ج/ 27 ص -64-وَسُئِلَ أَحمد بن تيمية رحمهُ اللّه تعالى عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرضٍ به أو بفرسه أو بعيره: يطلب إزالة المرض الذى بهم، ويقول: ياسيدى، أنا في جيرتك، أنا في حسبك، فلان ظلمنى، فلان قصد أذيتى، ويقول: إن المقبور يكون واسطة بينه وبين اللّه تعالى. وفيمن ينذر للمساجد، والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك، يقول: إن سلم ولدى فللشيخ على كذا وكذا، وأمثال ذلك. وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذاك الواقع. وفيمن يجىء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه، ويمسح القبر بيديه، ويمسح بهما وجهه، وأمثال ذلك. وفيمن يقصده بحاجته، ويقول: يافلان، ببركتك، أو يقول: قضيت حاجتى بركة اللّه وبركة الشيخ. وفيمن يعمل السماع ويجىء إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدى شيخ على الأرض ساجداً. وفيمن قال: إن ثم قطباً غوثا جامعا في الوجود. أفتونا مأجورين، وابسطوا القول في ذلك.
فأجاب:
للّه رب العالمين،الدين الذى بعث اللّه به رسله
ج/ 27 ص -65-وأنزل به كتبه هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، واستعانته، والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع، ودفع المضار، كما قال تعالى: "تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ" [الزمر: 1 - 3]، وقال تعالى: "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" [الجن: 18] وقال تعالى: "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" [الأعراف: 29]، وقال تعالى: "قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا" [الإسراء: 56، 57]. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، قال اللّه تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادى كما أنتم عبادى، ويرجون رحمتى كما ترجون رحمتى، ويخافون عذأبي كما تخافون عذأبي، ويتقربون إلىَّ كما تتقربون إلىَّ. فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم؟!
وقال تعالى: "أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا" [الكهف: 102]،
ج/ 27 ص -66-وقال تعالى: "قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" [سبأ: 22، 23]. فبين سبحانه أن من دعى من دون اللّه من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه، وأنه ليس له شريك في ملكه، بل هو سبحانه له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للملك أعوان وظهراء، وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فنفي بذلك وجوه الشرك.
وذلك أن من يدعون من دونه، إما أن يكون مالكا، وإما ألا يكون مالكا، وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا، وإما ألا يكون شريكا، وإذا لم يكن شريكا فإما أن يكون معاوناً، وإما أن يكون سائلا طالباً. فالأقسام الأول الثلاثة وهى: الملك، والشركة والمعاونة منتفية، وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى: "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" [البقرة: 255]، وكما قال تعالى: "وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرضي" [النجم: 26]، وقال تعالى: "أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [الزمر: 43، 44]، وقال تعالى: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ" [السجدة: 4]،
ج/ 27 ص -67-وقال تعالى: "وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" [الأنعام: 51]، وقال تعالى: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" [آل عمران: 79: 80]. فإذا جعل من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كافراً، فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا ؟!
وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التى لا يقدر عليها إلا اللّه تعالى؛ مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخوله الجنة أو نجاته من النار، أو أن يتعلم العلم والقرآن، أو أن يصلح قلبه ويحسن خلقه ويزكى نفسه، وأمثال ذلك فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من اللّه تعالى، ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حياً أو ميتاً : اغفر ذنبي، ولا انصرنى على عدوى، ولا اشف مريضى، ولا عافنى أو عاف أهلى أو دابتى،
ج/ 27 ص -68-وما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقا كائناً من كان، فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التى يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال اللّه تعالى: "وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ" الآية [المائدة: 116]، وقال تعالى: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة: 31].
وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهيا عنها، قال اللّه تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ" [الشرح: 7، 8]، وأوصى النبي ﷺ ابن عباس: "إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه"، وأوصى النبي ﷺ طائفة من أصحابه: ألا يسألوا الناس شيئا. فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد: ناولنى إياه. وثبت في الصحيحين أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". والاسترقاء طلب الرقية، وهو من أنواع الدعاء، ومع هذا فقد ثبت عنه ﷺ أنه قال: "ما من
ج/ 27 ص -69-رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة، إلا وكل اللّه بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك: ولك مثل ذلك".
ومن المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب؛ ولهذا أمر النبي ﷺ بالصلاة عليه، وطلبنا الوسيلة له، وأخبر بما لنا في ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك، فقال في الحديث: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإن من صلى عليَّ مرة صلى اللّه عليه عشراً، ثم سلو اللّه لى الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغى أن تكون إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل اللّه لى الوسيلة حلت له شفاعتى يوم القيامة".
ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه، فقد روى طلب الدعاء من الأعلى والأدنى؛ فإن النبي ﷺ ودع عمر إلى العمرة، وقال: "لا تنسنا من دعائك يا أخى"، لكن النبي ﷺ لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشراً، وأن من سأل له الوسيلة حلَّت له شفاعته يوم القيامة، فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك، وفرق بين من طلب من غيره شيئا لمنفعة المطلوب منه، ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط. وثبت في الصحيح أنه ﷺ ذكر أُوَيْساً القَرَنى وقال لعمر: "إن استطعت أن يستغفر لك فافعل".
ج/ 27 ص -70-وفي الصحيحين أنه كان بين أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما شىء، فقال أبو بكر لعمر: استغفر لى، لكن في الحديث: أن أبا بكر ذكر أنه حنق على عمر. وثبت أن أقواما كانوا يسترقون، وكان النبي ﷺ يرقيهم.
وثبت في الصحيحين أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي ﷺ أن يستسقى لهم فدعا اللّه لهم فسقوا. وفي الصحيحين أيضًا: أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه استسقى بالعباس فدعا، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. وفي السنن: أن أعرابيا قال للنبي ﷺ: جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع باللّه عليك، وبك على اللّه. فسبح رسول اللّه ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال:"ويحك ! إن اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك". فأقره على قوله: "إنا نستشفع بك على اللّه"، وأنكر عليه: "نستشفع باللّه عليك"؛ لأن الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به.
وأما زيارة القبور المشروعة،فهو أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته،كما كان النبي ﷺ
ج/ 27 ص -71-يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: " سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، ويرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم". وروى عن النبي ﷺ أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام". واللّه تعالى يثيب الحى إذا دعا للميت المؤمن، كما يثيبه إذا صلى على جنازته؛ ولهذا نهى النبي ﷺ أن يفعل ذلك بالمنافقين، فقال عز من قائل: "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ" [التوبة:84]. فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحى إلى الميت، ولا مسألته ولا توسله به، بل فيها منفعة الحى للميت، كالصلاة عليه، واللّه تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، ويثيب هذا على عمله، فإنه ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له".
ج/ 27 ص -72-فصل
وأما من يأتى إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:
إحداها: أن يسأله حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضى دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا اللّه عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى اللّه منى ليشفع لى في هذه الأمور؛ لأنى أتوسل إلى اللّه به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر اللّه عن المشركين أنهم قالوا: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي" [الزمر: 3]، وقال سبحانه وتعالى: "أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [الزمر: 43، 44]،
ج/ 27 ص -73-وقال تعالى: "مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ" [السجدة: 4]، وقال تعالى: "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" [البقرة: 255]. فبين الفرق بينه وبين خلقه. فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشفيع، فيقضى حاجته؛ إما رغبة، وإما رهبة، وإما حياءً وإما مودة، وإما غير ذلك، واللّه سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما شاء، وشفاعة الشافع من إذنه، فالأمر كله له.
ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه : "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لى إن شئت، اللهم ارحمنى إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مكره له". فبين أن الرب سبحانه يفعل ما يشاء لا يكرهه أحد على ما اختاره، كما قد يكره الشافع المشفوع إليه، وكما يكره السائل المسؤول إذا ألح عليه وآذاه بالمسألة. فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ" [الشرح: 7، 8]. والرهبة تكون من اللّه كما قال تعالى: "وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" [البقرة: 40]، وقال تعالى: "فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ" [المائدة: 44]. وقد أمرنا أن نصلى على النبي ﷺ في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا.
ج/ 27 ص -74-وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى اللّه منى، وأنا بعيد من اللّه لا يمكننى أن أدعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك من أقوال المشركين، فإن اللّه تعالى يقول: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" [البقرة: 186]. وقد روى: أن الصحابة قالوا: يارسول اللّه، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل اللّه هذه الآية. وفي الصحيح أنهم كانوا في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي ﷺ: "يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، بل تدعون سميعا قريبا، إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" وقد أمر اللّه تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة: 5]. وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي" [الزمر: 3].
ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك، فهذا جهل وضلال وكفر. وإن كنت تعلم أن اللّه أعلم وأقدر وأرحم، فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ ألا تسمع إلى ما خرجه البخارى وغيره عن جابر رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أحدكم بأمر
ج/ 27 ص -75-فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إنى أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى في دينى ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاقْدُرْه لى، ويسره لى، ثم بارك لى فيه، وإن كنت تعمل أن هذا الأمر شر لى في دينى، ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاصرفه عنى، واصرفنى عنه، واقْدُرْ لى الخير حيث كان، ثم أرْضِنى به قال: ويسمى حاجته". أمر العبد أن يقول: "أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم".
وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى اللّه منك وأعلى درجة عند اللّه منك فهذا حق؛ لكن كلمة حق أريد بها باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه: أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك، ليس معناه: أنك إذا دعوته كان اللّه يقضى حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت اللّه تعالى، فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا لما فيه من العدوان فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه اللّه، ولا يسعى فيما يبغضه اللّه، وإن لم يكن كذلك، فاللّه أولى بالرحمة والقبول.
وإن قلت: هذا إذا دعا اللّه أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته، فهذا هو القسم الثانى وهو: ألا تطلب منه الفعل ولا
ج/ 27 ص -76-تدعوه، ولكن تطلب أن يدعو لك. كما تقول للحى: ادع لى، وكما كان الصحابة رضوان اللّه عليهم يطلبون من النبي ﷺ، الدعاء، فهذا مشروع في الحى كما تقدم، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث، بل الذى ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر رضي اللّه عنه استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. ولم يجيئوا إلى قبر النبي ﷺ قائلين: يا رسول اللّه، ادع اللّه لنا واستسق لنا، ونحن نشكوا إليك مما أصابنا، ونحو ذلك. لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة، ما أنزل اللّه بها من سلطان،بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي ﷺ يسلمون عليه، فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا اللّه مستقبلى القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة، ويدعون اللّه وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع.
وذلك أن في [الموطأ] وغيره عنه ﷺ قال: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب اللّه على قوم اتخذوا
ج/ 27 ص -77-قبور أنبيائهم مساجد". وفي السنن عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبرى عيداً، وصلُّوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى". وفي الصحيح عنه أنه قال في مرضه الذى لم يقم منه: "لعن اللّه اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبويها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. وفي صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك". وفي سنن أبي داود عنه قال: "لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج".
ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المسجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئاً من الأشياء، لا من درهم، ولا من زيت، ولا من شمع، ولا من حيوان، ولا غير ذلك، كله نذر معصية. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصى اللّه فلا يعصه". واختلف العلماء: هل على الناذر كفارة يمين؟ على قولين؛ ولهذا لم يقل أحد من أئمة السلف: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة، أو فيها فضيلة،ولا أن
ج/ 27 ص -78-الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور قبور الأنبياء والصالحين سواء سميت [مشاهد] أو لم تسم.
وقد شرع اللّه ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء، فقال تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا" [البقرة: 114]، ولم يقل: المشاهد. وقال تعالى: "وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" [البقرة: 187] ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ"[الأعراف: 29]، وقال تعالى: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ" [التوبة: 18]، وقال تعالى: "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" [ الجن: 18 ] وقال ﷺ: " صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا"، وقال ﷺ: "من بنى للّه مسجداً بنى اللّه له بيتا في الجنة".
وأما القبور فقد ورد نهيه ﷺ عن اتخاذها مساجد، ولعن من يفعل ذلك، وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين، كما ذكره البخارى في صحيحه والطبرانى وغيره في تفاسيرهم، وذكره وَثِيمَة وغيره في [قصص الأنبياء] في قوله تعالى:
ج/ 27 ص -79-"وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" [نوح: 23]، قالوا: هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثليهم أصناما. وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال النى ﷺ: "اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد".
واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي ﷺ أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين الصحابة وأهل البيت وغيرهم أنه لا يتمسح به، ولا يقبله، بل ليس في الدينا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود. وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر رضي اللّه عنه قال: واللّه، انى لأعلم أنك حَجَر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول اللّه ﷺ يُقَبِّلك ما قَبَّلتك.
ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركنى البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول اللّه ﷺ لما كان موجوداً، فكرهه مالك وغيره؛ لأنه بدعة، وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم، ورخص
ج/ 27 ص -80-فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر رضي اللّه عنهما فعله. وأما التمسح بقبر النبي ﷺ وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي ﷺ من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين للّه رب العالمين.
وهذا ما يظهر الفرق بين سؤال النبي ﷺ والرجل الصالح في حياته، وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد بحضوره، فإذا كان الأنبياء صلوات اللّه عليهم والصالحون أحياء لا يتركون أحداً يشرك بهم بحضورهم، بل ينهونهم عن ذلك، ويعاقبونهم عليه، ولهذا قال المسيح عليه السلام : "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" [المائدة: 117]. وقال رجل للنبي ﷺ: ما شاء اللّه وشئت، فقال: "أجعلتنى للّه نداً؟! ما شاء اللّه وحده"، وقال: "لا تقولوا: ما شاء اللّه وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء اللّه ثم شاء محمد". ولما قالت الجويرية: وفينا رسول اللّه يعلم ما في غَدٍ. قال: "دعى هذا، قولى بالذى كنت تقولين". وقال: "لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد اللّه ورسوله"، ولما صفوا خلفه قياما، قال: "لا تعظمونى كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا"، وقال
ج/ 27 ص -81-أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول اللّه ﷺ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك. ولما سجد له معاذ نهاه، وقال: "إنه لا يصلح السجود إلا للّه، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها". ولما أتى على بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار.فهذا شأن أنبياء اللّه وأوليائه، وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علواً في الأرض وفساداً، كفرعون ونحوه، ومشائخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد، والفتنة بالأنبياء والصالحين، واتخاذهم أرباباً، والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم، كما أشرك بالمسيح وعزير.
فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبي ﷺ في حياته وحضوره، وبين سؤاله في مماته ومغيبه، ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعى التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم، ولا يستغيثون بهم، لا في مغيبهم، ولا عند قبورهم، وكذلك العكوف.
ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب، كما ذكره
ج/ 27 ص -82-السائل، ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدى فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم. ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على اللّه نبينا محمد ﷺ، وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك؛ لا في مغيبه، ولا بعد مماته. وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب، فإن الكذب مقرون بالشرك، وقد قال تعالى: "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ" [الحج: 30: 31]. وقال النبي ﷺ: "عَدَلت شهادة الزور الإشراك باللّه" مرتين، أو ثلاثاً. وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" [الأعراف: 152]، وقال الخليل عليه السلام : "أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ" [الصافات: 86: 87].
فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه: إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رده عليه، وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخاً. وقد تغويهم الشياطين، كما تغوى عباد الأصنام كما كان يجرى في العرب في أصناهم، ولعباد الكواكب وطلاسمها من الشرك والسحر، كما يجرى للتتار، والهند، والسودان، وغيرهم من أصناف المشركين؛ من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك.
ج/ 27 ص -83-فكثير من هؤلاء قد يجرى له نوع من ذلك، لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين قد تنزل عليهم، وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع: من الإرغاء، والإزباد، والصياح المنكر، ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون، وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.
وأما القسم الثالث: وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان عندك، افعل بى كذا، وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغنى عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام. فإنه أفتى: أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا للنبي ﷺ إن صح الحديث في النبي ﷺ. ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائى والترمذى وغيرهما أن النبي ﷺ علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: "اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد، يا رسول اللّه، إنى أتوسل بك إلى ربى في حاجتى ليقضيها لى. اللهم، فشفعه في". فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي ﷺ في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء
ج/ 27 ص -84-المخلوقين، ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة باللّه، لكن فيه سؤال بجاهه، كما في سنن ابن ماجه عن النبي ﷺ أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: "اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشراً ولا بطرا ً، ولا رياءً ولا سمعةً. خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه، وبحق ممشاه إلى الصلاة، واللّه تعالى قد جعل على نفسه حقاً، قال اللّه تعالى: "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم: 47]، ونحو قوله: "كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا" [الفرقان: 16]. وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل: أن النبي ﷺ قال له: "يا معاذ، أتدرى ما حق اللّه على العباد؟". قال: اللّه ورسوله أعلم، قال: "حق اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدرى ما حق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم". وقد جاء في غير حديث: "كان حقاً على اللّه كذا وكذا" كقوله: "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقاً على اللّه أن يسقيه من طينة الخَبَال" قيل: وما طينة الخبال؟ قال:
ج/ 27 ص -85-"عصارة أهل النار".
وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه، بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره، كما في صحيح البخارى أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعَمِّ نبينا فاسقنا، فيسقون. وقد بين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو اللّه لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسلون بشفاعته ودعائه،كما في الصحيح عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار [دار القضاء]، ورسول اللّه ﷺ قائم يخطب، فاستقبل رسول اللّه، قائما، فقال: يا رسول اللّه، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُل. فادع اللّه لنا أن يمسكها عنا، قال: فرفع رسول اللّه ﷺ يديه ثم قال: "اللهم، حوالينا ولا علينا اللهم على الآكَام والظِّرَاب وبُطُون الأودية ومَنَابِت الشجر". قال: وأقلعت فخرجنا نمشى في الشمس، ففي هذا الحديث: أنه قال: ادع اللّه لنا أن يمسكها عنا. وفي الصحيح: أن عبد اللّه بن عمر قال: إنى
ج/ 27 ص -86-لأذكر قول أبي طالب في رسول اللّه ﷺ حيث يقول:
وأبيض يُسْتَسقى الغَمام بوجهه**ثِمَال اليتامى عِصمة للأرامل.
فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه. ولما مات توسلوا بالعباس رضي اللّه عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون. وما كانوا يستسقون به بعد موته، ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره، وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد ابن الأسود الجُرَشى،وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا. يا يزيد، ارفع يديك إلى اللّه، فرفع يديه، ودعا، ودَعْوا، فسقوا. فلذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير، فإذا كانوا من أهل بيت رسول اللّه ﷺ كان أحسن.ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه،ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية.والدعاء مُخُّ العبادة.
والعبادة مبناها على السنة والاتباع، لا على الأهواء والابتداع، وإنما يعبد اللّه بما شرع، لا يعبد بالأهواء والبدع، قال تعالى: "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ" [الشورى: 21]، وقال تعالى: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [الأعراف: 55]، وقال النبي صلى
ج/ 27 ص -87-الله عليه وسلم: "إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور".
وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئا فاستغاث بشيخه، يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع، فهذا من الشرك، وهو من جنس دين النصارى؛ فإن اللّه هو الذى يصيب بالرحمة ويكشف الضر، قال تعالى: "وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ" [يونس: 107]، وقال تعالى: "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ" [فاطر: 2]، وقال تعالى:"قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ" [الأنعام:40: 41]، وقال تعالى: "قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا" [الإسراء: 56: 57]. فبين أن من يدعى من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا.
فإذا قال قائل: أنا أدعو الشيخ ليكون شفيعا لى، فهو من جنس دعاء النصارى لمريم والأحبار والرهبان. والمؤمن يرجو ربه ويخافه، ويدعوه مخلصا له الدين، وحق شيخه أن يدعو له ويترحم عليه؛ فإن أعظم الخلق
ج/ 27 ص -88-قدرا هو رسول اللّه ﷺ، وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره، وأطوع الناس له، ولم يكن يأمر أحدا منهم عند الفزع والخوف أن يقول: يا سيدى، يا رسول اللّه، ولم يكونوا يفعلون ذلك في حياته ولا بعد مماته، بل كان يأمرهم بذكر اللّه ودعائه والصلاة والسلام عليه ﷺ، قال اللّه تعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" [آل عمران173، 174]، وفي صحيح البخارى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما : أن هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار، وقالها محمد ﷺ يعنى وأصحابه حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم. وفي الصحيح عن النبي ﷺ: أنه كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم". وقد روى أنه علم نحو هذا الدعاء بعض أهل بيته. وفي السنن: أن النبي ﷺ كان إذا حَزَبَه أمر قال: "يا حى، يا قيوم، برحمتك أستغيث". وروى أنه علم ابنته فاطمة أن تقول: يا حى، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث،
ج/ 27 ص -89-أصلح لى شأنى كله، ولا تِكَلْنى إلى نفسى طَرْفَة عين، ولا إلى أحد من خلقك" .
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم البستى عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "ما أصاب عبدًا قط هَمٌّ ولا حَزَن فقال: اللهم إنى عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصِيتى بيدك، ماضٍ في حكمك، عَدْل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سَمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم رَبِيع قلبى، ونور صدرى، وجلاء حُزّنى، وذهاب هَمِّى وغمى، إلا أذهب اللّه همه وغمه،وأبدله مكانه فرحا". قالوا:يا رسول اللّه، أفلا نتعلمهن؟ قال: "ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن". وقال لأمته: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن اللّه يُخَوِّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وذِكْر اللّه، والاستغفار". فأمرهم عند الكسوف بالصلاة والدعاء والذكر والعتق والصدقة، ولم يأمرهم أن يدعوا مخلوقا ولا ملكا ولا نبيا ولا غيرهم.
ومثل هذا كثير في سنته، لم يشرع للمسلمين عند الخوف إلا ما أمر اللّه به؛ من دعاء اللّه، وذكره والاستغفار، والصلاة، والصدقة،
ج/ 27 ص -90-ونحو ذلك. فكيف يعدل المؤمن باللّه ورسوله عما شرع اللّه ورسوله إلى بدعة ما أنزل اللّه بها من سلطان، تُضَاهى دين المشركين والنصارى؟!
فإن زَعَم أحد أن حاجته قضيت بمثل ذلك، وأنه مثل له شيخه ونحو ذلك، فعباد الكواكب والأصنام ونحوهم من أهل الشرك يجرى لهم مثل هذا، كما قد تواتر ذلك عمن مضى من المشركين، وعن المشركين في هذا الزمان. فلولا ذلك ما عبدت الأصنام ونحوها، قال الخليل عليه السلام : "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ" [إبراهيم: 35، 36] .
ويقال: إن أول ما ظهر الشرك في أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة "عمرو بن لُحِىِّ الخزاعى"،الذى رآه النبي ﷺ يجر أمعاءه في النار. وهو أول من سَيَّب السوائب، وغَيَّر دين إبراهيم. قالوا: إنه ورد الشام، فوجد فيها أصناما بالبلقاء، يزعمون أنهم ينتفعون بها في جَلْب منافعهم ودفع مضارهم، فنقلها إلى مكة، وسَنَّ للعرب الشرك وعبادة الأصنام.
والأمور التى حرمها اللّه ورسوله، من الشرك، والسحر، والقتل، والزنا وشهادة الزور، وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات، قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة، أو دفع مَضَرَّة، ولولا ذ لك ما أقدمت النفوس على المحرمات التى لا خير فيها بحال، وإنما يوقع النفوس في المحرمات الجهل
ج/ 27 ص -91-أو الحاجة. فأما العالم بقبح الشىء والنهى عنه فكيف يفعله؟! والذين يفعلون هذه الأمور جميعها قد يكون عندهم جهل بما فيه من الفساد، وقد تكون بهم حاجة إليها، مثل الشهوة إليها، وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة ولا يعلمون ذلك لجلهلهم أو تغلبهم أهواؤهم حتى يفعلوها، والهوى غالبا يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئا، فإن حبك للشىء يُعْمِى ويُصِمُّ.
ولهذا كان العالم يخشى اللّه، وقال أبو العالية: سألت أصحاب محمد ﷺ عن قول اللّه عز وجل: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ" الآية [النساء: 17]. فقالوا: كل من عصى اللّه فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. وليس هذا موضع البسط لبيان ما في المنهيات من المفاسد الغالبة وما في المأمورات من المصالح الغالبة، بل يكفي المؤمن أن يعلم أن ما أمر اللّه به فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى اللّه عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن اللّه لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم بُخْلاً به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم؛ ولهذا وصف نبيه ﷺ بأنه "يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ" [الأعراف: 157].
وأما التمسح بالقبر أىّ قبر كان وتقبيله، وتمريغ الخد عليه،
ج/ 27 ص -92-فمنهى عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هذا من الشرك، قال اللّه تعالى: "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا" [نوح: 23، 24]، وقد تقدم أن هؤلاء أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح، وأنهم عَكَفوا على قبورهم مدة، ثم طال عليهم الأمد فصَوَّروا تماثيلهم؛ لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به. وقد تقدم ذكر ذلك، وبيان ما فيه من الشرك، وبينا الفرق بين [الزيارة البدعية] التى تشبه أهلها بالنصارى و[الزيارة الشرعية].
وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهى عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير اللّه عز وجل منهى عنه. ففي المسند وغيره: أن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه لما رجع من الشام سجد للنبي ﷺ فقال: "ما هذا يا معاذ؟". فقال: يا رسول اللّه، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال: "كذبوا يا معاذ، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَم حقه عليها، يا معاذ، أرأيت إن مررت بقبرى أكنت ساجداً؟". قال: لا. قال: "لا تفعل هذا"، أو كما قال رسول اللّه ﷺ.
ج/ 27 ص -93-بل قد ثبت في الصحيح من حديث جابر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه قاعدًا من مرض كان به، فصلوا قيامًا، فأمرهم بالجلوس، وقال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضًا"، وقال: "من سره أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار". فإذا كان قد نهاهم مع قعوده وإن كانوا قاموا في الصلاة حتى لا يتشبهوا بمن يقومون لعظمائهم، وبين أن من سره القيام له كان من أهل النار فكيف بما فيه من السجود له، ومن وضع الرأس، وتقبيل الأيادي؟! وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة الله على الأرض قد وكل أعوانًا يمنعون الداخل من تقبيل الأرض، ويؤدبهم إذا قبل أحد الأرض.
وبالجملة، فالقيام والقعود والركوع والسجود حق للواحد المعبود؛ خالق السموات والأرض، وما كان حقًا خالصًا لله لم يكن لغيره فيه نصيب؛ مثل الحلف بغير الله عز وجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". متفق عليه. وقال أيضًا: "من حلف بغير الله فقد أشرك".
فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" [البينة: 5]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن
ج/ 27 ص -94-الله يرضي لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم". وإخلاص الدين لله هو أصل العبادة.
ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرك دقِّه وجلِّه، وحقيره وكبيره، حتى إنه قد تواتر عنه أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها بألفاظ متنوعة؛ تارة يقول: "لا تَحَرُّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها". وتارة ينهى عن الصلاة بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. وتارة يذكر أن الشمس إذا طلعت طلعت بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ونهى عن الصلاة في هذا الوقت؛ لما فيه من مشابهة المشركين في كونهم يسجدون للشمس في هذا الوقت، وأن الشيطان يقارن الشمس حينئذ ليكون السجود له، فكيف بما هو أظهر شركًا ومشابهة للمشركين من هذا؟! وقد قال الله تعالى فيما أمر رسوله أن يخاطب به أهل الكتاب : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران: 64]، وذلك لما فيه من مشابهة أهل الكتاب من اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، ونحن منهىون عن مثل هذا، ومن
ج/ 27 ص -95-عدل عن هدي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهدي أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى ما هو من جنس هدي النصارى،فقد ترك ما أمر الله به ورسوله.
وأما قول القائل: انقضت حاجتي ببركة الله وبركتك. فمنكر من القول؛ فإنه لا يقرن بالله في مثل هذا غيره، حتى إن قائلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله نِدّا؟! بل ما شاء الله وحده"، وقال لأصحابه: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد". وفي الحديث: أن بعض المسلمين رأي قائلا يقول: نعم القوم أنتم، لولا أنكم تنددون. أي: تجعلون لله ندًا. يعني: تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك. وفي الصحيح عن زيد بن خالد، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر بالحديبية في إثر سَمَاء من الليل، فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟". قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". والأسباب التي جعلها الله أسبابًا لا تجعل مع الله شركاء وأندادًا وأعوانًا.
ج/ 27 ص -96-وقول القائل: ببركة الشيخ، قد يعني بها دعاءه، وأسرعُ الدعاءِ إجابة دعاء غائب لغائب. وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير، وقد يعني بها بركة معاونته له على الحق، وموالاته في الدين، ونحو ذلك. وهذه كلها معان صحيحة. وقد يعني بها دعاءه للميت والغائب؛ إذ استقلال الشيخ بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه، أو غير قادر عليه، أو غير قاصد له متابعته أومطاوعته على ذلك من البدع المنكرات، ونحو هذه المعاني الباطلة. والذي لا ريب فيه أن العمل بطاعة الله تعالى، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، ونحو ذلك، هو نافع في الدنيا والآخرة، وذلك بفضل الله ورحمته.
وأما سؤال السائل عن [القطب الغوث الفرد الجامع]، فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام؛ مثل تفسير بعضهم: أن [الغوث] هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى يقول: إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته. فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي رضي الله عنه. وهذا كفر صريح، يستتاب منه صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته؛ ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في [العقول العشرة] الذين يزعمون أنها الملائكة، وما يقوله النصارى في المسيح
ج/ 27 ص -97-ونحو ذلك، كفر صريح باتفاق المسلمين.
وكذلك عني بالغوث ما يقوله بعضهم: من أن في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، يسمونهم [النجباء]، فينتقي منهم سبعون هم [النقباء]، ومنهم أربعون هم [الأبدال]، ومنهم سبعة هم [الأقطاب]، ومنهم أربعة هم [الأوتاد]، ومنهم واحد هو [الغوث]، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وأولئك يفزعون إلى السبعين، السبعون إلى الأربعين والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد. وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب؛ فإن لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم: إنه ينزل من السماء على الكعبة ورقة خضراء باسم غوث الوقت، واسم خضره على قول من يقول منهم: إن الخضر هو مرتبة، وإن لكل زمان خضرًا، فإن لهم في ذلك قولين وهذا كله باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم. ومعلوم أن سيدنا رسول رب العالمين وأبا بكر وعمر وعثمان وعلىا رضي الله عنهم كانوا خير الخلق في زمنهم، وكانوا بالمدينة، ولم يكونوا بمكة.
وقد روي بعضهم حديثًا في [هلال] غلام المغيرة بن شعبة،
ج/ 27 ص -98-وأنه أحد السبعة. والحديث باطل باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روي بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في [حلية الأولياء]، والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا تغتر بذلك؛ فإن فيه الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، والمكذوب الذي لا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع. وتارة يرويه على عادة بعض أهل الحديث الذين يروون ما سمعوا ولا يميزون بين صحيحه وباطله، وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من حدث عني بحديث وهو يري أنه كذب فهو أحد الكاذبين".
وبالجملة، فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل، في الرغبة والرهبة؛ مثل دعائهم عند الاستسقاء لنزول الرزق، ودعائهم عند الكسوف، والاعتداد لرفع البلاء، وأمثال ذلك، إنما يدعون في ذلك الله وحده لا شريك له، لا يشركون به شيئًا، لم يكن للمسلمين قط أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله عز وجل، بل كان المشركون في جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله، أفَتَرَاهم بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ قال تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ" [يونس:12]، وقال تعالى:
ج/ 27 ص -99-"وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ" [الإسراء: 67]، وقال تعالى: "قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"، وقال: "وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" [الأنعام: 40: 43].
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقي لأصحابه بصلاة وبغير صلاة، وصلى بهم للاستسقاء، وصلاة الكسوف، وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين، وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكذلك أئمة الدين ومشايخ المسلمين، ومازالوا، على هذه الطريقة.
ولهذا يقال: ثلاثة أشياء مالها من أصل: [باب النصيرية]، و[منتظر الرافضة]، و [غوث الجهال]؛ فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس؛ أنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، ولكن دعوي النصيرية فيه باطلة. وأما محمد بن الحسن المنتظر، والغوث المقيم بمكة، ونحو هذا، فإنه باطل ليس له وجود.
وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله، ويعرفهم كلهم، ونحو هذا، فهذا باطل. فأبو بكر وعمر
ج/ 27 ص -100-رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله، ولا يمدانهم، فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين؟! ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء، وهو الغُرَّة والتحجيل، ومن هؤلاء من أولياء الله من لا يحصيه إلا الله عز وجل. وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم، بل قال الله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ" [غافر: 78]، وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر: وأنَّي بأرضك السلام؟ فقال له: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. وقد كان بلغه اسمه وخبره، ولم يكن يعرف عينه. ومن قال: إنه نقيب الأولياء، أو أنه يعلمهم كلهم، فقد قال الباطل.
والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه أن يؤمن به، ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة، ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم، ولم يكن مختفيًا عن خير أمة أخرجت للناس، وهو
ج/ 27 ص -101-قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم.
ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم ولا في دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي علمهم الكتاب والحمكة، وقال لهم نبيهم: "لو كان موسى حيَا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم". وعيسي ابن مريم عليه السلام إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم. فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره؟! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسي من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال: "كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسي في آخرها". فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة، لا عَوَامِّهم ولا خَوَاصِّهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟! وإذا كان الخضر حيًا دائمًا فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط، ولا أخبر به أمته، ولا خلفاؤه الراشدون؟!
وقول القائل: إنه نقيب الأولياء. فيقال له: من ولاه النقابة، وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيهم الخضر؟ وعامة ما يحكي في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب، وبعضها مبني على ظن رجل؛ مثل شخص رأي رجلا ظن أنه الخضر،
ج/ 27 ص -102-وقال: إنه الخضر، كما أن الرافضة تري شخصًا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر : من أحالك على غائب فما أنصفك. وما ألقي هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان. وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وأما إن قصد القائل بقوله: [القطب الغوث الفرد الجامع] أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن، لكن من الممكن أيضًا أن يكون في الزمان اثنان متساويان في الفضل، وثلاثة وأربعة، ولا يجزم بألا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحدًا، وقد تكون جماعة بعضهم أفضل من بعض من وجه دون وجه، وتلك الوجوه إما متقاربة وإما متساوية.
ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان فتسميته ب [القطب الغوث الجامع] بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، وما زال السلف يظنون في بعض الناس أنه أفضل أو من أفضل أهل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا سيما أن من المنتحلين لهذا الاسم من يدعي أن أول الأقطاب هو الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما ثم يتسلل الأمر إلى ما دونه إلى بعض مشايخ
ج/ 27 ص -103-المتأخرين، وهذا لا يصح لا على مذهب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة. فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟! والحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد قارب سن التمييز والاحتلام.
وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا: أن [القطب الفرد الغوث الجامع] ينطبق علمه على علم الله تعالى، وقدرته على قدرة الله تعالى، فيعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر عليه الله. وزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كذلك، وأن هذا انتقل عنه إلى الحسن، وتسلسل إلى شيخه. فبنت أن هذا كفر صريح، وجهل قبيح، وأن دعوي هذا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفر، دع ما سواه، وقد قال الله تعالى: "قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ" [الأنعام: 50]، قال تعالى:"قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" الآية [الأعراف:188] ، وقال تعالى:"يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا" الآية ،وقال تعالى: "يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ" [ آل عمران: 154] ، وقال تعالى: "لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" [آل عمران: 127، 128]،
ج/ 27 ص -104-وقال تعالى:"إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [القصص:56].
والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نطيع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ" [النساء:80]، وأمرنا أن نتبعه فقال تعالى: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ" [آل عمران: 31]، وأمرنا أن نعزره ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله، حتى أوجب علىنا أن يكون أحب الناس إلىنا من أنفسنا وأهلينا، فقال تعالى: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ" [الأحزاب: 6]، وقال تعالى: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ" [التوبة: 24]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". وقال له عمر رضي الله عنه : يا رسول الله، لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك".قال: فلأنت أحب إلى من نفسي، قال: "الآن يا عمر". وقال: "ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهنّ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن
ج/ 27 ص -105-يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار".
وقد بين في كتابه حقوقه التي لا تصلح إلا له وحقوق رسله وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض، كما بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذلك مثل قوله تعالى: "يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" [النور: 25]، فالطاعة لله. والرسول والخشية والتقوي لله وحده، وقال تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ" [التوبة: 59]، فالإيتاء لله والرسول والرغبة لله وحده، وقال تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا" [الحشر: 7]، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وأما الحسب فهو لله وحده، كما قال: "وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ" [التوبة: 59]، ولم يقل: حسبنا الله ورسوله، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [الأنفال: 64] أي: يكفيكك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو الصواب المقطوع به في هذه الآية؛ ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام حسبنا الله ونعم الوكيل. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ج/ 27 ص -106-وَسُئِل رحمه الله عن هؤلاء [الزائرين قبور الأنبياء والصالحين] كقبر الخليل وغيره، فيأتون إلى الضريح ويقبلونه، والقوام بذلك المكان، أي من جاء يأتونه ويجيئون به إلى الضريح، فيعلمونهم ذلك، ويقرونهم عليه. فهل هذا ما أمر الله تعالى به ورسوله أم لا؟ وهل في ذلك ثواب وأجر أم لا؟ وهل هو من الدين الذي بعث الله سبحانه به رسوله ﷺ أم لا؟ وإذا لم يكن كذلك وكان أناس يعتقدون أن هذا من الدين ويفعلونه على هذا الوجه، فهل يجب أن ينهوا عن ذلك أم لا؟ وهل استحب هذا أحد من الأئمة الأربعة أم لا؟ وهل كانت الصحابة والتابعون يفعلون ذلك أم لا؟ وإذا كان في القوام أو غيرهم من يفعل ذلك، أو يأمر به أو يقر عليه لأجل جعل يأخذه أو غير ذلك، فهل يثاب ولي الأمر على منع هؤلاء أم لا؟ وهل إذا لم ينتهوا عن ذلك فهل لولي الأمر أن يصرف عن الولاية من لم ينته منهم أم لا؟ والكسب الذي يكسبه الناس من مثل هذا الأمر هل هو كسب طيب أو خبيث؟ وهل يستحقون مثل هذا الكسب، أم يؤخذ منهم ويصرف في
ج/ 27 ص -107-مصالح المسلمين؟ وهل يجوز أن يقام إلى جانب [مسجد الخليل] السماع الذي يسمونه [النوبة الخليلية] ويقام عند ذلك سماع يجتمعون له ، الفقراء وغيرهم وفيه الشبابة أم لا ؟ والذي يصفر بالشبابة مؤذن بالمكان المذكور هل يفسق أم لا؟ وهل إذا لم ينته يصرفه ولي الأمر أم لا؟ وإذا لم يستطع ولي الأمر أن يزيل ذلك، فهل له أن ينقل هذه النوبة المذكورة إلى مكان لا يمكن الرقص فيه لضيق المكان أم لا؟
فأجاب رضي الله عنه :
الحمد لله رب العالمين، لم يأمر الله ولا رسوله ولا أئمة المسلمين بتقبيل شيء من قبور الأنبياء والصالحين، ولا التمسح به، لا قبر نبينا ﷺ، ولا قبر الخليل ﷺ، ولا قبر غيرهما، بل ولا بالتقبيل والاستلام لصخرة بيت المقدس، ولا الركنين الشاميين من البيت العتيق، بل إنما يستلم الركنان إلىمانيان فقط؛ اتباعًا لسنة النبي ﷺ، فإنه لم يستلم إلا إلىمانيين، ولم يقبل إلا الحجر الأسود. واتفقوا على أن الشاميين لا يستلمان ولا يقبلان.
واتفقوا على أن إليمانيين يستلمان، واتفقوا على تقبيل الأسود.
وتنازعوا في تقبيل إليماني؟ على ثلاثة أقوال معروفة. قيل:
ج/ 27 ص -108-يقبل.وقيل:يستلم وتقبل اليد. وقيل: يستلم، ولا تقبل اليد. وهذا هو الصحيح، فإن الثابت عن النبي ﷺ أنه استلمه ولم يقبله، ولم يقبل يده لما استلمه، ولا أجر ولا ثواب فيما ليس بواجب ولا مستحب؛ فإن الأجر والثواب إنما يكون على الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة إما واجبة وإما مستحبة.
فإذا كان الاستلام والتقبيل لهذه الأجسام ليس بواجب ولا مستحب لم يكن في ذلك أجر ولا ثواب، ومن اعتقد أنه يؤجر على ذلك ويثاب فهو جاهل ضال مخطئ، كالذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا سجد لقبور الأنبياء والصالحين، والذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا دعاهم من دون الله، والذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا صور صورهم، كما يفعل النصارى ودعا تلك الصور، وسجد لها، ونحو ذلك من البدع التي ليست واجبة ولا مستحبة، بل هي إما كفر وإما جهل وضلال.
وليس شيء من هذا من الدين الذي بعث الله به محمدًا ﷺ باتفاق المسلمين. ومن اعتقد أن هذا من الدين وفعله وجب أن ينهى عنه، ولم يستحب هذا أحد من الأئمة الأربعة، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ومن أمر الناس بشيء من ذلك أو رغبهم فيه أو أعانهم عليه
ج/ 27 ص -109-من القوام أو غير القوام، فإنه يجب نهىه عن ذلك، ومنعه منه. ويثاب ولي الأمر على منع هؤلاء، ومن لم ينته عن ذلك فإنه يعزر تعزيرًا يردعه. وأقل ذلك أن يعزل عن القيامة، ولا يترك من يأمر الناس بما ليس من دين المسلمين.
والكسب الذي يكسب بمثل ذلك خبيث، من جنس كسب الذين يكذبون على الله ورسوله، ويأخذون على ذلك جُعْلاً، ومن جنس كسب سَدَنة الأصنام الذين يأمرون بالشرك ويأخذون على ذلك جعلا؛ فإن هذه الأمور من جملة ما نهى عنه من أسباب الشرك ودواعيه وأجزائه، وقد قال ﷺ: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد". رواه مالك في الموطأ وغيره. وقال ﷺ: "لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". رواه أبو داود وغيره. وفي الصحيحين عنه: أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي الصحيح عنه: أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه ﷺ: أنه قال: "إن من شرار الناس من
ج/ 27 ص -110-تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة.
ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى [قبر الخليل] ولا غيره من قبور الصالحين، ولا سافروا إلى زيارة [جبل طور سيناء] وهو "الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ" [القصص: 30]، و[الوادي المقدس] الذي ذكره الله في كتابه، وكلم عليه كليمه موسى، بل ولا كان النبي ﷺ وأصحابه في حياته وبعد مماته يزورون [جبل حِرَاء] الذي نزل الوحي على رسول الله ﷺ فيه، ولم يكونوا يزورون بمكة غير المشاعر كالمسجد الحرام ، ومني، ومزدلفة وعرفة في الحج. وكذلك لم يكن أحد من أصحاب النبي ﷺ، يقصد الدعاء عند قبر أحد من الأنبياء، لا قبر نبينا ﷺ، ولا قبر الخليل، ولا غيرهما.
ولهذا ذكر الأئمة كمالك وغيره أن هذا بدعة، بل كانوا إذا أتوا إلى قبر النبي ﷺ يسلمون عليه، ويصلون عليه، كما ذكر مالك في الموطأ: أن ابن عمر كان إذا أتي قبر النبي ﷺ صلى عليه، وعلى أبي بكر وعمر. وفي رواية عنه: كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف.
ومن اكتسب مالاً خبيثاً؛ مثل هذا الذي يأمر الناس بالبدع
ج/ 27 ص -111-ويأخذ على ذلك جُعْلاً، فإنه لا يملكه، فإذا تعذر رده على صاحبه، فإن ولاة الأمور يأخذونه من هذا الذي أكل أموال الناس بالباطل، وصد عن سبيل الله، ويصرفها في مصالح المسلمين التي يحبها الله ورسوله، فيؤخذ المال الذي أنفق في طاعة الشيطان فينفق في طاعة الرحمن.
و [أما السماع] الذي يسمونه: [نوبة الخليل]، فبدعة باطلة لا أصل له، ولم يكن الخليل ﷺ يفعل شيئًا من هذا، ولا الصحابة لما فتحوا البلاد فعلوا عند الخليل شيئًا من هذا، ولا فعل شيئًا من هذا رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه، بل هذا إما أن يكون من إحداث النصارى؛ فإنهم هم الذين نقبوا حجرة الخليل بعد أن كانت مسدودة لا يدخل أحد إليها. وإما أن يكون من إحداث بعض جهال المسلمين، ولا يجوز أن يقام هناك رقص ولا شبابة، ولا ما يشبه ذلك، بل يجب النهى عن ذلك، ومن أصر على حضور ذلك من مؤذن وغيره قدح ذلك في عدالته، والله أعلم.