أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب الإحرام

    ج/ 26 ص -22-باب الإحرام
    سُئِلَ شيخ الإسلام عما حكي أصحابنا رحمهم الله في الإحرام‏.‏ هل هو ركن‏؟‏ أم لا‏؟‏ ثم إنهم ذكروا في موضع آخر‏:‏ أن الإحرام عبارة عن نية الحج، فكيف يتصور الخلاف في النية، مع أنه لا يتصور وجود الحج الشرعي بدونها، أبِنْ لنا عن هذا مثابًا، معظم الأجر‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، الجواب من طريقين‏:‏ إجمالي وتفصيلي‏.‏
    أما الإجمالي فنقول‏:‏ أما النية للحج والعمرة فلا خلاف بين أصحابنا، وسائر المسلمين أن الحج لا يصح إلا بها، إما من الحاج نفسه، وإما من يحج به، كما يحج ولي الصبي، ولو عمل الرجل أعمال الحج من غير قصد لم يصح الحج، كما لا تصح الصلاة والصوم بغير نية، وسواء قيل‏:‏ إن الحج ينعقد بمجرد النية، أو لا ينعقد إلا بها وبشيء آخر من قول أو عمل‏:‏ من تلبية، أو تقليد هدي، على الخلاف

    ج/ 26 ص -23-المشهور بين العلماء في ذلك‏.‏
    وسواء قلنا‏:‏ إن الإحرام ركن، أم ليس بركن، وهذا أمر لا يقبل الخلاف، فإن العبادات المقصودة يمتنع أن تكون هي العبادات المأمور بها بدون النية‏.‏
    وأما انعقاد الإحرام بمجرد النية،ففيه خلاف في المذهب وغيره، كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏
    وفرق بين النية المشترطة للحج، والنية التي ينعقد بها الإحرام، فإن الرجل يمكنه أن ينوي الحج من حين يخرج من بيته، كما هو الواقع، ويقف ويطوف مستصحبًا لهذه النية، ذكرًا وحكمًا، وإن لم يقصد الإحرام ولا يخطر بقلبه‏.‏
    وأصل ذلك أن النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين‏:‏على قصد العبادة، وقصد المعبود‏.‏ وقصد المعبود هو الأصل الذي دل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏
    "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏"‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏ ، وقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏"‏‏.‏
    فإنه ﷺ ميز بين مقصود ومقصود، وهذا

    ج/ 26 ص -24- المقصود في الجملة لابد منه في كل فعل اختياري، قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏أصدق الأسماء حارث وهمام‏"‏، فإن كل بشر بل كل حيوان لابد له من همة وهو الإرادة، ومن حرث وهو العمل، إذ من لوازم الحيوان أنه يتحرك بإرادته، ثم ذلك الذي يقصده هو غايته، وإن كان قد يحدث له بعد ذلك القصد قصد آخر، وإنما تطمئن النفوس بوصولها إلى مقصودها‏.‏
    وأما قصد العبادة فقصد العمل الخاص، فإن من أراد الله والدار الآخرة بعمله فقد يريده بصلاة ، وقد يريده بحج‏.‏ وكذلك من قصد طاعته بامتثال ما أمره به، فقد أطاعه في هذا العمل‏.‏ وقد يقصد طاعته في هذا العمل، فهذا القصد الثاني مثل قصد الصلاة دون الصوم، ثم صلاة الظهر دون صلاة العصر، ثم الفرض دون النفل، وهذه النية التي تذكر غالبًا في كتب الفقه المتأخرة، وكل واحدة من النيتين فرض في الجملة‏.‏
    أما الأولى‏:‏ فبها يتميز من يعبد الله مخلصًا له الدين ممن يعبد الطاغوت، أو يشرك بعبادة ربه، ومن يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا، وهو الدين الخالص لله الذي تشترك فيه جميع الشرائع، الذي نهي الأنبياء عن التفرق فيه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏13‏]

    ج/ 26 ص -25- ولهذا كان دين الأنبياء واحدًا، وإن كانت شرائعهم متنوعة، قال تعالى‏:‏ ‏ "وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏ "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏ "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏"‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏ "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ ‏.‏
    أما النية الثانية‏:‏ فبها تتميز أنواع العبادات، وأجناس الشرائع، فيتميز المصلي من الحاج والصائم، ويتميز من يصلي الظهر ويصوم قضاء رمضان ممن يصلي العصر ويصوم شيئًا من شوال، ويتميز من يتصدق عن زكاة ماله ممن يتصدق من نذر عليه أو كفارة‏.‏
    وأصناف العبادات مما تتنوع فيه الشرائع، إذ الدين لا قوام له إلا الشريعة، إذ أعمال القلوب لا تتم إلا بأعمال الأبدان، كما أن الروح لا قوام لها إلا بالبدن، أعني‏:‏ ما دامت في الدنيا‏.‏
    وكما أن معاني الكلام لا تتم إلا بالألفاظ، وبمجموع اللفظ والمعني يصير الكلام كلامًا، وإن كان المعني لا يختلف باختلاف الأمم، واللفظ

    ج/ 26 ص -26-يتنوع بتنوع الأمم، ثم قد يكون لغة بعض الأمم أبلغ في إكمال المعني من بعض، وبعض ألفاظ اللغة أبلغ تمامًا للمعني من بعض‏.‏
    فالدين العام يتعلق بقصد القلب، ثم لابد من عمل بدني يتم به القصد ويكمل، فتنوعت الأعمال البدنية كذلك، وتنوعت لما اقتضته مشيئة الله ورحمته لعباده، وبحكمته في أمره، وإنما وجب كل واحد من النيتين؛ لأن الله فرض علينا أن نقيم دينه بالشريعة التي بعث بها رسوله محمدًا ﷺ، إذ لا يقبل منا أن نعبده بشريعة غيرها‏.‏
    والأعمال المشروعة مؤلفة من أقوال وأعمال مخصوصة، قد يعتبر لها أوقات وأمكنة مخصوصة، وصفات، كلما كان فرضًا علينا أن نعبد الله، وأن تكون العبادة على وصف معين، كان فرضًا علينا أن نقصده القصد الذي نكون به عابدين‏.‏ والقصد الذي به نكون عابدين بنفس العمل الذي أمر به‏.‏
    ثم اعلم أن النيات قد تحصل جملة، وقد تحصل تفصيلا، وقد تحصل بطريق التلازم، وقد تتنوع النيات حتي يكون بعضها أفضل من بعض، بحيث يسقط الفرض بأدناها، لكن الفضل لمن أتي بالأعلى‏.‏ وقد يكون الشيء مقصودًا بالقصد الثاني دون الأول، ثم قد يحضر الإنسان القصد الثاني، ويذهل عن القصد الأول، فإن الإنسان في

    ج/ 26 ص -27-قصده العبادة قد يريد وجه الله من حيث الجملة، أو يريد طاعته أو عبادته، أو التقرب إليه، أو يريد ثوابه من غير أن يستشعر ثوابًا معينًا، أو يرجو ثوابًا معينًا في الآخرة، أو في الدنيا، أو فيهما، أو يخاف عقابًا إما مجملًا، وإما مفصلًا‏.‏وتفاصيل هذه النياتباب واسع‏.‏
    وهو بهذا الاعتبار قد لا يكون له غرض في نوع من الأعمال البدنية دون نوع إلا باعتبار تقييس ذلك نية نوع العمل، فإن من قصد الحج قد يكون قد استشعر الحج من حيث الجملة، وهو أنه قَصْد مكان معين، فيقصد ما استشعره من غير علم، ولا قصد تفصيل أعماله من وقوف وطواف، وترك محظورات، وغير ذلك؛ بل إنما تصير تفاصيل أعمال الحج مقصودة إذا استشعرها، وقد يكون عالمًا بجنس أعمال الحج، وأنها وقوف، وطواف، ونحو ذلك؛ لأنها قد وصفت له، وإن لم يعلم عين المكان، وصورة الطواف، فينوي ذلك‏.‏ وقد يعلم ذلك كله فينوي ما قد علمه‏.‏
    وكذلك الكافر إذا أسلم، وقلنا له‏:‏ قد وجبت عليك الصلاة، فإنه يلتزمها وينويها لاستشعاره لها جملة، ولم يعلم صفتها، بل كل من آمن بالرسول ﷺ إيمانًا راسخًا، فإن إيمانه متضمن لتصديقه فيما أخبره، وطاعته فيما أمره، وإن لم يعلم ولم يقصد أنواع

    ج/ 26 ص -28- الأخبار والأعمال،ثم عند العلم بالتفصيل‏:‏ إما أن يصدق، ويطيع، فيصير من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو يخالف ذلك فيصير إما منافقًا، وإما عاصيا فاسقًا، أو غير ذلك‏.‏
    وهذا يبين لك أن الأقسام ثلاثة‏:‏ رجل يقصد عبادة الله وطاعته ولم يقصد العمل المعين المأمور به‏:‏ كرجل له أموال ينفق منها على السائل والمحروم، مريدًا بذلك وجه الله من غير أن يخطر بباله لا زكاة، ولا كفارة، ولا وضعها في الأصناف الثمانية دون بعض، فهذا يثاب على ما يعمله لله سبحانه، لكن بقي في عهدة الأمر بالواجبات‏.‏
    ورجل قد يقصد العمل المعين، من غير أن يقصد طاعة الله وعبادته، كمن يدفع زكاة ماله إلى السلطان؛ لئلا يضرب عنقه، أو ينقص حرمته، أو يأخذ ماله، أو قام يصلي خوفًا على دمه، أو ماله أو عرضه‏.‏ وهذه حال المنافقين عمومًا، والمرائين في بعض الأعمال خصوصًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 241‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏ "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏"‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 47‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏ "وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏ ‏.‏
    والقسم الثالث‏:‏ أن يقصد فعل ما أمر به من ذلك العمل المعين

    ج/ 26 ص -29- لله سبحانه‏.‏ واتفق الفقهاء على أن نية نوع العمل الواجب لابد منها في الجملة، فلابد أن يقصد الصلاة أو الحج أو الصيام، ولهم في فروع ذلك تفصيل وخلاف ليس هذا موضعه‏.‏
    واختلفوا في النية الأولي‏:‏ وهي نية الإضافة إلى الله تعالى‏.‏ من أصحابنا من قال‏:‏ لا تجب نية الإضافة إلى الله تعالى، ومنهم من فرق بين العبادات المقصودة، كالصلاة، والحج، والصوم، وغير المقصودة كالطهارة والتيمم، وكذلك أصحاب الشافعي لم يعتبروا نية الإضافة إلى الله تعالى، في أصح الوجهين‏.‏
    وذلك لأن نفس نية فعل العبادة، تتضمن الإضافة، كما تتضمن عدد الركعات، فإن الصلاة لا تشرع إلا لله تعالى، كما أن صلاة الظهر في الحضر لا تكون إلا أربع ركعات، فلهذا لم تجب نية الإضافة‏.‏
    وأيضًا، النية الحكمية تقوم مقام النية المستحضرة، وإن كانت النية المستحضرة أكمل وأفضل، فإذا نوي العبد صلاة الظهر في أول الأمر أجزأه استصحاب النية حكمًا، فكذلك العبد المؤمن الذي دخل الإيمان في قلبه قد نوي نية عامة‏:‏ أن عباداته هي له لا لغيره، فإنه إن لم يكن كذلك كان منافقًا‏.‏
    فإذا نوي عبادة معينة من صلاة وصوم كان مستصحبًا لحكم تلك

    ج/ 26 ص -30-النية الشاملة لجميع أنواع العبادات، كما أنه في الصلاة إذا نوي الركوع والسجود في أثناء الصلاة ، كان مستصحبًا لحكم نية الظهر أو العصر الشاملة لجميع أعمال الصلاة ، ثم إن أتي بما ينقض علم تلك أفسدها ، فإنه يكون فاسخًا لها كما لو فسخ نية الصلاة في أثنائها، فإذا قام يصلي لئلا يضرب أو يؤخذ ماله، أو أدي الزكاة لئلا يضرب، كان قد فسخ تلك النية الإيمانية‏.‏
    فلهذا كان الصحيح عندنا وعند أكثر العلماء أن هذه العبادة فاسدة لا يسقط الفرض بهذه النية، وقلنا‏:‏ إن عبادات المرائين الواجبة باطلة، وأن السلطان إذا أخذ الزكاة من الممتنع من أدائها لم يجزه في الباطن على أصح الوجهين، لكن لما كان غالب المسلمين يولد بين أبوين مسلمين، يصيرون مسلمين إسلامًا حكميا من غير أن يوجد منهم إيمان بالفعل، ثم إذا بلغوا فمنهم من يرزق الإيمان الفعلى، فيؤدي الفرائض ومنهم من يفعل ما يفعله بحكم العادة المحضة، والمتابعة لأقاربه، وأهل بلده، ونحو ذلك؛ مثل أن يؤدي الزكاة لأن العادة أن السلطان يأخذ الكلف، ولم يستشعر وجوبها عليه لا جملة ولا تفصيلا‏.‏ فلا فرق عنده بين الكلف المبتدعة، وبين الزكاة المشروعة، أو من يخرج من أهل مكة كل سنة إلى عرفات؛ لأن العادة جارية بذلك، من غير استشعار أن هذا عبادة لله، لا جملة ولا تفصيلا، أو يقاتل الكفار

    ج/ 26 ص -31-لأن قومه قاتلوهم، فقاتل تبعًا لقومه، ونحو ذلك، فهؤلاء لا تصح عبادتهم بلا تردد، بل نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة قاضية بأن هذه الأعمال لاتسقط الفرض، فلا يظن ظان أن قول من قال من الفقهاء‏:‏ أن نية الإضافة ليست واجبة‏:‏ أراد مثل هؤلاء؛ وإنما اكتفي فيها بالنية الحكمية، كما قدمناه‏.‏
    ففرق بين من لم يرد الله بعمله لا جملة ولا تفصيلا، وبين من أراده جملة وذَهَل عن إرادته بالعمل المعين تفصيلا‏.‏
    فإن أحدًا من الأمة لا يقول‏:‏ إن الأول عابد لله، ولا مؤد لما أمر به أصلا؛ وهذا ظاهر، ومن أصحابنا من اشترط هذه النية عند العمل المعين، فقال‏:‏ النية الواجبة في الصلاة أن يعتقد أداء فعل ما افترض الله عليه، من فعل الصلاة بعينها، وامتثال أمره الواجب من غير رياء، ولا سمعة‏.‏ ولفظ بعضهم‏:‏ اتباع أمره، وإخلاص العمل له‏.‏ وعلى هذا يدل كلام أكثرهم، فإنهم يستدلون على النية الواجبة في الطهارة والصلاة ونحوهما بقوله‏:‏ ‏
    "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏"‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏ ، قالوا‏:‏ وإخلاص الدين هو النية‏.‏ ومن اغتسل للتبرد أو التنظف لم يخلص الدين لله، ويستدلون بقوله‏:‏ ‏ "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ‏"‏[‏الشوري‏:‏ 20‏]‏ ، قالوا‏:‏ ومن اغتسل للتبرد والتنظف لم يرد حرث الآخرة

    ج/ 26 ص -32-فيجب ألا يخلص له‏.‏
    ومعلوم أن هاتين الآيتين تدلان على وجوب العمل لله والدار الآخرة، أبلغ من دلالتهما على وجوب نية العمل المعين، لكن من نصر الوجه الأول قد يقول‏:‏ نية النوع مستلزمة لنية الجنس، فإن من نوي العمل المعين فقد نوي العمل لله بحكم إيمانه، كما تقدم‏.‏
    ومن نصر الثاني يقول‏:‏ النية الواجبة لا تتقدم على العمل بعشرين سنة، بل إنما تقدم عليه إما بالزمن اليسير، وإما من أول وقت الوجوب، على اختلاف الوجهين‏.‏
    وأيضًا، فالدليل الظاهر والقياس، يوجب وجود النية المحضرة في جميع العبادة، وإنما عفي عن استصحابها في أثناء العبادة، لما في ذلك؛ من المشقة، ولا مشقة في نية العبادة لله عند فعل كل عبادة‏.‏
    وأيضًا، فغالب الناس إسلامهم حكمي، وإنما يدخل في قلوبهم في أثناء الأمر، إن دخل، فإن لم توجب عليهم هذه النية لم يقصدوها، فتخلو قلوبهم منها، فيصيرون منافقين، إنما يعملون الأعمال عادة ومتابعة، كما هو الواقع في كثير من الناس‏.

    ج/ 26 ص -33-وسئل شيخ الإسْلام أبو العّباس أحمد بن تيمية رضي اللّه عنه وأرضاه عن ‏[‏التمتع والقران‏]‏ أيهما أفضل ‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
    لا يختلف مذهب أحمد أنه إذا قدم في أشهر الحج، ولم يَسُقْ الهدي فالتمتع الخاص أفضل له، وهو أن يتمتع بعمرة فيحل منها إذا طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم يحرم بالحج‏.‏وأما إذا ساق الهدي، فنقل المروزي عنه‏:‏ أن القِران أفضل‏.‏ فمن أصحابنا من جعل هذا رواية ثانية عن أحمد‏.‏ وجعلوا فيها إذا ساق الهدي‏:‏ هل الأفضل التمتع‏؟‏ أو القِران‏؟‏ على روايتين‏.‏
    وهذه طريقة المتأخرين الذين قالوا‏:‏ إن النبي ﷺ

    ج/ 26 ص -34-حج متمتعًا، فإنه على هذا القول يكون النبي ﷺ تمتع، وساق الهدي، وأمر أصحابه بالتمتع، فلا يبقي لاختيار القران وجه‏.‏
    ولكن المنصوص عن أحمد الذي عليه أئمة أصحابه المتقدمون‏:‏ أنه حج قارنا، ولكن أمر أصحابه بالتمتع من لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه، ويجعلها متعة‏.‏ وقال‏:‏‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏"‏‏.‏
    وعلى هذا القول، فهذا من باب المطلق والمقيد، فإن أحمد لم ينص على أنه من ساق الهدي فالتمتع أفضل له‏.‏ بل إنما اختار التمتع لأمر النبي ﷺ لأصحابه به، ولقوله‏:‏
    ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏"‏‏.‏ والنبي ﷺإنما أمر بالتحلل من لم يسق الهدي، وإنما اختار أن يجعلها عمرة، ولا يحل من لم يختر أن يجعلها عمرة مع سوق الهدي‏.‏
    وأيضًا، فإن أحمد لم يقل‏:‏ إن النبي ﷺ حج متمتعًا التمتع الخاص بل نص على أن النبي ﷺ حج قارنًا‏.‏ وقال‏:‏ لا أشك أن النبي ﷺ كان قارنًا، والتمتع أحب إلى؛ لأنه آخر الأمرين من رسول اللّه ﷺ،

    ج/ 26 ص -35-فإنه قال‏:‏ ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏"‏‏.‏ فكلامه إنما كان في أيهما أفضل‏:‏ أن يسوق ويقرن، أو يتمتع ولا يسوق‏؟‏‏.‏ لأنه إذا ساق الهدي لم يجز له أن يتحلل‏.‏ فهذا مما يختلف فيه الاجتهاد؛ لأن قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة‏"‏، هل كان لأن التحلل بعمرة أفضل من القران، أم لا؛ موافقة لأصحابه لما أمرهم بالتحلل فشق ذلك عليهم‏.‏ فهذا مورد اجتهاد‏.‏ ولم يختلف كلام أحمد أن من لم يسق الهدي وقدم في أشهر الحج فالتمتع أفضل له‏.‏
    وأيضًا، فإنه إذا ساق الهدي، وقدم في العشر لم يجز له التحلل عند أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهما حتي ينحر الهدي يوم النحر، سواء كان متمتعًا التمتع الخاص، أو قارنًا‏.‏ وحينئذ فلا فرق بين المتمتع والقارن عند أحمد إلا في شيئين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن القارن يكون قد أحرم بالحج قبل الطواف، سواء أحرم بالحج مع العمرة، أو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، بأنه في كلاهما قارن باتفاق الأئمة‏.‏
    وأما المتمتع التمتع الخاص، فإنه يؤخر إحرامه بالحج إلى ما بعد

    ج/ 26 ص -36-قضاء العمرة‏.‏ ومعلوم حينئذ أن تقديم الإحرام بالحج أفضل من تأخيره فيكون القران أفضل لمن ساق الهدي‏.‏
    الثاني‏:‏ أن القارن عنده لا يطوف بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة، كالمفرد‏.‏ وأما المتمتع فقد اختار له أن يسعي سعيين، ونص على أنه يجزيه سعي واحد كالمفرد، والقارن، وحينئذ فيكون قد تميز بسعي زائد مستحب، لكن هو أيضا يستحب للمتمتع أن يطوف أولًا بعد عرفة طواف القدوم، فيكون المتمتع قد طاف بعد عرفة مرتين، وسعي سعيًا ثانيًا‏.‏
    وأما القارن، فإنه يعمل ما يعمله المفرد، لكن كل هذا فيه نزاع، وفي مذهبه قول آخر‏:‏ أن السعي الثاني واجب على المتمتع‏.‏
    وقول‏:‏ إن القارن يطوف طوافين، ويسعي سعيين، كمذهب أبي حنيفة‏.‏
    وقول‏:‏ إن المتمتع لا يستحب له طواف القدوم، وهذا هو الصواب، بل ولا يستحب له سعي ثان‏.‏ فإن الصحابة الذين حجوا مع النبي ﷺ لم يسعوا إلا مرة واحدة، وبهذا يظهر فضل القارن إذا ساق الهدي، على المتمتع الغير السائق‏.‏
    وأما إذا حصل في عمل المتمتع زيادة سعي واجب، أو مستحب،

    ج/ 26 ص -37-أو زيادة طواف مستحب، فقد يقال‏:‏ إنه أفضل من هذا الوجه، لكن هو خلاف سنة رسول اللّه ﷺ‏.‏
    وأيضًا، فلو سلم استحباب ذلك، لم يسلم أن كلما زاد عملا كان أفضل، بل الأفضل قد يكون هو الأيسر، كما أن التمتع أفضل من الإفراد، وهو أيسر، والفطر في السفر أفضل، وهو أيسر، وكذلك القصر أفضل من التربيع، وهو أيسر‏.‏
    وقد يفضل المتمتع بأن طوافه الأول يكون واجبا؛ لأنه طواف عمرة، والقارن يكون طوافه طواف قدوم، وهو لا يجب‏.‏ والواجب أفضل وهذا ممنوع‏.‏ فإن الفضل بحسب كثرة مصلحة الفعل، والوجوب سبب حصول مفسدة في الترك‏.‏
    ولم يختلف كلام أحمد أن من لم يسق الهدي، وقدم في أشهر الحج، فالتمتع أفضل له؛ لأن النبي ﷺ أمر الذين حجوا معه جميعهم أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي‏.‏
    ومذهب أحمد أيضًا أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهذا الإفراد أفضل له من التمتع‏.‏ نص على ذلك في غير موضع‏.‏
    وذكره أصحابه؛ كالقاضي أبي يعلى في تعليقه، وغيره، وكذلك

    ج/ 26 ص -38- مذهب سائر العلماء حتي أصحاب أبي حنيفة، فإنهم نصوا على أن العمرة الكوفية أفضل من القِران، مع أن القران عندهم أفضل‏.‏
    لكن القران الذي فعله النبي ﷺ ليس هو القران الذي يقوله أبوحنيفة، فإن النبي ﷺلم يطف إلا طوافا واحدًا، ولم يسع إلا سعيًا واحدًا‏.‏
    ومذهب أبي حنيفة أن القارن يطوف أولا، ويسعي للعمرة، ثم يطوف ويسعي للحج، وإذا فعل محظورًا كان عليه جزاءان للحج والعمرة، وقد حكي هذا رواية عن أحمد، وأن القارن يلزمه طوافان، وسعيان كمذهب أبي حنيفة، لكن مذهبه المنصوص عنه في غير موضع المعروف كمذهب مالك، والشافعي، وغيرهما، أنه ليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد‏.‏
    بل أبلغ من ذلك أن المتمتع هل يجزيه السعي الأول الذي مع طواف العمرة، أو يحتاج إلى سعي ثان عقيب طواف الإفاضة، أو غيره، على قولين عن أحمد‏.‏
    والمشهور عند أصحابه هو الثاني، والأول قد نص عليه أيضًا‏.‏ قال عبد اللّه بن أحمد‏:‏ قلت لأبي‏:‏ المتمتع يسعي بين الصفا والمروة‏.‏ قال‏:‏

    ج/ 26 ص -39- إن طاف طوافين فهو أجود، وإن طاف طوافًا واحدًا فلا بأس‏.‏
    قال‏:‏ وإن طاف طوافين فهو أعجب إلى، واحتج بحديث جابر وكذلك نقل عنه ابن منصور‏.‏ وإنما اختلف مذهبه في ذلك، لاختلاف الأحاديث في ذلك‏.‏
    ففي صحيح مسلم عن جابر‏.‏ قال‏:‏ لم يطف النبي ﷺ وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، طوافه الأول‏.‏ وهذا مع أنهم كانوا متمتعين‏.‏
    وروي أحمد قال‏:‏ ثنا الوليد بن مسلم، قال‏:‏ ثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقول‏:‏ القارن والمتمتع والمفرد يجزيه طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة‏.‏
    وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه ﷺ عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول اللّه ﷺ‏:‏
    ‏"‏من كان معه هدي فليهل بالحج، والعمرة، ثم لا يحل حتي يحل منهما جميعًا‏"‏‏.‏ إلى أن قالت‏:‏ فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من مني لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة

    ج/ 26 ص -40- فإنما طافوا طوافا واحدًا بالبيت‏.‏
    قلت‏:‏ فقولها‏:‏ ‏[‏طوافا آخر‏]‏ إنما أرادت به الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة‏.‏ كذكرها في أول الحديث، ولأن الذين جمعوا بين الحج والعمرة لابد لهم من طواف الإفاضة، فعلم أنها إنما نفت طوافا معه الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف المجرد بالبيت، والذي نفته عن القارن أثبتته للمتمتع الذي أحرم بالعمرة، ولم يدخل عليها الحج‏.‏
    وأحمد في بعض روايته فهم من هذا أنهم طافوا بالبيت فقط للقدوم، فاستحب للمتمتع أولا إذا رجع من مني أن يطوف أولا للقدوم ثم يطوف طواف الفرض‏.‏
    ومن رد على أحمد حجته بأن المراد بالطواف طواف الفرض، فقد غلط؛ لأن طواف الفرض مشترك بين المتمتع والمفرد والقارن‏.‏ وعائشة أثبتت للمتمتع ما نفته عن القارن‏.‏
    ولكن المراد بهذا الحديث الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، إن لم تكن أرادت الطواف بالبيت؛ لأنها هي لم تطف بالبيت إلا مرة واحدة؛ لأجل حيضها‏.‏ وهذا قد عارضه حديث جابر الصحيح‏:‏ أن النبي ﷺوأصحابه الذين أمرهم بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا أول مرة‏.‏ وهذا

    ج/ 26 ص -41- يناقض ما فهم من حديث عائشة، فإنهم إذا لم يكونوا سعوا بعد طواف الفرض فألا يطوفوا قبله للقدوم أولي وأحري‏.‏ وفي ترجيح أحد الحديثين كلام ليس هذا موضع بسطه، فإن المحققين من أهل الحديث يعلمون أن هذه الزيادة في حديث عائشة، هي من كلام الزهري ليست من قول عائشة، فلا تعارض الحديث الصحيح‏.‏
    وقد روي البخاري تعليقًا عن ابن عباس، مثل حديث عائشة‏.‏ وفيه أيضًا علة‏.‏
    والشافعي اختار التمتع تارة، واختار الإفراد تارة‏.‏ ومن قال‏:‏ إن النبي ﷺ أحرم إحرامًا مطلقًا فقد غلط، واختلف كلامه في إحرام النبي ﷺ على هذه الأقوال الثلاثة‏.‏
    ومالك يختار الإفراد، لكن قد قيل‏:‏ يستحب مع ذلك تأخير العمرة إلى المحرم، فأما العمرة عقيب الحج من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم‏:‏ فهذا لم يعرف على عهد السلف، ولا نقل أحد عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من الذين حجوا معه أنهم فعلوا ذلك، إلا عائشة رضي اللّه عنها لأنها كانت قدمت متمتعة فحاضت، فأمرها النبي ﷺ أن تحرم بالحج، وتدع العمرة‏.‏

    ج/ 26 ص -42- فمذهب أحمد ومالك والشافعي أنها صارت قارنة، ولا يجب عليها قضاء تلك العمرة، لكن أحمد في إحدى الروايتين عنه جعل القضاء واجبًا عليها لوجوب العمرة عنده في المشهور عنه، وكون عمرة القارن والعمرة من أدني الحل لا يسقط وجوب العمرة عنده في إحدى الروايتين‏.‏
    وهكذا يقولون في كل متمتع ضاق عليه الوقت فلم يتمكن من الطواف قبل التعريف، فإنهم يأمرونه بإدخال الحج على العمرة، ويصير قارنا كالمفرد الذي قدم وقد ضاق عليه الوقت، فإنه يقف بعرفة أولا ولا يطوف قبل التعريف‏.‏
    وهكذا يصنع حاج العراق إذا قدموا متأخرين، فإنهم يوافون عرفة يوم التعريف، فيعرفون ولا يطوفون قبل التعريف‏.‏ ومذهب أبي حنيفة أن عائشة رفضت العمرة، وأهلت بالحج فصارت مفردة‏.‏
    وعنده يجب عليها قضاء العمرة التي رفضتها، وبني ذلك على أصله‏:‏ في أن القارن يطوف طوافين، ويسعي سعيين، فلم يكن في القران لها فائدة‏.‏
    وأما الجمهور فبنوه على أصولهم‏:‏ في أن عمل القارن لا يزيد على عمل المفرد، وقالوا‏:‏ إن النبي ﷺ إنما أعمر عائشة

    ج/ 26 ص -43-تطييبًا لنفسها؛ لأنها قالت‏:‏ يذهب أصحابي بحجة وعمرة، أذهب أنا بحجة‏.‏ فقال لها النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏يسعك طوافك بحجك وعمرتك‏"‏‏.‏ وفي رواية أهل السنن‏:‏ ‏"‏طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك‏"‏‏.‏ فلما ألحت أعمرها تطييبًا لنفسها، وأحمد في رواية الأثرم وغيره‏.‏ قال‏:‏ إن عمرة القارن، والعمرة المكية لا تجزئ عن عمرة الإسلام، واحتج بحديث عائشة لما أعمرها النبي ﷺ فإنها كانت قارنة، وأعمرها بعد ذلك‏.‏ فجعل هذه العمرة واجبة في هذه الرواية‏.‏ كما قال أبو حنيفة‏.‏ لكن اختلفا في تنقيح المناط، ولم يعتمر من مكة على عهد رسول اللّه ﷺ إلا عائشة خاصة؛ لأجل هذا العذر‏.‏
    وأما عُمر النبي ﷺفإنما كانت وهو قاصد إلى مكة، فأحرم بالعمرة عام الحديبية من ذي الحليفة، وحل بالحديبية لما أحصر وصده المشركون عن البيت، والحديبية غربي جبل التنعيم حيث بايع النبي ﷺ أصحابه تحت الشجرة، وصالحه المشركون‏.‏ وجبل التنعيم هو الجبل الذي عند المساجد، التي تسمي مساجد عائشة عن يمينك، وأنت داخل إلى مكة، وتلك المساجد مبنية في التنعيم،

    ج/ 26 ص -44-ولم تكن هذه المساجد على عهد النبي ﷺ‏.‏‏.‏‏.‏
    فإن النبي ﷺ أمرها أن تعتمر من التنعيم، والتنعيم أدني الحل إلى مكة، فهو أقرب الحل إلى مكة، والمعتمر من مكة يخرج إلى الحل ليجمع بين الحل والحرم، بخلاف الحاج من مكة فإنه يخرج إلى عرفة، وعرفة من الحل، ثم اعتمر من العام القابل عمرة القضية من ذي الحليفة، ثم لما لقي هوازن بوادي حنين فهزمهم، ثم ذهب إلى الطائف فحاصرهم، ثم رجع إلى الجِعْرَانَة فقسم غنائم حنين بالجعرانة، اعتمر داخلا إلى مكة، وحنين والجعرانة والطائف كل ذلك من جهة الشرق، شرقي عرفات، فأقربها إلى عرفة الجعرانة، ثم وادي حنين، ثم الطائف‏.‏ ولم يكن يخرج هو ولا أصحابه من مكة فيعتمرون، إلا ما ذكر من حديث عائشة، فلهذا نص أحمد في غير موضع على أن أهل مكة ليس عليهم عمرة، وروي أحمد عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يا أهل مكة، ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم الطواف بالبيت، فمن أبي إلا أن يعتمر فليجعل بينه وبين مكة بطن واد‏.‏ وذلك لأن الصحابة المقيمين بمكة على عهد النبي ﷺ لم يكونوا يعتمرون من مكة‏.‏

    ج/ 26 ص -45-والعمرة واجبة في أشهر الروايتين عن أحمد‏.‏ فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثالثة‏.‏ فقال‏:‏ المسألة على ثلاث روايات‏:‏ رواية تجب، ورواية لا تجب، ورواية يفرق بين المكي وغيره‏.‏ وهي طريقة جدنا أبي البركات وغيره‏.‏
    ومنهم من قال‏:‏ أهل مكة يستثنون، فلا تجب عليهم عمرة، رواية واحدة‏.‏ وهي طريقة الشيخ أبي محمد‏.‏ وهي أصح‏.‏
    ومن الفقهاء‏:‏ من استحب لمن اعتمر من مكة أن يحرم من الحديبية، أو الجِعْرَانة، محتجًا بعمرة النبي ﷺ‏.‏ وهو غلط، فإن الحديبية كانت موضع حله لما أحصر، لم تكن موضع إحرامه‏.‏ وأما الجعرانة فإنه أحرم منها داخلا إلى مكة؛ لأنه أنشأ العمرة من هناك؛ ولهذا كان أصح الوجهين لأصحابنا، وهو المنصوص عن أحمد أنه لا يستحب الإكثار من العمرة لا من مكة ولا غيرها، بل يجعل بين العمرتين مدة ولو أنه مقدار ما ينبت فيه شعره‏.‏ ويمكنه الحلاق،وهذا لمن يخرج إلى ميقات بلده ويعتمر‏.‏
    وأما المقيم بمكة فكثرة الطواف بالبيت أفضل له من العمرة المكية، كما كان الصحابة يفعلون، إذا كانوا مقيمين بمكة، كانوا يستكثرون من الطواف، ولا يعتمرون عمرة مكية، فالصحابة الذين استحبوا الإفراد

    ج/ 26 ص -46- كعمر بن الخطاب، وغيره إنما استحبوا أن يسافر سفرًا آخر للعمرة؛ ليكون للحج سفر على حدة، وللعمرة سفر على حدة‏.‏
    وأحمد وأبو حنيفة وغيرهما اتبعوا الصحابة في ذلك، واستحبوا هذا الإفراد على التمتع والقران‏.‏
    قال أبو بكر الأثرم‏:‏ قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ فأي العمرة عندك أفضل‏؟‏ قال‏:‏ أفضل العمرة عندي أن تكون في غير أشهر الحج، كما قال عمر، فإن ذلك أتم لحجكم، وأتم لعمرتكم، أن تجعلوها في غير أشهر الحج‏.‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ فأنت تأمر بالمتعة، وتقول‏:‏ العمرة في غير أشهر الحج أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ إنما سئلت عن أتم العمرة، فقلت‏:‏ في غير أشهر الحج، وقلت‏:‏ المتعة تجزيه من عمرته، فأتم العمرة أن تكون في غير أشهر الحج‏.‏
    وقال‏:‏ على بن تمام‏:‏ العمرة أن تقدم من دويرة أهلك، وكان سفيان بن عيينة يفسره أن ينشئ لها سفرًا يقصد له، ليس أن تحرم من أهلك، حتي تقدم الميقات‏.‏
    وقال عمر في العمرة‏:‏ من دويرة أهلك‏.‏ قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ فيجعل للحج سفرًا على حدة، وللعمرة سفرًا على حدة، قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت له‏:‏ فإن اعتمر في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتي يحج، أيكون هذا قد

    ج/ 26 ص -47- جعل له سفرًا على حدة، وللحج سفرًا على حدة‏؟‏ فقال‏:‏ لا، حتي يرجع ثم يحج‏.‏ فهذا مد للعمرة من أهله، وقصد للحج من أهله، هذا معناه‏.‏
    قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ فإنهم يحكون عنك أنك تقول‏:‏ المتعة أفضل من غيرها، فقال‏:‏ أما أفضل من الحج وحده، فليس فيه شك، ثم قال‏:‏ أيما أفضل أن يجيء بعمرة وحج أو أن يجيء بحج وحده‏؟‏ هي أفضل من إفراد الحج‏.‏
    قلت له‏:‏ وأفضل من القران؛ لأنه جاء بكل واحد على حدة، فهو أفضل من أن يجمع بينهما، فقال نعم، وأفضل من القران، ثم قال نحو ما قلت‏.‏
    وقال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد اللّه يقول‏:‏ التمتع أحب إلى، هو آخر الأمرين من رسول الله ﷺ، أنه قال‏:‏
    ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنعتم‏"‏، وقوله لأصحابه‏:‏ ‏"‏حلوا‏"‏ وما جاء فيها من الحديث‏.‏
    وقال أيضًا‏:‏ قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ أنت تذهب إلى المتعة‏.‏ فقال‏:‏ هي أحب إلى، وأفضل‏.‏ وذاك أنَّا نذهب إلى أن العمرة واجبة، قال تعالى‏:
    ‏ ‏ "وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ، ثم قال‏:‏ هذا بين‏.‏

    ج/ 26 ص -48- وكان ابن عباس وابن عمر يريانها واجبة،وقال ابن عباس‏:‏ واللّه إنها لقرينتها في كتاب اللّه، وقال جماعة‏:‏ الحج الأصغر العمرة، فإذا وقع عليها اسم الحج، فهذا يدل على أنها فريضة، فإذا خرج متمتعًا فقد أجزأه من حجه وعمرته، جاء بعمرة مفردة، وحجة مفردة‏.‏
    فأما عمرة المحرم فليس بمجزي عنه عندي، وليست بعمرة تامة، إنما هي من أربعة أميال‏.‏
    وقال رسول اللّه ﷺ لعائشة‏:‏
    ‏"‏إنما هي على قدر نصبك ونفقتك‏"‏، ومعني عمرة المحرم‏:‏ أنهم كانوا يخرجون في المحرم من مكة ليعتمرون من أدني الحل إلى أن يعتمر، فكيف من اعتمر في ذي الحجة من مكة عقيب الحج، وهذا لم يكن السلف يفعلونه‏.‏
    فإذا تبين أن العمرة المكية عقب الحج مع الحج، لم يفعلها النبي ﷺ باتفاق العلماء، ولا أحد من الصحابة إلا عائشة، ولا كان خلفاؤه الراشدون يفعلونها امتنع أن يكون ذلك أفضل‏.‏
    وأما من قال من الفقهاء‏:‏ الإفراد أن يحج، ويعتمر عقب ذلك من مكة، فهذا غالط، بإجماع العلماء، فإنه لا نزاع بينهم أن من اعتمر قبل أشهر الحج، ورجع إلى بلده ثم حج، أو قام بمكة حتي يحج من

    ج/ 26 ص -49- عامه، أنه مفرد للحج، وكذلك لو اعتمر بعد الحج في سفرة أخري، فإنه مفرد بالاتفاق، وهذا الإفراد هو الذي استحبه الصحابة،وهو مستحب أيضا عند أحمد وغيره، فإن الاعتمار في رمضان، والإقامة إلى أن يحج أفضل من التمتع، وإن كان الرجوع إلى بلده ثم السفر للحج أفضل منها‏.‏
    والتمتع جائز باتفاق أهل العلم، وإنما كان طائفة من بني أمية وغيرهم يكرهونه‏.‏
    وقد قيل‏:‏ إن الذين كرهوا ذلك إنما كرهوا فسخ الحج إلى التمتع، فإن الناس يقدمون من الآفاق فيحرمون بالحج، فمن جوز الفسخ جوز لهم المتعة ومن منع من ذلك منعهم منه‏.‏
    والفسخ فيه ثلاثة أقوال معروفة؛ قيل‏:‏ هو واجب، كقول ابن عباس وأتباعه، وأهل الظاهر والشيعة‏.‏
    وقيل‏:‏ هو محرم، كقول معاوية، وابن الزبير، ومن اتبعهما كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي‏.‏
    وقيل‏:‏ هو جائز مستحب، وهو مذهب فقهاء الحديث، أحمد وغيره، والأمر به معروف عن غير واحد من الصحابة، والتابعين؛

    ج/ 26 ص -50- ولهذا كان ابن عمر وابن عباس يأمران بالمتعة‏.‏
    قال أحمد‏:‏ أخبرنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر عن الزهري عن سالم قال‏:‏ سئل ابن عمر عن متعة الحج، فأمر بها، فقيل له‏:‏ إنك تخالف أباك، فقال‏:‏ عمر لم يقل الذي تقولون، إنما قال عمر‏:‏ إفراد الحج من العمرة، فإنها أتم للعمرة، أو أن العمرة لا تتم في أشهر الحج إلا أن يهدي، وأراد أن يزار البيت في غير أشهر الحج، فجعلتموها أنتم حراما، وعاقبتهم الناس عليها، وقد أحلها اللّه، وعمل بها رسول اللّه ﷺ‏.‏ فإذا أكثروا عليه قال‏:‏ أفكتاب اللّه أحق أن تتبعوا، أم عمر ‏؟‏‏!‏ وكان ابن عباس يأمر بها، فيقولون‏:‏ إن أبا بكر وعمر لم يفعلاها، فيقول‏:‏ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم‏:‏ قال النبي ﷺ، وتقولون‏:‏ قال أبو بكر وعمر‏!‏
    وكان عروة بن الزبير يناظر ابن عباس فيها، فقال‏:‏ إن أبا بكر وعمر أعلم برسول اللّه ﷺ منك، فقال له ابن عباس‏:‏ ياعرية، سل أمك، يعني‏:‏ أنها تخبره، أن النبي ﷺ أمر أصحابه بالإحلال، وكانت أسماء ممن أحلت‏.‏
    وهذه المشاجرة إنما وقعت؛ لأن ابن عباس كان يوجب المتعة،

    ج/ 26 ص -51- بل كان يوجب الفسح، وكان يقول‏:‏ كل من طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يسق الهدي، فقد حل من إحرامه‏.‏ ويحتج بأمر النبي ﷺلأصحابه بالتحلل في حجة الوداع، وبقوله تعالى‏:‏ ‏ "ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏"‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏ ‏.‏
    وإيجاب المتعة هو قول طائفة من أهل الحديث، والظاهرية؛ كابن حزم وغيره، وهو مذهب الشيعة أيضا، لكن الجماهير من الصحابة، والأئمة الأربعة، وغيرهم، على أنه يجوز التمتع، والإفراد، والقران، لكن أهل مكة وبنو هاشم وعلماء أهل الحديث يستحبونها، فاستحبها علماء سنته، وأهل سنته، وأهل بلدته التي بقربها المناسك، وهؤلاء الثلاثة أخص الناس به، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏
    وأبو يوسف يجعل التمتع والقران سواء‏.‏ وإنما جوز الجمهور الثلاثة؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺأنه قال لأصحابه‏:‏
    ‏"‏من شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل، ومن شاء منكم أن يهل بحجة فليفعل، ومن شاء منكم أن يهل بحجة وعمرة فليفعل‏"‏‏.
    وأما أمره لأصحابه ﷺ بعد ذلك أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فلأنه أراد أن يجمعوا بين الحج والعمرة، وألا يعتمروا عمرة مكية، وإن سافروا سفرًا

    ج/ 26 ص -52- آخر للعمرة‏.‏ ومن كان هذه حاله فينبغي له أن يتمتع، فالتمتع كان متعينًا في حق الصحابة‏.‏
    إذا أرادوا أن يفعلوا الأفضل لهم، وكان أولا قد أذن لهم في الفسخ، ولم يأمرهم به، لاسيما إذا قيل بوجوب العمرة، فإنه يجب التمتع على من لم يسافر سفرة أخرى ولم يعتمر عقب الحج من مكة، وعمرة المتمتع بمنزلة التوضؤ للمغتسل، فالمغتسل للجنابة إذا توضأ كان وضوؤه بعض اغتساله الكامل، كذلك عمرة المتمتع عند أحمد بعض حجه الكامل؛ ولهذا يجوز عنده للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ‏"‏[‏البقرة‏:‏196‏]‏ فهو من حين أحرم بالعمرة دخل في الحج، كما أن المغتسل من حين توضأ دخل في الغسل‏.‏
    وقوله ﷺ‏:‏
    ‏"‏من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏"‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ يدخل فيه المتمتع من حين يحرم بالعمرة‏.‏
    ولهذا كان أحمد ينكر على من يقول‏:‏ إن حجة المتمتع حجة مكية‏.‏ قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد اللّه يقول‏:‏ كان ابن المبارك زعموا يقول بالمتعة، فقيل له‏:‏ يكون مجيؤه حينئذ للعمرة‏.‏ فقال‏:‏ أرأيتم لو

    ج/ 26 ص -53- أن رجلا خرج يريد صلاة الظهر في جماعة، فتطوع قبلها بأربع ركعات، ثم صلى الظهر، أزاده ذلك خيرًا، أم نقصه ‏؟‏
    ثم قال أحمد‏:‏ ما أحسن ما قال ‏!‏ ثم قال أبو عبد اللّه‏:‏ يقول مجيؤه حينئذ للظهر، أو للتطوع، أي إنما مجيؤه للظهر، قال أبو عبد اللّه‏:‏هذا قول محدث، يعني‏:‏ قولهم‏:‏ حجة مكية‏.‏
    قال‏:‏ وسمعت أبا عبد اللّه مرة أخرى وذكر قول ابن المبارك‏:‏ إنه قول محدث، يعني‏:‏ قولهم‏:‏ حجة مكية‏.‏
    قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ قول عبد اللّه قول محدث‏؟‏ ‏!‏ قال‏:‏ إي واللّه قول محدث، كلام بغيض، ما أدري ما هو، وكيف لا يكون محدثا ورسول اللّه ﷺ يعلم به، ويأمر به أصحابه ‏؟‏‏!‏ وغلظ القول فيه‏.‏
    قال‏:‏ وسمعت أبا عبد اللّه مرة أخري‏.‏ قيل له‏:‏ من قال‏:‏ حجة مكية‏؟‏ قال‏:‏ هذا قول محدث، قيل له‏:‏ عمن يروي‏؟‏ فقال‏:‏ عن الشعبي، وسعيد بن جبير‏.‏
    فصل
    والدليل على أنه قد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ

    ج/ 26 ص -54- ‏:‏ أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه، حتي يبلغ الهدي محله‏.‏
    ولهذا لما قال سلمة بن شَبِيب لأحمد‏:‏ يا أبا عبد اللّه، قويت قلوب الرافضة، لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة‏.‏ فقال‏:‏ ياسلمة، كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدافع عنك، والآن فقد تبين لي أنك أحمق، عندي أحد عشر حديثا صحيحًا عن رسول اللّه ﷺ أدعها لقولك‏؟‏‏!‏ فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي ﷺ بالتمتع لجميع أصحابه، الذين لم يسوقوا الهدي، حتي من كان منهم مفردًا، أو قارنًا، والنبي ﷺ لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول، بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم‏.‏
    ولهذا كان فسخ الحج إلى التمتع مستحبًا عند أحمد، ولم يجعل اختلاف العلماء في جواز الفسخ موجبًا للاحتياط بترك الفسخ، فإن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين سنة رسول اللّه ﷺ، فإذا تبينت السنة فاتباعها أولي‏.‏وإن كان بعض العلماء قد قال‏:‏ إنه لا يجوز ذلك، لا سيما وآخرون من السلف والخلف قد أوجبوا الفسخ فليس الاحتياط بالخروج من خلاف أولئك بأولي من الخروج من خلاف هؤلاء‏.‏

    ج/ 26 ص -55- والذين منعوا الفسخ، أو المتعة مطلقًا، قالوا‏:‏ كان لأصحاب النبي ﷺخاصة‏.‏ قالوا‏:‏ لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج‏.‏ ويقولون‏:‏ إذ بَرَأ الدَّبَر، وعَفَا الأثَر، وانسلخ صَفَر، فقد حَلَّت العمرة لمن اعتمر‏.‏ قالوا‏:‏ فأمر النبي ﷺ أصحابه بالعمرة؛ ليبين جواز العمرة في أشهر الحج‏.‏ وهذا القول خطأ عند أحمد وغيره لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ لأن النبي ﷺ كان قد اعتمر قبل ذلك عمره الثلاثة في أشهر الحج، فاعتمر عمرته الأولي عمرة الحديبية في ذي القعدة، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة، واعتمر من الجِعْرَانة في ذي القعدة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن عائشة قيل لها‏:‏ إن ابن عمر يقول‏:‏ إن النبي ﷺ اعتمر في رجب، فقالت‏:‏ يغفر اللّه لأبي عبد الرحمن ‏!‏ ما اعتمر رسول اللّه ﷺ في رجب قط، وما اعتمر إلا وابن عمر معه‏.‏ وقد اتفق أهل العلم على ما قالت عائشة‏:‏ بأن عمره كلها كانت في ذي القعدة، وهو أوسط أشهر الحج‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إن الصحابة لم يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج حتي أمرهم بالفسخ، وقد فعلها قبل ذلك ثلاث مرات ‏؟‏‏!‏
    الوجه الثاني‏:‏ أنه قد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنه قال لهم عند الميقات‏:‏ ‏"‏من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل‏"‏‏.‏ فبين لهم جواز

    ج/ 26 ص -56- الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات، وعامة المسلمين معه، فكيف لم يعلموا ذلك‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأمر من ساق الهدي أن يتم على إحرامه حتي يبلغ الهدي محله، ففرق بين محرم ومحرم، فهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحل لإحرامه الأول‏.‏ وما ذكره يشترك فيه السائق‏.‏‏.‏ أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، قال‏:‏ فقام النبي ﷺ فينا فقال‏:‏
    ‏"‏قد علمتم أني أتقاكم للّه، وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا‏"‏‏.‏ فحللنا، وسمعنا، وأطعنا‏.‏ فقدم على من سعايته، فقال‏:‏ ‏"‏بما أهللت‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ بما أهل به رسول اللّه ﷺ، فقال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"‏فاهد وامكث حرامًا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وأهدي على له هديا، فقال سراقة بن مالك بن جُعْشُم‏:‏ لعامنا هذا أم للأبد‏؟‏ فقال‏:‏‏"‏بل للأبد‏"‏‏.‏ وفي رواية البخاري‏:‏ وأن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لقي رسول الله ﷺ بالعقبة، وهويرميها، فقال جعشم‏:‏ ألكم هذه خاصة يارسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا بل للأبد‏"‏‏.‏
    فبين أن تلك العمرة التي فَسَخ من فَسَخ منها حجه إليها للأبد،

    ج/ 26 ص -57- وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج، ولم يرد السائل بقوله‏:‏ عمرتنا هذه لعامنا هذا، أم للأبد‏؟‏ أنه يسقط الفرض بها في عامنا هذا؛ لأن العمرة إن كانت واجبة فلا تجب إلا مرة واحدة، ولأنه لو أراد ذلك لم يقل بل للأبد، فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة، بل إنما يكون لجميع المسلمين، ولا قال‏:‏ ‏"‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
    فإن قيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏دخلت العمرة في الحج‏"‏ أراد به جواز العمرة في أشهر الحج‏؟‏
    قيل‏:‏ نعم‏.‏ ومن ذلك عمرة الفاسخ، فإنها سبب هذا اللفظ، وسبب اللفظ العام لا يجوز إخراجه منه، فعلم أن قوله‏:‏ ‏"‏دخلت العمرة في الحج‏"‏ يتناول عمرة الفاسخ، وأنها دخلت في الحج إلى يوم القيامة‏.‏
    الوجه السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ فسخ الحج إلى التمتع موافق لقياس الأصول لا مخالف له، فإن المحرم إذا التزم أكبر ما لزمه جاز باتفاق الأئمة فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز بلا نزاع، وأما إذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يجز عند الجمهور وهو مذهب أحمد ومالك، وظاهر مذهب الشافعي‏.‏ وأما أبو حنيفة فيجوزه؛ لأنه يصير قارنًا، والقارن عنده يلزمه طوافان، وسعيان، وهذا قياس الرواية المحكية عن أحمد في القارن‏.‏

    ج/ 26 ص -58- وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلزمه إلا الحج، فإذا صار متمتعًا صار ملتزمًا لعمرة وحج، فكان ما التزمه بالفسخ أكبر مما كان عليه، فجاز ذلك، وهو أفضل، فاستحب ذلك، وإنما يشكل هذا على من يظن أنه فسخ حجًا إلى عمرة مجردة، وليس كذلك، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى العمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخ جائز لمن كان نيته أن يحج بعد العمرة‏.‏
    وقد قدمنا أن المتمتع من حين يحرم بالعمرة دخل في الحج، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏دخلت العمرة في الحج‏"‏؛ ولهذا يجوز أن يصوم الأيام الثلاثة من حينئذ، وإنما إحرامه بالحج بعد ذلك، كما كان النبي ﷺإذا اغتسل للجنابة بدأ بالوضوء،وكما قال للنسوة في غسل ابنته‏:‏ ‏"‏ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها‏"‏‏.‏ فكان غسل مواضع الوضوء توضية، وهو بعض الغسل‏.‏
    فإن قيل‏:‏ دم المتمتع دم جُبْران، ونُسُك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور‏.‏ قيل‏:‏ هذا لا يصح لوجهين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه ثبت عن النبي ﷺ أنه أكل من هديه فإنه أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكل من لحمها، وشرب من مرقها‏.‏ وثبت أنه كان متمتعًا التمتع العام، فإن

    ج/ 26 ص -59- القارن يدخل في مسمي المتمتع، كما سنذكره‏.‏ فدل على استحباب الأكل من هدي المتمتع، ودم الجبران ليس كذلك‏.‏ وثبت أيضًا في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن، وكن متمتعات‏.‏ وهذا مما احتج به الإمام أحمد‏.‏
    الثاني‏:‏ أن سبب الجبران محظور في الأصل، كالإفساد بالوطء، وكفعل المحظورات، أو بترك الواجبات، فإنه لا يجوز له أن يفسد حجه، ولا أن يفعل المحظور إلا لعذر، ولا يترك الواجب إلا لعذر، والتمتع جائز مطلقًا، فلو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقًا، فعلم أنه دم نسك وهدي، وأنه مما وسع الله به على المسلمين، فأباح لهم التحلل في أثناء الإحرام، والهدي مكانه، لما في استمرار الإحرام من المشقة، فيكون بمنزلة قصر الصلاة في السفر، وبمنزلة الفطر للمسافر، والمسح على الخفين للابس الخف‏.‏
    فإن ذلك أفضل له من أن يخلع ويغسل في ظاهر مذهب أحمد؛ لأن النبي ﷺإذا كان لابس الخف على طهارة مسح عليه، ولم يكن يخلع ويغسل، بخلاف ما إذا لم تكن رجلاه في الخفين، فإنه كان يغسل‏.‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول في خطبته‏:‏ ‏"‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد‏"‏‏.‏

    ج/ 26 ص -60- وهدي محمد لمن كان مكشوف الرجلين أن يغسلهما‏.‏ لا يقصد أن يلبس ليمسح عليهما، ولمن كان لابس الخفين أن يمسح عليهما، لا أن يخلعهما ويغسل، مع أن مسح الخفين بدل، فكذلك الهدي‏.‏
    وإن كان بدلًا عن ترفهه بسقوط أحد السفرين، فهو أفضل لمن جمع بينهما، وقد قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد يعتمر عقبه والبدل قد يكون واجبًا كالجمعة، فإنها وإن كانت بدلًا عن الظهر فهي واجبة، وكالمتيمم العاجز عن استعمال الماء؛ فإن التيمم واجب عليه، وهو بدل‏.‏ فإذا جاز أن يكون البدل واجبًا، فكونه مستحبًا أولي بالجواز‏.‏
    ولهذا يستحب للمسافر أن يفطر ويقضي، والقضاء بدل عن الأداء وكذلك المريض الذي يشق عليه الصوم يفطر ويقضي، والقضاء بدل‏.‏
    وتخلل الإحلال لا يمنع أن يكون الجميع بمنزلة العبادة الواحدة، كطواف الفرض؛ فإنه من تمام الحج باتفاق المسلمين، ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول، ورمي الجمار أيام مني من تمام الحج‏.‏ وإذا طاف قبل ذلك فقد رمي الجمار أيام مني، بعد الحل التام، وهو السنة، كما فعل النبي ﷺ، وشهر رمضان يتخلل صيام أيامه

    ج/ 26 ص -61- الفطر بالليل، وهو الصوم المفروض المذكور في قوله‏:‏ ‏ "كُتِبَ عليكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏ "شَهْرُ رَمَضَانَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183، 185‏]‏ ، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏‏.‏ وهذا الصوم يتخلله الفطر كل ليلة، فكذلك قوله‏:‏ ‏"‏من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏"‏‏.‏
    والآية تتناول لمن حج حجة تمتع فيها بالعمرة، وإن كان قد يتخلل هذا الإحرام إحلال، وهو من حين إحرامه بالحج قد دخل في الحج، كما أنه بصيام أول يوم دخل في صيام شهر رمضان، وكذلك قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏، والقيام يتخلله السلام من كل ركعتين، وكذلك الوتر بثلاث مفصولة‏.‏
    فصل: في صفة حجة الوداع
    لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبي ﷺ أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، وهذا مما تواترت به الأحاديث،

    ج/ 26 ص -62- ولم يختلفوا أنه لم يعتمر بعد الحج، لا النبي ﷺ، ولا أحد من الصحابة إلا عائشة، فهذا كله متفق عليه لم يختلف فيه النقل، ولا خالف فيه أحد من أهل العلم‏.‏
    ولكن تنازعوا‏:‏ هل حج متمتعًا، أو مفردًا، أو قارنًا‏؟‏ أو أحرم مطلقًا‏؟‏ واضطربت عليهم فيه الأحاديث، وهي بحمد الله غير مختلفة عند من فهم مراد الصحابة بها‏.‏
    والمنصوص عن الإمام أحمد أن النبي ﷺ كان قارنًا بين العمرة والحج، حتى قال‏:‏ لا أشك أن النبي ﷺ كان قارنًا، وهذا قول أئمة الحديث‏:‏ كإسحاق بن راهويه، وغيره‏.‏ وهو الصواب الذي لا ريب فيه وقد صنف أبو محمد بن حزم في حجة الوداع مصنفًا جمع فيه الآثار وقرر ذلك‏.‏
    وأحمد إنما اختار التمتع؛ لأمر النبي ﷺ لأصحابه به، لا لكونه كان متمتعًا التمتع الخاص عنده؛ ولهذا قال في رواية المروزي‏:‏ إنه إذا ساق الهدي فالقِران أفضل‏؟‏ ولولا أن النبي ﷺ قرن عنده، وساق الهدي لم يكن لهذا القول وجه، فإنه لو كان متمتعًا عنده لكان قد فعلها وأمر بها، فلا وجه حينئذ لاختيار القران لمن ساق الهدي‏.‏

    ج/ 26 ص -63- ولم يقل أحد من قدماء أصحاب أحمد أنه كان متمتعا التمتع الخاص، وأول من ادعى من أصحاب أحمد أن النبي ﷺ كان متمتعًا التمتع الخاص فيما علمناه القاضي أبويعلى، وذكر في تعليقه الاحتجاج بهذه الطريقة على فضيلة التمتع، وذكر أن الأولي وهي أن الاحتجاج بأمره لا بفعله، وبقوله‏:‏ ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت‏"‏ هي طريقة الأصحاب، كما كان يحتج بها إمامهم أحمد‏.‏
    ثم إن الذين نصروا أن النبي ﷺ كان متمتعًا، من الأصحاب، على قولين‏:‏
    الأول‏:‏ أنه حل من إحرامه مع سوقه الهدي، وحمل هؤلاء رواية من روي أن المتعة كانت لهم خاصة، على أنهم خصوا بالتحلل من الإحرام مع سوق الهدي، دون من ساق الهدي من الصحابة، وهذه طريقة القاضي ومن اتبعه‏.‏ وهذا الذي قاله هؤلاء منكر عند جماهير أهل العلم، وممن أنكر ذلك على القاضي الشيخ أبوالبركات، وغيره‏.‏ وقالوا‏:‏ من تأمل الأحاديث المستفيضة تبين له أن النبي ﷺ لم يحل هو، ولا أحد ممن ساق الهدي‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أن النبي ﷺ تمتع، بمعني أنه أحرم بالعمرة ولم يحل من إحرامه؛ لكونه ساق الهدي، وأحرم بالحج

    ج/ 26 ص -64- بعد أن طاف وسعي للعمرة وهذه طريقة الشيخ أبي محمد، وغيره‏.‏ وهؤلاء يسمون هذا متمتعا، وقد يسمونه قارنا، لكونه أحرم قبل التحلل من العمرة، لكن القران المعروف أن يحرم بالعمرة قبل أن يطوف بالبيت ليقع الطواف عن العمرة والحج‏.‏
    والفرق بين القارن والمتمتع الذي ساق الهدي يظهرمن وجهين‏:‏
    أحدهما‏:‏ من الإحرام بالحج قبل الطواف‏.‏
    والثاني‏:‏ من السعي عقب طواف الإفاضة، فإن القارن ليس عليه سعي ثان، كما ليس ذلك على المفرد‏.‏ وأما المتمتع فهذا السعي واجب في حقه عند أكثر العلماء وفيه عند أحمد روايتان‏.‏
    وأما الشافعي، فاختلف كلامه في حج النبي ﷺ‏.‏ فقال تارة‏:‏ إنه أفرد‏.‏ وقال تارة‏:‏ إنه تمتع‏.‏ وقال تارة‏:‏ إنه أحرم مطلقا‏.‏ فقال في ‏[‏مختصر الحج‏]‏ ‏:‏ وأحب إلى أن يفرد؛ لأن الثابت عندنا أن النبي ﷺ أفرد‏.‏ وقال في ‏[‏اختلاف الأحاديث‏]‏ ‏:‏ إن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ومن قال‏:‏ إنه أفرد الحج، يشبه أن يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم الذين أدرك، دون رسول الله ﷺ أن

    ج/ 26 ص -65- أحدًا لا يكون مقيما على حج إلا وقد ابتدأ إحرامه بحج، قال‏:‏ وأحسب عروة حين حَدَّث أن النبي ﷺ أحرم بحج ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول‏:‏ يفعل في حجه على هذا المعني‏.‏
    فقد بين الشافعي هنا أن النبي ﷺ كان متمتعًا، وأن من قال‏:‏ أفرد الحج، فلأنه لما رأي أن من استمر على إحرامه لا يكون إلا حاجا، والنبي ﷺ لما استمر على إحرامه ظن أنه كان حاجًا‏.‏
    وقال أيضا فيما اختلف فيه من الأحاديث عن رسول الله ﷺ في مخرجه‏:‏ ليس شيء من الاختلاف أبين من هذا، وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح؛ لأن الكتاب، ثم السنة ثم ما أعلم فيه خلافا يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج، وإفراد الحج والقران واسع كله‏.‏ قال‏:‏ وثبت أنه خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو فيما بين الصفا والمروة، وأمر أصحابه أن من كان منهم أهَلَّ، ولم يكن معه هدي، أن يجعلها عمرة، وقال‏:‏ ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏"‏‏.‏
    قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فمن أين أثبت حديث عائشة، وجابر، وابن عمر، وطاوس، دون حديث من قال‏:‏ قَرَن‏.‏

    ج/ 26 ص -66- قيل‏:‏ لتقدم صحبة جابر للنبي ﷺ، وحسن سياقه لابتداء الحديث، وآخره، ولرواية عائشة عن النبي ﷺ وفضل حفظها عنه، وقرب ابن عمر منه‏.‏
    قال‏:‏ ولأن من وصف انتظار النبي ﷺ القضاء، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج طلب الاختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة، يشبه أن يكون أحفظ؛ لأنه قد أتي في المتلاعنين فانتظر القضاء، فكذلك حفظ في الحج ينتظر القضاء‏.‏
    قال المزني‏:‏ إن ثبت حديث أنس عن النبي ﷺ، أنه قرن حتى يكون معارضًا للأحاديث سواه، فأصل قول الشافعي أن العمرة فرض، وأداء الفرض في وقت الحج أفضل من أداء فرض واحد؛ لأن من أكثر عمله لله كان أكثر في ثواب الله‏.‏
    قلت‏:‏ والصواب في هذا الباب أن الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرًا، يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع، والتمتع عندهم يتناول القران، والذين رَوَي عنهم أنه أفرد رَوَي عنهم أنه تمتع‏.‏
    أما الأول‏:‏ ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ اجتمع على وعثمان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي‏:‏ ما

    ج/ 26 ص -67-يريد إلا أمرًا فعله رسول الله ﷺ ينهى عنه، فقال عثمان‏:‏ دعنا منك‏.‏ فقال‏:‏ إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأي على ذلك أهل بهما جميعا‏.‏ هذا لفظ مسلم‏.‏ ولم يذكر البخاري دعنا، إلى أن أدعك‏.‏ وخرجه البخاري وحده من حديث مروان بن الحكم قال‏:‏ شهدت عثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بين الحج والعمرة، فلما رأي على ذلك أهل بهما‏:‏ لبيك بعمرة وحجة‏.‏ قال‏:‏ ما كنت لأدع سنة النبي ﷺ لقول أحد من الناس‏.‏
    فهذا يبين أنه إذا جمع بينهما كان متمتعًا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله النبي ﷺ، وهو سنة النبي ﷺ التي فعلها على بن أبي طالب، ووافقه عثمان على أن النبي ﷺ فعل ذلك، لكن كان النزاع‏:‏ هل ذلك أفضل في حقنا، أم لا‏؟‏ وهل يشرع فسخ الحج إلى المتعة في حقنا‏؟‏ كما تنازع فيه الققهاء‏.‏
    وفي الصحيح عن عبد الله بن شَقيق، قال‏:‏ كان عثمان ينهى عن المتعة وكان على يأمر بها، فقال عثمان لعلي‏:‏ كلمة، فقال‏:‏ لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله ﷺ، فقال‏:‏ أجل، ولكنا كنا خائفين، فقد اتفق عثمان وعلي على أنهم تمتعوا مع النبي ﷺ‏.‏ وأما قول عثمان ‏[‏كنا خائفين‏]‏ فإنهم كانوا خائفين في عمرة القَضِية،

    ج/ 26 ص -68-وكانوا قد اعتمروا في أشهر الحج، وكان كل من اعتمر في أشهر الحج يسمي أيضا متمتعا؛ لأن الناهين عن المتعة كانوا ينهون عن العمرة في أشهر الحج مطلقا‏.‏
    وشاهده ما في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص لما بلغه أن معاوية نهى عن المتعة، قال‏:‏ فعلناها مع رسول الله ﷺ، وهذا كافر بالعرش‏.‏ يعني معاوية‏.‏ ومعلوم أن معاوية كان مسلمًا في حجة الوداع، بل وفي عمرة الجِعْرَانة عام الفتح، أو قبل ذلك، ولكن في عمرة القضية كافر بعرش مكة‏.‏ وقد سمي سعد عمرة القضية متعة‏.‏ فلعل عثمان أراد الخوف عام القضية، وكانوا أيضا خائفين عام الفتح‏.‏ وأما عام حجة الوداع فكانوا آمنين، لم يكن قد بقي مشرك، بل نفي الله الشرك وأهله؛ ولهذا قالوا‏:‏ صلينا مع رسول الله ﷺ في آمن ما كان الناس ركعتين، فلعله قد اشتبه حالهم هذا العام بحالهم هذا العام‏.‏ كما اشتبه على من روي أنه نهى عن متعة النساء في حجة الوداع‏.‏ وإنما كان النهي في غزاة الفتح‏.‏
    وكما يظن بعض الناس أن النبي ﷺ دخل الكعبة في حجة أو عمرة، وإنما كان دخوله الكعبة عام الفتح لما فتح مكة، ولم يقل أحد‏:‏ إنه دخلها في حجة، ولا عمرة‏.‏ بل في الصحيحين عن إسماعيل بن أبي خالد قال‏:‏ قلت لعبد الله بن أبي أوفي من صحابة النبي

    ج/ 26 ص -69- ﷺ ‏:‏ أدخل النبي ﷺ البيت في عمرته‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏
    وفي الصحيحين عن مطرف بن الشِّخِير، قال‏:‏ قال لي عمران بن حصين‏:‏ أحدثك حديثا، لعل الله أن ينفعك به‏:‏ إن رسول الله ﷺ جمع بين حجته وعمرته، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه‏.‏ وفي رواية قال‏:‏ تمتع رسول الله ﷺ، وتمتعنا معه فهذا عمران وهو من أجل السابقين الأولين، أخبر أنه تمتع وأنه جمع بين الحج والعمرة‏.‏
    وفي صحيح مسلم عن غنيم بن قيس قال‏:‏ سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج، فقال‏:‏ فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعرش‏.‏ يعني بيوت مكة يعني معاوية‏.‏ وهذا إنما أراد به سعد عمرة القضية، فإن معاوية لم يكن أسلم إذ ذاك‏.‏ وأما في حجة الوداع فكان قد أسلم، فكذلك في عمرة الجعرانة، فسمي سعد الاعتمار في أشهر الحج متعة؛ لأن بعض الشاميين كانوا ينهون عن الاعتمار في أشهر الحج، فصار الصحابة يروون السنة في ذلك ردًا على من نهى عن ذلك، فالقارن عندهم متمتع، ولهذا وجب عليه الهدي ودخل في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ‏.‏
    وفي صحيح البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ سمعت رسول

    ج/ 26 ص -70- الله ﷺ وهو بواد العَقِيق‏:‏ يقول‏:‏ ‏"‏أتاني الليلة آت من ربي، فقال‏:‏ صل في هذا الوادي المبارك، وقل‏:‏ عمرة في حجة‏"‏‏.‏فهؤلاء الخلفاء الراشدون‏:‏ عمر، وعثمان، وعلي، وغير الخلفاء كعمران ابن حصين يروي عنهم بأصح الأسانيد، أن النبي ﷺ قرن بين العمرة والحج، وكانوا يسمونه تمتعًا‏.‏
    وفي الصحيحين عن بكر بن عبد الله المزني، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ سمعت رسول الله ﷺ يلبي بالحج والعمرة، فحدثت بذلك ابن عمر، فقال‏:‏ لبي بالحج وحده، فلقيت أنسًا فحدثته، فقال‏:‏ ما يعدونا إلا صبيانًا، سمعت رسول الله ﷺ يقول‏:‏
    ‏"‏لبيك عمرة وحجًا‏"‏‏.‏ فهذا أنس يخبر أنه سمع النبي ﷺ يلبي بالحج والعمرة جميعًا، وما ذكره بكر عن ابن عمر عنه، فجوابه أن الثقاة الذين هم أثبت في ابن عمر من بكر،مثل ابنه سالم، رووا عنه أنه قال‏:‏ تمتع رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج، وهؤلاء أثبت عن ابن عمر من بكر‏.‏ وغلط بكر على ابن عمر، أولي من تغليط سالم ابنه عنه، وتغليطه هو على النبي ﷺ‏.‏
    ويشبه هذا أن ابن عمر قال له‏:‏ أفرد الحج فظن أنه قال‏:‏ لبي بالحج، فإن إفراد الحج كانوا يطلقونه ويريدون به إفراد أعمال الحج، وذلك

    ج/ 26 ص -71-يرد قول من يقول‏:‏ إنه قرن فطاف طوافين، وسعي سعيين، ومن يقول‏:‏ إنه أحل من إحرامه‏.‏ فرواية من روي من الصحابة أنه أفرد الحج ترد على هؤلاء‏.‏ يبين هذا‏:‏ ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ أهللنا مع رسول الله ﷺ بالحج مفردا، وفي رواية أهل بالحج مفردا‏.‏ فلم يذكروا عن ابن عمر إلا أنه قال‏:‏ أفرد الحج، لا أنه قال‏:‏ لبي بالحج‏.‏
    وفي السنن من حديث البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال لعلي‏:‏
    ‏"‏قد سقت الهدي، وقرنت‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سالم عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال‏:‏ تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج،وأهدي فساق معه الهدي، من ذي الحليفة، وقد اعتمر رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدي فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله ﷺ مكة قال للناس‏:‏ ‏"‏من كان منكم أهدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه، حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدي فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر، وليتحلل، ثم ليهل بالحج، وليهدي، فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة

    ج/ 26 ص -72-إذا رجع إلى أهله‏"‏‏.‏ وطاف رسول الله ﷺ حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء، ثم خَبَّ ثلاثة أشواط، من السبع، ومشي أربعة أطواف، ثم رجع حين قضي طوافه بالبيت، فصلي عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتي الصفا فطاف بالصفا والمروة، سبعة أطواف ثم لم يتحلل من كل شيء حرم منه، حتى قضي حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله ﷺ من أهدي فساق الهدي من الناس‏.‏ قال الزهري‏:‏ وحدثني عروة عن عائشة مثل حديث سالم عن أبيه‏.‏
    فهذا أصح حديث على وجه الأرض‏.‏ وهو من حديث الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة عن سالم، عن ابن عمر، وهو أصح من حدث ابن عمر، ومن حديث عروة عن عائشة وهو أصح من حديث عائشة، وقد ثبت عنها في الصحيحين أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر‏:‏ الرابعة مع حجته‏.‏ ولم يعتمر بعدها باتفاق المسلمين، فتعين أن يكون قرن بين العمرة والحج، وقال‏:‏ هكذا فعل رسول الله ﷺ‏.‏ وكذلك أخبرت أن الذين جمعوا الحج والعمرة، إنما طافوا طوافًا واحدا‏.‏
    وأما الذين نقل عنهم‏:‏ أنه أفرد الحج، فهم ثلاثة‏:‏ عائشة، وابن

    ج/ 26 ص -73-عمر، وجابر‏.‏ والثلاثة نقل عنهم التمتع‏.‏ وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما أنه أفرد الحج، وما صح عنهما من ذلك فمعناه‏:‏ إفراد أعمال الحج‏.‏
    وفي الصحيحين عن حفصة أن النبي ﷺ أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة‏:‏ فما يمنعك أن تحل‏؟‏ فقال‏:
    ‏ ‏"‏إني لَبَّدتُ رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر هديي‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ما شأن الناس، حلوا ولم تحل أنت من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر الهدي‏"‏‏.‏ فهذا يدل على أنه كان معتمرًا، وليس فيه أنه لم يكن مع العمرة حاجًا‏.‏
    ومما يبين ذلك أن في الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، عمرة الحديبية في ذي القعدة، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجِعْرانة في ذي القعدة، وعمرة مع حجته‏.‏
    وفي الصحيحين عن مجاهد قال‏:‏ دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، فقال له عروة‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، كم اعتمر النبي ﷺ‏؟‏ فقال‏:‏ أربع عمر؛ إحداهن في رجب، فقال عروة‏:‏ ألاتسمعين يا أم المؤمنين إلى

    ج/ 26 ص -74-ما يقول أبو عبد الرحمن، فقالت‏:‏ ومايقول‏؟‏ قال يقول‏:‏ اعتمر رسول الله ﷺ أربع عمر إحداهن في رجب، فقالت‏:‏ يرحم الله أبا عبد الرحمن‏؟‏ ما اعتمر رسول الله ﷺ إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط‏.‏ فعائشة أنكرت كونه اعتمر في رجب، وما أنكرت كونه اعتمر أربع عمر‏.‏ فقد اتفقت عائشة وابن عمر على أنه اعتمر أربع عمر، كما روي ذلك عن أنس‏.‏ وقد ثبت باتفاق الناس أنه لم يعتمر بعد الحج‏.‏ وثبت أن ابن عمر وعائشة نقلا عنه أنه اعتمر مع الحج، وهذا هو التمتع العام الذي يدخل فيه القران، وهو الموجب للهدي‏.‏
    فتبين أن الروايات الكثيرة الثابتة عن ابن عمر وعائشة توافق ما فعله سائر الصحابة، أنه كان متمتعا التمتع العام‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه أحرم مطلقًا فاحتج بحديث مرسل، ومثل هذا لا يجوز أن يعارض به الأحاديث الصحيحة‏.‏
    فقد تبين أن من قال‏:‏ أفرد الحج، فإن ادعي أنه اعتمر بعد الحج كما يظنه بعض المتفقهة، فهذا مخطئ باتفاق العلماء، ومن قال‏:‏ إنه أفرد الحج، بمعني أنه لم يأت مع حجته بعمرة، فهذا قد اعتقده بعض العلماء، وهو غلط، ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة‏.‏

    ج/ 26 ص -75- ومن قال‏:‏ إنه أحرم إحرامًا مطلقا، فقوله غلط، لم ينقل عن أحد من الصحابة‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه تمتع، بمعني أنه لم يحرم بالحج حتى طاف وسعي، فقوله أيضا غلط، لم ينقل عن أحد من الصحابة‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه تمتع، بمعني أنه حل من إحرامه، فهو أيضا مخطئ باتفاق العلماء العارفين بالأحاديث‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه قرن، بمعني أنه طاف طوافين وسعي سعيين، فقد غلط أيضًا، ولم ينقل ذلك أحد من الصحابة عن النبي ﷺ‏.‏ فالغلط في هذا الباب وقع ممن دون الصحابة، فلم يفهموا كلامهم، وأما الصحابة فنقولهم متفقة‏.‏
    ومما يبين أنه لم يطف طوافين، ولا سعي سعيين لا هو ولا أصحابه، ما في الصحيحين عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول الله ﷺ فقال‏:‏
    ‏"‏من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا‏"‏‏.‏ وقالت فيه‏:‏ فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من مني لحجهم، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدًا‏.‏

    ج/ 26 ص -76- وفي صحيح مسلم عن طاوس عن عائشة‏:‏ أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي ﷺ يوم النفر‏:‏ ‏"‏يسَعُك طوافك لحجك وعمرتك‏"‏‏.‏ فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج‏.‏ وفي مسلم أيضا عن مجاهد عن عائشة‏:‏ أنها حاضت بسَرِف، فطهرت بعرفة، فقال لها النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏يجزي عنك طوافك بالصفا والمروة، عن حجك وعمرتك‏"‏‏.‏ وفي سنن أبي داود عن عطاء عن عائشة‏:‏ أن النبي ﷺ قال لها‏:‏ ‏"‏طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن جابر قال‏:‏ دخل النبي ﷺ على عائشة ثم وجدها تبكي، وقالت‏:‏ قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، فقال‏:‏ ‏"‏اغتسلي ثم أهلي بالحج‏"‏‏.‏ ففعلت ووقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، وبالصفا والمروة، ثم قال‏:‏ ‏"‏قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ يا رسول الله، إني أجد في نفسي، أني لم أطف بالبيت حين حججت، فقال‏:‏ ‏"‏فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم‏"‏ وذلك ليلة الحصبة‏.‏
    فقد أخبرت عائشة في الحديث الصحيح أن الذين قرنوا لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا الطواف الأول الذي طافه

    ج/ 26 ص -77-المتمتعون أولا‏.‏
    وأيضا، فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة في قضيتها، أنها لما طافت يوم النحر بالبيت، وبين الصفا والمروة، قال لها‏:‏ ‏"‏قد حللت‏"‏، وقال لها‏:‏ ‏"‏يسعك طوافك لحجك وعمرتك‏"‏، وأنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة، ودل ذلك على أن القارن يجزيه طواف واحد بالبيت، وبين الصفا والمروة، كما يجزي المفرد، لا سيما وعائشة لم تطف إلا طواف قدوم، بل لم تطف إلا بعد التعريف، وسعت مع ذلك، فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعده يكفي القارن، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة، وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولي‏.‏
    ومما يبين ذلك أن الصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله ﷺ كلهم نقلوا أنه لما طاف الصحابة بالبيت، وبين الصفا والمروة، أمرهم النبي ﷺ بالتحلل إلا من ساق الهدي، فإنه لا يتحلل إلا يوم النحر‏.‏ ولم ينقل أحد منهم أن أحدًا منهم طاف وسعي، ثم طاف وسعي، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقله أحد من الصحابة علم أن هذا لم يكن، وعمدة من قال ذلك أثر يرويه الكوفيون عن على، وأثر آخر عن ابن مسعود، وقد روي جعفربن محمد عن أبيه محمد بن على أنه كان يحفظ عن على بن أبي طالب للقارن طوافا واحدًا بين الصفا والمروة، خلاف ما يحفظ أهل

    ج/ 26 ص -78-العراق‏.‏ وما رواه العراقيون منه ما هو منقطع، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون‏.‏ ولهذا طعن علماء النقل في ذلك، حتى قال ابن حزم‏:‏كل ما روي في ذلك عن الصحابة لا يصح منه ولا كلمة واحدة، وقد نقل في ذلك عن النبي ﷺ ما هو موضوع بلا ريب‏.‏
    وأيضا، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال لهم‏:‏ اشهدوا أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي، ثم انطلق يهل بهما جميعا، حتى قدم مكة فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة‏.‏ ولم يزد على ذلك، ولم يحلق ولا قصر، ولا أحل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر، فحلق ونحر، ورأي أنه قد قضي طواف الحج والعمرة بطوافه الأول‏.‏ ثم قال‏:‏ هكذا فعل رسول الله ﷺ‏.‏
    وأيضا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏"‏، وإذا دخلت فيه لم تحتج إلى عمل زائد على عمله‏.‏ وقد روي سفيان الثوري عن سلمة بن كُهَيل، قال‏:‏ حلف لي طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله ﷺ في حجته وعمرته إلا طوافًا واحدًا‏.‏
    وقد ثبت مثل هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وغيرهم، وهم من أعلم الناس بحجة رسول الله ﷺ ولا يخالفونها‏.‏

    ج/ 26 ص -79- فهذه الأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبي ﷺ تبين‏:‏ أنه لم يطف بالبيت، وبين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا‏.‏ فتبين بذلك أن الذي دلت عليه الأحاديث هو الذي قاله أئمة أهل الحديث، كأحمد وغيره، أن النبي ﷺ كان قارنًا، وأنه لم يطف إلا طوافا واحدًا بالبيت، وبين الصفا والمروة، لكنه ساق الهدي، فمن ساق الهدي فالقِران أفضل له من التمتع، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له، كما أمر النبي ﷺ أصحابه، والله أعلم‏.

    ج/ 26 ص -80-وسئل رحمه الله تعالى عن حج النبي ﷺ هل كان مفردًا‏؟‏ أو قارنا‏؟‏ أو متمتعًا‏؟‏ وأيما أفضل لمن يحج، فقد أكثر الناس القول، وأطالوا وزادوا ونقصوا، والقصد كشف الحق عن هذه الأحوال، وقول بعض الناس إن أحدًا من الصحابة أتي بعمرة من مكة، والحديث الذي رووه‏:‏ ‏"‏أن عمرة في رمضان تقوم كذا وكذا حجة‏"‏‏.‏ هل هو صحيح‏؟‏ أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد رب العالمين، أما حج النبي ﷺ، فالصحيح أنه كان قارنًا، قرن بين الحج والعمرة، وساق الهدي ولم يطف بالبيت، وبين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، حين قدم‏.‏ لكنه طاف طواف الإفاضة مع هذين الطوافين‏.‏
    وهذا الذي ذكرناه هو الصواب المحقق عند أهل المعرفة بالأحاديث،الذين جمعوا طرقها، وعرفوا مقصدها، وقد جمع أبو محمد بن حزم في حجة الوداع كتابا جيدًا في هذا الباب
    وقال الإمام أحمد‏:‏ لا أشك أن النبي ﷺ كان

    ج/ 26 ص -81-قارنًا، والتمتع أحب إلى؛ لأنه آخر الأمرين‏.‏ يريد به قول النبي ﷺ بعد أن طاف وسعي، وأمر أصحابه بالتحلل، فشق عليهم، فقال‏:‏ ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏"‏‏.‏ وهذا إنما يقتضي أنه كان متمتعًا بدون سوق الهدي، والنبي ﷺ كان قد ساق الهدي؛ ولهذا قال أحمد في رواية المروزي‏:‏ إذا ساق الهدي فالقران أفضل، وذلك لأنه فعل النبي ﷺ‏.‏
    وهذا الذي ذكرناه من أنه حج قارنا يتبين لمن تدبر الأحاديث، وفهم مضمونها، وبسط ذلك في هذا الموضع غير ممكن، لكن نذكر نكتًا مختصرة‏:‏
    منها‏:‏ أن الذين نقلوا لفظ رسول الله ﷺ كلفظ تلبيته، ولفظه في خبره عن نفسه، وفيما يخبر به عن أمر الله له‏:‏ إنما ذكروا القِران؛ كقول أنس في الصحيحين‏:‏ سمعته يقول‏:‏ ‏"‏لبيك عمرة وحجة‏"‏ وكان تحت ناقته‏.‏ وكحديث عمر الذي في الصحيح حيث قال‏:‏ ‏"‏أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك، وقال‏:‏ قل‏:‏ عمرة في حجة‏"‏‏.‏ وقوله في حديث البراء بن عازب‏:‏ ‏"‏فإني سقت الهدي وقرنت‏"‏‏.‏
    والذين قالوا‏:‏ تمتع بالعمرة إلى الحج، لم تزل قلوبهم على غير

    ج/ 26 ص -82-القران، فإن القران كان عندهم داخلا في مسمي التمتع بالعمرة إلى الحج كما جاء مفسرًا في الصحيحين، من أن عثمان كان ينهى عن المتعة، وكان على يأمر بها، فلما رأي ذلك على أهل بهما جميعًا‏.‏
    ولهذا وجب عند الأئمة على القارن الهدي بقوله‏:‏ ‏
    "فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏"‏[‏البقرة‏:‏196‏]‏ ‏.‏ وذلك أن مقصود حقيقة التمتع أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج، ويحج من عامه، فيترفه بسقوط أحد السفرين، قد أحل من عمرته، ثم أحرم بالحج، أو أحرم بالحج مع العمرة، أو أدخل الحج على العمرة، فأتي بالعمرة والحج جميعًا في أشهر الحج من غير سفر بينهما، فيترفه بسقوط أحد السفرين‏.‏ فهذا كله داخل في مسمي التمتع، مع أن هؤلاء لم ينقلوا لفظ رسول الله ﷺ‏.‏
    وكذلك الذين قالوا‏:‏ أفرد الحج، مع أن هذا اللفظ يراد به الرد على من قال‏:‏ تمتع بالعمرة إلى الحج، وحل من إحرامه، وعلى من قال‏:‏ إنه طاف طوافين، وسعي سعيين، فإن أصحابه حلوا من إحرامهم حيث لم يسوقوا الهدي، فبقوا محرمين كما يبقي مفردًا بحج ولم يأتوا بزيادة على عمل المفرد‏.‏ فبين هؤلاء أنه لم يفعل إلا أفعال الحج، لم يحل من إحرامه ولا زاد عليها، وتبين بذلك أنه قد اعتمر أربعًا؛ إحداهن عمرة مع حجته، ولا نزاع بين أهل العلم أنه لم يعتمر

    ج/ 26 ص -83- بعد الحجة لا هو ولا أحد ممن حج معه حجة الوداع، إلا عائشة خاصة، فإنه أعمرها مع أخيها عبد الرحمن، لأجل حيضها الذي حاضته وبنيت بعد ذلك مساجد، فسميت ‏[‏مساجد عائشة‏]‏ ، فإنها أحرمت بالعمرة من هناك، فإنه أدني الحل إلى مكة؛ إذ ذاك الجانب من الحرم أقرب جوانبه من مكة‏.‏ وكان قد اعتمر مع حجته ولم يعتمر بعدها، فتبين أن عمرته كانت فيها قبلها، فيكون متمتعًا‏.‏
    يوضح ذلك أن عامة الذين روي عنهم أنه أفرد الحج، كعائشة، وابن عمر‏.‏ روي عنهم أنه تمتع بالعمرة إلى الحج، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة وغيرهما، وقد تبين أن من قال‏:‏ تمتع بالعمرة إلى الحج، وأنه حل من إحرامه، كما زعم ذلك بعض أصحاب أحمد، كالقاضي، وغيره،وزعموا أنه كان مخصوصًا بذلك، دون من تمتع وساق الهدي فهذا القول خطأ‏.‏
    وكذلك من يظن من أصحاب مالك والشافعي أنه أفرد الحج، واعتمر عقب ذلك، فهذا القول خطأ، وكلا القولين مخالف لإجماع أهل العلم بالآثار‏.‏
    وكذلك من زعم أنه طاف طوافين، وسعي سعيين، كما يختار ذلك أصحاب أبي حنيفة، وأنه خلاف الأحاديث الصحيحة، التي

    ج/ 26 ص -84- تبين أنه لم يطف بالبيت والصفا والمروة إلا مرة واحدة‏.‏
    وأما من قال من أصحاب أحمد‏:‏ إنه تمتع ولم يحل من إحرامه؛ لأجل سوق الهدي، كما يختاره أبو محمد وغيره، فالتمتع على المشهور عندهم‏:‏ السعي بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة للحج، كما سعي أولا للعمرة، والنبي ﷺ لم يسع بعد الإفاضة، فكيف يكون متمتعًا على هذا القول‏؟‏ لكن عن أحمد رواية أخري، أن المتمتع لا يحتاج إلى سعي ثان، بل يكفيه السعي الأول، كما يكفي المفرد، وكما يكفي القارن‏.‏
    وسبب اختلاف الروايتين عن أحمد‏:‏ أن في حديث عامر‏:‏ أنهم لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا الطواف الأول،وفي حديث عائشة‏:‏ أنهم طافوا بعد التعريف، فإنه على هذه الرواية لا يتوجه هذا الإلزام؛لكن لا يبقي بين القارن وبين المتمتع الذي ساق الهدي فلم يحل لأجله فرق، إلا أن القارن أحرم بالحج قبل الطواف والسعي، والمتمتع أحرم بالحج بعد ذلك، فإذا كان إدخاله الحج عليها بعد طوافه وسعيه كإدخاله قبل طوافه وسعيه لا يوجب عليه سعيا ثانيا، لم يكن بين القارن والمتمتع الذي لم يحل فرق أصلا‏.‏
    وعلى هذا، فإحرامه بالحج قبل أن يطوف ويسعي، أفضل من أن

    ج/ 26 ص -85-يحرم به بعد الطواف والسعي، وقد صح عن النبي ﷺ أنه أحرم بهما جميعا، وقال‏:‏ ‏"‏لبيك عمرة وحجًا‏"‏، ومن لم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي لا يقول هذا‏.‏
    ومن قال من أصحاب مالك والشافعي‏:‏ أفرد الحج ولم يعتمر مع حجته، فالأحاديث الصحيحة التي تبين أنه اعتمر مع حجته وأنه اعتمر أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجِعْرَانة، والعمرة التي مع حجته ترد هذا القول‏.‏ وكذلك قول حفصة في الحديث المتفق عليه‏:‏ ما بال الناس حلو‏.‏ ولم تحل من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني لَبَّدت رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر‏"‏‏.‏
    وأما قول القائل‏:‏ أيما أفضل ‏؟‏
    فالتحقيق في هذه المسألة‏:‏ أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من القران، والتمتع الخاص بسفرة واحدة وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة، مع مالك، والشافعي، وغيرهم‏.‏ وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر‏.‏ وكان عمر يختاره للناس وكذلك على رضي الله عنه وقال عمر وعلى في قوله‏:‏ ‏
    "وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏196‏]‏ قالا‏:‏ إتمامهما أن تهل بهما من دويرة أهلك‏.‏ وقد قال النبي ﷺ لعائشة في عمرتها‏:‏ ‏"‏أجرك على قدر

    ج/ 26 ص -86-نصبك‏"‏‏.‏ وإذارجع الحاج إلى دويرة أهله، فأنشأ منها العمرة، أو اعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج، أو اعتمر في أشهره، ورجع إلى أهله ثم حج، فهنا قد أتي بكل واحد من النسكين من دويرة أهله‏.‏ وهذا أتي بهما على الكمال، فهو أفضل من غيره‏.‏
    وأما إذا أفرد الحج واعتمر عقب ذلك من أدني الحل، فهذا الإفراد لم يفعله رسول الله ﷺ، ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه، بل ولا غيرهم‏.‏ كيف يكون هو الأفضل مما فعلوه معه بأمره‏؟‏ بل لم يعرف أن أحدًا اعتمر من مكة على عهد رسول الله ﷺ إلا عائشة، لا في حجة الوداع، ولا قبلها، ولا بعدها، بل هذه العمرة لا تجزئ عن عمرة الإسلام في إحدى الروايتين عن أحمد‏.‏ وعند بعض أهل العلم أنها متعة‏.‏
    وتكره العمرة في ذي الحجة عند طائفة من أهل العلم،مع أن عائشة كانت إذا حجت صبرت حتى يدخل المحرم، ثم تحرم من الجحفة فلم تكن تعتمر من أدني الحل، ولا في ذي الحجة‏.‏
    وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، وقدم مكة في أشهر الحج، ولم يسق الهدي‏.‏ فالتمتع أفضل له، من أن يحج ويعتمر بعد ذلك من الحل؛ لأن أصحاب رسول الله ﷺ

    ج/ 26 ص -87-الذين حجوا معه ولم يسوقوا الهدي، أمرهم جميعهم أن يحجوا هكذا‏:‏ أمرهم إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة، فلما كان يوم التروية أمرهم أنم يحرموا بالحج، وهذا متواتر عنه ﷺ أنه أمرهم بذلك، وحجوا معه كذلك‏.‏ ومعلوم أنهم أفضل الأمة بعده، ولا حجة تكون أفضل من حجة أفضل الأمة، مع أفضل الخلق بأمره، فكيف يكون حج من حج مفردًا، واعتمر عقب ذلك، أو قارنًا ولم يسق الهدي أفضل من حج هؤلاء معه بأمره، وكيف ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول وأمره أبلغ من فعله‏؟‏‏!‏
    وأيضًا، فإن من يحرم بالعمرة قد نوي الحج، فإنه ينوي التمتع بالعمرة إلى الحج، كما ينوي المغتسل إذا بدأ بالتوضؤ أنه يتوضأ الوضوء الذي هو بعض الغسل، فيكون تحريمان وتحليلان، كما للمفرد تحليلان وتحريمان، فيكون له هدي، كما للقارن هدي، والهدي هدي نسك، لا هدي جبران، فإن هدي الجبران الذي يكون لترك واجب، أو فعل محرم لا يحل سببه إلا مع العذر‏.‏ فليس له أن يترك شيئا من واجبات الحج بلا عذر، أو يفعل شيئا من محظوراته بلا عذر، ويأتي بدم‏.‏ وهذا له أن يتمتع بلا عذر، ويأتي بالهدي، فعلم أنه دم نسك‏.‏ وقد ثبت بالسنة أنه يأكل، كما أكل

    ج/ 26 ص -88- النبي ﷺ من هديه، وقد كان قارنًا، وكما ذبح عن نسائه البقرة، وأطعمهن من ذلك، وكن متمتعات‏.‏
    وأيضًا، فلمن يأتي بالعبادتين‏:‏ إذا كانتا من جنس يجمع بينهما، أن يبدأ بالصغري على الكبري، كما يتوضأ المغتسل، ثم يتم غسله، وكما أمره بمثل ذلك في غسل الميت، فإذا اعتمر ثم أتي بالحج كان موافقا لهذا، بخلاف من حج فإنه أتي بالغاية‏.‏ فإذا اعتمر عقب ذلك لم يكن في عمرته عمل زائد‏.‏
    وإذا أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز ذلك بالاتفاق؛ لأنه التزم أكثر مما كان عليه‏.‏
    واما إذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز على الصحيح لأنه لا يلتزم زيادة شيء، وإنما جوزه أبوحنيفة بناء على أصله، في أن عمل القارن فيه زيادة على عمل المفرد‏.‏
    ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها، ثم أراد أن يسافر أخرى للحج، فتمتعه أيضا أفضل له من الحج، فإن كثيرًا من الصحابة الذين حجوا مع النبي ﷺ كانوا قد اعتمروا قبل ذلك، ومع هذا فأمرهم بالتمتع، لم يأمرهم بالإفراد، ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي، وهذا أفضل من عمرة وحجة‏.‏

    ج/ 26 ص -89-وكذلك لو تمتع ثم سافر من دويرة أهله للمتعة، فهذا أفضل من سفرة بعمرة، وسفرة بحجة مفردة، وهذا المفرد أفضل من سفرة واحدة يتمتع فيها‏.‏
    وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقران أفضل، اقتداء برسول الله ﷺ حيث قرن، وساق الهدي‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه مع سوق الهدي يكون التمتع أفضل له‏.‏ قيل له‏:‏ مع أن هذا مخالف للسنة إذا أحرم قبل الطواف والسعي كان قد تقدم إحرامه، ووقع الطواف والسعي عن الحج والعمرة، وإذا أحرم بعدهما لم يكن الطواف والسعي واقعًا إلا عن العمرة‏.‏ ووقوع الأفعال عن حج مع عمرة خير من وقوعها عن عمرة لا يتحلل فيها إلى أن يحج، لكنه قد يقول‏:‏ إذا تأخر إحرامه بالحج لزمه سعي ثان، وهذا زيادة عمل، لكن هذا فيه نزاع كما تقدم‏.‏
    وليس له أن يحتج بقول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏"‏‏.‏ لأنه ﷺ لم يقل لتمتعت مع سوق الهدي، بل قال‏:‏ ‏"‏لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة‏"‏‏.‏فجعل المطلوب متعة بلا سوق هدي، وهذا

    ج/ 26 ص -90- دليل ثان على أن من ساق الهدي لا يتمتع، بل يقرن‏.‏ وإذا كان القران والتمتع مع سوق الهدي سواء، ارتفع النزاع‏.‏
    فإن قيل‏:‏ أيما أفضل أن يسوق الهدي ويقرن، أو أن يتمتع بلا سوق هدي، ويحل من إحرامه‏؟‏
    قيل‏:‏ هذا موضع الاجتهاد، فإنه قد تعارض دليلان شرعيان‏:‏
    أحدهما‏
    :‏ أنه قرن وساق الهدي في حجة الوداع، ولم يكن الله ليختار لنبيه المفضول دون الأفضل، فإن خير الهدي هدي محمد ﷺ ‏.‏
    والثاني‏:‏ أن قوله هذا، يقتضي أنه لو كان ذلك الحال هو وقت إحرامه، لكان أحرم بعمرة، ولم يسق الهدي بقوله‏:‏ ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت‏"‏، فالذي استدبره هو الذي فعله ومضي فصار خلفه، والذي يستقبله هو الذي لم يفعله بعد، بل هو أمامه، فتبين أنه لو كان مستقبلا لما استبدره من أمره وهو الإحرام لأحرم بالعمرة دون هدي، وهو لا يختار أن ينتقل من الأفضل إلى المفضول، بل إنما يختار الأفضل‏.‏ وذلك يدل على أنه تبين له حينئذ أن التمتع بلا هدي أفضل له‏.‏
    ولكن من نصر الأول يجيب عن هذا بأنه لم يقل هذا لأجل أن

    ج/ 26 ص -91-الذي فعله مفضول، بل لأن أصحابه شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه محرمًا، فكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أمروا به عن انشراح وموافقة، وقد ينتقل من الأفضل إلى المفضول لما فيه من الموافقة، وائتلاف القلوب، كما قال لعائشة‏:‏ ‏"‏لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولجعلت لهابابين‏"‏‏.‏ فهنا ترك ما هو الأولي؛ لأجل الموافقة والتاليف الذي هو الأدني من هذا الأولي، فكذلك اختار المتعة بلا هدي‏.‏
    وعلى هذا التقدير، فيكون الله قد جمع له بين أن فعل الأفضل وبين أن أعطاه بما يراه من الموافقة لهم ما في ذلك من الفضل، فاجتمع له الأجران، وهذا هو اللائق بحاله ﷺ ‏.‏
    يبين ذلك أن سوق الهدي أفضل من ترك سوقه، وقد ساق مائة بدنة، فكيف يكون ترك ذلك أفضل في نفسه بمجرد التحلل والإحرام ثانيا، وسوق الهدي فيه من تعظيم شعائر الله ما ليس في تكرر التحلل والتحريم‏.‏
    يبين ذلك أن المتمتع إذا ساق الهدي فينبغي أن يكون أفضل من جميع من لم يسق، والقارن الذي ساق الهدي أفضل منهما‏.‏
    وأيضًا، فإن القارن والمتمتع عليه هدي، ومعلوم أن الهدي الذي يسوقه

    ج/ 26 ص -92-من الحل أفضل باتفاق المسلمين، مما يشتريه من الحرم، بل في أحد قولي العلماء‏:‏ لا يكون هديا إلا بما أهدي من الحل إلى الحرم‏.‏
    وحينئذ، فسوقه من الميقات أفضل من سوقه من أدني الحل، فكيف يجعل الهدي الذي لم يسق أفضل مما سيق، فهذا وغيره مما يبين أن سوق الهدي مع التمتع والقران أفضل من تمتع لا سوق فيه‏.‏
    وأما سؤال السائل عن بعض الصحابة‏:‏ هل اعتمر من مكة‏؟‏ فلم يعتمر أحد على عهد رسول الله ﷺ من مكة إلا عائشة خاصة، وعائشة نفسها كانت إذا حجت تمكث إلى أن يهل المحرم، ثم تخرج إلى الجحفة فتحرم منها بعمرة‏.‏
    وقوله ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏تعدل حجة معي‏"‏، وفي رواية أنه قال‏:‏ ‏"‏الحج من سبيل الله‏"‏، فبين لها أن اعتمارها في رمضان تقوم مقام الحجة التي تخلفت عنها، والحجة كانت من المدينة، والعمرة كانت من المدينة، وذلك لأن شهر رمضان هو شهر الصيام، وهو قبل أشهر الحج‏.‏
    ومن حج من عامه كان أفضل من المتمتع، والمتمتع لابد أن يعتمر في أشهر الحج، وقد كان يمكنه أن يحرم بالحج، فلما عدل عن الإحرام

    ج/ 26 ص -93- بالحج إلى الإحرام بالعمرة ترفه بسقوط أحد السفرين، فصار الهدي قائمًا مقام هذا الترفه‏.‏
    ولهذا ظن بعض الفقهاء أن هدي المتمتع هدي جُبْران، ومنعوه من الأكل منه، وجعلوا وجوب الهدي في المتمتع دليلا على أنه مرجوح، فإن النسك السالم عن جبران أفضل من النسك المجبور‏.‏
    فقال لهم الآخرون‏:‏ دم الجبران لا يجوز للرجل أن يفعل سببه بغير عذر، وهنا يجوز التمتع من غير حاجة، فامتنع أن يكون هذا دم جبران‏.‏ نعم، قد يقال‏:‏ التمتع رخصة، والرخصة قد تكون أفضل، كما أن القصر أفضل من التربيع عند العلماء بالسنة المتواترة، واتفاق السلف، وكذلك ‏[‏الفطر، والمسح‏]‏ على أن أظهر قولي العلماء، فإن الفطر هو آخر الأمرين منه ﷺ ‏.‏
    وتنازع العلماء في وجوبه، وفي إجزاء الصوم في السفر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر عليه القضاء، واتفق المسلمون على أن الفطر في السفر جائز؛ لأنه كان آخر الأمرين من النبي ﷺ، واتفق المسلمون على جوازه وهو أفضل، فما تنازعوا في جوازه، مع أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏ليس من البر الصيام في السفر‏"‏، وثبت في صحيح مسلم، أن حمزة

    ج/ 26 ص -94- بن عمرو قال للنبي ﷺ‏:‏ إني رجل أكثر الصيام، أفأصوم في السفر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس‏"‏‏.‏ فحسن الفطر، ورفع البأس عن الصوم‏.‏
    وهكذا ‏[‏المسح على الخفين‏]‏ ، فإنه لم ينقل أحد أن النبي ﷺ كان إذا لبس الخفين على طهارة ثم أحدث أنه لينزعهماوليغسل رجليه، بل كان ليمسح عليهما، وهذا مورد النزاع، فأما إذا لم يكن عليه خفان ففرضه الغسل، ولا ليشرع له أن ليلبس الخفين لأجل المسح، بل صورة المسألة إذا لبسهما لحاجته، فهل الأفضل أن ليمسح عليهما، أو ليخلعهما، أو كلاهما على السواء‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏
    والصواب‏:‏ أن المسح أفضل، اتباعًا للسنة‏.‏
    وأيضًا، فالذي يحج متمتعًا فعل ما يشرع باتفاق العلماء المعروفين، وأما غير المتمتع ففي حجه نزاع، فقد ثبت عن ابن عباس، وطائفة من السلف أن التمتع واجب، وأن كل من طاف وسعي ولم يكن معه هدي، فإنه يحل من إحرامه، سواء قصد التحلل أو لم يقصده، وليس لأحد عند هؤلاء أن يحج إلا متمتعًا، وهذا مذهب ابن حزم، وغيره من أهل الظاهر‏.‏ وهو مذهب الشيعة أيضًا؛ لأن النبي ﷺ أمر بذلك أصحابه في حجة الوداع، فإذا كان التمتع

    ج/ 26 ص -95- مختلفًا في وجوبه متفقًا على جوازه، وغيره ليس بواجب، ولم يتفق على جوازه، كان الحج الذي اتفق على جوازه أولي‏.‏
    ولا يعارض هذا أن بعض المتقدمين كان ينهي عن المتعة، وكان بعض الولاة يضرب عليها، فعلماء أصحاب هذا القول قد قيل‏:‏ إنهم لم يكونوا يحرمون المتعة، بل كانوا يختارون أن يعتمر الناس في غير أشهر الحج، كي لا يزال البيت معمورًا بالحجاج والعمار‏.‏ ومن قدر أنه نهي عن ذلك نهي تحريم، فهذا قول مخالف للسنة الثابتة عن النبي ﷺ، مع مخالفته لكتاب الله، فلا يلتفت إليه‏.‏
    وأما تنازع العلماء في جواز فسخ المفرد، والقارن، وانتقالهما إلى التمتع‏.‏ فمن العلماء من قال‏:‏ إن ذلك منسوخ، وإن ذلك كان مخصوصًا بالذين حجوا مع النبي ﷺ‏.‏ قال بعضهم‏:‏ لأن النبي ﷺ أراد أن يعلمهم جواز العمرة في أشهر الحج‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ هذا قول ضعيف جدًا، فإن النبي ﷺ اعتمر في أشهر الحج غير مرة، بل عمره كانت في أشهر الحج‏:‏ عمرة الحديبية كانت في ذي القعدة، وعمرة القضاء في العام القابل كانت في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة، أما كان في هذا ما يبين جواز الاعتمار في أشهر الحج‏؟‏‏!‏
    وأيضًا، فقد ثبت في الصحيحين أنهم لما كانوا بذي الحليفة، قال‏:‏ ‏"‏من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحجة

    ج/ 26 ص -96-فليفعل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليفعل‏"‏‏.‏ فقد صرح لهم بجواز الثلاثة، وفي هذا بيان واضح لجواز العمرة في أشهر الحج‏.‏
    وأيضًا، فالذين حجوا معه متمتعين كان في حجهم ما بين الجواز، فلا يجوز أن يأمر جميع من حج معه بالتحلل من إحرامه، وأن يجعلوا ذلك تمتعًا بمجرد بيان جواز ذلك، ولا ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول، فعلم أنه إنما نقلهم إلى الأفضل، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قيل له‏:‏ عمرتنا هذه لعامنا، أم للأبد‏؟‏ فقال‏
    :‏ ‏"‏بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
    وأيضًا، فإذا كان الكفار لم يكونوا يتمتعون، ولا يعتمرون في أشهر الحج، والنبي ﷺ قصد مخالفة الكفار، كان هذا من سنن الحج كما فعل في وقوفه بعرفة، ومزدلفة، فإن المشركين كانوا يعجلون الإفاضة من عرفة قبل الغروب، ويخرون الإفاضة من جَمْع إلى أن تطلع الشمس‏.‏ فخالفهم النبي ﷺ، وقال‏:‏ ‏"‏خالف هدينا هدي المشركين‏"‏‏.‏ فأخر الإفاضة من عرفة إلى أن غربت الشمس، وعجل الإفاضة من جَمْع قبل طلوع الشمس، وهذا هو السنة للمسلمين باتفاق المسلمين، فهكذا ما فعله من التمتع والفسخ إن كان قصد به مخالفة المشركين، فهذا هو السنة، وإن فعله لأنه أفضل، وهو سنة، فعلى التقديرين يكون الفسخ أفضل، اتباعًا لما أمر به النبي ﷺ أصحابه، والله سبحانه أعلم‏.

    ج/ 26 ص -97-وقال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
    وأما الركن اليماني فلا يقبل على القول الصحيح، وأما سائر جوانب البيت، والركنان الشاميان، ومقام إبراهيم فلا يقبل، ولا يتمسح به باتفاق المسلمين المتبعين للسنة المتواترة عن النبي ﷺ ‏.‏
    فإذا لم يكن التمسح بذلك، وتقبيله مستحبًا، فأولي ألا يقبل ولا يتمسح بما هو دون ذلك‏.‏
    واتفق العلماء على أنه لا يستحب لمن سلم على النبي ﷺ عند قبره أن يقبل الحجرة، ولا يتمسح بها لئلا يضاهي بيت المخلوق بيت الخالق، ولأنه قال ﷺ‏
    :‏ ‏"‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏لا تتخذوا قبري عيدًا‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏ فإذا كان هذا دين المسلمين في قبر النبي ﷺ، الذي هو سيد ولد آدم، فقبر غيره أولي ألا يقبل ولا يستلم‏.‏
    وقد حكي بعض العلماء في هذا خلافًا مرجوحًا، وأما الأئمة المتبعون، والسلف الماضون، فما أعلم بينهم في ذلك خلافًا، والله سبحانه أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML