أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل ثبت للشام وأهله مناقب

    ج/ 27 ص -505-وَقَالَ رحَمهُ اللّه ‏:‏
    فصل

    ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمين على غزو التتار وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهىي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي العسكر المصري إلى الشام، وتثبيت الشامي فيه‏.‏ وقد جرت في ذلك فصول متعددة‏.‏ وهذه المناقب أمور‏:‏
    أحدها‏:‏ البركة فيه‏.‏ ثبت ذلك بخمس آيات من كتاب اللّه تعإلى‏:‏ قوله تعإلى في قصة موسي‏:‏ ‏
    "قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَي رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَي على بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏:‏ 137‏]‏‏.‏

    ج/ 27 ص -506-ومعلوم أن بني إسرائيل إنما أورثوا مشارق أرض الشام ومغاربها بعد أن أغرق فرعون في إلىم‏.‏ وقوله تعإلى‏:‏ ‏"سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَي بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَي الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏"‏[‏الإسراء‏:‏1‏]‏ و‏"حوله‏"‏ أرض الشام، وقوله تعإلى في قصة إبراهيم‏:‏ ‏"وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏70، 71‏]‏‏.‏ ومعلوم أن إبراهيم إنما نجاه اللّه ولوطاً إلى أرض الشام من أرض الجزيرة والفرات‏.‏ وقوله تعإلى‏:‏ ‏"وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ‏"‏ [‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏‏.‏ وإنما كانت تجري إلى أرض الشام التي فيها مملكة سليمان‏.‏ وقوله تعإلى في قصة سبأ‏:‏ ‏"وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًي ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ‏"‏[‏سبأ‏:‏ 18‏]‏ وهما كانا بين إلىمن مساكن سبأ وبين منتهي الشام من العمارة القديمة، كما قد ذكره العلماء‏.‏
    فهذه خمس نصوص حيث ذكر اللّه أرض الشام في هجرة إبراهيم إليها، ومسري الرسول إليها، وانتقال بني إسرائيل إليها، ومملكة سليمان بها، ومسير سبأ إليها، وصفها بأنها الأرض التي باركنا فيها‏.‏
    وأيضا، ففيها الطور الذي كلم اللّه عليه موسي‏.‏ والذي أقسم اللّه به في سورة ‏[‏الطور‏]‏ وفي ‏[‏التين والزيتون وطور سينين‏]‏ وفيها

    ج/ 27 ص -507-المسجد الأقصي، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها مسري نبينا، ومنها معراجه، وبها ملكه وعمود دينه، وكتابه، وطائفة منصورة من أمته، وإليها المحشر والمعاد، كما أن من مكة المبدأ‏.‏ فمكة أم القري من تحتها دحيت الأرض، والشام إليها يحشر الناس، كما في قوله‏:‏ ‏"لِأَوَّلِ الْحَشْرِ‏"‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏ نبه على الحشر الثاني، فمكة مبدأ ، وإيليا معاد في الخلق، وكذلك في الأمر، فإنه أسري بالرسول من مكة إلى إيليا‏.‏ ومبعثه ومخرج دينه من مكة، وكمال دينه وظهوره وتمامه، حتى مملكة المهدي بالشام، فمكة هي الأول والشام هي الآخر، في الخلق والأمر في الكلمات الكونية والدينية‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ أن بها طائفة منصورة إلى قيام الساعة التي ثبت فيها الحديث في الصحاح من حديث معاوية وغيره‏:‏ ‏"‏لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة‏"‏‏.‏ وفيهما عن معاذ بن جبل، قال‏:‏ ‏"‏وهم في الشام‏"‏ وفي تاريخ البخاري مرفوعا قال‏:‏ ‏"‏وهم بدمشق‏"‏، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏لا يزال أهل المغرب ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة‏"‏‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ أهل المغرب هم أهل الشام، وهم كما قال لوجهين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن في سائر الحديث بيان أنهم أهل الشام‏.‏

    ج/ 27 ص -508-الثاني‏:‏ أن لغة النبي ﷺ وأهل مدينته في ‏[‏أهل المغرب‏]‏ هم أهل الشام، ومن يغرب عنهم‏.‏ كما أن لغتهم في أهل المشرق هم أهل نجد والعراق؛ فإن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، فكل بلد له غرب قد يكون شرقا لغيره، وله شرق قد يكون غربا لغيره‏.‏ فالاعتبار في كلام النبي ﷺ بما كان غربا وشرقا له حيث تكلم بهذا الحديث وهي المدينة‏.‏
    ومن علم حساب الأرض كطولها وعرضها، علم أن حران والرقة وسيمسياط على سمت مكة، وأن الفرات وما على جانبيها بل أكثره على سمت المدينة، بينهما في الطول درجتين‏.‏ فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة وما كان شرقيها فهو شرقي المدينة‏.‏
    فأخبر أن أهل الغرب لا يزالون ظاهرين، وأما أهل الشرق فقد يظهرون تارة ويغلبون أخري‏.‏ وهكذا هو الواقع؛ فإن جيش الشام ما زال منصورا، وكان أهل المدينة يسمون ‏[‏الأوزاعي‏]‏ إمام أهل المغرب، ويسمون ‏[‏الثوري‏]‏ شرقياً، ومن أهل المشرق‏.‏
    ومن ذلك ‏:‏ أنها خيرة اللّه من الأرض‏.‏ إن أهلها خيرة اللّه وخيار أهل الأرض، واستدل أبو داود في سننه على ذلك بحديثين‏:‏ حديث عبد اللّه بن حَوَالة الأزدي عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏ستجندون

    ج/ 27 ص -509-أجنادا، جندا بالشام، وجندا بإلىمن، وجندا بالعراق‏"‏‏.‏ فقال الخَوَإلى‏:‏ يا رسول اللّه، اختر لي‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏عليك بالشام؛ فإنها خيرة اللّه من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده‏.‏ فمن أبي فليلحق بيمنه، وليتق من غدره، فإن اللّه قد تكفل لي بالشام وأهله‏"‏‏.‏ وكان الخوإلى يقول‏:‏ ومن تكفل اللّه به فلا ضعية عليه‏.‏ ففي هذا الحديث مناقب أنها خيرة‏.‏
    وحديث عبد اللّه بن عمرو عن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقي في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم حيثما باتوا، وتقيل معهم حيثما قالوا‏"‏‏.‏ فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم؛ بخلاف من يأتي إليه أو يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام‏.‏ وفي هذا الحديث بشري لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد ﷺ تسليما، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول اللّه ﷺ إلى المدينة؛ لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم يعدل لنا مهاجر نبينا ﷺ؛ فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ أمر النبي ﷺ بها في حديث الترمذي‏.‏

    ج/ 27 ص -510-ومن ذلك‏:‏ أن اللّه قد تكفل بالشام وأهله، كما في حديث الخوإلى‏.‏ ومن ذلك‏:‏ أن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام‏.‏ كما في الصحيح من حديث عبد اللّه بن عمر‏.‏ ومن ذلك‏:‏ أن عمود الكتاب والاسلام بالشام، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏رأيت كأن عمود الكتاب أخذ من تحت رأسي فأتبعته بصري فذهب به إلى الشام‏"‏‏.‏ ومن ذلك أنها عقر دار المؤمنين، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏وعقر دار المؤمنين الشام‏"‏‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ أن منافقيها لا يغلبوا أمر مؤمنيها، كما رواه أحمد في المسند في حديث‏.‏ وبهذا استدللت لقوم من قضاة القضاة وغيرهم في فتن قام فيها علينا قوم من أهل الفجور والبدع، الموصوفين بخصال المنافقين لما خوفونا منهم، فأخبرتهم بهذا الحديث، وأن منافقينا لا يغلبوا مؤمنينا‏.‏
    وقد ظهر مصداق هذه النصوص النبوية على أكمل الوجوه في جهادنا للتتار، وأظهر اللّه للمسلمين صدق ما وعدناهم به، وبركة ما أمرناهم به، وكان ذلك فتحا عظيما، ما رأي المسلمون مثله منذ خرجت مملكة التتار التي أذلت أهل الإسلام؛ فإنهم لم يهزموا ويغلبوا كما غلبوا

    ج/ 27 ص -511-على باب دمشق في الغزوة الكبري، التي أنعم اللّه علينا فيها من النعم بما لا نحصيه؛ خصوصا وعموماً‏.‏ والحمد للّه رب العالمين، حمدا كثيرا طيباً مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله‏.‏
    آخر المجلد السابع والعشرين


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML