ج/ 24 ص -326-باب زيارة القبور
سُئِلَ رحمه الله عن المشروع في زيارة القبور.
فأجاب:
أما زيارة القبور فهي على وجهين: شرعية، وبدعية.
فالشرعية: مثل الصلاة على الجنازة، والمقصود بها الدعاء للميت كما يقصد بذلك الصلاة على جنازته. كما كان النبي ﷺ يزور أهل البقيع، ويزور شهداء أحد، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم".
وهكذا كل ما فيه دعاء للمؤمنين من الأنبياء وغيرهم؛ كالصلاة على النبي ﷺ، والسلام. كما في الصحيح عنه أنه قال:
ج/ 24 ص -327- "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة، حلت له شفاعتي يوم القيامة. وما من مسلم يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام".
وأما الزيارة البدعية وهي زيارة أهل الشرك، من جنس زيارة النصاري الذين يقصدون دعاء الميت، والاستعانة به، وطلب الحوائج عنده، فيصلون عند قبره، ويدعون به فهذا ونحوه لم يفعله أحد من الصحابة، ولا أمر به رسول الله ﷺ، ولا استحبه أحد من سلف الأمة، وأئمتها، بل قد سد النبي ﷺ [باب الشرك]. في الصحيح أنه قال في مرض موته: "لعن الله إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها : ولولا ذلك لأبرز قبره. لكن كره أن يتخذ مسجداً. وقال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
فالزيارة الأولى من جنس عبادة الله، والإحسان إلى خلق الله،
ج/ 24 ص -328-وذلك من جنس الزكاة التي أمر الله بها.
والثانية: من جنس الإشراك بالله، والظلم في حق الله، وحق عباده، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما أنزل الله تعالى "الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ" [الأنعام: 82]، شق ذلك على أصحاب النبي ﷺ، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي ﷺ: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"[لقمان: 13]".
وقال ﷺ: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد". وقد قال الله تعالى: "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" [نوح: 23]. قال طائفة من السلف: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، وصوروا تماثيلهم فكان هذا أول عبادة الأوثان، وهذا من جنس دين النصاري. ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم والتابعون يقصدون الدعاء عند قبر النبي ﷺ، ولا غيره، بل كره الأئمة وقوف الإنسان عند قبر النبي ﷺ للدعاء، وقالوا: هذه بدعة لم يفعلها الصحابة والتابعون، بل كانوا يسلمون عليه وعلى صاحبيه، ثم يذهبون.
ج/ 24 ص -329-وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليك يا أبتاه. ثم ينصرف. وقد نص عليه مالك، وغيره من الأئمة، ونص أبو يوسف وغيره من العلماء على أنه ليس لأحد أن يسأل الله بمخلوق، لا النبي، ولا الملائكة ولا غيرهم.
وقد أصاب المسلمين جدب وشدة، وكانوا يدعون الله، ويستسقون ويدعون على الأعداء ويستنصرون، ويتوسلون بدعاء الصالحين، كما قال النبي ﷺ: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم: بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم". ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي ﷺ، ولا صالح، ولا الصلاة عنده، ولا طلب الحوائج منه، ولا الإقسام على الله به، مثل أن يقول القائل: أسألك بحق فلان، وفلان. بل كل هذا من البدع المحدثة. وقد قال النبي ﷺ: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم". وقد اتفق المسلمون على أن أصحاب رسول الله ﷺ خير طباق الأمة.
ج/ 24 ص -330-وسئل الشيخ عن الزيارة.
فأجاب:
أما الاختلاف إلى القبر بعد الدفن، فليس بمستحب، وإنما المستحب عند الدفن أن يقام على قبره، ويدعي له بالتثبيت. كما روي أبو داود في سننه عن النبي ﷺ: أنه كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره، ويقول: "سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل". وهذا من معني قوله: "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ" [التوبة: 84]. فإنه لما نهي نبيه ﷺ عن الصلاة على المنافقين، وعن القيام على قبورهم، كان دليل الخطاب أن المؤمن يصلي عليه قبل الدفن، ويقام على قبره بعد الدفن.
فزيارة الميت المشروعة بالدعاء، والاستغفار هي من هذا القيام المشروع.
ج/ 24 ص -331-وسئل عن الأحياء إذا زاروا الأموات: هل يعلمون بزيارتهم؟ وهل يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم، أو غيره؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم قد جاءت الآثار بتلاقيهم، وتساؤلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات. كما روي ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري: قال: "إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها الرحمة من عباد الله، كما يتلقون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه ويسألونه، فيقول بعضهم لبعض: أنظروا أخاكم يستريح، فإنه كان في كرب شديد. قال: فيقبلون عليه، ويسألونه ما فعل فلان وما فعلت فلانة، هل تزوجت" الحديث.
وأما علم الميت بالحي إذا زاره، وسلم عليه، ففي حديث ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عيه وسلم ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه،إلا عرفه، ورد عليه السلام. قال ابن المبارك: ثبت ذلك عن النبي ﷺ، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام.
ج/ 24 ص -332-وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد، ورزقه، وما جاء في الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة، فذهب طوائف إلى أن ذلك مختص بهم دون الصديقين، وغيرهم. والصحيح الذي عليه الأئمة، وجماهير أهل السنة: أن الحياة، والرزق، ودخول الأرواح الجنة، ليس مختصاً بالشهيد. كما دلت على ذلك النصوص الثابتة،ويختص الشهيد بالذكر، لكون الظان يظن أنه يموت، فينكل عن الجهاد، فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد، والشهادة. كما نهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق؛ لأنه هو الواقع. وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق.
ج/ 24 ص -333-وسئل شيخُ الإسلاَم ومفتي الأنام، العالم، العامل، الزاهد، الورع، ناصر السنة، وقامع البدعة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رحمه الله تعالى عن الحديث المروي عن النبي ﷺ وهو قوله ﷺ: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج": هل هو منسوخ بقوله ﷺ: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة" أم لا؟ وهل صح الحديث الأول أم لا؟ وهل يحرم على النساء زيارة القبور أم يكره أم يستحب؟
وإذا قيل بالكراهة: هل تكون كراهة تحريم أم تنزيه؟ وهل صح عن النبي ﷺ أنه قال: "من زار قبري وجبت له شفاعتي"، أم لا؟ وهل صح في فضل زيارة قبر النبي ﷺ شيء من الأحاديث، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما زيارة القبور فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان قد نهي عنها نهيا عامًا، ثم أذن
ج/ 24 ص -334-في ذلك.فقال:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. فإنها تذكركم الآخرة".وقال ﷺ:"استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنت في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة". وهنا مسألتان:
إحداهما: متفق عليها، والأخري متنازع فيها.
فأما الأولى: فإن الزيارة تنقسم إلى قسمين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية: السلام على الميت، والدعاء له، بمنزلة الصلاة على جنازته، كما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". وهذا الدعاء يروي بعضه في بعض الأحاديث، وهو مروي بعدة ألفاظ. كما رويت ألفاظ التشهد وغيره وهذه الزيارة هي التي كان النبي ﷺ يفعلها إذا خرج لزيارة قبور أهل البقيع.
وأما الزيارة البدعية: فمن جنس زيارة اليهود والنصارى، وأهل
ج/ 24 ص -335-البدع، الذين يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وقد استفاض عن النبي ﷺ في الكتب الصحاح وغيرها أنه قال عند موته: "لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
فالزيارة البدعية مثل قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده أو الدعاء عنده، أو به، أو طلب الحوائج منه، أو من الله تعالى عند قبره، أو الاستغاثة به، أو الإقسام على الله تعالى به، ونحو ذلك، هو من البدع التي لم يفعلها أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان ولا سن ذلك رسول الله ﷺ، ولا أحد من خلفائه الراشدين، بل قد نهي عن ذلك أئمة المسلمين الكبار.
والحديث الذي يرويه بعض الناس: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي"، هو من المكذوبات التي لم يروها أحد من علماء المسلمين، ولا هو في شيء من كتب الحديث بمنزلة ما يروونه من قوله: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به"، فإن هذا أيضًا من المكذوبات.
ج/ 24 ص -336-وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يقسم على الله بمخلوق لا نبي ولا غيره، فمن ذلك ما ذكره أبو الحسين القدوري في [كتاب شرح الكرخي] عن بشر بن الوليد قال: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، وبحق خلقك. وهو قول أبي يوسف. وقال أبو يوسف: بمعاقد العز من عرشه: هو الله تعالى، فلا أكره هذا. وأكره بحق فلان، وبحق أنبيائك، ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام.
قال القدوري شارح الكتاب: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز، يعني: وفاقًا.
قلت: وأما الاستشفاع إلى الله تعالى به، وهو طلب الشفاعة منه، والتوسل إلى الله بدعائه وشفاعته، وبالإيمان به، وبمحبته وطاعته والتوجه إلى الله تعالى بذلك، فهذا مشروع باتفاق المسلمين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة فيقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول:"لا أملك
ج/ 24 ص -337-لك من الله شيئًا، قد أبلغتك". وفي الصحيح أنه قال ﷺ: "يافاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا، ياعباس عم رسول الله ﷺ لا أغني عنك من الله شيئًا، ياصفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم"، وقال ذلك لعشيرته الأقربين.
وروي أنه قال: "غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها"، فبين ﷺ ما هو موافق لكتاب الله من أنه ليس عليه إلا البلاغ المبين، وأما الجزاء بالثواب والعقاب، فهو إلى الله تعالى. كما قال تعالى: "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عليه مَا حُمِّلَ وَعليكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" [النور: 54]، وهو ﷺ قد بلغ البلاغ المبين، قد بلغ الرسالة، وأشهد الله على أمته أنه بلغهم، كما جعل في حجة الوداع يقول: "ألا هل بلغت؟" فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء، وينكبها إليهم، ويقول: "اللهم اشهد". رواه مسلم في صحيحه.
وأما إجابة الداعي، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، فهذا لله سبحانه وتعالى وحده لا يشركه فيه أحد.
ولهذا فرق الله سبحانه في كتابه بين ما فيه حق للرسول، وبين
ج/ 24 ص -338-ما هو لله وحده، كما في قوله تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [النور: 52]، فبين سبحانه ما يستحقه الرسول من الطاعة، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله. وأما الخشية والتقوي فجعل ذلك له سبحانه وحده، وكذلك قوله: "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ" [التوبة:59]، فجعل الإيتاء لله والرسول، كما في قوله تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ" [الحشر: 7]. وأما التوكل والرغبة فلله وحده، كما في قوله تعالى: "وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ" ولم يقل: ورسوله. وقال: "إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ"، ولم يقل: وإلى الرسول، وذلك موافق لقوله تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ" [الشرح: 7،8].
فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء والخوف لله وحده، لا يشركه فيه أحد، وأما الطاعة والمحبة والإرضاء، فعلينا أن نطيع الله ورسوله، ونحب الله ورسوله، ونرضي الله ورسوله؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله، وإرضاءه إرضاء لله، وحبه من حب الله.
وكثير من أهل الضلال من الكفار وأهل البدع بدلوا الدين. فإن الله تعالى جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فليس لأحد طريق إلى الله إلا متابعة
ج/ 24 ص -339-الرسول، بفعل ما أمر، وترك ما حذر.
ومن جعل إلى الله طريقًا غير متابعة الرسول للخاصة والعامة، فهو كافر بالله ورسوله: مثل من يزعم أن من خواص الأولىاء أو العلماء أو الفلاسفة أو أهل الكلام أو الملوك من له طريق إلى الله تعالى غير متابعة رسوله، ويذكرون في ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو أعظم الكفر والكذب؛ كقول بعضهم: إن الرسول ﷺ استأذن على أهل الصفة، فقالوا: اذهب إلى من أنت رسول إليه. وقال بعضهم: إنهم أصبحوا ليلة المعراج، فأخبروه بالسر الذي ناجاه الله به، وأن الله أعلمهم بذلك بدون إعلام الرسول. وقول بعضهم: إنهم قاتلوه في بعض الغزوات مع الكفار، وقالوا: من كان الله معه، كنا معه، وأمثال ذلك من الأمور التي هي من أعظم الكفر، والكذب.
ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسي عليه السلام : على أن من الأولىاء من يستغنى عن محمد ﷺ، كما استغني الخضر عن موسي، ومثل قول بعضهم: إن خاتم الأولىاء له طريق إلى الله، يستغنى به عن خاتم الأنبياء، وأمثال هذه الأمور التي كثرت في كثير من المنتسبين إلى الزهد والفقر، والتصوف والكلام والتفلسف. وكفر هؤلاء قد يكون من جنس كفر اليهود والنصارى، وقد يكون
ج/ 24 ص -340-أعظم، وقد يكون أخف بحسب أحوالهم.
والله سبحانه لم يجعل له أحدًا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية، والألوهية، مثل ما ينفرد به من الخلق والرزق، وإجابة الدعاء والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سببًا: مثل أن يدعو أو يشفع، والله تعالى يقول: "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" [البقرة:255]، ويقول: "وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى" [الأنبياء: 28]، ويقول: "وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى" [النجم: 26]، وقال تعالى:"قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا" [الإسراء: 56،57]، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء، فنهاهم الله عن ذلك في قوله تعالى: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَربابا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" [آل عمران: 79،80]، فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، ولهذا كان الناس في الشفاعة على ثلاثة أقسام:
ج/ 24 ص -341-فالمشركون أثبتوا الشفاعة، التي هي شرك؛ كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند الملوك خواصهم لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، وتجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله تعالى مشركون كفار؛ لأن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه إجابة دعاء الشافعين. وهو سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها؛ ولهذا قال تعالى: "مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ" [السجدة: 4]، وقال: "وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ" [الأنعام: 51]، وقال تعالى: "أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا" [الزمر: 4344]، وقال تعالى عن صاحب [يس]: "أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ" [يس: 2325].
وأما الخوارج والمعتزلة: فإنهم أنكروا شفاعة نبينا ﷺ في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال، مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي ﷺ، ولإجماع خير القرون.
والقسم الثالث: هم أهل السنة والجماعة، وهم سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه، وسنة رسوله
ج/ 24 ص -342-ﷺ ونفوا ما نفاه الله في كتابه وسنة رسوله. فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث؛ كشفاعة نبينا محمد ﷺ يوم القيامة، إذا جاء الناس إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسي، ثم عيسي، ثم يأتونه عليه السلام، قال: "فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها على، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع"، فهو يأتي ربه سبحانه فيبدأ بالسجود والثناء عليه، فإذا أذن له في الشفاعة شفع، بابي هو وأمي ﷺ.
وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه المشركون والنصاري، ومن ضاهاهم من هذه الأمة،فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله تعالى كخواص الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله تعالى بمنزلة شركاء الملك، وبمنزلة أولاده. والله تعالى قد نزه نفسه المقدسة عن ذلك، كما قال تعالى: "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا" [الإسراء: 111]، ولهذا قال النبي
ج/ 24 ص -343-ﷺ: "لا تطروني كما أطرت النصاري ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله، ورسوله". وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع.
و[الزيارة البدعية] هي من أسباب الشرك بالله تعالى، ودعاء خلقه، وإحداث دين لم يأذن به الله. و[الزيارة الشرعية] هي من جنس الإحسان إلى الميت بالدعاء له، كالإحسان إليه بالصلاة عليه، وهي من العبادات لله تعالى التي ينفع الله بها الداعي، والمدعو له، كالصلاة والسلام على النبي ﷺ، وطلب الوسيلة، والدعاء لسائر المؤمنين أحيائهم وأمواتهم.
وأما المسألة المتنازع فيها: فالزيارة المأذون فيها: هل فيها إذن للنساء، ونسخ للنهي في حقهن؟ أو لم يأذن فيها،بل هن منهيات عنها؟ وهل النهي نهي تحريم، أو تنزيه؟ في ذلك للعلماء ثلاثة أقوال معروفة. والثلاثة أقوال في مذهب الشافعي، وأحمد أيضًا وغيرهما. وقد حكي في ذلك ثلاث روايات عن أحمد. وهو نظير تنازعهم في تشييع النساء للجنائز، وإن كان فيهم من يرخص في الزيارة دون التشييع، كما اختار ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم.
فمن العلماء من اعتقد أن النساء مأذون لهن في الزيارة، وأنه أذن
ج/ 24 ص -344-لهن كما أذن للرجال، واعتقد أن قوله ﷺ: "فزوروها فإنها تذكركم الآخرة"، خطاب عام للرجال والنساء. والصحيح أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه:
أحدها: أن قوله ﷺ: "فزوروها" صيغة تذكير، وصيغة التذكير إنما تتناول الرجال بالوضع، وقد تتناول النساء أيضاً على سبيل التغليب، لكن هذا فيه قولان: قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل. وحينئذ، فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل. وقيل: إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق.وعلى هذا،فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة المستفيضة في نهي النساء، كما سنذكره إن شاء الله تعالى بل ولا ينسخها عند جمهور العلماء، وإن علم تقدم الخاص على العام.
الوجه الثاني: أن يقال: لو كان النساء داخلات في الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور، كما استحب للرجال عند الجمهور؛ لأن النبي ﷺ علل بعلة تقتضي الاستحباب، وهي قوله: "فإنها تذكركم الآخرة". ولهذا تجوز زيارة قبور المشركين لهذه العلة كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه زار قبر أمه، وقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة".
ج/ 24 ص -345-وأما زيارته لأهل البقيع: فذلك فيه أيضًا الاستغفار لهم والدعاء، كما علم النبي ﷺ أمته إذا زاروا قبور المؤمنين أن يسلموا عليهم، ويدعوا لهم. فلو كانت زيارة القبور مأذونًا فيها للنساء، لاستحب لهن، كما استحب للرجال؛ لما فيها من الدعاء للمؤمنين، وتذكر الموت. وما علمنا أن أحدًا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ولا كان النساء على عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور، كما يخرج الرجال.
والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، وكان قد مات في غيبتها. وقالت: لو شهدتك لما زرتك. وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء، كما تستحب للرجال، إذ لو كان كذلك، لاستحب لها زيارته، كما تستحب للرجال زيارته، سواء شهدته أو لم تشهده.
وأيضًا، فإن الصلاة على الجنائز أوكد من زيارة القبور. ومع هذا فقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ نهي النساء عن اتباع الجنائز، وفي ذلك تفويت صلاتهن على الميت، فإذا لم يستحب لهن اتباعها لما فيها من الصلاة والثواب، فكيف بالزيارة؟!
ج/ 24 ص -346-الوجه الثالث: أن يقال: غاية ما يقال في قوله ﷺ: "فزوروا القبور" خطاب عام، ومعلوم أن قوله ﷺ: "من صلى على جنازة، فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان". هو أدل على العموم من صيغة التذكير، فإن لفظ: [من] يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وإن خالف فيه من لا يدري ما يقول. ولفظ [من] أبلغ صيغ العموم، ثم قد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء، لنهي النبي ﷺ لهن عن اتباع الجنائز، سواء كان نهي تحريم أو تنزيه. فإذا لم يدخلن في هذا العموم، فكذلك في ذلك بطريق الأولى، وكلاهما من جنس واحد، فإن تشييع الجنازة من جنس زيارة القبور. قال الله تعالى: "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ ٌ" [التوبة:84]. فنهي نبيه ﷺ عن الصلاة على المنافقين، وعن القيام على قبورهم.
وكان دليل الخطاب وموجب التعليل يقتضي أن المؤمنين يصلي عليهم، ويقام على قبورهم. وذلك كما قال أكثر المفسرين: هو القيام بالدعاء والاستغفار، وهو مقصود زيارة قبور المؤمنين، فإذا كان النساء لم يدخلن في عموم اتباع الجنائز، مع ما في ذلك من الصلاة على الميت، فلأن لا يدخلن في زيارة القبور التي غايتها دون الصلاة عليه
ج/ 24 ص -347-بطريق الأولى، بخلاف ما إذا أمكن النساء أن يصلين على الميت بلا اتباع، كما يصلين عليه في البيت، فإن ذلك بمنزلة الدعاء له، والاستغفار في البيت.
وإذا قيل: مفسدة الاتباع للجنائز أعظم من مفسدة الزيارة؛ لأن المصيبة حديثة، وفي ذلك أذي للميت، وفتنة للحي بأصواتهن، وصورهن، قيل: ومصلحة الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة؛ لأن في ذلك الصلاة عليه التي هي أعظم من مجرد الدعاء؛ ولأن المقصود بالاتباع الحمل والدفن، والصلاة فرض على الكفاية، وليس شيء من الزيارة فرضًا على الكفاية وذلك الفرض يشترك فيه الرجال والنساء بحيث لو مات رجل وليس عنده إلا نساء لكان حمله ودفنه والصلاة عليه فرضًا عليهن، وفي تغسيلهن للرجال نزاع وتفصيل. وكذلك إذا تعذر غسل الميت هل ييمم؟ فيه نزاع معروف، وهو قولان في مذهب أحمد وغيره. فإذا كان النساء منهيات عما جنسه فرض على الكفاية، ومصلحته أعظم إذا قام به الرجال، فما ليس بفرض على أحد أولى.
وقول القائل: مفسدة التشييع أعظم، ممنوع، بل إذا رخص للمرأة في الزيارة كان ذلك مظنة تكرير ذلك، فتعظم فيه المفسدة، ويتجدد الجزع، والأذي للميت، فكان ذلك مظنة قصد الرجال لهن والافتتان بهن، كما هو الواقع في كثير من الأمصار، فإنه يقع بسبب
ج/ 24 ص -348-زيارة النساء القبور من الفتنة والفواحش والفساد ما لا يقع شيء منه عند اتباع الجنائز.
وهذا كله يبين أن جنس زيارة النساء أعظم من جنس اتباعهن، وأن نهي الاتباع إذا كان نهي تنزيه، لم يمنع أن يكون نهي الزيارة نهي تحريم، وذلك أن نهي المرأة عن الاتباع قد يتعذر لفرط الجزع، كما يتعذر تسكينهن لفرط الجزع أيضًا فإذا خفف هذه القوة المقتضي، لم يلزم تخفيف ما لا يقوي المقتضي فيه. وإذا عفا الله تعالى للعبد عما لا يمكن تركه إلا بمشقة عظيمة، لم يلزم أن يعفو له عما يمكنه تركه بدون هذه المشقة الواجبة.
الوجه الرابع: أن يقال: قد جاء عن النبي ﷺ من طريقين: أنه لعن زوارات القبور، فعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي ﷺ لعن زائرات القبور. رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي وصححه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي ﷺ لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الإمام أحمد؛ وأبو داود والنسائي، والترمذي وحسنه، وفي نسخ تصحيحه. ورواه ابن ماجه من ذكر الزيارة.
ج/ 24 ص -349-فإن قيل: الحديث الأول رواه عمر بن أبي سلمة، وقد قال فيه على بن المديني: تركه شعبة، وليس بذاك. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه. وقال السعدي والنسائي: ليس بقوي الحديث. والثاني فيه أبو صالح باذام، مولي أم هانئ، وقد ضعفوه. قال أحمد: كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح، وكان أبو حاتم يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير، وما أقل ما له في المسند، ولم أعلم أحدًا من المتقدمين رضيه.
قلت: الجواب على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: كل من الرجلين قد عدله طائفة من العلماء، كما جرحه آخرون. أما عمر فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجلي: ليس به بأس، وكذلك قال يحيي بن معين: ليس به بأس. وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية.
وأما قول من قال: تركه شعبة، فمعناه أنه لم يرو عنه. كما قال أحمد بن حنبل: لم يسمع شعبة من عمر بن أبي سلمة شيئًا، وشعبة، ويحيي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ومالك، ونحوهم قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم، لا توجب رد
ج/ 24 ص -350-أخبارهم. فهم إذا رووا عن شخص، كانت روايتهم تعديلاً له. وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح، وهذا معروف في غير واحد قد خرج له في الصحيح.
وكذلك قول من قال: ليس بقوي في الحديث. عبارة لينة، تقتضي أنه ربما كان في حفظه بعض التغير، ومثل هذه العبارة لا تقتضي عندهم تعمد الكذب، ولا مبالغة في الغلط.
وأما أبو صالح: فقد قال يحيي بن سعيد القطان: لم أر أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولي أم هانئ، وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة، فهذه رواية شعبة عنه تعديل له، كما عرف من عادة شعبة. وترك ابن مهدي له لا يعارض ذلك، فإن يحيي بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من ابن مهدي، فإن أهل الحديث متفقون على أن شعبة ويحيي بن سعيد أعلم بالرجال من ابن مهدي، وأمثاله.
وأما قول أبي حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في جمهور أهل العلم.
ج/ 24 ص -351-وهذا كقول من قال: لا أعلم أنهم رضوه. وهذا يقتضي أنه ليس عندهم من الطبقة العالية، ولهذا لم يخرج البخاري ومسلم له، ولأمثاله. لكن مجرد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب رد حديثه. وإذا كان كذلك، فيقال: إذا كان الجارح والمعدل من الأئمة، لم يقبل الجرح إلا مفسرًا، فيكون التعديل مقدمًا على الجرح المطلق.
الوجه الثاني: أن حديث مثل هؤلاء يدخل في الحسن الذي يحتج به جمهور العلماء، فإذا صححه من صححه كالترمذي وغيره، ولم يكن فيه من الجرح إلا ما ذكر، كان أقل أحواله أن يكون من الحسن.
الوجه الثالث: أن يقال: قد روي من وجهين مختلفين: أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن أبي هريرة، ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب، وإنما التضعيف من جهة سوء الحفظ، ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه، ولم يكن فيها متهم، ولم يكن شاذًا: أي مخالفا لما ثبت بنقل الثقات. وهذا الحديث تعددت طرقه، وليس فيه متهم، ولا خالفه أحد من الثقات، وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين: إما تعمد الكذب، وإما خطأ الراوي، فإذا كان من وجهين، لم يأخذه أحدهما
ج/ 24 ص -352-عن الآخر، وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه، علم أنه ليس بكذب، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب.
وأما الخطأ، فإنه مع التعدد يضعف، ولهذا كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يطلبان مع المحدث الواحد من يوافقه خشية الغلط، ولهذا قال تعالى في المرأتين: "أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى" [البقرة:282]. هذا لو كانا عن صاحب واحد، فكيف وهذا قد رواه عن صاحب، وذلك عن آخر، وفي لفظ أحدهما زيادة على لفظ الآخر، فهذا كله ونحوه مما يبين أن الحديث في الأصل معروف.
فإن قيل: فهب أنه صحيح، لكنه منسوخ، فإن الأول ينسخه، ويدل على ذلك ما رواه الأثرم، واحتج به أحمد في روايته، ورواه إبراهيم بن الحارث عن عبد الله بن أبي مُلَيكَة أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، أليس كان نهى رسول الله ﷺ عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها. قيل: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أنه قد تقدم الخطاب. بأن الإذن لم يتناول النساء، فلا يدخلن في الحكم الناسخ.
ج/ 24 ص -353-الثاني: خاص في النساء، وهو قوله ﷺ: "لعن الله زوارات القبور"، أو: "زائرات القبور"،وقوله: "فزوروها" بطريق التبع، فيدخلن بعموم ضعيف إما أن يكون مختصاً بالرجال، وإما أن يكون متناولاً للنساء، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص، لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص، إذ قد يكون قوله: "لعن الله زوارات القبور" بعد إذنه للرجال في الزيارة، ويدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، وذكر هذا بصيغة التذكير التي تتناول الرجال، ولعن الزائرات جعله مختصا بالنساء. ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج باق محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فكذلك الآخر.
وأما ما ذكر عن عائشة رضي الله عنها فأحمد احتج به في إحدي الروايتين عنه، لما أداه اجتهاده إلى ذلك. والرواية الأخري عنه تناقض ذلك، وهي اختيار الخرقي وغيره من قدماء أصحابه.
ولا حجة في حديث عائشة. فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفع ذلك بأن النهي منسوخ. وهو كما قالت رضي الله عنها ولم يذكر لها المحتج النهي المختص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها: "قد أمر بزيارتها" فهذا يبين أنه أمر بها أمرًا
ج/ 24 ص -354-يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة، ولكن عائشة بينت أن أمره الثاني نسخ نهيه الأول، فلم يصلح أن يحتج به وهو النساء على أصل الإباحة. ولو كانت عائشة تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور، لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال، ولم تقل لأخيها: لما زرتك.
الجواب الثالث: جواب من يقول بالكراهة من أصحاب أحمد، والشافعي، وهو أنهم قالوا: حديث اللعن يدل على التحريم، وحديث الإذن يرفع التحريم. وبقي أصل الكراهة. يؤيد هذا قول أم عطية: نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا. والزيارة من جنس الاتباع فيكون كلاهما مكروها غير محرم.
الجواب الرابع: جواب طائفة منهم: كإسحاق بن راهويه، فإنهم يقولون: اللعن قد جاء بلفظ الزوارات، وهن المكثرات للزيارة، فالمرة الواحدة في الدهر لا تتناول ذلك، ولا تكون المرأة زائرة، ويقولون: عائشة زارت مرة واحدة، ولم تكن زوارة.
وأما القائلون بالتحريم: فيقولون: قد جاء بلفظ "الزوارات". ولفظ الزوارات قد يكون لتعددهن، كما يقال: فتحت الأبواب، إذ لكل باب فتح يخصه، ومنه قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا" [الزمر: 73]،
ج/ 24 ص -355-ومعلوم أن لكل باب فتحًا واحدًا. قالوا: ولأنه لا ضابط في ذلك بين ما يحرم، وما لا يحرم، واللعن صريح في التحريم.
ومن هؤلاء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بما روي في التشييع من التغليظ، كقوله ﷺ:"ارجعن مأزورات غير مأجورات،فإنكن تفتن الحي،وتؤذين الميت". وقوله لفاطمة رضي الله عنها :"أما إنك لو بلغت معهم الكُدَي لم تدخلي الجنة،حتى يكون كذا وكذا" وهذان يؤيدهما ما ثبت في الصحيحين من أنه:نهى النساء عن اتباع الجنائز. وأما قول أم عطية:ولم يعزم علينا،فقد يكون مرادها لم يؤكد النهي،وهذا لا ينفي التحريم،وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهي تحريم،والحجة في قول النبي ﷺ لا في ظن غيرهالجواب الخامس: أن النبي ﷺ علل الإذن للرجال بأن ذلك يذَكر بالموت، ويرقق القلب، ويدمع العين، هكذا في مسند أحمد. ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة، لما فيها من الضعف، وكثرة الجزع، وقلة الصبر.
وأيضا، فإن ذلك سبب لتأذي الميت ببكائها، ولافتتان الرجال
ج/ 24 ص -356-بصوتها، وصورتها، كما جاء في حديث آخر: "فإنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت". وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسببًا للأمور المحرمة في حقهن، وحق الرجال، والحكمة هنا غير مضبوطة، فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع.
ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية، أو غير منتشرة، علق الحكم بمظنتها، فيحرم هذا الباب سدًا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك من النظر، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة. فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها. ولهذا قال الفقهاء: إذا علمت المرأة من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز من قول أو عمل، لم تجز لها الزيارة بلا نزاع.
فصل
وأما الحديث المذكور في زيارة قبر النبي ﷺ فهو ضعيف، وليس في زيارة قبر النبي ﷺ حديث حسن ولا صحيح، ولا روي أهل السنن المعروفة، كسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، ولا أهل المسانيد المعروفة، كمسند أحمد،
ج/ 24 ص -357-ونحوه، ولا أهل المصنفات كموطأ مالك وغيره في ذلك شيئا، بل عامة ما يروى في ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة. كما يروى عنه ﷺ أنه قال: "من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على الله الجنة" وهذا حديث موضوع، كذب باتفاق أهل العلم.
وكذلك ما يروي أنه قال: "من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي ضمنت له على الله الجنة" ليس لشيء من ذلك أصل، وإنما كان قد روي بعض ذلك الدارقطني، والبزار في مسنده، فمدار ذلك على عبد الله بن عمر العمري. أو من هو أضعف منه، ممن لا يجوز أن يثبت بروايته حكم شرعي.
وإنما اعتمد الأئمة في ذلك على ما رواه أبو داود في السنن عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحي، حتى أرد عليه السلام". وكما في سنن النسائي عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله وكل بقبري ملائكة تبلغني عن أمتي السلام". فالصلاة والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله، فلهذا استحب ذلك العلماء.
ومما يبين ذلك أن مالكا رحمه الله كره أن يقول الرجل:
ج/ 24 ص -358-زرت قبر النبي ﷺ ومالك قد أدرك الناس من التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة. فدل ذلك على أنه لم تكن تعرف عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي ﷺ، ولهذا كره من كره من الأئمة أن يقف مستقبل القبر يدعو، بل وكره مالك وغيره أن يقوم للدعاء لنفسه هناك، وذكر أن هذا لم يكن من عمل الصحابة والتابعين، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وقد ذكروا في أسباب كراهته، أن يقول: زرت قبر النبي؛ لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهي قصد الميت لسؤاله، ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا، وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة، فكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معني فاسد، بخلاف الصلاة عليه والسلام. فإن ذلك مما أمر الله به.
أما لفظ الزيارة في عموم القبور، فقد لا يفهم منها مثل هذا المعنى. ألا تري إلى قوله: "فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة" مع زيارته لقبر أمه؟ فإن هذا يتناول زيارة قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله، والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين؛
ج/ 24 ص -359-كالأنبياء، والصالحين. فإنه كثيرًا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية والشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا. وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة.
فلا يمكن أحد أن يروي بإسناد ثابت عن النبي ﷺ، ولا عن أصحابه شيئا في زيارة قبر النبي ﷺ، بل الثابت عنه في الصحيحين يناقض المعنى الفاسد الذي ترويه الجهال بهذا اللفظ. كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم". وقوله ﷺ: "لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وقوله ﷺ: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وقوله ﷺ: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد". وأشباه هذه الأحاديث التي في الصحاح، والسنن، والكتب المعتمدة.
فكيف يعدل من له علم وإيمان عن موجب هذه النصوص الثابتة باتفاق أهل الحديث، إلى ما يناقض معناها من الأحاديث التي لم يثبت منها شيئا أحد من أهل العلم. والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد.
ج/ 24 ص -360-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن زيارة النساء القبور: هل ورد في ذلك حديث عن النبي ﷺ أم لا ؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، صح عن رسول الله ﷺ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن الله زوارات القبور". رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لعن رسول الله ﷺ زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أهل السنن الأربعة: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه أبو حاتم في صحيحه. وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم: أنه نهى زوارات القبور عن ذلك؛ فإن النبي ﷺ قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة".
فإن قيل: فالنهي عن ذلك منسوخ، كما قال ذلك أهل القول الآخر، قيل: هذا ليس بجيد؛ لأن قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة
ج/ 24 ص -361-القبور فزوروها"، هذا خطاب للرجال دون النساء، فإن اللفظ لفظ مذكر، وهو مختص بالذكور، أو متناول لغيرهم بطريق التبع. فإن كان مختصًا بهم، فلا ذكر للنساء، وإن كان متناولاً لغيرهم، كان هذا اللفظ عاما. وقوله: "لعن الله زوارات القبور"، خاص بالنساء دون الرجال. ألا تراه يقول: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"؟ فالذين يتخذون عليها المساجد والسرج لعنهم الله، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا. وأما الذين يزورون فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال، وإذا كان هذا خاصا ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة، كان متقدمًا على العام عند عامة أهل العلم، كذلك لو علم أنه كان بعدها.
وهذا نظير قوله ﷺ: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان". فهذا عام، والنساء لم يدخلن في ذلك؛ لأنه ثبت عنه في الصحيح أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز. عن عبد الله بن عمر قال: سرنا مع رسول الله ﷺ يعني [نشيع] ميتًا، فلما فرغنا، انصرف رسول الله ﷺ وانصرفنا معه، فلما توسطنا الطريق، إذا نحن بامرأة مقبلة، فلما دنت إذا هي فاطمة، فقال لها رسول الله ﷺ: "ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟!" قالت: أتيت يا رسول الله أهل هذا
ج/ 24 ص -362-البيت فعزيناهم بميتهم. فقال رسول الله ﷺ: "لعلك بلغت معهم الكُدَي. أما إنك لو بلغت معهم الكُدَي ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك". رواه أهل السنن، ورواه أبو حاتم في صحيحه، وقد فسر [الكدي] بالقبور. والله أعلم.
وسئل رحمه الله:
هل الميت يسمع كلام زائره، ويري شخصه؟ وهل تعاد روحه إلى جسده في ذلك الوقت، أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره؟ وهل تصل إليه القراءة والصدقة من ناحليه وغيرهم، سواء كان من المال الموروث عنه وغيره؟ وهل تجمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه الذين ماتوا قبله، سواء كان مدفونًا قريبًا منهم أو بعيدًا؟ وهل تنقل روحه إلى جسده في ذلك الوقت، أو يكون بدنه إذا مات في بلد بعيد؟ ودفن بها ينقل إلى الأرض التي ولد بها، وهل يتأذي ببكاء أهله عليه؟ والمسؤول من أهل العلم رضي الله عنهم الجواب عن هذه الفصول فصلا، فصلا جوابا واضحا، مستوعبًا لما ورد فيه من الكتاب والسنة، وما نقل فيه عن الصحابة رضي الله عنهم وشرح مذاهب الأئمة والعلماء: أصحاب المذاهب، واختلافهم، وما الراجح من أقوالهم، مأجورين إن شاء الله تعالى.
ج/ 24 ص -363-فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، نعم يسمع الميت في الجملة كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه". وثبت عن النبي ﷺ أنه ترك قتلي بدر ثلاثا، ثم أتاهم فقال: "يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا". فسمع عمر رضي الله عنه ذلك فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون، وأني يجيبون، وقد جيفوا؟! فقال: "والذي نفسي بيده،ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا". ثم أمر بهم فسحبوا في قليب بدر، وكذلك في الصحيحين عن عبد الله بن عمر: أن النبي ﷺ وقف على قليب بدر فقال: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟" وقال: "إنهم يسمعون الآن ما أقول".
وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور. ويقول: "قولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطب من يسمع. وروي ابن عبد البر عن النبي ﷺ
ج/ 24 ص -364-أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام".
وفي السنن عنه أنه قال: "أكثروا من الصلاة على يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على"،فقالوا:يا رسول الله،وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يعني صرت رميما فقال:"إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء".وفي السنن أنه قال:"إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام".
فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائماً، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي فإنه قد يسمع أحياناً خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له، وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: "إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى" [النمل: 80]، فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال. فإن اللّه جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفقه المعنى. فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى، فإنه لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أمر به، ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي. وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما
ج/ 24 ص -365-قال تعالى: "وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ" [الأنفال: 23].
وأما رؤية الميت: فقد روي في ذلك آثار عن عائشة وغيرها.
فصل
وأما قول القائل: هل تعاد روحه إلى بدنه ذلك الوقت، أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره؟ فإن روحه تعاد إلى البدن في ذلك الوقت. كما جاء في الحديث. وتعاد أيضاً في غير ذلك. وأرواح المؤمنين في الجنة كما في الحديث الذي رواه النسائي، ومالك والشافعي، وغيرهم: "إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه" وفي لفظ: "ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش". ومع ذلك فتتصل بالبدن متي شاء اللّه، وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم.
وهذا جاء في عدة آثار، أن الأرواح تكون في أفنية القبور، قال مجاهد: الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارقه، فهذا يكون أحياناً. وقال مالك بن أنس: بلغني أن الأرواح مرسلة، تذهب حيث شاءت. واللّه أعلم.
ج/ 24 ص -366-فصل
وأما [القراءة، والصدقة] وغيرهما من أعمال البر، فلا نزاع بين علماء السنة والجماعة في وصول ثواب العبادات المالية، كالصدقة والعتق،كما يصل إليه أيضاً الدعاء والاستغفار، والصلاة عليه صلاة الجنازة، والدعاء عند قبره.
وتنازعوا في وصول الأعمال البدنية: كالصوم، والصلاة، والقراءة. والصواب أن الجميع يصل إليه، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه". وثبت أيضاً : أنه أمر امرأة ماتت أمها، وعليها صوم، أن تصوم عن أمها. وفي المسند عن النبي ﷺ أنه قال لعمرو بن العاص: "لو أن أباك أسلم فتصدقت عنه، أو صمت، أو أعتقت عنه، نفعه ذلك"، وهذا مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي.
وأما احتجاج بعضهم بقوله تعالى:"وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" [النجم: 39]، فيقال له: قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة: أنه يصلى
ج/ 24 ص -367-عليه، ويدعى له، ويستغفر له. وهذا من سعي غيره. وكذلك قد ثبت ما سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه، والعتق، وهو من سعي غيره. وما كان من جوابهم في موارد الإجماع، فهو جواب الباقين في مواقع النزاع. وللناس في ذلك أجوبة متعددة.
لكن الجواب المحقق في ذلك أن اللّه تعالى لم يقل: إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه، وإنما قال:"وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى"، فهو لا يملك إلا سعيه، ولا يستحق غير ذلك. وأما سعي غيره فهو له، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه، ونفع نفسه. فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير، لكن إذا تبرع له الغير بذلك، جاز.
وهكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه اللّه بذلك، كما ينفعه بدعائه له، والصدقة عنه، وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم، سواء كان من أقاربه، أو غيرهم، كما ينتفع بصلاة المصلىن عليه ودعائهم له عند قبره.
ج/ 24 ص -368-فصل
وأما قوله: هل تجتمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه؟ ففي الحديث عن أبي أيوب الأنصاري وغيره من السلف، ورواه أبو حاتم في الصحيح عن النبي ﷺ: "إن الميت إذا عرج بروحه تلقته الأرواح يسألونه عن الأحياء، فيقول بعضهم لبعض: دعوه حتى يستريح، فيقولون له: ما فعل فلان؟ فيقول: عمل عمل صلاح. فيقولون: ما فعل فلان؟ فيقول: ألم يقدم عليكم؟! فيقولون: لا. فيقولون: ذُهِب به إلى الهاوية". ولما كانت أعمال الأحياء تعرض عليه الموتي، كان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزي به عند عبد اللّه بن رواحة. فهذا اجتماعهم عند قدومه يسألونه فيجيبهم.
وأما استقرارهم فبحسب منازلهم عند اللّه، فمن كان من المقربين كانت منزلته أعلى من منزلة من كان من أصحاب اليمين. لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل، والأسفل لا يصعد إلى الأعلى، فيجتمعون إذا شاء اللّه، كما يجتمعون في الدنيا مع تفاوت منازلهم، ويتزاورون.
ج/ 24 ص -369-وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا، أو متقاربة، قد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن، وقد تفترق مع تقارب المدافن، يدفن المؤمن عند الكافر، وروح هذا في الجنة، وروح هذا في النار، والرجلان يكونان جالسين أو نائمين في موضع واحد، وقلب هذا ينعم، وقلب هذا يعذب. وليس بين الروحين اتصال. فالأرواح كما قال النبي ﷺ: "جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".
والبدن لا ينقل إلى موضع الولادة، بل قد جاء: "إن الميت يذر عليه من تراب حفرته" ومثل هذا لا يجزم به، ولا يحتج به. بل أجود منه حديث آخر فيه: "إنه ما من ميت يموت في غير بلده، إلا قيس له من مسقط رأسه إلى منقطع أثره في الجنة". والإنسان يبعث من حيث مات، وبدنه في قبره مشاهد، فلا تدفع المشاهدة بظنون لا حقيقة لها، بل هي مخالفة في العقل، والنقل.
فصل
وأما قول السائل: هل يؤذيه البكاء عليه ؟
فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء. والصواب
ج/ 24 ص -370-أنه يتأذي بالبكاء عليه، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه".وفي لفظ "من ينَح عليه، يعذب بما نيح عليه". وفي الحديث الصحيح: أن عبد اللّه بن رواحة لما أغمي عليه جعلت أخته تندب، وتقول: وا عضداه وا ناصراه،فلما أفاق قال: ما قلت لي شيئاً إلا قيل لي: أكذلك أنت ؟
وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، فهو مخالف لقوله تعالى: "وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الإسراء: 15]. ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة.
فمنهم من غلط الرواة لها، كعمر بن الخطاب وغيره. وهذه طريقة عائشة، والشافعي وغيرهما.
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصي به فيعذب على إيصائه، وهو قول طائفة: كالمزني، وغيره.
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم، فيعذب على ترك النهي عن المنكر، وهو اختيار طائفة: منهم جدي أبو البركات، وكل
ج/ 24 ص -371-هذه الأقوال ضعيفة جداً.
والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبد اللّه، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم لا ترد بمثل هذا. وعائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها لها مثل هذا نظائر ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك. ومن تدبر هذا ال
باب، وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئا.
وعائشة رضي اللّه عنها روت عن النبي ﷺ لفظين وهي الصادقة فيما نقلته فروت عن النبي ﷺ قوله: "إن اللّه ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه". وهذا موافق لحديث عمر، فإنه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله، جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله؛ ولهذا رد الشافعي في مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى. وقال: الأشبه روايتها الأخري "إنهم يبكون عليه، وإنه ليعذب في قبره".
والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه، ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره، وأن اللّه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. واعتقد هؤلاء أن اللّه يعاقب الإنسان بذنب غيره، فجوزوا
ج/ 24 ص -372-أن يدخلوا أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم. وهذا وإن كان قد قاله طوائف منتسبة إلى السنة، فالذي دل عليه الكتاب والسنة: أن اللّه لا يدخل النار إلا من عصاه. كما قال: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" [ص: 85]، فلابد أن يملأ جهنم من أتباع إبليس، فإذا امتلأت لم يكن لغيرهم فيها موضع، فمن لم يتبع إبليس، لم يدخل النار.
وأطفال الكفار أصح الأقوال فيهم: أن يقال فيهم: اللّه أعلم بما كانوا عاملين. كما قد أجاب بذلك النبي ﷺ في الحديث الصحيح. فطائفة من أهل السنة وغيرهم قالوا: إنهم كلهم في النار، واختار ذلك القاضي أبو يعلى، وغيره، وذكر أنه منصوص عن أحمد، وهو غلط على أحمد. وطائفة جزموا أنهم كلهم في الجنة، واختار ذلك أبو الفرج بن الجوزي، وغيره، واحتجوا بحديث فيه رؤيا النبي ﷺ: لما رأي إبراهيم الخليل، وعنده أطفال المؤمنين، قيل: يارسول اللّه، وأطفال المشركين؟ قال: "وأطفال المشركين".
والصواب أن يقال فيهم: اللّه أعلم بما كانوا عاملين، ولا يحكم لمعين منهم بجنة ولا نار، وقد جاء في عدة أحاديث أنهم يوم القيامة في عرصات القيامة يؤمرون وينهون، فمن أطاع، دخل الجنة، ومن
ج/ 24 ص -373-عصى، دخل النار، وهذا هو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة.
والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهي الجنة والنار،وأما عرصات القيامة فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ، فيقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وقال تعالى: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ" [القلم: 42، 43]. وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي ﷺ أنه قال: "يتجلي اللّه لعباده في الموقف، إذا قيل: ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون. فيتبع المشركون آلهتهم، ويبقي المؤمنون فيتجلي لهم الرب الحق في غير الصورة التي كانوا يعرفون فينكرونه، ثم يتجلي لهم في الصورة التي يعرفون، فيسجد له المؤمنون، وتبقي ظهور المنافقين كقرون البقر، فيريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون. وذلك قوله: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ"" الآية [القلم: 42]. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود ههنا أن اللّه لا يعذب أحداً في الآخرة إلا بذنبه، وأنه لا تزر وازرة وزر أخري. وقوله: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، ليس فيه أن النائحة لا تعاقب، بل النائحة تعاقب على النياحة، كما في
ج/ 24 ص -374-الحديث الصحيح: أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران. فلا يحمل عمن ينوح وزره أحد.
وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه. بل قال: [يعذب] والعذاب أعم من العقاب، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب، كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب، فإن النبي ﷺ قال: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه..". فسمي السفر عذاباً، وليس هو عقاباً على ذنب.
والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة، والأرواح الخبيثة، والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا، ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملا له عوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة وإن لم تكن النياحة عملا له. يعاقب عليه ؟
والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس، ويتألم برؤية بعضهم، وبسماع كلامه، ولهذا أفتي القاضي أبو يعلى: بأن الموتي إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها، كما جاءت بذلك الآثار. فتعذيبهم
ج/ 24 ص -375-بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم. ثم النياحة سبب العذاب.
وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه، فقد يكون في الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب، كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة، والأرواح والصور القبيحة.
وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب. وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك: إما بتوبة مقبولة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع مطاع، وإما بفضل اللّه ورحمته ومغفرته، فإنه "لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" [النساء: 48].
وما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التي هي عذاب، فإن ذلك يكفر اللّه به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذي، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر اللّه بها من خطاياه".
وفي المسند لما نزلت هذه الآية: "مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ" [النساء: 123]، قال أبو بكر: يارسول اللّه، جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟!
ج/ 24 ص -376-فقال: "يا أبا بكر، ألست تحزن ؟! ألست يصيبك الأذي؟!" فإن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب. كما قال تعالى: "طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ" [الزمر: 73]. وفي الحديث الصحيح: "إنهم إذا عبروا على الصراط، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة". والكلام في هذه المسألة مبسوط في غير هذا الجواب. واللّه أعلم بالصواب.
وما ذكرنا في أن الموتي يسمعون الخطاب، ويصل إليهم الثواب، ويعذبون بالنياحة. بل وما لم يسأل عنه السائل من عقابهم في قبورهم وغير ذلك، فقد يكشف لكثير من أبناء زماننا يقظة ومناماً، ويعلمون ذلك، ويتحققونه. وعندنا من ذلك أمور كثيرة. لكن الجواب في المسائل العلمية يعتمد فيه على ما جاء به الكتاب والسنة، فإنه يجب على الخلق التصديق به، وما كشف للإنسان من ذلك، أو أخبره به من هو صادق عنده، فهذا ينتفع به من علمه، ويكون ذلك مما يزيده إيماناً وتصديقاً بما جاءت به النصوص، ولكن لا يجب على جميع الخلق الإيمان بغير ما جاءت به الأنبياء، فإن اللّه عز وجل أوجب التصديق بما جاءت به الأنبياء، كما في قوله تعالى: "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ" الآية [البقرة: 136]، وقال تعالى: "وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ واإليوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ" الآية [البقرة: 177]. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي
ج/ 24 ص -377-ﷺ أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر".
فالمحدث الملهم المكاشف من هذه الأمة يجب عليه أن يزن ذلك بالكتاب والسنة، فإن وافق ذلك صدق ما ورد عليه، وإن خالف لم يلتفت إليه. كما كان يجب على عمر رضي اللّه عنه وهو سيد المحدثين إذا ألقي في قلبه شيء، وكان مخالفاً للسنة لم يقبل منه، فإنه ليس معصوماً، وإنما العصمة للنبوة.
ولهذا كان الصديق أفضل من عمر، فإن الصديق لا يتلقي من قلبه، بل من مشكاة النبوة، وهي معصومة، والمحدث يتلقي تارة عن قلبه، وتارة عن النبوة، فما تلقاه عن النبوة فهو معصوم يجب اتباعه، وما ألهم في قلبه: فإن وافق ما جاءت به النبوة، فهو حق، وإن خالف ذلك، فهو باطل.
فلهذا لا يعتمد أهل العلم والإيمان في مثل مسائل العلم والدين إلا على نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وإن كان عندهم في بعض ذلك شواهد وبينات مما شاهدوه ووجدوه، ومما عقلوه وعملوه، وذلك ينتفعون به هم في أنفسهم، وأما حجة اللّه تعالى على عباده، فهم رسله، وإلا فهذه المسائل فيها من الدلائل والاعتبارات العقلية والشواهد
ج/ 24 ص -378-الحسية الكشفية ما ينتفع به من وجد ذلك، وقياس بني آدم وكشفهم تابع لما جاءت به الرسل عن اللّه تعالى فالحق في ذلك موافق لما جاءت به الرسل عن اللّه تعالى لا مخالف له، ومع كونه حقاً، فلا يفصل الخلاف بين الناس، ولا يجب على من لم يحصل له ذلك التصديق به، كما يجب التصديق بما عرف أنه معصوم، وهو كلام الأنبياء - صلوات اللّه وسلامه عليهم.
ولكن من حصل له في مثل هذه الأمور بصيرة أو قياس أو برهان، كان ذلك نوراً على نور. قال بعض السلف: بصيرة المؤمن تنطق بالحكمة، وإن لم يسمع فيها بأثر. فإذا جاء الأثر، كان نوراً على نور"وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" [النور: 40]. قال تعالى:"كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [البقرة: 213].
ج/ 24 ص -379-وسئل رَحمه اللّه:
هل يتكلم الميت في قبره أم لا ؟
فأجاب:
يتكلم، وقد يسمع أيضاً من كلمه، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إنهم يسمعون قرع نعالهم". وثبت عنه في الصحيح: أن الميت يسأل في قبره فيقال له: من ربك ؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت اللّه المؤمن بالقول الثابت، فيقول: اللّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، ويقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول المؤمن: هو عبد اللّه ورسوله، جاءنا بالبينات والهدي، فآمنا به، واتبعناه. وهذا تأويل قوله تعالى: "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" [إبراهيم: 27]. وقد صح عن النبي ﷺ أنها نزلت في عذاب القبر.
وكذلك يتكلم المنافق فيقول: آه ! آه ! لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان.
ج/ 24 ص -380-وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "لولا ألا تدافنوا لسألت اللّه أن يسمعكم من عذاب القبر مثل الذي أسمع". وثبت عنه في الصحيح: أنه نادي المشركين يوم بدر لما ألقاهم في القليب، وقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". والآثار في هذا كثيرة منتشرة. واللّه أعلم.
وسئل عن بكاء الأم والأخوة على الميت: هل فيه بأس على الميت ؟
فأجاب:
أما دمع العين،وحزن القلب، فلا إثم فيه، لكن الندب والنياحة منهي عنه، وأي صدقة تصدق بها عن الميت نفعه ذلك.
وسئل عما يتعلق بالتعزية؟
فأجاب:
التعزية مستحبة، ففي الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال: "من عزى مصاباً، فله مثل أجره".وأما قول القائل:
ج/ 24 ص -381-ما نقص من عمره زاد في عمرك،فغير مستحب، بل المستحب أن يدعى له بما ينفع، مثل أن يقول: أعظم اللّه أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك.
وأما نقص العمر وزيادته، فمن الناس من يقول: إنه لا يجوز بحال، ويحمل ما ورد على زيادة البركة، والصواب أنه يحصل نقص وزيادة عما كتب في صحف الملائكة. وأما علم اللّه القديم، فلا يتغير.
وأما اللوح المحفوظ: فهل يغير ما فيه ؟ على قولين. وعلى هذا يتفق ما ورد في هذا الباب من النصوص.
وأما صنعة الطعام لأهل الميت، فمستحبة كما قال النبي ﷺ: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم". لكن إنما يطيب إذا كان بطيب نفس المهدي، وكان على سبيل المعاوضة، مثل أن يكون مكافأة عن معروف مثله. فإن علم الرجل أنه ليس بمباح، لم يأكل منه، وإن اشتبه أمره فلا بأس بتناول اليسير منه إذا كان فيه مصلحة راجحة، مثل تاليف القلوب، ونحو ذلك. واللّه أعلم.
ج/ 24 ص -382-وسئل عمن يقرأ القرآن، وينوح على القبر، ويذكر شيئاً لا يليق، والنساء مكشفات الوجوه، والرجال حولهم؟
فأجاب:
الحمد للّه، النياحة محرمة على الرجال والنساء عند الأئمة المعروفين.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها، فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب، وسربالا من قطران. وفي السنن عنه: أنه لعن النائحة، والمستمعة. وفي الصحيح عنه قال: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية".
وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز، وعلى ولي الأمر الأمر بالمعروف، والنهي عن هذا المنكر، وغيره، ومن لم يرتدع، فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره، لا سيما النوح للنساء عند القبور، فإن ذلك من المعاصي التي يكرهها اللّه ورسوله، من الجزع
ج/ 24 ص -383-والندب والنياحة، وإيذاء الميت، وفتنة الحي، وأكل أموال الناس بالباطل، وترك ما أمر اللّه به ورسوله من الصبر والاحتساب، وفعل أسباب الفواحش، وفتح بابها، ما يجب على المسلمين أن ينهوا عنه. واللّه أعلم. وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم.