ج/ 27 ص -182-وَقَالَ الشيخ محمد بن عبد الهادى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. أما بعد، فهذه فتيا أفتى بها الشيخ الإمام تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه ثم بعد مدة نحو سبع عشرة سنة، أنكرها بعض الناس، وشنع بها جماعة عند بعض ولاة الأمور، وذكرت بعبارات شنيعة، ففهم منها جماعة غير ما هى علىه، وانضم إلى الإنكار والشناعة وتغير الألفاظ أمور أوجب ذلك كله مكاتبة السلطان سلطان الإسلام بمصر أيده الله تعالى فجمع قضاة بلده، ثم اقتضى الرأى حبسه، فحبس بقلعة دمشق المحروسة بكتاب ورد سابع شعبان المبارك، سنة ست وعشرين وسبعمائة.
وفي ذلك كله لم يحظر الشيخ المذكور بمجلس حكم، ولا وقف على خطه الذى أنكر، ولا ادعى عليه بشىء.
فكتب بعض الغرباء من بلده هذه الفتيا، وأوقف عليها بعض علماء بغداد، فكتبوا علىها بعد تأملها، وقراءة ألفاظها.
ج/ 27 ص -183-وسئل بعض مالكية دمشق عنها، فكتبوا كذلك. وبلغنا أن بمصر من وقف عليها فوافق.
ونبدأ الآن بذكر السؤال الذى كتب عليه أهل بغداد، وبذكر الفتيا، وجواب الشيخ المذكور عليها، وجواب الفقهاء بعده.
وهذه صورة السؤال والأجوبة:
المسؤول من إنعام السادة العلماء، والهداة الفضلاء، أئمة الدين وهداة المسلمين، وفقهم الله لمرضاته، وأدام بهم الهداية، أن ينعموا ويتأملوا الفتوى وجوابها المتصل بهذا السؤال المنسوخ عقبه، وصورة ذلك:
ما يقول السادة العلماء، أئمة الدين، نفع الله بهم المسلمين: في رجل نوى السفر إلى [زيارة قبور الأنبياء والصالحين] مثل نبينا محمد ﷺ. وغيره فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟
وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: "من حج ولم يزرنى فقد جفانى"، "ومن زارني بعد موتى، كمن زارني في حياتى"،
ج/ 27 ص -184-وقد روي عنه ﷺ أيضًا أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".
أفتونا مأجورين رحمكم الله
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:
أحدهما: وهو قول متقدمى العلماء الذين لايجوزون القصر في سفر المعصية، كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين: أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهى عنه. ومذهب مالك والشافعى وأحمد: أن السفر المنهى عنه في الشريعة لا يقصر فيه.
والقول الثاني: أنه يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم، كأبي حنيفة. ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعى
ج/ 27 ص -185-وأحمد، ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالى، وأبي الحسن ابن عبدوس الحرانى، وأبي محمد بن قدامة المقدسى. وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم؛ لعموم قوله ﷺ: "زوروا القبور".
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي ﷺ، كقوله: "من زارني بعد مماتى، فكأنما زارني في حياتي". رواه الدارقطنى وابن ماجه .
وأما ما ذكره بعض الناس من قوله: "من حج ولم يزرنى فقد جفاني"، فهذا لم يروه أحد من العلماء. وهو مثل قوله: "من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة".
فإن هذا أيضًا باتفاق العلماء لم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطنى ونحوه.
وقد احتج أبو محمد المقدسى على جواز السفر لزيارة القبور بأنه ﷺ كان يزور مسجد قباء.
وأجاب عن حديث: "لا تشد الرحال"، بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.
ج/ 27 ص -186-وأما الأولون،فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وهذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يشد الرحل ليصلى بمسجد، أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه، غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة.
ولو نذر أن يسافر ويأتى المسجد الحرام لحج أو عمرة. وجب عليه ذلك باتفاق العلماء.
ولو نذر أن يأتى مسجد النبي ﷺ، أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر، عند مالك والشافعى في أحد قوليه، وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان جنسه واجبًا بالشرع.
أما الجمهور، فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخارى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه".
والسفر إلى المسجدين طاعة، فلهذا وجب الوفاء به.
ج/ 27 ص -187-وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره، حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من المساجد الثلاثة، مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الحديث الصحيح: "من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة".
قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسول الله ﷺ، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة، وفعله، فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة.
وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في [الإبانة الصغرى] من البدع المخالفة للسنة والإجماع.
وبهذا يظهر بطلان حجة أبي محمد المقدسى؛ لأن زيارة النبي ﷺ لمسجد قباء لم تكن بشد رحل، وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر.
وقوله بأن الحديث الذى مضمونه "لا تشد الرحال": محمول على نفي الاستحباب، يجاب عنه بوجهين:
ج/ 27 ص -188-أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة، ولا طاعة، ولا هو من الحسنات. فإذًا من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع. وإذا سافر لاعتقاد أن ذلك طاعة، كان ذلك محرمًا بإجماع المسلمين. فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدًا لا يسافر إليها إلا لذلك.
وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح، فهذا جائز، وليس من هذا الباب.
الوجه الثانى: أن هذا الحديث يقتضى النهى، والنهى يقتضى التحريم. وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي ﷺ فكلها ضعيفة، باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هى موضوعة، لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشىء منها، بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل: زرت قبره ﷺ، ولو كان هذا اللفظ معروفًا عندهم، أو مشروعًا، أو مأثورًا عن النبي ﷺ لم يكرهه عالم أهل المدينة.
والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم
ج/ 27 ص -189-يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث، إلا حديث أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: "ما من رجل يسلم عَليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"، وعلى هذا اعتمد أبو داود في سنته. وكذلك مالك في الموطأ، روي عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف.
وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: "لا تتخذوا قبرى عيدًا، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم".
وفي سنن سعيد بن منصور: أن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبي طالب، رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبي ﷺ ويدعو عنده، فقال: يا هذا، إن رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا قبرى عيدًا، وصلوا على، فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغنى". فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
وفي الصحيحين عن عائشة، عن النبي ﷺ أنه قال في مرض موته : "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره
ج/ 27 ص -190-أن يتخذ مسجدًا. وهم دفنوه ﷺ في حجرة عائشة رضي الله عنها خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء؛ لئلا يصلى أحد عند قبره ويتخذه مسجدًا، فيتخذ قبره وثنًا.
وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد، إلى زمن الوليد ابن عبد الملك لا يدخل أحد إليه، لا لصلاة هناك، ولا تمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد.
وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا على النبي ﷺ، وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة، ولم يستقبلوا القبر.وأما الوقوف للسلام عليه صلوات الله عليه وسلامه فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضًا، ولا يستقبل القبر.
وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يستقبل القبر عند الدعاء.
وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تروي عن مالك، ومذهبه بخلافها.
ج/ 27 ص -191-واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي ﷺ ولا يقبله.
وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله: اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" [نوح: 23]، قالوا: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر البخارى في صحيحه هذا المعنى عن ابن عباس. وذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره [وَثِيمة] وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. وقد بسطت الكلام على أصول هذه المسائل في غير هذا الموضع.
وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التى على القبور، أهل البدع، من الرافضة ونحوهم، الذين يعطلون المساجد، ويعظمون المشاهد، يَدَعُون بيوت الله التى أمر أن يذكر فيها اسمه، ويعبد وحده لا شريك له، ويعظمون المشاهد التى يشرك فيها ويكذب، ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانًا؛ فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد، دون المشاهد، كما قال تعالى:
ج/ 27 ص -192-"قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ" [الأعراف: 29]، وقال تعالى: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" [التوبة: 18]، وقال تعالى: "وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187]، وقال تعالى: "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" [الجن: 18]، وقال تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا" [البقرة: 114].
وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه كان يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك". والله أعلم.
هذا آخر ما أجاب به شيخ الإسلام والله سبحانه وتعالى أعلم. وله من الكلام في مثل هذا كثير، كما أشار إليه في الجواب.
ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الديار المصرية وكتب عليه قاضى الشافعية: قابلت الجواب عن هذا السؤال، المكتوب على خط ابن تيمية. فصح إلى أن قال وإنما المحرف جعله زيارة قبر النبي ﷺ وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالإجماع مقطوع بها. هذا كلامه. فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام، والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل، والسفر إلى مجرد زيارة القبور،
ج/ 27 ص -193-وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى.
والشيخ لا يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها، ويندب إليها. وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا، ولا قال: إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها. والله سبحانه وتعالى لا تخفي عليه خافية.
ولما وصل خط القاضى المذكور إلى الديار المصرية، كثر الكلام وعظمت الفتنة، وطلب القضاة بها، فاجتمعوا وتكلموا، وأشار بعضهم بحبس الشيخ. فرسم السلطان به، وجرى ما تقدم ذكره، ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع.
وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد، فقاموا في الانتصار له، وكتبوا بموافقته، ورأيت خطوطهم بذلك.
وهذا صورة ما كتبوا: