ج/ 25 ص -68-باب صدقة الفطر
سئل رحمه الله عن زكاة الفطر: هل تخرج تمرًا أو زبيبا أو بُرًا أو شعيرًا أو دقيقا؟ وهل يعطي للأقارب ممن لا تجب نفقته؟ أو يجوز إعطاء القيمة؟
فأجاب:
الحمد لله، أما إذا كان أهل البلد يقتاتون أحد هذه الأصناف جاز الإخراج من قوتهم بلا ريب، وهل لهم أن يخرجوا ما يقتاتون من غيرها؟ مثل أن يكونوا يقتاتون الأرز، والدَّخن، فهل عليهم أن يخرجوا حنطة، أو شعيرًا، أو يجزئهم الأرز، والدخن والذرة؟ فيه نزاع مشهور، وهما روايتان عن أحمد:
إحداهما: لا يخرج إلا المنصوص.
ج/ 25 ص -69-والأخرى: يخرج ما يقتاته، وإن لم يكن من هذه الأصناف، وهو قول أكثر العلماء كالشافعي وغيره وهو أصح الأقوال؛ فإن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء، كما قال تعالى: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ" [المائدة: 89].
والنبي ﷺ فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير؛ لأن هذا كان قوت أهل المدينة، ولو كان هذا ليس قوتهم بل يقتاتون غيره؛ لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتاتونه، كما لم يأمر الله بذلك في الكفارات، وصدقة الفطر من جنس الكفارات، هذه معلقة بالبدن، وهذه معلقة بالبدن، بخلاف صدقة المال، فإنها تجب بسبب المال من جنس ما أعطاه الله.
وأما الدقيق، فيجوز إخراجه في مذهب أبي حنيفة وأحمد دون الشافعي، ويخرجه بالوزن، فإن الدقيق يرىع إذا طحن.
والقريب الذي يستحقها إذا كانت حاجته مثل حاجة الأجنبي، فهو أحق بها منه، فإن صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة. والله أعلم.
ج/ 25 ص -70-وسئل رحمه الله عمن عليه زكاة الفطر، ويعلم أنها صاع ويزيد عليه، ويقول: هو نافلة، هل يكره؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم يجوز بلا كراهية عند أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد وغيرهما. وإنما تنقل كراهيته عن مالك.
وأما النقص عن الواجب فلا يجوز باتفاق العلماء، لكن هل الواجب صاع أو نصف صاع أو أكثر؟ فيه قولان. والله أعلم.
ج/ 25 ص -71-وسئل شيخ الإسلام عن صدقة الفطر: هل يجب استيعاب الأصناف الثمانية في صرفها؟ أم يجزئ صرفها إلى شخص واحد؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، الكلام في هذا الباب في أصلين:
أحدهما: في زكاة المال كزكاة الماشية والنقد، وعروض التجارة والمعشرات، فهذه فيها قولان للعلماء:
أحدهما: أنه يجب على كل مُزُكٍ أن يستوعب بزكاته جميع الأصناف المقدور عليها، وأن يعطي من كل صنف ثلاثة، وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي، وهو رواية عن الإمام أحمد.
الثاني: بل الواجب ألا يخرج بها عن الأصناف الثمانية، ولا يعطي أحدًا فوق كفايته، ولا يحابي أحدًا بحيث يعطي واحدًا ويدع
ج/ 25 ص -72-من هو أحق منه أو مثله مع إمكان العدل. وعند هؤلاء إذا دفع زكاة ماله جميعها لواحد من صنف، وهو يستحق ذلك، مثل أن يكون غارمًا عليه ألف درهم لا يجد لها وفاء، فيعطيه زكاته كلها، وهي ألف درهم أجزأه. وهذا قول جمهور أهل العلم كأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وهو المأثور عن الصحابة كحذيفة ابن اليمان، وعبد الله بن عباس، ويذكر ذلك عن عمر نفسه.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال لِقَبِيصَة بن مُخِارق الهِلالي: "أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها". وفي سنن أبي داود وغيرها أنه قال لسلمة بن صَخْر البياضي: "اذهب إلى عامل بني زُرَيق، فليدفع صدقتهم إليك". ففي هذين الحديثين أنه دفع صدقة قوم لشخص واحد، لكن الآمر هو الإمام، وفي مثل هذا تنازع، وفي المسألة بحث من الطرفين لا تحتمله هذه الفتوي.
فإن المقصود هو الأصل الثاني، وهو صدقة الفطر، فإن هذه الصدقة هل تجري مجري صدقة الأموال أو صدقة الأبدان كالكفارات؟ على قولين. فمن قال بالأول، وكان من قوله وجوب الاستيعاب، أوجب الاستيعاب فيها.
ج/ 25 ص -73-وعلى هذين الأصلين ينبني ما ذكره السائل من مذهب الشافعي رضي الله عنه ومن كان من مذهبه أنه لا يجب الاستيعاب كقول جمهور العلماء، فإنهم يجوزون دفع صدقة الفطر إلى واحد، كما عليه المسلمون قديمًا وحديثًا.
ومن قال بالثاني: إن صدقة الفطر تجري مجري كفارة اليمين، والظهار، والقتل، والجماع في رمضان، ومجري كفارة الحج، فإن سببها هو البدن ليس هو المال، كما في السنن عن النبي ﷺ، أنه فرض صدقة الفطر طُهْرة للصائم من اللغو والرَّفَثِ وَطُعْمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. وفي حديث آخر أنه قال: "أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة".
ولهذا أوجبها الله طعامًا، كما أوجب الكفارة طعامًا، وعلى هذا القول فلا يجزئ إطعامها إلا لمن يستحق الكفارة، وهم الآخذون لحاجة أنفسهم، فلا يعطي منها في المؤلفة، ولا الرقاب، ولا غير ذلك، وهذا القول أقوي في الدليل.
وأضعف الأقوال قول من يقول: إنه يجب على كل مسلم أن يدفع
ج/ 25 ص -74-صدقة فطره إلى اثني عشر، أو ثمانية عشر، أو إلى أربعة وعشرين، أو اثنين وثلاثين، أو ثمانية وعشرين، ونحو ذلك، فإن هذا خلاف ما كان عليه المسلمون على عهد رسول الله ﷺ، وخلفائه الراشدين، وصحابته أجمعين، لم يعمل بهذا مسلم على عهدهم، بل كان المسلم يدفع صدقة فطره وصدقة فطر عياله إلى المسلم الواحد.
ولو رأوا من يقسم الصاع على بضعة عشر نفسا، يعطي كل واحد حفنة لأنكروا ذلك غاية الإنكار، وعدوه من البدع المستنكرة، والأفعال المستقبحة، فإن النبي ﷺ قدر المأمور به صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير. ومن البر إما نصف صاع، وإما صاعًا على قدر الكفاية التامة للواحد من المساكين، وجعلها طُعْمة لهم يوم العيد يستغنون بها، فإذا أخذ المسكين حفنة لم ينتفع بها، ولم تقع موقعا.
وكذلك من عليه دَيْنٌ، وهو ابن سبيل إذا أخذ حفنة من حنطة لم ينتفع بها من مقصودها ما يعد مقصودًا للعقلاء، وإن جاز أن يكون ذلك مقصودًا في بعض الأوقات، كما لو فرض عدد مضطرون
ج/ 25 ص -75-وإن قسم بينهم الصاع عاشوا، وإن خص به بعضهم مات الباقون، فهنا ينبغي تفريقه بين جماعة، لكن هذا يقتضي أن يكون التفريق هو المصلحة، والشريعة منزهة عن هذه الأفعال المنكرة التي لا يرضاها العقلاء، ولم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها.
ثم قول النبي ﷺ: "طُعْمة للمساكين" نص في أن ذلك حق للمساكين. وقوله تعالى في آية الظهار: "فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا" [المجادلة: 4]، فإذا لم يجز أن تصرف تلك للأصناف الثمانية، فكذلك هذه؛ ولهذا يعتبر في المخرج من المال أن يكون من جنس النصاب، والواجب ما يبقي ويُسْتَنْمي؛ ولهذا كان الواجب فيها الإناث دون الذكور، إلا في التبيع، وابن لبون؛ لأن المقصود الدَّر والنسل، وإنما هو للإناث. وفي الضحايا والهدايا لما كان المقصود الأكل كان الذكر أفضل من الأنثي، وكانت الهدايا والضحايا إذا تصدق بها أو ببعضها فإنما هو للمساكين أهل الحاجة دون استيعاب المصارف الثمانية وصدقة الفطر وجبت طعامًا للأكل لا للاستنماء، فعلم أنها من جنس الكفارات.
وإذا قيل: إن قوله: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ" [التوبة: 60]، نص في استيعاب الصدقة. قيل: هذا خطأ لوجوه:
ج/ 25 ص -76-أحدها: أن اللام في هذه إنما هي لتعريف الصدقة المعهودة التي تقدم ذكرها في قوله: "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ" [التوبة: 58]، وهذه إذًا صدقات الأموال دون صدقات الأبدان باتفاق المسلمين؛ ولهذا قال في آية الفدية: "فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ" [البقرة: 196]، لم تكن هذه الصدقة داخلة في آية براءة، واتفق الأئمة على أن فدية الأذي لا يجب صرفها في جميع الأصناف الثمانية، وكذلك صدقة التطوع لم تدخل في الآية بإجماع المسلمين، وكذلك سائر المعروف فإنه قد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي ﷺ أنه قال: "كل معروف صدقة". لا يختص بها الأصناف الثمانية باتفاق المسلمين.
وهذا جواب من يمنع دخول هذه الصدقة في الآية، وهي تعم جميع الفقراء، والمساكين والغارمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يقل مسلم: إنه يجب استيعاب جميع هؤلاء، بل غاية ما قيل: إنه يجب إعطاء ثلاثة من كل صنف، وهذا تخصيص اللفظ العام من كل صنف، ثم فيه تعيين فقير دون فقير.
وأيضا لم يوجب أحد التسوية في آحاد كل صنف، فالقول عند
ج/ 25 ص -77-الجمهور في الأصناف عموما وتسوية، كالقول في آحاد كل صنف عموما وتسوية.
الوجه الثاني: أن قوله: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ" [التوبة:60] للحصر، وإنما يثبت المذكور ويبقي ما عداه، والمعني: ليست الصدقة لغير هؤلاء بل لهؤلاء، فالمثبت من جنس المنفي، ومعلوم أنه لم يقصد تبيين الملك، بل قصد تبيين الحل، أي: لا تحل الصدقة لغير هؤلاء، فيكون المعني: بل تحل لهم، وذلك أنه ذكر في معرض الذم لمن سأله من الصدقات وهو لا يستحقها، والمذموم يذم على طلب ما لا يحل له، لا على طلب ما يحل له، وإن كان لا يملكه، إذ لو كان كذلك؛ لذم هؤلاء وغيرهم إذا سألوها من الإمام قبل إعطائها، ولو كان الذم عامًا؛ لم يكن في الحصر ذم لهؤلاء دون غيرهم، وسياق الآية يقتضي ذمهم، والذم الذي اختصوا به سؤال ما لا يحل، فيكون ذلك نفي، ويكون المثبت هذا يحل، وليس من الإحلال للأصناف وآحادهم وجود الاستيعاب والتسوية. كاللام في قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً" [البقرة:29]، وقوله: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" [الجاثية: 13]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك" وأمثال ذلك مما جاءت به اللام للإباحة. فقول القائل:إنه قسمها بينهم بواو التشريك،
ج/ 25 ص -78-ولام التمليك، ممنوع لما ذكرناه.
الوجه الثالث: أن الله لما قال في الفرائض: "يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ" [النساء: 11]، وقال: "وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ" إلى قوله: "وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ" [النساء: 12]، وقال: "وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ" [النساء: 176]، لما كانت اللام للتمليك وجب استيعاب الأصناف المذكورين، وإفراد كل صنف والتسوية بينهم، فإذا كان لرجل أربع زوجات، وأربعة بنين أو بنات، أو أخوات، أو إخوة؛ وجب العموم والتسوية في الإفراد؛ لأن كلاً منهم استحق بالنسب، وهم مستوون فيه. وهناك لم يكن الأمر فيه كذلك، ولم يجب فيه ذلك.
ولا يقال: إفراد الصنف لا يمكن استيعابه؛ لأنه يقال: بل يجب أن يقال في الإفراد ما قيل في الأصناف، فإذا قيل: يجب استيعابها بحسب الإمكان، ويسقط المعْجُوز عنه، قيل: في الإفراد كذلك. وليس الأمر كذلك، لكن يجب تحري العدل بحسب الإمكان، كما ذكرناه، والله أعلم.