ج/ 26 ص -98- منسك أبن تيمية
وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن شهاب الدين عبد الحليم ابن الإمام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن تيمية رضي الله عنه:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير من المسلمين أن أكتب في بيان مناسك الحج، ما يحتاج إليه غالب الحجاج في غالب الأوقات، فإني كنت قد كتبت منسكًا في أوائل عمري، فذكرت فيه أدعية كثيرة، وقلدت في الأحكام من اتبعته قبلي من العلماء، وكتبت في هذا ما تبين لي من سنة رسول الله ﷺ مختصرًا مبينًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ج/ 26 ص -99-فصل
أول ما يفعله قاصد الحج والعمرة إذا أراد الدخول فيهما: أن يحرم بذلك، وقبل ذلك فهو قاصد الحج أو العمرة، ولم يدخل فيهما بمنزلة الذي يخرج إلى صلاة الجمعة فله أجر السعي، ولا يدخل في الصلاة حتي يحرم بها.
وعليه إذا وصل إلى الميقات أن يحرم. والمواقيت خمسة: ذو الحليفة، والجُحْفة، وقَرْن المنازل، وَيلمْلَم، وذات عِرْق، ولما وقت النبي ﷺ المواقيت قال: "هن لأهلهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن، لمن يريد الحج والعمرة، ومن كان منزله دونهن فمهلُّه من أهله، حتي أهل مكة يهلون من مكة".
فذو الحليفة: هي أبعد المواقيت، بينها وبين مكة عشر مراحل، أو أقل أو أكثر بحسب اختلاف الطرق، فإن منها إلى مكة عدة طرق، وتسمي وادي العَقِيق، ومسجدها يسمي مسجد الشجرة، وفيها بئر، تسميها جهال العامة: [بئر علي] ؛ لظنهم أن عليا قاتل الجن بها، وهو كذب، فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلى أرفع
ج/ 26 ص -100-قدرًا من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذا البئر، ولا مذمة، ولا يستحب أن يرمي بها حجرًا ولا غيره.
وأما الجحفة: فبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وهي قرية كانت قديمة معمورة، وكانت تسمي مهيعة، وهي اليوم خراب؛ ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يسمي رابغًا، وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب: كأهل الشام ومصر، وسائر المغرب لكن إذا اجتازوا بالمدينة النبوية كما يفعلونه في هذه الأوقات أحرموا من ميقات أهل المدينة، فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق. فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع.
وأما المواقيت الثلاثة. فبين كل واحد منها وبين مكة نحو مرحلتين. وليس لأحد أن يجاوز الميقات إذا أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام. وإن قصد مكة للتجارة أو الزيارة فينبغي له أن يحرم، وفي الوجوب نزاع.
ومن وافي الميقات في أشهر الحج، فهو مخير بين ثلاثة أنواع: وهي التي يقال لها: التمتع، والإفراد، والقران، إن شاء أَهَلَّ بعمرة، فإذا حل منها أَهَلَّ بالحج، وهو يخص باسم التمتع، وإن شاء أحرم بهما جميعًا، أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف،
ج/ 26 ص -101-وهو القران، وهو داخل في اسم التمتع في الكتاب والسنة، وكلام الصحابة، وإن شاء أحرم بالحج مفردًا، وهو الإفراد.
فصل
في الأفضل من ذلك:
فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة، وللحج سفرة أخري، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج، ويعتمر ويقيم بها حتي يحج، فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة.
والإحرام بالحج قبل أشهره ليس مسنونًا، بل مكروه، وإذا فعله فهل يصير محرمًا بعمرة، أو بحج، فيه نزاع.
وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج وهن: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل، فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل
ج/ 26 ص -102-العلم بالحديث، أن النبي ﷺ لما حج حجة الوداع، هو وأصحابه، أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه حتي يبلغ الهدي محله يوم النحر، وكان النبي ﷺ قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه، وقَرَن هو بين العمرة والحج، فقال: "لبيك عمرة وحجًا".
ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي ﷺ إلا عائشة وحدها؛ لأنها كانت قد حاضت، فلم يمكنها الطواف؛ لأن النبي ﷺ قال: "تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت". فأمرها أن تهل بالحج، وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة، ثم إنها طلبت من النبي ﷺ أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فاعتمرت من التنعيم، والتنعيم هو أقرب الحل إلى مكة، وبه اليوم المساجد التي تسمي [مساجد عائشة] ، ولم تكن هذه على عهد النبي ﷺ، وإنما بنيت بعد ذلك علامة على المكان الذي أحرمت منه عائشة، وليس دخول هذه المساجد، ولا الصلاة فيها لمن اجتاز بها محرمًا لا فرضًا ولا سنة، بل قصد ذلك، واعتقاد أنه يستحب بدعة مكروهة، لكن من خرج من مكة ليعتمر، فإنه إذا دخل واحدًا منها وصلي فيه لأجل الإحرام،
ج/ 26 ص -103-فلا بأس بذلك.
ولم يكن على عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان ولا في غير رمضان، والذين حجوا مع النبي ﷺ ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة، إلا عائشة كما ذكر. ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين، والذين استحبوا الإفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج في سفرة، ويعتمر في أخري، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية، بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط، اللهم إلا أن يكون شيئًا نادرًا.
وقد تنازع السلف في هذا: هل يكون متمتعًا عليه دم؟ أم لا؟ وهل تجرئه هذه العمرة عن عمرة الإسلام؟ أم لا؟.
وقد اعتمر النبي ﷺ بعد هجرته أربع عمر:
عمرة الحديبية. وصل إلى الحديبية والحديبية وراء الجبل الذي بالتنعيم عند مساجد عائشة عن يمينك وأنت داخل إلى مكة فصده المشركون عن البيت فصالحهم، وحل من إحرامه، وانصرف. وعمرة القضية؛ اعتمر من العام القابل.
وعمرة الجعرانة؛ فإنه كان قد قاتل المشركين بحنين، وحنين من
ج/ 26 ص -104-ناحية المشرق من ناحية الطائف، وأما بدر فهي بين المدينة وبين مكة وبين الغزوتين ست سنين، ولكن قرنتا في الذكر؛ لأن الله تعالى أنزل فيهما الملائكة لنصر النبي ﷺ والمؤمنين في القتال، ثم ذهب فحاصر المشركين بالطائف، ثم رجع وقسم غنائم حنين بالجِعْرَانة، فلما قسم غنائم حنين اعتمر من الجعرانة داخلا إلى مكة لا خارجًا منها للإحرام.
والعمرة الرابعة مع حجته، فإنه قرن بين العمرة والحج باتفاق أهل المعرفة بسنته، وباتفاق الصحابة على ذلك، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تمتع تمتعًا حل فيه، بل كانوا يسمون القران تمتعًا، ولا نقل عن أحد من الصحابة أنه لما قرن طاف طوافين، وسعي سعيين.
وعامة المنقول عن الصحابة في صفة حجته ليست بمختلفة، وإنما اشتبهت على من لم يعرف مرادهم، وجميع الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج؛ كعائشة، وابن عمر، وجابر. قالوا: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج. فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة وابن عمر بإسناد أصح من إسناد الإفراد، ومرادهم بالتمتع القِران، كما ثبت ذلك في الصحاح أيضًا.
فإذا أراد الإحرام، فإن كان قارنًا قال: لبيك عمرة وحجًا. وإن كان متمتعًا قال: لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج. وإن كان مفردًا قال: لبيك حجة،
ج/ 26 ص -105- أو قال: اللهم إني أوجبت عمرة وحجًا، أو أوجبت عمرة أتمتع بها إلى الحج، أو أوجبت حجًا، أو أريد الحج، أو أريدهما، أو أريد التمتع بالعمرة إلى الحج، فمهما قال من ذلك أجزأه باتفاق الأئمة، ليس في ذلك عبارة مخصوصة، ولا يجب شيء من هذه العبارات، باتفاق الأئمة، كما لا يجب التلفظ بالنية في الطهارة، والصلاة، والصيام، باتفاق الأئمة، بل متي لبي قاصدًا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين، ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء.
ولكن تنازع العلماء: هل يستحب أن يتكلم بذلك؟ كما تنازعوا: هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة؟ والصواب المقطوع به: أنه لا يستحب شيء من ذلك، فإن النبي ﷺ لم يشرع للمسلمين شيئًا من ذلك، ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية، لا هو ولا أصحابه، بل لما أمر ضباعة بنت الزبير، بالاشتراط، قالت: فكيف أقول؟ قال: "قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني". رواه أهل السنن، وصححه الترمذي، ولفظ النسائي: إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال: "قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني، فإن لَكِ على ربك ما استثنيتِ" وحديث الاشتراط في الصحيحين.
لكن المقصود بهذا اللفظ أنه أمرها بالاشتراط في التلبية، ولم
ج/ 26 ص -106-يأمرها أن تقول قبل التلبية شيئًا، لا اشتراطًا ولا غيره، وكان يقول في تلبيته: "لبيك عمرة وحجا".وكان يقول للواحد من أصحابه: "بم أهللت؟". وقال في المواقيت: "مَهَلُّ أهل المدينة ذو الحُلَيفَة، ومهل أهل الشام الجُحْفَة، ومهل أهل اليمن يلَمْلَم، ومهل أهل نجد قرن المنازل، ومهل أهل العراق ذات عِرق، ومن كان دونهن فمهله من أهله"، والإهلال هو التلبية، فهذا هو الذي شرع النبي ﷺ للمسلمين التكلم به في ابتداء الحج والعمرة، وإن كان مشروعًا بعد ذلك كما تشرع تكبيرة الإحرام، ويشرع التكبير بعد ذلك عند تغير الأحوال.
ولو أحرم إحرامًا مطلقًا جاز، فلو أحرم بالقصد للحج من حيث الجملة، ولا يعرف هذا التفصيل جاز.
ولو أهل ولبي كما يفعل الناس قاصدًا للنسك، ولم يسم شيئًا بلفظه ولا قصد بقلبه لا تمتعًا ولا إفرادًا، ولا قرانا صح حجه أيضًا، وفعل واحدًا من الثلاثة: فإن فعل ما أمر به النبي ﷺ أصحابه كان حسنًا، وإن اشترط على ربه خوفًا من العارض، فقال: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، كان حسنًا، فإن النبي ﷺ أمر ابنة عمه ضباعة بنت الزبير ابن عبد المطلب أن تشترط على ربها، لما كانت شاكية، فخاف أن يصدها المرض عن البيت، ولم
ج/ 26 ص -107- يكن يأمر بذلك كل من حج.
وكذلك إن شاء المُحْرِم أن يتطيب في بدنه فهو حسن، ولا يؤمر المُحْرِم قبل الإحرام بذلك، فإن النبي ﷺ فعله، ولم يأمر به الناس، ولم يكن النبي ﷺ يأمر أحدًا بعبارة بعينها، وإنما يقال: أَهَلَ بالحج، أَهَلَ بالعمرة، أو يقال: لبي بالحج، لبي بالعمرة، وهو تأويل قوله تعالى: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ" [البقرة: 197] .
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "من حج هذا البيت، فلم يرْفُث، ولم يفْسُق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وهذا على قراءة من قرأ: [فلا رفثُ ولا فسوق] بالرفع، فالرفث: اسم للجماع قولا وعملا، والفسوق: اسم للمعاصي كلها، والجدال على هذه القراءة : هو المراء في أمر الحج. فإن الله قد أوضحه وبينه، وقطع المراء فيه، كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه وعلى القراءة الأخري قد يفسر بهذا المعني أيضًا، وقد فسروها بألا يماري الحاج أحدًا، والتفسير الأول أصح، فإن الله لم ينه المُحْرم ولا غيره عن الجدال مطلقًا، بل الجدال قد يكون واجبًا أو مستحبًا، كما قال تعالى: "وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [النحل: 125] ، وقد يكون الجدال محرمًا في الحج وغيره كالجدال بغير علم. وكالجدال في الحق بعد ما تبين.
ج/ 26 ص -108-ولفظ [الفسوق] يتناول ما حرمه الله تعالى، ولا يختص بالسباب وإن كان سباب المسلم فسوقًا، فالفسوق يعم هذا وغيره.
و[الرفث] هو الجماع، وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث، فلهذا ميز بينه وبين الفسوق.
وأما سائر المحظورات، كاللباس، والطيب، فإنه وإن كان يأثم بها، فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين.
وينبغي للمحرم ألا يتكلم إلا بما يعنيه، وكان شُرَيح إذا أحرم كأنه الحية الصماء، ولا يكون الرجل محرمًا بمجرد ما في قلبه من قصد الحج، ونيته، فإن القصد مازال في القلب منذ خرج من بلده، بل لابد من قول أو عمل يصير به محرمًا؛ هذا هو الصحيح من القولين. والتجرد من اللباس واجب في الإحرام، وليس شرطًا فيه، فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله ﷺ، وباتفاق أئمة أهل العلم، وعليه أن ينزع اللباس المحظور.
فصل
يستحب أن يحرم عقيب صلاة، إما فرض، وإما تطوع إن كان
ج/ 26 ص -109- وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلي فرضًا أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه، وهذا أرجح.
ويستحب أن يغتسل للإحرام، ولو كانت نفساء أو حائضًا، وإن احتاج إلى التنظيف: كتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك فعل ذلك. وهذا ليس من خصائص الإحرام، وكذلك لم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة، لكنه مشروع بحسب الحاجة، وهكذا يشرع لمصلي الجمعة والعيد على هذا الوجه.
ويستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين، فإن كانا أبيضين فهما أفضل، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة؛ من القطن والكتان، والصوف.
والسنة أن يحرم في إزار ورداء، سواء كانا مخيطين، أو غير مخيطين، باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما جاز، إذا كان مما يجوز لبسه، ويجوز أن يحرم في الأبيض، وغيره من الألوان الجائزة، وإن كان ملونًا.
والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسر، والنعل هي التي يقال لها: التاسومة، فإن لم يجد نعلين لبس خفين، وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين، فإن النبي ﷺ أمر بالقطع أولًا، ثم
ج/ 26 ص -110-رخص بعد ذلك في عرفات في لبس السراويل، لمن لم يجد إزارًا، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وإنما رخص في المقطوع أولا؛ لأنه يصير بالقطع كالنعلين.
ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين؛ مثل الخف المكعب، والجمجم، والمداس، ونحو ذلك، سواء كان واجدًا للنعلين، أو فاقدًا لهما. وإذا لم يجد نعلين، ولا ما يقوم مقامهما، مثل الجمجم، والمداس، ونحو ذلك. فله أن يلبس الخف، ولا يقطعه، وكذلك إذا لم يجد إزارًا فإنه يلبس السراويل، ولا يفتقه، هذا أصح قولي العلماء؛ لأن النبي ﷺ رخص في البدل في عرفات كما رواه ابن عمر.
وكذلك يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء، فله أن يلتحف بالقباء، والجبة، والقميص، ونحو ذلك، ويتغطي به باتفاق الأئمة عرضًا، ويلبسه مقلوبًا، يجعل أسفله أعلاه، ويتغطي باللحاف وغيره؛ ولكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة، والنبي ﷺ نهي المحرم أن يلبس القميص، والبرنس، والسراويل، والخف، والعمامة. ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت، وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه. فما كان من هذا الجنس فهو في معني ما نهي عنه النبي ﷺ، فما كان في معني القميص
ج/ 26 ص -111-فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص لا بكم، ولا بغير كم، وسواء أدخل فيه يديه، أو لم يدخلهما، وسواء كان سليمًا أو مخروقًا، وكذلك لا يلبس الجبة، ولا القباء الذي يدخل يديه فيه، وكذلك الدرع الذي يسمي: [عرق جين] ، وأمثال ذلك باتفاق الأئمة.
وأما إذا طرح القباء على كتفيه، من غير إدخال يديه، ففيه نزاع. وهذا معني قول الفقهاء: لا يلبس. والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو، وكذلك لا يلبس ما كان في معني الخف: كالموق، والجورب، ونحو ذلك.
ولا يلبس ما كان في معني السراويل، كالتبان، ونحوه، وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده، كالإزار، وهميان النفقة، والرداء لا يحتاج إلى عقده، فلا يعقده، فإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع، والأشبه جوازه حينئذ. وهل المنع من عقده منع كراهة أو تحريم، فيه نزاع، وليس على تحريم ذلك دليل، إلا ما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره عقد الرداء. وقد اختلف المتبعون لابن عمر، فمنهم من قال: هو كراهة تنزيه كأبي حنيفة، وغيره، ومنهم من قال: كراهة تحريم.
وأما الرأس فلا يغطيه لا بمخيط ولا غيره، فلا يغطيه بعمامة، ولا قلنسوة، ولا كوفية، ولا ثوب يلصق به، ولا غير ذلك . وله أن
ج/ 26 ص -112-يستظل تحت السقف، والشجر، ويستظل في الخيمة، ونحوه ذلك باتفاقهم. وأما الاستظلال بالمحمل؛ كالمحارة التي لها رأس في حال السير، فهذا فيه نزاع، والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له، كما كان النبي ﷺ وأصحابه يحجون، وقد رأي ابن عمر رجلا ظُلِلَ عليه فقال: أيها المُحْرم، أضح لمن أحرمت له. ولهذا كان السلف يكرهون الق
باب على المحامل، وهي المحامل التي لها رأس، وأما المحامل المكشوفة فلم يكرهها إلا لبعض النساك، وهذا في حق الرجل.
وأما المرأة فإنها عورة، فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التي تستتر بها، وتستظل بالمحمل، لكن نهاها النبي ﷺ أن تنتقب، أو تلبس القفازين، والقفازان: غلاف يصنع لليد، كما يفعله حملة البزاة، ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضًا. ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعود ولا بيد، ولا غير ذلك، فإن النبي ﷺ سوي بين وجهها ويديها، وكلاهما كبدن الرجل، لا كرأسه.
وأزواجه ﷺ كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي ﷺ أنه قال: [إحرام المرأة في وجهها] ، وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي ﷺ نهاها أن تنتقب، أو تلبس القفازين.
ج/ 26 ص -113-كما نهي المحرم أن يلبس القميص، والخف، مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه، باتفاق الأئمة، والبرقع أقوي من النقاب. فلهذا ينهي عنه باتفاقهم، ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه، كالبرقع ونحوه، فإنه كالنقاب. وليس للمحرم أن يلبس شيئًا مما نهى النبي ﷺ عنه إلا لحاجة، كما أنه ليس للصائم أن يفطر إلا لحاجة، والحاجة مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه، إذا لم يغط رأسه، أو مثل مرض نزل به يحتاج معه إلى تغطية رأسه، فيلبس قدر الحاجة، فإذا استغنى عنه نزع.
عليه أن يفتدي: إما بصيام ثلاثة أيام، وإما بنسك شاة، أو بإطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من تمر، أو شعير، أو مُدٍّ من بر، وإن أطعمه خبزًا جاز، ويكون رطلين، بالعراقي، قريبًا من نصف رطل بالدمشقي، وينبغي أن يكون مأدومًا، وإن أطعمه مما يؤكل؛ كالبقسماط، والرقاق، ونحو ذلك جاز، وهو أفضل من أن يعطيه قمحًا أو شعيرًا، وكذلك في سائر الكفارات، إذا أعطاه مما يقتات به مع أدمه، فهو أفضل من أن يعطيه حبًا مجردًا إذا لم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم، ويخبزوا بأيديهم، والواجب في ذلك كله ما ذكره الله تعالى بقوله: "إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ" الآية [المائدة: 89] ،
ج/ 26 ص -114-فأمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم.
وقد تنازع العلماء في ذلك، هل ذلك مقدر بالشرع، أو يرجع فيه إلى العرف، وكذلك تنازعوا في النفقة؛ نفقة الزوجة. والراجح في هذا كله أن يرجع فيه إلى العرف، فيطعم كل قوم مما يطعمون أهليهم، ولما كان كعب بن عُجْرَة ونحوه يقتاتون التمر، أمره النبي ﷺ أن يطعم فرقًا من التمر بين ستة مساكين، والفرق ستة عشر رطلا بالبغدادي.
وهذه الفدية يجوز أن يخرجها إذا احتاج إلى فعل المحظور قبله وبعده، ويجوز أن يذبح النسك قبل أن يصل إلى مكة ويصوم الأيام الثلاثة متتابعة إن شاء، ومتفرقة إن شاء. فإن كان له عذر أخر فعلها، وإلا عجل فعلها.
وإذا لبس، ثم لبس مرارًا، ولم يكن أدي الفدية أجزأته فدية واحدة في أظهر قولي العلماء.
فصل
فإذا أحرم لبي بتلبية رسول الله ﷺ: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا
ج/ 26 ص -115-شريك لك". وإن زاد على ذلك: لبيك ذا المعارج، أو لبيك وسعديك، ونحو ذلك، جاز كما كان الصحابة يزيدون، ورسول الله ﷺ يسمعهم، فلم ينههم، وكان هو يداوم على تلبيته، ويلبي من حين يحرم، سواء ركب دابة، أو لم يركبها، وإن أحرم بعد ذلك جاز.
والتلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه، حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم ﷺ، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته. والمعني: إنا مجيبوك لدعوتك؛ مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك، والتلبية شعار الحج، فأفضل الحج العَجُّ والثَجُّ، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دماء الهدي.
ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجل، بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها، ويستحب الإكثار منها عند اختلاف الأحوال، مثل أدبار الصلوات، ومثل ما إذا صعد نشزًا، أو هبط واديًا، أو سمع ملبيًا أو أقبل الليل، والنهار، أو التقت الرفاق، وكذلك إذا فعل ما نهى عنه، وقد روي أنه من لبي حتى تغرب الشمس، فقد أمسي مغفورًا له.
وإن دعا عقيب التلبية، وصلي على النبي ﷺ،
ج/ 26 ص -116-وسأل الله رضوانه، والجنة، واستعاذ برحمته من سخطه، والنار، فحسن.
فصل
ومما ينهى عنه المحرم: أن يتطيب بعد الإحرام في بدنه أو ثيابه أو يتعمد لشم الطيب، وأما الدهن في رأسه، أو بدنه، بالزيت والسمن، ونحوه إذا لم يكن فيه طيب، ففيه نزاع مشهور، وتركه أولى.
ولا يقلم أظفاره، ولا يقطع شعره. وله أن يحك بدنه إذا حكه، ويحتجم في رأسه، وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلق شعرًا لذلك جاز، فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ احتجم في وسط رأسه، وهو محرم. ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر.
وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره وإن تيقن أنه انقطع بالغسل، ويفتصد إذا احتاج إلى ذلك، وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق، وكذلك لغير الجنابة، ولا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب، ولا يصطاد صيدًا بريًا، ولا يتملكه بشراء، ولا اتهاب، ولا غير ذلك، ولا يعين على صيد ولا يذبح صيدًا، فأما صيد البحر كالسمك ونحوه، فله أن يصطاده، ويأكله.
وله أن يقطع الشجر، لكن نفس الحرم لا يقطع شيئًا من
ج/ 26 ص -117- شجره، وإن كان غير محرم، ولا من نباته المباح، إلا الإذْخِر، وأمَّا ما غرس الناس، أو زرعوه، فهو لهم، وكذلك ما يبس من النبات، يجوز أخذه، ولا يصطاد به صيدًا، وإن كان من الماء كالسمك على الصحيح، بل ولا ينفر صيده؛ مثل أن يقيمه ليقعد مكانه.
وكذلك حرم مدينة رسول الله ﷺ، وهو ما بين لابيتها و[اللابة] هي الحرة، وهي الأرض التي فيها حجارة سود، وهو بريد في بريد. والبريد: أربعة فراسخ، وهو من عير إلى ثور، وعير: هو جبل عند الميقات يشبه العير، وهو الحمار، وثور: هو جبل من ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة؛ فهذا الحرم - أيضًا - لا يصاد صيده ولا يقطع شجره، إلا لحاجة كآلة الركوب، والحرث، ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف، فإن النبي ﷺ رخص لأهل المدينة في هذا لحاجتهم إلى ذلك؛ إذ ليس حولهم ما يستغنون به عنه، بخلاف الحرم المكي. وإذا أدخل عليه صيد لم يكن عليه إرساله.
وليس في الدينا حرم لا بيت المقدس، ولا غيره، إلا هذان الحرمان، ولا يسمي غيرهما حرمًا كما يسمي الجهال. فيقولون: حرم المقدس، وحرم الخليل. فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه حرم مكة. وأما المدينة فلها حرم - أيضًا - عند الجمهور، كما استفاضت
ج/ 26 ص -118- بذلك الأحاديث عن النبي ﷺ، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في [وج] وهو واد بالطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم.
وللمحرم أن يقتل ما يؤذي بعادته الناس؛ كالحية، والعقرب، والفأرة، والغراب، والكلب العقور، وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين، والبهائم، حتى لو صال عليه أحد، ولم يندفع إلا بالقتال قَاتَلَهُ، فإن النبي ﷺ قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد".
وإذا قرصته البراغيث والقمل فله إلقاؤها عنه، وله قتلها، ولا شيء عليه، وإلقاؤها أهون من قتلها، وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله، وإن كان في نفسه محرمًا كالأسد، والفهد، فإذا قتله فلا جزاء عليه، في أظهر قولي العلماء، وأما التفلي بدون التأذي فهو من الترفه فلا يفعله، ولو فعله فلا شيء عليه.
ويحرم على المحرم الوطء، ومقدماته، ولا يطأ شيئًا سواء كان امرأة ولا غير امرأة، ولا يتمتع بقبلة، ولا مس بيد ولا نظر بشهوة.
فإن جامع فسد حجه، وفي الإنزال بغير جماع نزاع، ولا يفسد
ج/ 26 ص -119-الحج بشيء من المحظورات إلا بهذا الجنس، فإن قَبَّل بشهوة أو أمذي لشهوة فعليه دم.
فصل
إذا أتي مكة جاز أن يدخل مكة والمسجد من جميع الجوانب، لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة اقتداء بالنبي ﷺ، فإنه دخلها من وجهها من الناحية العليا التي فيها اليوم
باب المعلاة.
ولم يكن على عهد النبي ﷺ لمكة ولا للمدينة سور، ولا أبواب مبنية، ولكن دخلها من الثنية العليا ثنية كَداء بالفتح والمد المشرفة على المقبرة، ودخل المسجد من الباب الأعظم الذي يقال له: باب بني شيبة، ثم ذهب إلى الحجر الأسود، فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود لمن دخل من باب المعلاة.
ولم يكن قديمًا بمكة بناء يعلو على البيت، ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر الحرام بناء، ولا كان بمني ولا بعرفات مسجد، ولا عند الجمرات مساجد، بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد الدولة الأموية، ومنها ما أحدث بعد ذلك، فكان البيت يري قبل دخول المسجد.
ج/ 26 ص -120-وقد ذكر ابن جرير أن النبي ﷺ كان إذا رأي البيت رفع يديه وقال: "اللهم زد هذا البيت تشريفًا، وتعظيمًا، وتكريمًا، ومهابة وبرًا، وزد من شرفه وكرمه، ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتعظيمًا". فمن رأي البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤية البيت، ولو كان بعد دخول المسجد.
لكن النبي ﷺ بعد أن دخل المسجد ابتدأ بالطواف ولم يصل قبل ذلك تحية المسجد، ولا غير ذلك، بل تحية المسجد الحرام هو الطواف بالبيت، وكان ﷺ يغتسل لدخول مكة، كما يبيت بذي طُوَي، وهو عند الآبار التي يقال لها: آبار الزاهر. فمن تيسر له المبيت بها، والاغتسال، ودخول مكة نهارًا وإلا فليس عليه شيء من ذلك.
وإذا دخل المسجد بدأ بالطواف، فيبتدئ من الحجر الأسود يستقبله استقبالا، ويستلمه، ويقبله إن أمكن، ولا يؤذي أحدًا بالمزاحمة عليه، فإن لم يمكن استلمه، وقبل يده، وإلا أشار إليه، ثم ينتقل للطواف، ويجعل البيت عن يساره، وليس عليه أن يذهب إلى ما بين الركنين، ولا يمشي عرضًا، ثم ينتقل للطواف، بل ولا يستحب ذلك.
ويقول إذا استلمه: بسم الله، والله أكبر، وإن شاء قال:
ج/ 26 ص -121-اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد ﷺ. ويجعل البيت عن يساره، فيطوف سبعًا، ولا يخترق الحجر في طوافه، لما كان أكثر الحجر من البيت، والله أمر بالطواف به، لا بالطواف فيه.
ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين، دون الشاميين، فإن النبي ﷺ إنما استلمهما خاصة، لأنهما على قواعد إبراهيم، والآخران هما في داخل البيت. فالركن الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم ولا يقبل، والآخران لا يستلمان ولا يقبلان. والاستلام هو مسحه باليد. وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وسائر ما في الأرض من المساجد، وحيطانها، ومقابر الأنبياء، والصالحين، كحجرة نبينا ﷺ، ومغارة إبراهيم، ومقام نبينا ﷺ الذي كان يصلي فيه، وغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس، فلا تستلم، ولا تقبل، باتفاق الأئمة.
وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه، دينًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولو وضع يده على الشاذروان الذي يربط فيه أستار الكعبة لم يضره ذلك، في أصح قولي العلماء، وليس الشاذروان من البيت، بل جعل عمادًا للبيت.
ويستحب له في الطواف الأول أن يرمل من الحَجَر إلى الحَجَر،
ج/ 26 ص -122- في الأطواف الثلاثة، والرمل مثل الهرولة، وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطا، فإن لم يكن الرمل للزحمة كان خروجه إلى حاشية المطاف، والرمل أفضل من قربه إلى البيت بدون الرمل. وأما إذا أمكن القرب من البيت مع إكمال السنة فهو أولى.
ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم، وما وراءها من السقائف المتصلة بحيطان المسجد.
ولو صلى المصلي في المسجد والناس يطوفون أمامه لم يكره، سواء مر أمامه رجل، أو امرأة، وهذا من خصائص مكة.
وكذلك يستحب أن يضطبع في هذا الطواف، والاضطباع: هو أن يبدي ضبعه الأيمن، فيضع وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، وإن ترك الرمل والاضطباع فلا شيء عليه.
ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى، ويدعوه بما يشرع، وإن قرأ القرآن سرًا فلا بأس، وليس فيه ذكر محدود عن النبي ﷺ، لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب، ونحو ذلك فلا أصل له. وكان النبي ﷺ يختم طوافه بين الركنين بقوله: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [البقرة: 201] ،
ج/ 26 ص -123-كما كان يختم سائر دعائه بذلك، وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة، والطواف بالبيت كالصلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير.
ولهذا يؤمر الطائف أن يكون متطهرًا الطهارتين الصغري والكبري ويكون مستور العورة، مجتنب النجاسة التي يجتنبها المصلي والطائف طاهرًا، لكن في وجوب الطهارة في الطواف نزاع بين العلماء، فإنه لم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهى المحدث أن يطوف، ولكنه طاف طاهرًا، لكنه ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف. وقد قال النبي ﷺ: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". فالصلاة التي أوجب لها الطهارة ما كان يفتتح بالتكبير، ويختم بالتسليم، كالصلاة التي فيها ركوع وسجود، كصلاة الجنازة، وسجدتي السهو، وأما الطواف، وسجود التلاوة فليسا من هذا.
والاعتكاف يشترط له المسجد، ولا يشترط له الطهارة بالاتفاق، والمعتكفة الحائض تنهى عن اللبث في المسجد مع الحيض، وإن كانت تلبث في المسجد وهي محدثة.
قال أحمد بن حنبل في [مناسك الحج] لابنه عبد الله: حدثنا
ج/ 26 ص -124-سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة، عن حماد، ومنصور قال: سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ. فلم يريا به بأسًا. قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك، فقال: أحب إلى ألا يطوف بالبيت وهو غير متوضئ؛ لأن الطواف بالبيت صلاة. وقد اختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الطهارة فيه، ووجوبها، كما هو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، لكن لا يختلف مذهب أبي حنيفة أنها ليست بشرط.
ومن طاف في جورب ونحوه؛ لئلا يطأ نجاسة من ذرق الحمام، أو غطي يديه لئلا يمس امرأة، ونحو ذلك، فقد خالف السنة، فإن النبي ﷺ وأصحابه والتابعين مازالوا يطوفون بالبيت وما زال الحمام بمكة، لكن الاحتياط حسن، ما لم يخالف السنة المعلومة فإذا أفضي إلى ذلك كان خطأ.
واعلم أن القول الذي يتضمن مخالفة السنة خطأ، كمن يخلع نعليه في الصلاة المكتوبة، أو صلاة الجنازة خوفًا من أن يكون فيهما نجاسة، فإن هذا خطأ مخالف للسنة. فإن النبي ﷺ كان يصلي في نعليه، وقال: "إن إليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم" ، وقال: "إذا أتي المسجد أحدكم فينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذي فليدلكهما في التراب، فإن التراب لهما طهور".
وكما يجوز أن يصلي في نعليه، فكذلك يجوز أن يطوف في نعليه،
ج/ 26 ص -125-وإن لم يمكنه الطواف ماشيا فطاف راكبًا. أو محمولا أجزأه بالاتفاق، وكذلك ما يعجز عنه من واجبات الطواف، مثل من كان به نجاسة لا يمكنه إزالتها كالمستحاضة، ومن به سلس البول، فإنه يطوف ولا شيء عليه باتفاق الأئمة. وكذلك لو لم يمكنه الطواف إلا عريانا فطاف بالليل، كما لو لم يمكنه الصلاة إلا عريانا.
وكذلك المرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضًا، بحيث لا يمكنها التأخر
بمكة، ففي أحد قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف: إذا طافت الحائض أو الجنب أو المحدث أو حامل النجاسة مطلقًا، أجزأه الطواف، وعليه دم؛ إما شاة، وإما بدنة مع الحيض والجنابة، وشاة مع الحدث الأصغر.
ومنع الحائض من الطواف قد يعلل بأنه يشبه الصلاة،وقد يعلل بأنها ممنوعة من المسجد، كما تمنع منه بالاعتكاف، وكما قال عز وجل لإبراهيم عليه والسلام: "أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" [البقرة: 125] ، فأمره بتطهيره لهذه العبادات، فمنعت الحائض من دخوله،وقد اتفق العلماء على أنه لا يجب للطواف ما يجب للصلاة من تحريم وتحليل وقراءة، وغير ذلك، ولا يبطله ما يبطلها من الأكل والشرب والكلام، وغير ذلك.
ولهذا كان مقتضي تعليل من منع الحائض لحرمة المسجد، أنه
ج/ 26 ص -126-لا يري الطهارة شرطا، بل مقتضي قوله أنه يجوز لها ذلك عند الحاجة كما يجوز لها دخول المسجد عند الحاجة، وقد أمر الله تعالى بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود. والعاكف فيه لا يشترط له الطهارة ولا تجب عليه الطهارة من الحدث الأصغر، باتفاق المسلمين، ولو اضطرت العاكفة الحائض إلى لبثها فيه للحاجة جاز ذلك. وأما "وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" فهم المصلون، والطهارة شرط للصلاة باتفاق المسلمين، والحائض لا تصلي، لا قضاءً ولا أداءً.
يبقي الطائف،هل يلحق بالعاكف،أو بالمصلي،أو يكون قسما ثالثا بينها؟هذا محل اجتهاد.
وقوله: "الطواف بالبيت صلاة" لم يثبت عن النبي ﷺ، ولكن هو ثابت عن ابن عباس، وقد روي مرفوعًا، ونقل بعض الفقهاء عن ابن عباس أنه قال: "إذا طاف بالبيت وهو جنب عليه دم". ولا ريب أن المراد بذلك أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه، ليس المراد أنه نوع من الصلاة التي يشترط لها الطهارة. وهكذا قوله: "إذا أتي أحدكم المسجد فلا يشبك بين أصابعه، فإنه في صلاة" ، وقوله: "إن العبد في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وما دام ينتظر الصلاة، وما كان يعمد إلى الصلاة" ونحو ذلك.
فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا أمكنها ذلك باتفاق
ج/ 26 ص -127-العلماء، ولو قدمت المرأة حائضًا لم تطف بالبيت، لكن تقف بعرفة، وتفعل سائر المناسك كلها مع الحيض، إلا الطواف، فإنها تنتظر حتي تطهر إن أمكنها ذلك، ثم تطوف، وإن اضطرت إلى الطواف فطافت أجزأها ذلك، على الصحيح من قولي العلماء.
فإذا قضي الطواف صلى ركعتين للطواف، وإن صلاهما عند مقام إبراهيم فهو أحسن، ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" و "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، ثم إذا صلاهما استحب له أن يستلم الحجر، ثم يخرج إلى الطواف بين الصفا والمروة. ولو أخر ذلك إلى بعد طواف الإفاضة جاز.
فإن الحج فيه ثلاثة أطوفة: طواف عند الدخول، وهو يسمي: طواف القدوم، والدخول، والورود. والطواف الثاني: هو بعد التعريف، ويقال له: طواف الإفاضة، والزيارة. وهو طواف الفرض الذي لابد منه، كما قال تعالي: "ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ" [الحج: 29] . والطواف الثالث: هو لمن أراد الخروج من مكة، وهو طواف الوداع.
وإذا سعي عقيب واحد منها أجزأه، فإذا خرج للسعي خرج من باب الصفا. وكان النبي ﷺ يرقي على الصفا والمروة، وهما في جانب
ج/ 26 ص -128-جبلي مكة، فيكبر ويهلل، يدعو الله تعالي، واليوم قد بني فوقهما دكتان، فمن وصل إلى أسفل البناء أجزأه السعي، وإن لم يصعد فوق البناء، فيطوف بالصفا والمروة سبعًا يبتدئ بالصفا ويختم بالمروة، ويستحب أن يسعي في بطن الوادي من العلم إلى العلم، وهما معلمان هناك. وإن لم يسْعَ في بطن الوادي، بل مشي على هيئته جميع ما بين الصفا والمروة، أجزأه باتفاق العلماء، ولا شيء عليه.
ولا صلاة عقيب الطواف بالصفا والمروة، وإنما الصلاة عقيب الطواف بالبيت بسنة رسول الله ﷺ، واتفاق السلف والأئمة.
فإذا طاف بين الصفا والمروة حل من إحرامه، كما أمر النبي ﷺ أصحابه لما طافوا بهما أن يحلوا، إلا من كان معه هدي فلا يحل حتي ينحره، والمفرد والقارن لا يحلان إلا يوم النحر، ويستحب له أن يقصر من شعره ليدع الحلاق للحج، وكذلك أمرهم النبي ﷺ. وإذا أحل حل له ما حرم عليه بالإحرام.
فصل
فإذا كان يوم التروية، أحرم وأهل بالحج، فيفعل كما فعل عند
ج/ 26 ص -129- الميقات، وإن شاء أحرم من مكة، وإن شاء من خارج مكة، هذا هو الصواب. وأصحاب النبي ﷺ إنما أحرموا كما أمرهم النبي ﷺ من البطحاء، والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه، وكذلك المكي يحرم من أهله، كما قال النبي ﷺ: "من كان منزله دون مكة فمهلُّه من أهله، حتي أهل مكة يهلون من مكة".
والسنة أن يبيت الحاج بمني؛ فيصلون بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر، ولا يخرجون منها حتي تطلع الشمس، كما فعل النبي ﷺ .
وأما الإيقاد فهو بدعة مكروهة باتفاق العلماء. وإنما الإيقاد بمزدلفة خاصة بعد الرجوع من عرفة، وأما الإيقاد بمني أو عرفة فبدعة أيضًا.
ويسيرون منها إلى نمرة على طريق ضب، من يمين الطريق، و[نمرة] كانت قرية خارجة عن عرفات من جهة اليمين، فيقيمون بها إلى الزوال، كما فعل النبي ﷺ، ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي، وهو موضع النبي ﷺ؛ الذي صلى فيه الظهر والعصر، وخطب، وهو في حدود عرفة ببطن عرنة. وهناك مسجد يقال له: مسجد إبراهيم، وإنما بني في أول دولة
ج/ 26 ص -130- بني العباس.
فيصلي هناك الظهر والعصر قصرًا، كما فعل النبي ﷺ ، ويصلي خلفه جميع الحاج: أهل مكة وغيرهم قصرًا وجمعا، يخطب بهم الإمام كما خطب النبي ﷺ على بعيره، ثم إذا قضي الخطبة أذن المؤذن وأقام، ثم يصلي كما جاءت بذلك السنة، ويصلي بعرفة ومزدلفة ومني قصرًا، ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة.
وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومني، كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي ﷺ بعرفة ومزدلفة ومني، وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي ﷺ ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومني أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر، ومن حكي ذلك عنهم فقد أخطأ، ولكن المنقول عن النبي ﷺ أنه قال ذلك في غزوة الفتح، لما صلى بهم بمكة.
وأما في حجه، فإنه لم ينزل بمكة، ولكن كان نازلا خارج مكة، وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى مني وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمني أيام مني صلوا معه، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ولم يحد النبي
ج/ 26 ص -131- ﷺ السفر لا بمسافة، ولا بزمان، ولم يكن بمني أحد ساكنًا في زمنه؛ ولهذا قال: "مني مناخ من سبق"، ولكن قيل: إنها سكنت في خلافة عثمان، وأنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة ؛ لأنه كان يري أن المسافر من يحمل الزاد والمزاد.
ثم بعد ذلك يذهب إلى عرفات. فهذه السنة ، لكن في هذه الأوقات لا يكاد يذهب أحد إلى نمرة. ولا إلى مصلي النبي ﷺ، بل يدخلون عرفات بطريق المأزمين، ويدخلونها قبل الزوال، ومنهم من يدخلها ليلا، ويبيتون بها قبل التعريف، وهذا الذي يفعله الناس كله يجزي معه الحج، لكن فيه نقص عن السنة، فيفعل ما يمكن من السنة مثل الجمع بين الصلاتين، فيؤذن أذانا واحدًا ويقيم لكل صلاة، والإيقاد بعرفة بدعة مكروهة، وكذلك الإيقاد بمني بدعة، باتفاق العلماء، وإنما يكون الإيقاد بمزدلفة خاصة في الرجوع.
ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس، ولا يخرجون منها حتي تغرب الشمس، وإذا غربت الشمس يخرجون إن شاؤوا بين العلمين، وإن شاؤوا من جانبيهما. والعلمان الأولان حد عرفة، فلا يجاوزونهما حتي تغرب الشمس، والميلان بعد ذلك حد مزدلفة، وما بينهما بطن عرفة.
ويجتهد في الذكر والدعاء هذه العشية، فإنه ما رؤي إبليس في
ج/ 26 ص -132- يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحض من عشية عرفة،لما يري من تنزيل الرحمة، وتجاوز الله سبحانه عن الذنوب العظام، إلا ما رؤي يوم بدر، فإنه رأي جبريل يزع الملائكة.
ويصح وقوف الحائض، وغير الحائض.
ويجوز الوقوف ماشيا، وراكبًا. وأما الأفضل فيختلف باختلاف الناس، فإن كان ممن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه، أو كان يشق عليه ترك الركوب وقف راكبًا، فإن النبي ﷺ وقف راكبًا.
وهكذا الحج، فإن من الناس من يكون حجه راكبًا أفضل، ومنهم من يكون حجه ماشيا أفضل، ولم يعين النبي ﷺ لعرفة دعاء، ولا ذكرًا، بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية، وكذلك يكبر ويهلل ويذكر الله تعالى حتي تغرب الشمس.
والاغتسال لعرفة قد روي في حديث عن النبي ﷺ، وروي عن ابن عمر، وغيره، ولم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة. وما سوي ذلك كالغسل لرمي الجمار، وللطواف،والمبيت بمزدلفة فلا أصل له، لا عن النبي
ج/ 26 ص -133- ﷺ ، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة؛ لا مالك، ولا أبوحنيفة، ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه، بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب، مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها، فيغتسل لإزالتها.
وعرفة كلها موقف، ولا يقف ببطن عرنة، وأما صعود الجبل الذي هناك فليس من السنة، ويسمي جبل الرحمة، ويقال له إلال على وزن هلال، وكذلك القبة التي فوقه التي يقال: لها قبة آدم، لا يستحب دخولها، ولا الصلاة فيها. والطواف بها من الكبائر، وكذلك المساجد التي عند الجمرات لا يستحب دخول شيء منها، ولا الصلاة فيها. وأما الطواف بها أو بالصخرة، أو بحجرة النبي ﷺ، وما كان غير البيت العتيق، فهو من أعظم البدع المحرمة.
فصل
فإذا أفاض من عرفات ذهب إلى المشعر الحرام على طريق المأزمين وهو طريق الناس اليوم، وإنما قال الفقهاء: على طريق المأزمين؛ لأنه إلى عرفة طريق أخرى تسمي طريق ضب، ومنها دخل النبي
ج/ 26 ص -134-ﷺ إلى عرفات، وخرج على طريق المأزمين.
وكان ﷺ في المناسك والأعياد يذهب من طريق ويرجع من أخري، فدخل من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلي. ودخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج بعد الوداع من
باب جزورة اليوم. ودخل إلى عرفات من طريق ضب، وخرج من طريق المأزمين وأتي إلى جمرة العقبة يوم العيد من الطريق الوسطي التي يخرج منها إلى خارج مني، ثم يعطف على يساره إلى الجمرة،ثم لما رجع إلى موضعه بمني الذي نحر فيه هديه، وحلق رأسه، رجع من الطريق المتقدمة التي يسير منها جمهور الناس اليوم.
فيؤخر المغرب إلى أن يصليها مع العشاء بمزدلفة، ولا يزاحم الناس، بل إن وجد خلوة أسرع، فإذا وصل إلى المزدلفة صلى المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن، ثم إذا بركوها صلوا العشاء، وإن أخر العشاء لم يضر ذلك، ويبيت بمزدلفة، ومزدلفة كلها يقال لها: المشعر الحرام، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر.
فإن بين كل مشعرين حدًا ليس منهما، فإن بين عرفة ومزدلفة بطن عرنة، وبين مزدلفة ومني بطن محسر. قال النبي ﷺ: "عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، ومزدلفة كلها
ج/ 26 ص -135-موقف، وارفعوا عن بطن محسر، ومني كلها منحر، وفجاج مكة كلها طريق".
والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فيصلي بها الفجر في أول الوقت، ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جدًا قبل طلوع الشمس، فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى مني إذا غاب القمر، ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتي يطلع الفجر، فيصلوا بها الفجر، ويقفوا بها، ومزدلفة كلها موقف، لكن الوقوف عند قزح أفضل، وهو جبل الميقدة، وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم. وقد بني عليه بناء، وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام.
فإذا كان قبل طلوع الشمس أفاض من مزدلفة إلى مني ، فإذا أتي محسرًا أسرع قدر رمية بحجر، فإذا أتي مني رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ويرفع يده في الرمي، وهي الجمرة التي هي آخر الجمرات من ناحية مني، وأقربهن من مكة، وهي الجمرة الكبري، ولا يرمي يوم النحر غيرها ، يرميها مستقبلا لها يجعل البيت عن يساره، ومني عن يمينه، هذا هو الذي صح عن النبي ﷺ فيها، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال مع ذلك: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيا مشكورا، وذنبًا مغفورا، ويرفع يديه
ج/ 26 ص -136-في الرمي.
ولا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر، مثل ذهابه إلى عرفات، وذهابه من عرفات إلى مزدلفة، حتي يرمي جمرة العقبة، فإذا شرع في الرمي قطع التلبية، فإنه حينئذ يشرع في التحلل.
والعلماء في التلبية على ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يقطعها إذا وصل إلى عرفة. ومنهم من يقول: بل يلبي بعرفة وغيرها إلى أن يرمي الجمرة. والقول الثالث: أنه إذا أفاض من عرفة إلى مزدلفة لبي، وإذا أفاض من مزدلفة إلى مني لبي حتي يرمي جمرة العقبة، وهكذا صح عن النبي ﷺ.
فصل
وأما التلبية في وقوفه بعرفة، ومزدلفة، فلم ينقل عن النبي ﷺ، وقد نقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم كانوا يلبون بعرفة، فإذا رمي جمرة العقبة نحر هديه إن كان معه هدي، ويستحب أن تنحر الإبل مستقبلة القبلة، قائمة، معقولة اليد اليسري، والبقر والغنم يضجعها على شقها الأيسر، مستقبلا بها القبلة، ويقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم منك ولك، اللهم تقبل مني، كما تقبلت من
ج/ 26 ص -137-إبراهيم خليلك.
وكل ما ذبح بمني، وقد سيق من الحل إلى الحرم فإنه هدي، سواء كان من الإبل ، أو البقر أو الغنم، ويسمي أيضا أضحية، بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل، فإنه أضحية، وليس بهدي. وليس بمني ما هو أضحية وليس بهدي، كما في سائر الأمصار. فإذا اشتري الهدي من عرفات وساقه إلى مني فهو هدي باتفاق العلماء، وكذلك إن اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم، وأما إذا اشتري الهدي من مني وذبحه فيها، ففيه نزاع؛ فمذهب مالك أنه ليس بهدي، وهو منقول عن ابن عمر، ومذهب الثلاثة أنه هدي، وهو منقول عن عائشة.
وله أن يأخذ الحصي من حيث شاء، لكن لا يرمي بحصي قد رمي به، ويستحب أن يكون فوق الحمص، ودون البندق، وإن كسره جاز. والتقاط الحصي أفضل من تكسيره من الجبل.
ثم يحلق رأسه، أو يقصره، والحلق أفضل من التقصير، وإذا قصره جمع الشعر وقص منه بقدر الأنملة، أو أقل، أو أكثر، والمرأة لا تقص أكثر من ذلك. وأما الرجل فله أن يقصر ما شاء.
وإذا فعل ذلك فقد تحلل باتفاق المسلمين التحلل الأول، فيلبس الثياب، ويقلم أظفاره، وكذلك له على الصحيح أن يتطيب ، ويتزوج، وأن
ج/ 26 ص -138-يصطاد، ولا يبقي عليه من المحظورات إلا النساء.
وبعد ذلك يدخل مكة فيطوف طواف الإفاضة، إن أمكنه ذلك يوم النحر وإلا فعله بعد ذلك، لكن ينبغي أن يكون في أيام التشريق، فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع. ثم يسعي بعد ذلك سعي الحج، وليس على المُفْرِد إلا سعي واحد، وكذلك القارن عند جمهور العلماء، وكذلك المتمتع في أصح أقوالهم، وهو أصح الروايتين عند أحمد، وليس عليه إلا سعي واحد، فإنه الصحابة الذين تمتعوا مع النبي ﷺ لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف.
فإذا اكتفي المتمتع بالسعي الأول أجزأه ذلك، كما يجزئ المفرد، والقارن، وكذلك قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: قيل لأبي: المتمتع كم يسعي بين الصفا والمروة؟ قال: إن طاف طوافين يعني بالبيت، وبين الصفا والمروة فهو أجود، وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس، وإن طاف طوافين فهو أعجب إلي. وقال أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، أنه كان يقول: المفرد والمتمتع يجزئه طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة.
وقد اختلفوا في الصحابة المتمتعين مع النبي ﷺ مع اتفاق الناس على أنهم طافوا أولا بالبيت، وبين الصفا والمروة لما رجعوا من عرفة، قيل: إنهم سعوا أيضا بعد طواف الإفاضة،
ج/ 26 ص -139-وقيل: لم يسعوا، وهذا هو الذي ثبت في صحيح مسلم عن جابر، قال: لم يطف النبي ﷺ وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، طوافه الأول. وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين. لكن هذه الزيادة قيل: إنها من قول الزهري، لا من قول عائشة، وقد احتج بها بعضهم على أنه يستحب طوافان بالبيت، وهذا ضعيف. والأظهر ما في حديث جابر. ويؤيده قوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". فالمتمتع من حين أحرم بالعمرة دخل بالحج، لكنه فصل بتحلل ليكون أيسر على الحاج، وأحب الدين إلى اللّه الحنيفية السمحة.
ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف، بل هذا الطواف هو السنة في حقه، كما فعل الصحابة مع النبي ﷺ ، فإذا طاف طواف الإفاضة، فقد حل له كل شيء، النساء وغير النساء.
وليس بمني صلاة عيد، بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار، والنبي ﷺ لم يصل جمعة ولا عيدا في السفر، لا بمكة ولا عرفة، بل كانت خطبته بعرفة خطبة نسك، لا خطبة جمعة، ولم يجهر بالقراءة في الصلاة بعرفة.
ج/ 26 ص -140-فصل
ثم يرجع إلى مني فيبيت بها، ويرمي الجمرات الثلاث، كل يوم بعد الزوال، يبتدي بالجمرة الأولي التي هي أقرب إلى مسجد الخِيف. ويستحب أن يمشي إليها فيرميها بسبع حصيات. ويستحب له أن يكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال: اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا. ويستحب له إذا رماها أن يتقدم قليلا إلى موضع لا يصيبه الحصي، فيدعو اللّه تعالي، مستقبل القبلة، رافعًا يديه بقدر سورة البقرة.
ثم يذهب إلى الجمرة الثانية فيرميها كذلك، فيتقدم عن يساره يدعو مثل مافعل عند الأولي.
ثم يرمي الثالثة، وهي جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات أيضًا ولا يقف عندها.
ثم يرمي في اليوم الثاني من أيام مني مثل ما رمي في الأول، ثم إن شاء رمي في اليوم الثالث، وهو الأفضل، وإن شاء تعجل في اليوم الثاني بنفسه قبل غروب الشمس، كما قال تعالي: "فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ" الآية [البقرة: 203]
ج/ 26 ص -141-فإذا غربت الشمس وهو بمني أقام حتي يرمي مع الناس في اليوم الثالث، ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك، بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث، والسنة للإمام أن يصلي بالناس بمني، ويصلي خلفه أهل الموسم.
ويستحب ألا يدع الصلاة في مسجد مني وهو مسجد الخيف مع الإمام، فإن النبي ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا يصلون بالناس قصرًا بلا جمع بمني، ويقصر الناس كلهم خلفهم أهل مكة، وغير أهل مكة. وإنما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "يا أهل مكة، أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر" لما صلى بهم بمكة نفسها. فإن لم يكن للناس إمام عام صلى الرجل بأصحابه، والمسجد بني بعد النبي ﷺ، لم يكن على عهده. ثم إذا نفر من مني فإن بات بالمحصب وهو الأبطح، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة ثم نفر بعد ذلك فحسن؛ فإن النبي ﷺ بات به، وخرج. ولم يقم بمكة بعد صدوره من مني، لكنه ودع البيت، وقال: "لا ينفرن أحد حتي يكون آخر عهده بالبيت" فلا يخرج الحاج حتي يودع البيت، فيطوف طواف الوداع، حتي يكون
ج/ 26 ص -142-آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه.
وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتي يكون بعد جميع أموره، فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، لكن إن قضي حاجته، أو اشتري شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته، ونحو ذلك، مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، لكن يسقط عن الحائض.
وإن أحب أن يأتي الملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود والباب، فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه، ويدعو، ويسأل اللّه تعالى حاجته، فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة، وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس: "اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك، حتي بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن فارض عني، قبل أن تنأي عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغب عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في
ج/ 26 ص -143-جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير" ولو وقف عند ال
باب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنا.
فإذا ولَّي لا يقف، ولا يلتفت، ولا يمشي القهقري. قال الثعلبي في [فقه اللغة] : القهقري: مشية الراجع إلى خلف، حتي قد قيل: إنه إذا رأي البيت رجع فودع، وكذلك عند سلامه على النبي ﷺ لا ينصرف، ولا يمشي القهقري، بل يخرج كما يخرج الناس من المساجد عند الصلاة.
وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرِد، لكن عليه وعلي المتمتع هدي؛ بدنة، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم، فمن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر، وسبعة إذا رجع، وله أن يصوم الثلاثة من حين أحرم بالعمرة، في أظهر أقوال العلماء. وفيه ثلاث روايات عن أحمد. قيل: إنه يصومها قبل الإحرام بالعمرة. وقيل: لا يصومها إلا بعد الإحرام بالحج. وقيل: يصومها من حين الإحرام بالعمرة، وهو الأرجح. وقد قيل: إنه يصومها بعد التحلل من العمرة، فإنه حينئذ شرع في الحج، ولكن دخلت العمرة في الحج، كما دخل الوضوء في الغسل، قال النبي ﷺ : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" ، وأصحاب رسول اللّه ﷺ كانوا متمتعين معه، وإنما
ج/ 26 ص -144-أحرموا بالحج.
ويستحب أن يشرب من ماء زمزم، ويتضلع منه، ويدعو عند شربه بما شاء من الأدعية الشرعية، ولا يستحب الاغتسال منها.
وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام؛ كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي ﷺ، وأصحابه، كمسجد المولد وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر: عرفة، ومزدلفة، والصفا، والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومني، مثل جبل حراء، والجبل الذي عند مني الذي يقال: إنه كان فيه قبة الفداء، ونحو ذلك، فإنه ليس من سنة رسول اللّه ﷺ زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة. وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار، والبقاع التي يقال: إنها من الآثار، لم يشرع النبي ﷺ زيارة شيء من ذلك بخصوصه، ولا زيارة شيء من ذلك.
ودخول الكعبة ليس بفرض، ولا سنة مؤكدة، بل دخولها حسن والنبي ﷺ لم يدخلها في الحج، ولا في العمرة،
ج/ 26 ص -145-لا عمرة الجِعْرَانة، ولا عمرة القَضِية، وإنما دخلها عام فتح مكة، ومن دخلها يستحب له أن يصلي فيها، ويكبر اللّه، ويدعوه ، ويذكره، فإذا دخل مع الباب تقدم حتي يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع، والباب خلفه، فذلك هو المكان الذي صلى فيه النبي ﷺ، ولا يدخلها إلا حافيا، والحجر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه، فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة، وليس على داخل الكعبة ما ليس على غيره من الحجاج، بل يجوز له من المشي حافيا، وغير ذلك ما يجوز لغيره.
والإكثار من الطواف بالبيت من الأعمال الصالحة، فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم، ويأتي بعمرة مكية، فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا رغب فيه النبي ﷺ لأمته، بل كرهه السلف.
فصل
وإذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده، فإنه يأتي مسجد النبي ﷺ ويصلي فيه، والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلي المسجد الحرام،
ج/ 26 ص -146-والمسجد الأقصي، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وهو مروي من طرق أخر.
ومسجده كان أصغر مما هو اليوم، وكذلك المسجد الحرام، لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام.
ثم يسلم على النبي ﷺ وصاحبيه، فإنه قد قال: "ما من رجل يسلم عَلَي، إلا رد اللّه على روحي حتي أرد عليه السلام" رواه أبو داود وغيره. وكان عبد اللّه بن عمر يقول إذا دخل المسجد: السلام عليك يارسول اللّه، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف، وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه، ويسلمون عليه مستقبلي الحجرة، مستدبري القبلة، عند أكثر العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد. وأبوحنيفة قال: يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة، ومنهم من قال: يجعلها عن يساره، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة، ولا يقبلها، ولا يطوف بها، ولا يصلي إليها، وإذا قال في سلامه: السلام عليك يارسول اللّه، يانبي اللّه، ياخيرة اللّه من خلقه، يا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته،
بأبي هو وأمي ﷺ، وكذلك إذا صلى عليه مع السلام عليه، فهذا مما أمر اللّه به.
ج/ 26 ص -147-ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة. ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك. والحكاية المروية عنه : أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقت الدعاء،كذب على مالك. ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده، فإنه ﷺ قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"، وقال: "لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"، وقال: "أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي". فقالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي بليت. قال: "إن اللّه حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". فأخبر أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب، وأنه يبلغ ذلك من البعيد. وقال: "لعن اللّه اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه كره أن يتخذ مسجدًا. أخرجاه في الصحيحين.
فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه، من حجرة عائشة، وكانت هي وسائر الحُجَر خارج المسجد، من قبليه وشرقيه، لكن لما كان في زمن الوليد بن عبد الملك عُمِّر هذا المسجد وغيره، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز، فأمر أن تشتري الحجر، ويزاد
ج/ 26 ص -148- في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبنيت منحرفة عن القبلة مسنمة؛ لئلا يصلي أحد إليها، فإنه قال ﷺ : "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" رواه مسلم عن أبي مَرْثَد الغَنَوي. واللّه أعلم.
وزيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالشرعية: المقصود بها السلام على الميت، والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة أن يسلم على الميت، ويدعو له سواء كان نبيًا، أو غير نبي، كما كان النبي ﷺ يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع، ومن به من الصحابة أو غيرهم، أو زار شهداء أحد، وغيرهم.
وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين، بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبر أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة
ج/ 26 ص -149- المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي على القبور إما محرمة، وإما مكروهة.
والزيارة البدعية: أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي ﷺ، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي ﷺ، وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي ﷺ ، بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله: "من زارني، وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على اللّه الجنة" وقوله: "من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي، حلت عليه شفاعتي" ونحو ذلك، كلها أحاديث ضعيفة، بل موضوعة، ليست في شيء من دواوين الإسلام، التي يعتمد عليها، ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولكن روي بعهضا البزار، والدارقطني، ونحوهما بأسانيد ضعيفة، ولأن من عادة الدارقطني وأمثاله، يذكرون هذا في السنن ليعرف، وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك، فإذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة نهي عنها عند قبره، وهو أفضل الخلق، فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أولي وأحري.
ج/ 26 ص -150-ويستحب أن يأتي مسجد قباء، ويصلي فيه، فإن النبي ﷺ قال: "من تطهر في بيته، وأحسن الطهور، ثم أتي مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كأجر عمرة" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. وقال النبي ﷺ: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" قال الترمذي: حسن.
والسفر إلى المسجد الأقصي، والصلاة فيه، والدعاء، والذكر، والقراءة، والاعتكاف، مستحب في أي وقت شاء، سواء كان عام الحج، أو بعده. ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي ﷺ إلا ما يفعل في سائر المساجد. وليس فيها شيء يتمسح به، ولا يقَبل ولا يطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة، ولا تستحب زيارة الصخرة، بل المستحب أن يصلي في قبلي المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين.
ولا يسافر أحد ليقف بغير عرفات، ولا يسافر للوقوف بالمسجد الأقصي، ولا للوقوف عند قبر أحد، لا من الأنبياء، ولا المشايخ، ولا غيرهم، باتفاق المسلمين، بل أظهر قولي العلماء أنه لا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور.
ولكن تزار القبور الزيارة الشرعية، من كان قريبًا، ومن اجتاز
ج/ 26 ص -151-بها، كما أن مسجد قباء يزار من المدينة، وليس لأحد أن يسافر إليه لنهيه ﷺ أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة.
وذلك أن الدين مبني على أصلين: ألا يعبد إلا اللّه وحده لا شريك له، ولا يعبد إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالي: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف: 110] . ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحد شيئًا. وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالي: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [الملك: 2] . قال: أخلصه، وأصوبه. قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتي يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة، وقد قال اللّه تعالي: "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ" [الشوري:21] .
والمقصود بجميع العبادات أن يكون الدين كله للّه وحده، فاللّه هو المعبود، والمسؤول الذي يخاف ويرجي، ويسأل ويعبد، فله الدين خالصًا، وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرهًا، والقرآن مملوء من هذا،
ج/ 26 ص -152-كما قال تعالي: "تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" إلى قوله: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي" إلى قوله : "أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ" [الزمر: 164] . وقال تعالي: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ" الآيتين [آل عمران: 79،80] ، وقال تعالي: "ققُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ" الآيتين. [الإسراء: 56،57] .
قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدْعُون الملائكة، والأنبياء، كالمسيح، والعزيز، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال تعالي: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ" الآيات. [الأنبياء: 26 وما بعدها] . ومثل هذا في القرآن كثير؛ بل هذا مقصود القرآن، ولبه، وهو مقصود دعوة الرسل كلهم، وله خلق الخلق، كما قال تعالي: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]
فيجب على المسلم أن يعلم أن الحج من جنس الصلاة ونحوها من العبادات، التي يعبد اللّه بها وحده لا شريك له، وأن الصلاة على الجنائز وزيارة قبور الأموات من جنس الدعاء لهم، والدعاء للخلق من جنس المعروف والإحسان، الذي هو من جنس الزكاة.
والعبادات التي أمر اللّه بها توحيد وسنة، وغيرها فيها شرك
ج/ 26 ص -153-وبدعة،كعبادات النصاري، ومن أشبههم مثل قصد البقعة لغير العبادات التي أمر اللّه بها، فإنه ليس من الدين، ولهذا كان أئمة العلماء يعدون من جملة البدع المتكررة السفر لزيارة قبور الأنبياء، والصالحين، وهذا في أصح القولين غير مشروع، حتي صرح بعض من قال ذلك أن من سافر هذا السفر لا يقصر فيه الصلاة؛ لأنه سفر معصية. وكذلك من يقصد بقعة لأجل الطلب من مخلوق، هي منسوبة إليه، كالقبر، والمقام أو لأجل الاستعاذة به، ونحو ذلك، فهذا شرك وبدعة، كما تفعله النصارى ومن أشبههم من مبتدعة هذه الأمة، حيث يجعلون الحج والصلاة من جنس ما يفعلونه من الشرك والبدع، ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم لما ذكر له بعض أزواجه كنيسة بأرض الحبشة، وذكر له عن حسنها وما فيها من التصاوير، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة" .
ولهذا نهي العلماء عما فيه عبادة لغير اللّه، وسؤال لمن مات من الأنبياء، أو الصالحين، مثل من يكتب رقعة ويعلقها عند قبر نبي، أو صالح، أو يسجد لقبر، أو يدعوه، أو يرغب إليه. وقالوا: إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأن النبي ﷺ قال قبل أن يموت بخمس ليال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون
ج/ 26 ص -154-القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" رواه مسلم، وقال : "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا". وهذه الأحاديث في الصحاح. وما يفعله بعض الناس من أكل التمر في المسجد، أو تعليق الشعر في القناديل، فبدعة مكروهة.
ومن حمل شيئا من ماء زمزم جاز، فقد كان السلف يحملونه ، وأما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه، بل غيره من التمر، البرني والعجوة خير منه، والأحاديث إنما جاءت عن النبي ﷺ في مثل ذلك، كما جاء في الصحيح: "من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يصبه ذلك اليوم سم، ولا سحر". ولم يجئ عنه في الصيحاني شيء. وقول بعض الناس: إنه صاح بالنبي ﷺ جهل منه بل إنما سمي بذلك ليبسه، فانه يقال: تصوح التمر، إذا يبس.
وهذا كقول بعض الجهال:إن عين الزرقاء جاءت معه من مكة،ولم يكن بالمدينة على عهد النبي ﷺ عين جارية لا الزرقاء ولا عيون حمزة ولا غيرهما، بل كل هذا مستخرج بعده.
ورفع الصوت في المساجد منهي عنه، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب
ج/ 26 ص -155-رضي اللّه عنه رأي رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد فقال: لو أعلم أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، إن الأصوات لا ترفع في مسجده. فما يفعل بعض جهال العامة من رفع الصوت عقيب الصلاة من قولهم: السلام عليك يارسول اللّه ! بأصوات عالية. من أقبح المنكرات. ولم يكن أحد من السلف يفعل شيئا من ذلك عقيب السلام بأصوات عالية، ولا منخفضة، بل مافي الصلاة من قول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، هو المشروع، كما أن الصلاة عليه مشروعة في كل زمان ومكان.
وقد ثبت في الصحيح أنه قال: "من صلى على مرة صلى اللّه عليه بها عشرا". وفي المسند: أن رجلا قال: يارسول اللّه، أجعل عليك ثلث صلاتي، قال: "إذًا يكفيك اللّه ثلث أمرك". فقال: أجعل عليك ثلثي صلاتي، قال: "إذا يكفيك اللّه ثلثي أمرك". قال: أجعل صلاتي كلها عليك، قال: "إذا يكفيك اللّه ما أهمك من أمر دنياك وأمر آخرتك". وفي السنن عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". وقد رأي عبد اللّه بن حسن شيخ الحسنيين في زمنه رجلا ينتاب قبر النبي ﷺ، للدعاء عنده، قال: ياهذا، إن رسول اللّه ﷺ قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن
ج/ 26 ص -156-صلاتكم تبلغني" فما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء.
ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه، في كل مكان وزمان، ولم يكونوا يجتمعون عند قبره، لا لقراءة ختمة، ولا إيقاد شمع، وإطعام وإسقاء، ولا إنشاد قصائد، ولا نحو ذلك، بل هذا من البدع، بل كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة، والقراءة، والذكر، والدعاء، والاعتكاف، وتعليم القرآن والعلم، وتعلمه، ونحو ذلك.
وقد علموا أن النبي ﷺ له مثل أجر كل عمل صالح تعمله أمته، فإنه ﷺ قال: "من دعا إلى هدي فله من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا". وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، فكل خير يعمله أحد من الأمة فله مثل أجره، فلم يكن ﷺ يحتاج إلى أن يهدي إليه ثواب صلاة، أو صدقة، أو قراءة من أحد، فإن له مثل أجر ما يعملونه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا.
وكل من كان له أطوع وأتبع كان أولي الناس به في الدنيا والآخرة، قال تعالي: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف: 108] ، وقال ﷺ: "إن آل أبي فلان ليسوا لي
ج/ 26 ص -157-بأولياء، إنما ولي اللّه وصالح المؤمنين"، وهو أولي بكل مؤمن من نفسه، وهو الواسطة بين اللّه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه.
واللّه هو المعبود المسؤول، المستعان به الذي يخاف ويرجي، ويتوكل عليه، قال تعالي: "وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [النور: 52] ، فجعل الطاعة للّه والرسول، كما قال تعالي: "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ" [النساء: 80] ، وجعل الخشية والتقوي للّه وحده لا شريك له، فقال تعالي: "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ" [التوبة: 59] ، فأضاف الإيتاء إلى اللّه والرسول، كما قال تعالي: "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ" [الحشر: 7] ، فليس لأحد أن يأخذ إلا ما أباحه الرسول، وإن كان اللّه آتاه ذلك من جهة القدرة، والملك، فإنه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ولهذا كان ﷺ يقول في الاعتدال من الركوع، وبعد السلام: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُ" أي: من آتيته جدا وهو البخت والمال والملك، فإنه لا ينجيه منك إلا الإيمان والتقوي.
وأما التوكل فعلي اللّه وحده، والرغبة فإليه وحده، كما قال
ج/ 26 ص -158-تعالي: "وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ" ولم يقل: ورسوله، وقالوا: "إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ" ولم يقولوا هنا: ورسوله، كما قال في الإيتاء، بل هذا نظير قوله: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ" [الشرح:7،8] ، وقال تعالي: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران: 173] ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبنا اللّه ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين "قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". وقد قال تعالي: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [الأنفال: 64] . أي: اللّه وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك.
ومن قال : إن اللّه والمؤمنين حسبك فقد ضل، بل قوله من جنس الكفرة، فإن اللّه وحده هو حسب كل مؤمن به. والحسب الكافي، كما قال تعالي: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ" [الزمر:36]
وللّه تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق؛ كالعبادات، والإخلاص والتوكل، والخوف، والرجاء، والحج، والصلاة، والزكاة، والصيام، والصدقة. والرسول له حق؛ كالإيمان به، وطاعته، واتباع سنته وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، وتقديمه في المحبة على الأهل والمال، والنفس، كما قال ﷺ: "والذي نفسي بيده،
ج/ 26 ص -159-لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"، بل يجب تقديم الجهاد الذي أمر به على هذا كله، كما قال تعالي: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" [التوبة: 24] ، وقال تعالي: "وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ" [التوبة:62] .
وبسط مافي هذا المختصر وشرحه مذكور في غير هذا الموضع. واللّه سبحانه وتعالي أعلم، وصلي اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد للّه رب العالمين.