ج/ 27 ص -491-وَقَالَ رحمَهُ اللّه :
وأما [بنت يزيد بن السكن] فهذه توفيت بالشام فهذه قبرها محتمل. وأما [قبر بلال] فممكن؛ فإنه دفن بباب الصغير بدمشق، فيعلم أنه دفن هناك. وأما القطع بتعيين قبره ففيه نظر؛ فإنه يقال: إن تلك القبور حرثت.
ومنها: القبر المضاف إلى [أويس القرني] غربي دمشق؛ فإن أويسا لم يجئ إلى الشام، وإنما ذهب إلى العراق.
ومنها: القبر المضاف إلى هود عليه السلام بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم؛ فإن هوداً لم يجئ إلى الشام، بل بعث بإلىمن، وهاجر إلى مكة. فقيل: إنه مات بإلىمن. وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاء قبر معاوية بن أبي سفيان، وأما الذي خارج باب الصغير الذي يقال: إنه قبر معاوية، فإنما هو معاوية بن يزيد بن معاوية الذي تولي الخلافة مدة قصيرة ثم مات ولم يعهد إلى أحد. وكان فيه دين وصلاح.
ج/ 27 ص -492-ومنها: قبر خالد بحمص. يقال: إنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية أخو معاوية هذا، ولكن لما اشتهر أنه خالد، والمشهور عند العامة خالد بن الوليد؛ ظنوا أنه خالد بن الوليد، وقد اختلف في ذلك هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد. وذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن خالد بن الوليد توفي بحمص. وقيل: بالمدينة، سنة إحدي وعشرين أو اثنين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصي إلى عمر، واللّه أعلم.
ومنها: [قبر أبي مسلم الخولاني] الذي بداريا، اختلف فيه.
ومنها: [قبر علي بن الحسين] الذي بمصر، فإنه كذب قطعاً. فإن على بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناس، ودفن بالبقيع.
ومنها: مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في قتل الحسين اتفقوا على أن الرأس ليس بمصر، ويعلمون أن هذا كذب. وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان، وذاك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة في أواخر المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو ثلاثمائة عام. قد بين كذب هذا المشهد ابن دحية في [العلم المشهور]، وأن الرأس دفن بالمدينة، كما ذكره الزبير بن بكار. والذي صح من أمر حمل الرأس ما ذكره البخاري في صحيحه: أنه حمل إلى عبيد اللّه بن زياد، وجعل
ج/ 27 ص -493-ينكت بالقضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك. وفي رواية: أبو برزة الأسلمي، وكلاهما كان بالعراق، وقد ورد بإسناد منقطع أو مجهول: أنه حمل إلى يزيد. وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرا وأنكر هذا. وهذا كذب؛ فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد وإنما كان بالعراق.
وأما بدن الحسين فبكربلاء بالاتفاق. قال أبو العباس: وقد حدثني الثقات طائفة عن ابن دقيق العيد، وطائفة عن أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، وطائفة عن أبي بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني، وطائفة عن أبي عبد اللّه القرطبي صاحب التفسير، كل هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، وحدثني عن بعضهم عدد كثير كل حدثني عمن حدثه من هؤلاء أنه كان ينكر أمر هذا المشهد، ويقول: إنه كذب، وأنه ليس فيه قبر الحسين ولا شيء منه، والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: إنما فيه نصراني.
ومنها: قبر على رضي اللّه عنه الذي بباطن النجف؛ فإن المعروف عند أهل العلم أن علىا دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة من الشام، ودفن عمرو بقصر الإمارة؛ خوفا عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم، ولكن قيل: إن الذي بالنجف قبر المغيرة
ج/ 27 ص -494-بن شعبة، ولم يكن أحد يذكر أنه قبر على، ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة.
ومنها : قبر عبد اللّه بن عمر في الجزيرة، والناس متفقون على أن عبد اللّه بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير، وأوصي أن يدفن بالحل؛ لكونه من المهاجرين، فشق ذلك عليهم فدفنوه بأعلى مكة.
ومنها قبر جابر الذي بظاهر حران، والناس متفقون على أن جابرا توفي بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها.
ومنها قبر ينسب إلى أم كلثوم ورقية بالشام، وقد اتفق الناس على أنهما ماتتا في حياة النبي ﷺ بالمدينة تحت عثمان، وهذا إنما هو سبب اشتراك الأسماء؛ لعل شخصاً يسمي باسم من ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة، فظن بعض الجهال أنه أحد من الصحابة.
ج/ 27 ص -495-وَسئل رَحمه اللّه عن أناس ساكنين بالقاهرة، ثم إنهم يأخذون أضحيتهم فيذبحونها بالقرافة.
فأجاب:
لا يشرع لأحد أن يذبح الأضحية ولا غيرها عند القبور ، بل ولا يشرع شيء من العبادات الأصلية كالصلاة والصيام والصدقة عند القبور، فمن ظن أن التضحية عند القبور مستحبة، وأنها أفضل، فهو جاهل ضال مخالف لإجماع المسلمين، بل قد نهى رسول اللّه ﷺ عن العقر عند القبر، كما كان يفعل بعض أهل الجاهلية إذا مات لهم كبير ذبحوا عند قبره . والنبي ﷺ نهى أن تتخذ القبور مساجد، فلعن الذين يفعلون ذلك؛ تحذيرا لأمته أن تتشبه بالمشركين الذين يعظمون القبور حتى عبدوهم ، فكيف يتخذ القبر منسكا يقصد النسك فيه ؟! فإن هذا أيضا من التشبه بالمشركين . وقد قال الخليل صلاة اللّه وسلامه عليه : "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام: 162].
فيجب الإخلاص والصلاة والنسك للّه ، وإن لم يقصد العبد الذبح
ج/ 27 ص -496-عند القبر، لكن الشريعة سدت الذريعة، كما نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأنه حينئذ يسجد لها الكفار، وإن كان المصلي للّه لم يقصد ذلك. وكذلك اتخاذ القبور مساجد قد نهى عنها وإن كان المصلي لا يصلي إلا للّه وقال: "ليس منا من تشبه بغيرنا"، وقال: "من تشبه بقوم فهو منهم". واللّه أعلم.
وَسُئِلَ عن رجل غدا إلى [التكروري] يتفرج، فغرق. هل هو عاص أم شهيد؟
فأجاب:
إن قصد الذهاب إلى هذا القبر للصلاة عنده، والدعاء به، والتمسح بالقبر، وتقبيله، ونحو ذلك مما نهى عنه، أو أن يعمل بشيء نهى اللّه عنه من الفواحش، والخمر، والزمر، أو التفرج على هؤلاء، ورؤية أهل المعاصي من غير إنكار، فهم عصاة للّه في هذا السفر، وأمرهم إلى اللّه تعإلى، ويرجي لهم بالغرق رحمة اللّه، واللّه أعلم.
ج/ 27 ص -497-وَسئل رَحمه اللّه :
هل في هذه الأمة أقوام صالحون غيبهم اللّه عن الناس لا يراهم إلا من أرادوا؟ ولو كانوا بين الناس فهم محجوبون بحالهم؟ وهل في جبل لبنان أربعين رجلا غائبين عن أعين الناظرين، كلما مات منهم واحد أخذوا من الناس واحدا غيره، يغيب معهم كما يغيبون؟ وكل أولئك تطوي بهم الأرض، ويحجون، ويسافرون ما مسيرته شهرا أو سنة في ساعة، ومنهم قوم يطيرون كالطيور، ويتحدثون عن المغيبات قبل أن تأتي، ويأكلون العظام والطين، ويجدونه طعاما وحلاوة وغير ذلك ؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما وجود أقوام يحتجبون عن الناس دائماً فهذا باطل، لم يكن لأحد من الأنبياء ولا الأولياء ولا السحرة، ولكن قد يحتجب الرجل بعض الأوقات عن بعض الناس، إما كرامة لولي، وإما على سبيل السحر. فإن هذه الأحوال منها ما هو حال رحماني، وهو كرامات أولياء اللّه المتبعين للكتاب والسنة، وهم المؤمنون المتقون. ومنه ما هو حال نفساني أو شيطاني، كما يحصل لبعض
ج/ 27 ص -498-الكفار أن يكاشف أحياناً، وكما يحصل لبعض الكهان أن تخبره الشياطين بأشياء. وأحوال أهل البدع هي من هذا الباب.
ومن هؤلاء من تحمله الشياطين فتطير به في الهواء. ومنهم من يرقص في الهواء. ومنهم من يلبسه الشيطان فلا يحس بالضرب ولا بالنار إذا ألقي فيها، لكنها لا تكون عليه بردا أو سلاماً، فإن ذلك لا يكون إلا لأهل الأحوال الرحمانية وأهل الإشارات التي هي فسادات، من اللاذن، والزعفران، وماء الورد، وغير ذلك هم من هؤلاء. فجمهورهم أرباب محال بهتاني، وخواصهم لهم حال شيطاني، وليس فيهم ولي للّه، بل هم من إخوان الشياطين من جنس التتر.
وليس في جبل لبنان ولا غيره أربعون رجلا يقيمون هناك، ولا هناك من يغيب عن أبصار الناس دائما، والحديث المروي في أن الأبدال أربعون رجلا حديث ضعيف؛ فإن أولياء اللّه المتقين يزيدون وينقصون بحسب كثرة الإيمان والتقوي، وبحسب قلة ذلك، كانوا في أول الإسلام أقل من أربعين، لما انتشر الإسلام كانوا أكثر من ذلك.
وأما قطع المسافة البعيدة فهذا يكون لبعض الصالحين ويكون لبعض إخوان الشياطين، وليس هذا من أعظم الكرامات، بل الذي
ج/ 27 ص -499-يحج مع المسلمين أعظم ممن يحج في الهواء؛ ولهذا اجتمع الشيخ إبراهيم الجعبري ببعض من كان يحج في الهواء، فطلبوا منه أن يحج معهم فقال: هذا الحج لا يجزي عنكم حتى تحجوا كما يحج المسلمون. وكما حج رسول اللّه ﷺ وأصحابه. فوافقوه على ذلك، وقالوا بعد قضاء الحج : ما حججنا حجة أبرك من هذه الحجة، ذقنا فيها طعم عبادة اللّه وطاعته. وهذا يكون بعض الأوقات، ليس هذا للإنسان كل ما طلبه.
وكذلك المكاشفات تقع بعض الأحيان من أولياء اللّه، وأحياناً من إخوان الشياطين.
وهؤلاء الذين أحوالهم شيطانية قد يأكل أحدهم المآكل الخبيثة، حتى يأكل العذرة وغيرها من الخبائث بالحال الشيطاني، وهم مذمومون على هذا. فإن أولياء اللّه هم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. فمن أكل الخبائث كانت أحواله شيطانية. فإن الأحوال نتائج الأعمال. فالأكل من الطيبات والعمل الصالح يورث الأحوال الرحمانية، من المكاشفات، والتأثيرات التي يحبها اللّه ورسوله. وأكل الخبائث وعمل المنكرات يورث الأحوال الشيطانية التي يبغضها اللّه ورسوله، وخفراء التتر هم من هؤلاء.
ج/ 27 ص -500-وإذا اجتمعوا مع من له حال رحماني بطلت أحوالهم ، وهربت شياطينهم. وإنما يظهرون عند الكفار والجهال، كما يظهر أهل الإشارات عند التتر والأعراب والفلاحين ونحوهم من الجهال الذين لا يعرفون الكتاب والسنة. وأما إذا ظهر المحمديون أهل الكتاب والسنة فإن حال هؤلاء يبطل، واللّه أعلم.
ما قول أئمّة الدّين في تعبد النبي ﷺ ماهو ، وكيف كان قبل مبعثه ؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد للّه، هذه المسألة مما لا يحتاج إليها في شريعتنا. فإنما علينا أن نطيع الرسول فيما أمرنا به، ونقتدي به بعد إرساله إلينا. وأما ما كان قبل ذلك مثل تحنثه بغار حراء، وأمثال ذلك، فهذا ليس سنة مسنونة للأمة؛ فلهذا لم يكن أحد من الصحابة بعد الإسلام يذهب إلى غار حراء، ولا يتحري مثل ذلك؛ فإنه لا يشرع لنا بعد الإسلام أن نقصد غيران الجبال، ولا نتخلي فيها، بل يسن لنا العكوف بالمساجد سنة مسنونة لنا.
وأما قصد التخلي في كهوف الجبال وغيرانها، والسفر إلى الجبل
ج/ 27 ص -501-للبركة، مثل جبل الطور وجبل حراء، وجبل يثرب، أو نحو ذلك، فهذا ليس بمشروع لنا، بل قد قال ﷺ: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد". وقد كان ﷺ قبل البعثة يحج، ويتصدق، ويحمل الكَلَّ، ويُقْرِي الضَّيْفَ، ويعين على نوائب الحق، ولم يكن على دين قومه المشركين، صلي اللّه عليه وعلى أصحابه وسلم تسليما كثيراً.
ج/ 27 ص -502-وَقَال:
فصل
وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة، بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه، فهذا كما تقدم لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله؛ فإنه ليس فيه متابعتهم، لا في عمل عملوه، ولا قصد قصدوه، ومعلوم أن الأمكنة التي كان النبي ﷺ يحل فيها؛ إما في سفره، وإما في مقامه؛ مثل طرقه في حجه وغزواته، ومنازله في أسفاره، ومثل بيوته التي كان يسكنها والبيوت التي كان يأتي إليها أحيانا من... فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك".
فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم، ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم، ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها واتخاذها مساجد.
ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وأراد أن
ج/ 27 ص -503-تكون المساجد خالصة للّه تعإلى تبني لأجل عبادته فقط لا يشركه في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراما، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل.
ولهذا كانت النصاري يبنون الكنائس على قبر النبي والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه. وهذا الذي خاف عمر رضي اللّه عنه أن يقع فيه المسلمون وهو الذي قصد النبي ﷺ منع أمته منه، كما قال اللّه تعإلى: "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" [الجن: 18]، وقال تعإلى:"قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" [الأعراف: 29]، وقال تعإلى: "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ" [التوبة: 17، 18] .
ولو كان هذا مستحباً لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه، وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره. ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد، ولم يفعل السلف شيئا من ذلك.
ولم يشرع اللّه تعإلى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلى المسجد. ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر. فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى
ج/ 27 ص -504-تقصد بالذكر والدعاء والتكبير، لا الصلاة، بخلاف المساجد، فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر وفيها الصلاة والنسك، قال تعإلى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ" [الأنعام: 162، 163]، وما سوي ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة، ولا الدعاء، ولا الذكر، إذ لم يأت في شرع اللّه ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكنا لنبي أو منزلا أو ممراً.
فإن الدين أصله متابعة النبي ﷺ وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه.
فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلا سَنَّ لنا أن نتأسي به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له ﷺ. وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحاً كما فعله مباحاً، ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان، كما تقدم. وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبعه فيه؛ فإن فعله مباحا فعلناه مباحا، وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأي أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به، ورأي أن في ذلك بركة لكونه مختصاً به نوع اختصاص.