أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

كتاب الجنائز

    ج/ 24 ص -265-كتاب الجنائز
    وسئل رحمه الله تعالى عن قوم مسلمين مجاوري النصاري‏:‏ فهل يجوز للمسلم إذا مرض النصراني أن يعوده‏؟‏ وإذا مات أن يتبع جنازته‏؟‏ وهل على من فعل ذلك من المسلمين وزر، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، لا يتبع جنازته، وأما عيادته فلا بأس بها‏.‏ فإنه قد يكون في ذلك مصلحة لتاليفه على الإسلام، فإذا مات كافراً، فقد وجبت له النار؛ ولهذا لا يصلي عليه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن مرارة ما يذبح وغيره مما يحل أكله، أو يحرم، هل يجوز التداوي بمرارته أم لا‏؟‏

    ج/ 24 ص -266-فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إن كان المذبوح مما يباح أكله، جاز التداوي بمرارته، وإلا فلا‏.‏
    وسئل‏:‏ هل يجوز التداوي بالخمر‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    التداوي بالخمر حرام، بنص رسول الله ﷺ، وعلى ذلك جماهير أهل العلم‏.‏ ثبت عنه في الصحيح‏:‏ أنه سئل عن الخمر تصنع للدواء، فقال‏:‏
    ‏"‏إنها داء، وليست بدواء‏"‏ وفي السنن عنه‏:‏ أنه نهى عن الدواء بالخبيث‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم‏.‏ وروي ابن حبان في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها‏"‏‏.‏ وفي السنن أنه سئل عن ضفدع تجعل في دواء، فنهى عن قتلها وقال‏:‏ ‏"‏إن نقيقها تسبيح‏"‏‏.‏
    وليس هذا مثل أكل المضطر للميتة، فإن ذلك يحصل به المقصود قطعاً‏.‏ وليس له عنه عوض، والأكل منها واجب، فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات، دخل النار‏.‏ وهنا لا يعلم

    ج/ 24 ص -267-حصول الشفاء، ولا يتعين هذا الدواء، بل الله تعالى يعافي العبد بأسباب متعددة، والتداوي ليس بواجب عند جمهور العلماء، ولا يقاس هذا بهذا‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن المداواة بالخمر‏:‏ وقول من يقول‏:‏ إنها جائزة‏.‏ فما معنى قول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏إنها داء وليست بدواء‏"‏ ‏؟‏ فالذي يقول‏:‏ تجوز للضرورة فما حجته‏؟‏ وقالوا‏:‏ إن الحديث الذي قال فيه‏:‏ ‏"‏إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها‏"‏ ضعيف‏.‏ والذي يقول بجواز المداواة به فهو خلاف الحديث، والذي يقول ذلك‏:‏ ما حجته‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    وأما التداوي بالخمر، فإنه حرام عند جماهير الأئمة كمالك، وأحمد، وأبي حنيفة وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سئل عن الخمر تصنع للدواء، فقال‏:‏ ‏"‏إنها داء، وليست بدواء‏"‏‏.‏ وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ‏:‏ أنه نهى عن الدواء الخبيث‏.‏ والخمر أم الخبائث، وذكر البخاري وغيره عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها‏"‏‏.‏ ورواه أبو حاتم بن حبان

    ج/ 24 ص -268-في صحيحه مرفوعا إلى النبي ﷺ‏.‏
    والذين جوزوا التداوي بالمحرم قاسوا ذلك على إباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر، وهذا ضعيف لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن المضطر يحصل مقصوده يقينا بتناول المحرمات، فإنه إذا أكلها سدت رمقه، وأزالت ضرورته، وأما الخبائث بل وغيرها فلا يتيقن حصول الشفاء بها، فما أكثر من يتداوي ولا يشفي‏.‏ ولهذا أباحوا دفع الغصة بالخمر لحصول المقصود بها، وتعينها له، بخلاف شربها للعطش، فقد تنازعوا فيه‏.‏ فإنهم قالوا‏:‏ إنها لا تروى‏.‏
    الثاني‏:‏ أن المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته إلا الأكل من هذه الأعيان، وأما التداوي، فلا يتعين تناول هذا الخبيث، طريقا لشفائه‏.‏ فإن الأدوية أنواع كثيرة، وقد يحصل الشفاء بغير الأدوية كالدعاء، والرقية، وهو أعظم نوعي الدواء‏.‏ حتى قال بُقْرَاط‏:‏ نسبة طبنا إلى طب أرباب الهياكل، كنسبة طب العجائز إلى طبنا‏.‏
    وقد يحصل الشفاء بغير سبب اختياري، بل بما يجعله الله في الجسم من القوي الطبيعية، ونحو ذلك‏.‏

    ج/ 24 ص -269-الثالث‏:‏ أن أكل الميتة للمضطر واجب عليه في ظاهر مذهب الأئمة وغيرهم، كما قال مسروق‏:‏ من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار‏.‏ وأما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة‏.‏ وإنما أوجبه طائفة قليلة، كما قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد، بل قد تنازع العلماء‏:‏ أيما أفضل‏:‏ التداوي أم الصبر‏؟‏ للحديث الصحيح، حديث ابن عباس عن الجارية التي كانت تصرع، وسألت النبي ﷺ أن يدعو لها، فقال‏:‏ ‏"‏إن أحببت أن تصبري ولك الجنة، وإن أحببت دعوتُ الله أن يشفيك‏"‏، فقالت‏:‏ بل أصبر، ولكني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها ألا تتكشف‏.‏ ولأن خلقا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض كأبي بن كعب، وأبي ذر ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي‏.‏
    وإذا كان أكل الميتة واجبا، والتداوي ليس بواجب، لم يجز قياس أحدهما على الآخر‏.‏ فإن ما كان واجباً قد يباح فيه ما لا يباح في غير الواجب؛ لكون مصلحة أداء الواجب تغمر مفسدة المحرم، والشارع يعتبر المفاسد والمصالح‏.‏ فإذا اجتمعا، قدم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة؛ ولهذا أباح في الجهاد الواجب ما لم يبحه في غيره، حتى أباح رمي العدو بالمنجنيق، وإن أفضي ذلك إلى قتل

    ج/ 24 ص -270-النساء والصبيان، وتعمد ذلك يحرم، ونظائر ذلك كثيرة في الشريعة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل وصف له شحم الخنزير لمرض به‏:‏ هل يجوز له ذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    وأما التداوي بأكل شحم الخنزير، فلا يجوز‏.‏
    وأما التداوي بالتطلخ به، ثم يغسله بعد ذلك، فهذا ينبني على جواز مباشرة النجاسة في غير الصلاة‏.‏ وفيه نزاع مشهور‏.‏ والصحيح أنه يجوز للحاجة‏.‏ كما يجوز استنجاء الرجل بيده، وإزالة النجاسة بيده‏.‏
    وما أبيح للحاجة جاز التداوي به‏.‏ كما يجوز التداوي بلبس الحرير على أصح القولين، وما أبيح للضرورة كالمطاعم الخبيثة فلا يجوز التداوي بها‏.‏ كما لا يجوز التداوي بشرب الخمر، لاسيما على قول من يقول‏:‏ إنهم كانوا ينتفعون بشحوم الميتة في طلي السفن، ودهن الجلود،

    ج/ 24 ص -271-والاستصباح به، وأقرهم النبي ﷺ على ذلك‏.‏ وإنما نهاهم عن ثمنه‏.‏
    ولهذا رخص من لم يقل بطهارة جلود الميتة بالدباغ في الانتفاع بها في اليابسات، في أصح القولين‏.‏ وفي المائعات التي لا تنجسها‏.‏
    وسئل عمن يتداوي بالخمر، ولحم الخنزير وغير ذلك من المحرمات‏:‏ هل يباح للضرورة أم لا‏؟‏ وهل هذه الآية‏:‏
    ‏"وَقَدْ فصل لَكُم مَّا حَرَّمَ عليكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إليه‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏119‏]‏، في إباحة ما ذكر أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يجوز التداوي بذلك، بل قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سئل عن الخمر يتداوي بها فقال‏:‏
    ‏"‏إنها داء وليست بدواء‏"‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه نهى عن الدواء بالخبيث وقال‏:‏ ‏"‏إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها‏"‏‏.‏
    وليس ذلك بضرورة، فإنه لا يتيقن الشفاء بها، كما يتيقن الشبع باللحم المحرم، ولأن الشفاء لا يتعين له طريق، بل يحصل بأنواع

    ج/ 24 ص -272-من الأدوية، وبغير ذلك، بخلاف المخمصة، فإنها لا تزول إلا بالأكل‏.
    وسئل عن المريض إذا قالت له الأطباء‏:‏ مالك دواء غير أكل لحم الكلب، أو الخنزير‏.‏ فهل يجوز له أكله مع قوله تعالي‏:‏ ‏
    "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهمُ الْخَبَآئِثَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏، وقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها‏"‏ ‏؟‏ وإذا وصف له الخمر أو النبيذ‏:‏ هل يجوز شربه مع هذه النصوص أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يجوز التداوي بالخمر وغيرها من الخبائث، لما رواه وائل بن حجر؛ أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي ﷺ عن الخمر، فنهاه عنها، فقال‏:‏ إنما أصنعها للدواء‏.‏ فقال‏:‏
    ‏"‏إنه ليس بدواء،ولكنه داء‏"‏‏.‏رواه الإمام أحمد،ومسلم في صحيحه‏.‏وعن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الله أنزل الدواء، وأنزل الداء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام‏"‏‏.‏ رواه أبو داود، وعن أبي هريرة قال‏:‏ نهى رسول الله ﷺ عن الدواء بالخبيث‏.‏ وفي لفظ‏:‏ يعني السم‏.‏ رواه

