ج/ 24 ص -219-باب صلاة العيدين
سئل شيخ الإسلام:
هل يتعين قراءة بعينها في صلاة العيدين؟ وما يقول الإنسان بين كل تكبيرتين؟
فأجاب:
الحمد لله، مهما قرأ به جاز. كما تجوز القراءة في نحوها من الصلوات. لكن إذا قرأ بقاف، واقتربت، أو نحو ذلك. مما جاء في الأثر، كان حسنًا.
وأما بين التكبيرات: فإنه يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي ﷺ، ويدعو بما شاء. هكذا روي نحو هذا العلماء عن عبد الله بن مسعود. وإن قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، اللهم اغفر لي، وارحمني، كان حسنًا. وكذلك إن قال: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ونحو ذلك.
ج/ 24 ص -220-وليس في ذلك شيء مؤقت عن النبي ﷺ، والصحابة. واللّه أعلم.
وسئل عن صفة التكبير في العيدين، ومتى وقته ؟
فأجاب:
الحمد للّه، أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة، ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة.
وصفة التكبير المنقول عند أكثر الصحابة: قد روي مرفوعا إلى النبي ﷺ: "اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه، واللّه أكبر اللّه أكبر،وللّه الحمد". وإن قال: اللّه أكبر ثلاثاً، جاز. ومن الفقهاء من يكبر ثلاثاً فقط. ومنهم من يكبر ثلاثاً ويقول: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأما التكبير في الصلاة فيكبر المأموم تبعاً للإمام، وأكثر الصحابة رضي اللّه عنهم والأئمة يكبرون سبعاً في الأولي، وخمساً في الثانية.
ج/ 24 ص -221-وإن شاء أن يقول بين التكبيرتين: سبحان الله،والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. اللهم اغفر لي، وارحمني، كان حسنًا،كما جاء ذلك عن بعض السلف. والله أعلم.
وسئل: هل التكبير يجب في عيد الفطر أكثر من عيد الأضحي؟ بينوا لنا مأجورين.
فأجاب:
أما التكبير: فإنه مشروع في عيد الأضحي بالاتفاق. وكذلك هو مشروع في عيد الفطر عند مالك، والشافعي، وأحمد. وذكر ذلك الطحاوي مذهبًا لأبي حنيفة، وأصحابه، والمشهور عنهم خلافه. لكن التكبير فيه هو المأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم والتكبير فيه أوكد من جهة أن الله أمر به بقوله: "وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [البقرة: 185]
والتكبير فيه: أوله من رؤية الهلال، وآخره انقضاء العيد، وهو فراغ الإمام من الخطبة على الصحيح.
وأما التكبير في النحر، فهو أوكد من جهة أنه يشرع أدبار الصلوات،
ج/ 24 ص -222-وأنه متفق عليه، وأن عيد النحر يجتمع فيه المكان والزمان، وعيد النحر أفضل من عيد الفطر، ولهذا كانت العبادة فيه النحر مع الصلاة. والعبادة في ذاك الصدقة مع الصلاة. والنحر أفضل من الصدقة، لأنه يجتمع فيه العبادتان البدنية والمالية، فالذبح عبادة بدنية ومالية، والصدقة والهدية عبادة مالية. ولأن الصدقة في الفطر تابعة للصوم، لأن النبي ﷺ فرضها طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين؛ ولهذا سن أن تخرج قبل الصلاة، كما قال تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى" [الأعلى: 14، 15]. وأما النسك، فإنه مشروع في اليوم نفسه عبادة مستقلة، ولهذا يشرع بعد الصلاة، كما قال تعالى: "فصل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ" [الكوثر: 2،3]. فصلاة الناس في الأمصار بمنزلة رمي الحجاج جمرة العقبة، وذبحهم في الأمصار بمنزلة ذبح الحجاج هديهم.
وفي الحديث الذي في السنن: "أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرِّ" وفي الحديث الآخر الذي في السنن وقد صححه الترمذي: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام مني عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله". ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أن أهل الأمصار يكبرون من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؛ لهذا الحديث، ولحديث آخر رواه الدارقطني عن جابر عن النبي ﷺ. ولأنه إجماع من أكابر الصحابة. والله أعلم.
ج/ 24 ص -223-وقال شيخ الإسلام:
فصل
قال الله تعالى: "وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [البقرة: 185]. و [اللام] إما متعلقة بمذكور: أي "يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ". كما قال: "يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ" [النساء: 26]. أو بمحذوف: أي ولتكملوا العدة [ومن أجل ذلك] شرع ذلك.
وهذا أشهر لأنه قال: "وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". فيجب على الأول أن يقال: ويريد لعلكم تشكرون، وفيه وَهَن.
لكن يحتج للأول بقوله تعالى: في آية الوضوء: "مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عليكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [المائدة: 6]. فإن آية الصيام وآية الطهارة متناسبتان في اللفظ والمعني، فقوله: "يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" بمنزلة قوله:
ج/ 24 ص -224- "مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عليكُم مِّنْ حَرَجٍ". وقوله: "وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكُمْ"، كقوله: "وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". والمقصود هنا أن الله سبحانه أراد شرعًا: التكبير على ما هدانا. ولهذا قال من قال من السلف كزيد بن أسلم : هو التكبير تكبير العيد، واتفقت الأمة على أن صلاة العيد مخصوصة بتكبير زائد، ولعله يدخل في التكبير صلاة العيد، كما سميت الصلاة تسبيحًا، وقيامًا، وسجودًا وقرآنا، وكما أدخلت صلاتا الجمع في ذكر الله في قوله: "فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ" [البقرة: 189]. وأريد الخطبة والصلاة بقوله: "فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ" [الجمعة: 9]. ويكون لأجل أن الصلاة لما سميت تكبيرًا، خصت بتكبير زائد، كما أن صلاة الفجر لما سميت قرآنا، خصت بقرآن زائد، وجعل طول القراءة فيها عوضًا عن الركعتين في الصلاة الرباعية. وكذلك [صلاة الليل]، لما سميت قيامًا بقوله: "قُمِ اللَّيْلَ" [المزمل:2] خصت بطول القيام، فكان النبي ﷺ يطيل القيام والركوع والسجود بالليل ما لا يطيله بالنهار. ولهذا قال بعض السلف: إن التطويل بالليل أفضل، وإن تكثير الركوع والسجود بالنهار أفضل.
ج/ 24 ص -225-وكان التكبير أيضًا مشروعًا في خطبة العيد زيادة على الخطب الجمعية، وكان التكبير? أيضًا مشروعًا عندنا، وعند أكثر العلماء من حين إهلال العيد إلى انقضاء العيد، إلى آخر الصلاة والخطبة؛ لكن هل يقطعه المؤتم إذا شهد المصلى لكونه مشغولاً بعد ذلك بانتظار الصلاة؟ أو يقطعه بالشروع في الصلاة للاشتغال عنه بعد ذلك بالصلاة والخطبة؟ أو لا يقطعه إلى انقضاء الخطبة؟ فيه خلاف عن أحمد وغيره. والصحيح أنه إلى آخر العيد.
وقد قال تعالى في الحج: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" [الحج: 28]. فقيل: الأيام المعلومات هي أيام الذبح، وذكر اسم الله التسمية على الأضحية والهدي، وهو قول مالك في رواية.
وقيل: هي أيام العشر، وهو المشهور عن أحمد، وقول الشافعي وغيره. ثم ذكر اسم الله فيها هو ذكره في العشر بالتكبير عندنا، وقيل: هو ذكره عند رؤية الهدي، وأظنه مأثورًا عن الشافعي. وفي صحيح البخاري أن ابن عمر وابن عباس كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. وفي الصحيح عن أنس أنهم كانوا غداة عرفة، وهم ذاهبون من مني إلى عرفة يكبر منهم المكبر فلا ينكر عليه، ويلبي الملبي فلا ينكر عليه. وفي
ج/ 24 ص -226-أمثلة الأحاديث المرفوعة مثل قوله: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".
وعلى قول أصحابنا يكون [ذكر اسم الله على ما رزقهم]، كقوله: "عَلَى مَا هَدَاكُمْ" [البقرة: 185]. وكقوله: "لَيْسَ عليكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ" [البقرة:198] وكقوله: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عليكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ" إلى قوله: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" [البقرة: 151،152].
وعلى القول الآخر، يكون مثل قوله: "فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عليكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عليه" [المائدة: 4]، وقوله: "فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ" [الحج: 36]. ويدل عليه قوله: "مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" [الحج: 34]، فيدل على أن [ما] موصولة لا مصدرية، بمعني على الذي رزقهم من بهيمة الأنعام. وكذلك قوله: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" [الحج: 34]. وعلى قولنا: يكون ذكر اسم الله عليها وقت الذبح، ووقت السوق بالتلبية عندها، وبالتكبير. يدل عليه أنه لو أراد مجرد التسمية لم يكن للأضحية بذلك اختصاص، فإن اسمه مذكور عند كل ذبح، لا فرق في ذلك بين الأضحية وغيرها، فما وجب فيها، وجب في غيرها، وما لم يجب، لم يجب.
ج/ 24 ص -227-وأيضًا، فإنه لا يكون لقوله: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ" إلى قوله:"لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ" [الحج: 27،28]. فجعل إتيانهم إلى المشاعر ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات. ولو أراد الأضحية فقط، لم يكن للمشاعر بهذا اختصاص. فإن الأضحية مشروعة في جميع الأرض، إلا أن هذا الوجه يرد على قولنا بذكر اسم الله في جميع العشر في الأمصار. فيقال: لم خص ذلك بالإتيان إلى المشاعر؟ وقد يحتج به من يري ذكر الله عند رؤية الهدي؛ لأن الهدي يساق إلى مكة، لكن عنده يجوز ذبح الهدي متى وصل. فأي فائدة لتوقيته بالأيام المعلومات؟ ويجاب عن هذا بوجهين.
أحدهما: أن الذبح بالمشاعر أصل، وبقية الأمصار تبع لمكة، ولهذا كان عيد النحر العيد الأكبر، ويوم النحر يوم الحج الأكبر؛ لأنه يجتمع فيه عيد المكان والزمان.
الثاني: أن ذكر الله هناك على ما رزقهم من الأضحية، والهدي جميعًا بخلاف غير مكة، فإنه ليس فيها إلا الأضحية، وهي مختصة بالأيام المعلومات. فإن الهدي عندنا مؤقت، فإذا ساق الهدي، لم ينحره إلا عند الإحلال، ولا يجوز له أن يحل حتى ينحر هديه، كما قال تعالى: "حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ" [البقرة: 196]، وأمر النبي ﷺ أصحابه في
ج/ 24 ص -228-حجة الوداع أن يحلوا إلا من ساق الهدي، فلا يحل حتى ينحره، وهذا إذا قدم به في العشر بلا نزاع. وأما إذا قدم به قبل العشر، ففيه روايتان:
فإن قيل: فإذا كان الكتاب والسنة قد أمرا بذكره في الأيام المعلومات، فهلا شرع التكبير فيها في أدبار الصلوات، كما شرع في أيام العيد؟
قيل: كما شرع التكبير في ليلة الفطر إلى حين انقضاء العيد، ولم يشرع عقب الصلاة، لأن التكبير عقب الصلاة أوكد. فاختص به العيد الكبير، وأيام العيد خمسة، هي أيام الاجتماع، كما قال النبي ﷺ: "يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام مني عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب". وقد قال تعالى: "وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ" [البقرة: 203] وهي أيام التشريق في المشهور عندنا، وقول الشافعي، وغيره. وفيه قول آخر: أنها أيام الذبح. فعلى الأول يكون من ذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات، والتكبير عند رمي الجمار، كما قال النبي ﷺ: "إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله" فالذكر في هذه الآيات مطلق، وإن كانت السنة قد جاءت بالتكبير في عيد النحر في صلاته وخطبته ودبر صلواته ورمي جمراته والذكر في آية الصيام يعني بالتكبير على الهداية، فهذا
ج/ 24 ص -229-ذكر لله، وتكبير له على الهداية، وهناك على الرزق.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه لما أشرف على خيبر قال: "الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". وكان يكبر على الأشراف مثل التكبير إذا ركب دابة، وإذا علا نشزا من الأرض، وإذا صعد على الصفا والمروة. وقال جابر: كنا مع رسول الله ﷺ إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك. رواه أبو داود. وجاء التكبير مكررًا في الأذان في أوله وفي آخره، والأذان هو الذكر الرفيع، وفي أثناء الصلاة، وهو حال الرفع والخفض والقيام إليها، كما قال: "تحريمها التكبير". وروي:"أن التكبير يطفئ الحريق".
فالتكبير شرع أيضًا لدفع العدو من شياطين الإنس والجن، والنار التي هي عدو لنا، وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار، لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال، أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليبين أن الله أكبر، وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار، فيكون الدين كله لله، ويكون العباد له مكبرون، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه،ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر؛ لأن هذه الثلاث
ج/ 24 ص -230-أكبر ما يطلبه العبد، وهي جماع مصالحه. والهدي أعظم من الرزق والنصر، لأن الرزق والنصر قد لا ينتفع بهما إلا في الدنيا، وأما الهدي، فمنفعته في الآخرة قطعًا، وهو المقصود بالرزق والنصر، فخص بصريح التكبير؛ لأنه أكبر نعمة الحق. وذانك دونه، فوسع الأمر فيهما بعموم ذكر اسم الله.
فجماع هذا: أن التكبير مشروع عند كل أمر كبير من مكان وزمان وحال ورجال، فتبين أن الله أكبر لتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء ما سواه، ويكون له الشرف على كل شرف. قال تعالى فيما روي عنه رسوله ﷺ: "العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته".
ولما قال سبحانه: "وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [البقرة: 185] ذكر التكبير والشكر، كما في قوله: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ" [البقرة: 152]. والشكر يكون بالقول، وهو الحمد. ويكون بالعمل كما قال تعالى: "اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا" [سبأ: 13]. فقرن بتكبير الأعياد الحمد. فقيل: الله أكبر، الله أكبر،لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد؛ لأنه قد طلب فيه التكبير والشكر. ولهذا روي في الأثر أنه يقال فيه: "الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا"؛ ليجمع بين التكبير والحمد حمد الشكر، كما جمع بين
ج/ 24 ص -231-التحميد تحميد الثناء، والتكبير في قوله: "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا" [الإسراء: 111]. فأمر بتحميده وتكبيره.
ومعلوم أن الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن أربع: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وهي شِطرْان: فالتسبيح قرين التحميد، ولهذا قال النبي ﷺ: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة.
وقال ﷺ فيما رواه مسلم عن أبي ذر : "أفضل الكلام ما اصطفي الله لملائكته: سبحان الله وبحمده".
وفي القرآن: "وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ" [البقرة:30]، "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا" [النصر:3]. فكان النبي ﷺ يقول في ركوعه: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن. هكذا في الصحاح عن عائشة فجعل قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك" تأويل "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ". وقد قال تعالى: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ" [غافر:55]. وقال:
ج/ 24 ص -232- "فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [الروم:17،18]. والآثار في اقترانهما كثيرة.
وأما التهليل: فهو قرين التكبير، كما في كلمات الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم بعد دعاء العباد إلى الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، فهو مشتمل على التكبير والتشهد أوله وآخره. وهو ذكر لله تعالى وفي وسطه دعاء الخلق إلى الصلاة، والفلاح. فالصلاة هي العمل. والفلاح هو ثواب العمل لكن جعل التكبير شفعًا، والتشهد وترًا، فمع كل تكبيرتين شهادة. وجعل أوله مضاعفًا على آخره، ففي أول الأذان يكبر أربعًا، ويتشهد مرتين والشهادتان جميعًا باسم الشهادة، وفي آخره التكبير مرتان فقط مع التهليل الذي لم يقترن به لفظ الشهادة، ولا الشهادة الأخرى.
وهذا والله أعلم بمنزلة الركعتين الأولتين، من الصلاة، مع الركعتين الأخرىين، فإن الأولتان فضلتا بقراءة السورة، وبالجهر في القراءة، فحصل الفضل في قدر القراءة، ووصفها، كما أن الشطر الأول من الأذان، فضل في قدر الذكر، وفي وصفه، لكن الوصف هنا كون التوحيد قرن به لفظ أشهد، ولهذا حذف في الإقامة عند من يختار إيتارها? وهي إقامة بلال ما فضل به من القدر، كما يخفض
ج/ 24 ص -233-من صوت الإقامة؛ لأن هذا المزيد من جنس الأصل فأشبه حذف الركعتين الأخرىين في صلاة المسافر. وأما الكلمات الأصول، فلم يحذف منها شيء.
وهكذا سنة النبي ﷺ في قيام الليل، وصلاة الكسوف، وغيرهما تطويل أول العبادة على آخرها؛ لأسباب تقتضي ذلك.
وكما جمع بين التكبير والتهليل في الأذان، جمع بينهما في تكبير الإشراف، فكان على الصفا والمروة، وإذا علا شرفًا في غزوة أو حجة أو عمرة، يكبر ثلاثًا. ويقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده" يفعل ذلك ثلاثًا. وهذا في الصحاح. وكذلك على الدابة كبر ثلاثًا، وهلل ثلاثًا، فجمع بين التكبير والتهليل. وكذلك حديث عدي بن حاتم الذي رواه أحمد والترمذي، فيه أن النبي ﷺ قال له: "يا عدي ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم مِنْ إله إلا الله؟ يا عدي، ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر مِن الله" فقرن النبي ﷺ بين التهليل والتكبير.
ج/ 24 ص -234-وفي صحيح مسلم حديث أبي مالك الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، والحمد لله تملآن أو قال: تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو: فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها". فأخبر أنه يملأ ما بين السماء والأرض، وهذا أعظم من مَلْئِه للميزان.
وفي الحديث الذي في الموطأ حديث طلحة بن عبد الله بن كريز: أن النبي ﷺ قال "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". فجمع في هذا الحديث بين "أفضل الدعاء وأفضل الثناء، فإن الذكر نوعان: دعاء، وثناء، فقال: أفضل الدعاء، دعاء يوم عرفة. وأفضل ما قلت: هذا الكلام". ولم يقل: أفضل ما قلت يوم عرفة: هذا الكلام. وإنما هو أفضل ما قلت مطلقًا. وكذلك في حديث رواه ابن أبي الدنيا: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله".
وأيضًا، ففي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله،وأدناها إماطة الأذي عن الطريق".فقد صرح بأن أعلى شعب
ج/ 24 ص -235-الإيمان هي هذه الكلمة.
وأيضًا، ففي صحيح مسلم: أن النبي ﷺ قال: "يا أبي، أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟" قال:"اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة: 255] فقال رسول الله ﷺ: "ليهنك العلم أبا المنذر". فأخبر في هذا الحديث الصحيح أنها أعظم آية في القرآن وفي ذاك أنها أعلى شعب الإيمان، وهذا غاية الفضل. فإن الأمر كله مجتمع في القرآن والإيمان، فإذا كانت أعظم القرآن، وأعلى الإيمان، ثبت لها غاية الرجحان.
وأيضًا، فإن التوحيد أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، وهو ثمن الجنة، ولا يصح إسلام أحد إلا به. ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة، وكل خطبة ليس فيها تشهد، فهي كاليد الجذماء، فمنزلته منزلة الأصل، ومنزلة التحميد والتسبيح منزلة الفرع.
وأيضًا، فإنه مشروع على وجه التعظيم، والجهر، وعند الأمور العظيمة مثل الأذان الذي ترفع به الأصوات، وعند الصعود على الأماكن العالية لما في ذلك من العلو والرفعة، ويجهر بالتكبير في الصلوات، وهو المشروع في الأعياد.
ج/ 24 ص -236-وقال جابر: كنا مع رسول الله ﷺ إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك. رواه أبو داود وغيره. فبين أن التكبير مشروع عند العلو من الأمكنة، والأفعال، كما في الصلاة والأذان، والتسبيح مشروع عند الانخفاض في الأمكنة والأفعال، كما في السجود والركوع. ولهذا كانت السنة في التسبيح الإخفاء حين شرع، فلم يشرع من الجهر به والإعلان ما شرع من ذلك في التكبير والتهليل، ومعلوم أن الزيادة في وصف الذكر إنما هو للزيادة في أمره.
وأما حديث أبي ذر: "أفضل الكلام ما اصطفي الله لملائكته: سبحان الله وبحمده". فيشبه والله أعلم أن يكون هذا في الكلام الذي لا يسن فيه الجهر، كما في الركوع والسجود، ونحوه، ولا يلزم أن يكون أفضل مطلقًا، بدليل أن قراءة القرآن أفضل من الذكر. وقد نهى النبي ﷺ عنها في الركوع والسجود. وقال: "إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، أما الركوع: فعظموا فيه الرب، وأما السجود: فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم".
وهنا أصل ينبغي أن نعرفه. وهو أن الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة لم يجب أن يكون أفضل في كل حال، ولا لكل أحد،
ج/ 24 ص -237-بل المفضول في موضعه الذي شرع فيه أفضل من الفاضل المطلق، كما أن التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن، ومن التهليل والتكبير، والتشهد في آخر الصلاة والدعاء بعده أفضل من قراءة القرآن. وهذا كما قال النبي ﷺ: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة. فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًا أو إسلامًا" ثم أتبع ذلك بقوله: "ولا يؤمَّنَّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه". فذكر الأفضل فالأفضل في الإمامة، ثم بين أن صاحب المرتبة ذو السلطان مثل الإمام الراتب كأمير الحرب في العهد القديم، وكأئمة المساجد ونحوهم مقدمون على غيرهم، وإن كان غيرهم أفضل منهم، وهذا كما أن الذهب أفضل من الحديد، والنَّورَة، وقد تكون هذه المعادن مقدمة على الذهب عند الحاجة إليها دونه، وهذا ظاهر.
وكذلك أيضًا أكثر الناس يعجزون عن أفضل الأعمال. فلو أمروا بها لفعلوها على وجه لا ينتفعون به، أو ينتفعون انتفاعًا مرجوحًا، فيكون في حق أحد هؤلاء العمل الذي يناسبه به أفضل له مما ليس كذلك. ولهذا يكون الذكر لكثير من الناس أفضل من قراءة القرآن؛ لأن الذكر يورثه الإيمان، والقرآن يورثه العلم، والعلم بعد الإيمان. قال الله تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ" [المجادلة: 11].
ج/ 24 ص -238-والقرآن يحتاج إلى فهم وتدبر، وقد يكون عاجزًا عن ذلك، لكن هؤلاء يغلطون فيعتقد أحدهم أن الذكر أفضل مطلقًا، وليس كذلك، بل قراءة القرآن في نفس الأمر أفضل من الذكر بإجماع المسلمين. قال النبي ﷺ: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". رواه مسلم. وقال له رجل: إني لا أستطيع أن أحمل من القرآن شيئًا، فعلمني ما يجزئني في صلاتي. فقال: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". ولهذا كان العلماء على أن الذكر في الصلاة بدل عن القراءة لا يجوز الانتقال إليه إلا عند العجز عن القراءة، بمنزلة التيمم مع الوضوء، وبمنزلة صيام الشهرين مع العتق، والصيام مع الهدي.
وفي الحديث الذي في الترمذي: "ما تقرب العباد إلى الله بأفضل مما خرج منه". يعني القرآن. وفي حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه، عن النبي ﷺ قال: "إن لله أهلين من الناس". قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته". وكان النبي ﷺ يقدم أهل القرآن في المواطن، كما قدمهم يوم أحد في القبور، فأذن لهم أن يدفنوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، وقال: قدموا إلى القبلة أكثرهم قرآنا.
ج/ 24 ص -239-فقول النبي ﷺ في حديث أبي ذر لما سئل: أي الكلام أفضل؟ فقال: "سبحان الله وبحمده". هذا خرج على سؤال سائل. فربما علم من حال السائل حالا مخصوصة، كما أنه لما قال: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله".. إلى آخره. أراد بذلك من الذكر لا من القراءة، فإن قراءة القرآن أفضل من جنس الذكر من حيث الجملة، وإن كان هذا الكلام قد يكون أفضل من القراءة. كما أن الشهادتين في وقت الدخول في الإسلام، أو تجديده، أو عندما يقتضي ذكرهما مثل عقب الوضوء، ودبر الصلاة والأذان، وغير ذلك أفضل من القراءة. وكذلك في موافقة المؤذن، فإنه إذا كان يقرأ وسمع المؤذن، فإن موافقته في ذكر الأذان أفضل له حينئذ من القراءة حتى يستحب له قطع القراءة لأجل ذلك؛ لأن هذا وقت هذه العبادة يفوت بفوتها، والقراءة لا تفوت.
فنقول: الأحوال ثلاثة: حال يستحب فيها الإسرار، ويكره فيها الجهر؛ لأنها حال انخفاض كالركوع والسجود. فهنا التسبيح أفضل من التهليل والتكبير، وكذلك في بطون الأودية، وأمَّا ما السنة فيه الجهر والإعلان كالإشراف والأذان فالسنة فيه التهليل والتكبير، وأما ما يشرع فيه الأمران، فقد يكون هذا.
ج/ 24 ص -240-فصل
وإذا عرف أن التحميد قرين التسبيح، وأن التهليل قرين التكبير، ففي تكبير الأعياد جمع بين القرينين، فجمع بين التكبير والتهليل، وبين التكبير والتحميد لقوله: "وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [البقرة: 185]، فإن الهداية اقتضت التكبير عليها، فضم إليه قرينه، وهو التهليل. والنعمة اقتضت الشكر عليها، فضم إليه أيضا التحميد. وهذا كما أن ركوب الدابة لما اجتمع فيه أنه شرف من الأشراف، وأنه موضع نعمة، كان النبي ﷺ يجمع عليها بين الأمرين، فإنه قال سبحانه : "لِتَسْتَوُوا على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عليه وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ" [الزخرف: 13،14]، فأمر بذكر نعمة الله عليه، وذكرها بحمدها، وأمر بالتسبيح الذي هو قرين الحمد، فكان النبي ﷺ لما أتي بالدابة فوضع رجله في الغرز قال: "بسم الله". فلما استوي على ظهرها قال: "الحمد لله". ثم قال: "سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ"، ثم حمد ثلاثا، وكبر ثلاثا، ثم قال: "لا إله إلا أنت
ج/ 24 ص -241-سبحانك، ظلمت نفسي فاغفر لي"، ثم ضحك وقال: "ضحكت من ضحك الرب إذا قال العبد ذلك يقول الله: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري".
فذكر بعد ذلك ذكر الإشراف وهو التكبير مع التهليل، وختمه بالاستغفار؛ لأنه مقرون بالتوحيد، كما قد رتب اقتران الاستغفار بالتوحيد في غير موضع، كقوله: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ" [محمد:19]، وقوله: "أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ" [هود: 2،3]، وقوله: "فَاسْتَقِيمُوا إليه وَاسْتَغْفِرُوهُ" [فصلت: 6]. فكان ذكره على الدابة مشتملا على الكلمات الأربع الباقيات الصالحات مع الاستغفار. فهكذا ذكر الأعياد اجتمع فيه التعظيم، والنعمة، فجمع بين التكبير والحمد. فالله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا.
وقد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثًا، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. فيشبهه بذكر الإشراف في تثليثه، وضم التهليل إليه، وهذا اختيار الشافعي.
وأما أحمد وأبو حنيفة وغيرهما، فاختاروا فيه ما رووه عن طائفة
ج/ 24 ص -242-من الصحابة. ورواه الدارقطني من حديث جابر مرفوعًا إلى النبي ﷺ أنه قال: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد"، فيشفعونه مرتين، ويقرنون به في إحداهما التهليل، وفي الأخري الحمد، تشبيهاً له بذكر الأذان. فإن هذا به أشبه؛ لأنه متعلق بالصلاة، ولأنه في الأعياد التي يجتمع فيها اجتماعا عاما، كما أن الأذان لاجتماع الناس، فشابه الأذان، في أنه تكبير اجتماع لا تكبير مكان، وأنه متعلق بالصلاة لا بالشرف، فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان، وهو في كل مرة مشفوع، وكل المأثور حسن.
ومن الناس من يثلثه أول مرة، ويشفعه ثاني مرة، وطائفة من الناس تعمل بهذا.
وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد، أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف،وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه، ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع صلاة الجنازة، وسجود السهو، والقنوت قبل الركوع وبعده، والتحميد بإثبات الواو
ج/ 24 ص -243-وحذفها، وغير ذلك. لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات، ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل، ولا يكره الآخر.
ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد، لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معا، ولا بقراءتين معا، ولا بصلاتي خوف معا، وإن فعل ذلك مرتين، كان ذلك منهيا عنه، فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة، ومكروه أخري، ولا تنظر إلى من قد يستحب الجمع في بعض ذلك، مثل ما رأيت بعضهم قد لفق ألفاظ الصلوات على النبي المأثورة عن النبي ﷺ واستحب فعل ذلك الدعاء الملفق، وقال في حديث أبي بكر الصديق المتفق عليه لما قال للنبي ﷺ: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال: "قل:اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا"، وفي رواية: "كثيرا"، "وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". فقال: يستحب أن يقول: كثيرا، كبيرا، وكذلك يقول في أشباه هذا: فإن هذا ضعيف، فإن هذا أولا ليس سنة، بل خلاف المسنون، فإن النبي ﷺ لم يقل ذلك جميعه جميعا. وإنما كان يقول هذا تارة، وهذا تارة، إن كان الأمران ثابتين عنه، فالجمع بينهما ليس سنة، بل بدعة وإن كان جائزاً.
ج/ 24 ص -244-الثاني: أن جمع ألفاظ الدعاء، والذكر الواحد، على وجه التعبد مثل جمع حروف القراء كلهم لا على سبيل الدرس والحفظ، لكن على سبيل التلاوة والتدبر، مع تنوع المعاني، مثل أن يقرأ في الصلاة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ اليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" [البقرة:10]."بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ". "رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا" [سبأ: 19]. "بَعِّد بين أسفارنا". "وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" [البقرة:74] "عَمَّا تَعْمَلُونَ". "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ" [الأعراف:157]. "آصارهم". "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ" [المائدة: 6]. "وأَرجُلِكُم". "وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ" [البقرة: 222]."حتى يَطْهُرْنَ". "وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا" [البقرة:229]."إِلاَّ أَن يَخَافَا". "أّ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء" [المائدة: 6]. "أو لَمَسْتُم". ومعلوم أن هذا بدعة مكروهة قبيحة.
الثالث: أن الأذكار المشروعة أيضاً لو لفق الرجل له تشهدا من التشهدات المأثورة فجمع بين حديث ابن مسعود، و... وصلواته، وبين زاكيات تشهد عمر، ومباركات ابن عباس، بحيث يقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، والمباركات، والزاكيات، لم يشرع له ذلك، ولم يستحب، فغيره أولى بعدم الاستحباب.
ج/ 24 ص -245-الرابع: أن هذا إنما يفعله من ذهب إلى كثرة الحروف والألفاظ. وقد ينقص المعنى، أو يتغير بذلك، ولو تدبر القول لعلم أن كل واحد من المأثور يحصل المقصود، وإن كان بعضها يحصله أكمل، فإنه إذا قال: ظلما كثيرا، فمتى كثر فهو كبير في المعنى، ومتى كبر، فهو كثير في المعنى.
وإذا قال: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد"، أو قال: "اللهم صل على محمد، وأزواجه وذريته"، فأزواجه وذريته من آله بلا شك، أو هم آله. فإذا جمع بينهما وقال: "على آل محمد، وعلى أزواجه وذريته"، لم يكن قد تدبر المشروع. فالحاصل أن أحد الذكرين إن وافق الآخر في أصل المعنى، كان كالقراءتين اللتين معناهما واحد، وإن كان المعنى متنوعا، كان كالقراءتين المتنوعتي المعنى. وعلى التقديرين، فالجمع بينهما في وقت واحد لا يشرع.
وأما الجمع في صلوات الخوف، أو التشهدات، أو الإقامة أو نحو ذلك بين نوعين، فمنهي عنه باتفاق المسلمين، وإذا كانت هذه العبادات القولية أو الفعلية لابد من فعلها على بعض الوجوه، كما لابد من قراءة القرآن على بعض القراءات، لم يجب أن يكون كل من فعل ذلك على بعض الوجوه إنما يفعله على الوجه الأفضل عنده، أو قد لا يكون
ج/ 24 ص -246-فيها أفضل. وإنما ذلك بمنزلة الطرق إلى مكة، فكل أهل ناحية يحجون من طريقهم، وليس اختيارهم لطريقهم؛ لأنها أفضل، بحيث يكون حجهم أفضل من حج غيرهم، بل لأنه لابد من طريق يسلكونها، فسلكوا هذه إما ليسرها عليهم، وإما لغير ذلك، وإن كان الجميع سواء، فينبغي أن يفرق بين اختيار بعض الوجوه المشروعة لفضله في نفسه عند مختاره، وبين كون اختيار واحد منها ضروري. والمرجح له عنده سهولته عليه، أو غير ذلك.
والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي ويدعو ويذكر على وجه مشروع، وأخذ ذلك الوجه عنه أصحابه، وأهل بقعته، وقد تكون تلك الوجوه سواء، وقد يكون بعضها أفضل، فجاء في الخلف من يريد أن يجعل اختياره لما اختاره لفضله، فجاء الآخر فعارضه في ذلك، ونشأ من ذلك أهواء مردية مضلة،فقد يكون النوعان سواء عند الله ورسوله فتري كل طائفة طريقها أفضل،وتحب من يوافقها على ذلك، وتعرض عمن يفعل ذلك الآخر، فيفضلون ما سوي الله بينه، ويسوون ما فضل الله بينه، وهذا باب من أبواب التفرق والاختلاف الذي دخل على الأمة.وقد نهى عنه الكتاب والسنة،وقد نهى النبي ﷺ عن عين هذا الاختلاف في الحديث الصحيح،كما قررت مثل ذلك في [الصراط المستقيم]،حيث قال: "اقرؤوا كما علمتم".
ج/ 24 ص -247-فالواجب أن هذه الأنواع لا يفضل بعضها على بعض إلا بدليل شرعي،لا يجعل نفس تعيين واحد منها لضرورة أداء العبادة موجبا لرجحانه؛فإن الله إذا أوجب على عتق رقبة، أو صلاة جماعة، كان من ضرورة ذلك، أن أعتق رقبة وأصلى جماعة،ولا يجب أن تكون أفضل من غيرها،بل قد لا تكون أفضل بحال،فلابد من نظر في الفضل، ثم إذا فرض أن الدليل الشرعي يوجب الرجحان، لم يعب على من فعل الجائز، ولا ينفر عنه لأجل ذلك، ولا يزاد الفضل على مقدار ما فضلته الشريعة، فقد يكون الرجحان يسيرا.
لكن هنا مسألة تابعة، وهو أنه مع التساوي أو الفضل، أيما أفضل للإنسان: المداومة على نوع واحد من ذلك، أو أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، كما كان النبي ﷺ يفعل؟ فمن الناس من يداوم على نوع من ذلك مختارا له، أو معتقدا أنه أفضل، ويري أن مداومته على ذلك النوع أفضل. وأما أكثرهم فمداومته عادة، ومراعاة لعادة أصحابه وأهل طريقته، لا لاعتقاد الفضل.
والصواب أن يقال: التنوع في ذلك متابعة للنبي ﷺ. فإن في هذا اتباعا للسنة والجماعة، وإحياء لسنته، وجمعا بين قلوب الأمة، وأخذاً بما في كل واحد من الخاصة، أفضل من المداومة على نوع معين، لم يداوم عليه النبي ﷺ لوجوه:
ج/ 24 ص -248-أحدها: أن هذا هو اتباع السنة والشريعة، فإن النبي ﷺ إذا كان قد فعل هذا تارة، وهذا تارة، ولم يداوم على أحدهما، كان موافقته في ذلك هو التأسي والاتباع المشروع، وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذي فعل؛ لأنه فعله.
الثاني: أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق والاختلاف والأهواء بينها، وهذه مصلحة عظيمة، ودفع مفسدة عظيمة، ندب الكتاب والسنة إلى جلب هذه، ودرء هذه، قال الله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ" [آل عمران: 103]، وقال تعالى: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ" [آل عمران:105]. وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ" [الأنعام: 159].
الثالث: أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن أن يشبه بالواجب، فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب. ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه، وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات؛ لأجل العادة التي جعلت الجائز كالواجب.
الرابع: أن في ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع، فإن كل نوع لابد له من خاصة، وإن كان مرجوحا، فكيف إذا كان
ج/ 24 ص -249-مساوياً، وقد قدمنا أن المرجوح يكون راجحاً في مواضع؟!
الخامس: أن في ذلك وضعا لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله، ولا أثارة من علم، فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحاً له على غيره، ترجيحاً يحب من يوافقه عليه، ولا يحب من لم يوافقه عليه، بل ربما أبغضه، بحيث ينكر عليه تركه له، ويكون ذلك سبباً لترك حقوق له وعليه، يوجب أن ذلك يصير إصراً عليه، لا يمكنه تركه، وغلا في عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به، وقد يوقعه في بعض ما نهي عنه.
وهذا القدر الذي قد ذكرته واقع كثيراً، فإن مبدأ المداومة على ذلك يورث اعتقادا ومحبة غير مشروعين، ثم يخرج إلى المدح والذم، والأمر والنهي، بغير حق، ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة والمعاداة غير المشروعين، من جنس أخلاق الجاهلية كأخلاق الأوس والخزرج في الجاهلية، وأخلاق...
ثم يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع، فيبذل ماله على ذلك عطية ودفعاً، وغير ذلك من غير استحقاق شرعي، ويمنع من أمر الشارع
ج/ 24 ص -250-بإعطائه إيجابا أو استحبابا، ثم يخرج من ذلك إلى الحرب والقتال، كما وقع في بعض أرض المشرق، ومبدأ ذلك تفضيل ما لم تفضله الشريعة والمداومة عليه، وإن لم يعتقد فضله سبب لاتخاذه فاضلا اعتقاداً وإرادة فتكون المداومة على ذلك إما منهيا عنها، وإما مفضولة. والتنوع في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول ﷺ أفضل وأكمل.
السادس: أن في المداومة على نوع دون غيره، هجران لبعض المشروع وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه، حتى يعتقد أنه ليس من الدين، بحيث يصير في نفوس كثير من العامة أنه ليس من الدين، وفي نفوس خاصة هذه العامة عملهم مخالف علمهم، فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون بيان ذلك إما خشية من الخلق، وإما اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا من الرئاسة والمال، كما كان عليه أهل الكتاب، كما قد رأينا من تعود ألا يسمع إقامة إلا موترة، أو مشفوعة، فإذا سمع الإقامة الأخري، نفر عنها وأنكرها، ويصير كأنه سمع أذاناً ليس أذان المسلمين، وكذلك من اعتاد القنوت قبل الركوع أو بعده.
وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة والبغضاء بين الأمة. قال الله تعالى: "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَي أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" [المائدة:14].
ج/ 24 ص -251-فأخبر سبحانه أن نسيانهم حظا مما ذكروا به سبب لإغراء العداوة والبغضاء بينهم. فإذا اتبع الرجل جميع المشروع المسنون، واستعمل الأنواع المشروعة، هذا تارة، وهذا تارة، كان قد حفظت السنة علما وعملاً، وزالت المفسدة المخوفة من ترك ذلك.
ونكتة هذا الوجه: أنه وإن جاز الاقتصار على فعل نوع، لكن حفظ النوع الآخر من الدين ليعلم أنه جائز مشروع، وفي العمل به تارة حفظ للشريعة، وترك ذلك قد يكون سببا لإضاعته ونسيانه.
السابع: أن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل: التسوية بين المتماثلين، وحرم الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، ومن أعظم العدل العدل في الأمور الدينية، فإن العدل في أمر الدنيا من الدماء والأموال كالقصاص والمواريث، وإن كان واجباً وتركه ظلم، فالعدل في أمر الدين أعظم منه، وهو العدل بين شرائع الدين، وبين أهله.
فإذا كان الشارع قد سوي بين عملين أو عاملين، كان تفضيل أحدهما من الظلم العظيم، وإذا فضل بينهما، كانت التسوية كذلك، والتفضيل أو التسوية بالظن وهوي النفوس من جنس دين الكفار، فإن جميع أهل الملل والنحل يفضل أحدهم دينه إما ظنا، وإما هوي، إما اعتقاداً، وإما اقتصاداً، وهو سبب التمسك به وذم غيره.
ج/ 24 ص -252-فإذا كان رسول الله ﷺ قد شرع تلك الأنواع إما بقوله، وإما بعمله، وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض، كانت التسوية بينها من العدل والتفضيل من الظلم، وكثير مما تتنازع الطوائف من الأمة في تفاضل أنواعه، لا يكون بينها تفاضل، بل هي متساوية. وقد يكون ما يختص به أحدهما مقاوماً لما يختص به الآخر، ثم تجد أحدهم يسأل: أيما أفضل هذا أو هذا؟ وهي مسألة فاسدة، فإن السؤال عن التعيين فرع ثبوت الأصل، فمن قال إن بينهما تفاضلا حتى نطلب عين الفاضل؟!
والواجب أن يقال: هذان متماثلان، أو متفاضلان، وإن كانا متفاضلين: فهل التفاضل مطلقا، أو فيه تفصيل بحيث يكون هذا أفضل في وقت، وهذا أفضل في وقت؟ ثم إذا كانت المسألة كما تري، فغالب الأجوبة صادرة عن هوي وظنون كاذبة خاطئة، ومن أكبر أسباب ذلك المداومة على ما لم تشرع المداومة عليه. والله أعلم.
ج/ 24 ص -253-وسئل رحمه الله تعالى: هل التهنئة في العيد وما يجري على ألسنة الناس: [عيدك مبارك] وما أشبهه، هل له أصل في الشريعة أم لا؟ وإذا كان له أصل في الشريعة، فما الذي يقال؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: تقبل الله منا ومنكم، وأحاله الله عليك، ونحو ذلك. فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ورخص فيه الأئمة، كأحمد وغيره.
لكن قال أحمد: أنا لا أبتدئ أحداً، فإن ابتدأني أحد، أجبته. وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة، فليس سنة مأمورا بها، ولا هو أيضاً مما نهى عنه، فمن فعله، فله قدوة، ومن تركه، فله قدوة. والله أعلم.