أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل فيما يفطر الصائم وما لا يفطره

    ج/ 25 ص -219-وَقَال شَيخ الإسْلامَ أحْمَد بن تيمية رحمه الله‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليمًا‏.‏
    فَصْل
    فيما يفطر الصَّائم ومَا لا يفطره

    وهذا نوعان‏:‏ منه ما يفطر بالنص والإجماع، وهو الأكل والشرب، والجماع، قال تعالى‏:‏‏

    ج/ 25 ص -220-"‏فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، فأذن في المباشرة، فعقل من ذلك‏:‏ أن المراد الصيام من المباشرة والأكل والشرب،ولما قال أولاً‏:‏ ‏"‏كُتِبَ عليكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏، كان معقولاً عندهم‏:‏ أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، ولفظ ‏[‏الصيام‏]‏ كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ‏:‏ أن يوم عاشوراء كان يومًا تصومه قريش في الجاهلية‏.‏
    وقد ثبت عن غير واحد‏:‏ أنه قبل أن يفرض شهر رمضان أمر بصوم يوم عاشوراء وأرسل مناديا ينادي بصومه، فعلم أن مسمي هذا الاسم كان معروفًا عندهم‏.‏
    وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين‏:‏ أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، لكن تقضي الصيام‏.‏
    وثبت بالسنة أيضًا من حديث لَقِيط بن صَبْرة، أن النبي ﷺ قال له‏:‏ ‏"‏وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا‏"‏، فدل على أن إنزال الماء من الأنف يفطر الصائم، وهو قول جماهير العلماء‏.‏

    ج/ 25 ص -221-وفي السنن حديثان‏:‏ أحدهما‏:‏ حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏من ذَرَعَهُ قَيءٌ وهو صائم فليس عليه قَضَاءٌ، وإن استقاء فليقض‏"‏، وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من أهل العلم، بل قالوا‏:‏ هو من قول أبي هريرة، قال أبو داود‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل قال‏:‏ ليس من ذا شيء‏.‏ قال الخطابي‏:‏ يريد أن الحديث غير محفوظ‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه، فلم يعرفه إلاعن عيسي بن يونس، قال‏:‏ وما أراه محفوظًا‏.‏ قال‏:‏ وروي يحيي بن كثير، عن عمر بن الحكم‏:‏ أن أبا هريرة كان لا يري القيء يفطر الصائم‏.‏
    قال الخطابي‏:‏ وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام، كما رواه عيسي بن يونس، قال‏:‏ ولا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن من استقاء عامدًا فعليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة، فقال عامة أهل العلم‏:‏ ليس عليه غير القضاء‏.‏ وقال عطاء‏:‏ عليه القضاء والكفارة، وحكي عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور‏.‏

    ج/ 25 ص -222-قلت‏:‏ وهو مقتضي إحدي الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على المحتجم، فإنه إذا أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أولى، لكن ظاهر مذهبه‏:‏ أن الكفارة لا تجب بغير الجماع كقول الشافعي‏.‏
    والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى عليه، وهو انفراد عيسي بن يونس، وقد ثبت أنه لم ينفرد به، بل وافقه عليه حفص بن غياث، والحديث الأخير يشهد له، وهو ما رواه أحمد وأهل السنن، كالترمذي، عن أبي الدرداء‏:‏ أن النبي ﷺ قاء فأفطر، فذكرت ذلك لثوبان‏.‏ فقال‏:‏ صدق، أنا صببت له وضوءًا، لكن لفظ أحمد‏:‏ أن رسول الله ﷺ قاء فتوضأ‏.‏ رواه أحمد عن حسين المعلم‏.‏
    قال الأثرم‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ قد اضطربوا في هذا الحديث، فقال‏:‏ حسين المعلم يجوده‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث حسين أرجح شيء في هذا الباب، وهذا قد استدل به على وجوب الوضوء من القيء، ولا يدل على ذلك، فإنه إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي، فليس فيه إلا أنه توضأ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع، فإذا قيل‏:‏ إنه مستحب كان فيه عمل بالحديث‏.‏

    ج/ 25 ص -223-وكذلك ما روي عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج ليس في شيء منه دليل على الوجوب، بل يدل على الاستحباب، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك، كما قد بسط في موضعه، بل قد روي الدارقطني وغيره، عن حميد، عن أنس قال‏:‏ احتجم رسول الله ﷺ ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه، ورواه ابن الجوزي في ‏[‏حجة المخالف‏]‏ ولم يضعفه، وعادته الجرح بما يمكن‏.‏
    وأما الحديث الذي يروي‏:‏ ‏"‏ثلاث لا تفطر‏:‏ القيء، والحجامة، والاحتلام‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏لا يفطرن لا من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم‏"‏، فهذا إسناده الثابت‏:‏ ما رواه الثوري وغيره، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أصحابه، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏.‏ هكذا رواه أبو داود، وهذا الرجل لا يعرف‏.‏ وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ، لكن عبد الرحمن ضعيف عند أهل العلم بالرجال‏.‏
    قلت‏:‏ روايته عن زيد من وجهين‏:‏ مرفوعًا لا يخالف روايته

    ج/ 25 ص -224-المرسلة بل يقويها، والحديث ثابت عن زيد بن أسلم؛ لكن هذا فيه‏:‏ ‏"‏إذا ذرعه القيء‏"‏
    وأما حديث الحجامة، فإما أن يكون منسوخًا، وإما أن يكون ناسخًا؛ لحديث ابن عباس‏:‏ أنه احتجم وهو محرم صائم أيضًا، ولعل فيه القيء إن كان متناولاً للاستقاءة هو أيضًا منسوخ‏.‏ وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر، فإنه إذا تعارض نصان ناقل وباق على الاستصحاب، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ، ونسخ أحدهما يقوي نسخ قرينه، ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسلاً، وقال يحيي بن معين‏:‏ حديث زيد ابن أسلم ليس بشيء، ولو قدر صحته؛ لكان المراد من ذرعه القيء، فإنه قرنه بالاحتلام، ومن احتلم بغير اخيتاره كالنائم لم يفطر باتفاق الناس‏.‏
    وأما من استمني فأنزل، فإنه يفطر، ولفظ الاحتلام إنما يطلق على من احتلم في منامه‏.‏
    وقد ظن طائفة أن القياس ألا يفطر شيء من الخارج، وأن المستقيء إنما أفطر؛ لأنه مظنة رجوع بعض الطعام، وقالوا‏:‏ إن فطر الحائض على خلاف القياس‏.‏ وقد بسطنا في الأصول‏:‏ أنه ليس في الشريعة

    ج/ 25 ص -225-شيء على خلاف القياس الصحيح‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فقد ذكرتم أن من أفطر عامدًا بغير عذر كان فطره من الكبائر، وكذلك من فوت صلاة النهار إلى الليل عامدًا من غير عذر كان تفويته لها من الكبائر،وأنها ما بقيت تقبل منه على أظهر قولي العلماء، كمن فوت الجمعة، ورمي الجمار وغير ذلك من العبادات المؤقتة، وهذا قد أمره بالقضاء‏.‏
    وقد روي في حديث المجامع في رمضان‏:‏ أنه أمره بالقضاء، قيل‏:‏ هذا إنما أمره بالقضاء؛ لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوي بالقيء، أو يتقيأ لأنه أكل ما فيه شبهة كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهن‏.‏
    وإذا كان المتقيء معذورًا كان ما فعله جائزًا وصار من جملة المرضي الذين يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر، وأما أمره للمجامع بالقضاء فضعيف، ضعفه غير واحد من الحفاظ، وقد ثبت هذا الحديث من غير وجه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة،ولم يذكر أحد أمره بالقضاء، ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعي يجب بيانه، ولما لم

    ج/ 25 ص -226-يأمره به دل على أن القضاء لم يبق مقبولاً منه، وهذا يدل على أنه كان متعمدًا للفطر لم يكن ناسيا ولا جاهلاً‏.‏
    والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، ويذكر ثلاث روايات عنه‏:‏
    إحداها‏:‏ لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين‏.‏
    والثانية‏:‏ عليه القضاء بلا كفارة،وهو قول مالك‏.‏
    والثالثة‏:‏ عليه الأمران، وهو المشهور عن أحمد‏.‏
    والأول أظهر كما قد بسط في موضعه فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة‏:‏ أن من فعل محظورًا مخطئًا أو ناسيا لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومن لا إثم عليه لم يكن عاصيا ولا مرتكبًا لما نهي عنه، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه، ومثل هذا لا يبطل عبادته، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به أو فعل ما حظر عليه‏.‏
    وطرد هذا‏:‏ أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيا ولا مخطئًا لا الجماع ولا غيره، وهو أظهر قولي الشافعي‏.‏

    ج/ 25 ص -227-وأما الكفارة والفدية، فتلك وجبت لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله، كما لو أتلفه صبي أو مجنون أو نائم ضمنه بذلك، وجزاء الصيد إذا وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأ، والكفارة الواجبة بقتله خطأ بنص القرآن وإجماع المسلمين‏.‏
    وأما سائر المحظورات، فليست من هذا الباب، وتقليم الأظفار وقص الشارب والترفه المنافي للتفث كالطيب واللباس؛ ولهذا كانت فديتها من جنس فدية المحظورات ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل‏.‏ فأظهر الأقوال في الناسي والمخطئ‏:‏ إذا فعل محظورًا ألا يضمن من ذلك إلا الصيد‏.‏
    وللناس فيه أقوال، هذا أحدها، وهو قول أهل الظاهر‏.‏
    والثاني‏:‏ يضمن الجميع مع النسيان، كقول أبي حنيفة وإحدي الروايات عن أحمد، واختاره القاضي وأصحابه‏.‏
    والثالث‏:‏ يفرق بين ما فيه إتلاف كقتل الصيد والحلق والتقليم وما ليس فيه إتلاف كالطيب واللباس، وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية، واختارها طائفة من أصحابه، وهذا القول أجود من

    ج/ 25 ص -228-غيره، لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس والطيب لا بقتل الصيد هذا أجود‏.‏
    والرابع‏:‏ أن قتل الصيد خطأ لا يضمنه، وهو رواية عن أحمد، فخرجوا عليه الشعر والظفر بطريق الأولى‏.‏
    وكذلك طرد هذا‏:‏ أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيا أو مخطئًا، فلا قضاء عليه وهو قول طائفة من السلف والخلف، ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ كمالك، وقال أبو حنيفة‏:‏ هذا هو القياس لكن خالفه لحديث أبي هريرة في الناسي، ومنهم من قال‏:‏ لا يفطر الناسي ويفطر المخطئ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا‏:‏ النسيان لا يفطر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف الخطأ، فإنه يمكنه ألا يفطر حتي يتيقن غروب الشمس، وأن يسمك إذا شك في طلوع الفجر‏.‏
    وهذا التفريق ضعيف، والأمر بالعكس، فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر ويؤخر السحور، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل جدًا يفوت مع المغرب

    ج/ 25 ص -229-ويفوت معه تعجيل الفطور، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها، فإذا غلب على ظنه غروب الشمس أمر بتأخير المغرب إلى حد اليقين، فربما يؤخرها حتي يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس، وقد جاء عن إبراهيم النخعي وغيره من السلف وهو مذهب أبي حنيفة ‏:‏ أنهم كانوا يستحبون في الغيم تأخير المغرب وتعجيل العشاء وتأخير الظهر وتقديم العصر، وقد نص على ذلك أحمد وغيره، وقد علل ذلك بعض أصحابه بالاحتياط لدخول الوقت، وليس كذلك؛ فإن هذا خلاف الاحتياط في وقت العصر والعشاء، وإنما سن ذلك؛ لأن هاتين الصلاتين يجمع بينهما للعذر، وحال الغيم حال عذر، فأخرت الأولى من صلاتي الجمع، وقدمت الثانية لمصلحتين‏:‏
    إحداهما‏:‏ التخفيف عن الناس حتي يصلوها مرة واحدة لأجل خوف المطر كالجمع بينهما مع المطر‏.‏
    والثانية‏:‏ أن يتيقن دخول وقت المغرب، وكذلك يجمع بين الظهر والعصر على أظهر القولين، وهو إحدي الروايتين عن أحمد، ويجمع بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو قول مالك وأظهر القولين في مذهب أحمد‏.‏

    ج/ 25 ص -230-الثاني‏:‏ أن الخطأ في تقديم العصر والعشاء أولى من الخطأ في تقديم الظهر والمغرب، فإن فعل هاتين قبل الوقت لا يجوز بحال بخلاف تينك، فإنه يجوز فعلهما في وقت الظهر والمغرب؛ لأن ذلك وقت لهما حال العذر، وحال الاشتباه حال عذر، فكان الجمع بين الصلاتين مع الاشتباه أولى من الصلاة مع الشك‏.‏
    وهذا فيه ما ذكره أصحاب المأخذ الأول من الاحتياط، لكنه احتياط مع تيقن الصلاة في الوقت المشترك، ألا تري أن الفجر لم يذكروا فيها هذا الاستحباب ولا في العشاء والعصر، ولو كان لعلم خوف الصلاة قبل الوقت لطرد هذا في الفجر، ثم يطرد في العصر والعشاء‏.‏
    وقد جاء الحديث عن النبي ﷺ بالتبكير بالعصر في يوم الغيم، فقال‏:
    ‏ ‏"‏بَكِّروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله‏"‏
    فإن قيل‏:‏ فإذا كان يستحب أن يؤخر المغرب مع الغيم، فكذلك يؤخر الفطور‏.‏ قيل‏:‏ إنما يستحب تأخيرها مع تقديم العشاء بحيث يصليهما قبل مغيب الشفق، فأما تأخيرها إلى أن يخاف مغيب الشفق فلا يستحب، ولا يستحب تأخير الفطور إلى هذه الغاية‏.‏
    ولهذا كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت

    ج/ 25 ص -231-المغرب، ولا يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق، بل هذا حرج عظيم على الناس، وإنما شرع الجمع لئلا يحرج المسلمون‏.‏
    وأيضًا، فليس التأخير والتقديم المستحب أن يفعلهما مقترنتين؛ بل أن يؤخر الظهر ويقدم العصر، ولو كان بينهما فصل في الزمان‏.‏ وكذلك في المغرب والعشاء بحيث يصلون الواحدة وينتظرون الأخرى لا يحتاجون إلى ذهاب إلى البيوت ثم رجوع، وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة في أصح القولين، كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع‏.‏
    وأيضًا، فقد ثبت في صحيح البخاري، عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ أفطرنا يومًا من رمضان في غيم على عهد رسول الله ﷺ، ثم طلعت الشمس‏.‏ وهذا يدل على شيئين‏:‏ على أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب؛ فإنهم لم يفعلوا ذلك ولم يأمرهم به النبي ﷺ، والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم‏.‏ والثاني‏:‏ لا يجب القضاء؛ فإن النبي ﷺ لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه لم يأمرهم به‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فقد قيل لهشام بن عروة‏:‏ أمروا بالقضاء‏؟‏ قال‏:‏ أو بُد من القضاء‏؟‏

    ج/ 25 ص -232-قيل‏:‏ هشام قال ذلك برأيه، لم يرو ذلك في الحديث، ويدل على أنه لم يكن عنده بذلك علم‏:‏ أن معمرًا روي عنه قال‏:‏ سمعت هشامًا قال‏:‏ لا أدري أقضوا أم لا‏؟‏ ذكر هذا وهذا عنه البخاري، والحديث رواه عن أمه فاطمة بنت المنذر عن أسماء‏.‏
    وقد نقل هشام عن أبيه عروة‏:‏ أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه، وهذا قول إسحاق بن راهويه وهو قرين أحمد بن حنبل ويوافقه في المذهب‏:‏ أصوله وفروعه، وقولهما كثيرًا ما يجمع بينه‏.‏والكَوْسَج سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك حرب الكرماني سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك غيرهما؛ ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد وإسحاق، فإنه روي قولهما من مسائل الكوسج‏.‏
    وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم وابن قتيبة وغير هؤلاء من أئمة السلف والسنة والحديث، وكانوا يتفقهون على مذهب أحمد وإسحاق يقدمون قولهما على أقوال غيرهما، وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم هم أيضًا من أتباعهما وممن يأخذ العلم والفقه عنهما، وداود من أصحاب إسحاق‏.‏ وقد كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن إسحاق يقول‏:‏ أنا أُسْأَلُ

    ج/ 25 ص -233-عن إسحاق‏؟‏ إسحاق يسأل عني‏.‏
    والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وداود ابن على ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث رضي الله عنهم أجمعين‏.‏
    وأيضًا، فإن الله قال في كتابه‏:‏
    ‏"‏وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ وهذه الآية مع الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ تبين أنه مأمور بالأكل إلى أن يظهر الفجر، فهو مع الشك في طلوعه مأمور بالأكل كما قد بسط في موضعه‏.‏
    فَصْل
    وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك‏.‏

    ج/ 25 ص -234-والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك؛ فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي ﷺ في ذلك لا حديثًا صحيحًاولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك‏.‏ والحديث المروي في الكحل ضعيف رواه أبو داود في السنن ولم يروه غيره ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب المعتمدة‏.‏ قال أبو داود‏:‏ حدثنا النفيلي، ثنا علي بن ثابت، حدثني عبد الرحمن بن النعمان، ثنا معبد بن هودة، عن أبيه،عن جده، عن النبي ﷺ‏:‏ أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ليتقه الصائم‏"‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وقال يحيي بن معين‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏ قال المنذري وعبد الرحمن‏:‏ قال يحيي بن معين‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ هو صدوق، لكن من الذي يعرف أباه وعدالته وحفظه‏؟‏‏!‏
    وكذلك حديث معبد قد عورض بحديث ضعيف، وهو ما رواه الترمذي بسنده عن أنس ابن مالك قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي

    ج/ 25 ص -235-ﷺ فقال‏:‏ اشتكيت عيني أفأكتحل وأنا صائم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ ليس بالقوي، ولا يصح عن النبي ﷺ في هذا الباب شيء‏.‏ وفيه أبو عاتكة‏.‏ قال البخاري‏:‏ منكر الحديث‏.‏
    والذين قالوا‏:‏إن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن معهم حجة عن النبي ﷺ، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوي ما احتجوا به قوله‏:‏ ‏
    "‏وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا‏"‏‏.‏قالوا‏:‏ فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه‏.‏
    والذين استثنوا التقطير قالوا‏:‏ التقطير لا ينزل إلى جوفه، وإنما يرشح رشحًا، فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه‏.‏
    والذين استثنوا الكحل قالوا‏:‏ العين ليست كالقبل والدبر، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء‏.‏
    والذين قالوا‏:‏ الكحل يفطر، قالوا‏:‏ إنه ينفذ إلى داخله حتى يتنخمه

    ج/ 25 ص -236-الصائم؛ لأن في داخل العين منفذًا إلى داخل الحلق‏.‏
    وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في الأصول‏:‏ إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضًا، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا أنها ليست مفطرة‏.‏
    الثاني‏:‏ أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لابد أن يبينها الرسول ﷺ بيانًا عامًا، ولابد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفي هذا علم أن هذا ليس من دينه، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان، ولا حج بيت غير البيت الحرام، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس، ولم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم، وإن كان في مظنة خروج الخارج، ولا سن

    ج/ 25 ص -237-الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت، وبهذا يعلم أن المني ليس بنجس؛ لأنه لم ينقل عن أحد بإسناد يحتج به أنه أمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوي بذلك، بل أمر الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك، ولم يأمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني‏.‏
    والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء‏:‏ ‏
    "‏يغسل الثوب من البول والغائط والمني والمذي والدم‏"‏ ليس من كلام النبي ﷺ، وليس في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها، ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يحتج به، وإنما روي عن عمار وعائشة من قولهما‏.‏
    وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركها إياه لا يدل على وجوب ذلك، فإن الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق، والوجوب إنما يكون بأمره، لاسيما ولم يأمر هو سائر المسلمين بغسل ثيابهم من ذلك، ولا نقل أنه أمر عائشة بذلك، بل أقرها على ذلك، فدل على جوازه أو حسنه واستحبابه‏.‏

    ج/ 25 ص -238-وأما الوجوب فلابد له من دليل‏.‏
    وبهذه الطرق يعلم أيضًا أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيؤون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفِصَادُ، ولم ينقل عنه مسلم‏:‏ أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك‏.‏
    وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلم‏:‏ أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه، وأمره بالوضوء من مس الذكر إنما هو استحباب إما مطلقًا وإما إذا حرك الشهوة، وكذلك يستحب لمن لمس النساء فتحركت شهوته أن يتوضأ، وكذلك من تفكر فتحركت شهوته فانتشر، وكذلك من مس الأمرد أو غيره فانتشر‏.‏
    فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب، وهذا مستحب لما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن

    ج/ 25 ص -239-الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ‏"‏‏.‏ وكذلك الشهوة الغالبة هي من الشيطان والنار، والوضوء يطفئها فهو يطفئ حرارة الغضب، والوضوء من هذا مستحب‏.‏ وكذلك أمره بالوضوء مما مسته النار أمر استحباب؛ لأن ما مسته النار يخالط البدن فليتوضأ، فإن النار تطفأ بالماء‏.‏ وليس في النصوص ما يدل على أنه منسوخ؛ بل النصوص تدل على أنه ليس بواجب، واستحباب الوضوء من أعدل الأقوال من قول من يوجبه، وقول من يراه منسوخًا وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏
    وكذلك بهذه الطريق يعلم أن بول ما يؤكل لحمه وروثه ليس بنجس، فإن هذا مما تعم به البلوي، والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم، يقعدون ويصلون في أمكنتها وهي مملوءة من أبعارها، فلو كانت بمنزلة المرَاحيض كانت تكون حشوشًا‏.‏ وكان النبي ﷺ يأمرهم باجتنابها، وألا يلوثوا أبدانهم وثيابهم بها ولا يصلون فيها‏.‏
    فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي ﷺ وأصحابه كانوا يصلون في مرابض الغنم، وأمر بالصلاة في مرابض الغنم، ونهى

    ج/ 25 ص -240-عن الصلاة في معاطن الإبل، فعلم أن ذلك ليس لنجاسة الأبعار، بل كما أمر بالتوضؤ من لحوم الإبل، وقال في الغنم‏:‏ ‏"‏إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إن الإبل خلقت من جن، وإن على ذروة كل بعير شيطانًا‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏الفَخْرُ والخُيلاءُ في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أهل الغنم‏"
    فلما كانت الإبل فيها من الشيطنة مالا يحبه الله ورسوله أمر بالتوضؤ من لحمها، فإن ذلك يطفئ تلك الشيطنة، ونهي عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوي الشياطين، كما نهي عن الصلاة في الحمام؛ لأنها مأوي الشياطين‏.‏
    فإن مأوي الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه وفي موضع الأجسام الخبيثة، بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة‏.‏
    ولهذا كانت الحَشُوش محتضرة تحضرها الشياطين، والصلاة فيها أولى بالنهي من الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل، والصلاة على الأرض النجسة‏.‏ ولم يرد في الحشوش نص خاص؛ لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين أن يحتاج إلى بيان؛ ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش، ولا يصلي فيها، وكانوا ينتابون البرية لقضاء حوائجهم

    ج/ 25 ص -241-قبل أن تتخذ الكُنُف في بيوتهم‏.‏
    وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في الحشوش أولى وأحري، مع أنه قد روي الحديث الذي فيه النهي عن الصلاة في المقبرة والمجزرة والمزبلة والحشوش وقارعة الطريق ومعاطن الإبل، وظهر بيت الله الحرام‏.‏
    وأصحاب الحديث متنازعون فيه، وأصحاب أحمد فيه على قولين‏:‏ منهم من يري هذه من مواضع النهي، ومنهم من يقول‏:‏ لم أجد في هذا الحديث، ولم أجد في كلام أحمد في ذلك إذنًا، ولا منعًا، مع أنه قد كره الصلاة في مواضع العذاب، نقله عنه ابنه عبد الله؛ للحديث المسند في ذلك عن على الذي رواه أبو داود، وإنما نص على الحشوش وأعطان الإبل والحمام، وهذه الثلاثة التي ذكرها الخِرَقِي وغيره، والحكم في ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص، وقد يثبته بالحديث، ومن فرق يحتاج إلى الطعن في الحديث وبيان الفارق، و أيضًا المنع قد يكون منع كراهة، وقد يكون منع تحريم‏.‏
    وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوي لابد أن يبينها الرسول ﷺ بيانًا عامًا، ولابد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم

    ج/ 25 ص -242-أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي ﷺ كما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوي به الإنسان، وكذلك يتقوي بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطييبه وتبخيره وادهانه، وكذلك اكتحاله‏.‏ وقد كان المسلمون في عهده ﷺ يجْرَح أحدهم إما في الجهاد وإما في غيره مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا‏.‏
    والوجه الثالث‏:‏ إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحًا، وذلك إما قياس علة بإثبات الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل فيعدي بها إلى الفرع، وإما أن يعلم ألا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتفٍ‏.‏
    وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله

    ج/ 25 ص -243-ورسوله مفطرًا هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ، أو واصلاً إلى الجوف‏.‏ ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله، ويقولون‏:‏ إن الله ورسوله إنما جعلاالطعام والشراب مفطرًا لهذا المعني المشترك من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل ونحو ذلك‏.‏
    وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل‏:‏ إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطرًا لهذا قولاً بلا علم، وكان قوله‏:‏ إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا، قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز‏.‏
    ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم، فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحًا، أو دلالة لفظ على معني لم يرده الرسول، وهذا اجتهاد يثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولاً بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها‏.‏

    ج/ 25 ص -244-والوجه الرابع‏:‏ أن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم إذا سَبَرنَاأوصاف الأصل، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد عند من يقول به، فلابد من السَّبْر، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول‏:‏ الحكم بهذا دون هذا‏.‏
    ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، والنبي ﷺ قد نهي المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائمًا،وقياسهم على الاستنشاق أقوي حججهم كما تقدم، وهو قياس ضعيف؛ وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش ويطبخ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير معتبر، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر، فليس هو مفطرًا ولا جزءًا من المفطر لعدم تأثيره، بل هو طريق إلى الفطر، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة، فإن الكحل لا يغذي البتة ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا فمه،

    ج/ 25 ص -245-وكذلك الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئًا من المسهلات أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه وهي لا تصل إلى المعدة‏.‏
    والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه، والله سبحانه قال‏:‏ ‏
    "‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏، وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏الصوم جنة‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم‏"
    فالصائم نهى عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوى، فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء لا عن حقنة ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة، وهو متولد عما استنشق من الماء؛ لأن الماء مما يتولد منه الدم، فكان المنع منه من تمام الصوم‏.‏
    فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع، فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف

    ج/ 25 ص -246-معارض بهذه الأوصاف، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا‏.‏
    الوجه الخامس‏:‏ أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏"‏ ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"‏فضيقوا مجاريه بالجوع‏"‏ وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعًا؛ ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين‏"‏ فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين، فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره، ولم يقل‏:‏ إنهم قتلوا ولا ماتوا، بل قال‏:‏ ‏[‏صفدت‏]‏ والمصفد من الشياطين قد يؤذى، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعًا لا يدفعه دفع الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل

    ج/ 25 ص -247-والشرب، والحكم ثابت على وفقه، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره، وهذا المنع منتفٍ في الحقنة والكحل وغير ذلك‏.‏
    فإن قيل‏:‏ بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دمًا‏.‏
    قيل‏:‏ هذا كما قد يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دمًا، وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة، فيستحيل دمًا ويتوزع على البدن‏.‏
    ونجعل هذا وجهًا سادسًا، فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك؛ لجامع ما يشتركان فيه من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن ويستحيل في المعدة دمًا، وهذا الوصف هو الذي أوجب ألا تكون هذه الأمور مفطرة، وهذا موجود في محل النزاع، والفرع قد يتجاذبه أصلان فيلحق كلا منهما بما يشبهه من الصفات‏.‏
    فإن قيل‏:‏ هذا تطبخه المعدة ويستحيل دمًا ينمي عنه البدن لكنه غذاء ناقص، فهو كما لو أكل سما أو نحوه مما يضره، وهو بمنزلة من

    ج/ 25 ص -248-أكل أكلاً كثيرا أورثه تخمة ومرضًا، فكان منعه في الصوم عن هذا أوكد؛ لأنه ممنوع عنه في الإفطار وبقى الصوم أوكد، وهذا كمنعه من الزنا، فإنه إذا منع من الوطء المباح فالمحظور أولى‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فالجماع مفطر، وهذه العلة منتفية فيه‏.‏
    قيل‏:‏ تلك أحكام ثابتة بالنص والإجماع، فلا يحتاج إثباتها إلى القياس؛ بل يجوز أن تكون العلل مختلفة، فيكون تحريم الطعام والشراب والفطر بذلك لحكمة، وتحريم الجماع والفطر به لحكمة، والفطر بالحيض لحكمة، فإن الحيض لا يقال فيه‏:‏ إنه يحرم‏:‏ وهذا لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع، وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض، كذلك تنقسم عللها‏.‏
    فنقول‏:‏ أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام كما سنبينه إن شاء الله تعالى فإنه من نوع الاستفراغ لا الامتلاء كالأكل والشرب، ومن جهة أنه إحدى الشهوتين، فجرى مجرى الأكل والشرب، قد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عن الله تعالى ‏"‏قال‏:‏ الصوم لي وأنا أجزي

    ج/ 25 ص -249-به، يدع شهوته وطعامه من أجلي‏"‏ فترك الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن، والجماع من أعظم نعيم البدن، وسرور النفس وانبساطها، هو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل، فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه، فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات، وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات، فهذا المعنى في الجماع أبلغ، فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات، ويضعف إرادتها عن العبادات أعظم، بل الجماع هو غاية الشهوات، وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب؛ ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار، فوجب عليه العتق أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع؛ لأن هذا أغلظ، وداعيه أقوى، والمفسدة به أشد، فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع‏.‏
    وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ، فذاك حكمة أخرى، فصار فيهما كالأكل والحيض وهو في ذلك أبلغ منهما، فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض‏.‏
    فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس، فنقول‏:‏ إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء، والإسراف في العبادات من الجور

    ج/ 25 ص -250-الذي نهى عنه الشارع وأمر بالاقتصاد في العبادات؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونهى عن الوصال وقال‏:‏ ‏"‏أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقَى‏"‏، فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏87‏]‏، فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ‏"‏[‏النساء‏:‏161،160‏]‏، فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات؛ بخلاف الأمة الوسط العدل، فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث‏.‏
    وإذا كان كذلك، فالصائم قد نهى عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وإلا فإذا مكن من هذا ضره وكان متعديًا في عبادته لا عادلاً‏.‏
    والخارجات نوعان‏:‏ نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه أو على وجه لا يضره، فهذا لا يمنع منه كالأخبثين، فإن خروجهما لا يضره، ولا يمكنه الاحتراز منه أيضا، ولو استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره بل ينفعه، وكذلك إذا ذرعه القيء لا يمكنه الاحتراز منه، وكذلك الاحتلام

    ج/ 25 ص -251-في المنام لا يمكنه الاحتراز منه، وأما إذا استقاء فالقيء يخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل في المعدة، وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة فهو يخرج المني الذي هو مستحيل في المعدة عن الدم، فهو يخرج الدم الذي يتغذى به؛ ولهذا كان خروج المني إذا أفرط فيه يضر الإنسان ويخرج أحمر‏.‏
    والدم الذي يخرج بالحيض فيه خروج الدم، والحائض يمكنها أن تصوم في غير أوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها، فكان صومها في تلك الحال صوما معتدلا لا يخرج فيه الدم الذي يقوى البدن الذي هو مادته، وصومها في الحيض يوجب أن يخرج فيه دمها الذي هو مادتها، ويوجب نقصان بدنها وضعفها وخروج صومها عن الاعتدال، فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض‏.‏
    بخلاف المستحاضة؛ فإن الاستحاضة تعم أوقات الزمان، وليس لها وقت تؤمر فيه بالصوم، وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه كذرع القيء، وخروج الدم بالجراح والدمامل والاحتلام ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه فلم يجعل هذا منافيا للصوم كدم الحيض‏.‏

    ج/ 25 ص -252-وطرد هذا‏:‏ إخراج الدم بالحجامة والفصاد ونحو ذلك، فإن العلماء متنازعون في الحجامة‏:‏ هل تفطر الصائم أم لا‏؟‏ والأحاديث الواردة عن النبي ﷺ في قوله‏:‏ ‏"‏أفطر الحاجم والمحجوم‏"‏ كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ‏.‏ وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، وكان منهم من لا يحتجم إلا بالليل‏.‏ وكان أهل البصرة إذا دخل شهر رمضان أغلقوا حوانيت الحجامين‏.‏ والقول بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن خزيمة، وابن المنذر وغيرهم‏.‏
    وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد ﷺ‏.‏ والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي ﷺ احتجم وهو صائم محرم، وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة، وهي قوله‏:‏ ‏[‏وهو صائم‏]‏، وقالوا‏:‏ الثابت أنه احتجم وهو محرم، قال أحمد‏:‏ قال يحيى بن سعيد‏:‏ قال شعبة‏:‏ لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة للصائم، يعنى حديث شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس‏:‏ أن النبي ﷺ احتجم وهو صائم محرم‏.‏

    ج/ 25 ص -253-قال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس؛ أن النبي ﷺ احتجم وهو صائم محرم، فقال‏:‏ ليس بصحيح‏.‏ وقد أنكره يحيى ابن سعيد الأنصارى‏.‏ قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد الله رد هذا الحديث فضعفه، وقال‏:‏ كانت كتب الأنصاري ذهبت في أيام المنتصر، فكان بعد يحدث من كتب غلامه، وكان هذا من تلك‏.‏
    وقال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن حديث قبيصة، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فقال‏:‏ هو خطأ من قبل قبيصة‏.‏ وسألت يحيى عن قبيصة فقال‏:‏ رجل صدق، والحديث الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد خطأ من قبله‏.‏
    قال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن حديث ابن عباس‏:‏ أن النبي ﷺ احتجم وهو محرم صائم، فقال‏:‏ ليس فيه‏:‏ صائم، إنما هو محرم، ذكره سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس‏:‏ احتجم النبي ﷺ على رأسه وهو محرم عن طاوس وعطاء مثله عن ابن عباس، وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله، وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون‏:‏ صائما‏.‏

    ج/ 25 ص -254-قلت‏:‏ وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان‏:‏ البخاري ومسلم؛ ولهذا أعرض مسلم عن الحديث الذي ذكر حجامة الصائم، ولم يثبت إلا حجامة المحرم‏.‏ وتأولوا أحاديث الحجامة بتأويلات ضعيفة، كقولهم‏:‏ كانا يغتابان، وقولهم‏:‏ أفطر لسبب آخر‏.‏ وأجود ما قيل‏:‏ ما ذكره الشافعي وغيره أن هذا منسوخ، فإن هذا القول كان في رمضان، واحتجامه وهو محرم كان بعد ذلك؛ لأن الإحرام بعد رمضان، وهذا أيضا ضعيف، بل هو صلوات الله عليه أحرم سنة ست عام الحديبية بعمرة في ذي القعدة، وأحرم من العام القابل بعمرة القضية في ذي القعدة، وأحرم من العام الثالث سنة الفتح من الجعرانة في ذي القعدة بعمرة، وأحرم سنة عشر بحجة الوداع في ذى القعدة، فاحتجامه ﷺ وهو محرم صائم لم يبين في أى الإحرامات كان‏.‏
    والذي يقوى أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة، قوله‏:‏ ‏"‏أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏، فإنه كان عام الفتح بلا ريب هكذا في أجود الأحاديث‏.‏ وروى أحمد بإسناده، عن ثوبان أن رسول الله ﷺ أتى على رجل يحتجم في رمضان قال‏:‏
    ‏"‏أُفطر الحاجم والمحجوم‏"‏‏.‏

    ج/ 25 ص -255-وقال أحمد‏:‏ أنبأنا إسماعيل، عن خالد الحذاء، عن أبى قلابة،عن الأشعث، عن شداد ابن أوس أنه مر مع النبي ﷺ زمن الفتح على رجل محتجم بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال‏:‏ ‏"‏أفطر الحاجم والمحجوم‏"‏ وقال الترمذى‏:‏ سألت البخارى، فقال‏:‏ ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد بن أوس وحديث ثوبان، فقلت‏:‏ وما فيه من الاضطراب‏؟‏ فقال‏:‏ كلاهما عندى صحيح؛ لأن يحيى بن سعيد روى عن أبى قلابة، عن أبى أسماء، عن ثوبان، عن أبى الأشعث، عن شداد الحديثين جميعا‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الذي ذكره البخارى من أظهر الأدلة على صحة كلا الحديثين اللذين رواهما أبو قلابة إلى أن قال ومما يقوى أن الناسخ هو الفطر بالحجامة أن ذلك رواه عنه خواص أصحابه الذين كانوا يباشرونه حضرا وسفرًا، ويطلعون على باطن أمره مثل بلال وعائشة، ومثل أسامة وثوبان مولياه، ورواه عنه الأنصار الذين هم بطانته، مثل رافع بن خديج وشداد ابن أوس، وفي مسند أحمد عن رافع بن خديج، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏أفطر الحاجم والمحجوم‏"‏‏.‏ قال أحمد‏:‏ أصح شيء في هذا الباب حديث رافع، وذكر أحاديث‏:‏ ‏"‏أفطر الحاجم والمحجوم‏"‏ إلى أن قال‏:‏ ثم اختلفوا على أقوال‏:‏

    ج/ 25 ص -256-أحدها‏:‏ يفطر المحجوم دون الحاجم ذكره الخرقي؛ لكن المنصوص عن أحمد وجمهور أصحابه الإفطار بالأمرين، والنص دال على ذلك فلا سبيل إلى تركه‏.‏
    والثاني‏:‏ أنه يفطر المحجوم الذي يحتجم ويخرج منه الدم، ولا يفطر بالافتصاد ونحوه؛ لأنه لا يسمى احتجاما، وهذا قول القاضي وأصحابه، فالتشريط في الآذان هل هو داخل في مسمى الحجامة‏؟‏ تنازع فيه المتأخرون‏.‏ فبعضهم يقول‏:‏ التشريط كالحجامة، كما يقوله شيخنا أبو محمد المقدسي، وعليه يدل كلام العلماء قاطبة، فليس منهم من خص التشريط بذكر، ولو كان عندهم لا يدخل في الحجامة لذكروه، كما ذكروا الفصاد‏.‏ فعلم أن التشريط عندهم من نوع الحجامة، وقال شيخنا أبو محمد‏:‏ هذا هو الصواب، إلى أن قال‏:‏
    والرابع‏:‏ وهو الصواب واختاره أبو المظفر بن هبيرة الوزير العالم العادل وغيره أنه يفطر بالحجامة والفصاد ونحوهما؛ وذلك لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد شرعا وطبعا، وحيث حض النبي ﷺ على الحجامة وأمر بها، فهو حض على ما في معناها من الفصاد وغيره؛ لكن الأرض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن،

    ج/ 25 ص -257-فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج بالحجامة، والأرض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هربًا من البرد، فإن شبه الشيء منجذب إليه، كما تسخن الأجواف في الشتاء وتبرد في الصيف، فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد وقطع العروق، كما للبلاد الحارة الحجامة، لا فرق بينهما في شرع ولا عقل‏.‏
    وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء، وإذا كان كذلك، فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر، سواء جذب القيء بإدخال يده، أو بشم مايقيئه، أو وضع يده تحت بطنه واستخرج القيء، فتلك طرق لإخراج القيء، وهذه طرق لإخراج الدم؛ ولهذا كان خروج الدم بهذا وهذا سواء في باب الطهارة، فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه، وأن ما ورد من النصوص ومعانيها فإن بعضه يصدق بعضا ويوافقه
    ‏"‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 82‏]
    وأما الحاجم، فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه وهو لا يشعر،والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم

    ج/ 25 ص -258-بالمظنة، كما أن النائم الذي تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء، فكذلك الحاجم يَدْخُلُ شيءٌ من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري‏.‏
    والدم من أعظم المفطرات، فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة، والخروج عن العدل، والصائم أمر بحسم مادته، فالدم يزيد الدم فهو من جنس المحظور، فيفطر الحاجم لهذا، كما ينتقض وضوء النائم، وإن لم يستيقن خروج الريح منه؛ لأنه يخرج ولا يدري، وكذلك الحاجم قد يدخل الدم في حلقه وهو ولا يدري‏.‏
    وأما الشارط فليس بحاجم، وهذا المعنى منتف فيه، فلا يفطر الشارط، وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة بل يمتص غيرها أو يأخذ الدم بطريق أخرى لم يفطر‏.‏
    والنبي ﷺ كلامه خرج على الحاجم المعروف المعتاد‏.‏ وإذا كان اللفظ عامًا وإن كان قصده شخصًا بعينه، فيشترك في الحكم سائر النوع؛ للعادة الشرعية من أن ما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع، فهذا أبلغ، فلا يثبت بلفظه ما يظهر لفظا ومعنى أنه لم يدخل فيه مع بعده عن الشرع والعقل، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.

    ج/ 25 ص -259-وسئل عن رجل باشر زوجته، وهو يسمع المتسحر يتكلم، فلا يدري‏:‏ أهو يتسحر‏؟‏ أم يؤذن‏؟‏ ثم غلب على ظنه أنه يتسحر، فوطئها، وبعد يسير أضاء الصبح، فما الذي يجب عليه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
    فأجاب‏:‏
    هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ عليه القضاء، والكفارة، هذا إحدى الروايتين عن أحمد‏.‏
    وقال مالك‏:‏ عليه القضاء لا غير، وهذه الرواية الأخرى عنه، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما‏.‏
    والثالث‏:‏ لا قضاء، ولا كفارة عليه، وهذا قول النبي ﷺ، وهو أظهر الأقوال؛ ولأن الله تعالى عفا عن الخطأ

    ج/ 25 ص -260-والنسيان، وأباح سبحانه وتعالى الأكل والشرب والجماع حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود‏.‏ والشاك في طلوع الفجر يجوز له الأكل والشرب والجماع بالاتفاق، ولا قضاء عليه إذا استمر الشك‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل أراد أن يواقع زوجته في شهر رمضان بالنهار، فأفطر بالأكل قبل أن يجامع، ثم جامع، فهل عليه كفارة أم لا ‏؟‏ وما على الذي يفطر من غير عذر‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذه المسألة فيها قولان للعلماء مشهوران‏:‏
    أحدهما‏:‏ تجب، وهو قول جمهورهم، كمالك، وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم‏.‏
    والثاني‏:‏ لا تجب، وهو مذهب الشافعي، وهذان القولان مبناهما على أن الكفارة سببها الفطر من الصوم، أو من الصوم الصحيح بجماع، أو بجماع وغيره على اختلاف المذاهب فإن أبا حنيفة

    ج/ 25 ص -261-يعتبر الفطر بأعلى جنسه، ومالك يعتبر الفطر مطلقا، فالنزاع بينهما إذا أفطر بابتلاع حصاة أو نواة ونحو ذلك‏.‏ وعن أحمد رواية‏:‏ أنه إذا أفطر بالحجامة كفر، كغيرها من المفطرات، بجنس الوطء، فأما الأكل والشرب ونحوهما فلا كفارة في ذلك‏.‏
    ثم تنازعوا‏:‏ هل يشترط الفطر من الصوم الصحيح‏؟‏ فالشافعي وغيره يشترط ذلك، فلو أكل ثم جامع، أو أصبح غير ناوٍ للصوم ثم جامع، أو جامع وكفر ثم جامع؛ لم يكن عليه كفارة، لأنه لم يطأ في صوم صحيح‏.‏
    وأحمد في ظاهر مذهبه وغيره يقول‏:‏ بل عليه كفارة في هذه الصور ونحوها؛ لأنه وجب عليه الإمساك في شهر رمضان، فهو صوم فاسد، فأشبه الإحرام الفاسد‏.‏
    وكما أن المحرم بالحج إذا أفسد إحرامه لزمه المضي فيه بالإمساك عن محظوراته، فإذا أتى شيئا منها كان عليه ما عليه من الإحرام الصحيح، وكذلك من وجب عليه صوم شهر رمضان إذا وجب عليه الإمساك فيه وصومه فاسد لأكل أو جماع أو عدم نية، فقد لزمه الإمساك عن محظورات الصيام، فإذا تناول شيئا منها كان عليه ما عليه في الصوم

    ج/ 25 ص -262-الصحيح‏.‏ وفي كلا الموضعين عليه القضاء‏.‏
    وذلك لأن هتك حرمة الشهر حاصلة في الموضعين، بل هي في هذا الموضع أشد؛ لأنه عاص بفطره أولاً، فصار عاصيا مرتين، فكانت الكفارة عليه أوكد؛ ولأنه لو لم تجب الكفارة على مثل هذا لصار ذريعة إلى ألا يكفر أحد، فإنه لا يشاء أحد أن يجامع في رمضان إلا أمكنه أن يأكل ثم يجامع، بل ذلك أعون له على مقصوده، فيكون قبل الغداء عليه كفارة، وإذا تغدى هو وامرأته ثم جامعها، فلا كفارة عليه، وهذا شنيع في الشريعة لا ترد بمثله‏.‏
    فإنه قد استقر في العقول والأديان‏:‏ أنه كلما عظم الذنب كانت العقوبة أبلغ، وكلما قوى الشبه قويت، والكفارة فيها شوب العبادة، وشوب العقوبة، وشرعت زاجرة وماحية، فبكل حال قوة السبب يقتضي قوة المسبب‏.‏
    ثم الفطر بالأكل لم يكن سببا مستقلاً موجبا للكفارة كما يقوله أبو حنيفة ومالك، فلا أقل أن يكون معينا للسبب المستقل، بل

    ج/ 25 ص -263-يكون مانعا من حكمه، وهذا بعيد عن أصول الشريعة‏.‏
    ثم المجامع كثيرا ما يفطر قبل الإيلاج، فتسقط الكفارة عنه بذلك على هذا القول، وهذا ظاهر البطلان، والله أعلم‏.‏
    وسُئل عن رجل أفطر نهار رمضان متعمدًا ثم جامع، فهل يلزمه القضاء والكفارة‏؟‏ أم القضاء بلا كفارة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    عليه القضاء‏.‏
    وأما الكفارة، فتجب في مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، ولا تجب عند الشافعي‏.‏
    وسُئل عن رجل وطئ امرأته وقت طلوع الفجر معتقدًا بقاء الليل، ثم تبين أن الفجر قد طلع، فما يجب عليه‏؟‏

    ج/ 25 ص -264-فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم‏:‏
    أحدها‏:‏ أن عليه القضاء والكفارة، وهو المشهور من مذهب أحمد‏.‏
    والثاني‏:‏ أن عليه القضاء، وهو قول ثان في مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومالك‏.‏
    والثالث‏:‏ لا قضاء عليه، ولا كفارة، وهذا قول طوائف من السلف، كسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وإسحاق، وداود، وأصحابه والخلف‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ من أكل معتقدًا طلوع الفجر، ثم تبين له أنه لم يطلع‏.‏ فلا قضاء عليه‏.‏
    وهذا القول أصح الأقوال، وأشبهها بأصول الشريعة، ودلالة الكتاب والسنة، وهو قياس أصول أحمد وغيره، فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي، والمخطئ، وهذا مخطئ، وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستحب تأخير السحور، ومن فعل ما ندب إليه وأبيح له، لم يفرط، فهذا أولى بالعذر من الناسي والله أعلم‏.‏

    ج/ 25 ص -265-وسُئل عما إذا قَبَّلَ زوجته، أو ضمها، فأمذى‏:‏ هل يفسد ذلك صومه أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يفسد الصوم بذلك، عند أكثر العلماء‏.‏
    وسُئل عمن أفطر في رمضان‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏
    فأجاب‏:‏
    إذا أفطر في رمضان مستحلاً لذلك، وهو عالم بتحريمه استحلالاً له وجب قتله، وإن كان فاسقاً عوقب عن فطره في رمضان بحسب ما يراه الإمام، وأخذ منه حد الزنا، وإن كان جاهلاً عرف بذلك، وأخذ منه حد الزنا، ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 25 ص -266-وسُئل رحمه الله عن المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وذوق الطعام، والقيء وخروج الدم، والادهان والاكتحال‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يفسد الصوم بذلك، عند أكثر العلماء‏.‏
    أما المضمضة والاستنشاق، فمشروعان للصائم باتفاق العلماء‏.‏ وكان النبي ﷺ والصحابة يتمضمضون ويستنشقون مع الصوم، لكن قال للقيط بن صبرة‏:‏ ‏"‏وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما‏"‏‏.‏
    وأما السواك، فجائز بلا نزاع، لكن اختلفوا في كراهيته بعد الزوال على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد، ولم يقم على كراهيته دليل شرعي يصلح أن يخص عمومات نصوص السواك، وقياسه على دم الشهيد ونحوه ضعيف من وجوه‏.‏ كما هو مبسوط في موضعه‏.‏
    وذوق الطعام يكره لغير حاجة؛ لكن لا يفطره وأما للحاجة

    ج/ 25 ص -267-فهو كالمضمضة‏.‏
    وأما القيء، فإذا استقاء أفطر، وإن غلبه القيء لم يفطر‏.‏
    والادهان، لا يفطر بلا ريب‏.‏
    وأما خروج الدم الذي لا يمكن الاحتراز منه، كدم المستحاضة، والجروح، والذي يَرْعَفُ ونحوه، فلا يفطر، وخروج دم الحيض والنفاس يفطر باتفاق العلماء‏.‏
    وأما الاحتجام، ففيه قولان مشهوران، ومذهب أحمد وكثير من السلف أنه يفطر، والفصاد ونحوه فيه قولان في مذهبه‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ذلك كالاحتجام‏.‏
    ومذهبه في الكحل الذي يصل إلى الدماغ‏:‏ أنه يفطر، كالطيب وللحاجة، ومذهب مالك نحو ذلك‏.‏ وأما أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله فلا يريان الفطر بذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 25 ص -268-وسئل عن رجل افتصد بسبب وجع رأسه وهو صائم‏:‏ هل يفطر ويجب عليه قضاء ذلك اليوم أم لا‏؟‏ وهل إذا أعلم أنه يفطر إذ افتصد، يأثم أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع في مذهب أحمد وغيره، والأَحوط أنه يقضي ذلك اليوم‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسُئل عن الفصاد في شهر رمضان‏:‏ هل يفسد الصوم أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن أمكنه تأخير الفصاد أخره، وإن احتاج إليه لمرض افتصد وعليه القضاء في أحد قولي العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 25 ص -269-وسُئل عن الميت في أيام مرضه أدركه شهر رمضان، ولم يكن يقدر على الصيام، وت وفي وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدة مرضه، ووالديه بالحياة، فهل تسقط الصلاة والصيام عنه إذا صاما عنه وصليا إذا وصى، أو لم يوص‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا اتصل به المرض، ولم يمكنه القضاء، فليس على ورثته إلا الإطعام عنه، وأما الصلاة المكتوبة، فلا يصلى أحد عن أحد، ولكن إذا صلى عن الميت واحد منهما تطوعًا، وأهداه له، أو صام عنه تطوعا وأهداه له، نفعه ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML