للجبن كثير مثل قوله: "وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [الأنفال: 16]. وقوله عن المنافقين: "لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ" [التوبة: 57].
ج/ 28 ص -157-وقوله: "فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" [محمد: 20]. وقوله: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً" [النساء: 77].
وما في القرآن من الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له: كله ذم للجبن. ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم: بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ" [التوبة: 38] "إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شيئا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [التوبة: 39]. وقال تعالى: "هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" [محمد: 38] .
ج/ 28 ص -158-وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضل [الله] السابقين فقال: "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى" [الحديد: 10].
وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه فقال: "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" [البقرة: 249] وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ" [الأنفال: 45]. "وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [الأنفال: 46].
والشجاعة ليست هي قوة البدن وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته. فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به. والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. حتى يفعل ما يصلح.
فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد. وقد تقدم أن جماع ذلك هو الصبر، فإنه لا بد منه. والصبر صبران: صبر عند الغضب، وصبر عند المصيبة. كما قال الحسن: ما تجرع عبد
ج/ 28 ص -159-جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم. وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم.
والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز، ولهذا جمع النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن مسعود قال: قال النبي ﷺ: "ما تعدون الرقوب فيكم؟ قالوا: الرقوب الذي لا يولد له قال: ليس ذلك بالرقوب، ولكن الرقوب الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئًا ثم قال: ما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال فقال: ليس بذلك ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب" فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب قال الله تعالى في المصيبة: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِين" [البقرة: 155] "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ" [البقرة: 155] الآية. وقال تعالى في الغضب: "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 35].
وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر النعمة [وصبر المصيبة] كما في قوله تعالى: "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ" [هود: 9]
ج/ 28 ص -160-"وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ" [هود: 10] "إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ" [هود: 11]. وقال: "لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" [الحديد: 23].
وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال:
لا يفرحون إذا نالت سيوفهم
قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا.
وكذلك قال حسان بن ثابت في صفة الأنصار:
لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم
وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع.
وقال بعض العرب في صفة النبي ﷺ: يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر. ولما كان الشيطان يدعو الناس عند هذين النوعين إلى تعدي الحدود بقلوبهم وأصواتهم وأيديهم: "نهى النبي ﷺ عن ذلك فقال لما قيل له: وقد بكى لما رأى إبراهيم في النزع أتبكي؟ أولم تنه عن البكاء؟ فقال: إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان. وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية" فجمع بين الصوتين.
ج/ 28 ص -161- وأما نهيه عن ذلك في المصائب فمثل قوله ﷺ: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". وقال: "أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة". وقال: "ما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان". وقال: "إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم - وأشار إلى لسانه وقال: من ينح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه". واشترط على النساء في البيعة أن لا ينحن وقال: "إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالاً من قطران". وقال في الغلبة والمصائب والفرح: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". وقال: "إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان". وقال: "لا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا". إلى غير ذلك مما أمر به في الجهاد من العدل وترك العدوان، اتباعا لقوله تعالى: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: 8] ولقوله تعالى: "وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين" [البقرة: 190].
ونهى عن لباس الحرير وتختم الذهب، والشرب في آنية الذهب
رر
ج/ 28 ص -162-والفضة، وإطالة الثياب، إلى غير ذلك من أنواع السرف والخيلاء في النعم وذم الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف وجعل فيهم الخسف والمسخ.
وقد قال الله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا" [النساء: 36]. وقال عن قارون: "إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" [القصص: 76]. وهذه الأمور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء في الشهوة هي جوامع هذا الباب. وذلك أن الإنسان بين ما يحبه ويشتهيه: وبين ما يبغضه ويكرهه فهو يطلب الأول بمحبته وشهوته ويدفع الثاني ببغضه ونفرته. وإذا حصل الأول أو اندفع الثاني أوجب له فرحًا وسرورًا وإن حصل الثاني أو اندفع الأول حصل له حزن فهو محتاج عند المحبة والشهوة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الغضب والنفرة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الفرح أن يصبر عن عدوانه، وعند المصيبة أن يصبر عن الجزع منها فالنبي ﷺ ذكر الصوتين الأحمقين الفاجرين: الصوت الذي يوجب الاعتداء في الفرح حتى يصير الإنسان فرحًا فخورًا، والصوت الذي يوجب الجزع.
وأما الصوت الذي يثير الغضب لله: كالأصوات التي تقال في الجهاد من الأشعار المنشدة: فتلك لم تكن بآلات وكذلك أصوات الشهوة في الفرح، فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف
ج/ 28 ص -163-في الأعراس والأفراح للنساء والصبيان. وعامة الأشعار التي تنشد بالأصوات لتحريك النفوس هي من هذه الأقسام الأربعة وهي التشبيب، وأشعار الغضب والحمية، وهي الحماسة والهجاء. وأشعار المصائب كالمراثي وأشعار النعم والفرح وهي المدائح. والشعراء جرت عادتهم أن يمشوا مع الطبع، كما قال الله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ" [الشعراء: 225] "وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ" [الشعراء: 226]، ولهذا أخبر أنهم يتبعهم الغاوون والغاوي: هو الذي يتبع هواه بغير علم، وهذا هو الغي، وهو خلاف الرشد. كما أن الضال الذي لا يعلم مصلحته هو خلاف المهتدي قال الله سبحانه وتعالى: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى" [النجم: 1] "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى" [النجم: 2]، ولهذا قال النبي ﷺ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة، إذ كان عدم هذين مذمومًا على الإطلاق وأما وجودهما فبه تحصل مقاصد النفوس على الإطلاق، لكن العاقبة في ذلك للمتقين.
وأما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة والعاقبة وإن كانت في الآخرة فتكون في الدنيا أيضًا، كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة: "قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" [هود: 48] إلى قوله: "فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ" [هود: 49]. وقال: "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" [البقرة: 194].
ج/ 28 ص -164- والفرقان: أن يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله، فإن الله تعالى هو الذي حمده زين وذمه شين، دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم؛ ولهذا لما قال القائل من بني تميم للنبي ﷺ: إن حمدي زين وذمي شين قال له: "ذاك الله". والله سبحانه حمد الشجاعة والسماحة في سبيله، كما في الصحيح عن "أبي موسى قال: قيل: يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وقد قال سبحانه: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه" [الأنفال: 39] وذلك أن هذا هو المقصود الذي خلق الخلق له، كما قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56] فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محمودًا عند الله وهو الذي يبقى لصاحبه وهذه الأعمال الصالحات. ولهذا كان الناس أربعة أصناف: من يعمل لله بشجاعة وسماحة، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة.
ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة، فهذا ينتفع بذلك في الدنيا وليس له في الآخرة من خلاق. ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة ولا سماحة،
ج/ 28 ص -165-فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك. ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة، فهذا ليس له دنيا ولا آخرة.
فهذه الأخلاق والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموما وخصوصًا في أوقات المحن والفتن الشديدة، فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضي للفتنة عندهم ويحتاجون أيضًا إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم وكل من هذين الأمرين فيه من الصعوبة ما فيه، وإن كان يسيرًا على من يسره الله عليه. وهذا لأن الله أمر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج: 40] "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" [الحج: 41]. وكما قال: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" [غافر: 51] وكما قال: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [المجادلة: 21]. وكما قال: "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" [الصافات: 173].
ولما كان "في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة: صار في الناس من يتعلل
ج/ 28 ص -166-لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة كما قال عن المنافقين: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ" [التوبة: 49] الآية.
وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في "الجد بن قيس لما أمره النبي ﷺ بالتجهز لغزو الروم - وأظنه قال: هل لك في نساء بني الأصفر؟ - فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر عن النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر. فائذن لي ولا تفتني".
وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واستتر بجمل أحمر، وجاء فيه الحديث: "أن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر" فأنزل الله تعالى فيه: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ" [التوبة: 49] الآية. يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك. وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء. فهذا وجه قوله: "وَلاَ تَفْتِنِّي" [التوبة: 49] قال الله تعالى: "أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ" [التوبة: 49].
يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها
ج/ 28 ص -167-فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ والله يقول: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه" [الأنفال: 39].
فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده وتركه ما أمر الله به من الجهاد. فتدبر هذا، فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام: قسم يأمرون وينهون ويقاتلون، طلبًا لإزالة الفتنة التي زعموا ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة.
وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة وهذه الفتنة المذكورة في [سورة براءة] دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة، فإنها سبب نزول الآية.
وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور. وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعا أو تركهما جميعا: مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو
ج/ 28 ص -168-المال وشهوات الغي، فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك فلا بد أن يفعل شيئا من المحظورات. فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين. فإن كان المأمور أعظم أجرًا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة، وإن كان ترك المحظور أعظم أجرًا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك، فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات، فهذا هذا. وتفصيل ذلك يطول.
وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي ولا بد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف وإما بمنكر، كما قال تعالى: "إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" [يوسف: 53] فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك، فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته.
وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض وإذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر، ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين، كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة، لكن لما كان ذلك اشتراكا في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما إمام
ج/ 28 ص -169-والآخر مأموم كما "قال النبي ﷺ لمالك بن الحويرث وصاحبه: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما" وكانا متقاربين في القراءة.
وأما الأمور العادية ففي السنن أنه ﷺ قال: "لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم أحدهم". وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم: فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى. ويؤمر وينهى: إما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله وإذا اتخذ ذلك دينا كان دينا مبتدعا. وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته همام حارث فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله وإلا كان عملا فاسدا أو لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى: "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى" [الليل: 4].
وهذه الأعمال كلها باطلة من جنس أعمال الكفار "الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ" [محمد: 1] وقال تعالى: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شيئا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [النور: 39].
ج/ 28 ص -170-وقال: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا" [الفرقان: 23].
وقد أمر الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولى الأمر من المؤمنين، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأولى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء: 59].
وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء، والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم. ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعا فإنه من أولى الأمر وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا يطيعه في معصية الله كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته: أيها الناس القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق،
ج/ 28 ص -171-والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
فصل
وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة. فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب، والعمل الصالح، في الأمور العلمية والأمور العبادية. ولهذا ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: "إن أول ثلاثة تسجر بهم جهنم: رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس: هو عالم وقارئ. ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس: هو شجاع وجريء. ورجل تصدق وأعطى ليقول الناس: جواد سخي" فإن هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بإزاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين، فإن من تعلم العلم الذي بعث الله به رسله وعلمه لوجه الله كان صديقًا، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقتل كان شهيدا ومن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحا، ولهذا يسأل المفرط في ماله الرجعة وقت الموت، كما قال ابن عباس: من أعطي مالا فلم يحج منه ولم يزك سأل الرجعة وقت الموت وقرأ قوله تعالى: "وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ" [المنافقون: 10].
ج/ 28 ص -172-فهذه الأمور العلمية الكلامية يحتاج المخبر بها أن يكون ما يخبر به عن الله واليوم الآخر وما كان وما يكون: حقا صوابا. وما يأمر به وينهى عنه كما جاءت به الرسل عن الله.
فهذا هو الصواب الموافق للسنة والشريعة، المتبع لكتاب الله وسنة رسوله كما أن العبادات التي يتعبد العباد بها إذا كانت مما شرعه الله وأمر الله به ورسوله: كانت حقًا صوابًا موافقا لما بعث الله به رسله. وما لم يكن كذلك من القسمين كان من الباطل والبدع المضلة والجهل وإن كان يسميه من يسميه علوما ومعقولات، وعبادات ومجاهدات، وأذواقا ومقامات.
ويحتاج أيضًا أن يؤمر بذلك لأمر الله، وينهى عنه لنهي الله، ويخبر بما أخبر الله به، لأنه حق وإيمان وهدى كما أخبرت به الرسل. كما تحتاج العبادة أن يقصد بها وجه الله. فإذا قيل ذلك لاتباع الهوى والحمية، أو لإظهار العلم والفضيلة، أو لطلب السمعة والرياء: كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحمية ورياء. ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من أهل العلم والمقال، وأهل العبادة والحال.
فكثيرًا ما يقول هؤلاء من الأقوال ما هو خلاف
ج/ 28 ص -173- الكتاب والسنة ووفاقها. وكثيرا ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها، بل قد نهى عنها أو ما يتضمن مشروعا محظورا. وكثيرا ما يقاتل هؤلاء قتالاً مخالفًا للقتال المأمور به، أو متضمنًا لمأمور محظور.
ثم كل من الأقسام الثلاثة: المأمور، والمحظور، والمشتمل على الأمرين: قد يكون لصاحبه نية حسنة، وقد يكون متبعا لهواه وقد يجتمع له هذا وهذا. فهذه تسعة أقسام في هذه الأمور، وفي الأموال المنفقة عليها من الأموال السلطانية: الفيء وغيره والأموال الموقوفة، والأموال الموصى بها والمنذورة، وأنواع العطايا والصدقات والصلات.
وهذا كله من لبس الحق بالباطل وخلط عمل صالح وآخر سئ. والسيئ من ذلك قد يكون صاحبه مخطئًا أو ناسيًا مغفورًا له. كالمجتهد المخطئ الذي له أجر وخطؤه مغفور له وقد يكون صغيرًا مكفرًا باجتناب الكبائر وقد يكون مغفورا بتوبة أو بحسنات تمحو السيئات، أو مكفرًا بمصائب الدنيا ونحو ذلك، إلا أن دين الله الذي أنزل به كتبه وبعث به رسله ما تقدم من إرادة الله وحده بالعمل الصالح. وهذا هو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد غيره قال تعالى: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران: 85]. وقال تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [آل عمران: 18]
ج/ 28 ص -174-"إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَم" [آل عمران: 19].
والإسلام يجمع معنيين: أحدهما الاستسلام والانقياد، فلا يكون متكبرًا. والثاني الإخلاص من قوله تعالى: "وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ" [الزمر: 29] فلا يكون مشركًا وهو: أن يسلم العبد لله رب العالمين كما قال تعالى: "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ" [البقرة: 130] "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" [البقرة: 131] "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" [البقرة: 132]. وقال تعالى: "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [الأنعام: 161] "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام: 162] "لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام: 163].
والإسلام يستعمل لازمًا معدى بحرف اللام، مثل ما ذكر في هذه الآيات، ومثل قوله تعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ" [الزمر: 54] ومثل قوله تعالى: "قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [النمل: 44] ومثل قوله: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" [آل عمران: 83]
ج/ 28 ص -175-ومثل قوله: "قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام: 71].
ويستعمل متعديًا مقرونًا بالإحسان، كقوله تعالى: "وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" [البقرة: 111] "بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة: 112]. وقوله: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً" [النساء: 125] فقد أنكر أن يكون دين أحسن من هذا الدين، وهو إسلام الوجه لله مع الإحسان وأخبر أن كل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أثبتت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة ردًا لما زعم من زعمه أن لا يدخل الجنة إلا متهود أو متنصر. وهذان الوصفان - وهما إسلام الوجه لله، والإحسان - هما الأصلان المتقدمان وهما: كون العمل خالصا لله صوابا: موافقا للسنة والشريعة.
وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله، كما
ج/ 28 ص -176-قال بعضهم:
أستغفر الله ذنبًا لست محصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل
وقد استعمل هنا أربعة ألفاظ: إسلام الوجه، وإقامة الوجه، كقوله تعالى: "وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ" [الأعراف: 29]. وقوله: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" [الروم: 30] وتوجيه الوجه كقول الخليل: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [الأنعام: 79].
وكذلك كان النبي ﷺ يقول في دعاء الاستفتاح في صلاته: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [الأنعام: 79].
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ مما يقول إذا أوى إلى فراشه: "اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك".
فالوجه يتناول المتوجه والمتوجه إليه ويتناول المتوجه نحوه كما يقال: أي وجه تريد؟ أي: أي وجهة وناحية تقصد: وذلك أنهما متلازمان. فحيث توجه الإنسان توجه وجهه، ووجهه مستلزم لتوجهه، وهذا في باطنه وظاهره جميعا. فهذه أربعة أمور.
والباطن هو الأصل والظاهر هو الكمال والشعار فإذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده
ج/ 28 ص -177-فإذا كان مع ذلك محسنا فقد اجتمع أن يكون عمله صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا وهو قول عمر رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا واجعله لوجهك خالصًا ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.
والعمل الصالح هو الإحسان: وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسنا في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب.
ولهذا كان أئمة السلف يجمعون هذين الأصلين، كقول الفضيل ابن عياض في قوله تعالى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه فقيل: يا أبا على ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل. وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص: أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة.
وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير قال: لا يقبل قول وعمل إلا بنية ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. ورويا عن الحسن البصري مثله ولفظه: [لا يصلح] مكان يقبل. وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافيًا فأخبر أنه لا بد من قول وعمل إذ الإيمان قول وعمل، لا بد من هذين كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان
ج/ 28 ص -178-مع البغض والاستكبار لا يكون إيمانًا - باتفاق المؤمنين - حتى يقترن بالتصديق عمل. وأصل العمل عمل القلب وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل إلا بنية وهذا ظاهر فإن القول [أو] العمل إذا لم يكن خالصا لله تعالى لم يقبله الله تعالى. ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، وهي الشريعة وهي ما أمر الله به ورسوله، لأن القول [أو] العمل [أو] النية الذي لا يكون مسنونًا مشروعًا قد أمر الله به: يكون بدعة ليس مما يحبه الله فلا يقبله الله، ولا يصلح: مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب.
ولفظ [السنة] في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء رضي الله عنهم: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. وأمثال ذلك. والحمد لله رب العالمين. وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين.
ج/ 28 ص -179-وقال شيخ الإسلام بعد كلام سبق :
وأصل ذلك العلم، فإنه لا يعلم العدل والظلم إلا بالعلم، فصار الدين كله العلم والعدل، وضد ذلك الظلم والجهل. قال الله تعإلى: "وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" [الأحزاب: 72]. ولما كان ظلوما جهولا وذلك يقع من الرعاة تارة، ومن الرعية تارة، ومن غيرهم تارة كان من العلم والعدل المأمور به الصبر على ظلم الأئمة وجورهم، كما هو من أصول أهل السنة والجماعة، وكما أمر به النبي ﷺ في الأحاديث المشهورة عنه لما قال: "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض". وقال: "من رأي من أميره شيئا يكرهه، فليصبر عليه" إلى أمثال ذلك. وقال: "أدوا إليهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم".
ونهوا عن قتالهم ما صلو؛ وذلك لأن معهم أصل الدين المقصود، وهو توحيد الله وعبادته، ومعهم حسنات، وترك سيئات كثيرة.
وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ، أو غير سائغ ، فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم وجور، كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه، وتزيل العدوان بما هو أعدي منه،
ج/ 28 ص -180-فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم، فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على ظلم المأمور والمنهى في مواضع كثيرة، كقوله: "وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ على مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" [لقمان: 17]، وقوله: "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" [الأحقاف: 35]، وقوله: "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا" [الطور: 48].
وهذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية، إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا به في ذات الله، كما يصبر المجاهدون على ما يصاب من أنفسهم وأموالهم . فالصبر على الأذي في العرض أولي وأولي؛ وذلك لأن مصلحة الأمر والنهى لا تتم إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، ويندرج في ذلك ولاة الأمور. فإن عليهم من الصبر والحلم ما ليس على غيرهم، كما أن عليهم من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم؛ لأن مصلحة الإمارة لا تتم إلا بذلك، فكما وجب على الأئمة الصبر على أذي الرعية وظلمها إذا لم تتم المصلحة إلا بذلك، إذ كان تركه يفضي إلى فساد أكثر منه، فكذلك يجب على الرعية الصبر على جور الأئمة وظلمهم إذا لم يكن في ترك الصبر مفسدة راجحة.
فعلى كل من الراعي والرعية للآخر حقوقا يجب عليه أداؤها، كما ذكر بعضه في "كتاب الجهاد، والقضاء" وعليه أن يصبر للآخر ويحلم
ج/ 28 ص -181-عنه في أمور؛ فلابد من السماحة والصبر في كل منهما، كما قال تعإلى: "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" [البلد: 17]، وفي الحديث: "أفضل الإيمان السماحة والصبر". ومن أسماء الله: الغفور الرحيم. فبالحلم يعفو عن سيئاتهم، وبالسماحة يوصل إليهم المنافع، فيجمع جلب المنفعة ودفع المضرة.
فأما الإمساك عن ظلمهم والعدل عليهم، فوجوب ذلك أظهر من هذا، فلا حاجة إلى بيانه، والله أعلم.