    ج/ 24 ص -273-أحمد وابن ماجه والترمذي‏.‏
    وعن عبد الرحمن بن عثمان قال‏:‏ ذكر طبيب عند رسول اللّه ﷺ دواء، وذكر الضفدع تجعل فيه، فنهى رسول اللّه ﷺ عن قتل الضفدع‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي‏.‏ وقال عبد اللّه بن مسعود في السكر‏:‏ إن اللّه لم يجعل شفاءكم بما حرم عليكم‏.‏ ذكره البخاري في صحيحه‏.‏ وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه مرفوعا إلى النبي ﷺ، فهذه النصوص وأمثالها صريحة في النهي عن التداوي بالخبائث، مصرحة بتحريم التداوي بالخمر إذ هي أم الخبائث، وجماع كل إثم‏.‏
    والخمر اسم لكل مسكر، كما ثبت بالنصوص عن النبي ﷺ كما رواه مسلم في صحيحه، عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قلت‏:‏ يارسول اللّه، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن‏:‏ البتع، وهو من العسل، ينبذ حتى يشتد، والمزر‏:‏ وهو من الذرة والشعير، ينبذ حتى يشتد‏؟‏ وكان رسول اللّه ﷺ قد أعطي جوامع الكلم، فقال‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏‏.‏
    وكذلك في الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ سئل رسول اللّه

    ج/ 24 ص -274-ﷺ عن البتع وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه فقال‏:‏ ‏"‏كل شراب أسكر، فهو حرام‏"‏‏.‏ ورواه مسلم في صحيحه، والنسائي، وغيرهما، عن جابر؛ أن رجلا من حبشان من اليمن سأل رسول اللّه ﷺ عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له‏:‏ المزر، فقال‏:‏ أمسكر هو‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام، إن على اللّه عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال‏"‏ الحديث‏.‏ فهذه الأحاديث المستفيضة صريحة بأن كل مسكر حرام، وأنه خمر من أي شيء كان، ولا يجوز التداوي بشيء من ذلك‏.‏
    وأما قول الأطباء‏:‏ إنه لا يبرأ من هذا المرض إلا بهذا الدواء المعين، فهذا قول جاهل، لا يقوله من يعلم الطب أصلا، فضلا عمن يعرف اللّه ورسوله‏.‏ فإن الشفاء ليس في سبب معين يوجبه في العادة، كما للشبع سبب معين يوجبه في العادة، إذ من الناس من يشفيه الله بلا دواء، ومنهم من يشفيه اللّه بالأدوية الجثمانية، حلالها وحرامها، وقد يستعمل فلا يحصل الشفاء لفوات شرط، أو لوجود مانع، وهذا بخلاف الأكل، فإنه سبب للشبع‏.‏ولهذا أباح اللّه للمضطر الخبائث أن يأكلها عند الاضطرارإليها في المخمصة، فإن الجوع يزول بها، ولا يزول بغيرها، بل يموت أو يمرض من الجوع، فلما تعينت طريقاً

    ج/ 24 ص -275-إلى المقصود، أباحها اللّه، بخلاف الأدوية الخبيثة‏.‏
    بل قد قيل‏:‏ من استشفي بالأدوية الخبيثة، كان دليلا على مرض في قلبه، وذلك في إيمانه‏.‏ فإنه لو كان من أمة محمد المؤمنين، لما جعل اللّه شفاءه فيما حرم عليه، ولهذا إذا اضطرإلى الميتة ونحوها، وجب عليه الأكل في المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة، وأما التداوي، فلا يجب عند أكثر العلماء بالحلال، وتنازعوا‏:‏ هل الأفضل فعله أو تركه على طريق التوكل ‏؟‏
    ومما يبين ذلك‏:‏ أن اللّه لما حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها، لم يبح ذلك إلا لمن اضطرإليها غير باغ ولا عاد‏.‏ وفي آية أخري‏:‏ ‏
    "فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ومعلوم أن المتداوي غير مضطرإليها، فعلم أنها لم تحل له‏.‏
    وأما ما أبيح للحاجة لا لمجرد الضرورة كلباس الحرير فقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي ﷺ رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير، لحكة كانت بهما‏.‏ وهذا جائز على أصح قولي العلماء؛ لأن لبس الحرير إنما حرم عند الاستغناء عنه‏.‏ ولهذا أبيح للنساء لحاجتهن إلى التزين به، وأبيح لهن التستر به مطلقا فالحاجةإلى التداوي به كذلك، بل أولى، وهذه حرمت لما فيها من

    ج/ 24 ص -276-السرف والخيلاء والفخر، وذلك منتف إذا احتيج إليه، وكذلك لبسها للبرد، أو إذا لم يكن عنده ما يستتر به غيرها‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه‏:‏
    هل الشرع المطهر ينكر ما تفعله الشياطين الجانة من مسها وتخبيطها وجولان بوارقها على بني آدم، واعتراضها‏؟‏ فهل ذلك معالجة بالمخرقات والأحراز، والعزائم، والأقسام، والرقى، والتعوذات، والتمائم‏؟‏ وأن بعض الناس قال‏:‏ لا يحكم عليهم؛ لأن الجن يرجعون إلى الحقائق عند عامرة الأجساد بالبوار، وأن هذه الخواتم المتخذة مع كل إنسان من سرياني، وعبراني، وعجمي، وعربي، ليس لها برهان، وأنها من مختلق الأقاويل، وخرافات الأباطيل، وأنه ليس لأحد من بني آدم من القوة، ولا من القبض بحيث يفعل ما ذكرنا من متولي هذا الشأن على ممر الدهور، والأوقات ‏؟‏ فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، وجود الجن ثابت بكتاب اللّه، وسنة رسوله، واتفاق سلف الأمة، وأئمتها‏.‏ وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال اللّه تعالي‏:‏
    ‏"الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وفي

    ج/ 24 ص -277-الصحيح عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم‏"‏‏.‏ وقال عبد اللّه بن الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ قلت لأبي‏:‏ إن أقواما يقولون‏:‏ إن الجني لا يدخل في بدن المصروع، فقال‏:‏ يا بني يكذبون، هذا يتكلم على لسانه‏.‏
    وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيما‏.‏ والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله‏.‏ وقد يجر المصروع، وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها، أفادته علماً ضروريا، بأن الناطق على لسان الإنسي، والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان‏.‏
    وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعي أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك‏.‏
    وأما معالجة المصروع بالرقى والتعوذات، فهذا على وجهين‏:‏

    ج/ 24 ص -278-فإن كانت الرقى والتعاويذ مما يعرف معناها، ومما يجوز في دين الإسلام أن يتكلم بها الرجل، داعياً للّه، ذاكراً له، ومخاطباً لخلقه، ونحو ذلك فإنه يجوز أن يرقى بها المصروع، ويعوذ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ‏:‏ أنه أذن في الرقى، ما لم تكن شركا‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل‏"‏‏.‏
    وإن كان في ذلك كلمات محرمة مثل أن يكون فيها شرك، أو كانت مجهولة المعنى، يحتمل أن يكون فيها كفر، فليس لأحد أن يرقى بها ولا يعزم، ولا يقسم‏.‏ وإن كان الجني قد ينصرف عن المصروع بها، فإن ما حرمه اللّه ورسوله ضرره أكثر من نفعه، كالسيما وغيرها من أنواع السحر‏.‏ فإن الساحر السيماوي وإن كان ينال بذلك بعض أغراضه، كما ينال السارق بالسرقة بعض أغراضه، وكما ينال الكاذب بكذبه وبالخيانة بعض أغراضه، وكما ينال المشرك بشركه وكفره بعض أغراضه، وهؤلاء وإن نالوا بعض أغراضهم بهذه المحرمات، فإنها تعقبهم من الضرر عليهم في الدنيا والآخرة أعظم مما حصلوه من أغراضهم‏.‏
    فإن اللّه بعث الرسل بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فكل ما أمر اللّه به ورسوله، فمصلحته راجحة على مفسدته، ومنفعته راجحة على المضرة‏.‏ وإن كرهته النفوس‏.‏ كما قال تعالي‏:‏
    ‏"كُتِبَ عليكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏216‏]

    ج/ 24 ص -279-فأمر بالجهاد وهو مكروه للنفوس، لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من ألمه، بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية، فإن مصلحة حصول العافية له راجحة على ألم شرب الدواء‏.‏ وكذلك التاجر الذي يتغرب عن وطنه، ويسهر، ويخاف، ويتحمل هذه المكروهات، مصلحة الربح الذي يحصل له راجحة على هذه المكاره‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات‏"‏‏.‏وقد قال تعالي في حق الساحر‏:‏ ‏"وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ‏"‏إلى قوله‏:‏ ‏"وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏ فبين سبحانه أن هؤلاء يعلمون أن الساحر ما له في الآخرة من نصيب‏.‏ وإنما يطلبون بذلك بعض أغراضهم في الدنيا‏.‏ ‏"وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ آمنوا واتقوا بفعل ما أمر اللّه به، وترك ما نهى اللّه عنه، لكان ما يأتيهم به على ذلك في الدنيا والآخرة خير لهم مما يحصل لهم بالسحر‏.‏ قال اللّه تعالي‏:‏ ‏"إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏"‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏، وقال‏:‏ ‏"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏"‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً‏"‏

    ج/ 24 ص -280-الآيتين ‏[‏النحل‏:‏ 41، 42‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201،202‏]‏‏.‏
    والأحاديث فيما يثيب اللّه عبده المؤمن على الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة كثيرة جداً، وليس للعبد أن يدفع كل ضرر بما شاء، ولا يجلب كل نفع بما شاء، بل لا يجلب النفع إلا بما فيه تقوي اللّه، ولا يدفع الضرر إلا بما فيه تقوي اللّه، فإن كان ما يفعله من العزائم والأقسام والدعاء والخلوة والسهر ونحو ذلك مما أباحه اللّه ورسوله فلا بأس به، وإن كان مما نهى اللّه عنه ورسوله لم يفعله‏.‏
    فمن كذب بما هو موجود من الجن والشياطين والسحر، وما يأتون به على اختلاف أنواعه؛ كدعاء الكواكب، وتخريج القوي الفعالة السماوية بالقوي المنفعلة الأرضية، وما ينزل من الشياطين على كل أفاك أثيم، فالشياطين التي تنزل عليهم، ويسمونها روحانية الكواكب وأنكروا دخول الجن في أبدان الإنس، وحضورها بما يستحضرون به من العزائم والأقسام، وأمثال ذلك، كما هو موجود، فقد كذب بما لم يحط به علماً‏.‏
    ومن جوز أن يفعل الإنسان بما رآه مؤثراً من هذه الأمور من غير أن يزن ذلك بشريعة الإسلام، فيفعل ما أباحه اللّه، ويترك

    ج/ 24 ص -281-ما حرم اللّه، وقد دخل فيما حرمه اللّه ورسوله، إما من الكفر، وإما من الفسوق، وإما العصيان، بل على كل أحد أن يفعل ما أمر اللّه به ورسوله، ويترك ما نهى اللّه عنه ورسوله‏.‏
    ومما شرعه النبي ﷺ من التعوذ‏.‏ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، لم يزل عليه من اللّه حافظ، ولم يقربه شيطان حتى يصبح‏"‏‏.‏ وفي السنن‏:‏ أنه كان يعلم أصحابه أن يقول أحدهم‏:‏ ‏"‏أعوذ بكلمات اللّه التامات من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون‏"‏‏.‏ ولما جاءته الشياطين بلهب من نار، أمر بهذا التعوذ‏:‏ ‏"‏أعوذ بكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق، وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن‏"‏‏.‏ فقد جمع العلماء من الأذكار والدعوات التي يقولها العبد إذا أصبح، وإذا أمسي، وإذا نام، وإذا خاف شيئاً، وأمثال ذلك من الأسباب ما فيه بلاغ‏.‏ فمن سلك مثل هذه السبيل، فقد سلك سبيل أولىاء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن دخل في سبيل أهل الجبت والطاغوت الداخلة في الشرك والسحر فقد خسر الدنيا والآخرة،وبذلك

    ج/ 24 ص -282-ذم اللّه من ذمه من مبدلة أهل الكتاب‏.‏ حيث قال‏:‏ ‏"وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى‏"‏إلى قوله‏:‏ ‏"وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏101،102‏]‏‏.‏ والله سبحانه وتعالي أعلم‏.‏
    وقَال أيضاً رحمه اللّه في موضع آخر‏:‏
    فصل
    وأما كونه لم يتبين له كيفية الجن ومقالتهم بعدم علمه، لم ينكر وجودهم إذ وجودهم ثابت بطرق كثيرة، غير دلالة الكتاب والسنة‏.‏ فإن من الناس من رآهم وفيهم من رأي من رآهم، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين‏.‏ ومن الناس من كلمهم وكلموه‏.‏ ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم‏.‏ وهذا يكون لصالحين، وغير صالحين‏.‏
    ولو ذكرت ما جري لي، ولأصحابي معهم،لطال الخطاب‏.‏ وكذلك

    ج/ 24 ص -283-ما جري لغيرنا، لكن الاعتماد في الأجوبة العلمية على ما يشترك الناس في علمه، لا يكون لما يختص بعلمه المجيب، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به‏.‏
    وسئل عمن يقول‏:‏ يا أزران‏:‏ ياكيان ‏!‏ هل صح أن هذه أسماء وردت بها السنة، لم يحرم قولها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، لم ينقل هذه عن الصحابة أحد، لا بإسناد صحيح، ولا بإسناد ضعيف، ولا سلف الأمة، ولا أئمتها‏.‏ وهذه الألفاظ لا معنى لها في كلام العرب؛ فكل اسم مجهول ليس لأحد أن يرقى به، فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناها وأنه صحيح، لكره أن يدعو اللّه بغير الأسماء العربية‏.‏
    وسئل عمن أصيب بمرض، فإذا اشتد عليه الوجع، استغاث باللّه تعالي ويبكى‏.‏ فهل تكون استغاثته مما ينافي الصبر المأمور به أو هو

    ج/ 24 ص -284-تضرع والتجاء ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    دعاء اللّه، واستغاثته به، واشتكاؤهإليه، لا ينافي الصبر المأمور به‏.‏ وإنما ينافيه في ذلك الاشتكاء إلى المخلوق‏.‏ ولقد قال يعقوب عليه السلام ‏:‏ ‏
    "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 18‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏
    وقد روي عن طاووس‏:‏أنه كره أنين المريض‏.‏ وقال‏:‏ إنه شكوي، وقرئ ذلك على أحمد بن حنبل في مرض موته، فما أنَّ حتى مات‏.‏ ويروي عن السري السقطي أنه جعل قول المريض‏:‏ آه ‏!‏ من ذكر اللّه، وهذا إذا كان بينه وبين اللّه‏.‏ وهذا كما يروي عن عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قرأ في صلاة الفجر‏:‏ ‏
    "إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ‏"‏‏.‏ ثم بكى، حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، فالأنين والبكاء من خشية اللّه،والتضرع والشكاية إلى اللّه عز وجل حسن، وأما المكروه فيكره‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل مبتلي سكن في دار بين قوم أصحاء، فقال بعضهم‏:‏ لا يمكننا مجاورتك، ولا ينبغي أن تجاور الأصحاء، فهل يجوز إخراجه‏؟‏

    ج/ 24 ص -285-فأجاب‏:‏
    نعم لهم أن يمنعوه من السكن بين الأصحاء، فإن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏لا يورد ممرض على مصح‏"‏ فنهى صاحب الإبل المراض أن يوردها على صاحب الإبل الصحاح، مع قوله‏:‏ ‏"‏لا عدوي ولا طيرة‏"‏‏.‏ وكذلك روي أنه لما قدم مجذوم ليبايعه، أرسلإليه بالبيعة، ولم يأذن له في دخول المدينة‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلي، هل لأحد فيها أجر أم لا ‏؟‏ وهل عليه إثم إذا تركها، مع علمه أنه كان لا يصلي‏؟‏ وكذلك الذي يشرب الخمر، وما كان يصلي، هل يجوز لمن كان يعلم حاله أن يصلي عليه أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما من كان مظهراً للإسلام، فإنه تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة‏:‏ من المناكحة، والموارثة، وتغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك؛ لكن من علم منه النفاق والزندقة، فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه‏.‏ وإن كان مظهراً للإسلام فإن اللّه نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين‏.‏ فقال‏:‏‏
    "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏،

    ج/ 24 ص -286-وقال‏:‏ ‏"سَوَاء عليهمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏"‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]
    وأما من كان مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، فهؤلاء لابد أن يصلي عليهم بعض المسلمين‏.‏ ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل ما فعله كما امتنع النبي ﷺ عن الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له‏.‏ وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع كان عمله بهذه السنة حسناً‏.‏ وقد قال لجندب بن عبد اللّه البجلي ابنه ‏:‏ إني لم أنم البارحة بشما، فقال‏:‏ أما إنك لو مت لم أصل عليك‏.‏ كأنه يقول‏:‏ قتلت نفسك بكثرة الأكل‏.‏ وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا، فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة، كان ذلك حسناً، ومن صلي على أحدهم يرجو له رحمة اللّه ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة كان ذلك حسناً‏.‏ ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين، كان تحصيل المصلحتين أولى من تفويت إحداهما‏.‏
    وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به، كما قال تعالي‏:‏
    ‏"وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏"‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وكل من أظهر الكبائر، فإنه تسوغ عقوبته بالهجر

    ج/ 24 ص -287-وغيره، حتى ممن في هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإمكان‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل يصلي وقتاً، ويترك الصلاة كثيراً، أو لا يصلي، هل يصلي عليه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    مثل هذا ما زال المسلمون يصلون عليه، بل المنافقون الذين يكتمون النقاق يصلي المسلمون عليهم، ويغسلون، وتجري عليهم أحكام الإسلام‏.‏ كما كان المنافقون على عهد رسول اللّه ﷺ‏.‏
    وإن كان من علم نفاق شخص لم يجز له أن يصلي عليه، كما نهى النبي ﷺ عن الصلاة على من علم نفاقه‏.‏
    وأما من شك في حاله فتجوز الصلاة عليه، إذا كان ظاهر الإسلام‏.‏ كما صلي النبي ﷺ على من لم ينه عنه، وكان فيهم من لم يعلم نفاقه، كما قال تعالي‏:‏
    ‏"وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏‏.‏ ومثل هؤلاء لا يجوز النهي

    ج/ 24 ص -288-عنه، ولكن صلاة النبي ﷺ والمؤمنين على المنافق لا تنفعه‏.‏ كما قال النبي ﷺ لما ألبس ابن أبي قميصه ‏:‏ ‏"‏وما يغني عنه قميصي من اللّه‏"‏‏.‏ وقال تعالي‏:‏ ‏"سَوَاء عليهمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏"‏ ‏[‏المنافقون‏:‏6‏]
    وتارك الصلاة أحياناً، وأمثاله من المتظاهرين بالفسق‏.‏ فأهل العلم والدين إذا كان في هجر هذا، وترك الصلاة عليه منفعة للمسلمين بحيث يكون ذلك باعثا لهم على المحافظة على الصلاة عليه هجروه ولم يصلوا عليه، كما ترك النبي ﷺ الصلاة على قاتل نفسه والغال، والمدين الذي لا وفاء له، وهذا شر منهم‏.‏
    وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ اللّه‏:‏
    فصل
    قد ثبت عن النبي ﷺ أنه امتنع عن الصلاة على من عليه دين حتى يخلف وفاء، قبل أن يتمكن من وفاء الدين عنه، فلما تمكن صار هو يوفيه من عنده، فصار المدين يخلف وفاء‏.‏

    ج/ 24 ص -289-هذا، مع قوله فيما رواه أبو موسى عنه‏:‏ ‏"‏إن أعظم الذنوب عند اللّه أن يلقاه عبد بها، بعد الكبائر التي نهى عنها، أن يموت الرجل وعليه دين لا يدع قضاء‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏ فثبت بهذا أن ترك الدين بعد الكبائر‏.‏
    فإذا كان قد ترك الصلاة على المدين الذي لا قضاء له، فعلى فاعل الكبائر أولى، ويدخل في ذلك قاتل نفسه، والغال، لما لم يصل عليهما، ويستدل بذلك على أنه يجوز لذوي الفضل ترك الصلاة على ذوي الكبائر الظاهرة، والدعاةإلى البدع، وإن كانت الصلاة عليهم جائزة في الجملة‏.‏
    فأما قوله‏:‏ ‏
    "‏الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين‏"‏ فأراد به أن صاحبه يوفاه‏.‏
    وسئل عن رجل له مملوك هرب، ثم رجع، فلما رجع أخذ سكينته وقتل نفسه، فهل يأثم سيده ‏؟‏ وهل تجوز عليه الصلاة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، لم يكن له أن يقتل نفسه‏.‏ وإن كان سيده قد ظلمه، واعتدي عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه رفع الظلم عن نفسه

    ج/ 24 ص -290-أن يصبر إلى أن يفرج اللّه‏.‏
    فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك، مثل أن يقتر عليه في النفقة، أو يعتدي عليه في الاستعمال، أو يضربه بغير حق، أو يريد به فاحشة ونحو ذلك، فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسبإليه من المعصية‏.‏
    ولم يصل النبي ﷺ على من قتل نفسه‏.‏ فقال لأصحابه‏:‏ ‏"‏صلوا عليه‏"‏‏.‏ فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه‏.‏ وأما أئمة الدين الذين يقتدي بهم‏.‏ فإذا تركوا الصلاة عليه زجرا لغيره، اقتداء بالنبي ﷺ فهذا حق‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل يدعي المشيخة‏:‏ فرأى ثعبانا، فقام بعض من حضر ليقتله، فمنعه عنه، وأمسكه بيده، على معنى الكرامة له، فلدغه الثعبان فمات‏.‏ فهل تجوز الصلاة عليه أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، ينبغي لأهل العلم والدين أن يتركوا الصلاة على هذا، ونحوه، وإن كان يصلي عليه عموم الناس‏.‏ كما امتنع النبي ﷺ من الصلاة على قاتل نفسه، وعلى

    ج/ 24 ص -291-الغال من الغنيمة، وقال‏:‏ ‏"‏صلوا على صاحبكم‏"‏‏.‏ وقالوا لسمرة بن جندب‏:‏ إن ابنك البارحة لم يبت، فقال‏:‏ بشما‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أما إنه لو مات لم أصل عليه‏.‏ فبين سمرة أنه لو مات بشما لم يصل عليه؛ لأنه يكون قاتلا لنفسه بكثرة الأكل‏.‏
    فهذا الذي منع من قتل الحية، وأمسكها بيده حتى قتلته، أولى أن يترك أهل العلم والدين الصلاة عليه؛ لأنه قاتل نفسه، بل لو فعل هذا غيره به، لوجب القود عليه‏.‏
    وإن قيل‏:‏ إنه ظن أنها لا تقتل، فهذا شبيه عمله بمنزلة الذي أكل حتى بشم، فإنه لم يقصد قتل نفسه، فمن جني جناية لا تقتل غالباً، كان شبه عمد، وإمساك الحيات من نوع الجنايات‏.‏ فإنه فعل غير مباح‏.‏ وهذا لم يقصد بهذا الفعل إلا إظهار خارق العادة، ولم يكن معه ما يمنع انخراق العادة‏.‏
    كيف وغالب هؤلاء كذابون ملبسون خارجون عن أمر اللّه تعالي ونهيه، يخرجون الناس عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، ويفسدون عقل الناس ودينهم ودنياهم، فيجعلون العاقل مولها كالمجنون، أو متولها بمنزلة الشيطان المفتون، ويخرجون الإنسان عن الشريعة التي بعث اللّه بها رسوله ﷺ إلى بدع مضادة لها، فيفتلون الشعور

    ج/ 24 ص -292-ويكشفون الرؤوس، بدلاً عن سنة رسول اللّه ﷺ من ترجيل الشعر، وتغطية الرأس ويجتمعون على المكاء والتصدية، بدلا عن سنة اللّه ورسوله من الاجتماع على الصلوات الخمس، وغيرها من العبادات، ويصلون صلاة ناقصة الأركان والواجبات، ويجتمعون على بدعهم المنكرة على أتم الحالات، ويصنعون اللاذن، وماء الورد، والزعفران، لإمساك الحيات، ودخول النار بأنواع من الحيل الطبيعية، والأحوال الشيطانية بدلا عما جعله اللّه لأوليائه المتقين من الطرق الشرعية والأحوال الرحمانية، ويفسدون من يفسدونه من النساء والصبيان بدلا عما أمر اللّه به من العفة وغض البصر، وحفظ الفرج، وكف اللسان‏.‏
    ومن كان مبتدعا ظاهر البدعة، وجب الإنكار عليه‏.‏ ومن الإنكار المشروع أن يهجر حتى يتوب، ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته، ويدعوإليه‏.‏ وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 24 ص -293-وسئل عن رجل ركب البحر للتجارة‏:‏ فغرق، فهل مات شهيداً‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم، مات شهيداً، إذا لم يكن عاصياً بركوبه، فإنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏الغريق شهيد، والمبطون شهيد، والحريق شهيد، والميت بالطاعون شهيد، والمرأة تموت في نفاسها شهيدة، وصاحب الهدم شهيد‏"‏‏.‏ وجاء ذكر غير هؤلاء‏.‏
    وركوب البحر للتجارة جائز إذا غلب على الظن السلامة‏.‏ وأما بدون ذلك، فليس له أن يركبه للتجارة، فإن فعل، فقد أعان على قتل نفسه، ومثل هذا لا يقال‏:‏ إنه شهيد‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل عن رفع الصوت في الجنازة‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة، لا بقراءة،

    ج/ 24 ص -294-ولا ذكر، ولا غير ذلك‏.‏ هذا مذهب الأئمة الأربعة، وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين، ولا أعلم فيه مخالفاً‏.‏ بل قد روي عن النبي ﷺ‏:‏ أنه نهى أن يتبع بصوت، أو نار‏.‏ رواه أبو داود‏.‏ وسمع عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما رجلا يقول في جنازة‏:‏ استغفروا لأخيكم‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ لا غفر اللّه بعد‏.‏ وقال قيس بن عباد وهو من أكابر التابعين من أصحاب على بن أبي طالب رضي اللّه عنه ‏:‏ كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال‏.‏
    وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة المفضلة‏.‏
    وأما قول السائل‏:‏ إن هذا قد صار إجماعا من الناس فليس كذلك، بل مازال في المسلمين من يكره ذلك، وما زالت جنائز كثيرة تخرج بغير هذا في عدة أمصار من أمصار المسلمين‏.‏
    وأما كون أهل بلد، أو بلدين، أو عشر تعودوا ذلك، فليس هذا بإجماع، بل أهل مدينة النبي ﷺ التي نزل فيها القرآن والسنة، وهي دار الهجرة، والنصرة، والإيمان، والعلم، لم يكونوا يفعلوا ذلك، بل لو اتفقوا في مثل زمن مالك وشيوخه على شيء، ولم ينقلوه عن النبي

    ج/ 24 ص -295-ﷺ، أو خلفائه، لم يكن إجماعهم حجة عند جمهور المسلمين، وبعد زمن مالك وأصحابه ليس إجماعهم حجة، باتفاق المسلمين فكيف بغيرهم من أهل الأمصار‏.‏
    وأما قول القائل‏:‏ إن هذا يشبه بجنائزإليهود والنصاري، فليس كذلك، بل أهل الكتاب عادتهم رفع الأصوات مع الجنائز، وقد شرط عليهم في شروط أهل الذمة ألا يفعلوا ذلك، ثم إنما نهينا عن التشبه بهم فيما ليس هو من طريق سلفنا الأول، وأما إذا اتبعنا طريق سلفنا الأول، كنا مصيبين، وإن شاركنا في بعض ذلك من شاركنا، كما إنهم يشاركوننا في الدفن في الأرض، وفي غير ذلك‏.‏
    وسئل رحمه اللّه عن امرأة نصرانية، بعلها مسلم‏:‏ توفيت وفي بطنها جنين له سبعة أشهر‏.‏ فهل تدفن مع المسلمين‏؟‏ أو مع النصاري‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا تدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر النصاري، لأنه اجتمع مسلم وكافر، فلا يدفن الكافر مع المسلمين، ولا المسلم مع الكافرين، بل تدفن منفردة، ويجعل ظهرها إلى القبلة؛ لأن

    ج/ 24 ص -296-وجه الطفل إلى ظهرها، فإذا دفنت كذلك كان وجه الصبي المسلم مستقبل القبلة، والطفل يكون مسلما بإسلام أبيه، وإن كانت أمه كافرة باتفاق العلماء‏.‏
    وسئل رحمه اللّه مفتي الأنام، بقية السلف الكرام، تقي الدين بقية المجتهدين، أثابه اللّه، وأحسنإليه عن تلقين الميت في قبره بعد الفراغ من دفنه، هل صح فيه حديث عن النبي ﷺ، أو عن صحابته‏؟‏ وهل إذا لم يكن فيه شيء يجوز فعله أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذا التلقين المذكور قد نقل عن طائفة من الصحابة‏:‏أنهم أمروا به، كأبي أمامة الباهلي، وغيره‏.‏ وروي فيه حديث عن النبي ﷺ، لكنه مما لا يحكم بصحته، ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك، فلهذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء‏:‏ إن هذا التلقين لا بأس به، فرخصوا فيه، ولم يأمروا به‏.‏ واستحبه طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد، وكرهه طائفة من العلماء من أصحاب مالك، وغيرهم‏.‏

    ج/ 24 ص -297-والذي في السنن عن النبي ﷺ‏:‏ أنه كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دفن، ويقول‏:‏ ‏"‏سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل‏"‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏لقنوا أمواتكم لا إله إلا اللّه‏"‏‏.‏ فتلقين المحتضر سنة، مأمور بها‏.‏
    وقد ثبت أن المقبور يسأل، ويمتحن، وأنه يؤمر بالدعاء له‏.‏ فلهذا قيل‏:‏ إن التلقين ينفعه، فإن الميت يسمع النداء‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏إنه ليسمع قرع نعالهم‏"‏، وأنه قال‏:‏ ‏"‏ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏"‏، وأنه أمرنا بالسلام على الموتي‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه روحه حتى يرد عليه السلام‏"‏‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل رحمه اللّّه‏:‏
    هل يجب تلقين الميت بعد دفنه أم لا ‏؟‏ وهل القراءة تصل إلى الميت‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    تلقينه بعد موته ليس واجباً بالإجماع‏.‏ ولا كان من

    ج/ 24 ص -298-عمل المسلمين المشهور بينهم على عهد النبي ﷺ وخلفائه‏.‏ بل ذلك مأثور عن طائفة من الصحابة، كأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع‏.‏
    فمن الأئمة من رخص فيه كالإمام أحمد‏.‏ وقد استحبه طائفة من أصحابه، وأصحاب الشافعي‏.‏ ومن العلماء من يكرهه لاعتقاده أنه بدعة‏.‏ فالأقوال فيه ثلاثة‏:‏ الاستحباب، والكراهة، والإباحة، وهذا أعدل الأقوال‏.‏
    فأما المستحب الذي أمر به وحض عليه النبي ﷺ فهو الدعاء للميت‏.‏
    وأما القراءة على القبر، فكرهها أبو حنفية، ومالك، وأحمد في إحدي الروايتين‏.‏ ولم يكن يكرهها في الأخري‏.‏ وإنما رخص فيها لأنه بلغه أن ابن عمر أوصي أن يقرأ عند قبره بفواتح البقرة، وخواتيمها‏.‏وروي عن بعض الصحابة قراءة سورة البقرة‏.‏ فالقراءة عند الدفن مأثورة في الجملة، وأما بعد ذلك فلم ينقل فيه أثر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 24 ص -299-وسئل‏:‏ هل يشرع تلقين الميت الكبير والصغير أو لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    وأما تلقين الميت، فقد ذكره طائفة من الخراسانيين من أصحاب الشافعي، واستحسنوه أيضاً ذكره المتولي والرافعي، وغيرهما‏.‏ وأما الشافعي نفسه، فلم ينقل عنه فيه شيء‏.‏
    ومن الصحابة من كان يفعله كأبي أمامة الباهلي، وواثلة بن الأسقع وغيرهما من الصحابة‏.‏
    ومن أصحاب أحمد من استحبه‏.‏ والتحقيق أنه جائز، وليس بسنة راتبة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل عن الختمة التي تعمل على الميت، والمقرئين بالأجرة‏.‏ هل قراءتهم تصل إلى الميت‏؟‏ وطعام الختمة يصل إلى الميت أم لا ‏؟‏ وإن كان

    ج/ 24 ص -300-ولد الميت يداين لأجل الصدقة إلى الميسور‏:‏ تصل إلى الميت ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    استئجار الناس ليقرؤوا، ويهدوه إلى الميت، ليس بمشروع، ولا استحبه أحد من العلماء، فإن القرآن الذي يصل ما قرئ للّه‏.‏ فإذا كان قد استؤجر للقراءة للّه، والمستأجر لم يتصدق عن الميت، بل استأجر من يقرأ عبادة للّه عز وجل لم يصل إليه‏.‏
    لكن إذا تصدق عن الميت على من يقرأ القرآن، أو غيرهم، ينفعه ذلك باتفاق المسلمين‏.‏ وكذلك من قرأ القرآن محتسباً، وأهداه إلى الميت، نفعه ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.
    وسئل عن جعل المصحف عند القبر، ووقيد قنديل في موضع يكون من غير أن يقرأ فيه، مكروه أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    وأما جعل المصحف عند القبور،وإيقاد القناديل هناك، فهذا مكروه منهي عنه، ولو كان قد جعل للقراءة فيه هنالك، فكيف إذا لم يقرأ فيه‏؟‏ فإن النبي ﷺ قال‏
    :‏ ‏"‏لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج‏"‏‏.‏ فإيقاد السرج من قنديل

    ج/ 24 ص -301-وغيره على القبور منهي عنه، مطلقاً؛ لأنه أحد الفعلين اللذين لعن رسول اللّه ﷺ من يفعلهما‏.‏
    كما قال‏:
    ‏ ‏"‏لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كاشفين عن عوراتهما يتحدثان، فإن اللّه يمقت على ذلك‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ ومعلوم أنه ينهي عن كشف العورة وحده، وعن التحدث وحده، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا‏"‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68، 69‏]‏‏.‏ فتوعد على مجموع أفعال، وكل فعل منها محرم‏.‏
    وذلك لأن ترتيب الذم على المجموع، يقتضي أن كل واحد له تأثير في الذم، ولو كان بعضها مباحا، لم يكن له تأثير في الذم‏.‏ والحرام لا يتوكد بانضمام المباح المخصص إليه‏.‏
    والأئمة قد تنازعوا في القراءة عند القبر‏:‏ فكرهها أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في أكثر الروايات، ورخص فيها في الرواية الأخري عنه‏:‏ هو وطائفة من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم‏.‏
    وأما جعل المصاحف عند القبور لمن يقصد قراءة القرآن هناك،

    ج/ 24 ص -302-وتلاوته، فبدعة منكرة، لم يفعلها أحد من السلف‏.‏ بل هي تدخل في معني اتخاذ المساجد على القبور‏.‏ وقد استفاضت السنن عن النبي ﷺ في النهي عن ذلك، حتى قال‏:‏ ‏"‏لعن اللّه إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏ يحذر ما صنعوا قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك، لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏ ولا نزاع بين السلف والأئمة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد‏.‏
    ومعلوم أن المساجد بنيت للصلاة والذكر، وقراءة القرآن، فإذا اتخذ القبر لبعض ذلك، كان داخلا في النهي، فإذا كان هذا مع كونهم يقرؤون فيها، فكيف إذا جعلت المصاحف بحيث لا يقرأ فيها، ولا ينتفع بها لا حي ولا ميت‏؟‏ فإن هذا لا نزاع في النهي عنه‏.‏
    ولو كان الميت ينتفع بمثل ذلك لفعله السلف، فإنهم كانوا أعلم بما يحبه اللّه ويرضاه، وأسرع إلى فعل ذلك، وتحريه‏.‏

    ج/ 24 ص -303-وسئل عن الميت هل يجوز نقله، أم لا ‏؟‏ وأرواح الموتي هل تجتمع بعضها ببعض، أم لا‏؟‏ وروح الميت هل تنزل في القبر، أم لا ‏؟‏ ويعرف الميت من يزوره، أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، لا ينبش الميت من قبره، إلا لحاجة‏.‏ مثل أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت، فينقل إلى غيره، كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك‏.‏
    وأرواح الأحياء إذا قبضت، تجتمع بأرواح الموتي، ويسأل الموتي القادم عليهم عن حال الأحياء فيقولون‏:‏ ما فعل فلان‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان تزوج‏.‏ فلان على حال حسنة‏.‏ ويقولون‏:‏ ما فعل فلان ‏؟‏ فيقول‏:‏ ألم يأتكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏ذُهب به إلى أمه الهاوية‏.‏
    وأما أرواح الموتي فتجتمع، الأعلى ينزل إلى الأدنى، والأدنى لا يصعد إلى الأعلى‏.‏ والروح تشرف على القبر، وتعاد إلى اللحد أحياناً‏.‏ كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏ما من رجل يمر بقبر الرجل

    ج/ 24 ص -304-كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد اللّه عليه روحه، حتى يرد عليه السلام‏"‏‏.‏
    والميت قد يعرف من يزوره، ولهذا كانت السنة أن يقال‏:‏
    السلام عليكم، أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون‏.‏ ويرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم‏.‏ والمستأخرين‏"‏‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن قوم لهم تربة‏:‏ وهي في مكان منقطع، وقتل فيها قتيل، وقد بنوا لهم تربة أخري، هل يجوز نقل موتاهم إلى التربة المستجدة أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا ينبش الميت لأجل ما ذكر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل عما يقوله بعض الناس‏:‏ إن للّه ملائكة ينقلون من مقابر المسلمين إلى مقابر إليهود والنصاري، وينقلون من مقابر إليهود والنصاري إلى مقابر المسلمين‏.‏ ومقصودهم أن من ختم له بشر في علم اللّه، وقد مات في الظاهر مسلما، أو كان

    ج/ 24 ص -305-كتابياً وختم له بخير، فمات مسلما في علم اللّه، وفي الظاهر مات كافراً فهؤلاء ينقلون‏.‏ فهل ورد في ذلك خبر أم لا ‏؟‏ وهل لذلك حجة أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، أما الأجساد، فإنها لا تنقل من القبور، لكن نعلم أن بعض من يكون ظاهره الإسلام، ويكون منافقاً، إما يهودياً، أو نصرانياً، أو مرتداً معطلا‏.‏ فمن كان كذلك، فإنه يكون يوم القيامة مع نظرائه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏
    ‏"احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏‏.‏ أي أشباههم، ونظراءهم‏.‏
    وقد يكون في بعض من مات وظاهره كافراً أن يكون آمن باللّه، قبل أن يغرغر، ولم يكن عنده مؤمن، وكتم أهله ذلك، إما لأجل ميراث، أو لغير ذلك، فيكون مع المؤمنين، وإن كان مقبوراً مع الكفار‏.‏
    وأما الأثر في نقل الملائكة، فما سمعت في ذلك أثراً‏.‏

    ج/ 24 ص -306-وسئل رَحمه اللّه تعالى عن قوله تعالى‏:‏ ‏"وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏ وقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له‏"‏‏.‏ فهل يقتضي ذلك إذا مات لا يصل إليه شيء من أفعال البر‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، ليس في الآية، ولا في الحديث أن الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له، وبما يعمل عنه من البر، بل أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع‏.‏
    قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ‏"‏[‏غافر‏:‏79‏]‏‏.‏

    ج/ 24 ص -307-فقد أخبر سبحانه أن الملائكة يدعون للمؤمنين بالمغفرة، ووقاية العذاب، ودخول الجنة ودعاء الملائكة ليس عملا للعبد‏.‏
    وقال تعالى‏:‏ ‏
    "وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏"‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقال الخليل عليه السلام ‏:‏ ‏"رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏"‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقال نوح عليه السلام ‏:‏ ‏"رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏"‏ ‏[‏نوح‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فقد ذكر استغفار الرسل للمؤمنين، أمراً بذلك، وإخباراً عنهم بذلك‏.‏
    ومن السنن المتواترة التي من جحدها كفر‏:‏ صلاة المسلمين على الميت، ودعاؤهم له في الصلاة‏.‏ وكذلك شفاعة النبي ﷺ يوم القيامة، فإن السنن فيها متواترة، بل لم ينكر شفاعته لأهل الكبائر إلا أهل البدع، بل قد ثبت أنه يشفع لأهل الكبائر، وشفاعته دعاؤه، وسؤاله اللّه تبارك وتعالى‏.‏ فهذا وأمثاله من القرآن، والسنن المتواترة، وجاحد مثل ذلك كافر بعد قيام الحجة عليه‏.‏
    والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، مثل ما في الصحاح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ‏:‏ أن رجلا قال للنبي ﷺ‏:‏ إن أمي توفيت، أفينفعها أن أتصدق عنها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏
    قال‏:‏ إن لي مخرفا أي بستاناً أشهدكم أني تصدقت به عنها‏.‏

    ج/ 24 ص -308-وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها ‏:‏ أن رجلا قال للنبي ﷺ‏:‏ إن أمي افتلتت نفسها، ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه‏:‏ أن رجلا قال للنبي ﷺ‏:‏ إن أبي مات ولم يوص، أينفعه إن تصدقت عنه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏
    وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص‏:‏ إن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين، وأن عمراً سأل النبي ﷺ عن ذلك، فقال‏:‏
    ‏"‏أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت عنه، أو تصدقت عنه، نفعه ذلك‏"‏‏.‏
    وفي سنن الدارقطني‏:‏ أن رجلا سأل النبي ﷺ فقال‏:‏ يارسول اللّه، إن لي أبوان، وكنت أبرهما حال حياتهما‏.‏ فكيف بالبر بعد موتهما‏؟‏ فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن من بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق لهما مع صدقتك‏"‏‏.‏
    وقد ذكر مسلم في أول كتابه عن أبي إسحاق الطالقاني، قال‏:‏ قلت لعبد الله بن المبارك‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، الحديث الذي جاء‏:‏ ‏"‏إن

    ج/ 24 ص -309-البر بعد البر، أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك‏؟‏‏"‏ قال عبد الله‏:‏ يا أبا إسحاق، عمن هذا‏؟‏ قلت له‏:‏ هذا من حديث شهاب بن حراس، قال‏:‏ ثقة‏.‏ قلت‏:‏ عمن‏؟‏ قال عن الحجاج بن دينار‏.‏ فقال‏:‏ ثقة‏.‏ عمن‏؟‏ قلت‏:‏ عن رسول الله ﷺ قال‏:‏ يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج وبين رسول الله ﷺ مفاوز تقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة اختلاف‏.‏ والأمر كما ذكره عبد الله ابن المبارك‏.‏ فإن هذا الحديث مرسل‏.‏
    والأئمة اتفقوا على أن الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العبادات المالية، كالعتق‏.‏
    وإنما تنازعوا في العبادات البدنية، كالصلاة، والصيام، والقراءة، ومع هذا ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏من مات وعليه صيام، صام عنه وليه‏"‏، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه ‏:‏ أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول الله، إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أرأيت إن كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏فصومي عن أمك‏"‏‏.‏

    ج/ 24 ص -310-وفي الصحيح عنه‏:‏ أن امرأة جاءت إلى رسول الله ﷺ فقالت‏:‏ إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال‏:‏ أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏قال‏:‏ ‏"‏فحق الله أحق‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن بريدة بن حصيب عن أبيه‏:‏ أن امرأة أتت رسول الله ﷺ فقالت‏:‏ إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفيجزي عنها أن أصوم عنها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏
    فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أنه يصام عن الميت ما نذر، وأنه شبه ذلك بقضاء الدين‏.‏
    والأئمة تنازعوا في ذلك، ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته، وإنما خالفها من لم تبلغه، وقد تقدم حديث عمرو بأنهم إذا صاموا عن المسلم نفعه‏.‏ وأما الحج فيجزي عند عامتهم، ليس فيه إلا اختلاف شاذ‏.‏
    وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏:‏ أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت‏:‏ إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها‏؟‏ فقال‏:‏
    ‏"‏حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته عنها‏؟‏ اقضوا الله، فالله أحق

    ج/ 24 ص -311-بالوفاء‏"‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ إن أختي نذرت أن تحج‏.‏ وفي صحيح مسلم عن بريدة‏:‏ أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول الله، إن أمي ماتت، ولم تحج، أفيجزي أو يقضي أن أحج عنها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏
    ففي هذه الأحاديث الصحيحة‏:‏ أنه أمر بحج الفرض عن الميت وبحج النذر‏.‏ كما أمر بالصيام‏.‏ وأن المأمور تارة يكون ولدًا، وتارة يكون أخا، وشبه النبي ﷺ ذلك بالدين، يكون على الميت‏.‏ والدين يصح قضاؤه من كل أحد، فدل على أنه يجوز أن يفعل ذلك من كل أحد، لا يختص ذلك بالولد‏.‏ كما جاء مصرحًا به في الأخ‏.‏
    فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم مفصل مبين‏.‏ فعلم أن ذلك لا ينافي قوله‏:‏
    ‏"وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏"‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏، ‏"‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏"‏، بل هذا حق، وهذا حق‏.‏
    أما الحديث‏:‏ فإنه قال‏:‏ ‏"‏انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له‏"‏‏.‏ فذكر الولد، ودعاؤه له خاصين؛ لأن الولد من كسبه، كما قال‏:‏ ‏
    "مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏"‏[‏المسد‏:‏ 2‏]‏ قالوا‏:‏ إنه ولده‏.‏ وكما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إ

    ج/ 24 ص -312-أطيب ما أكل الرجل من كسبه،وإن ولده من كسبه‏"‏‏.‏فلما كان هو الساعي في وجود الولد،كان عمله من كسبه، بخلاف الأخ،والعم والأب،ونحوهم‏.‏ فإنه ينتفع أيضا بدعائهم، بل بدعاء الأجانب،لكن ليس ذلك من عمله‏.‏ والنبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏انقطع عمله إلا من ثلاث‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ لم يقل‏:‏إنه لم ينتفع بعمل غيره‏.‏فإذا دعا له ولده،كان هذا من عمله الذي لم ينقطع،وإذا دعا له غيره،لم يكن من عمله،لكنه ينتفع به‏.‏
    وأما الآية‏:‏ فللناس عنها أجوبة متعددة‏.‏ كما قيل‏:‏ إنها تختص بشرع من قبلنا‏.‏ وقيل‏:‏ إنها مخصوصة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها منسوخة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها تنال السعي مباشرة وسببا‏.‏ والإيمان من سعيه الذي تسبب فيه‏.‏ ولا يحتاج إلى شيء من ذلك، بل ظاهر الآية حق لا يخالف بقية النصوص‏.‏ فإنه قال‏:‏
    ‏"لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏"‏ وهذا حق، فإنه إنما يستحق سعيه، فهو الذي يملكه ويستحقه‏.‏ كما أنه إنما يملك من المكاسب ما اكتسبه هو‏.‏ وأما سعي غيره، فهو حق، وملك لذلك الغير، لا له، لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعي غيره، كما ينتفع الرجل بكسب غيره‏.‏
    فمن صلى على جنازة، فله قيراط، فيثاب المصلي على سعيه الذي هو صلاته، والميت أيضًا يرحم بصلاة الحي عليه، كما قال‏:‏
    ‏"‏ما من

    ج/ 24 ص -313-مسلم يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة‏"‏‏.‏ ويروي‏:‏ ‏"‏أربعين‏"‏، ويروي ‏"‏ثلاثة صفوف، ويشفعون فيه، إلا شفعوا فيه‏"‏‏.‏ أو قال‏:‏ ‏"‏إلا غفر له‏"‏‏.‏ فالله تعالى يثيب هذا الساعي على سعيه الذي هو له، ويرحم ذلك الميت بسعي هذا الحي لدعائه له، وصدقته عنه، وصيامه عنه، وحجه عنه‏.‏
    وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏ما من رجل يدعو لأخيه دعوة إلا وكل الله به ملكًا، كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك الموكل به‏:‏ آمين، ولك بمثله‏"‏‏.‏ فهذا من السعي الذي ينفع به المؤمن أخاه، يثيب الله هذا، ويرحم هذا‏.‏ ‏"وأن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏"‏[‏النجم‏:‏39‏]‏، وليس كل ما ينتفع به الميت، أو الحي، أو يرحم به، يكون من سعيه، بل أطفال المؤمنين يدخلون الجنة مع آبائهم بلا سعي‏.‏ فالذي لم يجز إلا به أخص من كل انتفاع؛ لئلا يطلب الإنسان الثواب على غير عمله، وهو كالدين يوفيه الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، لكن ليس له ما وفي به الدين، وينبغي له أن يكون هو الموفي له‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 24 ص -314-وسئل رَحمه الله‏:‏
    ما تقول السادة الفقهاء وأئمة الدين وفقهم الله تعالى لمرضاته في القراءة للميت‏؟‏ هل تصل إليه أم لا‏؟‏ والأجرة على ذلك، وطعام أهل الميت لمن هو مستحق، وغير ذلك، والقراءة على القبر والصدقة عن الميت، أيهما المشروع الذي أمرنا به‏؟‏ والمسجد الذي في وسط القبور، والصلاة فيه، وما يعلم هل بني قبل القبور أو القبور قبله وله ثلاث‏:‏ رزق، وأربعمائة اصددمون قديمة من زمان الروم، ما هو له، بل للمسجد، وفيه الخطبة كل جمعة، والصلاة أيضًا في بعض الأوقات، وله كل سنة موسم يأتي إليه رجال كثير ونساء يأتون بالنذور معهم، فهل يجوز للإمام أن يتناول من ذلك شيئًا لمصالح المسجد الذي في البلد‏؟‏ أفتونا يرحمكم الله مأجورين‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، أما الصدقة عن الميت فإنه ينتفع بها باتفاق المسلمين، وقد وردت بذلك عن النبي ﷺ أحاديث صحيحة‏.‏ مثل قول سعد‏:‏ يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها،وأراها لو تكلمت تصدقت،فهل ينفعها أن أتصدق عنها‏؟

    ج/ 24 ص -315-فقال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ وكذلك ينفعه الحج عنه، والأضحية عنه، والعتق عنه، والدعاء والاستغفار له بلا نزاع بين الأئمة‏.‏
    وأما الصيام عنه وصلاة التطوع عنه، وقراءة القرآن عنه، فهذا فيه قولان للعلماء‏:‏
    أحدهما‏:‏ ينتفع به، وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهما‏.‏ وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم‏.‏
    والثاني‏:‏ لا تصل إليه، وهو المشهور في مذهب مالك والشافعي‏.‏
    وأما الاستئجار لنفس القراءة، والإهداء، فلا يصح ذلك‏.‏ فإن العلماء إنما تنازعوا في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والأذان، والإمامة، والحج عن الغير؛ لأن المستأجر يستوفي المنفعة‏.‏ فقيل‏:‏ يصح لذلك، كما هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز؛ لأن هذه الأعمال يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، فإنها إنما تصح من المسلم دون الكافر، فلا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله تعالى وإذا فعلت بعروض، لم يكن فيها أجر بالاتفاق؛ لأن الله إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه، لا ما فعل لأجل عروض الدنيا‏.‏

    ج/ 24 ص -316-وقيل‏:‏ يجوز أخذ الأجرة عليها للفقير، دون الغني‏.‏ وهو القول الثالث في مذهب أحمد، كما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغنى مع الغني‏.‏ وهذا القول أقوي من غيره على هذا‏.‏ فإذا فعلها الفقير لله وإنما أخذ الأجرة لحاجته إلى ذلك، وليستعين بذلك على طاعة الله فالله يأجره على نيته، فيكون قد أكل طيباً، وعمل صالحاً‏.‏
    وأما إذا كان لا يقرأ القرآن إلا لأجل العروض، فلا ثواب لهم على ذلك‏.‏ وإذا لم يكن في ذلك ثواب، فلا يصل إلى الميت شيء؛ لأنه إنما يصل إلى الميت ثواب العمل، لا نفس العمل‏.‏ فإذا تصدق بهذا المال على من يستحقه، وصل ذلك إلى الميت‏.‏ وإن قصد بذلك من يستعين على قراءة القرآن وتعليمه، كان أفضل وأحسن‏.‏ فإن إعانة المسلمين بأنفسهم وأموالهم على تعلم القرآن وقراءته وتعليمه من أفضل الأعمال‏.‏
    وأما صنعة أهل الميت طعاما يدعون الناس إليه، فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة، بل قد قال جرير بن عبد الله‏:‏ كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعتهم الطعام للناس من النياحة‏.‏
    وإنما المستحب إذا مات الميت أن يُصْنَع لأهله طعام‏.‏ كما قال

    ج/ 24 ص -317-النبي ﷺ لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب ‏:‏ ‏"‏اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم‏"‏‏.‏
    وأما القراءة الدائمة على القبور، فلم تكن معروفة عند السلف‏.‏ وقد تنازع الناس في القراءة على القبر، فكرهها أبو حنيفة ومالك، وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخص فيها في الرواية المتأخرة، لما بلغه أن عبد الله بن عمر أوصى أن يقرأ عند دفنه بفواتح البقرة، وخواتمها‏.‏
    وقد نقل عن بعض الأنصار أنه أوصى عند قبره بالبقرة، وهذا إنما كان عند الدفن، فأما بعد ذلك فلم ينقل عنهم شيء من ذلك‏.‏ ولهذا فرق في القول الثالث بين القراءة حين الدفن، والقراءة الراتبة بعد الدفن، فإن هذا بدعة لا يعرف لها أصل‏.‏
    ومن قال‏:‏ إن الميت ينتفع بسماع القرآن، ويؤجر على ذلك، فقد غلط؛ لأن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له‏"‏‏.‏ فالميت بعد الموت لا يثاب على سماع، ولا غيره‏.‏ وإن كان الميت يسمع قرع نعالهم، ويسمع سلام الذي يسلم عليه، ويسمع غير ذلك، لكن لم يبق له عمل غير ما استثنى‏.‏

    ج/ 24 ص -318-وأما بناء المساجد على القبور، وتسمى ‏[‏مشاهد‏]‏، فهذا غير سائغ، بل جميع الأمة ينهون عن ذلك، لما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لعن اللّه إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏ يحذر ما فعلوا‏.‏قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً‏.‏ وفي الصحيح أيضاً عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج‏"‏‏.‏
    وقد اتفق أئمة المسلمين على أن الصلاة في المشاهد ليس مأموراً بها، لا أمر إيجاب، ولا أمر استح
    باب‏.‏ ولا في الصلاة في المشاهد التي على القبور ونحوها فضيلة على سائر البقاع، فضلا عن المساجد، باتفاق أئمة المسلمين، فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضل على الصلاة على غيرها، أو أنها أفضل من الصلاة في بعض المساجد، فقد فارق جماعة المسلمين، ومرق من الدين، بل الذي عليه الأمة أن الصلاة فيها منهي عنه نهي تحريم، وإن كانوا متنازعين في الصلاة في المقبرة‏:‏ هل هي محرمة أو مكروهة أو مباحة أو يفرق بين المنبوشة والقديمة‏؟‏ فذلك لأجل تعليل النهي بالنجاسة لاختلاط التراب بصديد الموتي‏.‏

    ج/ 24 ص -319-وأما هذا، فإنه نهي عن ذلك لما فيه من التشبه بالمشركين، وأن ذلك أصل عبادة الأصنام‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏"‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال غير واحد من الصحابة والتابعين‏:‏ هذه أسماء قوم كانوا قوماً صالحين، في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم‏.‏ ولهذا قال النبي ﷺ ما ذكره مالك في الموطأ‏:‏ ‏"‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏‏.‏ ولهذا لا يشرع باتفاق المسلمين أن ينذر للمشاهد التي على القبور، لا زيت، ولا شمع، ولا دراهم، ولا غير ذلك‏.‏ولا للمجاورين عندها، وخدام القبور‏.‏ فإن النبي ﷺ قد لعن من يتخذ عليها المساجد والسرج‏.‏ ومن نذر ذلك، فقد نذر معصية‏.‏ وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏"‏‏.‏
    وأما الكفارة فهي على قولين‏:‏ فمذهب أحمد وغيره عليه كفارة يمين؛ لقول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏كفارة النذر كفارة اليمين‏"‏ رواه مسلم‏.‏ وفي السنن عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏"‏‏.‏ ومذهب مالك والشافعي وغيرهما لا شيء عليه‏.‏ لكن إن تصدق بالنذر

    ج/ 24 ص -320-في المشاهد على من يستحق ذلك من فقراء المسلمين، الذين يستعينون بذلك على طاعة الله ورسوله، فقد أحسن في ذلك، وأجره على الله‏.‏
    ولا يجوز لأحد باتفاق المسلمين أن ينقل صلاة المسلمين، وخطبهم من مسجد يجتمعون فيه، إلى مشهد من مشاهد القبور، ونحوها‏.‏ بل ذلك من أعظم الضلالات والمنكرات، حيث تركوا ما أمر الله به ورسوله، وفعلوا ما نهي الله عنه ورسوله‏.‏ وتركوا السنة، وفعلوا البدعة‏.‏ تركوا طاعة الله ورسوله، وارتكبوا معصية الله ورسوله، بل يجب إعادة الجمعة والجماعة إلى المسجد الذي هو بيت من بيوت الله‏.‏ ‏
    "أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 36،37‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏‏.‏
    وأما القبور التي في المشاهد وغيرها، فالسنة لمن زارها أن يسلم على الميت، ويدعو له بمنزلة الصلاة على الجنائز، كما كان النبي ﷺ يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور‏:‏ ‏"‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين،

    ج/ 24 ص -321-نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم‏"‏‏.‏
    وأما التمسح بالقبر، أو الصلاة عنده، أو قصده لأجل الدعاء عنده، معتقداً أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في غيره، أو النذر له ونحو ذلك، فليس هذا من دين المسلمين، بل هو مما أحدث من البدع القبيحة، التي هي من شعب الشرك‏.‏ والله أعلم وأحكم‏.
    وسئل عمن يقرأ القرآن العظيم، أو شيئاً منه، هل الأفضل أن يهدي ثوابه لوالديه، ولموتي المسلمين‏؟‏ أو يجعل ثوابه لنفسه خاصة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أفضل العبادات ما وافق هدي رسول الله ﷺ، وهدي الصحابة، كما صح عن النبي ﷺ أنه كان يقول في خطبته‏:‏
    ‏"‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏"‏‏.‏ وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم‏"‏‏.‏
    وقال ابن مسعود‏:‏ من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛

    ج/ 24 ص -322-فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد‏.‏
    فإذا عرف هذا الأصل، فالأمر الذي كان معروفاً بين المسلمين في القرون المفضلة، أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة، فرضها ونفلها، من الصلاة، والصيام، والقراءة، والذكر، وغير ذلك‏.‏ وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك لأحيائهم، وأمواتهم، في صلاتهم على الجنازة، وعند زيارة القبور، وغير ذلك‏.‏
    وروي عن طائفة من السلف عند كل ختمة دعوة مجابة، فإذا دعا الرجل عقيب الختم لنفسه، ولوالديه، ولمشائخه، وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات، كان هذا من الجنس المشروع‏.‏ وكذلك دعاؤه لهم في قيام الليل، وغير ذلك من مواطن الإجابة‏.‏
    وقد صح عن النبي ﷺ‏:‏ أنه أمر بالصدقة على الميت، وأمر أن يصام عنه الصوم‏.‏ فالصدقة عن الموتي من الأعمال الصالحة، وكذلك ما جاءت به السنة في الصوم عنهم‏.‏ وبهذا وغيره احتج من قال من العلماء‏:‏ إنه يجوز إهداء ثواب العبادات المالية، والبدنية إلى موتي المسلمين‏.‏ كما هو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي‏.‏
    فإذا أهدي لميت ثواب صيام، أو صلاة، أو قراءة، جاز ذلك‏.‏

    ج/ 24 ص -323-وأكثر أصحاب مالك، والشافعي يقولون‏:‏ إنما يشرع ذلك في العبادات المالية، ومع هذا فلم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً، وصاموا، وحجوا، أو قرؤوا القرآن، يهدون ثواب ذلك لموتاهم المسلمين، ولا لخصوصهم، بل كان عادتهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عمن ‏"‏هلل سبعين ألف مرة، وأهداه للميت، يكون براءة للميت من النار‏"‏‏.‏ حديث صحيح أم لا‏؟‏ وإذا هلل الإنسان وأهداه إلى الميت يصل إليه ثوابه، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا هلل الإنسان هكذا‏:‏ سبعون ألفاً، أو أقل، أو أكثر، وأهديت إليه، نفعه الله بذلك، وليس هذا حديثا صحيحاً، ولا ضعيفاً‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 24 ص -324-وسئل عن قراءة أهل البيت‏:‏ تصل إليه‏؟‏ والتسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، إذا أهداه إلى الميت يصل إليه ثوابها أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يصل إلى الميت قراءة أهله، وتسبيحهم، وتكبيرهم، وسائر ذكرهم لله تعالى، إذا أهدوه إلى الميت، وصل إليه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏ هل القراءة تصل إلى الميت من الولد أو لا على مذهب الشافعي‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما وصول ثواب العبادات البدنية كالقراءة، والصلاة، والصوم فمذهب أحمد، وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي، إلى أنها تصل، وذهب أكثر أصحاب مالك، والشافعي، إلى أنها لا تصل‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 24 ص -325-وسئل رحمه الله عمن ترك والديه كفاراً، ولم يعلم هل أسلموا، هل يجوز أن يدعو لهم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، من كان من أمة أصلها كفار، لم يجز أن يستغفر لأبويه، إلا أن يكونا قد أسلما‏.‏ كماقال تعالى‏:‏
    ‏"مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أولى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML