ج/ 27 ص -112-سئل عن قول بعضهم الدعاء مستجاب عند قبور أربعة
وَسُئِل قدس الله روحه عن حكم قول بعض العلماء والفقراء: إن الدعاء المستجاب عند قبور أربعة من أصحاب الأئمة الأربعة [قبر الفندلاوي] من أصحاب مالك، و[قبر البرهان البلخي] من أصحاب أبي حنيفة، و[قبر الشيخ نصر المقدسي] من أصحاب الشافعي، و[قبر الشيخ أبي الفرج] من أصحاب أحمد رضي الله عنهم. ومن استقبل القبلة عند قبورهم ودعا استجيب له. وقول بعض العلماء عن بعض المشائخ يوصيه: إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه استوحني ينكشف عنك ما تجده من الشدة؛ حيًا كنت، أو ميتًا. ومن قرأ آية الكرسي واستقبل جهة الشيخ عبد القادر الجيلاني وسلم عليه سبع مرات يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته ، أو كان في سماع فإنه يطيب ويكثر التواجد. وقول الفقراء: إن الله تعالى ينظر إلى الفقراء بتجليه عليهم في ثلاثة مواطن: عند مد السماط ، وعند قيامهم في الاستغفار أو المجارات التي بينهم ، وعند السماع. وما يفعله بعض المتعبدين من الدعاء عند قبر زكريا، وقبر هود، والصلاة عندهما، والموقف بين شرقي رواق الجامع بباب الطهارة بدمشق،
ج/ 27 ص -113-والدعاء عند المصحف العثماني، ومن ألصق ظهره الموجوع بالعمود الذي عند رأس قبر معاوية عند الشهداء بباب الصغير.
فهل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت مخصوص، أو مكان معين، عند قبر نبي ، أو ولي، أو يجوز أن يستغيث إلى الله تعالى في الدعاء بنبي مرسل، أو ملك مقرب، أو بكلامه تعالى، أو بالكعبة، أو بالدعاء المشهور باحتىاط قاف، أو بدعاء أم داود، أو الخضر؟
وهل يجوز أن يقسم على الله تعالى في السؤال بحق فلان، بحرمة فلان، بجاه المقربين، بأقرب الخلق، أو يقسم بأفعاله وأعمالهم؟ وهل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران وسرج؛ لكونه رأي النبي ﷺ في المنام عنده، أو يجوز تعظيم شجرة يوجد فيها خرق معلقة، ويقال: هذه مباركة يجتمع إليها الرجال الأولياء؟ وهل يجوز تعظيم جبل، أو زيارته، أو زيارة ما فيه من المشاهد والآثار، والدعاء فيها والصلاة، كمغارة الدم، وكهف آدم، والآثار، ومغارة الجوع، وقبر شيث، وهابيل، ونوح، وإلىاس، وحزقيل، وشيبال الراعي، وإبراهيم ابن أدهم بجبلة، وعش الغراب ببعلبك، ومغارة الأربعين، وحمام طبرية، وزيارة عسقلان، ومسجد صالح بعكا وهو مشهور بالحرمات والتعظيم والزيارات؟
ج/ 27 ص -114-وهل يجوز تحري الدعاء عند القبور وأن تقبل، أو يوقد عندها القناديل والسرج؟ وهل يحصل للأموات بهذه الأفعال من الأحياء منفعة أو مضرة؟ وهل الدعاء عند [القدم النبوي] بدار الحديث الأشرافية بدمشق وغيره، وقدم موسى، ومهد عيسي، ومقام إبراهيم، ورأس الحسين ، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وأويس القرني، وما أشبه ذلك كله في سائر البلاد، والقري ، والسواحل والجبال، والمشاهد، والمساجد، والجوامع؟
وكذلك قولهم: الدعاء مستجاب عند برج [باب كيسان] بين بابي الصغير والشرقي مستدبرًا له متوجهًا إلى القبلة، والدعاء عند داخل باب الفرادين، فهل ثبت شيء في إجابة الأدعية في هذه الأماكن أم لا؟ وهل يجوز أن يستغاث بغير الله تعالى بأن يقول: يا جاه محمد، أو ياللست نفيسة، أو يا سيدي أحمد! أو إذا عثر أحد وتعسر أو قفز من مكان إلى مكان يقول: يآل على! أو يآل الشيخ فلان، أم لا؟ وهل تجوز النذور للأنبياء أو للمشائخ، مثل الشيخ جاكير، أو أبي الوفاء، أو نور الدين الشهيد، أو غيرهم أم لا؟ وكذلك هل تجوز النذور لقبور أحد من آل بيت النبوة، ومدركه، والأئمة الأربعة، ومشايخ العراق، والعجم، ومصر، والحجاز، وإلىمن، والهند، والمغرب، وجميع الأرض، وجبل قان وغيرها أم لا؟
ج/ 27 ص -115-فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما قول القائل: إن الدعاء مستجاب عند قبور المشايخ الأربعة المذكورين رضي الله عنهم فهو من جنس قول غيره: قبر فلان هو الترياق المجرب، ومن جنس ما يقوله أمثال هذا القائل: من أن الدعاء مستجاب عند قبر فلان وفلان. فإن كثيرًا من الناس يقول مثل هذا القول عند بعض القبور، ثم قد يكون ذلك القبر قد علم أنه قبر رجل صالح من الصحابة أو أهل البيت أو غيرهم من الصالحين، وقد يكون نسبة ذلك القبر إلى ذلك كذبًا أو مجهول الحال؛ مثل أكثر ما يذكر من قبور الأنبياء، وقد يكون صحيحًا والرجل ليس بصالح فإن هذه الأقسام موجودة فيمن يقول مثل هذا القول، أو من يقول: إن الدعاء مستجاب عند قبر بعينه، وأنه استجيب له الدعاء عنده، والحال أن ذاك إما قبر معروف بالفسق والابتداع، وإما قبر كافر، كما رأينا من دعا فكشف له حال القبور فبهت لذلك، ورأينا من ذلك أنواعًا.
وأصل هذا: أن قول القائل: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين، قول ليس له أصل في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق
ج/ 27 ص -116-بن راهويه، وأبي عبيدة، ولا مشايخهم الذين يقتدي بهم؛ كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، وأمثالهم.
ولم يكن في الصحابة والتابعين والأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين، لا مطلقًا، ولا معينًا، ولا فيهم من قال: إن دعاء الإنسان عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة، ولا أن الصلاة في تلك البقعة أفضل من الصلاة في غيرها. ولا فيهم من كان يتحري الدعاء ولا الصلاة عند هذه القبور، بل أفضل الخلق، وسيدهم هو رسول الله ﷺ وليس في الأرض قبر اتفق الناس على أنه قبر نبي غير قبره، وقد اختلفوا في قبر الخليل وغيره، واتفق الأئمة على أنه يسلم عليه عند زيارته وعلى صاحبيه، لما في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام". وهو حديث جيد. وقد روي ابن أبي شيبة والدارقطني عنه: "من سَلَّم على عند قبري سمعته، ومن صلى على نائيا أبلغته". وفي إسناده لين. لكن له شواهد ثابتة؛ فإن إبلاغ الصلاة والسلام عليه من البعد قد رواه أهل السنن من غير وجه، كما في السنن عنه ﷺ أنه قال: "أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة،
ج/ 27 ص -117-فإن صلاتكم معروضة على". قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد رممت؟ أي: بليت. فقال: "إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء". وفي النسائي وغيره عنه ﷺ أنه قال: "إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتى السلام ". ومع هذا لم يقل أحد منهم: إن الدعاء مستجاب عند قبره، ولا أنه يستحب أن يتحري الدعاء متوجها إلى قبره، بل نصوا على نقيض ذلك، واتفقوا كلهم على أنه لا يدعو مستقبل القبر.
وتنازعوا في السلام عليه. فقال الأكثرون كمالك وأحمد وغيرهما : يسلم عليه مستقبل القبر، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منقولا عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: بل يسلم عليه مستقبل القبلة، بل نص أئمة السلف على أنه لا يوقف عنده للدعاء مطلقا، كما ذكر ذلك إسماعيل بن إسحاق في [كتاب المبسوط] وذكره القاضي عياض. قال مالك: لا أري أن يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو، ولكن يسلم ويمضي. وقال أيضا في [المبسوط]: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي ﷺ فيصلى عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. فقيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك فى اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا فى الجمعة أو فى اليوم المرة والمرتين أو
ج/ 27 ص -118-أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغنى هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، إلا من جاء من سفر أو أراده. قال ابن القاسم: رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر وسلموا. قال: وذلك دأبي.
فهذا مالك وهو أعلم أهل زمانه أى زمن تابع التابعين بالمدينة النبوية الذين كان أهلها فى زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أعلم الناس بما يشرع عند قبر النبي ﷺ يكرهون الوقوف للدعاء بعد السلام عليه. وبين أن المستحب هو الدعاء له ولصاحبيه، وهو المشروع من الصلاة والسلام، وأن ذلك أيضا لا يستحب لأهل المدينة كل وقت، بل عند القدوم من سفر أو إرادته؛ لأن ذلك تحية له، والمحيا لا يقصد بيته كل وقت لتحيته، بخلاف القادمين من السفر. وقال مالك فى رواية أبى وهب: إذا سلم على النبي ﷺ يقف وجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم، ولا يمس القبر بيده.
وكره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي ﷺ. قال القاضى عياض: كراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي ﷺ؛ لقوله: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب الله على
ج/ 27 ص -119-قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ينهى عن إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بفعل ذلك؛ قطعا للذريعة، وحسما للباب.
قلت: والأحاديث الكثيرة المروية فى زيارة قبره كلها ضعيفة، بل موضوعة. لم يرو الأئمة ولا أهل السنن المتبعة كسنن أبى داود والنسائى ونحوهما فيها شيئاً، ولكن جاء لفظ زيارة القبور فى غير هذا الحديث؛ مثل قوله ﷺ: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة"، وكان ﷺ يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية".
ولكن صار لفظ [زيارة القبور] فى عرف كثير من المتأخرين يتناول [الزيارة البدعية] و[الزيارة الشرعية]، وأكثرهم لا يستعملونها إلا بالمعنى البدعى، لا الشرعى؛ فلهذا كره هذا الإطلاق.
فأما [الزيارة الشرعية] فهى من جنس الصلاة على الميت، يقصد بها الدعاء للميت، كما يقصد بالصلاة عليه، كما قال الله فى حق المنافقين: "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ" [التوبة: 84]، فلما نهى عن
ج/ 27 ص -120-الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، دل ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلة الحكم أن ذلك مشروع فى حق المؤمنين. والقيام على قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن، يراد به الدعاء له. وهذا هو الذى مضت به السنة، واستحبه السلف عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين.
وأما [الزيارة البدعية] فهى من جنس الشرك والذريعة إليه، كما فعل اليهود والنصارى عند قبور الأنبياء والصالحين، قال ﷺ فى الأحاديث المستفيضة عنه فى الصحاح والسنن والمسانيد: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا. وقال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك"، وقال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد"، وقال: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج". فإذا كان قد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، امتنع أن يكون تحريها للدعاء مستحبا؛ لأن المكان الذى يستحب فيه الدعاء يستحب فىه الصلاة، لأن الدعاء عقب الصلاة أجوب. وليس فى الشريعة مكان ينهى عن الصلاة عنده مع أنه يستحب الدعاء عنده.
وقد نص الأئمة كالشافعى وغيره على أن النهى عن ذلك معلل
ج/ 27 ص -121-بخوف الفتنة بالقبر، لا بمجرد نجاسته، كما يظن ذلك بعض الناس؛ ولهذا كان السلف يأمرون بتسوية القبور وتعفية ما يفتتن به منها، كما أمر عمر بن الخطاب بتعفية قبر دانيال لما ظهر بتستر،فإنه كتب إليه أبو موسى يذكر أنه قد ظهر قبر دانيال، وأنهم كانوا يستسقون به،فكتب إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا ثم يدفنه بالليل فى واحد منها ويعفيه لئلا يفتتن به الناس.
والذى ذكرناه عن مالك وغيره من الأئمة كان معروفا عند السلف،كما رواه أبو يعلى الموصلى فى [مسنده]، وذكره الحافظ أبو عبد الله المقدسى فى [مختاره] عن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب المعروف بزين العابدين أنه رأى رجلا يجىء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل، فيدعو فيها فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبى، عن جدى، عن رسول الله ﷺ؟ قال: "لا تتخذوا قبرى عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغنى أينما كنتم". وهذا الحديث فى سنن أبى داود من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبرى عيدا، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم". وفى سنن سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرنى سهيل بن أبى سهيل، قال: رآنى الحسن بن
ج/ 27 ص -122-الحسين بن على بن أبى طالب عند القبر، فنادانى وهو فى بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده. فقال: ما لى رأيتك عند القبر؟! فقلت: سلمت على النبي ﷺ. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا بيتى عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد،وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء" .وقد بسط الكلام على هذا الأصل فى غير هذا الموضع.
فإذا كان هذا هو المشروع فى قبر سيد ولد آدم وخير الخلق وأكرمهم على الله، فكيف يقال فى قبر غيره؟! وقد تواتر عن الصحابة أنهم كانوا إذا نزلت بهم الشدائد كحالهم فى الجدب والاستسقاء وعند القتال والاستنصار يدعون الله ويستغيثونه فى المساجد والبيوت، ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر
ج/ 27 ص -123-النبي ﷺ ولا غيره من قبور الأنبياء والصالحين، بل قد ثبت فى الصحيح أن عمر بن الخطاب قال: اللهم، إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. فتوسلوا بالعباس، كما كانوا يتوسلون به، وهو أنهم كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته، وهكذا توسلوا بدعاء العباس وشفاعته، ولم يقصدوا الدعاء عند قبر النبي ﷺ، ولا أقسموا على الله بشىء من مخلوقاته، بل توسلوا إليه بما شرعه من الوسائل، وهى الأعمال الصالحة، ودعاء المؤمنين، كما يتوسل العبد إلى الله بالإيمان بنبيه، وبمحبته، وموالاته، والصلاة عليه والسلام، وكما يتوسلون فى حياته بدعائه وشفاعته كذلك يتوسل الخلق فى الآخرة بدعائه وشفاعته. ويتوسل بدعاء الصالحين، كما قال النبي ﷺ: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؛ بدعائهم، وصلاتهم واستغفارهم؟".
ومن المعلوم بالاضطرار أن الدعاء عند القبور لو كان أفضل من الدعاء عند غيرها، وهو أحب إلى الله وأجوب، لكان السلف أعلم بذلك من الخلف، وكانوا أسرع إليه؛ فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه، وأسبق إلى طاعته ورضاه، ولكان النبي ﷺ يبين ذلك، ويرغب فيه؛ فإنه أمر بكل معروف، ونهى عن كل منكر، وما ترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث أمته به، ولا شيئًا يبعد عن النار إلا وقد حذر أمته منه، وقد ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا ينزوى عنها بعده إلا هلك. فكيف وقد نهى عن هذا الجنس وحسم مادته بلعنه ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد؟! فنهى عن الصلاة لله مستقبلا لها، وإن كان المصلى لا يعبد الموتى ولا يدعوهم، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب؛ لأنها
ج/ 27 ص -124-وقت سجود المشركين للشمس، وإن كان المصلى لا يسجد إلا لله؛ سدًا للذريعة، فكيف إذا تحققت المفسدة بأن صار العبد يدعو الميت ويدعو به، كما إذا تحققت المفسدة بالسجود للشمس وقت الطلوع ووقت الغروب.
وقد كان أصل عبادة الأوثان من تعظيم القبور، كما قال تعالى: "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" [نوح: 23]، قال السلف كابن عباس وغيره : كان هؤلاء قوما صالحين فى قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم.
ثم من المعلوم أن بمقابر [باب الصغير] من الصحابة والتابعين وتابعيهم من هو أفضل من هؤلاء المشايخ الأربعة، فكيف يعين هؤلاء للدعاء عند قبورهم دون من هو أفضل منهم؟! ثم إن لكل شيخ من هؤلاء ونحوهم من يحبه ويعظمه بالدعاء دون الشيخ الآخر، فهل أمر الله بالدعاء عند واحد دون غيره، كما يفعل المشركون بهم؟! الذين ضاهوا الذين "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة: 31].
ج/ 27 ص -125-فصل
وأما ما حكى عن بعض المشائخ من قوله: إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه فاستوحنى، فيكشف ما بك من الشدة حيا كنت أو ميتا، فهذا الكلام ونحوه إما أن يكون كذبا من الناقل أو خطأ من القائل؛ فإنه نقل لا يعرف صدقه عن قائل غير معصوم، ومن ترك النقل المصدق عن القائل المعصوم واتبع نقلا غير مصدق عن قائل غير معصوم، فقد ضل ضلالا بعيدا. ومن المعلوم أن الله لم يأمر بمثل هذا، ولا رسله أمروا بذلك، بل قال الله تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ" [الشرح: 7، 8]. ولم يقل: ارغب إلى الأنبياء والملائكة، وقال تعالى: "قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا" [الإسراء: 56، 57]، قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون العزير، والمسيح، والملائكة، فأنزل الله هذه الآية.
وهذا رسول الله ﷺ، لم يقل لأحد من أصحابه: إذا
ج/ 27 ص -126-نزل بك حادث فاستوحنى، بل قال لابن عمه عبد الله بن عباس وهو يوصيه: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله".
وما يرويه بعض العامة من أنه قال: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى؛ فإن جاهى عند الله عظيم"، فهو حديث كذب موضوع، لم يروه أحد من العلم، ولا هو فى شىء من كتب المسلمين المعتمدة فى الدين؛ فإن كان للميت فضيلة، فرسول الله ﷺ أولى بكل فضيلة وأصحابه من بعده. وإن كان منفعة للحى بالميت، فأصحابه أحق الناس انتفاعا به حيا وميتا. فعلم أن هذا من الضلال، وإن كان بعض الشيوخ قال ذلك فهو خطأ منه، والله يغفر له إن كان مجتهدا مخطئا. وليس هو بنبى يجب اتباع قوله، ولا معصوم فيما يأمر به وينهى عنه. وقد قال الله تعالى: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" [النساء:59].
فصل
وأما قول القائل: من قرأ [آية الكرسي] واستقبل جهة الشيخ
ج/ 27 ص -127-عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وسلم عليه، وخطا سبع خطوات، يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته، أو كان فى سماع فإنه يطيب ويكثر تواجده، فهذا أمر القربة فيه شرك برب العالمين، ولا ريب أن الشيخ عبد القادر لم يقل هذا، ولا أمر به، ومن يقل مثل ذلك عنه فقد كذب عليه، وإنما يحدث مثل هذه البدع أهل الغلو والشرك؛ المشبهين للنصارى من أهل البدع الرافضة الغالية فى الأئمة، ومن أشبههم من الغلاة فى المشائخ. وقد ثبت فى الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها". فإذا نهى عن استقبال القبر فى الصلاة لله فكيف يجوز التوجه إليه والدعاء لغير الله مع بعد الدار؟! وهل هذا إلا من جنس ما يفعله النصارى بعيسى وأمه وأحبارهم ورهبانهم فى اتخاذهم إياهم أربابا وآلهة، يدعونهم ويستغيثونهم فى مطالبهم، ويسألونهم ويسألون بهم.
فصل
وأما قول من قال: إن الله ينظر إلى الفقراء فى ثلاثة مواطن: عند الأكل، والمناصفة، والسماع، فهذا القول روى نحوه عن بعض الشيوخ قال: إن الله ينظر إليهم عند الأكل؛ فإنهم يأكلون بإيثار،
ج/ 27 ص -128-وعند المجاراة فى العلم؛ لأنهم يقصدون المناصحة، وعند السماع؛ لأنهم يسمعون لله. أو كلامًا يشبه هذا. والأصل الجامع فى هذا: أن من عمل عملا يحبه الله ورسوله وهو ما كان لله بإذن الله فإن الله يحبه وينظر إليه فيه نظر محبة. والعمل الصالح هو الخالص الصواب. فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان بأمر الله، ولا ريب أن كل واحد من المواكلة والمخاطبة والاستماع منها ما يحبه الله، ومنها ما لا يحبه الله، ومنها ما يشتمل على خير وشر، وحق وباطل، ومصلحة ومفسدة وحكم كل واحد بحسبه.
فصل
وما يفعله بعض الناس من تحرى الصلاة والدعاء عند ما يقال: إنه قبر نبى، أو قبر أحد من الصحابة والقرابة، أو ما يقرب من ذلك، أو إلصاق بدنه أو شىء من بدنه بالقبر، أو بما يجاور القبر من عود وغيره، كمن يتحرى الصلاة والدعاء فى قبلى شرقى جامع دمشق عند الموضع الذى يقال: إنه قبر هود والذى عليه العلماء أنه قبر معاوية بن أبى سفيان أو عند المثال الخشب الذى يقال: تحته رأس يحيى بن زكريا، ونحو ذلك فهو مخطئ، مبتدع، مخالف للسنة؛ فإن
ج/ 27 ص -129-الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا كانوا يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون عن مثل ذلك، كما نهاهم النبي ﷺ عن أسباب ذلك ودواعيه، وإن لم يقصدوا دعاء القبر والدعاء به، فكيف إذا قصدوا ذلك؟!
فصل
وأما قوله: هل للدعاء خصوصية قبول، أو سرعة إجابة بوقت معين، أو مكان معين؛ عند قبر نبى، أو ولى، فلا ريب أن الدعاء فى بعض الأوقات والأحوال أجوب منه فى بعض. فالدعاء فى جوف الليل أجوب الأوقات، كما ثبت فى الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير وفى رواية: نصف الليل فيقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له، حتى يطلع الفجر". وفى حديث آخر: "أقرب ما يكون الرب من عبده فى جوف الليل الأخير". والدعاء مستجاب عند نزول المطر، وعند التحام الحرب، وعند الأذان والإقامة، وفى أدبار الصلوات، وفى حال السجود، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم، وأمثال ذلك، فهذا كله مما جاءت به
ج/ 27 ص -130-الأحاديث المعروفة فى الصحاح والسنن، والدعاء بالمشاعر، كعرفة، ومزدلفة، ومنى، والملتزم، ونحو ذلك من مشاعر مكة، والدعاء بالمساجد مطلقا. وكلما فضل المسجد كالمساجد الثلاثة كانت الصلاة والدعاء فيه أفضل.
وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبى أو ولى، فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها: إن الدعاء فيه أفضل من غيره، ولكن هذا مما ابتدعه بعض أهل القبلة؛ مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين. فأصله من دين المشركين؛ لا من دين عباد الله المخلصين؛ كاتخاذ القبور مساجد؛ فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولكن ابتدعه بعض أهل القبلة؛ مضاهاة لمن لعنهم رسول الله ﷺ من اليهود والنصارى.
فصل
وأما قول السائل: هل يجوز أن يستغيث إلى الله فى الدعاء بنبى مرسل، أو ملك مقرب، أو بكلامه تعالى، أو بالكعبة، أو بالدعاء المشهور باحتياط قاف، أو بدعاء أم داود، أو الخضر، أو يجوز أن يقسم على الله فى السؤال بحق فلان، بحرمة فلان، بجاه المقربين،
ج/ 27 ص -131-بأقرب الخلق، أو يقسم بأعمالهم وأفعالهم؟ فيقال:
هذا السؤال فيه فصول متعددة:
فأما الأدعية التى جاءت بها السنة، ففيها سؤال الله بأسمائه وصفاته، والاستعاذة بكلامه، كما فى الأدعية التى فى السنن، مثل قوله: "اللهم، إنى أسألك بأن لك الحمد، أنت الله، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حى يا قيوم"، ومثل قوله: "اللهم، إنى أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد"، ومثل الدعاء الذى فى المسند: "اللهم إنى أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك".
وأما الأدعية التى يدعو بها بعض العامة، ويكتبها باعة الحروز من الطرقية، التى فيها: أسألك باحتياط قاف، وهو يوف المخاف، والطور، والعرش، والكرسى، وزمزم، والمقام، والبلد الحرام، وأمثال هذه الأدعية، فلا يؤثر منها شىء، لا عن النبي ﷺ، ولا عن الصحابة، ولا عن أئمة المسلمين، وليس لأحد أن يقسم بهذه بحال، بل قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت"، وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". فليس لأحد أن يقسم بالمخلوقات البتة، وقد قال النبي ﷺ:
ج/ 27 ص -132-"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"، لما قال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، وكما قال البراء بن مالك: أقسمت عليك أى رب، إلا فعلت كذا وكذا، وكلاهما كان ممن يبر الله قسمه.
والعبد يسأل ربه بالأسباب التى تقتضى مطلوبه، وهى الأعمال الصالحة التى وعد الثواب عليها، ودعا عباده المؤمنين الذين وعد إجابتهم كما كان الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بنبيه، ثم بعمه، وغير عمه من صالحيهم؛ يتوسلون بدعائه وشفاعته، كما فى الصحيح: أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، فقال: اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. فتوسلوا بعد موته بالعباس، كما كانوا يتوسلون به، وهو توسلهم بدعائه وشفاعته. ومن ذلك ما رواه أهل السنن وصححه الترمذى: أن رجلا قال للنبى ﷺ: ادع الله أن يرد على بصرى، فأمره أن يتوضأ، ويصلى ركعتين، ويقول: "اللهم، إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبى الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إنى أتوجه بك إلى ربى فى حاجتى ليقضيها. اللهم، فشفعه فى"، فهذا طلب من النبي ﷺ، وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له فى توجهه بنبيه إلى الله هو كتوسل غيره من الصحابة به إلى الله، فإن
ج/ 27 ص -133-هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته.
وأما قول القائل: أسألك أو أقسم عليك بحق ملائكتك، أو بحق أنبيائك أو بنبيك فلان أو برسولك فلان، أو بالبيت الحرام، أو بزمزم والمقام، أو بالطور والبيت المعمور، ونحو ذلك، فهذا النوع من الدعاء لم ينقل عن النبي ﷺ، ولا أصحابه، ولا التابعين لهم بإحسان، بل قد نص غير واحد من العلماء، كأبى حنيفة وأصحابه كأبى يوسف وغيره من العلماء على أنه لا يجوز مثل هذا الدعاء، فإنه أقسم على الله بمخلوق، ولا يصح القسم بغير الله، وإن سأله به على أنه سبب ووسيلة إلى قضاء حاجته.
أما إذا سأل الله بالأعمال الصالحة وبدعاء نبيه والصالحين من عباده فالأعمال الصالحة سبب للإثابة، والدعاء سبب للإجابة، فسؤاله بذلك سؤال بما هو سبب لنيل المطلوب، وهذا معنى ما يروى فى دعاء الخروج إلى الصلاة: "اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا"، وكذلك أهل الغار الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة. فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم، وبطاعتهم، كالصلاة والسلام عليهم، ومحبتهم، موالاتهم، أو بدعائهم وشفاعتهم. وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضى حصول مطلوب العبد، وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم وفضله عليهم. وليس
ج/ 27 ص -134-فى ذلك ما يقتضى إجابة دعاء غيرهم، إلا أن يكون بسبب منه إليهم كالإيمان بهم والطاعة لهم، أو بسبب منهم إليه: كدعائهم له، وشفاعتهم فيه، فهذان الشيئان يتوسل بهما.
وأما الإقسام بالمخلوق فلا. وما يذكره بعض العامة من قوله: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى، فإن جاهى عند الله عظيم"، حديث كذب موضوع.
فصل
وأما قول السائل: هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران؛ لكون النبي ﷺ رؤى عنده؟ فيقال:
بل تعظيم مثل هذه الأمكنة واتخاذها مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب، الذين نهينا عن التشبه بهم فيها. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب كان فى السفر فرأى قوما يبتدرون مكانا، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مكان صلى فيه رسول الله ﷺ. فقال: ومكان صلى فيه رسول الله ﷺ؟! أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض، وهذا قاله عمر بمحضر من الصحابة.
ومن المعلوم أن النبي ﷺ كان يصلى فى أسفاره
ج/ 27 ص -135-فى مواضع، وكان المؤمنون يرونه فى المنام فى مواضع، وما اتخذ السلف شيئا من ذلك مسجدا ولا مزارا. ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات؛ فإنهم لا يزالون يرون النبي ﷺ فى المنام وقد جاء إلى بيوتهم، ومنهم من يراه مرارا كثيرة، وتخليق هذه الأمكنة بالزعفران بدعة مكروهة.
وأما ما يزيده الكذابون على ذلك، مثل أن يرى فى المكان أثر قدم، فيقال: هذا قدمه، ونحو ذلك، فهذا كله كذب. والأقدام الحجارة التى ينقلها من ينقلها ويقول: إنها موضع قدمه كذب مختلق، ولو كانت حقا لسن للمسلمين أن يتخذوا ذلك مسجدا ومزارا، بل لم يأمر الله أن يتخذ مقام نبى من الأنبياء مصلى إلا مقام إبراهيم بقوله: "وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى" [البقرة: 125]، كما أنه لم يأمر بالاستلام والتقبيل لحجر من الحجارة إلا الحجر الأسود، ولا بالصلاة إلى بيت إلا البيت الحرام، ولا يجوز أن يقاس غير ذلك عليه باتفاق المسلمين، بل ذلك بمنزلة من جعل للناس حجا إلى غير البيت العتيق، أو صيام شهر مفروض غير صيام شهر رمضان، وأمثال ذلك.
فصخرة بيت المقدس لا يسن استلامها، ولا تقبيلها باتفاق المسلمين، بل ليس للصلاة عندها والدعاء خصوصية على سائر بقاع المسجد. والصلاة والدعاء فى قبلة المسجد الذى بناه عمر بن الخطاب للمسلمين
ج/ 27 ص -136-أفضل من الصلاة والدعاء عندها، وعمر بن الخطاب لما فتح البلد قال لكعب الأحبار: أين ترى أن أبنى مصلى المسلمين؟ قال: ابنه خلف الصخرة. قال: خالطتك يهودية يابن اليهودية! بل أبنيه أمامها؛ فإن لنا صدور المساجد. فبنى هذا المصلى الذى تسميه العامة [الأقصى]. ولم يتمسح بالصخرة ولا قبلها ولا صلى عندها، كيف وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه لما قبل الحجر الأسود قال: والله، إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله ﷺ يقبلك لما قبلتك. وكان عبد الله بن عمر إذا أتى المسجد الأقصى يصلى فيه ولا يأتى الصخرة، وكذلك غيره من السلف. وكذلك حجرة نبينا ﷺ، وحجرة الخليل، وغيرهما من المدافن التى فيها نبى أو رجل صالح، لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة، بل منهى عن ذلك. وأما السجود لذلك فكفر، وكذلك خطابه بمثل ما يخاطب به الرب، مثل قول القائل: اغفر لى ذنوبى، أو انصرنى على عدوى، ونحو ذلك.
فصل
وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها بعض العامة،
ج/ 27 ص -137-أو يعلقون بها خرقا، أو غير ذلك، أو يأخذون ورقها يتبركون به، أو يصلون عندها، أو نحو ذلك، فهذا كله من البدع المنكرة، وهو من عمل أهل الجاهلية، ومن أسباب الشرك بالله تعالى، وقد كان للمشركين شجرة يعلقون بها أسلحتهم يسمونها [ذات أنواط]، فقال بعض الناس: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: "الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: "اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ" [الأعراف:138]، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته فى الطريق لفعلتموه". وقد بلغ عمر ابن الخطاب أن قوما يقصدون الصلاة عند "الشجرة" التى كانت تحتها بيعة الرضوان، التى بايع النبي ﷺ الناس تحتها فأمر بتلك الشجرة فقطعت. وقد اتفق علماء الدين على أن من نذر عبادة فى بقعة من هذه البقاع، لم يكن ذلك نذرا يجب الوفاء به،ولا مزية للعبادة فيها.
فصل
وأصل هذا الباب أنه ليس فى شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة
ج/ 27 ص -138-الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين،ومشاعر الحج.وأما المشاهد التى على القبور، سواء جعلت مساجد أو لم تجعل، أو المقامات التى تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين، أو المغارات والكهوف، أو غير ذلك، مثل [الطور] الذى كلم الله عليه موسى، ومثل [غار حراء] الذى كان النبي ﷺ يتحنث فيه قبل نزول الوحى عليه، و[الغار] الذى ذكره الله فى قوله: "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ" [التوبة: 40]، والغار الذى بجبل قاسيون بدمشق، الذى يقال له [مغارة الدم] والمقامان اللذان بجانبيه الشرقى والغربى، يقال لأحدهما: [مقام إبراهيم] ويقال للآخر: [مقام عيسى] وما أشبه هذه البقاع والمشاهد فى شرق الأرض وغربها، فهذه لا يشرع السفر إليها لزيارتها، ولو نذر ناذر السفر إليها لم يجب عليه الوفاء بنذره باتفاق أئمة المسلمين؛ بل قد ثبت فى الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبى هريرة وأبى سعيد وهو يروى عن غيرهما أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا".
وقد كان أصحاب النبي ﷺ لما فتحوا هذه البلاد بلاد الشام والعراق ومصر وخراسان والمغرب وغيرها لا يقصدون هذه البقاع، ولا يزورونها، ولا يقصدون الصلاة والدعاء فيها، بل كانوا
ج/ 27 ص -139-مستمسكين بشريعة نبيهم، يعمرون المساجد التى قال الله فيها: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" [البقرة: 114]، وقال: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ" [التوبة: 18]، وقال تعالى: "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ" [الأعراف: 29]، وقال تعالى "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" [الجن: 18]. وأمثال هذه النصوص.
وفى الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "صلاة الرجل فى المسجد تفضل على صلاته فى بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة، وذلك أن الرجل إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد، لا ينهزه إلا الصلاة فيه، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة. فإذا جلس ينتظر الصلاة، كان فى صلاة مادام ينتظر الصلاة، فإذا قضى الصلاة فإن الملائكة تصلى على أحدهم مادام فى مصلاه: تقول: اللهم اغفر له،اللهم ارحمه".
وقد تنازع المتأخرون فيمن سافر لزيارة قبر نبى أو نحو ذلك من المشاهد. والمحققون منهم قالوا: إن هذا سفر معصية، ولا يقصر الصلاة فيه، كما لا يقصر فى سفر المعصية، كما ذكر ذلك ابن عقيل وغيره، وكذلك ذكر أبو عبد الله بن بطة: أن هذا من البدع المحدثة فى الإسلام، بل نفس قصد هذه البقاع للصلاة فيها والدعاء ليس له أصل فى شريعة المسلمين، ولم ينقل عن السابقين الأولين رضي الله
ج/ 27 ص -140-عنهم وأرضاهم أنهم كانوا يتحرون هذه البقاع للدعاء والصلاة، بل لا يقصدون إلا مساجد الله، بل المساجد المبنية على غير الوجه الشرعى لا يقصدونها أيضا كمسجد الضرار الذى قال الله فيه: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" [التوبة:107، 108].
بل المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها، وبناؤها محرم، كما قد نص على ذلك غير واحد من الأئمة؛ لما استفاض عن النبي ﷺ فى الصحاح والسنن والمسانيد أنه قال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتحذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك". وقال فى مرض موته: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
وكانت حجرة النبي ﷺ خارجة عن مسجده، فلما كان فى إمرة الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز
ج/ 27 ص -141-عامله على المدينة النبوية أن يزيد فى المسجد. فاشترى حجر أزواج النبي ﷺ وكانت شرقى المسجد، وقبلته، فزادها فى المسجد، فدخلت الحجرة إذ ذاك فى المسجد، وبنوها مسنمة عن سمت القبلة لئلا يصلى أحد إليها.
وكذلك [قبر إبراهيم الخليل] لما فتح المسلمون البلاد كان عليه السور السليمانى، ولا يدخل إليه أحد، ولا يصلى أحد عنده، بل كان مصلى المسلمين بقرية الخليل بمسجد هناك، وكان الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، إلى أن نقب ذلك السور، ثم جعل فيه باب، ويقال: إن النصارى هم نقبوه وجعلوه كنيسة، ثم لما أخذ المسلمون منهم البلاد جعل ذلك مسجدا؛ ولهذا كان العلماء الصالحون من المسلمين لا يصلون فى ذلك المكان. هذا إذا كان القبر صحيحا، فكيف وعامة القبور المنسوبة إلى الأنبياء كذب؟! مثل القبر الذى يقال :إنه "قبر نوح"، فإنه كذب لا ريب فيه، وإنما أظهره الجهال من مدة قريبة، وكذلك قبر غيره.
فصل
وأما [عسقلان] فإنها كانت ثغرا من ثغور المسلمين، كان صالحو
ج/ 27 ص -142-المسلمين يقيمون بها لأجل الرباط فى سبيل الله، وهكذا سائر البقاع التى مثل هذا الجنس مثل [جبل لبنان]، و[الإسكندرية]، ومثل [عبادان] ونحوها بأرض العراق، ومثل [قزوين] ونحوها من البلاد التى كانت ثغورا، فهذه كان الصالحون يقصدونها؛ لأجل الرباط فى سبل الله؛ فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن سلمان الفارسى، عن النبي ﷺ أنه قال: "رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا مات مجاهدا، وأجرى عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان". وفى سنن أبى داود وغيره عن عثمان،عن النبي ﷺ أنه قال: "رباط يوم فى سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود.
ولهذا قال العلماء: إن الرباط بالثغور أفضل من المجاورة بالحرمين الشريفين؛ لأن المرابطة من جنس الجهاد، والمجاورة من جنس الحج. وجنس الجهاد أفضل باتفاق المسلمين من جنس الحج، كما قال تعالى: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" [التوبة:19 22].
ج/ 27 ص -143-فهذا هو الأصل فى تعظيم هذه الأمكنة.
ثم من هذه الأمكنة ما سكنه بعد ذلك الكفار وأهل البدع والفجور، ومنها ما خرب وصار ثغرا غير هذه الأمكنة. والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها. فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارا، ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها، كما كانت مكة شرفها الله فى أول الأمر دار كفر وحرب، وقال الله فيها: "وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ" [محمد:13]، ثم لما فتحها النبي ﷺ صارت دار إسلام، وهى فى نفسها أم القرى، وأحب الأرض إلى الله. وكذلك الأرض المقدسة كان فيها الجبارون الذين ذكرهم الله تعالى، كما قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ "الآيات [المائدة: 20 22]، وقال تعالى لما أنجى موسى وقومه من الغرق: "سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ" [الأعراف: 145]، وكانت تلك الديار ديار
ج/ 27 ص -144-الفاسقين لما كان يسكنها إذ ذاك الفاسقون، ثم لما سكنها الصالحون صارت دار الصالحين.
وهذا أصل يجب أن يعرف، فإن البلد قد تحمد أو تذم فى بعض الأوقات لحال أهله، ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم؛ إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح، أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ" [النساء: 1]، وقال النبي ﷺ: "لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى. الناس بنو آدم، وآدم من تراب ". وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسى وكان النبي ﷺ قد آخى بينهما، لما آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان أبو الدرداء بالشام، وسلمان بالعراق نائبا لعمر بن الخطاب : أن هلم إلى الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله.
ج/ 27 ص -145-فصل
وقد تبين الجواب فى سائر المسائل المذكورة بأن قصد الصلاة والدعاء عندما يقال: إنه قدم نبى، أو أثر نبى، أو قبر نبى، أو قبر بعض الصحابة، أو بعض الشيوخ، أو بعض أهل البيت، أو الأبراج، أو الغيران؛ من البدع المحدثة، المنكرة فى الإسلام، لم يشرع ذلك رسول الله ﷺ ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، بل هو من أسباب الشرك وذرائع الإفك. والكلام على هذا مبسوط فى غير هذا الجواب.
فصل
وأما قول القائل إذا عثر: يا جاه محمد! يا للست نفيسة! أو يا سيدى الشيخ فلان! أو نحو ذلك مما فيه استغاثته وسؤاله، فهو من المحرمات، وهو من جنس الشرك؛ فإن الميت سواء كان نبيا أو غير نبى لا يدعى ولا يسأل ولا يستغاث به لا عند قبره، ولا مع البعد من قبره، بل هذا من جنس دين النصارى الذين "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة: 31]، ومن جنس الذين قال فيهم:
ج/ 27 ص -146-"قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا" [الإسراء: 56، 57]، وقد قال تعالى: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" [آل عمران: 79، 80]. وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع.
فصل
وكذلك النذر للقبور أو لأحد من أهل القبور، كالنذر لإبراهيم الخليل، أو للشيخ فلان أو فلان، أو لبعض أهل البيت، أو غيرهم: نذر معصية، لا يجب الوفاء به باتفاق أئمة الدين، بل ولا يجوز الوفاء به، فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه". وفى السنن عنه ﷺ، أنه قال: "لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج"، فقد لعن رسول الله ﷺ من يبنى على القبور المساجد، ويسرج فيها السرج؛
ج/ 27 ص -147-كالقناديل والشمع وغير ذلك.
وإذا كان هذا ملعونا، فالذى يضع فيها قناديل الذهب والفضة وشمعدان الذهب والفضة ويضعها عند القبور أولى باللعنة. فمن نذر زيتا أو شمعا، أو ذهبا، أو فضة، أو سترا، أو غير ذلك، ليجعل عند قبر نبى من الأنبياء، أو بعض الصحابة، أو القرابة، أو المشائخ، فهو نذر معصية، لا يجوز الوفاء به. وهل عليه كفارة يمين؟ فيه قولان للعلماء. وإن تصدق بما نذره على من يستحق ذلك من أهل بيت النبي ﷺ وغيرهم من الفقراء الصالحين، كان خيرا له عند الله وأنفع له؛ فإن هذا عمل صالح يثيبه الله عليه، فإن الله يجزى المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين. والمتصدق يتصدق لوجه الله ولا يطلب أجره من المخلوقين، بل من الله تعالى، كما قال تعالى "وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرضي" [الليل: 17: 21]، وقال تعالى: "وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ" الآية [البقرة: 265]، وقال عن عباده الصالحين: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا" [الإنسان: 9].
ولهذا لا ينبغى لأحد أن يسأل بغير الله، مثل الذى يقول: كرامة لأبى بكر، ولعلى، أو للشيخ فلان، أو الشيخ فلان، بل لا يعطى إلا من سأل
ج/ 27 ص -148-لله، وليس لأحد أن يسأل لغير الله، فإن إخلاص الدين لله واجب فى جميع العبادات البدنية والمالية كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج فلا يصلح الركوع والسجود إلا لله ولا الصيام إلا لله، ولا الحج إلا إلى بيت الله، ولا الدعاء إلا لله، قال تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه" [الأنفال: 39]، وقال تعالى: "وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" [الزخرف: 45]، وقال تعالى: "تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ" [الزمر: 1، 2].
وهذا هو أصل الإسلام، وهو ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف:110]، وقال تعالى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [الملك:2]، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة والكتاب.
هذا كله لأن دين الله بلغه عنه رسوله. فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، والله تعالى ذم المشركين لأنهم شرعوا
ج/ 27 ص -149-فى الدين ما لم يأذن به الله فحرموا أشياء لم يحرمها الله؛ كالبحيرة والسائبة، والوصيلة، والحام. وشرعوا دينا لم يأذن به الله؛ كدعاء غيره وعبادته، والرهبانية التى ابتدعها النصارى.
والإسلام دين الرسل كلهم أولهم وآخرهم، وكلهم بعثوا بالإسلام كما قال نوح عليه السلام :"يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [يونس: 71، 72]، وقال تعالى: "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" [البقرة: 130: 132]، وقال تعالى: "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" [يونس: 84]، وقال تعالى: "وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ" [المائدة: 111].
وقد ثبت فى الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد". فدين الرسل كلهم دين واحد، وهو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما أمر به وشرعه
ج/ 27 ص -150-كما قال: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ" [الشورى: 13]، وإنما يتنوع فى هذا الدين الشرعة والمنهاج، كما قال: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" [المائدة: 48]، كما تتنوع شريعة الرسول الواحد. فقد كان الله أمر محمدا ﷺ فى أول الإسلام أن يصلى إلى بيت المقدس، ثم أمره فى السنة الثانية من الهجرة أن يصلى إلى الكعبة البيت الحرام، وهذا فى وقته كان من دين الإسلام، وكذلك شريعة التوراة فى وقتها كانت من دين الإسلام، وشريعة الإنجيل فى وقته كانت من دين الإسلام، ومن آمن بالتوراة ثم كذب بالإنجيل خرج من دين الإسلام وكان كافرا، وكذلك من آمن بالكتابين المتقدمين وكذب بالقرآن كان كافرا خارجا من دين الإسلام، فإن دين الإسلام يتضمن الإيمان بجميع الكتب وجميع الرسل، كما قال تعالى: "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" الآية [البقرة: 136].