ج/ 25 ص -209-وَسُئِل رحمه الله عن المسافر في رمضان، ومن يصوم، ينكر عليه، وينسب إلى الجهل. ويقال له: الفطر أفضل، وما هو مسافة القصر؟ وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر؟ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر؟ وما الفرق بين سفر الطاعة وسفر المعصية؟
فأجاب:
الحمد لله، الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله.
وتنازعوا في سفر المعصية كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك على قولين مشهورين، كما تنازعوا في قصر الصلاة.
فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء
ج/ 25 ص -210-باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام، أو عاجزًا، وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرًا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر.
ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك.
ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله وخلاف سنة رسول الله ﷺ، وخلاف إجماع الأمة.وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع، عند الأئمة الأربعة، كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، والشافعي في أصح قوليه.
ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر، بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في
ج/ 25 ص -211-السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه، بل عليه أن يقضي، ويروي هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة وغيرهما من السلف، وهو مذهب أهل الظاهر. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: " ليس من البر الصوم في السفر". لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم وأن يفطر، كما في الصحيحين عن أنس قال: كنا نسافر مع النبي ﷺ في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. وقد قال الله تعالى : "وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة: 185]. وفي المسند عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله يحب أن يؤَخذ برخصه، كما يكره أن تُؤتَي معصيته". وفي الصحيح: أن رجلاً قال للنبي ﷺ: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: " إن أفطرت فحسن، وأن صمت فلا بأس". وفي حديث آخر: "خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون".
وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر، فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخًا، كما بين مكة وعُسْفَان، ومكة وجُدَّة. وقال أبو حنيفة: مسيرة
ج/ 25 ص -212-ثلاثة أيام. وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين، وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي ﷺ كان يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومِني، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدًا منهم بإتمام الصلاة.
وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد. أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن: أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي ﷺ.وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه نوي الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه.
وأما اليوم الثاني، فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة.
وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء، لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك.
ج/ 25 ص -213-ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجَلاَّب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكْرِي دوابه من الجلاب وغيرهم، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه.
فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافرًا، فهذا لا يقصر ولا يفطر.
وأهل البادية كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم الذين يشْتون في مكان، وَيصِيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتي إلى المصيف، ومن المصيف إلى المشتي، فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم، لم يفطروا ولم يقصروا، وإن كانوا يتتبعون المراعي. والله أعلم.
وَسُئِل رحمه الله عمن يكون مسافرًا في رمضان، ولم يصبه جوع ولا عطش ولا تعب، فما الأفضل له الصيام أم الإفطار؟
ج/ 25 ص -214-فأجاب:
أما المسافر فيفطر باتفاق المسلمين، وإن لم يكن عليه مشقة، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء.
ومنهم من يقول: لا يجزئه.
وَسُئِل عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفي ذكر لجماعته أن عنده كتابًا فيه: أن الصيام في شهر رمضان إذا لم ينو بالصيام قبل عشاء الآخرة، أو بعدها أو وقت السحور، وإلا فما له في صيامه أجر، فهل هذا صحيح أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، على كل مسلم يعتقد أن الصوم واجب عليه، وهو يريد أن يصوم شهر رمضان النية، فإذا كان يعلم أن غدًا من رمضان فلابد أن ينوي الصوم، فإن النية محلها القلب، وكل من علم ما يريد فلابد أن ينويه.
والتكلم بالنية ليس واجبًا بإجماع المسلمين، فعامة المسلمين إنما يصومون بالنية، وصومهم صحيح بلا نزاع بين العلماء. والله أعلم.
ج/ 25 ص -215-وَسُئِل شيخ الإسلام ما يقول سيدنا في صائم رمضان: هل يفتقر كل يوم إلى نية أم لا؟
فأجاب:
كل من علم أن غدًا من رمضان، وهو يريد صومه فقد نوي صومه، سواء تلفظ بالنية أو لم يتلفظ. وهذا فعل عامة المسلمين، كلهم ينوي بالصيام.
وَسُئِل عن غروب الشمس: هل يجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟
فأجاب:
إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.
ج/ 25 ص -216-وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي ﷺ: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم".
وَسُئِل عما إذا أكل بعد أذان الصبح في رمضان: ماذا يكون؟
فأجاب:
الحمد لله، أما إذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر كما كان بلال يؤذن قبل طلوع الفجر على عهد النبي ﷺ، وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير.
وإن شك: هل طلع الفجر أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب حتي يتبين الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع.
والأظهر:أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر،وقال به طائفة
ج/ 25 ص -217-من السلف والخلف، والقضاء هو المشهور في مذهب الفقهاء الأربعة. والله أعلم.
وَسُئِل عن رجل كلما أراد أن يصوم أغمي عليه، ويزبد ويخبط، فيبقي أيامًا لا يفيق، حتي يتهم أنه جنون، ولم يتحقق ذلك منه؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان الصوم يوجب له مثل هذا المرض فإنه يفطر ويقضي، فإن كان هذا يصيبه في أي وقت صام، كان عاجزًا عن الصيام، فيطعم عن كل يوم مسكينًا. والله أعلم.
وَسُئِل رحمه الله عن امرأة حامل رأت شبه الحيض، والدم مواظبها، وذكر القوابل:أن المرأة تفطر لأجل منفعة الجنين، ولم يكن بالمرأة ألم، فهل
ج/ 25 ص -218-يجوز لها الفطر أم لا؟
فأجاب:
إن كانت الحامل تخاف على جنينها، فإنها تفطر وتقضي عن كل يوم يومًا، وتطعم عن كل يوم مسكينًا، رطلاً من خبز بأدمه. والله أعلم.