أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب صلاة الجماعة

    ج/ 23 ص -222-باب صلاة الجماعة
    سئل رَحمه الله عن صلاة الجماعة هل هي فرض عين أم فرض كفاية، أم سنة‏؟‏ فإن كانت فرض عين وصلى وحده من غير عذر‏.‏ فهل تصح صلاته أم لا‏؟‏ وما أقوال العلماء في ذلك‏؟‏ وما حجة كل منهم‏؟‏ وما الراجح من أقوالهم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين‏.‏ اتفق العلماء على أنها من أوكد العبادات، وأجل الطاعات، وأعظم شعائر الإسلام، وعلى ما ثبت في فضلها عن النبي ﷺ حيث قال‏
    :‏ ‏"‏تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة‏"‏، هكذا في حديث أبي هريرة‏.‏ وأبي سعيد‏:‏ ‏"‏بخمس وعشرين‏"‏، ومن حديث ابن عمر‏:‏ ‏"‏بسبع وعشرين‏"‏، والثلاثة في الصحيح‏.‏
    وقد جمع بينهما‏:‏بأن حديث الخمس والعشرين، ذكر فيه الفضل

    ج/ 23 ص -223-الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة، والفضل خمس وعشرون، وحديث السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفرداً وصلاته في الجماعة والفضل بينهما، فصار المجموع سبعاً وعشرين، ومن ظن من المتنسكة أن صلاته وحده أفضل، إما في خلوته، وإما في غير خلوته، فهو مخطئ ضال‏.‏ وأضل منه من لم ير الجماعة إلا خلف الإمام المعصوم، فعطل المساجد عن الجمع والجماعات التي أمر اللّه بها ورسوله، وعمر المساجد بالبدع والضلالات التي نهي اللّه عنها ورسوله، وصار مشابهاً لمن نهي عن عبادة الرحمن، وأمر بعبادة الأوثان‏.‏
    فإن اللّه سبحانه شرع الصلاة وغيرها في المساجد‏.‏ كما قال تعالى‏:‏‏
    "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏"مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏17، 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ‏"‏ الآية ‏[‏النور‏:‏36،37‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏"‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏،

    ج/ 23 ص -224- وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏
    وأما مشاهد القبور ونحوها، فقد اتفق أئمة المسلمين على أنه ليس من دين الإسلام أن تخص بصلاة أو دعاء، أو غير ذلك‏.‏ ومن ظن أن الصلاة والدعاء والذكر فيها أفضل منه في المساجد، فقد كفر‏.‏ بل قد تواترت السنن في النهي عن اتخاذها لذلك‏.‏ كما ثبت في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏"‏لعن اللّه إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏ يحذر ما فعلوا‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً‏.‏ وفي الصحيحين أيضاً أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الحسن والتصاوير، فقال‏:‏ ‏"‏أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة‏"‏‏.‏ وثبت عنه في صحيح مسلم من حديث جُنْدُب أنه قال‏:‏ قبل أن يموت بخمس‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏وفي المسند عنه‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد‏"‏‏.‏ وفي موطأ مالك عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏اللهم، لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تتخذوا

    ج/ 23 ص -225- قبري عيداً، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏"‏‏.‏
    والمقصود هنا أن أئمة المسلمين متفقون على أن إقامة الصلوات الخمس في المساجد هي من أعظم العبادات، وأجل القربات، ومن فضل تركها عليها إيثاراً للخلوة والانفراد على الصلوات الخمس في الجماعات، أو جعل الدعاء والصلاة في المشاهد أفضل من ذلك في المساجد، فقد انخلع من ربقة الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين‏.‏ ‏
    "وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏115‏]‏‏.‏ ولكن تنازع العلماء بعد ذلك في كونها واجبة على الأعيان، أو على الكفاية، أو سنة مؤكدة، على ثلاثة أقوال‏:‏
    فقيل‏
    :‏ هي سنة مؤكدة فقط، وهذا هو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة، وأكثر أصحاب مالك، وكثير من أصحاب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد‏.‏
    وقيل‏:‏ هي واجبة على الكفاية، وهذا هو المرجح في مذهب الشافعي، وقول بعض أصحاب مالك، وقول في مذهب أحمد‏.‏
    وقيل‏:‏ هي واجبة على الأعيان، وهذا هو المنصوص عن أحمد

    ج/ 23 ص -226- وغيره، من أئمة السلف، وفقهاء الحديث، وغيرهم‏.‏ وهؤلاء تنازعوا فيما إذا صلى منفرداً لغير عذر، هل تصح صلاته‏؟‏ على قولين‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا تصح، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد، ذكره القاضي أبو يعلى، في شرح المذهب عنهم، وبعض متأخريهم كابن عقيل، وهو قول طائفة من السلف، واختاره ابن حزم وغيره‏.‏
    والثاني‏:‏ تصح مع إثمه بالترك، وهذا هو المأثور عن أحمد، وقول أكثر أصحابه‏.‏
    والذين نفوا الوجوب احتجوا بتفضيل النبي ﷺ‏:‏ صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده‏.‏ قالوا‏:‏ ولو كانت واجبة لم تصح صلاة المنفرد، ولم يكن هناك تفضيل، وحملوا ما جاء من هم النبي ﷺ بالتحريق على من ترك الجمعة، أو على المنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة مع النفاق، وأن تحريقهم كان لأجل النفاق لا لأجل ترك الجماعة، مع الصلاة في البيوت‏.‏
    وأما الموجبون، فاحتجوا بالكتاب والسنة والآثار‏.‏
    أما الكتاب فقوله تعالى‏:‏
    ‏"وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏102‏]‏ وفيها دليلان‏:‏

    ج/ 23 ص -227-أحدهما‏:‏ أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في صلاة الخوف، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف، وهو يدل بطريق الأولي على وجوبها حال الأمن‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه سن صلاة الخوف جماعة، وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق، وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور، وكذلك التخلف عن متابعة الإمام، كما يتأخر الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم‏.‏ قالوا‏:‏ وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فعلت لغير عذر، فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة، وتركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب، مع أنه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدانا صلاة تامة فعلم أنها واجبة‏.‏
    وأيضا، فقوله تعالى‏:‏
    ‏"وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏، إما أن يراد به المقارنة بالفعل، وهي الصلاة جماعة‏.‏ وإما أن يراد به ما يراد بقوله‏:‏ ‏"وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 119‏]‏‏.‏ فإن أريد الثاني، لم يكن فرق بين قوله‏:‏ صلوا مع المصلين، وصوموا مع الصائمين، ‏"وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ‏"‏‏.‏ والسياق يدل على اختصاص الركوع بذلك‏.‏

    ج/ 23 ص -228- فإن قيل‏:‏ فالصلاة كلها تفعل مع الجماعة‏.‏ قيل‏:‏ خص الركوع بالذكر لأنه تدرك به الصلاة، فمن أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، فأمر بما يدرك به الركعة، كما قال لمريم‏:‏ ‏"اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏‏.‏ فإنه لو قيل‏:‏ اقنتي مع القانتين، لدل على وجوب إدراك القيام، ولو قيل‏:‏ اسجدي، لم يدل على وجوب إدراك الركوع، بخلاف قوله‏:‏‏"وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏"‏، فإنه يدل على الأمر بإدراك الركوع وما بعده دون ما قبله، وهو المطلوب‏.‏
    وأما السنة‏:‏ فالأحاديث المستفيضة في الباب، مثل حديث أبي هريرة المتفق عليه عنه ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام‏.‏ ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏"‏‏.‏ فهم بتحريق من لم يشهد الصلاة، وفي لفظ قال‏:‏ ‏"‏أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأوتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام‏"‏ الحديث‏.‏
    وفي المسند وغيره‏:‏ ‏"‏لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأمرت أن تقام الصلاة‏"‏ الحديث‏.‏ فبين ﷺ أنه هم بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة، وبين أنه إنما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية، فإنهم لا يجب عليهم شهود الصلاة، وفي تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله، وكان ذلك بمنزلة إقامة الحد على الحبلي‏.‏

    ج/ 23 ص -229- وقد قال سبحانه وتعالى ‏:‏ ‏"وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أليمًا‏"‏ ‏[‏الفتح‏:‏25‏]
    ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة، فسياق الحديث يبين ضعف قوله حيث ذكر صلاة العشاء والفجر، ثم أتبع ذلك بهمه بتحريق من لم يشهد الصلاة‏.‏
    وأما من حمل العقوبة على النفاق، لا على ترك الصلاة، فقوله ضعيف لأوجه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن النبي ﷺ ما كان يقيل المنافقين إلا على الأمور الباطنة، وإنما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب أو فعل محرم، فلولا أن في ذلك ترك واجب لما حرقهم‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة، فيجب ربط الحكم بالسبب الذي ذكره‏.‏
    الثالث‏:‏ أنه سيأتي إن شاء اللّه حديث ابن أم مكتوم حيث استأذنه أن يصلي في بيته، فلم يأذن له، وابن أم مكتوم رجل مؤمن من خيار المؤمنين، أثني عليه القرآن، وكان النبي ﷺ

    ج/ 23 ص -230-يستخلفه على المدينة، وكان يؤذن للنبي ﷺ‏.‏
    الرابع‏:‏ أن ذلك حجة على وجوبها أيضاً كما قد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال‏:‏ من سره أن يلقي اللّه غدا مسلما، فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادي بهن، فإن اللّه شرع لنبيه سنن الهدي، وإن هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادي بهن من سنن الهدي، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف‏.‏
    فقد أخبر عبد اللّه بن مسعود أنه لم يكن يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وهذا دليل على استقرار وجوبها عند المؤمنين، ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي ﷺ، إذ لو كانت عندهم مستحبة كقيام الليل، والتطوعات التي مع الفرائض، وصلاة الضحي، ونحو ذلك‏.‏ كان منهم من يفعلها، ومنهم من لا يفعلها مع إيمانه، كما قال له الأعرابي‏:‏ واللّه لا أزيد على ذلك، ولا أنقص منه‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أفلح إن صدق‏"‏‏.‏ ومعلوم أن كل أمر كان لا يتخلف عنه إلا منافق كان واجباً على الأعيان،كخروجهم إلى غزوة تبوك، فإن النبي

    ج/ 23 ص -231- ﷺ أمر المسلمين جميعاً، لم يأذن لأحد في التخلف، إلا من ذكر أن له عذراً فأذن له لأجل عذره، ثم لما رجع كشف اللّه أسرار المنافقين، وهتك أستارهم، وبين أنهم تخلفوا لغير عذر‏.‏ والذين تخلفوا لغير عذر مع الإيمان عوقبوا بالهجر، حتى هجران نسائهم لهم، حتى تاب اللّه عليهم‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فأنتم اليوم تحكمون بنفاق من تخلف عنها، وتجوزون تحريق البيوت عليه، إذا لم يكن فيها ذرية‏.‏
    قيل له‏:‏ من الأفعال ما يكون واجبًا، ولكن تأويل المتأول يسقط الحد عنه، وقد صار اليوم كثير ممن هو مؤمن لا يراها واجبة عليه، فيتركها متأولا‏.‏ وفي زمن النبي ﷺ لم يكن لأحد تأويل؛ لأن النبي ﷺ قد باشرهم بالإيجاب‏.‏
    وأيضا، كما ثبت في الصحيح والسنن‏:‏ أن أعمي استأذن النبي ﷺ أن يصلي في بيته، فأذن له، فلما ولي دعاه، فقال‏:‏
    ‏"‏هل تسمع النداء‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏فأجب‏"‏، فأمره بالإجابة إذا سمع النداء؛ ولهذا أوجب أحمد الجماعة على من سمع النداء‏.‏ وفي لفظ في السنن أن ابن أم مكتوم قال يا رسول اللّه، إني رجل شاسع الدار وإن المدينة كثيرة الهوام، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن

    ج/ 23 ص -232- أصلي في بيتي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏هل تسمع النداء‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏لا أجد لك رخصة‏"‏‏.‏ وهذا نص في الإيجاب للجماعة، مع كون الرجل مؤمناً‏.‏
    وأما احتجاجهم بتفضيل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده، فعنه جوابان مبنيان على صحة صلاة المنفرد لغير عذر، فمن صحح صلاته قال‏:‏ الجماعة واجبة، وليست شرطا في الصحة، كالوقت فإنه لو أخر العصر إلى وقت الاصفرار كان آثما، مع كون الصلاة صحيحة، بل وكذلك لو أخرها إلى أن يبقي مقدار ركعة، كما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر‏"‏‏.‏ قال‏:‏ والتفضيل لا يدل على أن المفضول جائز، فقد قال تعالى‏:
    ‏‏"إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏"‏‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، فجعل السعي إلى الجمعة خيراً من البيع، والسعي واجب والبيع حرام‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ‏"‏[‏النور‏:‏ 30‏]
    ومن قال‏:‏ لا تصح صلاة المنفرد إلا لعذر، احتج بأدلة الوجوب، قال‏:‏ وما ثبت وجوبه في الصلاة كان شرطا في الصحة، كسائر الواجبات‏.‏

    ج/ 23 ص -233- وأما الوقت فإنه لا يمكن تلافيه، فإذا فات لم يمكن فعل الصلاة فيه، فنظير ذلك فوت الجمعة، وفوت الجماعة التي لا يمكن استدراكها‏.‏ فإذا فوت الجمعة الواجبة كان آثماً، وعليه الظهر، إذ لا يمكن سوي ذلك‏.‏ وكذلك من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها، وليس هناك جماعة أخري، فإنه يصلي منفرداً وتصح صلاته هنا لعدم إمكان صلاته جماعة، كما تصح الظهر ممن تفوته الجمعة‏.‏
    وليس وجوب الجماعة بأعظم من وجوب الجمعة، وإنما الكلام فيمن صلى في بيته منفرداً لغير عذر، ثم أقيمت الجماعة، فهذا عندهم عليه أن يشهد الجماعة، كمن صلى الظهر قبل الجمعة عليه أن يشهد الجمعة‏.‏
    واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة الذي في السنن عن النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له‏"‏‏.‏ ويؤيد ذلك قوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد‏"‏، فإن هذا معروف من كلام على وعائشة، وأبي هريرة، وابن عمر، وقد رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي ﷺ، وقوي ذلك بعض الحفاظ‏.‏ قالوا‏:‏ ولا يعرف في كلام اللّه ورسوله حرف النفي دخل على فعل شرعي إلا لترك واجب فيه كقوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة إلا بأم القرآن‏"‏، و‏"‏لا إيمان لمن لا أمانة له‏"‏، ونحو ذلك‏.‏

    ج/ 23 ص -234- وأجاب هؤلاء عن حديث التفضيل‏.‏ بأن قالوا‏:‏ هو محمول على المعذور كالمريض ونحوه‏.‏ فإن هذا بمنزلة قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد‏"‏، وأن تفضيله صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده كتفضيله صلاة القائم على صلاة القاعد‏.‏ ومعلوم أن القيام واجب في صلاة الفرض دون النفل، كما أن الجماعة واجبة في صلاة الفرض دون النفل‏.‏
    وتمام الكلام في ذلك‏:‏ أن العلماء تنازعوا في هذا الحديث، وهو‏:‏ هل المراد بهما المعذور، أو غيره‏؟‏ على قولين‏:‏
    فقالت طائفة‏:‏ المراد بهما غير المعذور‏.‏ قالوا‏:‏ لأن المعذور أجره تام، بدليل ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإذا كان المريض والمسافر يكتب لهما ما كانا يعملان في الصحة، والإقامة، فكيف تكون صلاة المعذور قاعداً أو منفرداً دون صلاته في الجماعة قاعداً‏؟‏‏!‏ وحمل هؤلاء تفضيل صلاة القائم على النفل دون الفرض؛ لأن القيام في الفرض واجب‏.‏
    ومن قال هذا القول، لزمه أن يجوز تطوع الصحيح مضطجعاً؛ لأنه قد ثبت أنه قال‏:‏ ‏"‏ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم‏"‏‏.‏ وقد

    ج/ 23 ص -235- طرد هذا الدليل طائفة من متأخري أصحاب الشافعي، وأحمد، وجوزوا أن يتطوع الرجل مضطجعاً، لغير عذر؛ لأجل هذا الحديث، ولتعذر حمله على المريض، كما تقدم‏.‏
    ولكن أكثر العلماء أنكروا ذلك، وعدوه بدعة، وحدثاً في الإسلام‏.‏ وقالوا‏:‏ لا يعرف أن أحداً قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح‏.‏ ولو كان هذا مشروعا، لفعله المسلمون على عهد نبيهم ﷺ، أو بعده، ولفعله النبي ﷺ ولو مرة لتبيين الجواز‏.‏ فقد كان يتطوع قاعداً، ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، فلو كان هذا سائغا لفعله، ولو مرة‏.‏ أو لفعله أصحابه‏.‏ وهؤلاء الذين أنكروا هذا مع ظهور حجتهم قد تناقض من لم يوجب الجماعة منهم، حيث حملوا قوله‏:‏ ‏"‏تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة‏"‏ على أنه أراد غير المعذور، فيقال لهم‏:‏ لم كان التفضيل هنا في حق غير المعذور، والتفضيل هناك في حق المعذور، وهل هذا إلا تناقض‏؟‏‏!‏
    وأما من أوجب الجماعة وحمل التفضيل على المعذور، فطرد دليله، وحينئذ، فلا يكون في الحديث حجة على صحة صلاة المنفرد لغير عذر‏.‏

    ج/ 23 ص -236- وأما ما احتج به منازعهم من قوله‏:‏ ‏"‏إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم‏"‏ فجوابهم عنه‏:‏ إن هذا الحديث دليل على أنه يكتب له مثل الثواب الذي كان يكتب له في حال الصحة والإقامة؛ لأجل نيته له، وعجزه عنه بالعذر‏.‏
    وهذه قاعدة الشريعة‏:‏ أن من كان عازماً على الفعل عزماً جازماً وفعل ما يقدر عليه منه، كان بمنزلة الفاعل‏.‏ فهذا الذي كان له عمل في صحته وإقامته عزمه أنه يفعله، وقد فعل في المرض والسفر ما أمكنه، فكان بمنزلة الفاعل‏.‏ كما جاء في السنن‏:‏ فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة، وكما ثبت في الصحيح من قوله ﷺ‏:‏ ‏
    "‏إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم‏"‏، قالوا‏:‏ وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وهم بالمدينة حبسهم العذر‏"‏‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ‏"‏الآية ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏‏.‏ فهذا ومثله يبين أن المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح، إذا كانت نيته أن يفعل، وقد عمل ما يقدر عليه، وذلك لا يقتضي أن يكون نفس عمله مثل عمل الصحيح، فليس في الحديث أن صلاة المريض نفسها في الأجر مثل صلاة الصحيح، ولا أن صلاة المنفرد المعذور في نفسها مثل صلاة الرجل في الجماعة،

    ج/ 23 ص -237- وإنما فيه أن يكتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، كما يكتب له أجر صلاة الجماعة إذا فاتته مع قصده لها‏.‏
    وأيضاً، فليس كل معذور يكتب له مثل عمل الصحيح، وإنما يكتب له إذا كان يقصد عمل الصحيح، ولكن عجز عنه‏.‏ فالحديث يدل على أنه من كان عادته الصلاة في جماعة، والصلاة قائماً، ثم ترك ذلك لمرضه، فإنه يكتب له ما كان يعمل‏.‏ وهو صحيح مقيم‏.‏ وكذلك من تطوع على الراحلة في السفر، وقد كان يتطوع في الحضر قائماً، يكتب له ما كان يعمل في الإقامة‏.‏ فأما من لم تكن عادته الصلاة في جماعة، ولا الصلاة قائماً إذا مرض،
    فصلى وحده، أو صلى قاعداً، فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح‏.‏
    ومن حمل الحديث على غير المعذور يلزمه أن يجعل صلاة هذا قاعداً مثل صلاة القائم، وصلاته منفرداً مثل الصلاة في جماعة، وهذا قول باطل لم يدل عليه نص ولا قياس، ولا قاله أحد‏.‏
    وأيضاً، فيقال‏:‏ تفضيل النبي ﷺ لصلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولصلاة القائم على القاعد، والقاعد على المضطجع، إنما دل على فضل هذه الصلاة على هذه الصلاة، حيث يكون كل من الصلاتين صحيحة‏.‏

    ج/ 23 ص -238- أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك، أو لا تصح، فالحديث لم يدل عليه بنفي ولا إثبات، ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفسادها، بل وجوب القيام والقعود، وسقوط ذلك، ووجوب الجماعة وسقوطها يتلقي من أدلة أخر‏.‏ وكذلك أيضاً ‏:‏ كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث، بل يتلقي من أحاديث أخر، وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم، لا لكل أحد‏.‏
    وتثبت نصوص أخر وجوب القيام في الفرض، كقوله ﷺ لعمران بن حصين‏:‏
    ‏"‏صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏‏.‏ وبين جواز التطوع قاعداً لما رآهم وهم يصلون قعوداً، فأقرهم على ذلك، وكان يصلي قاعداً مع كونه كان يتطوع على الراحلة في السفر‏.‏ كذلك تثبت نصوص أخر وجوب الجماعة فيعطي كل حديث حقه، فليس بينها تعارض ولا تناف، وإنما يظن التعارض والتنافي من حملها ما لا تدل عليه، ولم يعطها حقها بسوء نظره وتأويله‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -239-وسئل شَيخ الإسْلام رحمه اللّه عن مسائل يكثر وقوعها، ويحصل الابتلاء بها، والضيق والحرج على رأي إمام بعينه‏.‏ منها‏:‏ ‏[‏مسألة الجماعة للصلاة‏]‏ هل هي واجبة أم سنة‏؟‏ وإذا قلنا‏:‏ واجبة، هل تصح الصلاة بدونها مع القدرة عليها ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    وأما الجماعة فقد قيل‏:‏ إنها سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها واجبة على الكفاية وقيل‏:‏ إنها واجبة على الأعيان‏.‏ وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، فإن اللّه أمر بها في حال الخوف، ففي حال الأمن أولي، وآكد‏.‏
    وأيضاً، فقد قال
    تعالى‏"وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏، وهذا أمر بها‏.‏
    وأيضاً، فقد ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم سأل النبي ﷺ أن يرخص له أن يصلي في بيته، فقال‏:‏
    ‏"‏هل تسمع النداء‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فأجب‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏ما أجد لك رخصة‏"‏‏.‏ وابن أم مكتوم كان رجلا صالحاً، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏

    ج/ 23 ص -240- "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى‏"‏[‏عبس‏:‏1،2‏]‏، وكان من المهاجرين، ولم يكن من المهاجرين من يتخلف عنها إلا منافق، فعلم أنه لا رخصة لمؤمن في تركها‏.‏
    وأيضاً، فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال‏:‏ ‏"‏لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏لولا ما في البيوت من النساء والذرية‏"‏‏.‏ فبين أنه إنما يمنعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة من في البيوت من النساء والأطفال، فإن تعذيب أولئك لا يجوز؛ لأنه لا جماعة عليهم‏.‏
    ومن قال‏:‏ إن هذا كان في الجمعة، أو كان لأجل نفاقهم، فقوله ضعيف‏.‏ فإن المنافقين لم يكن النبي ﷺ يقتلهم لأجل النفاق، بل لا يعاقبهم إلا بذنب ظاهر‏.‏ فلولا أن التخلف عن الجماعة ذنب يستحق صاحبه العقاب، لما عاقبهم‏.‏ والحديث قد بين فيه التخلف عن صلاة العشاء والفجر‏.‏ وقد تقدم حديث ابن أم مكتوم، وأنه لم يرخص له في التخلف عن الجماعة‏.‏
    وأيضاً، فإن الجماعة يترك لها أكثر واجبات الصلاة في صلاة الخوف وغيرها، فلولا وجوبها لم يؤمر بترك بعض الواجبات لها؛ لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب‏.

    ج/ 23 ص -241-فصل
    وإذا ترك الجماعة من غير عذر، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره‏:‏
    أحدهما‏:‏ تصح صلاته؛ لقول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة‏"‏‏.‏
    والثاني‏:‏ لا تصح، لما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له‏"‏‏.‏ ولقوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد‏"‏، وقد قواه عبد الحق الإشبيلي‏.‏
    وأيضًا، فإذا كانت واجبة، فمن ترك واجبًا في الصلاة، لم تصح صلاته‏.‏
    وحديث التفضيل محمول على حال العذر‏.‏ كما في قوله‏:‏ ‏"‏صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة

    ج/ 23 ص -242- القاعد‏"‏‏.‏ وهذا عام في الفرض والنفل‏.‏
    والإنسان ليس له أن يصلي الفرض قاعدًا أو نائمًا، إلا في حال العذر، وليس له أن يتطوع نائمًا عند جماهير السلف، والخلف، إلا وجهًا في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏
    ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعًا بدعة، لم يفعلها أحد من السلف، وقوله ﷺ‏:‏
    ‏"‏إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم‏"‏، يدل على أنه يكتب له لأجل نيته، وإن كان لا يعمل عادته قبل المرض والسفر فهذا يقتضي أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها، كتب له أجر الجماعة‏.‏ وإن لم يكن يعتادها، لم يكن يكتب له‏.‏ وإن كان في الحالين إن ما له بنفس الفعل صلاة منفرد‏.‏ وكذلك المريض إذا صلى قاعدًا أو مضطجعًا‏.‏ وعلى هذا القول، فإذا صلى الرجل وحده وأمكنه أن يصلي بعد ذلك في جماعة فعل ذلك، وإن لم يمكنه فعل الجماعة، استغفر الله، كمن فاتته الجمعة وصلي ظهرًا، وإن قصد الرجل الجماعة ووجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى في الجماعة، كما وردت به السنة عن النبي ﷺ‏.‏
    وإذا أدرك مع الإمام ركعة، فقد أدرك الجماعة، وإن أدرك أقل

    ج/ 23 ص -243- من ركعة، فله بنيته أجر الجماعة، ولكن هل يكون مدركًا للجماعة أو يكون بمنزلة من صلى وحده‏؟‏ فيه قولان للعلماء في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏
    أحدهما‏:‏ أنه يكون كمن صلى في جماعة، كقول أبي حنيفة‏.‏
    والثاني‏:‏ يكون كمن صلى منفردًا، كقول مالك، وهذا أصح، لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة‏"‏، ولهذا قال الشافعي وأحمد ومالك وجمهور العلماء‏:‏ إنه لا يكون مدركًا للجمعة إلا بإدراك ركعة من الصلاة، ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون‏:‏ إنه يكون مدركًا لها إذا أدركهم في التشهد‏.‏
    ومن فوائد النزاع في ذلك‏:‏ أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة إذا أدرك ركعة، فإن أدرك أقل من ركعة فعلى القولين المتقدمين‏.‏
    والصحيح أنه لا يكون مدركًا للجمعة ولا للجماعة إلا بإدراك ركعة، وما دون ذلك لا يعتد له به، وإنما يفعله متابعة للإمام، ولو بعد السلام، كالمنفرد باتفاق الأئمة‏.‏

    ج/ 23 ص -244- وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    فصل
    فأما صلاة الجماعة، فاتبع ما دل عليه الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة من وجوبها، مع عدم العذر، وسقوطها بالعذر‏.‏
    وتقديم الأئمة بما قدم به النبي ﷺ حيث قال‏:‏
    ‏"‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله‏.‏ فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة‏"‏‏.‏ فيفرق بين العلم بالكتاب، أو العلم بالسنة، كما دل عليه الحديث‏.‏ وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع،وفعلها على السنة، وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه‏.‏ فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما، قدم الأقرأ، ثم الأعلم بالسنة، وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامها، وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك‏.‏

    ج/ 23 ص -245- وغيره قد يقول هي سنة مؤكدة‏.‏ وقد يقول هي فرض على الكفاية‏.‏
    ولهم في تقديم الأئمة خلاف، ويأمرهم بإقامة الصفوف فيها، كما أمر به النبي ﷺ من سننها الخمس‏:‏ وهي تقويم الصفوف، ورصها، وتقاربها، وسد الأول فالأول، وتوسيط الإمام حتى ينهيىعما نهى عنه النبي ﷺ من صلاة المنفرد خلف الصف، ويأمره بالإعادة، كما أمر به النبي ﷺ في حديثين ثابتين عنه‏.‏ فإنه أمر المنفرد خلف الصف بالإعادة، كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة، وكما أمر المسيء في وضوئه الذي ترك موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة، فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة، والاصطفاف في الصلاة، والإتيان بأركانها‏.‏
    والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي، منهم من لم يبلغه، أو لم يثبت عنده‏.‏ والشافعي رآه معارضًا بكون الإمام يصلي وحده، وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم، وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف‏.‏
    وأما أحمد، فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين، فإنه يستعمل كل حديث على وجهه، ولا يرد أحدهما

    ج/ 23 ص -246- بالآخر‏.‏ فيقول في مثل هذه‏:‏ المرأة إذا كانت مع النساء، صلت بينهن‏.‏ وأما إذا كانت مع الرجال، لم تصل إلا خلفهم‏.‏ وإن كانت وحدها؛ لأنها منهية عن مصافة الرجال، فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم، كما أنها إذا صلت بالنساء، صلت بينهن؛ لأنه أستر لها، كما يصلي إمام العراة بينهم‏.‏ وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أمَّ أن يتقدم بين يدي الصف‏.‏
    ونقول‏:‏ إن الإمام لا يشبه المأموم، فإن سنته التقدم لا المصافة، وسنة المؤتمين الاصطفاف‏.‏ نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة، وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا منفردًا، فهذا قياس قول أحمد وغيره، ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار، فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها، فسقط بالعجز في الجماعة، كما يسقط غيره فيها، وفي متن الصلاة‏.‏
    ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما، مع استدبار القبلة، والعمل الكثير، ومفارقة الإمام، ومع ترك المريض القيام أولى من أن يصلوا وحدانًا؛ ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على الإمام عند الحاجة، كحال الزحام ونحوه، وإن كان لا يجوز لغير حاجة، وقد روي في بعض صفات صلاة الخوف‏.‏
    ولهذا سقط عنده وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من

    ج/ 23 ص -247- عدل الإمام، وحل البقعة، ونحو ذلك للحاجة، فجوزوا، بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين، وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضي ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة، أو إلى فتنة في الأمة، ونحو ذلك‏.‏ كما جاء في حديث جابر‏:‏ ‏"‏لا يؤمَّن فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه، أو سوطه‏"‏؛ لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبًا، فيسقط بالعذر، كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر‏.‏
    ومن اهتدي لهذا الأصل‏.‏ وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر، فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها، فقد هدي لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسًا، كما قد يبتلي به بعضهم، وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه‏.‏ وإن كان ذلك الأوكد مقدورًا عليه، كما قد يبتلي به آخرون، فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين‏.‏
    وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم، التي هي أصل ‏[‏مسألة الإمامة‏]‏ بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة، ولهذا كان أحمد في المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقول‏:‏ يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل للحاجة، كما في صلاة الخوف‏.‏ وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في

    ج/ 23 ص -248- حديث عمرو بن سلمة، ومعاذ، ونحو ذلك‏.‏ وإن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدي الروايتين عنه‏.‏ فأما إذا جوزه مطلقًا، فلا كلام‏.‏ وإن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال، فصارت الأقوال في مذهبه وغير مذهبه ثلاثة‏.‏ والمنع مطلقًا هو المشهور عن أبي حنيفة ومالك، كما أن الجواز مطلقًا هو قول الشافعي‏.‏
    ويشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام، فعنه ثلاث روايات‏:‏
    أوسطها‏:‏ جواز ذلك للحاجة، كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف، وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة، لما شق عليه طول الصلاة‏.‏
    والثانية‏:‏ المنع مطلقًا، كقول أبي حنيفة‏.‏
    والثالثة‏:‏ الجواز مطلقًا،كقول الشافعي؛ ولهذا جوز أحمد على المشهور عنه أن تؤم المرأة الرجال لحاجة، مثل أن تكون قارئة، وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح، كما أذن النبي ﷺ لأم ورقة أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنًا وتتأخر خلفهم، وإن كانوا مأمومين بها للحاجة، وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة‏.‏ هذا مع ما روي عنه ﷺ من قوله‏:‏
    ‏"‏لا تؤمن امرأة

    ج/ 23 ص -249- رجلاً‏"‏. وأن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء‏.‏
    ولهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي ﷺ من قوله في الإمام‏:‏
    ‏"‏إذا صلى جالسًا
    فصلوا جلوسًا أجمعون‏"
    ‏، وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض، فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي ﷺ من مخالفة الإمام، والتشبه بالأعاجم في القيام له‏.‏ وكذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودًا، والناس خلفهم قعود، كأسيد بن الحضير‏.‏ ولكن كره هذا لغير الإمام الراتب؛ إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام به‏.‏ ولهذا كرهه أيضًا إذا مرض الإمام الراتب مرضًا مزمنًا؛ لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الإمامة، ولم ير هذا منسوخًا بكونه في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدًا وهم قيام، لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما فعله، ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته، مع شهودهم لفعله‏.‏
    فيفرق بين القعود من أول الصلاة، والقعود في أثنائها، إذ يجوز الأمران جميعًا‏.‏ إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال، مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه‏.‏
    وإنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة،

    ج/ 23 ص -250-التي دل عليها قوله تعالى‏:‏ ‏"فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏"‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏، وأنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما، وسقط الآخر بالوجه الشرعي، والتنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء رضي الله عنهم‏.‏
    وسئل عن أقوام يسمعون الداعي ولم يجيبوا‏؟‏ وفيهم من يصلي في بيته، وفيهم من لا تراه يصلي، ويراه جماعة من الناس، ولا يرونه بالصلاة، وحاله لم ترض الله ولا رسوله من جهة الصلاة وغيرها‏.‏ فهل يجوز لمن يراه في هذه الحالة أن يولي عنه أو يسلم عليه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
    وأيضًا، هل يجوز لرجل إذا كان إمامًا في المسجد الذي هو فيه لم يصل فيه إلا نفران أو ثلاثة في بعض الأيام هو يصلي فيه احتسابًا‏؟‏ وأيضًا، إن كان يصلي فيه بأجرة لا ما يطلب الصلاة في غيره إلا لأجل فضل الجماعة، وهل يجوز ذلك‏؟‏ أفتونا يرحمكم الله‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الصلاة في الجماعات التي تقام في المساجد من شعائر الإسلام الظاهرة، وسنته الهادية‏.‏ كما في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إن هذه الصلوات الخمس في المسجد الذي تقام فيه الصلاة

    ج/ 23 ص -251- من سنن الهدي، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدي، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجال حتى يقام في الصف‏.‏
    وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ أتي النبي ﷺ رجل أعمي، فقال‏:‏ يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد‏.‏ فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولي دعاه فقال‏:‏ ‏"‏أتسمع النداء بالصلاة‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏أجب‏"‏، وفي رواية في السنن‏:‏ قال‏:‏ ‏"‏أتسمع النداء‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏لا أجد لك رخصة‏"‏‏.‏
    وفي السنن عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر‏"‏، قالوا‏:‏ ما العذر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلي‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
    وصلاة الجماعة من الأمور المؤكدة في الدين باتفاق المسلمين‏.‏

    ج/ 23 ص -252- وهي فرض على الأعيان عند أكثر السلف، وأئمة أهل الحديث، كأحمد وإسحاق، وغيرهما، وطائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وهي فرض على الكفاية عند طوائف من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وهو المرجح عند أصحاب الشافعي‏.‏
    والمصر على ترك الصلاة في الجماعة، رجل سوء ينكر عليه ويزجر على ذلك، بل يعاقب عليه، وترد شهادته‏.‏ وإن قيل‏:‏ إنها سنة مؤكدة‏.‏ وأما من كان معروفًا بالفسق مضيعًا للصلاة، فهذا داخل في قوله‏:‏ ‏
    "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏، ويجب عقوبته على ذلك بما يدعوه إلى ترك المحرمات وفعل الواجبات‏.‏
    ومن كان إمامًا راتبًا في مسجد، فصلاته فيه إذا لم تقم الجماعة إلا به أفضل من صلاته في غيره، وإن كان أكثر جماعة‏.‏
    ومن عرف منه التظاهر بترك الواجبات، أو فعل المحرمات، فإنه يستحق أن يهجر، ولا يسلم عليه تعزيرًا له على ذلك، حتى يتوب‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -253-وسئل عن رجل يقتدى به في ترك صلاة الجماعة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    من اعتقد أن الصلاة في بيته أفضل من صلاة الجماعة في مساجد المسلمين، فهو ضال مبتدع باتفاق المسلمين؛ فإن صلاة الجماعة إما فرض على الأعيان، وإما فرض على الكفاية‏.‏
    والأدلة من الكتاب والسنة أنها واجبة على الأعيان، ومن قال‏:‏ إنها سنة مؤكدة، ولم يوجبها، فإنه يذم من داوم على تركها، حتى أن من داوم على ترك السنن التي هي دون الجماعة، سقطت عدالته عندهم، ولم تقبل شهادته، فكيف بمن يداوم على ترك الجماعة‏؟‏ فإنه يؤمر بها باتفاق المسلمين، ويلام على تركها، فلا يمكن من حكم ولا شهادة ولا فتيا مع إصراره على ترك السنن الراتبة، التي هي دون الجماعة، فكيف بالجماعة التي هي أعظم شعائر الإسلام‏؟‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -254-وسئل عن رجل جار للمسجد، ولم يحضر مع الجماعة الصلاة ويحتج بدكانه‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد الله‏.‏ يؤمر بالصلاة مع المسلمين، فإن كان لا يصلي، فإنه يستتاب‏.‏ فإن تاب، وإلا قتل‏.‏ وإذا ظهر منه الإهمال للصلاة لم يقبل قوله‏:‏ إذا فرغت صليت، بل من ظهر كذبه لم يقبل قوله، ويلزم بما أمر الله به ورسوله‏.‏
    وسئل عن رجلين تنازعا في ‏[‏صلاة الفذ‏]‏ فقال أحدهما‏:‏ قال ﷺ‏
    :‏ ‏"‏صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين‏"‏، وقال الآخر‏:‏ متي كانت الجماعة في غير مسجد، فهي كصلاة الفذ‏.‏
    فأجاب‏:‏
    ليست الجماعة كصلاة الفذ، بل الجماعة أفضل ولو كانت في غير المسجد، لكن تنازع العلماء فيمن صلى جماعة في بيته، هل

    ج/ 23 ص -255- يسقط عنه حضور الجماعة في المسجد، أم لابد من حضور الجماعة في المسجد‏؟‏ والذي ينبغي له ألا يترك حضور الجماعة في المسجد إلا لعذر كما دلت على ذلك السنن والآثار‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أدرك آخر جماعة، وبعد هذه الجماعة جماعة أخري، فهل يستحب له متابعة هؤلاء في آخر الصلاة‏؟‏ أو ينتظر الجماعة الأخري‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا أدرك أقل من ركعة، فهذا مبني على أنه هل يكون مدركًا للجماعة بأقل من ركعة، أم لابد من إدراك ركعة‏؟‏ فمذهب أبي حنيفة‏:‏ أنه يكون مدركًا، وطرد قياسه في ذلك حتى قال في الجمعة‏:‏ يكون مدركًا لها بإدراك القعدة فيتمها جمعة‏.‏ ومذهب مالك‏:‏ أنه لا يكون مدركًا إلا بإدراك ركعة، وطرد المسألة في ذلك حتى فيمن أدرك من آخر الوقت‏.‏ فإن المواضع التي تذكر فيها هذهالمسألةأنواع‏:‏
    أحدها‏:‏ الجمعة‏.‏
    والثاني‏:‏ فضل الجماعة‏.‏

    ج/ 23 ص -256-والثالث‏:‏ إدراك المسافر من صلاة المقيم‏.‏
    والرابع‏:‏ إدراك بعض الصلاة قبل خروج الوقت، كإدراك بعض الفجر قبل طلوع الشمس‏.‏
    والخامس‏:‏ إدراك آخر الوقت، كالحائض تطهر، والمجنون يفيق، والكافر يسلم في آخر الوقت‏.‏
    والسادس‏:‏ إدراك ذلك من أول الوقت عند من يقول إن الوجوب بذلك، فإن في هذا الأصل السادس نزاعًا‏.‏ وأما مذهب الشافعي وأحمد فقالا في الجمعة بقول مالك؛ لاتفاق الصحابة على ذلك، فإنهم قالوا فيمن أدرك من الجمعة ركعة‏:‏ يصلي إليها أخري، ومن أدركهم في التشهد صلى أربعاً‏.‏
    وأما سائر المسائل، ففيها نزاع في مذهب الشافعي وأحمد، وهما قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد، وكثير من أصحابهما يرجح قول أبي حنيفة‏.‏
    والأظهر هو مذهب مالك، كما ذكره الخِرْقي في بعض الصور، وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك

    ج/ 23 ص -257- الصلاة‏"‏‏.‏ فهذا نص عام في جميع صور إدراك ركعة من الصلاة، سواء كان إدراك جماعة أو إدراك الوقت‏.‏ وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر‏"‏‏.‏ وهذا نص في ركعة في الوقت‏.‏
    وقد عارض هذا بعضهم بأن في بعض الطرق‏:‏ ‏"‏من أدرك سجدة‏"‏، وظنوا أن هذا يتناول ما إذا أدرك السجدة الأولى، وهذا باطل‏.‏ فإن المراد بالسجدة الركعة، كما في حديث ابن عمر‏:‏ حفظت عن رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها وسجدتين بعد المغرب‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره‏.‏ وفي اللفظ المشهور‏:‏ ركعتين‏.‏ وكما روي‏:‏ أنه كان يصلي بعد الوتر سجدتين، وهما ركعتان، كما جاء ذلك مفسراً في الحديث الصحيح‏.‏ ومن سجد بعد الوتر سجدتين مجردتين عملاً بهذا، فهو غالط باتفاق الأئمة‏.‏
    وأيضاً، فإن الحكم عندهم ليس متعلقاً بإدراك سجدة من السجدتين، فعلم أنهم لم يقولوا بالحديث‏.‏ فعلى هذا، إذا كان المدْرَك أقل من ركعة وكان بعدها جماعة أخري فصلى معهم في جماعة صلاة تامة، فهذا أفضل‏.‏ فإن هذا يكون مصلياً في جماعة؛ بخلاف الأول، وإن كان المدرك ركعة أو كان أقل من ركعة، وقلنا‏:‏ إنه يكون به مدركاً للجماعة، فهنا قد تعارض إدراكه

    ج/ 23 ص -258- لهذه الجماعة، وإدراكه للثانية من أولها، فإن إدراك الجماعة من أولها أفضل‏.‏ كما جاء في إدراكها بحدها‏.‏ فإن كانت الجماعتان سواء، فالثانية أفضل‏.‏ وإن تميزت الأولى بكمال الفضيلة، أو كثرة الجمع، أو فضل الإمام، أو كونها الراتبة، فهي في هذه الجهة أفضل، وتلك من جهة إدراكها بحدها أفضل، وقد يترجح هذا تارة وهذا تارة‏.‏ وأما إن قدر أن الثانية أكمل أفعالاً، وإماماً، أو جماعة، فهنا قد ترجحت من وجه آخر‏.‏
    ومثل هذه المسألة لم تكن تعرف في السلف إلا إذا كان مدركاً لمسجد آخر، فإنه لم يكن يصلي في المسجد الواحد إمامان راتبان، وكانت الجماعة تتوفر مع الإمام الراتب، ولا ريب أن صلاته مع الإمام الراتب في المسجد جماعة ولو ركعة خير من صلاته في بيته ولو كان جماعة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل صلى فرضه، ثم أتى مسجد جماعة فوجدهم يصلون، فهل له أن يصلي مع الجماعة من الفائت‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا صلى الرجل الفريضة ثم أتي مسجداً تقام فيه تلك

    ج/ 23 ص -259- الصلاة، فليصلها معهم، سواء كان عليه فائتة أو لم يكن، كما أمر النبي ﷺ بذلك حيث قال لرجلين لم يصليا مع الناس‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏ما لكما لم تصليا‏؟‏ ألستما مسلمين‏؟‏‏"‏ فقالا‏:‏ يا رسول الله، صلينا في رحالنا‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏"‏‏.‏
    ومن عليه فائتة، فعليه أن يبادر إلى قضائها على الفور، سواء فاتته عمداً أو سهواً، عند جمهور العلماء‏.‏ كمالك وأحمد وأبي حنيفة، وغيرهم‏.‏ وكذلك الراجح في مذهب الشافعي أنها إذا فاتت عمداً، كان قضاؤها واجباً على الفور‏.‏
    وإذا صلى مع الجماعة نوي بالثانية معادة، وكانت الأولى فرضاً والثانية نفلا على الصحيح، كما دل عليه هذا الحديث وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الفرض أكملهما‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك إلى الله تعالى، والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه الله عن حديث يزيد بن الأسود قال‏:‏ شهدت حجة رسول الله ﷺ وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضي الصلاة وانحرف، فإذا هو برجلين في أخريات القوم لم يصليا، فقال‏:‏

    ج/ 23 ص -260- ‏"‏على بهما‏"‏، فإذا بهما ترعد فرائصهما، فقال‏:‏ ‏"‏ما منعكما أن تصليا معنا‏؟‏‏"‏ فقالا‏:‏ يا رسول الله، إنا كنا صلينا في رحالنا، قال‏:‏ ‏"‏فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏"‏‏.
    والثاني‏:‏ عن سلمان بن سالم قال‏:‏ رأيت عبد الله بن عمر جالساً على البلاط، والناس يصلون، فقلت يا عبد الله، ما لك لا تصلي‏؟‏ فقال‏:‏ إني قد صليت، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول‏:‏
    لا تعاد صلاة مرتين، فما الجمع بين هذا، وهذا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد الله‏.‏ أما حديث ابن عمر فهو في الإعادة مطلقاً من غير سبب‏.‏ ولا ريب أن هذا منهي عنه، وأنه يكره للرجل أن يقصد إعادة الصلاة من غير سبب يقتضي الإعادة، إذ لو كان مشروعا للصلاة الشرعية عدد معين، كان يمكن الإنسان أن يصلي الظهر مرات، والعصر مرات، ونحو ذلك، ومثل هذا لا ريب في كراهته‏.‏
    وأما حديث ابن الأسود‏:‏ فهو إعادة مقيدة بسبب اقتضي الإعادة، وهو قوله‏:‏ ‏"‏إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏"‏‏.‏ فسبب الإعادة هنا حضور الجماعة الراتبة، ويستحب لمن صلى ثم حضر جماعة راتبة أن يصلي معهم‏.‏

    ج/ 23 ص -261- لكن من العلماء من يستحب الإعادة مطلقاً، كالشافعي وأحمد‏.‏ ومنهم من يستحبها إذا كانت الثانية أكمل، كمالك‏.‏ فإذا أعادها، فالأولى هي الفريضة، عند أحمد وأبي حنيفة، والشافعي في أحد القولين‏.‏ لقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏فإنها لكما نافلة‏"‏‏.‏ وكذلك قال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إنه سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏"‏‏.‏ وهذا أيضاً يتضمن إعادتها لسبب، ويتضمن أن الثانية نافلة‏.‏ وقيل‏:‏ الفريضة أكملهما‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك إلى الله‏.‏
    ومما جاء في الإعادة لسبب‏:‏ الحديث الذي في سنن أبي داود لما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏ألا رجل يتصدق على هذا يصلي معه‏"‏‏.‏ فهنا هذا المتصدق قد أعاد الصلاة ليحصل لذلك المصلي فضيلة الجماعة، ثم الإعادة المأمور بها مشروعة عند الشافعي وأحمد ومالك وقت النهي، وعند أبي حنيفة لا تشرع وقت النهي‏.‏
    وأما المغرب‏:‏ فهل تعاد على صفتها أم تشفع بركعة أم لا تعاد‏؟‏ على ثلاثة أقوال مشهورة للفقهاء‏.‏
    ومما جاء فيه الإعادة لسبب ما ثبت أن النبي ﷺ في بعض صلوات الخوف صلى بهم الصلاة مرتين، صلى بطائفة ركعتين،

    ج/ 23 ص -262- ثم سلم، ثم صلى بطائفة أخري ركعتين ثم سلم، ومثل هذا حديث معاذ بن جبل لما كان يصلي خلف النبي ﷺ، فهنا إعادة أيضاً، وصلاة مرتين‏.‏
    والعلماء متنازعون في مثل هذا وهي مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل على ثلاثة أقوال‏:‏
    فقيل‏:‏ لا يجوز كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايات‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز كقول الشافعي وأحمد في رواية ثانية‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز للحاجة مثل حال الخوف، والحاجة إلى الائتمام بالمتطوع، ولا يجوز لغيرها كرواية ثالثة عن أحمد‏.‏ ويشبه هذا إعادة صلاة الجنازة لمن صلى عليها أولا؛ فإن هذا لا يشرع بغير سبب باتفاق العلماء، بل لو صلى عليها مرة ثانية، ثم حضر من لم يصل‏.‏ فهل يصلي عليها‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏ قيل‏:‏ يصلي عليها، وهو مذهب الشافعي وأحمد، ويصلي عندهما على القبر، لما ثبت عن النبي ﷺ، وعن غير واحد من الصحابة، أنهم صلوا على جنازة بعد ما صلى عليها غيرهم‏.‏ وعند أبي حنيفة ومالك ينهى عن ذلك، كما يُنْهيَان عن إقامة الجماعة في المسجد مرة بعد مرة، قالوا‏:‏ لأن الفرض يسقط بالصلاة الأولى، فتكون الثانية نافلة، والصلاة على الجنازة لا يتطوع بها‏.‏ وهذا بخلاف من يصلي الفريضة، فإنه يصليها باتفاق المسلمين؛ لأنها واجبة

    ج/ 23 ص -263- عليه، وأصحاب الشافعي وأحمد يجيبون بجوابين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن الثانية تقع فرضاً عمن فعلها، وكذلك يقولون في سائر فروض الكفايات‏:‏ أن من فعلها أسقط بها فرض نفسه، وإن كان غيره قد فعلها، فهو مخير بين أن يكتفي بإسقاط ذلك، وبين أن يسقط الفرض بفعل نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ بل هي نافلة، ويمنعون قول القائل‏:‏ إن صلاة الجنازة لا يتطوع بها، بل قد يتطوع بها، إذا كان هناك سبب يقتضي ذلك‏.‏
    وينبني على هذين المأخذين‏:‏ أنه إذا حضر الجنازة من لم يصل أولا فهل لمن صلى عليها أولا أن يصلي معه تبعا كما يفعل مثل هذا في المكتوبة‏؟‏ على وجهين‏.‏ قيل‏:‏ لا يجوز هنا؛ لأن فعله هنا نفل بلا نزاع‏.‏ وهي لا يتنفل بها‏.‏ وقيل‏:‏ بل له الإعادة؛ فإن النبي ﷺ لما صلى على القبر، صلى خلفه من كان قد صلى أولا، وهذا أقرب‏.‏ فإن هذه الإعادة بسبب اقتضاه، لا إعادة مقصودة وهذا سائغ في المكتوبة والجنازة‏.‏ والله أعلم‏.‏ وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً‏.‏

    ج/ 23 ص -264-وسئل شَيخُ الإِسلاَم عمن يجد الصلاة قد أقيمت‏.‏ فأيما أفضل‏:‏ صلاة الفريضة أو يأتي بالسنة ويلحق الإمام ولو في التشهد‏؟‏ وهل ركعتا الفجر سنة للصبح أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    قد صح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"
    ‏إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏فلا صلاة إلا التي أقيمت‏"‏، فإذا أقيمت الصلاة فلا يشتغل بتحية المسجد ولا بسنة الفجر، وقد اتفق العلماء على أنه لا يشتغل عنها بتحية المسجد‏.‏
    ولكن تنازعوا في سنة الفجر‏:‏ والصواب أنه إذا سمع الإقامة، فلا يصلي السنة لا في البيت ولا في غير بيته‏.‏ بل يقضيها إن شاء بعد الفرض‏.‏ والسنة أن يصلي بعد طلوع الفجر ركعتين سنة، والفريضة ركعتان، وليس بين طلوع الفجر والفريضة سنة إلا ركعتان، والفريضة تسمى صلاة الفجر، وصلاة الغداة، وكذلك السنة تسمى سنة الفجر، وسنة الصبح، وركعتي الفجر، ونحو ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -265-وسئل عن ‏"‏القراءة خلف الإمام‏"‏‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد الله‏.‏ للعلماء فيه نزاع واضطراب مع عموم الحاجة إليه‏.‏ وأصول الأقوال ثلاثة‏:‏ طرفان،ووسط‏.‏
    فأحد الطرفين‏:‏ أنه لا يقرأ خلف الإمام بحال‏.‏
    والثاني‏:‏ أنه يقرأ خلف الإمام بكل حال‏.‏
    والثالث‏:‏ وهو قول أكثر السلف، أنه إذا سمع قراءة الإمام أنصت، ولم يقرأ، فإن استماعه لقراءة الإمام خير من قراءته، وإذا لم يسمع قراءته قرأ لنفسه، فإن قراءته خير من سكوته، فالاستماع لقراءة الإمام أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من السكوت، هذا قول جمهور العلماء كمالك وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابهما، وطائفة من أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، وهو القول القديم للشافعي، وقول محمد بن الحسن‏.‏

    ج/ 23 ص -266- وعلى هذا القول‏:‏ فهل القراءة حال مخافتة الإمام بالفاتحة واجبة على المأموم‏؟‏ أو مستحبة‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد‏.‏
    أشهرهما أنها مستحبة، وهو قول الشافعي في القديم‏.‏ والاستماع حال جهر الإمام‏:‏ هل هو واجب أو مستحب‏؟‏ والقراءة إذا سمع قراءة الإمام هل هي محرمة أو مكروهة‏؟‏ وهل تبطل الصلاة إذا قرأ‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد، وغيره‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن القراءة حينئذ محرمة، وإذا قرأ بطلت صلاته، وهذا أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو عبد الله بن حامد، في مذهب أحمد‏.‏
    والثاني‏:‏ أن الصلاة لا تبطل بذلك، وهو قول الأكثرين، وهو المشهور من مذهب أحمد‏.‏ ونظير هذا‏:‏ إذا قرأ حال ركوعه وسجوده‏:‏ هل تبطل الصلاة‏؟‏ على وجهين في مذهب أحمد؛ لأن النبي ﷺ نهى أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً‏.‏
    والذين قالوا‏:‏ يقرأ حال الجهر، والمخافتة، إنما يأمرونه أن يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، وما زاد على الفاتحة، فإن المشروع أن يكون فيه مستمعاً لا قارئاً‏.‏

    ج/ 23 ص -267- وهل قراءته للفاتحة مع الجهر واجبة‏.‏ أو مستحبة‏؟‏ على قولين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنها واجبة‏.‏ وهو قول الشافعي في الجديد، وقول ابن حزم‏.‏
    والثاني‏:‏ أنها مستحبة، وهو قول الأوزاعي، والليث بن سعد، واختيار جدي أبي البركات، ولا سبيل إلى الاحتياط في الخروج من الخلاف في هذه المسألة، كما لا سبيل إلى الخروج من الخلاف في وقت العصر، وفي فسخ الحج، ونحو ذلك من المسائل‏.‏
    يتعين في مثل ذلك النظر فيما يوجبه الدليل الشرعي، وذلك أن كثيراً من العلماء يقول‏:‏ صلاة العصر يخرج وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه، كالمشهور من مذهب مالك، والشافعي، وهو إحدي الروايتين عن أحمد‏.‏
    وأبو حنيفة يقول‏:‏ حينئذ يدخل وقتها، ولم يتفقوا على وقت تجوز فيه صلاة العصر، بخلاف غيرها فإنه إذا صلى الظهر بعد الزوال بعد مصير ظل كل شيء مثله، سوي ظل الزوال صحت صلاته، والمغرب أيضاً تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد الغروب، والعشاء تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد مغيب الشفق الأبيض، إلى ثلث الليل، والفجر

    ج/ 23 ص -268- تجزئ باتفاقهم إذا صلاها بعد طلوع الفجر إلى الإسفار الشديد‏.‏ وأما العصر فهذا يقول‏:‏ تصلي إلى المثلين‏.‏ وهذا يقول‏:‏ لا تصلي إلا بعد المثلين‏.‏ والصحيح أنها تصلي من حين يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس، فوقتها أوسع، كما قاله هؤلاء، وهؤلاء‏.‏ وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة المدنية، وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن وهو الرواية الأخري عن أحمد‏.‏
    والمقصود هنا أن من المسائل مسائل لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه، لكن والله الحمد القول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق‏.‏
    ومن ذلك فسخ الحج إلى العمرة، فإن الحج الذي اتفق الأمة على جوازه، أن يهل متمتعاً ويحرم بعمرة ابتداء، ويهل قارناً وقد ساق الهدي، فأما إن أفرد أو قرن ولم يسق الهدي، ففي حجه نزاع بين السلف والخلف‏.‏
    والمقصود هنا القراءة خلف الإمام فنقول‏:‏ إذا جهر الإمام استمع لقراءته، فإن كان لا يسمع لبعده، فإنه يقرأ في أصح القولين، وهو قول أحمد وغيره، وإن كان لا يسمع لصممه، أو كان يسمع

    ج/ 23 ص -269- همهمة الإمام ولا يفقه ما يقول، ففيه قولان في مذهب أحمد، وغيره‏.‏
    والأظهر أنه يقرأ؛ لأن الأفضل أن يكون إما مستمعاً، وإما قارئاً، وهذا ليس بمستمع، ولا يحصل له مقصود السماع، فقراءته أفضل من سكوته، فنذكر الدليل على الفصلين، على أنه في حال الجهر يستمع، وأنه في حال المخافتة يقرأ‏.‏
    فالدليل على الأول‏:‏ الكتاب والسنة والاعتبار‏:‏
    أما الأول‏:‏ فإنه تعالى قال‏:‏ ‏
    "وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏، وقد استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة، وقال بعضهم‏:‏ في الخطبة، وذكر أحمد بن حنبل الإجماع على أنها نزلت في ذلك، وذكر الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر‏.‏
    ثم يقول‏:‏قوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏"‏ لفظ عام، فأما أن يختص القراءة في الصلاة، أو في القراءة في غير الصلاة، أو يعمهما‏.‏ والثاني باطل قطعاً؛ لأنه لا يقل أحد من المسلمين أنه يجب الاستماع خارج الصلاة، ولا يجب في

    ج/ 23 ص -270- الصلاة، ولأن استماع المستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم به ويجب عليه متابعته أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة داخلة في الآية، إما على سبيل الخصوص، وإما على سبيل العموم‏.‏ وعلى التقديرين، فالآية دالة على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام، وسواء كان أمر إيجاب أو استحباب‏.‏
    فالمقصود حاصل‏.‏ فإن المراد أن الاستماع أولى من القراءة، وهذا صريح في دلالة الآية على كل تقدير، والمنازع يسلم أن الاستماع مأمور به دون القراءة، فيما زاد على الفاتحة‏.‏ والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن‏.‏ والفاتحة أم القرآن، وهي التي لابد من قراءتها في كل صلاة، والفاتحة أفضل سور القرآن‏.‏ وهي التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها، مع إطلاق لفظ الآية وعمومها، مع أن قراءتها أكثر وأشهر، وهي أفضل من غيرها‏.‏ فإن قوله‏:
    ‏"وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ‏" يتناولها، كما يتناول غيرها، وشموله لها أظهر لفظاً ومعني‏.‏ والعادل عن استماعها إلى قرائتها، إنما يعدل لأن قراءتها عنده أفضل من الاستماع، وهذا غلط يخالف النص والإجماع، فإن الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون القراءة، والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على الفاتحة أفضل من قراءته لما زاد عليها‏.‏

    ج/ 23 ص -271- فلو كانت القراءة لما يقرأه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته، لكان قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على الفاتحة، وهذا لم يقل به أحد وإنما نازع من نازع في الفاتحة لظنه أنها واجبة على المأموم مع الجهر، أو مستحبة له حينئذ‏.‏
    وجوابه أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها، بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة، فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين، وهو القراءة، فلما دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الاستماع أفضل له من القراءة، علم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ، وهذا المعني موجود في الفاتحة وغيرها، فالمستمع لقراءة الإمام يحصل له أفضل مما يحصل بالقراءة، وحيئذ، فلا يجوز أن يؤمر بالأدني وينهى عن الأعلى‏.‏
    وثبت أنه في هذه الحال قراءة الإمام له قراءة، كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏.‏ وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة‏"‏‏.‏
    وهذا الحديث روي مرسلا، ومسنداً لكن أكثر الأئمة الثقاة رووه مرسلا عن عبد الله بن شداد عن النبي ﷺ، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسنداً?، وهذا المرسل قد عضده

    ج/ 23 ص -272- ظاهر القرآن والسنة‏.‏ وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة، وغيرهم، وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل‏.‏
    فتبين أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمر دل عليه القرآن دلالة قاطعة؛ لأن هذا من الأمور الظاهرة التي يحتاج إليها جميع الأمة، فكان بيانها في القرآن مما يحصل به مقصود البيان، وجاءت السنة موافقة للقرآن‏.‏ ففي صحيح مسلم عن أبي موسي الأشعري قال‏:‏ إن رسول الله ﷺ خطبنا، فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال‏:‏
    ‏"‏أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كَبَّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏‏.‏ وهذا من حديث أبي موسي الطويل المشهور‏.‏ لكن بعض الرواة زاد فيه على بعض، فمنهم من لم يذكر قوله‏:‏ ‏"‏وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏، ومنهم من ذكرها، وهي زيادة من الثقة، لا تخالف المزيد، بل توافق معناه، ولهذا رواها مسلم في صحيحه‏.‏
    فإن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به، فإن من قرأ على قوم لا يستمعون قراءته، لم يكونوا مؤتمين به، وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة على المأموم، فإن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها، حتى في الأفعال، فإذا أدركه ساجدًا سجد معه، وإذا أدركه في وتر من صلاته

    ج/ 23 ص -273-تشهد عقب الوتر، وهذا لو فعله منفردًا، لم يجز، وإنما فعله لأجل الائتمام، فيدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد، ويسقط به ما يجب على المنفرد‏.‏
    وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه‏.‏ قيل لمسلم بن الحجاج‏:‏ حديث أبي هريرة صحيح، يعني‏:‏ ‏"‏وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ هو عندي صحيح‏.‏ فقيل له‏:‏ لما لا تضعه هاهنا‏؟‏ يعني في كتابه، فقال‏:‏ ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه‏.‏
    وروى الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ انصرف من صلاة جهر فيها، فقال‏:
    ‏ ‏"‏هل قرأ معي أحد منكم آنفًا‏؟‏‏"‏ فقال رجل‏:‏ نعم‏.‏ يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏إني أقول‏:‏ ما لي أنازع القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله ﷺ فيما جهر فيه النبي ﷺ بالقراءة في الصلوات، حين سمعوا ذلك من رسول الله ﷺ‏.‏ رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏ قال أبو داود‏:‏ سمعت محمد بن يحيي بن فارس، يقول‏:‏ قوله‏:‏ فانتهي الناس، من كلام الزهري‏.‏

    ج/ 23 ص -274-وروى عن البخاري نحو ذلك، فقال‏:‏ في الكني من التاريخ، وقال أبو صالح‏:‏ حدثني الليث، حدثني يوسف عن ابن شهاب، سمعت ابن أكيمة الليثي يحدث أن سعيد ابن المسيب سمع أبا هريرة يقول‏:‏ صلىلنا النبي ﷺ صلاة جهر فيها بالقراءة ثم قال‏:‏ ‏"‏هل قرأ منكم أحد معي‏؟‏‏"‏ قلنا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إني أقول‏:‏ ما لي أنازع القرآن‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فانتهي الناس عن القراءة فيما جهر الإمام‏.‏ قال الليث‏:‏ حدثني ابن شهاب ولم يقل‏:‏ فانتهي الناس، وقال بعضهم‏:‏ هو قول الزهري‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو قول ابن أكيمة، والصحيح أنه قول الزهري‏.‏
    وهذا إذا كان من كلام الزهري، فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي ﷺ، فإن الزهري من أعلم أهل زمانه، أو أعلم أهل زمانه بالسنة‏.‏ وقراءة الصحابة خلف النبي ﷺ إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة، تكون من الأحكام العامة، التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فيكون الزهري من أعلم الناس بها‏.‏ فلو لم يبينها، لاستدل بذلك على انتفائها، فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي ﷺ في الجهر‏.‏
    فإن قيل‏:‏ قال البيهقي‏:‏ ابن أكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري‏.‏

    ج/ 23 ص -275-قيل‏:‏ ليس كذلك، بل قد قال أبو حاتم الرازي فيه‏:‏ صحيح الحديث، حديثه مقبول‏.‏ وحكي عن أبي حاتم البستي أنه قال‏:‏ روى عنه الزهري، وسعيد بن أبي هلال، وابن أبيه عمر، وسالم بن عمار بن أكيمة بن عمر‏.‏
    وقد روى مالك في موطئه عن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ من صلى ركعة لم يقرأ فيها، لم يصل إلا وراء الإمام‏.‏ وروى أيضًا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل‏:‏ هل يقرأ خلف الإمام‏؟‏ يقول‏:‏ إذا صلىأحدكم خلف الإمام، تجزئه قراءة الإمام‏.‏ وإذا صلىوحده، فليقرأ‏.‏ قال‏:‏ وكان عبد الله بن عمر، لا يقرأ خلف الإمام‏.‏ وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام، فقال‏:‏ لا قراءة مع الإمام في شيء‏.‏
    وروى البيهقي عن أبي وائل، أن رجلاً سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال‏:‏ أنصت للقرآن، فإن في الصلاة شغلا، وسيكفيك ذلك الإمام‏.‏ وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها أهل المدينة، وأهل الكوفة من الصحابة، وفي كلاهما تنبيه على أن المانع إنصاته لقراءة الإمام‏.‏

    ج/ 23 ص -276- وكذلك البخاري في كتاب ‏[‏القراءة خلف الإمام‏]‏ عن على بن أبي طالب قال‏:‏ وروى الحارث عن على يسبح في الأخريين، قال‏:‏ ولم يصح‏.‏ وخالفه عبيد الله بن أبي رافع، حدثنا عثمان بن سعيد، سمع عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبيد الله بن أبي رافع، مولي بني هاشم، حدثه عن على بن أبي طالب‏:‏ إذا لم يجهر الإمام في الصلوات، فاقرأ بأم الكتاب، وسورة أخري في الأوليين، من الظهر والعصر، وفاتحة الكتاب في الأخريين من الظهر والعصر، وفي الآخرة من المغرب، وفي الأخريين من العشاء‏.‏
    وأيضًا، ففي إجماع المسلمين على أنه فيما زاد على الفاتحة يؤمر بالاستماع دون القراءة، دليل على أن استماعه لقراءة الإمام خير له من قراءته معه، بل على أنه مأمور بالاستماع دون القراءة مع الإمام‏.‏
    وأيضًا، فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين‏:‏ إما أن يقرأ مع الإمام، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ، ولم نعلم نزاعًا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها، وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة‏.‏ فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر، بل نقول‏:‏ لو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والاستماع مستحبة، لاستحب للإمام أن يسكت لقراءة المأموم، ولا يستحب للإمام

    ج/ 23 ص -277- السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم‏.‏
    وحجتهم في ذلك أن النبي ﷺ لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون، ولا نقل هذا أحد عنه، بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح، وفي السنن أنه كان له سكتتان‏:‏ سكتة في أول القراءة، وسكتة بعد الفراغ من القراءة، وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة‏.‏ وقد روى أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة، ولم يقل أحد‏:‏ إنه كان له ثلاث سكتات، ولا أربع سكتات، فمن نقل عن النبي ﷺ ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولاً لم ينقله عن أحد من المسلمين، والسكتة التي عقب قوله‏:‏ ‏
    "وَلاَ الضَّالينَ‏"‏ من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي‏.‏ ومثل هذا لا يسمي سكوتًا؛ ولهذا لم يقل أحد من العلماء‏:‏ إنه يقرأ في مثل هذا‏.‏
    وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ عقب السكوت عند رؤوس الآي‏.‏ فإذا قال الإمام‏:‏
    ‏"الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏، قال‏:‏ ‏"الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏، وإذا قال‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏، قال‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏، وهذا لم يقله أحد من العلماء‏.‏

    ج/ 23 ص -278- وقد اختلف العلماء في سكوت الإمام على ثلاثة أقوال‏:‏ فقيل‏:‏ لا سكوت في الصلاة بحال، وهو قول مالك‏.‏ وقيل‏:‏ فيها سكتة واحدة للاستفتاح، كقول أبي حنيفة‏.‏ وقيل فيها‏:‏ سكتتان، وهو قول الشافعي، وأحمد، وغيرهما لحديث سمرة بن جندب‏:‏ أن رسول الله ﷺ كان له سكتتان‏:‏ سكتة حين يفتتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من السورة الثانية‏.‏ قبل أن يركع، فذكر ذلك لعمران بن حصين، فقال‏:‏ كذب سمرة‏.‏ فكتب في ذلك إلى المدينة إلى أبي بن كعب، فقال‏:‏ صدق سمرة‏.‏ رواه أحمد، واللفظ له وأبو داود وابن ماجه، والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏
    وفي رواية أبي داود‏:‏ ‏"‏سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من
    ‏"غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏7‏]‏ وأحمد رجح الرواية الأولى، واستحب السكتة الثانية؛ لأجل الفصل‏.‏ ولم يستحب أحمد أن يسكت الإمام لقراءة المأموم، ولكن بعض أصحابه استحب ذلك‏.‏ ومعلوم أن النبي ﷺ لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل هذا أحد، علم أنه لم يكن‏.‏
    والسكتة الثانية في حديث سمرة قد نفاها عمران بن حصين، وذلك أنها سكتة يسيرة، قد لا ينضبط مثلها، وقد روى أنها بعد

    ج/ 23 ص -279-الفاتحة‏.‏ ومعلوم أنه لم يسكت إلا سكتتين، فعلم أن إحداهما طويلة، والأخري بكل حال لم تكن طويلة متسعة لقراءة الفاتحة‏.‏
    وأيضًا، فلو كان الصحابة كلهم يقرؤون الفاتحة خلفه إما في السكتة الأولى، وإما في الثانية، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرؤون الفاتحة، مع أن ذلك لو كان مشروعًا، لكان الصحابة أحق الناس بعلمه، وعمله، فعلم أنه بدعة‏.‏
    وأيضًا، فالمقصود بالجهر استماع المأمومين، ولهذا يؤمِّنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر، فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءتة، وهو بمنزلة أن يحدث من لم يستمع لحديثه، ويخطب من لم يستمع لخطبته، وهذا سفه تنزه عنه الشريعة‏.‏ ولهذا روى في الحديث‏:‏ ‏"‏مثل الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارًا‏"‏‏.‏ فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه‏.

    ج/ 23 ص -280-فصل
    وإذا كان المأموم مأمورًا بالاستماع والإنصات لقراءة الإمام، لم يشتغل عن ذلك بغيرها، لا بقراءة، ولا ذكر، ولا دعاء‏.‏ ففي حال جهر الإمام لا يستفتح ولا يتعوذ‏.‏ وفي هذه المسألة نزاع‏.‏ وفيها ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد‏.‏ قيل‏:‏ إنه حال الجهر يستفتح ويتعوذ، ولا يقرأ؛ لأنه بالاستماع يحصل له مقصود القراءة، بخلاف الاستفتاح والاستعاذة، فإنه لا يسمعها‏.‏
    وقيل‏:‏ يستفتح ولا يتعوذ، لأن الاستفتاح تابع لتكبيرة الإحرام بخلاف التعوذ، فإنه تابع للقراءة، فمن لم يقرأ لا يتعوذ‏.‏
    وقيل‏:‏ لا يستفتح ولا يتعوذ حال الجهر، وهذا أصح‏.‏ فإن ذلك يشغل عن الاستماع والإنصات المأمور به، وليس له أن يشتغل عما أمر به بشيء من الأشياء‏.‏
    ثم اختلف أصحاب أحمد‏:‏ فمنهم من قال هذا الخلاف إنما هو في حال سكوت الإمام، هل يشتغل بالاستفتاح، أو الاستعاذة، أو بأحدهما،

    ج/ 23 ص -281- أو لا يشتغل إلا بالقراءة لكونها مختلفا في وجوبها‏.‏ وأما في حال الجهر، فلا يشتغل بغير الإنصات‏.‏ والمعروف عند أصحابه أن هذا النزاع هو في حال الجهر، لما تقدم من التعليل‏.‏ وأما في حال المخافتة، فالأفضل له أن يستفتح، واستفتاحه حال سكوت الإمام أفضل من قراءته في ظاهر مذهب أحمد، وأبي حنيفة وغيرهما؛ لأن القراءة يعتاض عنها بالاستماع، بخلاف الاستفتاح‏.‏
    وأما قول القائل‏:‏ إن قراءة المأموم مختلف في وجوبها، فيقال‏:‏ وكذلك الاستفتاح هل يجب‏؟‏ فيه قولان مشهوران في مذهب أحمد‏.‏ ولم يختلف قوله‏:‏ إنه لا يجب على المأموم القراءة في حال الجهر‏.‏ واختار ابن بطة وجوب الاستفتاح، وقد ذكر ذلك روايتين عن أحمد‏.‏
    فَعُلِم أن من قال من أصحابه كأبي الفرج بن الجوزي أن القراءة حال المخافتة أفضل في مذهبه من الاستفتاح، فقد غلط على مذهبه‏.‏ ولكن هذا يناسب قول من استحب قراءة الفاتحة حال الجهر، وهذا ما علمت أحداً قاله من أصحابه قبل جدي أبي البركات، وليس هو مذهب أحمد ولا عامة أصحابه، مع أن تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي ﷺ، ولكن يسلكه من لم يكن عالماً بالأدلة الشرعية في

    ج/ 23 ص -282-نفس الأمر، لطلب الاحتياط‏.‏
    وعلى هذا، ففي حال المخافتة هل يستحب له مع الاستفتاح الاستعاذة إذا لم يقرأ‏؟‏ على روايتين‏.‏
    والصواب‏:‏ أن الاستعاذة لا تشرع إلا لمن قرأ، فإن اتسع الزمان للقراءة، استعاذ وقرأ، وإلا أنصت‏.
    فصل
    وأما الفصل الثاني وهو القراءة إذا لم يسمع قراءة الإمام، كحال مخافتة الإمام وسكوته، فإن الأمر بالقراءة والترغيب فيها يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره، فإن قراءة القرآن في الصلاة أفضل منها خارج الصلاة، وما ورد من الفضل لقارئ القرآن يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره؛ لقوله ﷺ‏:‏
    ‏"‏من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول‏:‏ ‏"الم‏"‏ حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏
    وقد ثبت في خصوص الصلاة قوله في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم عن أبي? هريرة عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏من

    ج/ 23 ص -283-صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج‏"‏، ثلاثاً أي‏:‏ غير تمام‏.‏ فقيل لأبي هريرة‏:‏ إني أكون وراء الإمام‏.‏ فقال‏:‏ اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏قال الله‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل‏.‏ فإذا قال العبد‏:‏"الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏، قال الله‏:‏ حمدني عبدي‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏"الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏"‏، قال الله‏:‏ أثني على عبدي‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏"مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏"‏، قال‏:‏ مجدني عبدي وقال مرة‏:‏ فوض إلى عبدي فإذا قال‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏، قال‏:‏ هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏"اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ‏"‏، قال‏:‏ هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل‏"‏‏.‏
    وروى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين‏:‏ أن رسول الله ﷺ صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه‏:‏ بسبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال‏:‏ ‏"‏أيكم قرأ‏؟‏‏"‏ أو ‏"‏أيكم القارئ‏؟‏‏"‏ قال رجل‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏قد ظننت أن بعضكم خالجنيها‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ فهذا قد قرأ خلفه في صلاة الظهر، ولم ينهه ولا غيره عن القراءة، لكن قال‏:‏ ‏"‏قد ظننت أن بعضكم خالجنيها‏"‏، أي‏:‏ نازعنيها‏.‏ كما قال في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏إني أقول‏:‏ ما لي أُنازَع القرآن‏"‏‏.‏

    ج/ 23 ص -284-وفي المسند عن ابن مسعود قال‏:‏ كانوا يقرؤون خلف النبي ﷺ، فقال‏:‏ ‏"‏خلطتم على القرآن‏"‏‏.‏ فهذا كراهة منه لمن نازعه وخالجه، وخلط عليه القرآن، وهذا لا يكون ممن قرأ في نفسه بحيث لا يسمعه غيره، وإنما يكون ممن أسمع غيره، وهذا مكروه لما فيه من المنازعة لغيره، لا لأجل كونه قارئاً خلف الإمام‏.‏ وأما مع مخافتة الإمام، فإن هذا لم يرد حديث بالنهي عنه، ولهذا قال‏:‏ ‏"‏أيكم القارئ‏؟‏‏"‏ أي القارئ الذي نازعني، لم يرد بذلك القارئ في نفسه‏.‏ فإن هذا لا ينازع، ولا يعرف أنه خالج النبي ﷺ‏.‏ وكراهة القراءة خلف الإمام إنما هي إذا امتنع من الإنصات المأمور به، أو إذا نازع غيره، فإذا لم يكن هناك إنصات مأمور به، ولا منازعة، فلا وجه للمنع من تلاوة القرآن في الصلاة‏.‏ والقارئ هنا لم يعتض عن القراءة باستماع، فيفوته الاستماع والقراءة جميعاً، مع الخلاف المشهور في وجوب القراءة في مثل هذه الحال، بخلاف وجوبها في حال الجهر، فإنه شاذ، حتى نقل أحمد الإجماع على خلافه‏.‏
    وأبو هريرة وغيره من الصحابة فهموا من قوله‏:‏ ‏"‏قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد‏:‏
    ‏"الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏، أن ذلك يعم الإمام والمأموم‏.‏
    وأيضاً، فجميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها سرا يشرع للمأموم

    ج/ 23 ص -285-أن يقولها سرا كالتسبيح في الركوع والسجود، وكالتشهد والدعاء‏.‏ ومعلوم أن القراءة أفضل من الذكر والدعاء، فلأي معني لا تشرع له القراءة في السر، وهو لا يسمع قراءة السر، ولا يؤمن على قراءة الإمام في السر‏.‏
    وأيضاً، فإن الله سبحانه لما قال‏:‏ ‏
    "وَإِذَا قُرِيءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏204‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ‏"‏ [‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏‏.‏ وهذا أمر للنبي ﷺ، ولأمته، فإنه ما خوطب به، خوطبت به الأمة ما لم يرد نص بالتخصيص، كقوله‏:‏ ‏"وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 39‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏114‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ وهذا أمر يتناول الإمام والمأموم والمنفرد بأن يذكر الله في نفسه بالغدو والآصال، وهو يتناول صلاة الفجر والظهر والعصر، فيكون المأموم مأمورا بذكر ربه في نفسه لكن إذا كان مستمعاً، كان مأموراً بالاستماع، وإن لم يكن مستمعاً، كان مأمراً بذكر ربه في نفسه‏.‏ والقرآن أفضل الذكر كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 99‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي‏"‏[‏طه‏:‏ 124‏]‏، وقال‏:‏ ‏"مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2‏]‏‏.‏
    وأيضاً، فالسكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء، ليس عبادة،

    ج/ 23 ص -286-ولا مأمورا به، بل يفتح باب الوسوسة‏.‏ فالاشتغال بذكر الله أفضل من السكوت، وقراءة القرآن من أفضل الخير، وإذا كان كذلك، فالذكر بالقرآن أفضل من غيره، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن ‏:‏ سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏"‏‏.‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏ وعن عبد الله بن أبي أوفى قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال‏:‏ إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه، فقال‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا للَّه، فما لي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ اللهم، ارحمني، وارزقني، وعافني، واهدني‏"‏‏.‏ فلما قام قال‏:‏ هكذا بيديه فقال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏أما هذا فقد ملأ يديه من الخير‏"‏‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي‏.‏
    والذين أوجبوا القراءة في الجهر، احتجوا بالحديث في السنن عن عبادة أن النبي ﷺ قال‏:‏‏"‏إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها‏"‏‏.‏ وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة، ضعفه أحمد وغيره من الأئمة‏.‏ وقد بسط الكلام على ضعفه في غيرهذا الموضع،وبين أن الحديث الصحيح قول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا صلاة إلا

    ج/ 23 ص -287-بأم القرآن‏"‏، فهذا هو الذي أخرجاه في الصحيحين، ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة‏.‏ وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين وأصله‏:‏ أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس، فقال هذا فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة‏.‏
    وأيضاً، فقد تكلم العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة، وبسطوا القول فيها، وفي غيرها من المسائل‏.‏ وتارة أفردوا القول فيها في مصنفات مفردة، وانتصر طائفة للإثبات في مصنفات مفردة‏:‏ كالبخاري وغيره‏.‏ وطائفة للنفي‏:‏ كأبي مطيع البَلْخِي، وكرام، وغيرهما‏.‏
    ومن تأمل مصنفات الطوائف تبين له القول الوسط‏.‏ فإن عامة المصنفات المفردة تتضمن صور كل من القولين المتباينين، قول من ينهي عن القراءة خلف الإمام، حتى في صلاة السر‏.‏ وقول من يأمر بالقراءة خلفه مع سماع جهر الإمام‏.‏ والبخاري ممن بالغ في الانتصار للإثبات بالقراءة حتى مع جهر الإمام، بل يوجب ذلك، كما يقوله الشافعي في الجديد، وابن حزم، ومع هذا، فحججه ومصنفه إنما تتضمن تضعيف قول أبي حنيفة في هذه المسألة وتوابعها، مثل كونه‏.‏

    ج/ 23 ص -288-وقالَ أيضاً رَحِمَهُ الله في القراءة خلف الإمام بعد كلام‏:‏
    والنبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏"‏‏.‏ وهذا أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم في صحيحيهما، وعليه اعتمد البخاري في مصنفه‏.‏ فقال‏:‏ ‏[‏باب وجوب القراءة في كل ركعة‏]‏‏.‏ وروي هذا الحديث من طرق‏:‏ مثل رواية ابن عيينة، وصالح بن كَيْسَان، ويوسف بن زيد‏.‏ قال البخاري‏:‏ وقال معمر عن الزهري‏:‏ ‏"‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا‏"‏‏.‏ وعامة الثقاة‏.‏ لم يتابع معمرا في قوله‏:‏ ‏"‏فصاعدا‏"‏، مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب، وقوله‏:‏ ‏"‏فصاعدا‏"‏ غير معروف ما أراد به حرفان أو أكثر من ذلك، إلا أن يكون كقوله‏:‏ ‏"‏لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا‏"‏، فقد تقطع اليد في ربع دينار، وفي أكثر من دينار‏.‏ قال البخاري‏:‏ ويقال‏:‏ إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمراً، وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري، ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا يعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا‏.‏
    قلت‏:‏ معنى هذا حديث صحيح، كما رواه أهل السنن، وقد

    ج/ 23 ص -289- رواه البخاري في هذا المصنف‏:‏ حدثنا مسدد، ثنا يحيي بن سعيد، ثنا أبو عثمان النهدي، عن أبي هريرة‏:‏ أن النبي ﷺ أمره فنادي ألا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وما زاد‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة قال‏:‏ تجزئ بفاتحة الكتاب فإن زاد، فهو خير‏.‏ وذكر الحديث الآخر عن أبي سعيد في السنن‏.‏ قال البخاري حدثنا أبو الوليد، حدثنا همام عن قتادة، عن أبي نضرة قال‏:‏ أمرنا نبينا ﷺ أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا يدل على أنه ليس المراد به قراءة المأموم حال سماعه لجهر الإمام، فإن أحداً لا يقول أن زيادته على الفاتحة، وترك إنصاته لقراءة الإمام في هذه الحال خير‏.‏ ولا أن المأموم مأمور حال الجهر بقراءة زائدة على الفاتحة، وكذلك عللها البخاري في حديث عبادة، فإنها تدل على أن المأموم المستمع لم يدخل في الحديث، ولكن هب أنها ليست في حديث عبادة، فهي في حديث أبي هريرة‏.‏
    وأيضاً، فالكتاب والسنة يأمر بإنصات المأموم لقراءة الإمام، ومن العلماء من أبطل صلاته إذا لم ينصت، بل قرأ معه‏.‏
    وحينئذ، يقال تعارض عموم قوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة إلا بأم القرآن‏"‏،

    ج/ 23 ص -290- وعموم الأمر بالإنصات، فهؤلاء يقولون‏:‏ ينصت إلا في حال قراءة الفاتحة، وأولئك يقولون‏:‏ قوله ‏"‏لا صلاة إلا بأم القرآن‏"‏، يستثني منه المأمور بالإنصات، إن سلموا شمول اللفظ له، فإنهم يقولون‏:‏ ليس في الحديث دلالة على وجوب القراءة على المأموم، فإنه إنما قال‏:‏ ‏"‏لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن‏"‏‏.‏ وقد ثبت بالكتاب والسنة وبالإجماع، أن إنصات المأموم لقراءة إمامه، يتضمن معني القراءة معه وزيادة‏.‏ فإن استماعه فيما زاد على الفاتحة أولى به بالقراءة باتفاقهم، فلو لم يكن المأموم المستمع لقراءة إمامه أفضل من القارئ، لكان قراءته أفضل له، ولأنه قد ثبت الأمر بالإنصات لقراءة القرآن، ولا يمكنه الجمع بين الإنصات والقراءة‏.‏ ولولا أن الإنصات يحصل به مقصود القراءة وزيادة، لم يأمر الله بترك الأفضل لأجل المفضول‏.‏
    وأيضاً، فهذا عموم قد خص منه المسبوق، بحديث أبي بكرة وغيره وخص منه الصلاة بإمامين، فإن النبي ﷺ لما صلى بالناس، وقد سبقه أبو بكر ببعض الصلاة، قرأ من حيث انتهي أبو بكر ولم يستأنف قراءة الفاتحة لأنه بني على صلاة أبي بكر، فإذا سقطت عنه الفاتحة في هذا الموضع، فعن المأموم أولى ‏.‏
    وخص منه حال العذر، وحال استماع الإمام حال عذر، فهو مخصوص‏.‏ وأمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام، لم يخص معه شيء لا بنص

    ج/ 23 ص -291- خاص، ولا إجماع‏.‏ وإذا تعارض عمومان أحدهما محفوظ، والآخر مخصوص، وجب تقديم المحفوظ‏.‏
    وأيضاً، فإن الأمر بالإنصات داخل في معني اتباع المأموم، وهو دليل على أن المنصت يحصل له بإنصاته واستماعه ما هو أولى به من قراءته، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الخطبة‏.‏ وفي القراءة في الصلاة في غير محل النزاع، فالمعني الموجب للإنصات يتناول الإنصات عن الفاتحة وغيرها‏.‏
    وأما وجوب قراءتها في كل صلاة، فإذا أنصت إلى الإمام، الذي يقرأها كان خيراً مما يقرأ لنفسه‏.‏ وهو لو نذر أن يصلي في المسجد الأقصي، لكانت صلاته في المسجد الحرام، ومسجد النبي ﷺ تجزئه، بل هو أفضل له كما دلت على ذلك السنة، وهو لم يوجب على نفسه إلا الصلاة في البيت المقدس، لكن هذا أفضل منه‏.‏ فإذا كان هذا في إيجابه على نفسه جعل الشارع الأفضل يقوم مقام المنذور، وإلغاء تعيينه هو بالنذر، فكيف يوجب الشارع شيئاً ولا يجعل أفضل منه يقوم مقامه، والشارع حكيم لا يعين شيئاً قط وغيره أولى بالفعل منه، بخلاف الإنسان، فإنه قد يخص بنذره ووقفه ووصيته ما غيره أولى منه، وقد أمر النبي ﷺ المصلي إذا سهي بسجود السهو في غير حديث‏.‏

    ج/ 23 ص -292- ثم المأموم إذا سهى يتحمل إمامه عنه سهوه؛ لأجل متابعته له، مع إمكانه أن يسجد بعد سلامه‏.‏ وإنصاته لقراءته أدخل في المتابعة‏.‏ فإن الإمام إنما يجهر لمن يستمع قراءته، فإذا اشتغل أحد من المصلين بالقراءة لنفسه كان كالمخاطب لمن لا يستمع إليه، كالخطيب الذي يخطب الناس وكلهم يتحدثون، ومن فعل هذا فهو كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏كحمار يحمل أسفاراً‏"‏‏.‏ فإنه لم يفقه معني المتابعة، كالذي يرفع رأسه قبل الإمام، فإنه كالحمار؛ ولهذا قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏أما يخشي الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار‏؟‏‏!‏‏"‏، فإنه متبع للإمام فكيف يسابقه‏؟‏‏!‏ ولهذا ضرب عمر من فعل ذلك، وقال‏:‏ لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت‏.‏ وأمر إذا رفع رأسه سهواً أن يعود فيتخلف بقدر ما سبق به الإمام‏.‏ وقد نص أحمد وغيره على ذلك، وذكر هو وغيره الآثار في ذلك عن الصحابة‏.‏
    فقول النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاج‏"‏‏.‏ وفي تمامه‏:‏ فقلت‏:‏ يا أبا هريرة، إني أكون أحيانا وراء الإمام، قال‏:‏ اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت النبي ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏قال الله‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث إلى آخره‏.‏ وهو حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه‏.‏

    ج/ 23 ص -293- والبخاري احتج به في هذا المصنف، وإن كان لم يخرجه في صحيحه على عادته في مثل ذلك، وإسناده المشهور الذي رواه مسلم حديث العلاء عن ابن السائب عن أبي هريرة، وبعضهم يقول‏:‏ عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه من حديث عائذ، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏.‏
    قال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن عبد الله الرَّقَاشِي، ثنا يزيد بن زُرَيع، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا يحيي بن عباد، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ سمعت رسول الله ﷺ يقول‏:‏ ‏
    "‏كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج‏"‏‏.‏ قال البخاري‏:‏ وزاد يزيد بن هارون بفاتحة الكتاب، قال‏:‏ وحدثنا موسي بن إسماعيل، ثنا أبان، ثنا عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآ فهي مخدجة‏"‏‏.‏
    وقال‏:‏ حدثنا هلال بن بشر، ثنا يوسف بن يعقوب السلعي، ثنا حسن المعلم عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏
    "‏كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج، فهي خداج‏"‏‏.‏

    ج/ 23 ص -294- وقال البخاري‏:‏ ثنا موسي، ثنا داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن أبي هريرة‏:‏ في كل صلاة قراءة، ولو بفاتحة الكتاب، فما أعلن لنا النبي ﷺ، فنحن نعلنه، وما أسر فنحن نسره‏.‏ وروى من طريقين عن أبي الزاهرية‏:‏ ثنا كثير بن مرة، سمع أبا الدرداء يقول‏:‏ سئل رسول الله ﷺ أفي كل صلاة قراءة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏فقال رجل من الأنصار‏:‏ وجبت هذه‏.‏ وهذه الأحاديث بمنزلة قوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏"‏، فإن المستمع المنصت قارئ بل أفضل من القارئ لنفسه، ويدل على ذلك‏:‏ ‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وما زاد‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏أمرنا أن نقرأ بها وما تيسر‏"‏‏.‏ فإن المستمع المنصت ليس مأموراً بقراءة الزيادة‏.‏
    وأيضاً، فقول أبي هريرة‏:‏ ما أُسْمِعنا أسمعناكم، وما أخفي علينا أخفينا عليكم، دليل على أن المراد به الإمام، وإلا فالمأموم لا يسمع أحد قراءته‏.‏
    وأما قوله‏:‏ أفي كل صلاة قراءة‏؟‏، وقوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة إلا بأم القرآن‏"‏، فصلاة المأموم المستمع لقراءة الإمام فيها قراءة، بل الأكثرون يقولون‏:‏ الإمام ضامن لصلاته، فصلاته في ضمن صلاة الإمام، ففيها القراءة‏.‏ وجمهورهم يقولون إذا كان الإمام أميا لم يقتد به القارئ‏.‏فلو كانت قراءة الإمام لا تغني عن

    ج/ 23 ص -295- المأموم شيئاً، بل كل يقرأ لنفسه، لم يكن فرق بين عجزه عن القراءة، وعجزه عن غير ذلك من الواجبات؛ ولأن المأموم مأمور باستماع ما زاد على الفاتحة،وليست قراءة واجبة‏.‏ فكيف لا يؤمر بالاستماع لقراءة الإمام الفاتحة، وهي الفرض‏؟‏ وكيف يؤمر باستماع التطوع، دون استماع الفرض‏؟‏ وإذا كان الاستماع للقراءة الزائدة على الفاتحة واجباً بالكتاب والسنة والإجماع، فالاستماع لقراءة الفاتحة أوجب‏.‏
    ثم قال البخاري‏:‏ وقيل له‏:‏ احتجاجك بقول الله‏:‏ ‏
    "وَإِذَا قُرِيءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ‏"‏[‏الأعراف‏:‏204‏]‏، أرأيت إذا لم يجهر الإمام أيقرأ خلفه‏؟‏ فإن قال‏:‏ لا، تبطل دعواه؛ لأن الله قال‏:‏ ‏"فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ‏"‏‏.‏ وإنما يستمع لما يجهر، مع أنا نستعمل قول الله تعالى‏:‏ ‏"فَاسْتَمِعُواْ لَهُ‏"‏ نقول‏:‏ يقرأ خلف الإمام عند السكتات‏.‏ قال سُمرة‏:‏ كان للنبي ﷺ سَكْتَات‏:‏ سكتة حين يكبر، وسكتة حين يفرغ من قراءته‏.‏ وقال ابن خُثَيم‏:‏ قلت لسعيد بن جبير‏:‏ أقرأ خلف الإمام‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وإن سمعت قراءته‏.‏ فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه‏.‏ إن السلف كان إذا أم أحدهم الناس كبر ثم أنصت، حتى يظن أن من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصت‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يقرأ سكت سكتة، قال‏:‏

    ج/ 23 ص -296- وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن، وميمون بن مهران، وغيرهم، وسعيد بن جبير، يرون القراءة عند سكوت الإمام ليكون مقتديا بقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏"‏، فتكون قراءته في السكتة‏.‏ فإذا قرأ الإمام، أنصت، حتى يكون متبعاً لقول الله تعالى‏:‏ "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏"[‏النساء‏:‏ 80‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَي وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّي وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏‏.‏
    وإذا ترك الإمام شيئا من حق الصلاة، فحق على من خلفه أن يتموا، قال علقمة‏:‏ إن لم يتم الإمام أتممنا‏.‏ وقال الحسن وسعيد بن جبير وحميد بن هلال‏:‏ أقرأ بالحمد يوم الجمعة‏.‏ قال‏:‏ وقال آخرون من هؤلاء‏:‏ يجزئه أن يقرأ بالفارسية، ويجزئه أن يقرأ بآية ينقض آخرهم على أولهم بغير كتاب ولا سنة‏.‏
    وقيل له‏:‏ من أباح لك الثناء والإمام يقرأ بخبر أو قياس وحظر على غيرك الفرض، وهي القراءة، ولا خبر عندك ولا اتفاق،لأن عدة من أهل المدينة لم يروا الثناء للإمام،ولا لغيره، يكبرون ثم يقرؤون فتحير عندهم في ريبهم يترددون مع أن هذا صنعه في أشياء من الفرض،فجعل الواجب أهون من التطوع‏.‏

    ج/ 23 ص -297- زعمت أنه إذا لم يقرأ في الركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء يجزئه، وإذا لم يقرأ في ركعة من أربع من التطوع، لم يجزئه‏.‏
    قلت‏:‏ وإذا لم يقرأ في ركعة من المغرب أجزأه، وإذا لم يقرأ في ركعة من الوتر لم يجزه، فكأنه يريد أن يجمع بين ما فرق رسول الله ﷺ أو يفرق بين ما جمع رسول الله ﷺ‏.‏
    قلت‏:‏ أما سكتة النبي ﷺ حين يكبر، فقد بين أبو هريرة في حديثه المتفق على صحته‏:‏ أنه كان يذكر فيها دعاء الاستفتاح، لم يكن سكوتاً محضاً، لأجل قراءة المأمومين‏.‏ وثبت في الصحيح أن عمر كان يكبر ويجهر بدعاء الاستفتاح، يعلمه الناس‏.‏ وأما احتجاجه على من استفتح حال الجهر، فهذا فيه نزاع معروف، هل يستفتح في حال الجهر ويتعوذ، أو يستفتح ولا يتعوذ إلا إذا قرأ، أولا يستفتح حال الجهر، ولا يتعوذ فيه‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد‏.‏
    لكن الأظهر ما احتج به البخاري، فإن الأمر بالإنصات يقتضي الإنصات عن كل ما يمنعه من استماع القراءة، من ثناء وقراءة، ودعاء كما ينصت للخطبة، بل الإنصات للقراءة أوكد‏.‏ ولكن إذا سكت

    ج/ 23 ص -298- الإمام السكتة الأولى للثناء، فهنا عند أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استفتاح المأموم أولى من قراءة الفاتحة في هذه السكتة؛ لأن مقصود القراءة تحصل له باستماعه لقراءة الإمام‏.‏ وأما مقصود الاستفتاح فلا يحصل له إلا باستفتاحه لنفسه؛ ولأن النبي ﷺ كان يسكت مستفتحاً، وعمر كان يجهر بالاستفتاح ليعلمه المأمومين، فَعُلِم أنه مشروع للمأموم‏.‏ ولو اشتغل عنه بالقراءة لفاته الاستفتاح، والنبي ﷺ لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون في حال سكوته، وهذا مذهب جمهور العلماء لا يستحبون للإمام سكوتاً لقراءة المأموم، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة ومالك وغيرهم‏.‏
    ومن أصحاب أحمد من استحب له السكوت لقراءة المأموم، ومنهم من استحب له في حال سكوت الإمام أن يقرأ ولا يستفتح، وهو اختيار أبي بكر الدينوري، وأبي الفرج ابن الجوزي‏.‏
    ومنهم من استحب له القراءة بالفاتحة في حال جهر الإمام‏.‏ كما اختاره جدي أبوالبركات‏.‏ وهو مذهب الليث والأوزاعي وغيرهما‏.‏
    ثم من هؤلاء من يستحب له أن يستفتح في حال سكوته، ويقرأ ليجمع بينهما‏.‏ ومنهم من يستحب له القراءة دون السكوت‏.‏
    كما أن الذين يكرهون قراءته حال الجهر‏:‏ منهم من يستحب له

    ج/ 23 ص -299- الاستفتاح حال الجهر، ومنهم من يكرهه، وهو روايتان عن أحمد، ومذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما أنه في حال سكوته للاستفتاح يستفتح، وهو الأظهر‏.‏
    وما ذكره البخاري من أن عدة من أهل المدينة لم يروا الاستفتاح كمذهب مالك‏:‏ هو حجة للجمهور؛ لأنهم يقولون‏:‏ الإمام هنا لا سكوت له، وحينئذ، فإن قرأنا معه، خالفنا الكتاب والسنة‏.‏ لكن ما ذكره البخاري حجة على من يستفتح حينئذ، فيشتغل بالاستفتاح عن استماع القراءة‏.‏ وهؤلاء نظروا إلى أن الإمام يحمل القراءة عن المأموم، ولا يحمل عنه الاستفتاح، لكن هذا إنما يدل على عدم وجوب القراءة، والمأموم مأمور بالاستماع والإنصات، فلا يشتغل عن ذلك بثناء، كما لا يشتغل عنه بقراءة، والقراءة أفضل من الثناء، فإن كان الإمام يسكت للثناء وأدركه المأموم، أثني معه، وإن كان لا يسكت، أو أدرك المأموم وهو يقرأ، فهو مأمور بالإنصات والاستماع، فلا يعدل عما أمر به‏.‏
    فإن قيل في وجوب الثناء قولان في مذهب أحمد، قيل في وجوب القراءة على المأموم قولان في مذهب أحمد، وإذا نهي عن القراءة لاستماع قراءة الإمام، فلأن ينهي عن الثناء أولى، لقوله‏:‏

    ج/ 23 ص -300-"فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ‏"‏ ‏[‏الأعراف 204‏]‏ وإلا تناقضوا، كما ذكره البخاري‏.‏
    وأما قول أبي هريرة‏:‏ اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول‏:
    ‏ ‏"‏قال الله‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏.‏‏.‏‏"‏ إلى آخره‏.‏ فقد يقال‏:‏ إن أبا هريرة إنما أمره بالقراءة؛ لما في ذلك من الفضيلة المذكورة في حديث القسمة، لا لقوله‏:‏ ‏"‏من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج‏"‏، فإنه لو كان صلاة المأموم خداجا، إذا لم يقرأ، لأمره بذلك، لأجل ذلك الحديث‏.‏ ولم يعلل الأمر بحديث القسمة‏.‏ اللهم إلا أن يقال‏:‏ ذكره توكيداً، أو لأنه لما قسم القراءة قسم الصلاة، فدل على أنه لابد منها في الصلاة، إذ لو خلت عنها لم تكن القسمة موجودة‏.‏ وعلى هذا يبقي الحديثان مدلولهما واحد‏.‏
    وقوله‏:‏ اقرأ بها في نفسك، مجمل، فإن أراد ما أراد غيره من القراءة في حال المخافتة، أو سكوت الإمام، لم يكن ذلك مخالفاً؛ لقول أولئك، يؤيد هذا أن أبا هريرة ممن روى قوله‏:‏ ‏"‏وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏، وروى قوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏.‏ وما زاد‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏تجزئ فاتحة الكتاب وإذا زاد فهو خير‏"‏‏.‏ ومعلوم أن هذا لم يتناول المأموم المستمع لقراءة الإمام، فإن هذا لا تكون الزيادة على الفاتحة خيراً له، بل الاستماع والإنصات خير له، فلا يجزم حينئذ بأنه أمره

    ج/ 23 ص -301-أن يقرأ حال استماعه لقراءة الإمام بلفظ مجمل‏.‏
    قال البخاري‏:‏ وروى ابن صالح عن الأصفهاني، عن المختار، عن عبد الله بن أبي ليلي، عن أبيه، عن على‏:‏ من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة‏.‏ قال‏:‏ وهذا لم يصح؛ لأنه لا يعرف المختار، ولا يدري أنه سمع من ابنه، ولا أبيه من على، ولا يحتج أهل الحديث بمثله‏.‏ وحديث الزهري عن عبد الله بن أبي رافع عن على أولى وأصح‏.‏
    قلت‏:‏ حديث الزهري بين في أنه أمره بالقراءة في صلاة المخافتة، لا في صلاة الجهر‏.‏ وعلى هذا، فيكون إن كان قد قال هذا قاله في صلاة الجهر، إذا سمع الإمام، فلا منافاة بين القولين‏.‏ كما تقدم مثل ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر وغيرهما‏.‏
    قال البخاري‏:‏ وروى داود بن قيس، عن أبي نِجَاد رجل من ولد سعد عن سعد‏:‏ وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمر‏.‏ قال‏:‏ وهذا مرسل، وابن نجاد لم يعرف، ولا سمي، ولا يجوز لأحد أن يقول في في القارئ خلف الإمام جمرة؛ لأن الجمرة من عذاب الله‏.‏ وقال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا تعذبوا بعذاب الله‏"‏، ولا ينبغي لأحد أن يتوهم ذلك على سعد مع إرساله وضعفه‏.‏ قال‏:‏

    ج/ 23 ص -302- ‏وروى ابن حبان، عن سلمة بن كُهيل عن إبراهيم قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه تبنا‏.‏ قال‏:‏ وهذا مرسل لايحتج به، وخالفه ابن عون عن إبراهيم عن الأسود، وقال‏:‏ رَضْفا‏؟‏، وليس هذا من كلام أهل العلم لوجوه‏.‏
    أما أحدها‏:‏ قال النبي ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏لا تلاعنوا بلعنة الله،ولا بالنار، ولا تعذبوا بعذاب الله‏"‏‏.‏
    والوجه الآخر‏:‏ أنه لا ينبغي لأحد أن يتمني أن يملأ أفواه أصحاب النبي ﷺ‏:‏ عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وحذيفة، ومن ذكرنا رضفا، ولا تبنا، ولا تراباً‏.‏
    والوجه الثالث‏:‏ إذا ثبت الخبر عن النبي ﷺ وعن أصحابه، فليس في قول الأسود ونحوه حجة‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ليس أحد بعد النبي ﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويترك‏.‏ وقال حماد بن سلمة‏:‏ وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه سكراً‏.‏
    قال البخاري‏:‏ وروى عمر بن محمد، عن موسي بن سعد، عن زيد بن ثابت قال‏:‏ ‏"‏من قرأ خلف الإمام، فلا صلاة له‏"‏، ولا يعرف لهذا

    ج/ 23 ص -303- الإسناد سماع بعضهم من بعض، ولا يصح مثله‏.‏ قال‏:‏ وكان سعيد بن المسيَّب، وعروة والشَّعْبي، وعبيد الله بن عبد الله، ونافع ابن جبير، وأبو المَليح، والقاسم بن محمد، وأبو مُجلَز، ومَكْحول، ومالك، وابن عون، وسعيد بن أبي عَرُوبَة يرون القراءة‏.‏ وكان أنس وعبد الله بن يزيد الأنصاري يستحبان القراءة خلف الإمام‏.‏
    قلت‏:‏ قد روى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار‏:‏ أنه سأل زيد بن ثابت الأنصاري عن القراءة مع الإمام‏.‏ فقال‏:‏ لا قراءة مع الإمام في شيء‏.‏ وهذا يتناول القراءة معه في الجهر، كما قال الزهري فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله ﷺ، فيما يجهر فيه‏.‏
    وأما في صلاة المخافتة فلا يقال قرأ معه، كما لا يقال أن أحد المأمومين يقرأ مع الآخر، وكما لا يقال‏:‏ إنه استفتح معه، وتشهد معه، وسبح معه في الركوع والسجود‏.‏
    وكذلك ابن مسعود قد تقدمت الرواية عنه بأنه كان يأمر بإنصات المأموم لقراءة الإمام، وكان يقرأ خلف الإمام‏.‏ وعلى هذا فقوله‏:‏ إن كان قاله، أو قول أصحابه الذين نقلوا عنه كالأسود‏:‏

    ج/ 23 ص -304- وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه رَضْفَا، أو تبنا، أو تراباً، يتناول من قرأ وهو يسمع الإمام يقرأ، فترك ما أمر به من الإنصات والاستماع، وهذا هو الذي يتناوله قول سعد إن كان قاله‏:‏ ‏[‏وددت أن في فيه جمراً‏]‏، لاسيما إذا نازع الإمام القراءة، بأن يكون الإمام أو من يسمع قراءة الإمام يسمع حسه، فيكون ممن قال النبي ﷺ فيه‏:‏ ‏"‏ما لي أنازع القرآن‏؟‏‏"‏ وقال فيه‏:‏ ‏"‏علمت أن بعضكم خالجنيها‏"‏‏.‏ وكذلك لو قرأ في السر،ورفع صوته بحيث يخالج الإمام وينازعه، أو يخالج وينازع غيره من المأمومين، لكان مسيئاً في ذلك‏.‏
    وقول حماد بن سلمة وغيره‏:‏ وددت أنه ملئ فوه سكراً، إذا قرأ حيث يستحب له القراءة، لقراءته خلف الإمام في صلاة السر، وكذلك ما نقل عن زيد بن ثابت أنه قال‏:‏ من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له، يتناول من ترك ما أمر به، وفعل ما نهي عنه، فقرأ وهو يسمع قراءة الإمام، وفي بطلان صلاة هذا وجهان في مذهب أحمد، ومن قال هذا من السلف من صحابي أو تابعي، فقد يريد به معني صحيحاً‏.‏ كما في قول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخلص إلى جلده فتحرق ثيابه، خير له من أن يجلس على قبر‏"‏‏.‏ وتعذيب الإنسان بعذاب في الدنيا أيسر عليه من ركوب

    ج/ 23 ص -305- ما نهى الله عنه‏.‏
    فمن اعتقد أن قراءته حال استماع إمامه معصية الله ورسوله، ترك بها ما أمره الله، وفعل ما نهي الله عنه، جاز أن يقول‏:‏ لأن يحصل بفيه شيء يؤذيه فيمنعه عن المعصية خير له من أن يفعل ما نهي عنه‏.‏ كما قد يقال‏:‏ لمن تكلم بكلمة محرمة‏:‏ لو كنت أخرس لكان خيراً لك، ولا يراد بذلك أنا نحن نعذبه بذلك، لكن يراد لو ابتلاه الله بهذا، لكان خيراً له من أن يقع في الذنب‏.‏
    وقد قال النبي ﷺ للمتلاعنين‏:‏ ‏
    "‏عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة‏"‏‏.‏والواحد من السلف قد يذكر ما في الفعل من الوعيد، وإن فعله غيره متأولا، لقول عائشة‏:‏ أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إلا أن يتوب‏.‏ وليس في هذا تلاعن بلعنة الله، ولا بالنار، ولا تعذيب بعذاب الله، بل فيه تمني أن يبتلي بما يمنعه عن المعصية‏.‏ وإن كان فيه أذي له‏.‏ والعالم قد يذكر الوعيد فيما يراه ذنباً مع علمه بأن المتأول مغفور له، لا يناله الوعيد، لكن يذكر ذلك ليبين أن هذا الفعل مقتضي لهذه العقوبة عنده، فكيف وهو لم يذكر إلا ما يمنعه عما يراه ذنباً‏.‏

    ج/ 23 ص -306- وكذلك قول من قال‏:‏ وددت أنه ملئ فوه سُكرا، يتناول من فعل من أمر الله به من القراءة‏.‏ ومع هذا، فمن فعل القراءة المنهي عنها معتقداً أنه مأمور به، أو ترك المأمور به معتقداً أنه منهي عنه، كان مثابا على اجتهاده، وخطؤه مغفور له، وإن كان العالِم يقول في الفعل الذي يري أنه واجب أو محرم ما يناسب الوجوب والتحريم، وليس في ذلك تمني أن يملأ أفواه أصحاب رسول الله ﷺ، ولا أحداً من المؤمنين رَضْفَا ولا تبنا؛ لأن أولئك عامة ما نقل عنهم من القراءة خلف الإمام في السر،وذم الذامين لمن يقرأ في الجهر‏.‏ فلم يتوارد الذم والفعل، وإن قدر أنهما تواردا من السلف، فهو كتواردهما من الخلف‏.‏
    وحينئذ، فهذا يتكلم باجتهاده، وهذا باجتهاده، وليس ذلك بأعظم من قول بعض أكابر الصحابة لبعض أكابرهم قدام النبي ﷺ‏:‏ إنك منافق، تجادل عن المنافقين‏.‏ وقول القائل‏:‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق، وليس ذلك بأعظم مما وقع بينهم من التأويل في القتال في الفتن، والدعاء في القنوت باللعن، وغيره‏.‏ مع ما ثبت عن النبي ﷺ من قوله‏:‏ ‏
    "‏لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏"‏‏.‏ فإذا كان هذا الوعيد يندفع عنهم بالتأويل

    ج/ 23 ص -307- في الدماء، فلأن يندفع بالتأويل فيما دون ذلك أولى وأحرى‏.‏
    وقد ثبت عن على أنه حرق بالنار المرتدين، وكذلك الصديق روى عنه أنه حرق، فإذا جاز هذا على الخلاف مع ثبوت النص بخلافه، لأجل التأويل‏.‏ لم يمتنع أن يغلط بعضهم فيما يراه ذنباً ومعصية بمثل هذا الكلام‏.‏
    ومعلوم أن النهي عن القراءة خلف الإمام في الجهر متواتر عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كما أن القراءة خلف الإمام في السر متواترة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بل ونفي وجوب القراءة على المأموم مطلقاً مما هو معروف عنهم‏.‏
    وقد روى البخاري في هذا الكتاب‏:‏ حدثنا عبد الله بن منير، سمع يزيد بن هارون، ثنا زياد وهو الجصاص ثنا الحسن، حدثني عمران بن حصين، قال‏:‏ لا تزكو صلاة مسلم إلا بطهور وركوع وسجود وراء الإمام، وإن كان وحده بفاتحة وآيتين أو ثلاث‏.‏ فلم يوجب الفاتحة عليه إذا كان إماماً، كما أوجب عليه الطهارة والركوع والسجود، بل أوجبها مع الانفراد‏.‏

    ج/ 23 ص -308- ثم روى البخاري قوله‏:‏ ‏"‏لا تقرؤوا خلفي إلا بأم القرآن‏"‏، وذكر طرقه وما فيه من الاختلاف، فقال‏:‏ حدثنا شجاع بن الوليد، ثنا النضر، ثنا عكرمة، ثنا عمرو بن سعد‏.‏ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏.

    ج/ 23 ص -309-وَقَالَ شيخ الإِسلام‏:‏
    فصل
    الناس في القراءة خلف الإمام متنازعون في الوجوب والاستحباب‏:‏ فقيل تكره مطلقاً، كما هو قول أبي حنيفة، وغيره‏.‏
    وقيل‏:‏ بل تجب بالفاتحة مطلقا كما هو قول الشافعي في الجديد، وغيره‏.‏ وهو قول ابن حزم، وزاد لا تشرع بغير ذلك بحال‏.‏
    وقيل‏:‏ بل تجب بها في صلاة السر فقط، كقوله القديم‏.‏ والإمام أحمد ذكر إجماع الناس على أنها لا تجب في صلاة الجهر‏.‏
    والجمهور على أنها لا تجب ولا تكره مطلقا، بل تستحب القراءة في صلاة السر، وفي سكتات الإمام بالفاتحة وغيرها، كما هو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما‏.‏ وأما إذا لم يكن للإمام سكتات فقرأ فيها‏.‏ فهل تكره القراءة، أم تستحب بالفاتحة‏؟‏ فيه قولان‏.‏ فمذهب أحمد وجمهور أصحابه أنها تكره بالفاتحة وغيرها، واختار طائفة أنها تستحب

    ج/ 23 ص -310- حينئذ بالفاتحة، وهو اختيار جدي، وهو قول الليث، والأوزاعي‏.‏ وحجة هذا القول شيئان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن في قراءتها خروجًا من الاختلاف في وجوبها، فإنه إذا لم يقرأ، ففي صحة صلاته خلاف، بخلاف ما إذا قرأ فإنما يفوته الاستماع حين قراءتها فقط‏.‏
    الثاني‏:‏ الحديث الذي في السنن حديث عبادة‏:‏ ‏"‏إذا كنتم ورائي أو وراء الإمام فلا تقرؤوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها‏"‏ وهو حجة الموجبين‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ النهي إنما هو حال استماع قراءة الإمام فقط، فأما في غير ذلك، فالقراءة مشروعة‏.‏ فعلم أنه يستثني الفاتحة حال النهي عن غيرها، وهذا يفيد قراءتها حال استماع الجهر‏.‏ ثم هنا ثلاثة أقوال‏:‏
    قيل‏:‏ إنها واجبة، وإنه لا يقرأ بغيرها بحال‏.‏ كما قاله ابن حزم‏.‏
    وقيل‏:‏ بل هي واجبة، والنهي عن القراءة بغيرها حال الجهر، فلا يفيد النهي مطلقاً‏.‏
    وقيل‏:‏ بل يفيد استثناء قراءتها من النهي، والاستثناء من النهي

    ج/ 23 ص -311- لا يفيد الوجوب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها‏"‏، تعليل بوجوب قراءتها في الصلاة‏.‏ فإن كونها ركناً اقتضي أن تستثني في هذه الحال للمأموم، وإن لم تكن مفروضة عليه، كفرائض الكفايات إذا قام بها طائفة سقط بها الفرض ثم قام بها آخرون فإنه يقال‏:‏ هي فرض على الكفاية، وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير؛ ولهذا يقال‏:‏ الجنازة تفعل في أوقات النهي؛ لأنها فرض، وإن فعلت مرة ثانية في أصح الوجهين؛ لأنها تفعل فرضاً في حق هؤلاء، وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير‏.‏
    وقراءة الفاتحة هي ركن، وللمأموم أن يجتزئ بقراءة إمامه، وله أن يسقطها بنفسه‏.‏ وهذا كما في صدقة الفطر التي يتحملها الإنسان عن غيره، كصدقة الزوجة، فإنها هل تجب على الزوج ابتداء، أو تحملاً‏؟‏ على وجهين‏:‏ أصحهما‏:‏ أنها تحمل، فلو أخرجتها الزوجة لجاز، فتكون الزوجة مخيرة بين أن تخرجها، وبين أن تلزم الزوج بإخراجها، فلو أخرجها الزوج ثم أخرجتها هي، ولم تعتد بذلك الإخراج، لكان‏.‏ لكن الإمام لابد له من قراءة، وهو يتحمل القراءة عن المأموم‏.‏ فالقراءة الواحدة تجزي عن إمامه وعنه، وإن قرأ هو عن نفسه فحسن، كسائر فروض الكفايات، لكن هذا فرض عين على الأئمة‏.‏

    ج/ 23 ص -312- وأما الذين كرهوا القراءة في حال استماع قراءة الإمام مطلقاً، وهم الجمهور، فحجتهم قوله تعالى‏:‏ ‏"وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏، فأمر بالإنصات مطلقاً، ومن قرأ وهو يستمع، فلم ينصت‏.‏ ومن أجاب عن هذا بأن الآية مخصوصة بغير حال قراءة الفاتحة، فجوابه من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ ما ذكره الإمام أحمد من إجماع الناس على أنها نزلت في الصلاة وفي الخطبة، وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏‏.‏
    وأيضاً‏:‏ فالمستمع للفاتحة هو كالقارئ؛ ولهذا يؤمن على دعائها‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إذا أمَّن القارئ فأمنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏‏.‏ وأما الإنصات المأمور به حال قراءة الإمام، فهو من
    باب المتابعة للإمام، فهو فاعل للاتباع المأمور به، أي بمقصود القراءة، وإذا قرأ الفاتحة ترك المتابعة المأمور بها بالإنصات، وترك الإنصات المأمور به في القرآن، ولم يعتض عن هذين الأمرين إلا بقراءة الفاتحة التي حصل المقصود منها باستماعه قراءة الإمام، وتأمينه عليها‏.‏ وكان قد ترك الإنصات المأمور به إلى غير بدل، ففاته هذا الواجب، ولم يعتض عنه إلا ما حصل مقصوده بدونه‏.‏ ومعلوم أنه إذا دار

    ج/ 23 ص -313- الأمر بين تفويت أحد أمرين على وجه يتضمن تحصيل أحدهما، كان تحصيل ما يفوت إلى غير بدل أولى من تحصيل ما يقوم بدله مقامه‏.‏
    وأيضاً، فلو لم يكن المستمع كالقارئ، لكان المستحب حال جهره بغير الفاتحة أن يقرأ المأموم‏.‏ فلما اتفق المسلمون على أن المشروع للمأموم حال سماع القراءة المستحبة أن يستمع ولا يقرأ، علم أنه يحصل له مقصود القراءة بالاستماع، وإلا كان المشروع في حقه التلاوة، بل أوجبوا عليه الإنصات حال القراءة المستحبة‏.‏ فالإنصات حال القراءة الواجبة أولى‏.‏ وأما الحديث، فقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره، ولفظ الحديث الذي في الصحيحين ليس فيه إلا قول مطلق‏.‏
    وأيضا، فإن صح حمل على الإمام الذي له سكتات، يقرر ذلك أن لفظه ليس فيه عموم، فإنه قد روي أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بأم الكتاب‏"‏، وهذا استثناء من النهي لهم عن القراءة خلفه‏.‏ فالنبي ﷺ كان له سكتتان، كما روي ذلك سَمرة وأبي بن كعب‏.‏ كما ثبت سكوته بين التكبير والقراءة بحديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين، والدعاء الذي روى أبو هريرة في هذا السكوت يمكن فيه قراءة الفاتحة، فكيف إذا قرأ بعضها في سكتة، وبعضها في سكتة أخري‏.‏ فحينئذ، لا يكون في قوله‏:‏ ‏"‏إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بأم القرآن‏"‏، دليل على أنه يقرأ بها في حال الجهر‏.‏

    ج/ 23 ص -314- فإن هذا استثناء من النهي فلا يفيد إلا الإذن المطلق، بمعني أنهم ليسوا منهيين عن القراءة بها، لا يمكن قراءتها في حال سكتاته‏.‏
    يؤيد هذا أن جمهور المنازعين يسلمون أنه في صلاة السر يقرأ بالفاتحة وغيرها، ويسلمون أنه إذا أمكن أن يقرأ بما زاد على الفاتحة في سكتات الإمام قرأ، وأن البعيد الذي لا يسمع يقرأ بالفاتحة، وبما زاد، فحينئذ، يكون هذا النهي خاصاً فيمن صلى خلفه في صلاة الجهر‏.‏ واستثناء قراءة الفاتحة لإمكان قراءتها في سكتاته‏.‏
    يبين هذا أن لفظ الحديث في الصحيحين من رواية الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏بفاتحة الكتاب‏"‏‏.‏ وأما الزيادة فرواها عن عبادة بن الصامت، قال‏:‏ كنا خلف رسول الله ﷺ في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله ﷺ فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال‏:‏ ‏"‏لعلكم تقرؤون خلف إمامكم‏"‏، قلنا‏:‏ نعم، يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن، والدارقطني، وقال‏:‏ إسناده حسن‏.‏

    ج/ 23 ص -315- ورواها عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ صلى بنا رسول الله ﷺ بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فالتبست عليه القراءة‏.‏ فلما انصرف أقبل علينا بوجهه، وقال‏:‏ ‏"‏هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة‏؟‏‏"‏ فقال بعضنا‏:‏ إنا لنصنع ذلك، قال‏:‏ ‏"‏فلا، وأنا أقول‏:‏ ما لي أنازع القرآن، فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن‏"‏‏.‏ رواه أبو داود، واللفظ له والنسائي والدارقطني‏.‏ وله أيضاً‏:‏ ‏"‏لا يجوز صلاة لا يقرأ الرجل فيها فاتحة الكتاب‏"‏ وقال‏:‏ إسناد حسن، ورجاله كلهم ثقات‏.‏
    ففي هذا الحديث بيان أن النبي ﷺ لم يكن يعلم‏:‏ هل يقرؤون وراءه بشيء أم لا‏؟‏ ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم، لكان قد أمرهم بذلك، وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو بين ذلك لهم لفعله عامتهم، لم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم، ولم يكن يحتاج إلى استفهامه‏.‏ فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم قراءة خلفه حال الجهر، ثم إنه لما علم أنهم يقرؤون، نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب، وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر، سواء كان بالفاتحة أو غيرها، فالعلة متناولة للأمرين، فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباهسا على الإمام منهي عنه‏.‏

    ج/ 23 ص -316- وهذا يفعله كثير من المؤتمين الذين يرون قراءة الفاتحة حال جهر الإمام واجبة، أو مستحبة، فيثقلون القراءة على الإمام، ويلبسونها عليه، ويلبسون على من يقاربهم الإصغاء والاستماع الذي أمروا به، فيفوتون مقصود جهر الإمام، ومقصود استماع المأموم‏.‏
    ومعلوم أن مثل هذا يكون مكروها، ثم إذا فرض أن جميع المأمومين يقرؤون خلفه فنفس جهره لا لمن يستمع، فلا يكون فيه فائدة لقوله‏:‏ ‏"‏إذا أمن فأمنوا‏"‏‏.‏ ويكونون قد أمنوا على قرآن لم يستمعوه، ولا استمعه أحد منهم، إلا أن يقال‏:‏ إن السكوت يجب على الإمام بقدر ما يقرؤون، وهم لا يوجبون السكوت الذي يسع قدر القراءة، وإنما يستحبونه‏.‏ فعلم أن استحباب السكوت يناسب استحباب القراءة فيه، ولو كانت القراءة على المأموم واجبة، لوجب على الإمام أن يسكت بقدرها سكوتاً فيه ذكر، أو سكوتاً محضا، ولا أعلم أحدا أوجب السكوت لأجل قراءة المأموم‏.‏
    يحقق ذلك أنه قد أوجب الإنصات حال قراءة الإمام، كما في صحيح مسلم عن أبي موسي قال‏:‏ إن رسول الله ﷺ خطبنا، فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال‏:‏
    ‏"‏أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏‏.‏ ورواه من حديث أبي هريرة أيضاً قال‏:‏ قال رسول الله

    ج/ 23 ص -317- ﷺ‏:‏ ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏‏.‏ رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي‏.‏ قيل لمسلم بن الحجاج‏:‏ حديث أبي هريرة هو صحيح، يعني‏:‏ ‏"‏إذا قرأ فأنصتوا‏"‏ قال‏:‏ عندي صحيح‏.‏ قيل له‏:‏لم لا تضعه هاهنا‏؟‏ يعني في كتابه قال‏:‏ ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا‏.‏ إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه، يعني من طريق أبي هريرة لم يجمع عليها، وأجمع عليها من رواية أبي موسي، ورواها من طريق أبي موسي مسلم‏.‏ ولم يروها مسلم من طريق أبي هريرة‏.‏
    وعن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال‏:‏
    ‏"‏هل قرأ‏؟‏‏"‏ يعني أحداً منا آنفًا قال رجل‏:‏ نعم، يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إني أقول‏:‏ ما لي أنازع القرآن‏؟‏‏"‏ فانتهي الناس عن القراءة معه ﷺ، فيما جهر فيه النبي ﷺ بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك منه ﷺ‏.‏ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏ قال أبو داود سمعت محمد بن يحيي بن فارس قال قوله‏:‏ فانتهي الناس عن القراءة، إلى آخره‏.‏ من قول الزهري، وروي البخاري نحو ذلك، فقد قال البيهقي‏:‏ ابن أُكَيمَة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث

    ج/ 23 ص -318- وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري، وجواب ذلك من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه قد قال فيه أبو حاتم الرازي‏:‏ صحيح الحديث، حديثه مقبول، وتزكية أبي حاتم هو في الغاية‏.‏ وحكى عن أبي حاتم البُستي أنه قال‏:‏ روي عنه الزهري، وسعيد بن أبي هلال، وابن ابنه عمرو بن مسلم بن عمارة بن أُكَيمَة بن عمر‏.‏
    الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ ليس في حديث ابن أُكَيمَة إلا ما في حديث عبادة الذي اعتمده البيهقي، ونحوه‏.‏ من أنهم قرؤوا خلف النبي ﷺ‏.‏ وأنه قال‏
    :‏ ‏"‏ما لي أنازع القرآن‏"‏‏.‏
    الثالث‏:‏ إن حديث ابن أُكَيمَة رواه أهل السنن الأربعة، فإذا كان هذا الحديث هو مسلم بصحة متنه، وأن الحديث الذي احتج به والذي احتج به منازعوه قد اتفقا على هذه الرواية، كان ما اتفقا عليه معمولا به بالاتفاق، وما في حديثه من الزيادة قد انفرد بها من ذلك الطريق، ولم يروها إلا بعض أهل السنن، وطعن فيها الأئمة، وكانت الزيادة المختلف فيها أحق بالقدح في الأصل المتفق على روايته‏.‏
    وأما قوله‏:‏ فانتهي الناس، فهذا إذا كان من كلام الزهري كان تابعاً، فإن الزهري أعلم التابعين في زمنه بسنة رسول الله

    ج/ 23 ص -319-ﷺ، وهذه المسألة مما تتوفر الدواعي والهمم على نقل ما كان يفعل فيها خلف النبي ﷺ، ليس ذلك مما ينفرد به الواحد والاثنان، فجزم الزهري بهذا من أحسن الأدلة على أنهم تركوا القراءة خلفه حال الجهر بعد ما كانوا يفعلونه، وهذا يؤيد ما تقدم ذكره، ويوافق قوله‏:‏ ‏"‏وإذا قرأ فأنصتوا‏"‏، ولم يستثن فاتحة ولا غيرها‏.‏ وتحقق أن تلك الزيادة إما ضعيفة الأصل، أو لم يحفظ راويها لفظها، وأن معناها كان مما يوافق سائر الروايات، وإلا فلا يمكن تغيير الأصول الكلية الثابتة في الكتاب والسنة في هذا الأمر المحتمل‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وتمام القول في ذلك يتضح بما رواه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين‏:‏ أن رسول الله ﷺ صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه بسبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال‏:‏ ‏"‏أيكم قرأ‏؟‏‏"‏ أو ‏"‏أيكم القارئ‏؟‏‏"‏ قال رجل‏:‏ أنا، فقال‏:‏ ‏"‏قد ظننت أن بعضكم خالجنيها‏"‏‏.‏ ففي هذا الحديث أن منهم من قرأ خلفه في صلاة السر بزيادة على الفاتحة، ومع ذلك لم ينههم عن ذلك، وذلك إقرار منه لهم على القراءة خلفه بالزيادة على الفاتحة في صلاة السر، خلافا لمن قال لا يقرأ خلفه بحال، أو لا يقرأ بزيادة على الفاتحة‏.‏
    وقوله‏:‏‏"‏قد ظننت أن بعضكم خالجنيها‏"‏ ليس فيه نهي عن أصل

    ج/ 23 ص -320-القراءة،وإنما يفهم منه، أنه لا ينبغي للمأموم أن يرفع حسه بحيث يخالج الإمام، كما يفعل بعض المأمومين، وكما قد يفعل الإمام‏.‏ كما قال أبو قتادة‏:‏ كان يسمعنا الآية أحيانا‏.‏
    وفيه أيضاً ‏:‏ دليل على أنه لم يأمرهم بالقراءة خلفه في السر، لا بالفاتحة، ولا غيرها‏.‏ إذ لو كان أمرهم بذلك لم ينكر القراءة خلفه، وهو لم ينكر قراءة سورة معينة، بل قال‏:‏ ‏"‏أيكم قرأ‏؟‏‏"‏ أو‏:‏ ‏"‏أيكم القارئ‏؟‏‏"‏، بل من المعلوم في العادة أن القارئ خلفه لم يقرأ بسبح إلا بعد الفاتحة، فهذا يدل على أنه لا تجب القراءة على المأموم في السر، لا بالفاتحة ولا غيرها‏.‏
    كما يدل على ذلك حديث أبي بكر لما استخلفه النبي ﷺ في الصلاة حين ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوف، ثم رجع يقرأ من حيث انتهي أبو بكر، وكما في حديث أبي بكرة الذي رواه البخاري في صحيحه لما ركع دون الصف، ثم دخل في الصلاة، وقال له النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏زادك الله حرصا ولا تعد‏"‏‏.‏ ولو كانت قراءة الفاتحة فرضاً على المأموم مطلقاً لم تسقط بسبق، ولا جهل‏.‏ كما أن الأعرابي المسيء في صلاته قال له‏:‏ ‏"‏ارجع فصل فإنك لم تصل‏"‏، وأمر الذي صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة‏.‏

    ج/ 23 ص -321-وأيضاًً، فتحمل الإمام القراءة عن المأموم لا يمنع أن يكون للمأموم أن يقرأ فيأتي هو بالكمال في ذلك، فإن ذلك خير من السكوت الذي لا استماع معه، وهذا أمر معلوم متيقن من الشريعة أن القارئ للقرآن أفضل من الساكت الذي لا يستمع قراءة غيره، وهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ‏"‏الم‏"‏ حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏"‏‏.‏ فكراهة هذا العمل الصالح الذي يحبه الله ورسوله لا وجه له أصلا، وهذا بخلاف المستمع فإن استماعه يقوم مقام قراءته‏.‏
    ودليل ذلك اتفاقهم على أنه مأمور حال القراءة المستحبة بالإنصات إما أمر إيجاب، وإما أمر استح
    باب، وأنه مكروه لهم القراءة حال الاستماع، فلولا أن الاستماع كالقراءة، بل وأفضل‏:‏ لم يكن مأموراً بالإنصات منهياً عن القراءة، فإن الله لا يأمر بالأدنى وينهى عن الأفضل‏.‏
    ومما يؤيد ذلك قوله في حديث عبادة‏:‏ ‏"‏فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت بالقراءة، إلا بأم القرآن‏"‏‏.‏ فإنما نهاهم عن القراءة إذا جهر، وكذلك قول الزهري‏:‏ فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله ﷺ فيما جهر فيه رسول الله ﷺ حين سمعوا ذلك من رسول الله ﷺ‏.‏

    ج/ 23 ص -322- وهذا المفسر يقيد المطلق في اللفظ الآخر‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏تقرؤون خلف إمامكم‏؟‏‏"‏ قلنا‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب‏"‏ يعني في الجهر‏.‏ ويبين أيضاً ما رواه أحمد في المسند عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ كانوا يقرؤون خلف النبي ﷺ، فقال‏:‏ ‏"‏خلطتم على القرآن‏"‏‏.‏ فهذا لا يكون في صلاة جهر، أو في صلاة سر رفع المأموم فيها صوته حتى سمعه الإمام، وإلا فالمأموم الذي يقرأ سراً في نفسه لا يخلط على الإمام، ولا يخلط عليه الإمام، بخلاف المأموم الذي يقرأ حال قراءة الإمام، فإن الإمام قطعاً يخلط عليه، حتى أن من المأمومين من يعيد الفاتحة مرات لأن صوت الإمام يشغله قطعاً‏.‏
    بل إذا كان النبي ﷺ قد جعل المأموم يخلط عليه ويلبس ويخالج الإمام، فكيف بالإمام في حال جهره مع المأموم، والمأموم يلبس على المأموم حال الجهر؛ لأنه إذا جهر وحده كان أدني حس يلبس عليه، ويثقل عليه القراءة، فإن لم تكن الأصوات هادئة هدوءاً تاما، وإلا ثقلت عليه القراءة ولبس عليه، وهذا أمر محسوس‏.‏
    ولهذا تجد الذين يشهدون سماع القصائد سماع المكاء والتصدية يشوشون بأدني حس، وينكرون على من يشوش‏.‏ وكذلك من قرأ القرآن خارج الصلاة، فإنه يشوش عليه بأدني حس، فكيف من يقرأ في الصلاة، ولو قرأ قارئ خارج الصلاة على جماعة وهم لا ينصتون له، بل

    ج/ 23 ص -323-
    يقرؤون لأنفسهم لتشوش عليه‏.‏ فقد تبين بالأدلة السمعية والقياسية القول المعتدل في هذه المسألة، والله أعلم‏.‏ والأثار المروية عن الصحابة في هذا الباب تبين الصواب، فعن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام‏.‏ فقال‏:‏ لا قراءة مع الإمام في شيء‏.‏ رواه مسلم‏.‏ ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة، وهو عالم أهل المدينة، فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة، لم يقل لا قراءة مع الإمام في شيء‏.‏
    وقوله‏:‏ مع الإمام، إنما يتناول من قرأ معه حال الجهر‏.‏ فأما حال المخافتة فلا هذا يقرأ مع هذا، ولا هذا مع هذا، وكلام زيد هذا ينفي الإيجاب والاستحباب، ويثبت النهي والكراهة‏.‏
    وعن وهب بن كَيسَان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل؛ إلا وراء الإمام‏.‏ رواه مالك في الموطأ‏.‏ وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة، وهو من أعيان تلك الطبقة، وروي مالك أيضاً عن نافع عن عبد الله ابن عمر كان إذا سئل‏:‏ هل يقرأ أحد خلف الإمام‏؟‏ يقول‏:‏ إذا صلى أحدكم

    ج/ 23 ص -324- خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده، فليقرأ‏.‏ قال‏:‏ وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام، وابن عمر من أعلم الناس بالسنة، وأتبعهم لها‏.‏
    ولو كانت القراءة واجبة على المأموم، لكان هذا من العلم العام الذي بينه النبي ﷺ بياناً عاماً، ولو بين ذلك لهم لكانوا يعملون به عملاً عاماً، ولكان ذلك في الصحابة لم يخف مثل هذا الواجب على ابن عمر، حتى يتركه مع كونه واجباً عام الوجوب على عامة المصلين، قد بين بيانا عاماً، بخلاف ما يكون مستحباً، فإن هذا قد يخفى‏.‏
    وروي البيهقي عن أبي وائل أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال‏:‏ أنصت للقرآن، فإن في الصلاة لشغلا، وسيكفيك ذاك الإمام‏.‏ فقول ابن مسعود هذا يبين أنه إنما نهاه عن القراءة خلف الإمام؛ لأجل الإنصات‏.‏ والاشتغال به لم ينهه إذا لم يكن مستمعاً كما في صلاة السر، وحال السكتات‏.‏ فإن المأموم حينئذ لا يكون منصتاً ولا مشتغلا بشيء‏.‏ وهذا حجة على من خالف ابن مسعود من الكوفيين، ومبين لما رواه عن النبي ﷺ كما تقدم‏.‏

    ج/ 23 ص -325- وحديث جابر الذي تقدم قد روي مرفوعا،ومسندا، ومرسلا، فأما الموقوف على جابر فثابت بلا نزاع، وكذلك المرسل ثابت بلا نزاع‏.‏ من رواية الأئمة عن عبد الله بن شداد عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة‏"‏‏.‏ وأما المسند فتكلم فيه‏.‏ رواه ابن ماجه من حديث جابر الجِعْفِي، عن جابر بن عبد الله‏.‏ وجابر الجِعْفِي كذبه أيوب، وزائدة، ووثقه الثوري وسعيد‏.‏ وقال ابن معين‏:‏ لا يكتب حديثه، ولا كرامة، ليس بشيء‏.‏ وقال النسائي‏:‏ متروك‏.‏ وروي أبو داود عن أحمد أنه قال‏:‏ لم يتكلم في جابر لحديثه، إنما تكلم فيه لرأيه‏.‏ قال أبو داود‏:‏ ليس عندي بالقوي من حديثه، قوله‏:‏ ‏"‏فقراءة الإمام له قراءة‏"‏، لا تدل على أنه لا يستحب للمأموم القراءة، كما احتج بذلك من احتج به من الكوفيين، فإن قوله‏:‏ ‏"‏قراءة الإمام له قراءة‏"‏، دليل على أن له أن يجتزئ بذلك، وأن الواجب يسقط عنه بذلك، لا يدل على أنه ليس له أن يقرأ كما في مواضع كثيرة، وله أن يسقط الواجب بفعل غيره، وله أن يفعله هو بنفسه‏.‏ وكذلك المستحب‏.‏ وأقصي ما يقدر أن يكون هو كأنه قد قرأ‏.‏
    ثم إن أذكار الصلاة واجبها ومستحبها، إذا فعلها العبد مرة، لم

    ج/ 23 ص -326-يكره له أن يفعلها في محلها مرة ثانية لغرض صحيح، مع أنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يقول‏:‏ ‏"‏الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً‏"‏‏.‏ وكان النبي ﷺ يردد الآية الواحدة، كما ردد قوله‏:‏ ‏"إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏‏.‏ آخر ما وجد، والحمد للَّه وحده، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم‏.‏

    ج/ 23 ص -327-وَقَال أيضاً‏:‏
    فصل
    وأما القراءة خلف الإمام‏:‏ فالناس فيها طرفان، ووسط‏.‏
    منهم‏:‏ من يكره القراءة خلف الإمام، حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم، سواء في ذلك صلاة السر والجهر، وهذا هو الغالب على أهل الكوفة، ومن اتبعهم‏:‏ كأصحاب أبي حنيفة‏.‏
    ومنهم‏:‏ من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة، وإن سمع الإمام يقرأ، وهذا هو الجديد من قولي الشافعي، وقول طائفة معه‏.‏
    ومنهم‏:‏ من يأمر بالقراءة في صلاة السر، وفي حال سكتات الإمام في صلاة الجهر، والبعيد الذي لا يسمع الإمام‏.‏ وأما القريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه؛ إقامة للاستماع مقام التلاوة‏.‏ وهذا قول الجمهور‏:‏ كمالك، وأحمد، وغيرهم،

    ج/ 23 ص -328-من فقهاء الأمصار، وفقهاء الآثار‏.‏ وعليه يدل عمل أكثر الصحابة، وتتفق عليه أكثر الأحاديث‏.‏
    وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم‏:‏ هل هي مبنية على صلاة الإمام‏؟‏ أم كل واحد منهما يصلى لنفسه‏؟‏ كما تقدم التنبيه عليه‏.‏ فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها، ومبنية عليها مطلقاً، حتى أنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام‏.‏ وأصل الشافعي‏:‏ أن كل رجل يصلي لنفسه، لا يقوم مقامه لا في فرض ولا سنة؛ ولهذا أمر المأموم بالتسميع، وأوجب عليه القراءة، ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام، إلا في مواضع مستثناة، كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو، وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقاً‏.‏ وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي، ونحو ذلك‏.‏ وأما مالك وأحمد‏:‏ فإنها مبنية عليها من وجه دون وجه‏.‏ كما ذكرناه من الاستماع للقراءة في حال الجهر، والمشاركة في حال المخافتة، ولا يقول المأموم عندهما‏:‏ سمع الله لمن حمده، بل يحمد جواباً لتسميع الإمام، كما دلت عليه النصوص الصحيحة، وهي مبنية عليها‏.‏ فيما يعذران فيه، دون ما لا يعذران، كما تقدم في الإمامة‏.‏

    ج/ 23 ص -329-وسئل‏:‏ عن قراءة المؤتم خلف الإمام‏:‏ جائزة أم لا‏؟‏ وإذا قرأ خلف الإمام‏:‏ هل عليه إثم في ذلك، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    القراءة خلف الإمام في الصلاة لا تبطل عند الأئمة رضوان الله عليهم لكن تنازع العلماء أيما أفضل في حق المأموم‏؟‏ فمذهب مالك والشافعي وأحمد‏:‏ أن الأفضل له أن يقرأ في حال سكوت الإمام‏:‏ كصلاة الظهر، والعصر، والأخيرتين من المغرب والعشاء، وكذلك يقرأ في صلاة الجهر إذا لم يسمع قراءته‏.‏ ومذهب أبي حنيفة‏:‏ أن الأفضل ألا يقرأ خلفه بحال، والسلف رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين منهم من كان يقرأ، ومنهم من كان لا يقرأ خلف الإمام‏.‏
    وأما إذا سمع المأموم قراءة الإمام، فجمهور العلماء على أنه يستمع ولا يقرأ بحال، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم‏.‏ ومذهب الشافعي أنه يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، ومذهب

    ج/ 23 ص -330- طائفة كالأوزاعي وغيره من الشاميين يقرأها استحباباً، وهو اختيار جدنا‏.‏
    والذي عليه جمهور العلماء هو الفرق بين حال الجهر، وحال المخافتة، فيقرأ في حال السر، ولا يقرأ في حال الجهر، وهذا أعدل الأقوال؛ لأن الله تعالى قال‏:‏
    ‏"وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏204‏]‏، فإذا قرأ الإمام فليستمع، وإذا سكت، فليقرأ فإن القراءة خير من السكوت الذي لا استماع معه‏.‏ ومن قرأ القرآن، فله بكل حرف عشر حسنات، كما قال النبي ﷺ، فلا يفوت هذا الأجر بلا فائدة، بل يكون إما مستمعاً، وإما قارئاً‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏ عما تدرك به الجمعة والجماعة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    اختلف الفقهاء فيما تدرك به الجمعة والجماعة على ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ أنهما لا يدركان إلا بركعة، وهو مذهب مالك،

    ج/ 23 ص -331- وأحمد في إحدي الروايتين عنه اختارها جماعة من أصحابه، وهو وجه في مذهب الشافعي، واختاره بعض أصحابه أيضاً كأبي المحاسن الرياني، وغيره‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أنهما يدركان بتكبيرة، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏
    والقول الثالث‏:‏ أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، والجماعة تدرك بتكبيرة، وهذا القول هو المشهور من مذهب الشافعي، وأحمد‏.‏ والصحيح هو القول الأول؛ لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن قدر التكبيرة لم يعلق به الشارع شيئاً من الأحكام، لا في الوقت، ولا في الجمعة، ولا الجماعة، ولا غيرها‏.‏ فهو وصف ملغي في نظر الشارع، فلا يجوز اعتباره‏.‏
    الثاني‏:‏ أن النبي ﷺ إنما علق الأحكام بإدراك الركعة، فتعليقها بالتكبيرة إلغاء لما اعتبره، واعتبار لما ألغاه، وكل ذلك فاسد فيما اعتبر فيه الركعة، وعلق الإدراك بها في الوقت‏.‏ ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏إذا أدرك أحدكم ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب

    ج/ 23 ص -332-الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته‏"‏‏.‏
    وأما ما في بعض طرقه‏:‏ ‏"‏إذا أدرك أحدكم سجدة‏"‏، فالمراد بها الركعة التامة، كما في اللفظ الآخر‏.‏ ولأن الركعة التامة تسمي باسم الركوع، فيقال‏:‏ ركعة‏.‏ وباسم السجود فيقال‏:‏ سجدة‏.‏ وهذا كثير في ألفاظ الحديث، مثل هذا الحديث وغيره‏.‏
    الثالث‏:‏ أن النبي ﷺ علق الإدراك مع الإمام بركعة، وهو نص في المسألة‏.‏ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة‏"‏، وهذا نص رافع للنزاع‏.‏
    الرابع‏:‏ أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، كما أفتي به أصحاب رسول الله ﷺ‏:‏ منهم ابن عمر، وابن مسعود، وأنس وغيرهم‏.‏ ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف‏.‏ وقد حكى غير واحد أن ذلك إجماع الصحابة، والتفريق بين الجمعة والجماعة غير صحيح؛ ولهذا أبو حنيفة طرد أصله، وسوي بينهما، ولكن الأحاديث الثابتة وآثار الصحابة تبطل ما ذهب إليه‏.‏
    الخامس‏:‏ أن ما دون الركعة لا يعتد به من الصلاة، فإنه يستقبلها

    ج/ 23 ص -333- جميعها منفرداً، فلا يكون قد أدرك مع الإمام شيئاً يحتسب له به، فلا يكون قد اجتمع هو والإمام في جزء من أجزاء الصلاة يعتد له به، فتكون صلاته جميعاً صلاة منفرد‏.‏ يوضح هذا أنه لا يكون مدركاً للركعة إلا إذا أدرك الإمام في الركوع، وإذا أدركه بعد الركوع لم يعتد له بما فعله معه، مع إنه قد أدرك معه القيام من الركوع والسجود، وجلسة الفصل، ولكن لما فاته معظم الركعة وهو القيام والركوع فاتته الركعة، فكيف يقال مع هذا أنه قد أدرك الصلاة مع الجماعة، وهو لم يدرك معهم ما يحتسب له به، فإدراك الصلاة بإدراك الركعة، نظير إدراك الركعة بإدراك الركوع؛ لأنه في الموضعين قد أدرك ما يعتد له به، وإذا لم يدرك من الصلاة ركعة، كان كمن لم يدرك الركوع مع الإمام في فوت الركعة؛ لأنه في الموضعين لم يدرك ما يحتسب له به، وهذا من أصح القياس‏.‏
    السادس‏:‏ أنه ينبني على هذا‏:‏ أن المسافر إذا ائتم بمقيم وأدرك معه ركعة فما فوقها، فإنه يتم الصلاة، وإن أدرك معه أقل من ركعة، صلاها مقصورة، نص عليه الإمام أحمد في إحدي الروايتين عنه، وهذا لأنه بإدراك الركعة قد ائتم بمقيم في جزء من صلاته، فلزمه الإتمام، وإذا لم يدرك معه ركعة فصلاته صلاة منفرد فيصليها مقصورة‏.‏

    ج/ 23 ص -334- وينبني عليه أيضاً أن المرأة الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس بقدر ركعة، لزمها العصر، وإن طهرت قبل الفجر بقدر ركعة، لزمها العشاء، وإن حصل ذلك بأقل من مقدار ركعة، لم يلزمها شيء‏.‏ وأما الظهر والمغرب‏:‏ فهل يلزمها بذلك‏؟‏ فيه خلاف مشهور‏.‏ فقيل‏:‏ لا يلزمها وهو قول أبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ يلزمها وهو مذهب مالك، والشافعي وأحمد، ورواه الإمام أحمد عن ابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف‏.‏
    ثم اختلف هؤلاء فيما تلزم به الصلاة الأولى على قولين‏:‏
    أحدهما‏:‏ تجب بما تجب به الثانية، وهل هو ركعة‏.‏ أو تكبيرة‏؟‏ على قولين‏:‏
    والثاني‏:‏ لا تجب، إلا بأن تدرك زمناً يتسع لفعلها، وهو أصح‏.‏
    وقريب من هذا اختلافهم فيما إذا دخل عليها الوقت وهي طاهرة ثم حاضت، هل يلزمها قضاء الصلاة أم لا‏؟‏ على قولين‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا يلزمها، كما يقوله مالك، وأبو حنيفة‏.‏
    والثاني‏:‏ يلزمها، كما يقوله الشافعي، وأحمد

    ج/ 23 ص -335-ثم اختلف الموجبون عليها الصلاة فيما يستقر به الوجوب على قولين‏:‏
    أحدهما‏:‏ قدر تكبيرة، وهو المشهور في مذهب أحمد‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يمضي عليها زمن تتمكن فيه من الطهارة وفعل الصلاة، وهو القول الثاني في مذهب أحمد، والشافعي‏.‏ ثم اختلفوا بعد ذلك‏:‏ هل يلزمها فعل الثانية من المجموعتين مع الأولى‏؟‏ على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمد‏.‏ والأظهر في الدليل مذهب أبي حنيفة ومالك أنها لا يلزمها شيء، لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء، ولأنها أخرت تأخيراً جائزاً فهي غير مفرطة‏.‏ وأما النائم أو الناسي وإن كان غير مفرط أيضاً فإن ما يفعله ليس قضاء، بل ذلك وقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ويذكر‏.‏ كما قال‏:‏ النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها‏"‏‏.‏ وليس عن النبي ﷺ حديث واحد بقضاء صلاة بعد وقتها، وإنما وردت السنة بالإعادة في الوقت لمن ترك واجباً من واجبات الصلاة كأمره للمسيء في صلاته بالإعادة لما ترك الطمأنينة المأمور بها، وكأمره لمن صلى خلف الصف منفرداً بالإعادة لما ترك المصافة الواجبة، وكأمره

    ج/ 23 ص -336- لمن ترك لمعة من قدمه لم يصبها الماء بالإعادة لما ترك الوضوء المأمور به وأمر النائم والناسي بأن يصليا إذا ذكرا، وذلك هو الوقت في حقهما والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه الله‏:‏ عمن يرفع قبل الإمام ويخفض، ونهي فلم ينته، فما حكم صلاته‏؟‏ وما يجب عليه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما مسابقة الإمام، فحرام، باتفاق الأئمة‏.‏ لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفع قبله، ولا يسجد قبله‏.‏ وقد استفاضت الأحاديث عن النبي ﷺ بالنهي عن ذلك، كقوله في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"
    ‏لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، فإني مهما أسبقكم به إذا ركعت، تدركوني به إذا رفعت، إني قد بدنت‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم‏"‏، قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏فتلك بتلك، وإذا قال‏:‏ سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، وإذا كبر وسجد، فكبروا، واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم، فتلك بتلك‏"‏‏.‏

    ج/ 23 ص -337- وكقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار‏"‏، وهذا لأن المؤتم متبع للإمام مقتد به، والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه، وقدوته‏.‏ فإذا تقدم عليه، كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعمله، كما جاء في حديث آخر‏:‏ ‏"‏مثل الذي يتكلم والخطيب يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً‏"‏‏.‏
    ومن فعل ذلك، استحق العقوبة والتعزير الذي يردعه، وأمثاله، كما روي عن عمر‏:‏ أنه رأي رجلا يسابق الإمام، فضربه‏.‏ وقال‏:‏ لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت‏.‏
    وإذا سبق الإمام سهواً، لم تبطل صلاته، لكن يتخلف عنه بقدر ما سبق به الإمام، كما أمر بذلك أصحاب رسول الله ﷺ، لأن صلاة المأموم مقدرة بصلاة الإمام، وما فعله قبل الإمام سهواً، لا يبطل صلاته؛ لأنه زاد في الصلاة ما هو من جنسها سهواً، فكان كما لو زاد ركوعا أو سجوداً سهواً، وذلك لا يبطل بالسنة والإجماع، ولكن ما يفعله قبل الإمام لا يعتد به على الصحيح؛ لأنه فعله في غير محله؛ لأن ما قبل فعل الإمام ليس وقتاً لفعل المأموم، فصار بمنزلة من صلى قبل الوقت، أو بمنزلة من كبر قبل تكبير الإمام، فإن هذا لا يجزئه عما أوجب الله عليه، بل لابد أن يحرم إذا حل الوقت لا قبله، وأن يحرم المأموم إذا أحرم الإمام، لا قبله‏.‏ فكذلك المأموم

    ج/ 23 ص -338- لابد أن يكون ركوعه وسجوده إذا ركع الإمام وسجد، لا قبل ذلك، فما فعله سابقاً وهو ساه عفي له عنه، ولم يعتد له به، فلهذا أمره الصحابة والأئمة أن يتخلف بمقداره ليكون فعله بقدر فعل الإمام‏.‏
    وأما إذا سبق الإمام عمداً، ففي بطلان صلاته قولان معروفان في مذهب أحمد وغيره‏.‏ ومن أبطلها قال‏:‏ إن هذا زاد في الصلاة عمدا فتبطل، كما لو فعل قبله ركوعا أو سجوداً عمداً‏.‏ فإن الصلاة تبطل بلا ريب، وكما لو زاد في الصلاة ركوعًا أو سجودًا عمدًا‏.‏ وقد قال الصحابة للمسابق‏:‏ لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت‏.‏ ومن لم يصل وحده، ولا مؤتما، فلا صلاة له‏.‏ وعلى هذا، فعلى المصلي أن يتوب من المسابقة، ويتوب من نقر الصلاة، وترك الطمأنينة فيها، وإن لم ينته فعلى الناس كلهم أن يأمروه بالمعروف الذي أمره الله به، وينهوه عن المنكر الذي نهاه الله عنه‏.‏ فإن قام بذلك بعضهم وإلا أثموا كلهم‏.‏
    ومن كان قادرا على تعزيره وتأديبه على الوجه المشروع، فعل ذلك، ومن لم يمكنه إلا هجره وكان ذلك مؤثراً فيه هجره، حتى يتوب‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -339-وسئل‏:‏ عن المصافحة عقيب الصلاة‏:‏ هل هي سنة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة، بل هي بدعة‏.‏ والله أعلم‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML