أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل وأما الحج فأخذ فيه فقهاء الحديث بالسنن في صفته وأحكامه

    ج/ 26 ص -160- وَقَالَ قدس اللّه رُوحه ‏:‏
    فصل
    وأما الحج، فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول اللّه ﷺ في صفته وأحكامه‏.‏
    وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين، وغيرهما‏:‏ أنه ﷺ لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحُلَيفَة ، فقال‏:‏ ‏"‏من شاء أن يهلّ بعمرة فليفعل، ومن شاء أن يهلّ بحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل‏"‏‏.‏ فلما قدموا وطافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل حتي يبلغ الهدي محله‏.‏ فراجعه بعضهم في ذلك فغضب‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏انظروا ما أمرتكم به فافعلوه‏"‏‏.‏ وكان هو ﷺ قد ساق الهدي، فلم يحل من إحرامه‏.‏

    ج/ 26 ص -161-ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال،قال‏:‏ ‏"‏لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقت
    الهدي، ولجعلتها عمرة، ولولا أن معي الهدي لأحللت‏"‏‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ ‏"‏إني لَبَّدْت رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتي أنحر‏"‏‏.‏ فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي، منهم‏:‏ رسول اللّه ﷺ، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد اللّه‏.‏ فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج، وهم ذاهبون إلى منى، فبات بهم تلك الليلة بمنى، وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب، و‏[‏نمرة‏]‏ خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها، ليست من الحرم، ولا من عرفة، فنصبت له القبة بنمرة، وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده، وبها الأسواق، وقضاء الحاجة، والأكل، ونحو ذلك‏.‏
    فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه، وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة، حيث قد بني المسجد، وليس هو من الحرم، ولا من عرفة، وإنما هو برزخ بين المشعرين‏:‏ الحلال والحرام هناك، بينه وبين الموقف نحو ميل، فخطب بهم خطبة الحج على راحلته‏.‏ وكان يوم الجمعة، ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين، مجموعتين، ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة،

    ج/ 26 ص -162-واسمه ‏[‏إلال‏]‏ على وزن هلال‏.‏ وهو الذي تسميه العامة عرفة، فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس‏.‏
    فدفع بهم إلى مزدلفة، فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة، وبات بها حتي طلع الفجر، فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مُغَلِّسًا بها زيادة على كل يوم، ثم وقف عند ‏[‏قزح‏]‏ وهو جبل مزدلفة الذي يسمي‏:‏ المشعر الحرام، وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن، فلم يزل واقفًا بالمسلمين إلى أن أسفر جدًا‏.‏
    ثم دفع بهم حتي قدم منى، فاستفتحها برمي جمرة العقبة، ثم رجع إلى منزله بمنى فحلق رأسه، ثم نحر ثلاثا وستين بدنة من الهدي الذي ساقه، وأمر عليًا فنحر الباقي، وكان مائة بدنة، ثم أفاض إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة، وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة، قبل طلوع الفجر، فرموا الجمرة بليل، ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة، غير مجموعة، يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس، يفتتح بالجمرة الأولي وهي الصغري، وهي الدنيا إلى منى، والقصوي من مكة ويختتم بجمرة العقبة، ويقف بين الجمرتين الأولي والثانية، وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر اللّه ويدعو فإن المواقف ثلاثة‏:‏ عرفة

    ج/ 26 ص -163-ومزدلفة، ومنى‏.‏
    ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات، هو والمسلمون فنزل بالْمُحَصَّب عند خيف بني كنانة، فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء‏.‏ وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم، وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة‏.‏ وقد بني بعده هناك مسجدا سماه الناس مسجد عائشة؛ لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي ﷺ من أصحابه أحد قط إلا عائشة؛ لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت‏.‏ وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، وقال لها النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏اقضي ما يقضي الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة‏"‏‏.‏
    ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة، ولم يقم بعد أيام التشريق، ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل إلا عائشة وحدها‏.‏
    فأخذ فقهاء الحديث؛ كأحمد وغيره، بسنته في ذلك كله، وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفي عليه

    ج/ 26 ص -164-فيه السنة‏.‏
    فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي ﷺ أصحابه، ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة، استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سفرة واحدة، وأحرم في أشهر الحج‏.‏ كما أمر به النبي ﷺ‏.‏ وعلموا أن من أفرد الحج، واعتمر عقبه من الحل وإن قالوا‏:‏ إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول اللّه ﷺ إلا عائشة، على قول من يقول‏:‏ إنها رفضت العمرة، وأحرمت بالحج، كما يقوله الكوفيون‏.‏ وأما على قول أكثر الفقهاء‏:‏ أنها صارت قارنة‏:‏ فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك‏.‏
    وكذلك علموا أن من لم يَسُقّ الهدي، وقَرَن بين النسكين لا يفعله‏.‏ وإن قال أكثرهم كأحمد وغيره ‏:‏ إنه جائز، فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي ﷺ إلا عائشة، على قول من قال‏:‏ إنها كانت قارنة‏.‏
    ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء، وعلماء؛ كأحمد وغيره أن النبي ﷺ نفسه لم يكن مفردا للحج، ولا كان متمتعا تمتعًا حل به من إحرامه‏.‏ ومن قال من أصحاب أحمد‏:‏ إنه تمتع،

    ج/ 26 ص -165-وحل من إحرامه فقد غلط، وكذلك من قال‏:‏ إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط‏.‏
    وأما من توهم من بعض الفقهاء‏:‏ أنه اعتمر بعد حجته، كما يفعله المختارون للإفراد إذا جمعوا بين النسكين فهذا لم يروه أحد، ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته ﷺ‏.‏ فإنه لا خلاف بينهم‏:‏ أنه ﷺ لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة؛ ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمساجد عائشة، حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هي ولا كان ﷺ أيضا قارنًا قرانًا طاف فيه طوافين وسعي سعيين‏.‏ فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة‏.‏
    فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد شيئا من هذه المقالات، فقد غلط‏.‏
    وسبب غلطه‏:‏ ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة النبي ﷺ‏.‏ فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد منهم‏:‏ عائشة، وابن عمر وغيرهما أنه ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج‏.‏ وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج‏.‏

    ج/ 26 ص -166-وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج، ثبت عنهم أنهم قالوا‏:‏ إنه تمتع بالعمرة إلى الحج‏.‏ وثبت عن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏لبيك عمرة وحجا‏"‏‏.‏وعن عمر‏:‏ أنه أخبر عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أتاني آت من ربي يعني بوادي العقيق وقال‏:‏ قل‏:‏ عمرة في حجة‏"‏، ولم يَحْكِ أحد لفظ النبي ﷺ الذي أحرم به إلا عمر وأنس؛ فلهذا قال الإمام أحمد‏:‏ لا أشك أن النبي ﷺ كان قارنا‏.‏
    وأما ألفاظ الصحابة، فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه، سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه‏.‏ فهذا التمتع العام يدخل فيه القِران؛ ولذلك وجب عليه الهدي عند عامة الفقهاء، إدخالا له في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏
    "فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏"‏[‏البقرة‏:‏196‏]‏ ، وإن كان اسم ‏[‏التمتع‏]‏ قد يختص بمن اعتمر، ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته‏.‏
    فمن قال منهم‏:‏ ‏[‏تمتع بالعمرة إلى الحج‏]‏ لم يرد أنه حل من إحرامه، ولكن أراد‏:‏ أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج، لكن لم يبين‏:‏ هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين،

    ج/ 26 ص -167-أو أحرم بالحج بعد ذلك‏؟‏ فإن كان قد أحرم قبل الطوافين، فهو قارن بلا تردد، وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت‏.‏ وبالجبلين، وهو لم يكن حل من إحرامه، فهذا يسمي متمتعا؛ لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج، ويسمي قارنا، لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة؛ ولهذا يسميه بعض أصحابنا‏:‏ ‏[‏متمتعا‏]‏ ، ويسميه بعضهم‏:‏ ‏[‏قارنا‏]‏ ويسميه بعضهم بالاسمين، وهو الأصوب‏.‏ وهذا في التمتع الخاص، فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد‏.‏
    ومع هذا، فالصواب ما قطع به أحمد من أنه ﷺ أحرم بالحج قبل الطواف؛ لقوله‏:‏ ‏"‏لبيك عمرة وحجا‏"‏‏.‏ ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه‏:‏ ‏
    "فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ؛ لأن العمرة دخلت في الحج، كما قاله النبي ﷺ
    وإذا كانت عمرة المتمتع جزءا من حجه، فالهدي المسوق لا ينحر حتي يقضي التَّفَث، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ ، وذلك إشارة إلى الهدي المسوق، فإنه نذر؛ ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره؛ لأن نحره إنما يكون عند بلوغه محله، وإنما يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله؛ لأنه تبع له، وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر؛ إذ قبل ذلك لا يحل مطلقًا؛ لأنه يجب عليه أن يحج، بخلاف من اعتمر عمرة مفردة، فإنه حل حلا مطلقًا‏.‏

    ج/ 26 ص -168-وأما ما تضمنته سنة رسول اللّه ﷺ من المقام بمنى يوم التروية، والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة، ثم المقام بعرنة التي بين المشعر الحرام وعرفة إلى الزوال، والذهاب منها إلى عرفة والخطبة، والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنة فهذا كالمجمع عليه بين الفقهاء، وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه، وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة‏.‏
    ومن سنة رسول اللّه ﷺ‏:‏ أنه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة، بين الظهر والعصر، وبمزدلفة بين المغرب والعشاء، وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها‏.‏ ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها، ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر، وأن ينفردوا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين‏.‏ فإن هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن، وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وعليه يدل كلام أحمد‏.‏
    وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي، وأحمد عن هذا، فطردوا قياسهم في الجمع، واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر، والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخًا، وحاضِروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد‏.‏

    ج/ 26 ص -169-وهذا ليس بحق، فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده، وقد أقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها، لا سيما ولم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا مرة واحدة، وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير، وإنما جمع لنحو الوقوف؛ لأجل ألا ي
    فصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها‏.‏ كما قال أحمد‏:‏ إنه يجوز الجمع لأجل ذلك من الشغل المانع من تفريق الصلوات‏.‏
    ومن اشترط في هذا الجمع السفر من أصحاب أحمد، فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشافعي‏.‏ فإن أحمد يجوز الجمع لأمور كثيرة غير السفر، حتي قال القاضي أبو يعلى وغيره تفسيرا لقول أحمد‏:‏ إنه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة ‏:‏ فالجمع ليس من خصائص السفر‏.‏ وهذا بخلاف القصر، فإنه لا يشرع إلا للمسافر‏.‏
    ولهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي وأحمد‏:‏ إن قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق لا يجوز إلا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم، طردا للقياس، واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف الجمع، حتي أمر أحمد وغيره‏:‏ أن الموسم لا يقيمه أمير مكة؛ لأجل قصر الصلاة‏.‏
    وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم منهم مالك، وطائفة

    ج/ 26 ص -170-من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي الخطاب في عباداته الخمس إلى أنه يقصر المكيون وغيرهم، وأن القصر هناك لأجل النسك‏.‏
    والحجة مع هؤلاء‏:‏ أنه لم يثبت أن النبي ﷺ أمر من صلى خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة، كما أمرهم أن يتموا لما كان يصلي بهم بمكة أيام فتح مكة، حين قال لهم‏:‏ ‏"‏أتموا صلاتكم، فإنا قوم سَفْر‏"‏‏.‏
    فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فأتموها أربعًا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعًا، ثم لما صلوا خلفه عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا، ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا‏.‏
    ومما قد يغلط فيه الناس‏:‏ اعتقاد بعضهم أنه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر، حتي قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه، أخذا فيها بالعمومات اللفظية، أو القياسية‏.‏ وهذه غفلة عن السنة ظاهرة‏.‏ فإن النبي ﷺ وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط‏.‏ وإنما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة‏.‏ فرمي جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم؛ ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بمنى؛ ولهذا خطب النبي ﷺ يوم النحر

    ج/ 26 ص -171-بعد الجمرة، كما كان يخطب في غير مكة بعد صلاة العيد، ورمي الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام‏.‏
    ومثل هذا ما قاله طائفة منهم ابن عقيل أنه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلي تحية المسجد، كسائر المساجد‏.‏ ثم يطوف طواف القدوم، أو نحوه‏.‏ وأما الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا‏.‏
    أما أولا‏:‏ فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبي ﷺ، وخلفائه‏.‏ فإنهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف، ثم الصلاة عقب الطواف‏.‏
    وأما ثانيًا‏:‏ فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف‏.‏ كما أن تحية المساجد هي الصلاة‏.‏
    وأشنع من هذا‏:‏ استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعي بين الصفا والمروة أن يصلي ركعتين بعد السعي على المروة، قياسًا على الصلاة بعد الطواف‏.‏ وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف، ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح‏.‏ فإن السنة مضت بأن النبي ﷺ وخلفاءه طافوا وصلوا، كما ذكر اللّه الطواف والصلاة‏.‏ ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي، فاستحباب

    ج/ 26 ص -172-الصلاة عقب السعي، كاستحبابها عند الجمرات، أو بالموقف بعرفات، أو جعل الفجر أربعا قياسا على الظهر‏.‏ والترك الراتب سنة، كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض، أو فوات شرط، أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ؛ كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد‏.‏ وتعلم العربية، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك ما يحتاج إليه في الدين، بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه ﷺ لفوات شرطه أو وجود مانع‏.‏
    فأما ما تركه من جنس العبادات، مع أنه لو كان مشروعا لفعله، أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده، والصحابة‏.‏ فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة، ويمتنع القياس في مثله، وإن جاز القياس في النوع الأول‏.‏ وهو مثل قياس ‏[‏صلاة العيدين، والاستسقاء، والكسوف‏]‏ على الصلوات الخمس، في أن يجعل لها أذانًا وإقامة، كما فعله بعض المراونية في العيدين‏.‏ وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت اللّه في الاستلام والتقبيل، ونحو ذلك من الأقيسة التي تشبه قياس الذين حكي اللّه عنهم أنهم قالوا‏:
    ‏ ‏ "إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ ‏.‏
    وأخذ فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وغيرهما مع فقهاء

    ج/ 26 ص -173-الكوفة ما عليه جمهور الصحابة والسلف بتلبية رسول اللّه ﷺ، فإنه قد ثبت عنه أنه لم يزل يلبي حتي رمي جمرة العقبة‏.‏
    وذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وأهل المدينة كمالك إلى أن التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف بعرفة؛ لأنها إجابة‏.‏ فتنقطع بالوصول إلى المقصد‏.‏ وسنة رسول اللّه ﷺ هي التي يجب اتباعها‏.‏
    وأما المعني‏:‏ فإن الواصل إلى عرفة وإن كان قد وصل إلى هذا الموقف فإنه قد دعي بعده إلى موقف آخر، وهو مزدلفة‏.‏ فإذا قضي الوقوف بمزدلفة، فقد دعي إلى الجمرة، فإذا شرع في الرمي فقد انقضي دعاؤه، ولم يبق مكان يدعي إليه محرما؛ لأن الحلق والذبح يفعله حيث أحب من الحرم، وطواف الإفاضة يكون بعد التحلل الأول‏.‏
    ولهذا قالوا أيضًا بما ثبت عن النبي ﷺ‏:‏ إنه يلبي بالعمرة إلى أن يستلم الحجر، وإن كان ابن عمر ومن اتبعه من أهل المدينة كمالك قالوا‏:‏ يلبي إلى أن يصل إلى الحرم، فإنه وإن وصل إليه فإنه مدعو إلى البيت‏.‏

    ج/ 26 ص -174-نعم، يستفاد من هذا المعني‏:‏ أنه إنما يلبي حال سيره، لا حال الوقوف بعرفة ومزدلفة وحال المبيت بها‏.‏ وهذا مما اختلف فيه أهل الحديث‏.‏
    فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، فاتفق من جمع الأحاديث الصحيحة عليه‏.‏
    واختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد الذي صاده الحلال، وذكاه، على ثلاثة أقوال‏:‏
    فقالت طائفة من السلف‏:‏ هو حرام، اتباعا لما فهموه من قوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَحُرِّمَ عليكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ ، ولما ثبت عن النبي ﷺ‏:‏ من أنه رد لحم الصيد لما أهدي إليه‏.‏
    وقال آخرون منهم أبو حنيفة‏:‏ بل هو مباح مطلقا، عملا بحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي، وأهدي لحمه للنبي ﷺ، وأخبره بأنه لم يصده له، كما جاء في الأحاديث الصحيحة‏.‏
    وقالت الطائفة الثالثة التي فيها فقهاء الحديث بل هو مباح للمحرم، إذا لم يصده له المحرم، ولا ذبحه من أجله؛ توفيقا بين الأحاديث، كما روي جابر عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏

    ج/ 26 ص -175-‏"‏لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم‏"‏‏.‏قال الشافعي‏:‏ هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقيس‏.‏ وهذا مذهب مالك، وأحمد، والشافعي، وغيرهم‏.‏
    وإنما اختلفوا إذا صيد لمحرم بعينه، فهل يباح لغيره من المحرمين‏؟‏ على قولين، هما وجهان في مذهب أحمد، رحمه اللّه تعالى‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML