ج/ 25 ص -202-وَسُئِلَ شيخ الإسلام رحمه الله عن أهل مدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة، ولم يثبت عند حاكم المدينة، فهل لهم أن يصوموا اليوم الذي في الظاهر التاسع، وإن كان في الباطن العاشر؟
فأجاب:
نعم،يصومون التاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة، وإن كان في نفس الأمر يكون عاشراً، ولو قدر ثبوت تلك الرؤية؛ فإن في السنن عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وصححه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس" رواه الترمذي، وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم.
فإن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزأهم الوقوف
ج/ 25 ص -203-بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطأ ففي الإجزاء نزاع، والأظهر صحة الوقوف أيضا وهو أحد القولين في مذهب مالك، ومذهب أحمد وغيره.
قالت: عائشة رضي الله عنها: إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس. وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر، فقال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ"[البقرة: 189]، والهلال اسم لما يستهل به، أي: يعلن به، ويجهر به، فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا.
وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة، فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وإنما يغلط كثير من الناس في مثل هذه المسألة؛ لظنهم أنه إذا طلع في السماء كان تلك الليلة أول الشهر، سواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أو لا، وليس كذلك، بل ظهوره للناس واستهلالهم به لابد منه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" أي: هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم، والفطر، والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم، وصوم اليوم الذي يشك فيه: هل هو تاسع ذي الحجة؟ أو عاشر ذي الحجة؟ جائز بلا نزاع بين العلماء؛
ج/ 25 ص -204-لأن الأصل عدم العاشر. كما أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان؛ هل طلع الهلال أم لم يطلع؟ فإنهم يصومون ذلك اليوم المشكوك فيه باتفاق الأئمة، وإنما يوم الشك الذي رويت فيه الكراهة الشك في أول رمضان؛ لأن الأصل بقاء شعبان.
وإنما الذي يشتبه في هذا الباب مسألتان:
إحداهما: لو رأى هلال شوال وحده، أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم: هل يفطر أم لا؟
والثانية: لو رأى هلال ذي الحجة، أو أخبره جماعة يعلم صدقهم : هل يكون في حقه يوم عرفة، ويوم النحر هو التاسع، والعاشر بحسب هذه الرؤية التي لم تشتهر عند الناس؟ أو هو التاسع والعاشر الذي اشتهر عند الناس؟
فأما المسألة الأولى، فالمنفرد برؤية هلال شوال لا يفطر علانية باتفاق العلماء، إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سراً؟ على قولين للعلماء أصحهما لا يفطر سراً، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور في مذهبهما.
وفيهما قول: إنه يفطر سراً كالمشهور في مذهب أبي حنيفة
ج/ 25 ص -205-والشافعي، وقد روى أن رجلين في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأيا هلال شوال، فأفطر أحدهما، ولم يفطر الآخر، فلما بلغ ذلك عمر قال للذي أفطر: لولا صاحبك لأوجعتك ضرباً.
والسبب في ذلك: أن الفطر يوم يفطر الناس، وهو يوم العيد، والذي صامه المنفرد برؤية الهلال ليس هو يوم العيد الذي نهى النبي ﷺ عن صومه، فإنه نهى عن صوم يوم الفطر، ويوم النحر. وقال: "أما أحدهما فيوم فطركم من صومكم، وأما الآخر فيوم تأكلون فيه من نُسِككم"، فالذي نهى عن صومه هو اليوم الذي يفطره المسلمون، وينسك فيه المسلمون.
وهذا يظهر بالمسألة الثانية، فإنه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له أن يقف قبل الناس في اليوم الذي هو في الظاهر الثامن، وإن كان بحسب رؤيته هو التاسع، وهذا لأن في انفراد الرجل في الوقوف والذبح، من مخالفة الجماعة ما في إظهاره للفطر.
وأما صوم يوم التاسع في حق من رأى الهلال، أو أخبره ثقتان أنهما رأيا الهلال، وهو العاشر بحسب ذلك، ولم يثبت ذلك عند العامة، وهو العاشر بحسب الرؤية الخفية، فهذا يخرج على ما تقدم.
ج/ 25 ص -206-فمن أمره بالصوم يوم الثلاثين الذي هو بحسب الرؤية الخفية من شوال، ولم يأمره بالفطر سراً، سوغ له صوم هذا اليوم واستحبه؛ لأن هذا هو يوم عرفة، كما أن ذلك من رمضان، وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة والاعتبار.
ومن أمره بالفطر سراً لرؤيته، نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل، كهلال شوال الذي انفرد برؤيته.
فإن قيل: قد يكون الإمام الذي فوض إليه إثبات الهلال مقصرا، لرده شهادة العدول، إما لتقصيره في البحث عن عدالتهم. وإما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم، أو غير ذلك من الأسباب التي ليست بشرعية، أو لاعتماده على قول المنجم الذي زعم أنه لا يرى.
قيل: ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال، مجتهداً مصيباً كان أو مخطئاً أو مفرطاً، فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه. وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال في الأئمة: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم". فخطؤه وتفريطه عليه لا على المسلمين الذين لم يفرطوا ولم يخطئوا.
ج/ 25 ص -207-ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة: أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته".
والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب؛ فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلا، لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره. وقد يراه بعض الناس لثمان درجات، وآخر لا يراه لثنتي عشرة درجة؛ ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعاً مضطرباً، وأئمتهم كبطليموس لم يتكلموا في ذلك بحرف؛ لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي.
وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم مثل كوشيار الديلمي وأمثاله لما رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه
ج/ 25 ص -208-الرؤية، وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة، بل خطؤها كثير، وقد جرب، وهم يختلفون كثيراً: هل يرى أم لا يرى؟
وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطؤوا طريق الصواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح، كما تكلمت على حد اليوم أيضاً وبينت أنه لا ينضبط بالحساب؛ لأن اليوم يظهر بسبب الأبخرة المتصاعدة، فمن أراد أن يأخذ حصة العشاء من حصة الفجر، إنما يصح كلامه لو كان الموجب لظهور النور وخفائه مجرد محاذاة الأفق التي تعلم بالحساب.
فأما إذا كان للأبخرة في ذلك تأثير، والبخار يكون في الشتاء والأرض الرطبة أكثر مما يكون في الصيف والأرض اليابسة، وكان ذلك لا ينضبط بالحساب؛ فسدت طريقة القياس الحسابي.
ولهذا توجد حصة الفجر في زمان الشتاء أطول منها في زمان الصيف، والآخذ بمجرد القياس الحسابي يشكل عليه ذلك؛ لأن حصة الفجر عنده تتبع النهار، وهذا أيضا مبسوط في موضعه، والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد.