أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل أيما أفضل لمن كان بمكة الطواف بالبيت أو الرجوع إلى الحل ليعتمر منه

    ج/ 26 ص -248-وَسئل أبو العباس‏:‏
    أيما أفضل لمن كان بمكة‏:‏ الطواف بالبيت‏؟‏ أو الخروج إلى الحل ليعتمر منه ويعود‏؟‏ وهل يستحب لمن كان بمكة كثرة الاعتمار في رمضان أو في غيره، أو الطواف بدل ذلك‏؟‏ وكذلك كثرة الاعتمار لغير المكي‏:‏ هل هو مستحب‏؟‏ وهل في اعتمار النبي ﷺ من الجِعْرَانة‏.‏ وفي عمرة الحديبية مستند لمن يعتمر من مكة، كما في أمره لعائشة أن تعتمر من التنعيم‏؟‏ وقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏"‏‏:‏ هل هي عمرة الأفُقِي‏؟‏ أو تتناول المكي الذي يخرج إلى الحل ليعتمر في رمضان‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما من كان بمكة من مستوطن، ومجاور، وقادم، وغيرهم، فإن طوافه بالبيت أفضل له من العمرة، وسواء خرج في ذلك إلى أدني الحل، وهو التنعيم الذي أحدث فيه المساجد، التي تسمي ‏[‏مساجد عائشة‏]‏ أو أقصي الحل من أي جوانب الحرم، سواء كان من جهة ‏[‏الجِعْرَانة‏]‏ أو ‏[‏الحديبية‏]‏ ، أو غير ذلك، وهذا المتفق عليه بين سلف الأمة، وما أعلم فيه مخالفًا من أئمة الإسلام في العمرة المكية‏.‏

    ج/ 26 ص -249-وأما العمرة من الميقات‏:‏ بأن يذهب إلى الميقات فيحرم منه، أو يرجع إلى بلده، ثم ينشئ السفر منه للعمرة، فهذه ليست عمرة مكية بل هذه عمرة تامة، وليس الكلام هنا فيه‏.‏
    وهذه فيها نزاع‏:‏ هل المقام بمكة أفضل منها‏؟‏ أم الرجوع إلى بلده أو الميقات أفضل‏؟‏ وسيأتي كلام بعض من رجح المقام بمكة للطواف على الرجوع للعمرة من الميقات‏.‏
    وإنما النزاع في أنه هل يكره للمكي الخروج للاعتمار من الحل، أم لا‏؟‏ وهل يكره أن يعتمر من تشرع له العمرة كالأُفقِي في العام أكثر من عمرة أم لا‏؟‏ وهل يستحب كثرة الاعتمار أم لا‏؟‏
    فأما كون الطواف بالبيت أفضل من العمرة لمن كان بمكة، فهذا مما لا يستريب فيه من كان عالمًا بسنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه وآثار الصحابة، وسلف الأمة وأئمتها، وذلك أن الطواف بالبيت أفضل من العبادات والقربات التي شرعها الله تعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه ﷺ، وهو من أعظم عبادة أهل مكة، أعني من كان بمكة مستوطنًا أو غير مستوطن، ومن عباداتهم الدائمة الراتبة التي امتازوا بها على سائر أهل الأمصار، ومازال أهل مكة على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه رضي الله عنهم يطوفون بالبيت في كل

    ج/ 26 ص -250-وقت، ويكثرون ذلك‏.‏
    وكذلك أمر النبي ﷺ ولاة البيت ألا يمنعوا أحدًا من ذلك في عموم الأوقات، فروي جبير بن مطعم أن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏يابني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلي فيه أية ساعة شاء، من ليل أو نهار‏"‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏ وسائر أهل السنن كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وغيرهم‏.‏
    وقد قال تعالى لخليله إمام الحنفاء الذي أمره ببناء البيت، ودعا الناس إلى حجه‏:‏ ‏
    "أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏"‏[‏البقرة‏:‏125‏]‏ ، وفي الآية الأخري‏:‏ ‏ "وَالْقَائِمِينَ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏ ، فذكر ثلاثة أنواع‏:‏ الطوافوالعكوف،والركوع مع السجود، وقدم الأخص فالأخص، فإن الطواف لا يشرع إلا بالبيت العتيق باتفاق المسلمين‏.‏ ولهذا اتفقوا على تضليل من يطوف بغير ذلك، مثل من يطوف بالصخرة، أو بحجرة النبي ﷺ، أو بالمساجد المبنية بعرفة، أو منى، أو غير ذلك، أو بقبر بعض المشائخ، أو بعض أهل البيت، كما يفعله كثير من جهال المسلمين، فإن الطواف بغير البيت العتيق لا يجوز باتفاق المسلمين، بل من اعتقد ذلك دينًا وقربة عرف أن ذلك ليس بدين باتفاق المسلمين، وأن ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، فإن أصر على اتخاذه دينًا قتل‏.‏

    ج/ 26 ص -251-وأما ‏[‏الاعتكاف‏]‏ فهو مشروع في المساجد، دون غيرها، وأما الركوع مع السجود فهو مشروع في عموم الأرض، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره‏"‏، وهذا كله متفق عليه بين المسلمين‏.‏ وإن كان بعض البقاع تمنع الصلاة فيها لوصف عارض كنجاسة، أو مقبرة، أو حُش ّ، أو غير ذلك‏.‏
    فالمقصود هنا‏:‏ أنه سبحانه وتعالى قدم الأخص بالبقاع، فالأخص، فقدم الطواف؛ لأنه يختص بالمسجد الحرام، ثم العكوف، لأنه يكون فيه، وفي المساجد التي يصلي المسلمون فيها الصلاة المشروعة، وهي الصلوات الخمس جماعة، ثم الصلاة لأن مكانها أعم‏.‏
    ومن خصائص الطواف أنه مشروع بنفسه منفردًا، أو في ضمن العمرة، وفي ضمن الحج، وليس في أعمال المناسك ما يشرع منفردًا عن حج وعمرة، إلا الطواف، فإن أعمال المناسك على ثلاث درجات‏:‏
    منها‏:‏ ما لا يكون إلا في حج؛ وهو الوقوف بعرفة، وتوابعه من المناسك التي بمزدلفة‏.‏
    ومنها‏:‏ ما لا يكون إلا في حج أو عمرة؛ وهو الإحرام والإحلال،

    ج/ 26 ص -252-والسعي بين الجبلين، كما قال تعالى‏:‏ ‏ "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عليه أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ ‏.‏
    ومنها‏:‏ ما يكون في الحج وفي العمرة ويكون منفردًا؛ وهو الطواف، والطواف أيضًا هو أكثر المناسك عملًا في الحج، فإنه يشرع للقادم طواف القدوم، ويشرع للحاج طواف الوداع، وذلك غير الطواف المفروض طواف الإفاضة الذي يكون بعد التعريف‏.‏
    ويستحب أيضًا الطواف في أثناء المقام بمنى، ويستحب في جميع الحول عمومًا‏.‏
    وأما الاعتمار للمكي بخروجه إلى الحل، فهذا لم يفعله أحد على عهد رسول الله ﷺ قط إلا عائشة في حجة الوداع، مع أن النبي ﷺ لم يأمرها به، بل أذن فيه بعد مراجعتها إياه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏ فأما أصحابه الذين حجوا معه حجة الوداع كلهم من أولهم إلى آخرهم، فلم يخرج أحد منهم لا قبل الحجة، ولا بعدها، لا إلى التنعيم، ولا إلى الحديبية، ولا إلى الجِعْرَانة، ولا غير ذلك؛ لأجل العمرة‏.‏ وكذلك أهل مكة المستوطنين لم يخرج أحد منهم إلى الحل لعمرة، وهذا متفق عليه، معلوم لجميع العلماء الذين يعلمون سنته وشريعته‏.‏

    ج/ 26 ص -253-وكذلك أيضًا أصحابه الذين كانوا مقيمين بمكة من حين فتحه مكة من شهر رمضان سنة ثمان، وإلى أن توفي لم يعتمر أحد منهم من مكة ولم يخرج أحد منهم إلى الحل، ويهل منه، ولم يعتمر النبي ﷺ وهو بمكة قط، لا من الحديبية، ولا من الجِعْرَانة، ولا غيرهما، بل قد اعتمر أربع عمر‏:‏ ثلاث منفردة، وواحدة مع حجته‏.‏ وجميع عمره كان يكون فيها قادمًا إلى مكة، لا خارجًا منها إلى الحل‏.‏
    فأما عمرة الحديبية،فإنه اعتمر من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة هو وأصحابه الذين بايعوه في تلك العمرة تحت الشجرة، ثم إنهم لما صدهم المشركون عن البيت، وقاضاهم النبي ﷺ على العمرة من العام القابل، وصالحهم الصلح المشهور، حل هو وأصحابه من العمرة بالحديبية، ولم يدخلوا مكة ذلك العام، فأنزل الله تعالى في ذلك ‏[‏سورة الفتح‏]‏ ، وأنزل قوله تعالى‏:
    ‏ ‏ "وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ، وقد ذكر الشافعي وغيره الإجماع على أن هذه الآية نزلت في ذلك العام‏.‏
    ثم إنه بعد ذلك في العام القابل سنة سبع بعد أن فتح خيبر، وكان فتح خيبر عقيب انصرافه من الحديبية، ثم اعتمر هو ومن معه عمرة القَضِية، وتسمي ‏[‏عمرة القضاء‏]‏ وكانت عمرته هذه في ذي القعدة سنة سبع، والتي قبلها عمرة الحديبية، وكانت أيضًا في ذي القعدة،

    ج/ 26 ص -254-وعمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة، وكانت عمره كلها في ذي القعدة أوسط أشهر الحج، وبين للمسلمين بذلك جواز الاعتمار في أشهر الحج‏.‏ ولما اعتمر هو ومن معه عمرة القضية أحرموا أيضًا من ذي الحليفة، ودخلوا مكة، وأقاموا بها ثلاثًا، وتزوج في ذلك العام ميمونة بنت الحارث‏.‏
    ثم إن أهل مكة نقضوا العهد سنة ثمان، فغزاهم النبي ﷺ غزوة الفتح في نحو عشرة آلاف في شهر رمضان، ودخل مكة حلالًا على رأسه المِغْفَر، وطاف بالبيت، وأقام بمكة سبع عشرة ليلة، ولم يعتمر في دخوله هذا، وبلغه أن هوازن قد جمعت له فغزاهم غزوة حنين، وحاصر الطائف بعد ذلك ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين بالجعرانة، وأنشأ حينئذ العمرة بالجعرانة، فكان قادمًا إلى مكة في تلك العمرة، لم يخرج من مكة إلى الجعرانة‏.‏ وحكم كل من أنشأ الحج، أو العمرة من مكان دون المواقيت أن يحرم من ذلك المكان‏.‏ كما في الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ وقت رسول الله ﷺ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحْفَة، ولأهل نجد قَرْن المنازل ولأهل اليمن يلَمْلَم، هن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن، ممن كان يريد الحج والعمرة، ومن كان دونهن فمهله من أهله‏.‏ وكذلك أهل مكة يهلون منها‏.‏

    ج/ 26 ص -255-فإحرام النبي ﷺ من الجعرانة كان لأنه أنشأ العمرة منها، وبعد أن حصل فيها؛ لأجل الغزو والغنائم، فقد تبين أن الحديبية لم يحرم منها النبي ﷺ لا قادمًا إلى مكة، ولا خارجًا منها، بل كان محله من إحرامه بالعمرة لما صده المشركون‏.‏ وأما الجعرانة فأحرم منها لعمرة أنشأها منها، وهذا كله متفق عليه، ومعلوم بالتواتر، لا يتنازع فيه اثنان ممن له أدني خبرة بسيرة النبي ﷺ، وسنته‏.‏
    فمن توهم أن النبي ﷺ خرج من مكة فاعتمر من الحديبية، أو الجعرانة، فقد غلط غلطًا فاحشًا منكرًا، لا يقوله إلا من كان من أبعد الناس عن معرفة سنة النبي ﷺ وسيرته وإن كان قد غلط في الاحتجاج بذلك على العمرة من مكة طوائف من أكابر أعيان العلماء، فقد ظهر أن النبي ﷺ وأصحابه جميعهم لم يعتمر أحد منهم في حياته من مكة، بعد فتح مكة، ومصيرها دار إسلام، إلا عائشة‏.‏
    وكذلك أيضًا لم يعتمر أحد منها قبل الفتح حين كانت دار كفر، وكان بها من أصحاب النبي ﷺ بعد هجرته إلى المدينة، وقبل هجرته، فإنهم كانوا يطوفون بالبيت، ولم يخرج أحد منهم إلى الحل ليعتمر منه، إذ الطواف بالبيت مازال مشروعًا من أول مبعث

    ج/ 26 ص -256-النبي ﷺ، بل ولم يزل من زمن إبراهيم، بل ومن قبل إبراهيم أيضًا، فإذا كان المسلمون حين كانوا بمكة من حين بعث النبي ﷺ إلى أن توفي إذا كانوا بمكة لم يكونوا يعتمرون من مكة، بل كانوا يطوفون ويحجون من العام إلى العام، وكانوا يطوفون في كل وقت من غير اعتمار، كان هذا مما يوجب العلم، الضروري، أن المشروع لأهل مكة إنما هو الطواف، وأن ذلك هو الأفضل لهم من الخروج للعمرة؛ إذ من الممتنع أن يتفق النبي ﷺ وجميع أصحابه على عهده على المداومة على المفضول، وترك الأفضل، فلا يفعل أحد منهم الأفضل، ولا يرغبهم فيه النبي ﷺ، فهذا لا يقوله أحد من أهل الإيمان‏.‏
    ومما يوضح ذلك‏:‏ أن المسلمين قد تنازعوا في وجوب العمرة، لوجوب الحج، على قولين مشهورين للعلماء، وروي النزاع في ذلك عن الصحابة أيضًا،فروي وجوبها عن عمر وابن عباس، وغيرهما‏.‏ وروي عدم الوجوب عن ابن مسعود‏.‏ والأول‏:‏ هو المشهور عن الشافعي، وأحمد‏.‏ والثاني‏:‏ هو أحد قوليهما، وقول أبي حنيفة، ومالك‏.‏
    ومع هذا فالمنقول الصريح عمن أوجب العمرة من الصحابة والتابعين لم يوجبها على أهل مكة‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ كان ابن عباس يري العمرة واجبة، ويقول‏:‏ يا أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم طوافكم بالبيت، وقال عطاء بن أبي رباح أعلم التابعين بالمناسك،

    ج/ 26 ص -257-وإمام الناس فيها ‏:‏ ليس أحد من خلق الله إلا عليه حجة وعمرة واجبتان، لابد منهما لمن استطاع إليهما سبيلا، إلا أهل مكة، فإن عليهم حجة، وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت، وهم يفعلونه فأجزأ عنهم‏.‏ وقال طاوس‏:‏ ليس على أهل مكة عمرة رواه ابن أبي شيبة‏.‏
    وكلام هؤلاء السلف وغيرهم يقتضي أنهم كانوا لم يستحبوها لأهل مكة، فضلًا عن أن يوجبوها، كما رواه أبو بكر بن أبي شيبة‏.‏ في كتابه الكبير ‏[‏المصنف‏]‏ ‏:‏ ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج عن عطاء قال‏:‏ ليس على أهل مكة عمرة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أنتم يا أهل مكة لا عمرة لكم، إنما عمرتكم الطواف بالبت، فمن جعل بينه وبين الحرم بطن واد فلا يدخل مكة إلا بإحرام، قال‏:‏ فقلت لعطاء‏:‏ أيريد ابن عباس واد من الحل‏؟‏ قال‏:‏ بطن واد من الحل‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن كَيسَان، سمعت ابن عباس يقول‏:‏ لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا، فإن أبيتم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا يحيي بن سعيد القطان، عن ابن جريج، عن خلف بن مسلم، عن سالم‏:‏ قال‏:‏ لو كنت من أهل مكة ما اعتمرت‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسي، عن عثمان، عن عطاء قال‏:‏ ليس على أهل مكة عمرة إنما يعتمر من زار البيت ليطوف به، وأهل مكة يطوفون متي شاؤوا‏.‏

    ج/ 26 ص -258-وهذا نص أحمد في غير موضع، على أن أهل مكة لا عمرة عليهم، مع قوله بوجوبها على غيرهم‏.‏
    ولهذا كان تحقيق مذهبه، إذا أوجب العمرة أنها تجب إلا على أهل مكة، وإن كان من أصحابه من جعل هذا التفريق رواية ثالثة عنه، وأن القول بالإيجاب يعم مطلقًا‏.‏ ومنهم من تأول كلامه على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة؛ لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج، فهذا خلاف نصوص أحمد الصريحة عنه بالتفريق‏.‏
    ثم من هؤلاء من يقول‏:‏ مثل ذلك من أصحاب الشافعي في وجوب العمرة على أهل مكة، قول ضعيف جدًا مخالف للسنة الثابتة، وإجماع الصحابة، فإنها لو كانت واجبة عليهم لأمرهم النبي ﷺ بها، ولكانوا يفعلونها، وقد علم أنه لم يكونوا أهل مكة يعتمرون على عهد رسول الله ﷺ أصلًا، بل ولا يمكن أحدًا أن ينقل عن أحد أنه اعتمر من مكة على عهد رسول الله ﷺ إلا عائشة‏.‏
    ولهذا كان المصنفون للسنن إذا أرادوا ذكر ما جاء من السنة في العمرة من مكة، لم يكن معهم إلا قضية عائشة، ومن المعلوم أن ما دون هذا تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان أهل مكة كلهم بل

    ج/ 26 ص -259-أو بعضهم على عهد النبي ﷺ يخرجون إلى الحل فيعتمرون فيه لنقل ذلك، كما نقل خروجهم في الحج إلى عرفات، وقد حج النبي ﷺ حجة الوداع، وخرج معه أهل مكة إلى عرفات، ولم يعتمر بعد الحجة، ولا قبلها أحد من أدني الحل، لا أهل مكة، ولا غيرهم، إلا عائشة، ثم كان الأمر على ذلك زمن الخلفاء الراشدين‏.‏ حتي قال ابن عباس، ثم عطاء وغيرهما لما بعد عهد الناس بالنبوة ‏:‏ يا أهل مكة، ليس علىكم عمرة، إنما عمرتكم الطواف بالبيت‏.‏ ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة يعتمرون على عهد رسول الله ﷺ، ويؤمرون بذلك لم يكن مثل هذا خافيا على ابن عباس، إمام أهل مكة، وأعلم الأمة في زمنه بالمناسك وغيرها‏.‏
    وكذلك عطاء بعده إمام أهل مكة، بل إمام الناس كلهم في المناسك، حتي كان يقال في أئمة التابعين الأربعة أئمة أهل الأمصار‏:‏ سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة، وعطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة، وإبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة، والحسن البصري إمام أهل البصرة، وأعلمهم بالحلال والحرام سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالمناسك عطاء، وأعلمهم بالصلاة إبراهيم، وأجمعهم الحسن‏.‏
    وأيضًا، فإن كل واحد من الحج والعمرة يتضمن القصد إلى بيت

    ج/ 26 ص -260-الله، المحيط به حرم الله تعالى، ولهذا لم يكن بد من أن يجمع في نسكه بين الحل والحرم، حتي يكون قاصدًا للحرم من الحل، فيظهر فيه معني القصد إلى الله، والتوجه إلى بيته وحرمه، فمن كان بيته خارج الحرم، فهو قاصد من الحل إلى الحرم، إلى البيت‏.‏
    وأما من كان بالحرم كأهل مكة فهم في الحج، لابد لهم من الخروج إلى عرفات، وعرفات هي من الحل، فإذا أفاضوا من عرفات قصدوا حينئذ البيت من الحل‏.‏
    ولهذا كان الطواف المفروض لا يكون إلا بعد التعريف، وهو القصد من الحل إلى الكعبة، الذي هو حقيقة الحج، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏الحج عرفة‏"‏، ولهذا كان الحج يدرك بإدراك التعريف ويفوت بفوات وقته بطلوع فجر يوم النحر بعد يوم التعريف، فحقيقة الحج ممكنة في حق أهل مكة، كما هي ممكنة في حق غيرهم، إذ ما قبل التعريف من الأعمال كطواف القدوم ليس من الأمور اللازمة‏.‏فإن النبي ﷺ أخبرته عائشة أنها قد حاضت،وكانت متمتعة أمرها النبي ﷺ أن تنقض رأسها،وتمتشط،وتهل بالحج،وتدع العمرة‏.‏
    فأكثر الفقهاء يقولون‏:‏ جعلها قارنة، وأسقط عنها طواف القدوم

    ج/ 26 ص -261-فسقوطه عن المفرد للحج أولي، وهو قول أبي حنيفة‏.‏
    ومنهم من يقول‏:‏ جعلها رافضة للعمرة، وهذا قول مالك، والشافعي وأحمد، لكن تنازعوا في سقوطه عن غير المعذور، فعلى القولين، فهو يدل على أنها لو كانت مفردة أو قارنة كان سقوط طواف القدوم عنها إذا كانت حائضًا أولي من العمرة وطوافها‏.‏
    وهذا بخلاف طواف الإفاضة، فإنه لما قيل‏:‏ إن صفية بنت حيي قد حاضت قال‏:‏ ‏"‏عَقْرَي حَلْقَي، أحابستنا هي‏؟‏‏"‏‏.‏ فقيل له‏:‏ إنها قد أفاضت، قال‏:‏ ‏"‏فلا إذًا‏"‏‏.‏
    وهكذا كما أنه قد أمر النبي ﷺ ألا ينفر أحد حتي يكون آخر عهده بالبيت، وهو طواف الوداع‏.‏ ورخص للحائض أن تنفر قبل الوداع‏.‏ وما سقط بالعذر علم أنه ليس من أركان الحج الذي لابد منها، ولهذا لم يكن على أهل مكة طواف قدوم، ولا طواف وداع، لانتفاء معني ذلك في حقهم، فإنهم ليسوا بقادمين إليها ولا مودعين لها، ما داموا فيها‏.‏ فظهر أن الحج الذي أصله التعريف للطواف بعد ذلك مشروع لوجود حقيقته فيهم‏.‏
    وأما العمرة، فإن جماعها الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وذلك من نفس الحرم، وهو في الحرم دائمًا‏.‏ والطواف بين الصفا

    ج/ 26 ص -262-والمروة تابع في العمرة، ولهذا لا يفعل إلا بعد الطواف، ولا يتكرر فعله لا في حج ولا عمرة‏.‏ فالمقصود الأكبر من العمرة هو الطواف وذلك يمكن أهل مكة بلا خروج من الحرم، فلا حاجة إلى الخروج منه، ولأن الطواف والعكوف هو المقصود بالقادم إلى مكة، وأهل مكة متمكنون من ذلك، ومن كان متمكنًا من المقصود بلا وسيلة لم يؤمر أن يترك المقصود، ويشتغل بالوسيلة‏.‏
    وأيضًا، فمن المعلوم أن مشي الماشي حول البيت طائفًا، هو العبادة المقصودة، وأن مشيه من الحل هو وسيلة إلى ذلك وطريق، فمن ترك المشي من هذا المقصود الذي هو العبادة، واشتغل بالوسيلة، فهو ضال جاهل بحقيقة الدين، وهو أشر من جهل من كان مجاورًا للمسجد يوم الجمعة يمكنه التبكير إلى المسجد، والصلاة فيه، فذهب إلى مكان بعيد ليقصد المسجد منه، وفوت على نفسه ما يمكنه فعله في المسجد من الصلاة المقصودة‏.‏
    يبين ذلك أن الاعتمار افتعال، من عمر يعمر، والاسم فيه ‏[‏العمرة‏]‏ ، قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏ "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ ‏.‏ وعمارة المساجد إنما هي بالعبادة فيها، وقصدها لذلك، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان‏"‏ لأن الله يقول‏:‏

    ج/ 26 ص -263- "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏ ‏.‏ والمقيم بالبيت أحق بمعني العمارة من القاصد له، ولهذا قيل‏:‏ العمرة هي الزيارة لأن المعتمر لابد أن يدخل من الحل، وذلك هو الزيارة‏.‏ وأما الأولي فيقال لها‏:‏ عمارة، ولفظ عمارة أحسن من لفظ عمرة، وزيادة اللفظ يكون لزيادة المعني‏.‏
    ولهذا ثبت في الصحيح أن بعض أصحاب رسول الله ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام،" وقال آخر‏:‏ لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحجيج، فقال على‏:‏ الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتم‏.‏ فقال عمر‏:‏ لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ، فإذا قضيت الجمعة إن شاء الله دخلت عليه، فسألته، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏ "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏"‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ ‏.‏
    وإذا كان كذلك فالمقيم في البيت طائفًا فيه، وعامرًا له بالعبادة، قد أتي بما هو أكمل من معني المعتمر، وأتي المقصود بالعمرة، فلا يستحب له ترك ذلك بخروجه عن عمارة المسجد، ليصير بعد ذلك عامرًا له؛ لأنه استبدل الذي هو أدني بالذي هو خير‏.

    ج/ 26 ص -264-فصل
    وهو الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل، فهو يدل على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب، بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار، بل الاعتمار فيه حينئذ هو بدعة، لم يفعله السلف، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة، ولا قام دليل شرعي على استح
    بابها وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء‏.‏
    ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك، فروي سعيد في سننه عن طاوس أجل أصحاب ابن عباس قال‏:‏ الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون‏؟‏ قيل‏:‏ فلم يعذبون‏؟‏ قال‏:‏ لأنه يدع الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء‏.‏ وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء‏.‏
    قال أبو طالب‏:‏ قيل لأحمد بن حنبل‏:‏ ما تقول في عمرة المحرم‏؟‏ فقال‏:‏ أي شيء فيها‏؟‏ العمرة عندي التي تعمد لها من منزلك‏.‏ قال الله‏:‏

    ج/ 26 ص -265-‏ "وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ، وقالت عائشة‏:‏ إنما العمرة على قدره؛ يعني‏:‏ على قدر النَّصَب والنفقة‏.‏ وذكر حديث على وعمر‏:‏ إنما إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك‏.‏
    قال أبو طالب‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ قال طاوس‏:‏ الذين يعتمرون من التنعيم لا أدري يؤجرون‏؟‏ أو يعذبون‏؟‏ قيل له‏:‏ لم يعذبون‏؟‏ قال‏:‏ لأنه ترك الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال، ويخرج إلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء‏.‏ فقد أقر أحمد قول طاوس هذا الذي استشهد به أبو طالب لقوله، رواه أبو بكر في الشافي‏.‏
    وذكر عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال‏:‏ سئل على وعمر وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر‏:‏ هي خير من لا شيء، وقال‏:‏ هي خير من مثقال ذرة، وقالت عائشة‏:‏ العمرة على قدر النفقة‏؟‏ وعن عائشة أيضًا قالت‏:‏ لأن أصوم ثلاثة أيام، أو أتصدق على عشرة مساكين، أحب إلى من أن أعتمر العمرة التي اعتمرت من التنعيم‏.‏ وقال طاوس‏:‏ فمن اعتمر بعد الحج ما أدري أيعذبون عليها، أم يؤجرون‏؟‏ وقال عطاء بن السائب‏:‏ اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير‏.‏
    وقد أجازها آخرون، لكن لم يفعلوها، وعن أم الدرداء أنه سألها

    ج/ 26 ص -266-سائل عن العمرة بعد الحج، فأمرته بها‏.‏ وسئل عطاء عن عمرة التنعيم فقال‏:‏ هي تامة ومجزئة‏.‏ وعن القاسم بن محمد قال‏:‏ عمرة المحرم تامة‏.‏ وروي عبد الرزاق في مصنفه قال‏:‏ أخبرني من سمع عطاء يقول‏:‏ طواف سبع خير لك من سفرك إلى المدينة، قال‏:‏ فآتي جدة، قال‏:‏ لا، إنما أمرتم بالطواف، قال‏:‏ قلت‏:‏ فأخرج إلى الشجرة، فأعتمر، منها‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏
    قال‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ مازالت قدماي منذ قدمت مكة، قال قلت‏:‏ فالاختلاف أحب إليك من الجواز، قال‏:‏ لا، بل الاختلاف‏.‏ قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرني أبي، قال‏:‏ قلت للمثني‏:‏ إني أريد أن آتي المدينة، قال‏:‏ لا تفعل، سمعت عطاء سأله رجل، فقال له‏:‏ طواف سبع بالبيت خير لك من سفرك إلى المدينة‏.‏
    وروي أبو بكر بن أبي شيبة في ‏[‏المصنف‏]‏ ‏:‏ حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أسلم المنقري، قال‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ أخرج إلى المدينة، أهلّ بعمرة من ميقات النبي ﷺ‏؟‏ قال‏:‏ طوافك بالبيت أحب إلى من سفرك إلى المدينة‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا وكيع، ثنا عمر بن ذر، عن مجاهد، قال‏:‏ طوافك بالبيت أحب إلى من سفرك إلى المدينة، وقال‏:‏ حدثنا إسماعيل ابن عبدالملك، عن عطاء قال‏:‏ الطواف بالبيت أحب إلى من الخروج إلى العمرة‏.‏

    ج/ 26 ص -267-فصل
    وأما كثرة الاعتمار في رمضان للمكي وغيره، فهنا ثلاث مسائل مرتبة‏:‏
    أحدها‏:‏ الاعتمار في العام أكثر من مرة، ثم الاعتمار لغير المكي ثم كثرة الاعتمار للمكي‏.‏
    فأما كثرة الاعتمار المشروع‏:‏ كالذي يقدم من دويرة أهله، فيحرم من الميقات بعمرة كما كان النبي ﷺ وأصحابه يفعلون، وهذه من العمرة المشهورة عندهم، فقد تنازع العلماء هل يكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة واحدة، فكره ذلك طائفة‏:‏ منهم الحسن، وابن سيرين، وهو مذهب مالك‏.‏ وقال إبراهيم النَّخَعي‏:‏ ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة واحدة؛ وذلك لأن النبي ﷺ وأصحابه لم يكونوا يعتمرون إلا عمرة واحدة، لم يعتمروا في عام مرتين، فتكره الزيادة على ما فعلوه، كالإحرام من فوق الميقات، وغير ذلك؛ ولأنه في كتاب النبيصلي الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم‏:‏ إن العمرة هي الحج الأصغر، وقد دل

    ج/ 26 ص -268-القرآن على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏ "يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ ، والحج لا يشرع في العام إلا مرة واحدة، فكذلك العمرة‏.‏
    ورخص في ذلك آخرون‏.‏ منهم من أهل مكة‏:‏ عطاء، وطاوس، وعِكْرِمة وهو مذهب الشافعي، وأحمد‏.‏ وهو المروي عن الصحابة‏.‏ كعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وعائشة؛ لأن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي ﷺ، عمرتها التي كانت مع الحجة، والعمرة التي اعتمرتها من التنعيم بأمر النبي ﷺ ليلة الحصبة، التي تلي أيام مني، وهي ليلة أربعة عشر من ذي الحجة، وهذا على قول الجمهور الذين يقولون لم ترفض عمرتها، وإنما كانت قارنة‏.‏
    وأيضًا، ففي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال‏
    :‏ ‏"‏العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة‏"‏ وهذا مع إطلاقه وعمومه، فإنه يقتضي الفرق بين العمرة والحج، إذ لو كانت العمرة لا تفعل في السنة إلا مرة لكانت كالحج، فكان يقال‏:‏ الحج إلى الحج‏.‏
    وأيضًا، فإنه أقوال الصحابة‏.‏ روي الشافعي عن على بن أبي طالب أنه قال‏:‏ في كل شهر مرة، وعن أنس أنه كان إذا حمم رأسه

    ج/ 26 ص -269-خرج فاعتمر، وروي وَكِيع عن إسرائيل عن سُوَيد بن أبي ناجية عن أبي جعفر قال‏:‏ قال على‏:‏ اعتمر في الشهر إن أطقت مرارًا‏.‏ وروي سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي حسين عن بعض ولد أنس‏:‏ أن أنسًا كان إذا كان بمكة فحمم رأسه خرج إلى التنعيم، واعتمر‏.‏
    وهذه والله أعلم هي عمرة المحرم، فإنهم كانوا يقيمون بمكة إلى المحرم، ثم يعتمرون‏.‏ وهو يقتضي أن العمرة من مكة مشروعة في الجملة، وهذا مما لا نزاع فيه، والأئمة متفقون على جواز ذلك، وهو معني الحديث المشهور مرسلا‏:‏ عن ابن سيرين، قال‏:‏ وقت رسول الله ﷺ لأهل مكة التنعيم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يعتمر إذا أمكن الموسي من رأسه، إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين، وفي رواية عنه‏:‏ اعتمر في الشهر مرارًا‏.‏
    وأيضًا، فإن العمرة ليس لها وقت يفوت به كوقت الحج، فإذا كان وقتها مطلقًا في جميع العام، لم تشبه الحج في أنها لا تكون إلا مرة‏.‏
    فصل
    المسألة الثانية‏:‏ في الإكثار من الاعتمار، والموالاة بينها‏:‏

    ج/ 26 ص -270-مثل أن يعتمر من يكون منزله قريبًا من الحرم كل يوم، أو كل يومين أو يعتمر القريب من المواقيت التي بينها وبين مكة يومان‏:‏ في الشهر خمس عمر، أو ست عمر، ونحو ذلك‏.‏ أو يعتمر من يري العمرة من مكة كل يوم عمرة، أو عمرتين، فهذا مكروه باتفاق سلف الأمة، لم يفعله أحد من السلف، بل اتفقوا على كراهيته، وهو وإن كان استحبه طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد، فليس معهم في ذلك حجة أصلا، إلا مجرد القياس العام‏.‏ وهو أن هذا تكثير للعبادات، أو التمسك بالعمومات في فضل العمرة، ونحو ذلك‏.‏
    والذين رخصوا في أكثر من عمرة في الحول، أكثر ما قالوا‏:‏ يعتمر إذا أمكن الموسي من رأسه، أو في شهر مرتين، ونحو ذلك‏.‏
    وهذا الذي قاله الإمام أحمد‏.‏ قال أحمد‏:‏ إذا اعتمر فلابد من أن يحلق، أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس‏.‏ وهذا الذي قاله الإمام أحمد فِعْلُ أنس بن مالك، الذي رواه الشافعي‏:‏ أنه كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر‏.‏ وهذا لأن تمام النسك الحلق، أو التقصير، وهو إما واجب فيه، أو مستحب‏.‏ ومن حكي عن أحمد أو نحوه أنه ليس إلا مباحًا لا استحبابا، فقد غلط‏.‏ فمدة نبات الشعر أقصر مدة يمكن فيها إتمام النسك،ولا ينتقض هذا بالعمرة

    ج/ 26 ص -271-عقيب الحج من أدني الحل للمفرد، فإن ذلك مشروع لضرورة فعل العمرة، ومع هذا لم يكن يفعله السلف، ولا فعله أحد على عهد رسول الله ﷺ؛ بل الثابت المنقول بالتواتر في حجة النبي ﷺ حجة الوداع، أنه أمر أصحابه جميعهم إذا طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فإنه لا يحل إلى يوم النحر، حتي يبلغ الهدي محله، وقال‏:‏ ‏"‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
    فكانت عمرة النبي ﷺ، وجميع أصحابه بأمره في حجة الوداع داخلة في حجهم، ليس بينهم فرق، إلا أن أكثرهم وهم الذين لا هدي معهم حلوا من إحرامهم، والذين معهم الهدي أقاموا على إحرامهم، وكل ذلك كانوا يسمونه تمتعًا بالعمرة إلى الحج، كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة، التي تبين أن القارن متمتع، كما أن من حل من العمرة ثم حج متمتع‏.‏
    فمن اعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه، فهو متمتع في لغة الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم، والقارن يكون قارنًا إذا أحرم بالعمرة والحج ابتداء، ويكون قارنًا إذا أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وإذا لم يحل المتمتع من إحرامه لكونه قد ساق الهدي وأحرم بالحج انعقد إحرامه بالحج، ويسميه بعض الفقهاء من أصحاب أحمد

    ج/ 26 ص -272-وغيرهم قارنًا لعدم وجود التحلل، وبعضهم يقول‏:‏ لا يسمى قارنًا لأن عليه عندهم سعيًا آخر بعد طواف الفرض، بخلاف القارن‏.‏
    وهذه المسألة فيها عن أحمد روايتان، فقد استحب السعي مرة ثانية على المتمتع، وقد نص في غير موضع على أن المتمتع يكفيه السعي الأول، كما ثبت في الصحيح من حديث عائشة وغيرها‏:‏ أن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي ﷺ لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا مرة واحدة، طوافهم الأولزز؛ ولهذا لما أوجب الله تعالى فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج ما استيسر من الهدي، كان واجبًا على من أحرم بالحج بعد تحلله من العمرة التي أحرم بها في أشهر الحج، وعلى من قرن العمرة بالحج من حين إحرامه بالحج، أو في أثناء إحرامه في الحج‏.‏
    ولهذا كان من ساق الهدي محرمًا بعمرة التمتع، ولم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي، قد يسميه من يفرق بين القِران، وبين التمتع الخاص قارنًا، لكونه أحرم بالحج قبل تحلله من العمرة، وقد يسمونه متمتعًا وهو أشهر، لكونه لم يحرم إلا بعد قضاء العمرة، وهو نزاع لفظي لا يختلف به الحكم بحال، إلا ما ذكرنا من وجوب السعي ثانيًا، وفيمن قد يستحب للمتمتع أن يطوف طواف القدوم بعد رجوعه من عرفة، قبل طواف الإفاضة‏.‏ وهذا وإن كان منقولا عن أحمد

    ج/ 26 ص -273-واختاره طائفة من أصحابه، فالصواب الذي عليه جماهير العلماء أنه لا يستحب؛ لأن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع النبي ﷺ، وهذا هو القول الأخير من مذهب أحمد‏.‏
    ولهذا كان من روي أن النبي ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج، ومن روي أنه قرن بينهما، كان كلا الحديثين صوابًا، والمعني واحد‏.‏ وكذلك من روي أنه أفرد الحج،‏.‏ كابن عمر، وعائشة، وغيرهما؛ لأنهم أرادوا إفراد أعمال الحج؛ ولهذا كان هؤلاء الذين رووا ذلك هم الذين رووا أنه أفرد أعمال الحج، فلم يفصل بينهما بتحلل كما يفعل المتمتع إذا تحلل من عمرته، ولا كان في عمله زيادة على عمل المفرد؛ بخلاف المتمتع الذي تحلل من إحرامه، فإنه فصل بين عمرة تمتعه وحجه بتحلل‏.‏
    ولم يعتمر النبي ﷺ بعد حجته لا هو، ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه، إلا عائشة‏.‏ فهذا متفق عليه، بين جميع الناس، متواتر تواترًا يعرفه جميع العلماء بحجته، لا يتنازعون أنه لم يعتمر بعد حجته، لا من أدني الحل الذي هو التنعيم، الذي بنيت به بعد ذلك المساجد التي تسميها العامة ‏[‏مساجد عائشة‏]‏ ، ولا من غير التنعيم‏.‏

    ج/ 26 ص -274- ولهذا اتفقوا على أن الأحاديث الثابتة في الصحاح وغيرها أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر‏:‏ عمرة الحديبية‏.‏ وعمرة القَضِيَّة، وعمرة الجِعْرانة، والعمرة التي مع حجته‏.‏ فإنما معناها‏:‏ أنه اعتمر عمرة متمتع، ساق الهدي‏.‏ وهذا أيضًا قارن، فتسميته متمتعًا وقارنًا سواء، إذا كان قد أهل بالعمرة والحج، وهذان متمتع وهو قارن؛ ولهذا كان من غلط من الفقهاء فقال‏:‏ إنه أحرم بالحج فقط، ولم يقرن به عمرة لا قبله، ولا معه، أوقال‏:‏ إنه أحرم إحرامًا مطلقًا ثم عقبه الحج، فإنه ينكر أن يكون النبي ﷺ اعتمر مع حجته، ويلزمه رد هذه الأحاديث الصحيحة المبينة أنه اعتمر أربع عمر، لاتفاق المسلمين على أنه لم يعتمر هو ولا أحد من أصحابه غير عائشة عقب الحج‏.‏
    ولهذا كان هذا حجة قاطعة على ما لم يتنازع فيه الأئمة الأربعة، وعامة الفقهاء في أن المتمتع بالعمرة إلى الحج سقط عنه بذلك الحج والعمرة، سواء قيل بوجوبها، أو بتوكيد استحبابها دون وجوبها،؛ لأن الصحابة الذين حجوا مع النبي ﷺ بأمره هكذا فعلوا، وأخبرهم النبي ﷺ أن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة‏.‏ وقالوا له‏:‏ أعمرتنا هذه لعامنا هذا ‏؟‏ أم للأبد ‏؟‏ فقال‏:
    ‏ ‏"‏بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏

    ج/ 26 ص -275- قال‏:‏ ومن روي من الصحابة أن النبي ﷺأفرد الحج، أرادوا بذلك بيان أنه لم يحل من إحرامه لعمرة التمتع، كما أمر بذلك جمهور أصحابه، وهم الذين لم يكونوا ساقوا الهدي، فإن الأحاديث الثابتة المتواترة كلها متفقة على أن النبي ﷺأمر أصحابه حين قدموا مكة فطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه إلى يوم النحر، حتي يبلغ الهدي محله، عملا بمعني قوله‏:‏ ‏ "وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّي يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ، فهذه الجملة لم يتنازع فيها أحد من العلماء‏:‏ أن حجة الوداع كانت هكذا‏.‏
    ثم إن كثيرا من الصحابة روي أن النبي ﷺتمتع بالعمرة إلى الحج، فصار يظن قوم أنهم أرادوا بذلك أنه حل من حرامه بالعمرة ثم أحرم بالحج، كما أمر بذلك أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، وروي أيضا من روي من هؤلاء الصحابة‏:‏ أنه أفرد الحج؛ ليزيلوا بذلك ظن من ظن أنه حل من إحرامه، وأخبروا أنه لم يحل من إحرامه، بل فعل كما يفعل من أفرد الحج،من بقائه على إحرامه وعمل ما يعمله المفرد‏.‏فروايات الصحابة متفقة على هذا‏.‏
    وكل من روي عنه من الصحابة أنه روي الإفراد، فقد روي التمتع، وفسروا التمتع بالقران، ورووا عنه صريحا أنه قال‏:‏ ‏"‏لبيك

    ج/ 26 ص -276-عمرة وحجا‏"‏، وأنه قال‏:‏ ‏"‏أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك، فقال‏:‏ قل‏:‏ عمرة في حجة‏"‏‏.‏
    ولهذا كان الصواب أن من ساق الهدي فالقِران له أفضل، ومن لم يسق الهدي، وجمع بينهما في سفر، وقدم في أشهر الحج، فالتمتع الخاص أفضل له، وإن قدم في شهر رمضان وقبله بعمرة فهذا أفضل من التمتع، وكذلك لو أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من المتعة المجردة؛ بخلاف من أفرد العمرة بسفرة، ثم قدم في أشهر الحج متمتعا، فهذا له عمرتان وحجة، فهو أفضل، كالصحابة الذين اعتمروا مع النبي ﷺ عمرة القضية، ثم تمتعوا معه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فهذا أفضل الإتمام‏.‏ وكذلك فعل النبي ﷺ‏:‏ اعتمر أولًا، ثم قرن في حجه بين العمرة والحج لما ساق الهدي؛ لكنه لم يزد على عمل المفرد، فلم يطف للعمرة طوافا رابعًا؛ ولهذا قيل‏:‏ إنه أفرد بالحج‏.‏
    ثم إن الناس كانوا في عهد أبي بكر وعمر لما رأوا في ذلك من السهولة، صاروا يقتصرون على العمرة في أشهر الحج، ويتركون سائر الأشهر‏.‏ لا يعتمرون فيها من أمصارهم، فصار البيت يعري عن العمار من أهل الأمصار في سائر الحول، فأمرهم عمر ابن الخطاب بما هو أكمل لهم بأن يعتمروا في غير أشهر الحج، فيصير البيت مقصودًا معمورًا

    ج/ 26 ص -277-في أشهر الحج، وغير أشهر الحج، وهذا الذي اختاره لهم عمر هو الأفضل، حتي عند القائلين بأن التمتع أفضل من الإفراد، والقِران، كالإمام أحمد وغيره‏.‏
    فإن الإمام أحمد يقول‏:‏ إنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج كان أفضل من أن يؤخر العمرة إلى أشهر الحج، سواء قدم مكة قبل أشهر الحج واعتمر وأقام بمكة حتي يحج من عامه ذلك، أو اعتمر ثم رجع إلى مصره، أو ميقات بلده، وأحرم بالحج، وهذا ظاهر‏.‏ فإن القاصد لمكة إذا قدم مثلا في شهر رمضان فاعتمر فيه، حصل له ما ذكره النبي ﷺ بقوله‏:
    ‏ ‏"‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏"‏‏.‏ وإن قدم قبل ذلك معتمرًا وأقام بمكة، فذلك كله أفضل له، فإنه يطوف بمكة ويعتكف بها تلك المدة إلى حين الإهلال بالحج، وإن رجع إلى مصره ثم قدم وأحرم بالحج فقد أفرد للعمرة سفرًا، وللحج سفرًا، وذلك أتم لهما، كما قال على في قوله تعالى‏:‏ ‏ "وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ، إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك‏.‏ أي‏:‏ تنشئ السفر لهما من دويرة أهلك‏.‏
    وأما من اعتمر قبل أشهر الحج، ثم رجع إلى مصره، ثم قدم ثانيًا في أشهر الحج فتمتع بعمرة إلى الحج، فهذا أفضل ممن اقتصر على مجرد الحج في سفرته الثانية، إذا اعتمر معها عقيب الحج؛ لأن النبي ﷺاعتمر مع الحج تمتع هو قران كما بينوا، ولأن من

    ج/ 26 ص -278- تحصل له عمرة مفردة، وعمرة مع حجة، أفضل ممن لا يحصل له إلا عمرة وحجة، وعمرة تمتع أفضل من عمرة مكية عقيب الحج‏.‏
    فهذا الذي اختاره عمر للناس هو الاختيار عند عامة الفقهاء؛ كالإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة عن محمد بن الحسن‏.‏ ولا يعرف في اختيار ذلك خلاف بين العلماء‏.‏
    ولما كان ذلك هو الأفضل الأرجح، وكان إن لم يؤمر الناس به زهدوا فيه، وأعرضوا عما هو أنفع لهم في دينهم، كان من اجتهاد عمر، ونظره لرعيته، أنه ألزمهم بذلك، كما يُلْزِم الأب الشفيق ولده ما هو أصلح له، ولما في ذلك من المنفعة لأهل مكة، وهذا كان موضع اجتهاد خالفه فيه على، وعمران بن حصين، وغيرهما من الصحابة، ولم يروا أن يؤمر الناس بذلك أمرا، بل يتركون من أحب اعتمر قبل أشهر الحج، ومن أحب اعتمر فيها، وإن كان الأول أكمل‏.‏
    وقوي النزاع في ذلك في ‏[‏خلافة عثمان‏]‏ حتي ثبت في الصحيحين‏:‏ أن عثمان كان ينهي عن المتعة، فلما رآه على أهل بهما، وقال‏:‏ لم أكن لأدع سنة رسول الله ﷺلقول أحد، ونهي عثمان كان لاختيار الأفضل، لا نهي كراهة‏.‏
    فلما حصلت الفرقة بعد ذلك بين الأمة بمقتل عثمان، ومصير الناس

    ج/ 26 ص -279-شيعتين‏:‏ قوما يميلون إلى عثمان وشيعته، وقوما يميلون إلى على وشيعته، صار قوم من ولاة بني أمية ينهون عن المتعة، ويعاقبون من يتمتع، ولا يمكنون أحدًا من العمرة في أشهر الحج، وكان في ذلك نوع من الجهل والظلم‏.‏ فلما رأي ذلك علماء الصحابة كعبد الله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وغيرهما جعلوا ينكرون ذلك، ويأمرون الناس بالمتعة اتباعا لسنة رسول الله ﷺ‏.‏ ويخبرون الناس أن النبي ﷺ‏.‏ أمر بها أصحابه في ‏[‏حجة الوداع‏]‏ فصار بعض الناس يناظرهم بما توهمه على أبي بكر، وعمر، فيقولون لعبد الله بن عمر‏:‏ إن أباك كان ينهي عنها، فيقول‏:‏ إن أبي لم يرد ذلك، ولا كان يضرب الناس عليها، ونحو ذلك‏.‏
    فبين لهم أن عمر قصد أمر الناس بالأفضل، لا تحريم المفضول، وعمر إنما أمرهم بالاعتمار في غير أشهر الحج، فأما أن يكون عمر أو أحد من الصحابة اختار للناس أن يفردوا الحج في أشهره، ويعتمروا فيه عمرة مكية، فهذا لم يأمر به، ولم يختره أحد من الصحابة أصلا، ولم يفعله أحد على عهد النبي ﷺ قطعًا، وأكبر ظني أنه لم يفعله أحد من الصحابة بعد النبي ﷺ، ولم يأمر به‏.‏
    وقد حمل طائفة من العلماء نهي عمر على أنه نهى عن متعة الفسخ،

    ج/ 26 ص -280- وهؤلاء يقولون‏:‏ الفسخ إنما كان جائزا لمن كان مع النبي ﷺ‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏
    وبين أن السلف والعلماء تنازعوا في الفسخ‏.‏ فمذهب ابن عباس وأصحابه، وكثير من الظاهرية والشيعة‏:‏ يرون أن الفسخ واجب، وأنه ليس لأحد أن يحج إلا متمتعا‏.‏ ومذهب كثير من السلف والخلف أنه وإن جاز التمتع، فليس لمن أحرم مفردًا، أو قارنًا، أن يفسخ‏.‏ وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي‏.‏ ومذهب كثير من فقهاء الحديث وغيرهم؛ كأحمد بن حنبل، أن الفسخ هو الأفضل، وأنه إن حج مفردًا أو قارنًا، ولم يفسخ جاز‏.‏ وأما من ساق الهدي فلا يفسخ بلا نزاع والفسخ جائز ما لم يقف بعرفة، وسواء كان قد نوي عند الطواف طواف القدوم، أو غير ذلك، وسواء كان قد نوي عند الإحرام القِران، أو الإفراد، أو أحرم مطلقا‏.‏
    فالأفضل عند هؤلاء لكل من لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه بعمرة تمتع، كما أمر النبي ﷺأصحابه بذلك في حجة الوداع، وليس له أن يتحلل بعمرة إذا كان قصده أن يحج من عامه فيكون متمتعا‏.‏
    فأما الفسخ بعمرة مجردة، فلا يجوزه أحد من العلماء، ولا للذي

    ج/ 26 ص -281-يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة أن يحج في أشهر الحج ويعتمر عقيب ذلك من مكة، بل هم متفقون على أن هذا ليس هو المستحب المسنون‏.‏ فهذا أفضل ممن اقتصر على مجرد الحج في سفرته الثانية، أو اعتمر فيها‏.‏
    فثبت أن النبي ﷺاعتمر مع الحج عمرة تمتع، هو قران كما تقدم؛ ولأن من يحصل له عمرة مفردة، وعمرة مع حجة أفضل ممن لم يحصل له إلا عمرة وحجة، وعمرة تمتع أفضل من عمرة بمكة عقيب الحج إلى الحج، وإن جوزوه‏.‏
    فكان عبد الله بن عمر إذا بين لهم معني كلام عمر ينازعونه في ذلك، فيقول لهم‏:‏ فقدروا أن عمر نهى عن ذلك‏.‏ أمر رسول الله ﷺأحق أن تتبعوه أم عمر‏؟‏‏!‏ وكذلك كان عبد الله بن عباس إذا بين لهم سنة النبي ﷺفي تمتعه، يعارضونه بما توهموه على أبي بكر وعمر، فيقول لهم‏:‏ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء‏.‏ أقول لكم‏:‏ قال رسول الله ﷺ، وتقولون‏:‏ قال أبو بكر وعمر‏.‏ يبين لهم أنه ليس لأحد أن يعارض سنة رسول الله ﷺبقول أحد من الناس، مع أن أولئك المعارضين كانوا يخطئون على أبي بكر وعمر، وهم سواء كانوا علموا حال أبي بكر وعمر، أم أخطؤوا عليهما، ليس لأحد أن يدفع المعلوم من سنة

    ج/ 26 ص -282-رسول الله ﷺ، بقول أحد من الخلق، بل كل أحد من الناس فإنه يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله ﷺ‏.‏ وهذا متفق عليه بين علماء الأمة وأئمتها‏.‏
    وإنما تنازع فيه أهل الجهالة من الرافضة، وغالية النساك الذين يعتقد أحدهم في بعض أهل البيت، أو بعض المشائخ، أنه معصوم، أو كالمعصوم، وكان ابن عباس يبالغ في المتعة حتي يجعلها واجبة، ويجعل الفسخ واجبا، وهو قول أبي حنيفة وطائفة من أهل الظاهر والشيعة، ويجعل من طاف وسعي فقد حل من إحرامه، وصار متمتعًا، سواء قصد التمتع، أو لم يقصده‏.‏ وصار إلى إيجاب التمتع طائفة من الشيعة وغيرهم‏.‏ وهذا مناقضة لمن نهى عنها، وعاقب عليها، من بني أمية وغيرهم‏.‏
    وأما الذي عليه أئمة الفقه‏:‏ فإنهم يجوزون هذا وهذا، ولكن النزاع بينهم في الفسخ، وفي استحبابه، فمن حج متمتعا من الميقات أجزأه حجه، باتفاق العلماء، وما سوي ذلك فيه نزاع، سواء أفرد، أو قرن، أو فسخ إذا قدم في أشهر الحج، إلا القارن الذي ساق الهدي، فإن هذا يجزئه أيضا حجه باتفاقهم‏.‏
    وأمام من قدم بعمرة قبل أشهر الحج، وأقام إلى أن يحج فهذا

    ج/ 26 ص -283-أيضا ما أعلم فيه نزاعًا، فالتمتع المستحب، والقِران المستحب، والإفراد المستحب هو الذي يجزئه باتفاقهم‏.‏
    وبسبب ما وقع من اشتراك الألفاظ في الرواية، واختلاف الاجتهاد في العمل، وغير ذلك، صار كثير من الفقهاء يغلطون في معرفة ‏[‏صفة حجة الوداع‏]‏ ، فيظن طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم أن النبي ﷺ تمتع، بمعني أنه حل من إحرام العمرة، ثم أحرم بالحج، وهذا غلط بلا ريب‏.‏ وقد قال الإمام أحمد‏:‏ لا أشك أن النبي ﷺكان قارنًا، والمتعة أحب إلى، أي لمن كان لم يسق الهدي؛ فإنه لا يختلف قوله‏:‏ أن من جمع الحج والعمرة في سفرة واحدة، وقدم في أشهر الحج، ولم يسق الهدي، أن هذا التمتع أفضل له‏.‏ بل هو المسنون؛ لأن النبي ﷺأمر أصحابه بذلك‏.‏
    وأما من ساق الهدي‏:‏ فهل القِران أفضل له‏؟‏ أم التمتع‏؟‏ ذكروا عنه روايتين، والذي صرح به في رواية المروزي أن القران أفضل له؛ لأن النبي ﷺ هكذا حج بلا نزاع بين أهل العلم والحديث، وهذا السائق للهدي تمتعه وقرانه لا يختلفان إلا في تقدم الإحرام وتأخيره‏.‏ فمتي أحرم بالحج مع العمرة، أو قرن الإحرام بالعمرة‏.‏ أو بزيادة سعي عند من يقول به، وقبل طوافه وسعيه

    ج/ 26 ص -284-عند من يقوله كان قارنًا، وهو متمتع تمتع قران بلا نزاع‏.‏
    وإن لم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي، مع بقائه على إحرامه، فهو متمتع، وبقاؤه على إحرامه واجب عليه عند أبي حنيفة وأحمد، إذا كان قد ساق الهدي، وعند مالك والشافعي إنما يتحلل إن لم يسق الهدي، فإنه يتحلل من عمرته باتفاقهم، فإن أحرم بالحج قبل تحلله من العمرة ففيه نزاع‏.‏
    ومن جوز هذا من أصحاب أحمد فإنهم يسمونه أيضا ‏[‏قارنا‏]‏ ، فإنه لم يتحلل من إحرامه حتي أحرم بالحج، وهل على المتمتع بعد طواف الإفاضة سعي غير السعي الذي كان عقيب طواف العمرة‏؟‏ فيه قولان في مذهب أحمد، وغيره‏.‏
    وقد نص أحمد على أن المتمتع يجزئه سعي واحد كما يجزئ القارن في غير موضع، وعلى هذا فلا يختلفان إلا بالتقدم والتأخر، وإذا كان الأمر كذلك فمعلوم أن تقدم الإحرام بالحج أفضل من تأخيره؛ لأنه أكمل، وهذا الذي ثبت صحيحا صريحا عن النبي ﷺ، حيث قال أنس‏:‏ سمعته يقول‏:‏
    ‏"‏لبيك عمرة وحجا‏"‏، وكذلك في حديث عمر الذي في الصحيح صحيح البخاري عن النبي ﷺأنه قال‏:‏ ‏"‏أتاني آت الليلة من ربي وهو بالعقيق فقال‏:‏

    ج/ 26 ص -285-صل في هذا الوادي المبارك، وقل‏:‏ عمرة في حجة‏"‏، ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ نفسه لفظًا يخالف هذين البتة؛ بل لم ينقل أحد عن النبي ﷺلفظًا بإحرامه إلا هذا‏.‏ وكذلك قالت عائشة في الحديث المتفق عليه‏:‏ خرجنا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة‏"‏‏.
    وأما قول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏"‏، فهذا أيضا يبين أنه مع سوق الهدي لم يكن يجعلها عمرة، وأنه إنما كان يجعلها عمرة إذا لم يسق الهدي، وذلك لأن أصحابه الذين أمرهم بالإحلال، وهم الذين لم يسوقوا الهدي، كرهوا أن يحلوا في أشهر الحج؛ لأنهم لم يكونوا يعتادون الحل في وسط الإحرام في أشهر الحج، فكان النبي ﷺ لأجل تطييب قلوبهم يوافقهم في الفعل، فذكر أنه لو استقبل من أمره ما استدبر‏.‏ أي‏:‏ لو كنت الساعة مبتدئا الإحرام لم أسق الهدي، ولأحرمت بعمرة أحل منها‏.‏ وهذا كله من النصوص الثابتة عنه بلا نزاع‏.‏
    وهو يبين أن المختار لمن قدم في أشهر الحج أحد أمرين‏:‏ إما أن يسوق الهدي، أو يتمتع تمتع قران، أو لا يسوق الهدي ويتمتع بعمرة

    ج/ 26 ص -286-ويحل منها‏.‏
    ثم الذي ينبغي أن يقال‏:‏ إن الذي اختاره الله لنبيه هو أفضل الأمرين‏.‏
    وأما قوله ﷺ‏:‏
    ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أفعل ذلك‏"‏، فهو حكم معلق على شرط، والمعلق على شرط عدم عند عدمه، فما استقبل من أمره ما استدبر، وقد اختار الله تعالى له ما فعل، واختار له أنه لم يستقبل ما استدبر‏.‏ ولا يلزم إذا كان الشيء أفضل على تقدير أن يكون أفضل مطلقا‏.‏
    وهذا كقوله‏:‏ ‏"‏لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر‏"‏، فهو لا يدل على أن عمر أفضلهم لو لم يبعث الرسول، ولا يدل على أنه أفضل مع بعث الرسول؛ بل أبو بكر أفضل منه في هذه الحال، ولكن هذا بين أن الموافقة إذا كان في تنويع الأعمال تفرق وتشتت هو أولي من تنويعها، وتنويعها اختيار القادر المفضول للأفضل، والعاجز عن المفضول كما اختار من قدر على سوق الهدي الأفضل‏.‏ ومن لم يقدر على سوقه مع السلامة عن التفرق، ومع تفرق يعقبه ائتلاف هو أفضل‏.‏
    وغلط أيضا في ‏[‏صفة حجه‏]‏ طائفة من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما؛ فظنوا أنه إنما كان مُفْرِدًا‏:‏ يعني أنه أحرم بحجة مفردة، ولم

    ج/ 26 ص -287-يعتمر معها أصلا، وهذا خلاف الأحاديث الصحيحة الثابتة أيضا وخلاف ما تواتر في سنته‏.‏
    ثم قد يغلط طوائف من متأخريهم فيظنون أنه اعتمر مع ذلك من مكة؛ ولهذا لم ينقله أحد ممن له قول معتبر، ولم يتنازعوا في أنه أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وأمره في حق أمته أولي بهم من فعله، لا سيما وقد بين أن اختصاصه بعدم الإحلال إنما كان لسوق الهدي، وهذا متواتر عنه‏.‏ وفي الصحيحين أن حفصة قالت له‏:‏ ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتي أنحر‏"‏‏.‏ فهذا لا ينافي أنه أحرم بالعمرة والحج‏.‏ كما روي أنس وعمر وغيرهما؛ لأن ذلك يسمي عمرة؛ لأنه وحده عمل المعتمر؛ ولأنه أمرهم بالحل، وأن يجعلوها عمرة فشبهته بهم‏.‏
    وغلط أيضا في ‏[‏صفة حجته‏]‏ من غلط من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم؛ فاعتقدوا أن النبي ﷺ كان قارنا، بمعني أنه طاف وسعي أولا للعمرة، ثم طاف وسعي ثانيا للحج قبل التعريف، وكل من نظر في الأحاديث الثابتة المتواترة عن النبي ﷺعلم أنه لم يطف طوافين، ولا سعي سعيين، ولا أمر بذلك أصحابه الذين ساقوا الهدي، وأمرهم بالبقاء على إحرامهم، فضلا عن

    ج/ 26 ص -288-الذين أمرهم بالإحلال‏.‏
    وما روي أنه يأمر به على ونحوه؛ من فعل الطوافين، والسعيين فقد ضعفه غير واحد من أهل العلم بالحديث، وليس في شيء من كتب الحديث أن النبي ﷺفي حجته طاف طوافين، وسعي سعيين، وإنما يوجد ذلك في بعض كتب الرأي التي يروي أصحابها أحاديث كثيرة، وتكون ضعيفة، وهم لم يتعمدوا الكذب، لكن سمعوا تلك الأحاديث ممن لا يضبط الحديث‏.‏
    وهكذا الاختيار‏.‏ فإن الفقهاء وإن جوزوا الأنساك الثلاثة، فقد يغلط كثير منهم في الاختيار، فأعدل الأقوال وهو أتبعها للسنة، وأصحها في الأثر والنظر، ما ذكرناه‏:‏ أن من قدم في أشهر الحج مريدًا للعمرة والحج في تلك السفرة فالسنة له التمتع بالعمرة إلى الحج، ثم إن ساق الهدي لم يحل من إحرامه، ولكن إحرامه بالحج مع العمرة أولا قبل الطواف والسعي أفضل له من أن يؤخر الإحرام بالحج إلى ما بعد الطواف والسعي، وإن لم يسق الهدي حل، وهذا أفضل له من أن يجيء بعمرة عقب الحج‏.‏
    وأما من أفردهما في سفرة، واعتمر قبل أشهر الحج، وأقام إلى الحج، فهذا أفضل من التمتع، وهذا قول الخلفاء الراشدين، وهو

    ج/ 26 ص -289-مذهب الإمام أحمد وغيره، وقول من يقوله من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم، واختيار المتعة هو قول أصحاب الحديث، وهو قول فقهاء مكة من الصحابة والتابعين، وقول بني هاشم‏.‏
    فاتفق على اختياره علماء سنته، وأهل بلدته؛ وأهل بيته‏.‏
    ومالك، وإن كان يختار الإفراد، فلا يختاره لمن يعتمر عقب الحج بل يعتمر في غير أشهر الحج كالمحرم‏.‏ والشافعي في أحد أقواله يختار التمتع، وفي الآخر يختار إحراما مطلقا، وفي الآخر يختار الإفراد، ولكن لا أحفظ قوله فيمن يعتمر عقب الحج، فإنه وإن كان من أصحابه من يجعل هذا هو الأفضل، فكثير من أصحاب أحمد يظن أن مذهبه أن المتعة أفضل من الاعتمار في أشهر الحج‏.‏
    والغلط في هذا الباب كثير على السنة؛ وعلى الأئمة، وإلا فكيف يشك من له أدني معرفة في السنة أن أصحابه لم يعتمر أحد منهم عقيب الحج، وكيف يشك مسلم أن ما فعلوه بأمر النبي ﷺ هو الأفضل لهم، ولمن كان حاله كحالهم‏.‏
    وقد تبين بما ذكرنا أنه وإن سوغ العمرة من مكة عقب الحج لمن أفرد، فهذا لم يفعله أحد على عهد النبي ﷺ، ولا أمر به هو ولا أحد من خلفائه، ولا أحد من صحابته،

    ج/ 26 ص -290-والتابعين وأئمتهم أمر اختيار، وهذا كله مما يضعف أمر الاعتمار من مكة غاية الضعف‏.
    فصل
    وأما المسألة الثالثة‏:‏ فنقول‏:‏ فإذا كان قد تبين بما ذكرناه من السنة واتفاق سلف الأمة أنه لا يستحب، بل تكره الموالاة بين العمرة لمن يحرم من الميقات، فمن المعلوم أن الذي يوالي بين العمر من مكة في شهر رمضان أو غيره أولي بالكراهة، فإنه يتفق في ذلك محذوران‏.‏
    أحدهما‏:‏ كون الاعتمار من مكة، وقد اتفقوا على كراهة اختيار ذلك، بدل الطواف‏.‏
    والثاني‏:‏ الموالاة بين العمر، وهذا اتفقوا على عدم استح
    بابه؛ بل ينبغي كراهته مطلقا فيما أعلم لمن لم يعتض عنه بالطواف، وهو الأقيس، فكيف بمن قدر على أن يعتاض عنه بالطواف‏؟‏‏!‏ بخلاف كثرة الطواف، فإنه مستحب مأمور به، لاسيما للقادمين‏.‏ فإن جمهور العلماء على أن طوافهم بالبيت أفضل لهم من الصلاة بالمسجد الحرام، مع فضيلة الصلاة بالمسجد الحرام‏.‏

    ج/ 26 ص -291-فصل
    وأما الاعتمار في شهر رمضان‏:‏ ففي الصحيحين والسنن عن عطاء سمعت ابن عباس يحدثنا قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها ‏:
    ‏ ‏"‏ما منعك أن تحجي معنا‏"‏ فقالت‏:‏ لم يكن لنا إلا ناضحان، فحج أبو ولدها على ناضح، وترك لنا ناضحًا ننضح عليه، قال‏:‏ ‏"‏فإذا جاء شهر رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال لأم سنان امرأة من الأنصار ‏:‏ ‏"‏عمرة في رمضان تقضي حجة معي‏"‏‏.‏ وروي البخاري هذا الحديث من طريق جابر تعليقًا، وعن أم معقل عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏"‏ رواه ابن ماجة، والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏
    وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل، قالت‏:‏ لما حج رسول الله ﷺ حجة الوداع، وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، وهلك أبو معقل، وخرج

    ج/ 26 ص -292- النبي ﷺ، فلما فرغ من حجته جئته، فقال‏:‏ ‏"‏يا أم معقل، ما منعك أن تحجي‏؟‏‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصي به أبو معقل في سبيل الله، قال‏:‏ ‏"‏فهلا خرجت عليه، فإن الحج من سبيل الله‏"‏ رواه أبو داود‏.‏
    وروي أحمد في المسند عن أم معقل الأسدية، أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة، فسألت زوجها البكر فأبي، فأتت النبي ﷺ فذكرت ذلك له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله ﷺ‏
    :‏ ‏"‏الحج والعمرة في سبيل الله‏"‏‏.‏
    فهذه الأحاديث تبين أنه ﷺأراد بذلك العمرة التي كان المخاطبون يعرفونها، وهي قدوم الرجل إلى مكة معتمرا، فأما أن يخرج المكي فيعتمر من الحل فهذا أمر لم يكونوا يعرفونه، ولا يفعلونه، ولا يأمرون به، فكيف يجوز أن يكون ذلك مرادًا من الحديث‏؟‏‏!‏ مع أن هذه المرأة كانت بالمدينة النبوية، وعمرتها لا تكون إلا من الميقات، ليست عمرتها مكية‏.‏
    وكيف يكون قد رغبهم في عمرة مكية في رمضان‏؟‏‏!‏ ثم إنهم لا يأتون مافيه هذا الأجر العظيم، مع فرط رغبتهم في الخير، وحرصهم عليه، وهلا أخبر النبي ﷺ بذلك أهل مكة المقيمين بها؛ ليعتمروا كل عام في شهر رمضان، وإنما أخبر بذلك من كان

    ج/ 26 ص -293-بالمدينة، لما ذكر له مانعًا منعه من السفر للحج، فأخبره أن الحج في سبيل الله، وأن عمرة في رمضان تعدل حجة، وهذا ظاهر؛ لأن المعتمر في رمضان إن عاد إلى بلده، فقد أتي بسفر كامل للعمرة ذهابًا وإيابًا في شهر رمضان المعظم، فاجتمع له حرمة شهر رمضان، وحرمة العمرة وصار ما في ذلك من شرف الزمان والمكان، يناسب أن يعدل بما في الحج في شرف الزمان، وهو أشهر الحج وشرف المكان‏.‏ وإن كان المشبه ليس كالمشبه به من جميع الوجوه، لاسيما في هذه القصة باتفاق المسلمين، وإن أقام بمكة إلى أن حج في ذلك العام فقد حصل له نسكا مكفرًا أيضا، بخلاف من تمتع في أشهر الحج، فإن هذا هو حاج محض وإن كان متمتعا، ولهذا يكون داخلا في الحج من حين يحرم بالعمرة‏.‏
    يبين هذا أن بعض طرقه في الصحيح أنه قال للمرأة‏:‏ ‏"‏عمرة في رمضان تعدل حجة معي‏"‏‏.‏ ومعلوم أن مراده أن عمرتك في رمضان تعدل حجة معي، فإنها كانت قد أرادت الحج معه فتعذر ذلك عليها، فأخبرها بما يقوم مقام ذلك، وهكذا من كان بمنزلتها من الصحابة ولا يقول عاقل ما يظنه بعض الجهال‏:‏ إن عمرة الواحد منا من الميقات أو من مكة تعدل حجة معه، فإنه من المعلوم بالاضطرار أن الحج التام أفضل من عمرة رمضان، والواحد منا لو حج الحج المفروض لم يكن كالحج معه فكيف بعمرة‏؟‏‏!‏ وغاية ما يحصله الحديث‏:‏ أن تكون عمرة أحدنا في

    ج/ 26 ص -294-رمضان من الميقات بمنزلة حجة، وقد يقال هذا لمن كان أراد الحج فعجز عنه،فيصير بنية الحج مع عمرة رمضان كلاهما تعدل حجة،لا أحدهما مجردًا‏.‏
    وكذلك الإنسان، إذا فعل ما يقدر عليه من العمل الكامل مع أنه لو قدر لفعله كله، فإنه يكون بمنزلة العامل من الأجر، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"
    ‏إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا‏"‏ وكذلك قال في الضلالة، وشواهد هذا الأصل كثير‏.‏
    ونظير هذا قوله ﷺ في الحديث الذي رواه ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر، والذنوب، كما ينفي الكِير خَبَث الحديد، والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة‏"‏ رواه النسائي والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏"‏تابعوا بين الحج والعمرة‏"‏ لم يرد به العمرة من مكة، إذ لو أراد ذلك لكان الصحابة يقبلون أمره، سواء كان أمر إيجاب؛ أو استحباب، ولا يظن بالصحابة

    ج/ 26 ص -295- والتابعين أنهم تركوا اتباع سنته، وما رغبوا فيه كلهم حتي حدث بعدهم من فعل ذلك، وإذا كانوا لا يعتمرون من مكة علم أن هذا ليس مقصود الحديث؛ ولكن المراد به العمرة التي كانوا يعرفونها، ويفعلونها، وهي عمرة القادم‏.‏
    يبين هذا أن النبي ﷺ لم يأمر عائشة بالعمرة من أدني الحل، مع أنها متابعة بين الحج والعمرة، ولو كانت المكية مرادة حين طلبت ذلك منه، أمرها أن تكتفي بما فعلته، وقال‏:‏ ‏"‏طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك، وعمرتك‏"‏‏.‏ فلما راجعته وألحت عليه أذن لها في ذلك، فلو كان مثل هذا مما أمر به لم يكن يأمرها ابتداء بترك ذلك، والاكتفاء بما دونه، وهي تطلب ما قد رغب الناس فيه كلهم‏.‏ ففي الصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي وغيرهما عن عائشة أنها قالت‏:‏ خرجنا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتي يحل منهما جميعا‏"‏، ثم قدمت مكة وأنا حائض، فلم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت إلى النبي ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة‏"‏، ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله ﷺ مع عبدالرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏هذه

    ج/ 26 ص -296-مكان عمرتك‏"‏، قالت‏:‏ وطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من مني لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا‏.‏
    وفي الصحيحين والسنن أيضا عن عائشة قالت‏:‏ لبينا بالحج حتي إذا كنا بسرف حضت، فدخل على رسول الله ﷺ وأنا أبكي، فقال‏:‏
    ‏"‏وما يبكيك يا عائشة‏؟‏‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ حضت، ليتني لم أكن حججت، فقال‏:‏ ‏"‏سبحان الله، إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم‏"‏، فقال‏:‏ ‏"‏انسكي المناسك كلها غير ألا تطوفي بالبيت‏"‏، فلما دخلنا مكة، قال رسول الله ﷺ‏:‏ من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة، إلا من كان معه الهدي، وذبح رسول الله ﷺ عن نسائه البقر يوم النحر، فلما كانت ليلة البطحاء، وطهرت عائشة، قالت‏:‏ يارسول الله، أيرجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج‏؟‏‏!‏ فأمر رسول الله ﷺ عبدالرحمن بن أبي بكر، فأعمرها من التنعيم، فأتت بالعمرة‏.‏
    وفي الصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي، عن جابر قال‏:‏ أقبلنا مهلين مع رسول الله ﷺ بالحج مفردًا، فأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتي إذا كانت بسرف عَرَكَت، حتي إذا

    ج/ 26 ص -297- قدمنا طفنا بالكعبة، وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله ﷺ أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال‏:‏ فقلنا‏:‏ حل ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الحل كله‏"‏‏.‏ فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله ﷺ على عائشة فوجدها تبكي، فقال‏:‏ ‏"‏ما شأنك‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج‏"‏، ففعلت ووقفت المواقف، حتي إذا طهرت طافت بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم قال‏:‏ ‏"‏قد حللت من حجتك وعمرتك جميعا‏"‏، قالت‏:‏ يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال‏:‏ فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة‏.‏ وفي رواية مسلم‏:‏ وكان رسول الله ﷺ سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن، فأهلت من التنعيم بعمرة‏.‏
    وروي مسلم في صحيحه عن طاوس عن عائشة‏:‏ أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حين حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي ﷺ يوم النفر‏:
    ‏ ‏"‏يكفيك

    ج/ 26 ص -298-طوافك لحجك، وعمرتك‏"‏، فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج‏.‏ وروي مسلم أيضا عن مجاهد عن عائشة‏:‏ أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏يجزئ عنك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك‏"‏‏.‏ فهذه قصة عائشة‏.‏
    وللفقهاء في عمرتها التي فعلتها قولان مشهوران‏:‏
    أحدهما‏:‏ وهو قول جمهور الفقهاء من أهل الحديث، والحجاز؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم‏:‏ أنها لما حاضت وهي متمتعة بالعمرة إلى الحج، فمنعها الحيض من طواف العمرة، أمرها النبي ﷺأن تحرم بالحج مع بقائها على الإحرام، فصارت قارنة بين العمرة والحج، إذ القارن اسم لمن أحرم بهما ابتداء، أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج، قبل طوافها‏.‏ قالوا‏:‏ والأحاديث تدل على أن القارن ليس في عمله زيادة على عمل المفرد، إلا الهدي؛ فلهذا قال لها النبي ﷺ لما أحلت‏:‏
    ‏"‏قد حللت من حجك وعمرتك جميعا‏"‏‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ وهو قول أبي حنيفة، ومن وافقه‏:‏ أنها لما حاضت أمرها أن ترفض العمرة، فتنتقل عنها إلى الحج، لا تفرق

    ج/ 26 ص -299-بينهما بل تبقي في حج مفرد، قالوا‏:‏ فلما حلت حلت من الحج فقط، وكان عليها عمرة تقضيها مكان عمرتها التي رفضتها‏.‏ وعلى قول هؤلاء كانت العمرة التي فعلتها واجبة؛ لأنها قضاء عما تركتها‏.‏ وعلى قول الأكثرين لم تكن واجبة بل جائزة‏.‏ وحكم كل امرأة قدمت متمتعة فحاضت قبل الطواف على هذين القولين الأولين‏:‏ هل تؤمر أن تحرم بالحج فتصير قارنة، أم ترفض العمرة في الحج على القولين‏.‏
    وفيها قول ثالث، وهو رواية عن أحمد‏:‏ أنها كانت قارنة، وعمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام، فأمرها النبي ﷺ بعمرة الإسلام‏.‏
    وفيها قول رابع، ذكره بعض المالكية، فامتنعت من طواف القدوم؛ لأجل الحيض، وأن هذه العمرة هي عمرة الإسلام‏.‏ وهذا القول أضعف الأقوال من وجوه متعددة، ويليه في الضعف الذي قبله‏.‏
    ومن أصول هذا النزاع‏:‏ أن القارن عند الآخرين عليه أن يطوف أولا، ويسعي للعمرة، ثم يطوف ويسعي للحج، ويختص عندهم بمنعها من عمل القران، كما كان يمنعها من عمل التمتع‏.‏ والأولون ليس عندهم على القارن إلا طواف واحد، وسعي واحد، كما على المفرد، فإذا كانت حائضا سقط عنها طواف القدوم، وأخرت السعي إلى أن تسعي

    ج/ 26 ص -300-بعد طواف الإفاضة وليس عليها غير ذلك‏.‏
    وأهل القول الثاني بلغهم ما ثبت في الصحيح، أن النبي ﷺقال لها‏:‏
    ‏"‏ارفضي عمرتك‏"‏‏.‏ واعتقدوا أن رسول الله ﷺ أمرها أن تعتمر من التنعيم، فاعتقدوا أن ذلك صار واجبا للعمرة المرفوضة، وأن رفض العمرة هو تركها بالدخول في الحج المفرد‏.‏
    وأما أهل القول الأول، فبلغهم من العلم مالم يبلغ هؤلاء، فإن قصة عائشة رويت من وجوه متعددة عنها، وعن غيرها كجابر وغيره، فانظر ما قالت وما قال لها النبي ﷺ حيث قال لها‏
    :‏ ‏"‏قد حللت من حجك وعمرتك جميعا‏"‏، وقال لها‏:‏ ‏"‏سعيك وطوافك لحجك وعمرتك‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك‏"‏‏.‏ فهذا نص في أنها كانت في حج وعمرة؛ لا في حج مفرد، وفي أن الطواف الواحد أجزأ عنها، لم يحتج إلى طوافين‏.‏
    وأيضا، قد ثبت في السنن الصحيحة الصريحة أن النبي ﷺ ومن ساق الهدي من أصحابه كانوا قادمين، ولم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة حين قدموا إلا مرة واحدة‏.‏

    ج/ 26 ص -301- وأيضا، فإنها قالت له لما قال لها ذلك ‏:‏ إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال‏:‏ ‏"‏فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم‏"‏، وكذلك قولها له‏:‏ أيرجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج‏؟‏‏!‏ فأمر عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم‏.‏ يدل على أنه لم يأمرها بالعمرة ابتداء، وإنما أجاب سؤالها لما كرهت أن ترجع إلا بفعل عمرة، فإن صواحبها كن في عمرة تمتع؛ طفن أولا، وسعين، وهي لم تطف وتسع إلا بعد التعريف، فصار عملهن أزيد من عملها؛ لأنه سقط عنها بالحيض الطواف الأول‏.‏

    ج/ 26 ص -302-وسئل رضي الله عنه وأرضاه عمن يقف بعرفة، ولا يمكنه الذهاب إلى البيت، خوفًا من القتل، أو ذهاب المال‏.‏ هل يجزئه الحج‏؟‏ أم لا‏؟‏ وفيمن يكون ببدنه أو رأسه أذي، فلبس وغطي رأسه‏:‏ هل تجب عليه الفدية‏؟‏ أم لا‏؟‏ وما هي الفدية‏؟‏ ومن لم يجد إلا بعيرًا حرامًا هل يجزئه الحج عليه، وما هو الإفراد‏؟‏ والقران‏؟‏ والتمتع، وما الأفضل‏؟‏ ومن لم يعلم ذلك هل يصح حجه، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد الله رب العالمين، لابد بعد الوقوف من طواف الإفاضة، وإن لم يطف بالبيت لم يتم حجة باتفاق الأمة، وإن أحصره عدو عن البيت، وخاف، فلم يمكنه الطواف، تحلل فيذبح هديا، ويحل، وعليه الطواف بعد ذلك، إن كانت تلك حجة الإسلام، فيدخل مكة بعمرة يعتمرها، تكون عوضا عن ذلك‏.‏
    ولا يجوز له تغطية رأسه من غير حاجة، ولا لبس القميص والجبة ونحو ذلك، إلا لحاجة‏.‏ فإن خاف من شدة البرد أن يمرض لبس وافتدي أيضا، واستغفر الله من ذنوبه‏.‏

    ج/ 26 ص -303- والفدية للعذر أن يذبح شاة يقسمها بين الفقراء، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يتصدق على ستة فقراء، كل فقير بنصف صاع تمر‏.‏ وإن تصدق على كل واحد برطل خبز جاز‏.‏
    ولا يجوز أن يحج على بعير محرم‏.‏
    والأفضل لمن ساق الهدي أن يقرن بين العمرة والحج‏.‏ وإن لم يسق الهدي وأراد أن يجمع بين العمرة والحج فالتمتع أفضل، وإن حج في سفرة واعتمر في سفرة فالإفراد أفضل له‏.‏
    وإذا أحرم مطلقا، ولم يخطر بباله هذه الأمور صح حجه، إذا حج كما يحج المسلمون‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML