وسئل
رضي اللّه عنه وأرضاه عن ليلة القدر، وهو معتقل بالقلعة قلعة الجبل سنة ست وسبعمائة.
فأجاب:
الحمد للّه، ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان هكذا صح عن النبي ﷺ أنه قال: "هي في العشر الأواخر من رمضان". وتكون في الوتر منها.
لكن الوتر يكون باعتبار الماضي، فتطلب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين.
ج/ 25 ص -285-ويكون باعتبار ما بقى كما قال النبي ﷺ: "لِتَاسِعةٍ تَبْقِى، لِسَابعةٍ تبقى، لخامِسةٍ تَبْقَى، لِثَاِلثةٍ تَبْقَى". فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليال الإشفاع، وتكون الإثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح. وهكذا أقام النبي ﷺ في الشهر.
وإن كان الشهر تسعاً وعشرين؛ كان التاريخ بالباقي، كالتاريخ الماضي.
وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه، كما قال النبي ﷺ: "تَحروها في العشر الأواخر". وتكون في السبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين كما كان أبي بن كعب يحلف أنها ليلة سبع وعشرين، فقيل له: بأي شيء علمت ذلك؟ فقال: بالآية التي أخبرنا رسول اللّه أخبرنا أن الشمس تطلع صبحة صبيحتها كالطَّشْت، لاشعاع لها.
فهذه العلامة التي رواها أبي بن كعب عن النبي ﷺ
ج/ 25 ص -286-من أشهر العلامات في الحديث، وقد روي في علاماتها: أنها ليلة بلجة منيرة، وهي ساكنة لا قوية الحر، ولا قوية البرد، وقد يكشفها اللّه لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له: هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر. واللّه تعالى أعلم.
وسئل عن [ليلة القدر]، و[ليلة الإسراء بالنبي ﷺ] أيهما أفضل ؟
فأجاب:
بأن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي ﷺ وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، فحظ النبي ﷺ الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظه من ليلة القدر.
وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج، وإن كان لهم فيها أعظم حظ، لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها، لمن أسرى به ﷺ.
ج/ 25 ص -287-وسئل عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل ؟
فأجاب:
أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
قال ابن القيم: واذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب. وجده شافيا كافياً؛ فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى اللّه من أيام عشر ذي الحجة، وفيها: يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية.
وأما ليالي عشر رمضان، فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول اللّه ﷺ يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر.
فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.
ج/ 25 ص -288-سُئِل شيخ الإسلام: أيما أفضل: يوم عرفة، أو الجمعة، أو الفطر، أو النحر؟
فأجاب:
الحمد للّه، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة باتفاق العلماء، وأفضل أيام العام هو يوم النحر، وقد قال بعضهم: يوم عرفة، والأول هو الصحيح؛ لأن في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "أفضل الأيام عند اللّه يوم النحر ثم يوم القَرِّ"؛ لأنه يوم الحج الأكبر في مذهب مالك والشافعي وأحمد، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "يوم النحر هو يوم الحج الأكبر".
وفيه من الأعمال مالا يعمل في غيره، كالوقوف بمزدلفة، ورمى جمرة العقبة وحدها، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنة، واتفاق العلماء. واللّه أعلم.
ج/ 25 ص -289-وسئل عن يوم الجمعة، ويوم النحر، أيهما أفضل ؟
فأجاب:
يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام.
قال ابن القيم. وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه.
وسئل عن أفضل الأيَّام ؟
فأجاب:
الحمد للّه، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها.
وأفضل أيام العام يوم النحر، كما روي عن النبي ﷺ: "أفضل الأيام عند اللّه يوم النحر، ثم يوم القَرِّ". وسئل عن رجل نذر أنه يصوم الاثنين والخميس، ثم بدا له أن يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولم يرتب ذلك إلا بأن يصوم أربعة أيام، ويفطر ثلاثة أو يفطر أربعة، ويصوم ثلاثة، فأيهما أفضل؟ أفتونا يرحمكم اللّه ؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا انتقل من صوم الاثنين والخميس إلى صوم
ج/ 25 ص -290-يوم وفطر يوم، فقد انتقل إلى ما هو أفضل، وفيه نزاع، والأظهر أن ذلك جائز، كما لو نذر الصلاة في المسجد المفضول، وصلى في الأفضل، مثل أن ينذر الصلاة في المسجد الأقصى، فيصلي في مسجد أحد الحرمين. واللّه أعلم.
وسئل رَحمه اللّه عما ورد في ثواب صيام الثلاثة أشهر، وما تقول في الاعتكاف فيها، والصمت: هل هو من الأعمال الصالحات أم لا ؟
فأجاب:
أما تخصيص رجب وشعبان جميعاً بالصوم أو الاعتكاف، فلم يرد فيه عن النبي ﷺ شيء، ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح: أن رسول اللّه ﷺ كان يصوم إلى شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان، من أجل شهر رمضان.
وأما صوم رجب بخصوصه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروي في
ج/ 25 ص -291-الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات، وأكثر ما روي في ذلك، أن النبي ﷺ كان إذا دخل رجب يقول: "اللهم بارك لنا في رجب، وشعبان وبلغنا رمضان".
وقد روى ابن ماجه في سننه، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ أنه نهي عن صوم رجب، وفي إسناده نظر، لكن صح أن عمر بن الخطاب كان يضرب أيدي الناس؛ ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول: لا تشبهوه برمضان.
ودخل أبو بكر فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء، واستعدوا للصوم، فقال: ما هذا ؟! فقالوا: رجب، فقال: أتريدون أن تشبهوه برمضان ؟ وكسر تلك الكيزان. فمتى أفطر بعضاً لم يكره صوم البعض.
وفي المسند وغيره حديث عن النبي ﷺ أنه أمر بصوم الأشهر الحرم، وهي رجب، وذوالقعدة، وذو الحجة، والمحرم. فهذا في صوم الأربعة جميعا، لا من يخصص رجب.
وأما تخصيصها بالاعتكاف، فلا أعلم فيه أمراً، بل كل من صام صوماً
ج/ 25 ص -292-مشروعاً، وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائزاً بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام، ففيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد:
أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم، كمذهب أبي حنيفة، ومالك.
والثاني: يصح الاعتكاف بدون الصوم، كمذهب الشافعي.
وأما الصمت عن الكلام مطلقاً في الصوم أو الاعتكاف أو غيرهما، فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم، لكن هل ذلك محرم، أو مكروه ؟ فيه قولان في مذهبه وغيره.
وفي صحيح البخاري: أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة من أحمس فوجدها مُصْمَتةً لا تتكلم، فقال لها أبو بكر: إن هذا لا يحل، إن هذا من عمل الجاهلية، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي ﷺ رأى رجلا قائماً في الشمس، فقال: "من هذا؟" فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم، فقال: "مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه". فأمره ﷺ مع نذره للصمت أن يتكلم، كما أمره مع
ج/ 25 ص -293-نذره للقيام أن يجلس، ومع نذره ألا يستظل، أن يستظل، وإنما أمره بأن يوفي بالصوم فقط. وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر.
وقد قال ﷺ في الحديث الصحيح: "من نذر أن يُطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أنه يعصى اللّه فلا يعصه". كذلك لا يؤمر الناذر أن يفعلها، فمن فعلها على وجه التعبد بها والتقرب واتخاذ ذلك ديناً وطريقاً إلى اللّه تعالى، فهو ضال جاهل، مخالف لأمر اللّه ورسوله. ومعلوم أن من يفعل ذلك من نذر اعتكافاً، ونحو ذلك إنما يفعله تديناً، ولا ريب أن فعله على وجه التدين حرام؛ فإنه يعتقد ما ليس بقربة قربةً، ويتقرب إلى اللّه تعالى بمالا يحبه اللّه، وهذا حرام، لكن من فعل ذلك قبل بلوغ العلم إليه، فقد يكون معذوراً بجهله، إذا لم تقم عليه الحجة، فإذا بلغه العلم فعليه التوبة.
وجماع الأمر في الكلام قوله ﷺ: "من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت". فقول الخير وهو الواجب، أو المستحب خير من السكوت عنه، وما ليس بواجب، ولا مستحب، فالسكوت عنه خير من قوله.
ج/ 25 ص -294-ولهذا قال بعض السلف لصاحبه: السكوت عن الشر خير من التكلم به، فقال له الآخر: التكلم بالخير خير من السكوت عنه. وقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى" [المجادلة: 9]، وقال تعالى: "لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 114].
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو ذكراً للّه تعالى". والأحاديث في فضائل الصمت كثيرة، وكذلك في فضائل التكلم بالخير والصمت عما يجب من الكلام حرام، سواء اتخذه ديناً أو لم يتخذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب أن تحب ما أحبه اللّه ورسوله، وتبغض ما يبغضه اللّه ورسوله، وتبيح ما أباحه اللّه ورسوله، وتحرم ما حرمه اللّه ورسوله.
ج/ 25 ص -295-وَقَالَ رحمهُ اللّه:
فصل
قول عائشة: ما زال رسول اللّه ﷺ يعتكف العشر الأواخر حتى قبضه اللّه. هذا إشارة إلى مقامه في المدينة وأنه كان يعتكف أداء أو قضاء، فإنه قد ثبت في الصحيح: أنه أراد أن يعتكف مرة، فطلب نساؤه الاعتكاف معه، فرأى أن مقصود بعضهن المباهاة، فأمر بالخيام فَقُوِضَت، وترك الاعتكاف ذلك العام، حتى قضاه من شوال.
وهو ﷺ لم يصم رمضان إلا تسع مرات، فإنه فرض في العام الثاني من الهجرة، بعد أن صام يوم عاشوراء، وأمر الناس بصيامه مرة واحدة، فإنه قدم المدينة في شهر ربيع الأول من السنة الأولى. وقد تقدم عاشوراء فلم يأمر ذلك العام بصيامه، فلما أَهلَّ العام الثانى أمر الناس بصيامه، وهل كان أمر إيجاب، أو
ج/ 25 ص -296-استحباب؟ على قولين لأصحابنا وغيرهم، والصحيح أنه كان أمر إيجاب ابتدئ في أثناء النهار، لم يؤمروا به من الليل.
فلما كان في أثناء الحول رجب أو غيره فرض شهر رمضان وغزا النبي ﷺ في شهر رمضان ذلك العام أول شهر فرض غزوة بدر، وكانت يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من الشهر، فلما نصره اللّه على المشركين أقام بالعَرْصة بعد الفتح ثلاثاً، فدخل عليه العشر وهو في السفر، فرجع إلى المدينة، ولم يبق من العشر إلا أقله، فلم يعتكف ذلك العشر بالمدينة، وكان في تمامه مشغولاً بأمر الأسرى والفداء، ولما شاورهم في الفداء قام فدخل بيته ثم خرج.
وأحواله المنقولة عنه تدل على أنه لم يعتكف تمام ذلك العشر، لكن يمكن أنه قضى اعتكافه كما قضى صيامه، وكما قضى اعتكاف العام الذي أراد نساؤه الاعتكاف معه فيه، فهذا عام بدر.
وأيضا، فعام الفتح سنة ثمان، كان قد سافر في شهر رمضان، ودخل مكة في أثناء الشهر، وقد بقي منه أقله، وهو في مكة مشتغل بآثار الفتح، وتسرية السرايا إلى ما حول مكة،وتقرير أصول
ج/ 25 ص -297-الإسلام بأم القرى، والتجهز لغزو هوازن، لما بلغه أنهم قد جمعوا له مع مالك بن عوف النَّضَري، وقد أقام بمكة في غزوة الفتح تسع عشرة ليلة يقصر الصلاة.
قالوا: لأنه لم يكن قد أجمع المقام بمكة لأجل غزو هوازن، فكان مسافراً فيها غير متفرغ للاعتكاف بمكة ذلك العام، فهذه ثلاثة أعوام لم يعتكف فيها في رمضان، بل قضى العام الواحد الذي أراد اعتكافه ثم تركه، وأما الآخران فاللّه أعلم أقضاهما مع الصوم، أم لم يقضهما مع شطر الصلاة، فقد ثبت عنه أنه قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم"، وثبت عنه أنه قال: "إن اللّه وضع عن المسافر الصوم وشَطْرَ الصلاة". أي: الصوم أداءً، والشطر أداء وقضاء، فالاعتكاف ملحق بأحدهما.
ولم ينقل عنه أنه قضى اعتكافاً فاته في السفر، فلا يثبت الجواز، إلا أنه لعموم حديث عائشة يبقى فيه إمكان. واللّه أعلم.
ج/ 25 ص -298-وسئل عمن يعمل كل سنة ختمة في ليلة مولد النبي ﷺ: هل ذلك مستحب أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، جمع الناس للطعام في العيدين، وأيام التشريق سنة، وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول اللّه ﷺ للمسلمين، وإعانة الفقراء بالإطعام في شهر رمضان هو من سنن الإسلام، فقد قال النبي ﷺ: "من فَطَّرَ صائماً فله مثل أجره" وإعطاء فقراء القُرَّاء ما يستعينون به على القرآن عمل صالح في كل وقت، ومن أعانهم على ذلك كان شريكهم في الأجر.
وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول، التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب،أو ثامن شوال، الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.