أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد وهل جاء في ذلك نص في القرآن أو الحديث

    ج/ 27 ص -39-وسُئِلَ رحمه الله‏:‏ ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين‏؟‏ هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد‏؟‏ وهل جاء في ذلك نص في القرآن أو الأحاديث أم لا‏؟‏ أجيبونا مأجورين‏.‏
    فأجاب شيخ الإسلام والمسلمين ناصر السنة تقي الدين‏:‏
    الحمد لله، الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله، وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون أعلم بذلك، وأقدر عليه، وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك‏.‏ هذا هو الأصل الجامع، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم‏.‏
    والتقوي هى‏:‏ ما فسرها الله تعالى في قوله‏:‏
    ‏"وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏177‏]‏، وجماعها فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله‏.‏ وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان‏.‏ فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل؛ إذا كان مجاهدا في سبيل الله بيده أو لسانه، آمرا

    ج/ 27 ص -40-بالمعروف، ناهيا عن المنكر، بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلت حسناته، ولم يكن فيها مجاهدا، وإن كان أروح قلبا‏.‏ وكذلك إذا عدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع‏.‏
    ولهذا كان المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى، أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء؛ فإن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏"‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏ وسئل النبي ﷺ‏:‏ أي الأعمال أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏حج مبرور‏"‏‏.‏
    وهكذا لو كان عاجزا عن الهجرة والانتقال إلى المكان الأفضل التي لو انتقل إليها لكانت الطاعة عليه أهون، وطاعة الله ورسوله في الموضعين واحدة، لكنها هناك أشق عليه‏.‏ فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضلهما، وبهذا ناظر مهاجرة الحبشة المقيمون بين الكفار لمن زعم أنه أفضل منهم، فقالوا‏:‏ كنا عند البغضاء البعداء، وأنتم عند رسول الله ﷺ‏:‏ يعلم جاهلكم، ويطعم جائعكم، وذلك في ذات الله‏.‏

    ج/ 27 ص -41-وأما إذا كان دينه هناك أنقص فالانتقال أفضل له، وهذا حال غالب الخلق، فإن أكثرهم لا يدافعون، بل يكونون على دين الجمهور‏.‏ وإذا كان كذلك، فدين الإسلام بالشام في هذه الأوقات وشرائعه أظهر منه بغيره‏.‏ هذا أمر معلوم بالحس والعقل، وهو كالمتفق عليه بين المسلمين العقلاء الذين أوتوا العلم والإيمان، وقد دلت النصوص على ذلك؛ مثل ما روي أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم‏"‏‏.‏ وفي سننه أيضا عن عبد الله بن حوالة، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إنكم ستجندون أجنادا‏:‏ جندا بالشام، وجندا باليمن، وجندا بالعراق، فقال ابن حوالة‏:‏ يا رسول الله، اختر لى، فقال‏:‏ عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه يجتبى إليه خيرته من خلقه، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليتق من غدره، فإن الله قد تكفل لى بالشام وأهله‏"‏‏.‏ وكان الحوالي يقول‏:‏ من تكفل الله به فلا ضيعة عليه‏.‏ وهذان نصان في تفضيل الشام‏.‏
    وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏لايزال أهل المغرب ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة‏"‏‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ أهل المغرب هم أهل الشام، وهو كما قال‏:‏ فإن هذه لغة أهل المدينة النبوية في ذاك

    ج/ 27 ص -42-الزمان، كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق، ويسمون أهل الشام أهل المغرب؛ لأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، فكل مكان له غرب وشرق؛ فالنبي ﷺ تكلم بذلك في المدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غربه، وما تشرق عنها فهو شرقه‏.‏
    ومن علم حساب البلاد أطوالها وعروضها علم أن المعاقل التي بشاطئ الفرات كالبيرة ونحوها هي محاذية للمدينة النبوية، كما أن ما شرق عنها بنحو من مسافة القصر كحرام وما سامتها مثل الرقة وسميساط فإنه محاذ أم القرى مكة شرفها الله‏.‏ ولهذا كانت قبلته هو أعدل القبل، فما شرق عما حاذى المدينة النبوية فهو شرقها، وما يغرب ذلك فهو غربها‏.‏
    وفي الكتب المعتمد عليها مثل ‏[‏مسند أحمد‏]‏ وغيره عدة آثار عن النبي ﷺ في هذا الأصل‏:‏ مثل وصفه أهل الشام
    ‏"‏بأنه لا يغلب منافقوهم مؤمنيهم‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏رأيت كأن عمود الكتاب وفي رواية‏:‏ عمود الإسلام أخذ من تحت رأسي، فأتبعته نظري فذهب به إلى الشام‏"‏‏.‏ وعمود الكتاب والإسلام ما يعتمد عليه، وهم حملته القائمون به‏.‏ ومثل قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏عقر دار المؤمنين الشام‏"‏‏.‏ ومثل ما في الصحيحين عن معاذ بن جبل، عن النبي ﷺ

    ج/ 27 ص -43-أنه قال‏:‏ ‏"‏لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة‏"‏‏.‏
    وفيهما أيضا عن معاذ بن جبل قال‏:‏ ‏"‏وهم بالشام‏"‏‏.‏ وفي تاريخ البخاري قال‏:‏ ‏"‏وهم بدمشق‏"‏‏.‏ وروي‏:‏ ‏"‏وهم بأكناف بيت المقدس‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر، عن النبي ﷺ‏:‏ أنه أخبر
    ‏"‏أن ملائكة الرحمن مظلة أجنحتها بالشام‏"‏‏.‏
    والآثار في هذا المعنى متعاضدة، ولكن الجواب ليس على البديهة على عجل‏.‏
    وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس والعقل وكشوفات العارفين‏:‏ أن الخلق والأمر ابتدءا من مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدئت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي جعلها الله قياما للناس‏:‏ إليها يصلون، ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم، فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها‏.‏ فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر‏.‏ وهناك يحشر الخلق‏.‏ والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام‏.‏ وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خير من آخرها‏.‏ وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى

    ج/ 27 ص -44-الشام، كما أسرى بالنبي ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏.‏ فخيار أهل الأرض في آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم عليه السلام وهو بالشام‏.‏ فالأمر مساسه كما هو الموجود والمعلوم‏.‏
    وقد دل القرآن العظيم على بركة الشام في خمس آيات‏:‏ قوله‏:‏
    "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا‏"[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏، والله تعالى إنما أورث بني إسرائيل أرض الشام، وقوله‏:‏ ‏"سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 71‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً‏"‏[‏سبأ‏:‏ 18‏]‏‏.‏ فهذه خمس آيات نصوص‏.‏ و‏[‏البركة‏]‏ تتناول البركة في الدين، والبركة في الدنيا‏.‏ وكلاهما معلوم لا ريب فيه، فهذا من حيث الجملة والغالب‏.‏
    وأما كثير من الناس فقد يكون مقامه في غير الشام أفضل له، كما تقدم‏.‏ وكثير من أهل الشام لو خرجوا عنها إلى مكان يكونون فيه أطوع لله ولرسوله لكان أفضل لهم‏.‏ وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما يقول له‏:‏ هلم إلى الأرض

    ج/ 27 ص -45-المقدسة، فكتب إليه سلمان‏:‏ إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله‏.‏ وهو كما قال سلمان الفارسي؛ فإن مكة حرسها الله تعالى أشرف البقاع، وقد كانت في غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها، وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها، وقد كانت الشام في زمن موسى عليه السلام قبل خروجه ببني إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين، وفيها قال تعالى لبني إسرائيل‏:‏ ‏"سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏145‏]‏‏.‏
    فإن كون الأرض ‏[‏دار كفر‏]‏ أو ‏[‏دار إسلام‏]‏ أو ‏[‏إيمان‏]‏ أو ‏[‏دار سلم‏]‏ أو ‏[‏حرب‏]‏ أو ‏[‏دار طاعة‏]‏، أو ‏[‏معصية‏]‏ أو ‏[‏دار المؤمنين‏]‏ أو ‏[‏الفاسقين‏]‏، أوصاف عارضة، لا لازمة‏.‏ فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس‏.‏
    وأما الفضيلة الدائمة في كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ‏" الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وقال تعالى ‏"وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏111، 112‏]‏‏.‏ وقال تعال‏:‏‏"وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏

    ج/ 27 ص -46-وإسلام الوجه لله تعالى هو إخلاص القصد والعمل له والتوكل عليه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏‏.‏
    ومنذ أقام الله حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسوله ﷺ، وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته، واتباع شريعته ومنهاجه‏.‏ فأفضل الخلق أعلمهم، وأتبعهم لما جاء به‏:‏ علما، وحالا، وقولا، وعملا، وهم أتقى الخلق‏.‏ وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه، وإن كان الأفضل في حق غيره شيئاً آخر‏.‏ ثم إذا فعل كل شخص ما هو أفضل في حقه، فإن تساوت الحسنات والمصالح التى حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء، وإلا فإن أرجحهما في ذلك هو أفضلهما‏.‏
    وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص في خراب ‏[‏المساجد الثلاثة‏]‏ علما وإيماناً، ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم‏.‏ فلا ينبغى للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقا، بل يعطى كل ذي حق حقه، ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب، ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال كإعانة مكة حرسها الله تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو

    ج/ 27 ص -47-ذلك‏.‏ وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولا؛ مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف، والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة، وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه، لا لأجل عمل صالح، فالأعمال بالنيات‏.‏
    وهذا الحديث الشريف إنما قاله النبي ﷺ بسبب الهجرة فقال‏:‏
    ‏"‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏"‏‏.‏ قال ذلك بسبب أن رجلا كان قد هاجر يتزوج امرأة يقال لها‏:‏ أم قيس، وكان يقال له‏:‏ مهاجر أم قيس‏.‏
    وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الأفراد، كتفضيل القرن الثانى على الثالث، وتفضيل العرب على ما سواهم، وتفضيل قريش على ما سواهم‏.‏ فهذا هذا، والله أعلم‏.‏

    ج/ 27 ص -48-وَسُئِلَ رحمه الله‏:‏ عن رجلين اختلفا في الصلاة في جامع بني أمية‏:‏ هل هي بتسعين صلاة، كما زعموا أم لا‏؟‏
    وقد ذكروا‏:‏‏"‏أن فيه ثلاثمائة نبي مدفونين‏"‏، فهل ذلك صحيح أم لا‏؟‏ وقد ذكروا‏:‏‏"‏أن النائم بالشام كالقائم بالليل بالعراق‏"‏، وذكروا‏:‏‏"‏أن الصائم المتطوع بالعراق كالمفطر بالشام‏"‏، وذكروا‏:‏‏"‏أن الله خلق البركة إحدى وسبعين جزءا، منها جزء واحد بالعراق، وسبعون بالشام‏"‏، فهل ذلك صحيح أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، لم يرد في ‏[‏جامع دمشق‏]‏ حديث عن النبي ﷺ بتضعيف الصلاة فيه، ولكن هو من أكثر المساجد ذكرا لله تعالى‏.‏ ولم يثبت أن فيه عدد الأنبياء المذكورين‏.‏
    وأما القائم بالشام أو غيره فالأعمال بالنيات؛ فإن أقام فيه بنية صالحة فإنه يثاب على ذلك‏.‏ وكل مكان يكون فيه العبد أطوع لله فمقامه فيه أفضل، وقد جاء في فضل الشام وأهله أحاديث صحيحة، ودل

    ج/ 27 ص -49-القرآن على أن البركة في أربع مواضع، ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه في غيره، وفيه من ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق ما لا يوجد في غيره‏.‏ وأما ما ذكر‏:‏ من حديث الفطر والصيام، وأن البركة إحدى وسبعون جزءا بالشام، والعراق على ما ذكر‏:‏ فهذا لم نسمعه عن أحد من أهل العلم، والله أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ أيضا‏:‏ هل دخلت عائشة زوج النبي ﷺ إلى دمشق، وكانت تحدث الناس بجامع دمشق أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، لم يدخل دمشق أحد من أزواج النبي ﷺ، لا عائشة ولا غيرها، والله أعلم‏.‏

    ج/ 27 ص -50-وَسُئِلَ رحمه الله تعالى عن ‏[‏جبل لبنان‏]‏‏:‏ هل ورد في فضله نص في كتاب الله تعالى، أو حديث عن رسول الله ﷺ‏؟‏ وهل يحل في دين الله تعالى أن يصقع الناس إليه برؤوسهم إذا أبصروه‏؟‏ وحتى من أبصره صباحا أو مساء يرى أن ذلك بركة عظيمة‏؟‏ وهل ثبت عند أهل العلم أن فيه أربعين من الأبدال‏؟‏ أو كان فيه رجال عليهم شعر مثل شعر الماعز‏؟‏ وهل هذه صفة الصالحين‏؟‏ وهل يجوز أن يعقد له نية الزيارة‏؟‏ أو يعتقد أن من وطئ أرضه فقد وطئ بعض الجبل المخصوص بالرحمة‏؟‏ وهل ثبت أن فيه نبيا من الأنبياء مدفون أو في أذياله‏؟‏ أو قال أحد من أهل العلم‏:‏ إن فيه رجال الغيب‏؟‏ وكيف صفة رجال الغيب الذين يعتقد العوام فيهم‏؟‏ وهل يحل في دين الله تعالى أن يعتقد المسلمون شيئاً من هذا‏؟‏ وهل يكون كل من كابر فيه وحسنه أو داهن فيه مخطئاً آثماً‏؟‏ وهل يكون المنكر لهذا كله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحالة هذه أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس في فضل ‏[‏جبل لبنان‏]‏ وأمثاله نص لا عن الله

    ج/ 27 ص -51-ولا عن رسوله، بل هو وأمثاله من الجبال التي خلقها الله وجعلها أوتادا للأرض، وآية من آياته، وفيها من منافع خلقه ما هو نعم لله على عباده‏.‏ وسوف يفعل بها ما أخبر به في قوله‏:‏ ‏"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا‏"‏[‏طه‏:‏ 105‏:‏ 107‏]‏‏.‏
    وأما ما ذكر في بعض الحكايات عن بعض الناس من الاجتماع ببعض العباد في جبل لبنان، وجبل اللكام، ونحو ذلك، وما يؤثر عن بعض هؤلاء من جميع المقال والفعال، فأصل ذلك‏:‏ أن هذه الأمكنة كانت ثغورا يرابط بها المسلمون لجهاد العدو؛ لما كان المسلمون قد فتحوا الشام كله وغير الشام، فكانت غزة، وعسقلان، وعكة، وبيروت، وجبل لبنان، وطرابلس، ومصيصة، وسيس، وطرسوس وأذنة، وجبل اللكام، وملطية، وآمد، وجبل ليسون، إلى قزوين إلى الشاش، ونحو ذلك من البلاد، كانت ثغورا، كما كانت الإسكندرية ونحوها ثغورا، وكذلك عبادان ونحوها من أرض العراق‏.‏ وكان الصالحون يتناوبون الثغور لأجل المرابطة في سبيل الله، فإن المقام بالثغور لأجل الجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، ما أعلم في ذلك خلافا بين العلماء‏.‏
    وثبت في صحيح مسلم عن سلمان الفارسى رضي الله عنه قال‏:‏ قال

    ج/ 27 ص -52-رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا مات مجاهدا، وجرى عليه عمله، وأجرى عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان‏"‏‏.‏ وفي السنن عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل‏"‏‏.‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود‏.‏
    وذلك لأن الرباط هو من جنس الجهاد، والمجاورة من جنس النسك، وجنس الجهاد في سبيل الله أفضل من جنس النسك؛ بكتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، وإجماع المسلمين، كما قال تعالى‏:‏
    "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19- 22‏]‏‏.‏ وفضائل الجهاد والرباط كثيرة‏.‏
    فلذلك كان صالحو المؤمنين يرابطون في الثغور، مثل ما كان الأوزاعي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، وإبراهيم بن

    ج/ 27 ص -53-أدهم، وعبد الله بن المبارك، وحذيفة المرعشي، ويوسف بن أسباط، وغيرهم، يرابطون بالثغور الشامية‏.‏ ومنهم من كان يجيء من خراسان والعراق وغيرهما للرباط في الثغور الشامية؛ لأن أهل الشام هم الذين كانوا يقاتلون النصارى أهل الكتاب‏.‏ وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من قتله أهل الكتاب فله أجر شهيدين‏"‏؛ وذلك لأن هؤلاء يقاتلون على دين‏.‏ وأما الكفار الترك ونحوهم فلا يقاتلون على دين، فإذا غلبوا أولئك أفسدوا الدين والملك‏.‏ وأما الترك فيفسدون الملك وما يتبع ذلك من الدين، ولا يقاتلون على الدين‏.‏
    ولهذا كثر ذكر ‏[‏طرسوس‏]‏ في كتب العلم والفقه المصنفة في ذلك الوقت، لأنها كانت ثغر المسلمين، حتى كان يقصدها أحمد بن حنبل، والسري السقطي؛ وغيرهما من العلماء والمشائخ للرباط، وتوفي المأمون قريبا منها‏.‏
    فعامة ما يوجد في كلام المتقدمين من فضل عسقلان، والإسكندرية، أو عكة، أو قزوين، أو غير ذلك، وما يوجد من أخبار الصالحين الذين بهذه الأمكنة ونحو ذلك، فهو لأجل كونها كانت ثغورا، لا لأجل خاصية ذلك المكان‏.‏ وكون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها اللازمة لها، بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر، أو دار حرب، أو دار سلم، أو دار علم وإيمان، أو دار

    ج/ 27 ص -54-جهل ونفاق‏.‏ فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإن مزيتها صفة لازمة لها، لا يمكن إخراجها عن ذلك‏.‏ وأما سائر المساجد فبين العلماء نزاع في جواز تغييرها للمصلحة، وجعلها غير مسجد، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمسجد الكوفة لما بدله وجعل المسجد مكانا آخر، وصار الأول حوانيت التمارين‏.‏ وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره‏.‏
    فصل
    إذا عرف ذلك، فهذه السواحل الشامية كانت ثغوراً للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة، وكان المسلمون قد فتحوا ‏[‏قبرص‏]‏ في خلافة عثمان رضي الله عنه فتحها معاوية، فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة، وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب، وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام، وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام؛ سواحله وغير سواحله، وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة، فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام، بل وأكثر بلاد الشام، وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم، وأخذوا منهم ما أخذوا، إلى أن يسر

    ج/ 27 ص -55-الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل ‏[‏نور الدين‏]‏ و‏[‏صلاح الدين‏]‏ وغيرهما، فاستنقذوا عامة الشام من النصارى‏.‏
    وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره، وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى‏.‏ وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض، ليس فيه من الفضيلة شيء، ولا يشرع، بل ولا يجوز المقام بين نصارى أو روافض يمنعون المسلم عن إظهار دينه‏.‏
    ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلي عن الناس زهدا ونسكا يحسب أن فضل هذا الجبل ونحوه، لما فيه من الخلوة عن الناس، وأكل المباحات من الثمار التي فيه، فيقصدونه لأجل ذلك غلطا منهم، وخطأ، فإن سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعا للمسلمين إلا عند الفتنة في الأمصار التي تحوج الرجل إلى ترك دينه؛ من فعل الواجبات وترك المحرمات، فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه؛ فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه‏.‏
    وربما كان بعض الأوقات من هؤلاء النساك الزهاد طائفة إما ظالمون لأنفسهم، وإما مقتصدون مخطئون مغفور لهم خطؤهم، فأما السابقون

    ج/ 27 ص -56-المقربون فهم الذين تقربوا إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه عن الله تعالى‏:‏ ‏"‏ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعلة ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه‏"‏‏.‏
    ولا خلاف بين المسلمين أن جنس النساك الزهاد الساكنين في الأمصار أفضل من جنس ساكني البوادي والجبال، كفضيلة القروي على البدوي، والمهاجر على الأعرابي، قال الله تعالى‏:‏
    ‏"الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏إن من الكبائر أن يرتد الرجل أعرابيا بعد الهجرة‏"‏‏.‏ هذا لمن هو ساكن في البادية بين الجماعة، فكيف بالمقيم وحده دائما في جبل أو بادية‏؟‏‏!‏ فإن هذا يفوته من مصالح الدين نظير ما يفوته من مصالح الدنيا أو قريب منه؛ فإن يد الله على الجماعة، والشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد‏.

    ج/ 27 ص -57-فصل
    وأما اعتقاد بعض الجهال أن به ‏[‏الأربعين الأبدال‏]‏، فهذا جهل وضلال، ما اجتمع به الأبدال الأربعون قط، ولا هذا مشروع لهم، ولا فائدة في ذلك، واعتقاد جهال الجمهور هذا يشبه اعتقاد الرافضة في الخليفة الحجة صاحب الزمان عندهم، الذى يقولون‏:‏ إنه غائب عن الأبصار، حاضر في الأمصار‏.‏ ويعظمون قدره، ويرجون بركته‏.‏ وهو معدوم لا حقيقة له، فكل من علق دينه بالمجهولات، وأعرض عما بعث اللّه به نبيه من الهدى ودين الحق، فهو من أهل الضلال الخارج عن شريعة الإسلام، بل فيه في هذه الأوقات المتأخرة أهل الضلال من النصارى، والنصيرية، والرافضة، الذين غزاهم المسلمون‏.‏
    وكذلك قول كثير من الجهال وأهل الإفك والمحال‏:‏ أن به أو بغيره ‏[‏رجال الغيب‏]‏، وتعظيمهم لهؤلاء هو نوع من الضلال الذى استحوذوا به على الجهال، من الأتراك والأعراب، والفلاحين، والعامة، أضلوهم بذلك عن حقيقة الدين، وأكلوا به أموالهم بالباطل، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏"‏[‏التوبة‏:‏34‏]‏‏.‏

    ج/ 27 ص -58-ولم يكن من أنبياء اللّه وأوليائه من كان غائب الجسد عن أبصار الناس، ولكن كثير منهم قد تغيب عن الناس حقيقة قلبه، وما في باطنه من ولاية اللّه، وعظيم العلم والإيمان، والأحوال الزكية، فيكون في الأمصار والمساجد، وبين الناس من يكون من أولياء اللّه وأكثر الناس لا يعلمون حاله، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏رب أشعث، أغبر، ذى طِمْرَين، مدفوع بالأبواب‏:‏ لو أقسم على اللّه لأبره‏"‏، أى‏:‏ قد يكون فيمن تنبو عنه الأبصار لرثاثة حاله من يبر اللّه قسمه، وليس هذا وصفاً لازماً، بل ولاية اللّه هى ما ذكرنا في قوله‏:‏‏"أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏ فأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون في جميع الأصناف المباحة‏.‏
    وكذلك خبر الرجل الذى نبت الشعر على جميع بدنه كالماعز باطل ومحال‏.‏ نعم يكون في الضلال من الزهاد من يترك السنة حتى ينبت الشعر ويكثر على جسده، وهذا ينبغى أن يؤمر بما أمر به النبي ﷺ من إحفاء الشوارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك‏.‏
    فإن ظن أن غير هدى النبي ﷺ أكمل من هديه،

    ج/ 27 ص -59-أو أن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهذا كافر يجب قتله بعد استتابته؛ لأن موسى عليه السلام لم تكن دعوته عامة، ولم يكن يجب على الخضر اتباع موسى عليهما السلام بل قال الخضر لموسى‏:‏ إنى على علم من اللّه علمنيه اللّه لا تعلمه، وأنت على علم من اللّه علمكه اللّه لا أعلمه‏.‏
    فأما محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب فهو رسول اللّه ﷺ إلى جميع الثقلين؛ الجن والإنس، عربهم وعجمهم، دانيهم وقاصيهم، ملوكهم ورعيتهم، زهادهم وغير زهادهم‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏"‏ [‏سبأ‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏158‏]‏، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏"‏‏.‏ وهو خاتم الرسل، ليس بعده نبي ينتظر، ولا كتاب يرتقب، بل هو آخر الأنبياء، والكتاب الذى أنزل عليه مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏.‏ فمن اعتقد أن لأحد من جميع الخلق علمائهم وعبادهم وملوكهم خروجا عن اتباعه وطاعته وأخذ ما بعث به من الكتاب والحكمة، فهو كافر‏.‏
    ويجب التفريق بين العبادات الإسلامية الإيمانية النبوية الشرعية التى

    ج/ 27 ص -60-يحبها اللّه ورسوله وعباده المؤمنون، وبين العبادات البدعية الضلالية الجاهلية التى قال اللّه فيها‏:‏ ‏"أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏21‏]‏‏.‏ وإن ابتلى بشىء منها بعض أكابر النساك والزهاد‏.‏ ففي الصحاح عن أنس رضي اللّه عنه ‏:‏ أن النبي ﷺ بلغه أن بعض أصحابه قال‏:‏ أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لكنى أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم‏.‏ فمن رغب عن سنتي فليس مني‏"‏‏.‏ والراغب عن الشىء الذى لا يحبه ولا يريده، بل يحب ويريد ما ينافي المشروع الذى أحبه اللّه ورسوله، فقد تبرأ منه رسول اللّه ﷺ، مثل الذى يتعرى دائماً، أو يصمت دائماً، أو يسكن وحده في البرية دائماً، أو يترك أكل الخبز واللحم دائماً، أو يترهب دائماً؛ متعبداً بذلك، ظاناً أن هذا يحبه اللّه ورسوله؛ دون ضده من اللباس بالمعروف، والكلام بالمعروف، والأكل بالمعروف، ونحو ذلك‏.‏
    وإذا عرف هذا، فكل ما ذكر من الانحناء للجبل المذكور ونحوه، أو لمن فيه، أو زيارته بلا قصد للجهاد، أو لأمر مشروع، فهو من الجهالات والضلالات‏.‏ وكذلك التبرك بما يحمل منه من الثمار هو من

    ج/ 27 ص -61-البدع الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية والشركية، وقد جاء في الحديث المعروف‏:‏ أن بصرة بن أبي بصرة الغفارى رأى أبا هريرة رضي اللّه عنه وقد سافر إلى الطور الذى كلم اللّه موسى عليه فقال‏:‏ لو رأيتك قبل أن تذهب إليه لم أدعك تذهب إليه؛ لأن رسول اللّه ﷺ قال‏:‏ ‏"‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا‏"‏‏.‏ فإذا كان السفر لزيارة الطور الذى كلم اللّه عليه موسى، وسماه ‏[‏الوادى المقدس‏]‏، و‏[‏البقعة المباركة‏]‏ لا يشرع، فكيف بالسفر لزيارة غيره من الأطوار ‏؟‏‏!‏ فإن ‏[‏الطور‏]‏ هو الجبل، والأطوار الجبال‏.‏
    وأما القبر المشهور في سفحه بالكرك الذى يقال‏:‏ إنه ‏[‏قبر نوح‏]‏ فهو باطل محال، لم يقل أحد ممن له علم ومعرفة‏:‏ إن هذا قبر نوح، ولا قبر أحد من الأنبياء أو الصالحين، ولا كان لهذا القبر ذكر ولا خبر أصلا، بل كان ذلك المكان حاكورة يزرع فيها، ويكون بها الحاكة إلى مدة قريبة‏.‏ رأوا هناك قبراً فيه عظم كبير، وشموا فيه رائحة، فظن الجهلاء أنه لأجل تلك الرائحة يكون قبر نبي‏.‏ وقالوا‏:‏ من كان من الأنبياء كبيراً‏؟‏ فقالوا‏:‏ نوح‏.‏ فقالوا‏:‏ هو قبر نوح، وبنوا عليه في دولة الرافضة الذين كانوا مع الناصر صاحب حلب ذلك القبر، وزيد بعد ذلك في دولة الظاهر، فصار وثنا يشرك به الجاهلون،

    ج/ 27 ص -62-وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن اللّه حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏"‏‏.‏ فلو كان قبر نبي لم يتجرد العظم‏.‏ وقد حدثنى من ثقات أهل المكان عن آبائهم من ذكر‏:‏ أنهم رأوا تلك العظام الكبيرة فيه، وشاهدوه قبل ذلك مكاناً للزرع والحياكة‏.‏ وحدثنى من الثقات من شاهد في المقابر القريبة منه رؤوساً عظيمة جداً تناسب تلك العظام، فعلم أن هذا وأمثاله من عظام العمالقة، الذين كانوا في الزمن القديم أو نحوهم‏.‏
    ولو كان قبر نبي أو رجل صالح لم يشرع أن يبنى عليه مسجد بإجماع المسلمين، وبسنة رسول اللّه ﷺ المستفيضة عنه، كما قال في الصحاح‏:‏ ‏
    "‏لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتحذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏
    ولا تستحب الصلاة، لا الفرض ولا النفل، عند قبر نبي ولا غيره بإجماع المسلمين، بل ينهى عنه، وكثير من العلماء يقول‏:‏ هى باطلة؛لما ورد في ذلك من النصوص، وإنما البقاع التى يحبها اللّه ويحب الصلاة والعبادة فيها هى المساجد التى قال اللّه فيها‏:‏ "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏‏.‏

    ج/ 27 ص -63-وسئل النبي ﷺ‏:‏ أى البقاع أحب إلى اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏المساجد‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ فأى البقاع أبغض إلى اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الأسواق‏"‏‏.‏ وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏من غدا إلى المسجد أو راح أعد اللّه له نُزلا كلما غدا أو راح‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إن العبد إذا تطهر فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، كانت خطوتاه، إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة‏"‏‏.
    فدين الإسلام هو اتباع ما بعث اللّه به رسوله من أنواع المحبوبات، واجتناب ما كرهه اللّه ورسوله من البدع والضلالات، وأنواع المنهيات‏.‏ فالعبادات الإسلامية، مثل الصلوات المشروعة، والجماعات، والجمعات، وقراءة القرآن، وذكر اللّه الذى شرعه لعباده المؤمنين، ودعائه، وما يتبع ذلك من أحوال القلوب، وأعمال الأبدان، وكذلك أنواع الزكوات؛ من الصدقات، وسائر الإحسان إلى الخلق، فإن كل معروف صدقة، وكذلك سائر العبادات المشروعة، فنسأل اللّه العظيم أن يثبتنا عليها وسائر إخواننا المؤمنين، واللّه سبحانه أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML