أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب صلاة التطوع

    ج/ 23 ص -54- باب صلاة التطوع
    سئل شيخ الإسلام‏:‏ أيما طلب القرآن أو العلم أفضل‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما العلم الذي يجب على الإنسان عينا كعلم ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن، فإن طلب العلم الأول واجب، وطلب الثاني مستحب، والواجب مقدم على المستحب‏.‏
    وأما طلب حفظ القرآن، فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا‏:‏ وهو إما باطل، أو قليل النفع‏.‏ وهو أيضًا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم، من الكلام، أو الجدال،

    ج/ 23 ص -55-والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت، ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلابد في مثل هذه المسألة من التفصيل‏.‏
    والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه، لم يكن من أهل العلم، والدين، والله سبحانه أعلم‏.‏
    وسئل عن تكرار القرآن والفقه‏:‏ أيهما أفضل وأكثر أجرًا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ‏.‏ وكلام الله لا يقاس به كلام الخلق، فإن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه‏.‏
    وأما الأفضل في حق الشخص، فهو بحسب حاجته، ومنفعته، فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره، فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إن كان حفظ من القرآن ما يكفيه، وهو محتاج إلى علم آخر‏.‏

    ج/ 23 ص -56-وكذلك إن كان قد حفظ القرآن، أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه، فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه‏.‏
    وأما من تعبد بتلاوة الفقه، فتعبده بتلاوة القرآن أفضل، وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج لتدبره، والله أعلم‏.‏
    وسئل عمن يحفظ القرآن‏:‏ أيما أفضل له تلاوة القرآن مع أمن النسيان أو التسبيح وما عداه من الاستغفار والأذكار في سائر الأوقات مع علمه بما ورد في ‏[‏الباقيات الصالحات‏]‏، و‏[‏التهليل‏]‏، و‏[‏لا حول ولا قوة إلا بالله‏]‏، و‏[‏سيد الاستغفار‏]‏، ‏[‏وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم‏]‏‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين‏:‏ فالأصل الأول أن جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الأذكار، كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن ‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏"‏‏.‏

    ج/ 23 ص -57-وفي الترمذي عن أبي سعيد عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين‏"‏، وكما في الحديث الذي في السنن في الذي سأل النبي ﷺ فقال‏:‏ إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في صلاتي‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏"‏؛ ولهذا كانت القراءة في الصلاة واجبة، فإن الأئمة لا تعدل عنها إلى الذكر إلا عند العجز‏.‏ والبدل دون المبدل منه‏.‏
    وأيضًا، فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى، دون الذكر والدعاء، وما لم يشرع إلا على الحال الأكمل فهو أفضل، كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان، كانت أفضل من مجرد القراءة، كما قال النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة‏"‏‏.‏ ولهذا نص العلماء على أن أفضل تطوع البدن الصلاة‏.‏
    وأيضًا، فما يكتب فيه القرآن لا يمسه إلا طاهر‏.‏ وقد حكي إجماع العلماء على أن القراءة أفضل، لكن طائفة من الشيوخ رجحوا الذكر‏.‏ ومنهم من زعم أنه أرجح في حق المنتهي المجتهد، كما ذكر ذلك أبو حامد في كتبه‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ هو أرجح في حق المبتدئ السالك، وهذا أقرب إلى الصواب‏.‏

    ج/ 23 ص -58- وتحقيق ذلك يذكر في الأصل الثاني، وهو‏:‏ أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك وهو نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ ما هو مشروع لجميع الناس‏.‏
    والثاني‏:‏ ما يختلف باختلاف أحوال الناس‏.‏ أما الأول فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان، أو عمل يكون أفضل‏:‏ مثل ما بعد الفجر والعصر، ونحوهما من أوقات النهى عن الصلاة؛ فإن القراءة والذكر والدعاء أفضل في هذا الزمان، وكذلك الأمكنة التي نهى عن الصلاة فيها‏:‏ كالحمام وأعطان الإبل والمقبرة فالذكر والدعاء فيها أفضل، وكذلك الجنب‏:‏ الذكر في حقه أفضل، والمحدث‏:‏ القراءة والذكر في حقه أفضل، فإذا كره الأفضل في حال حصول مفسدة، كان المفضول هناك أفضل، بل هو المشروع‏.‏
    وكذلك حال الركوع والسجود، فإنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم‏"‏‏.‏ وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك، على قولين، هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفا للقرآن وتعظيمًا له ألا يقرأ في

    ج/ 23 ص -59- حال الخضوع والذل، كما كره أن يقرأ مع الجنازة، وكما كره أكثر العلماء قراءته في الحمام‏.‏
    وما بعد التشهد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي ﷺ وأمره‏.‏ والدعاء فيه أفضل، بل هو المشروع، دون القراءة والذكر، وكذلك الطواف وبعرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار‏:‏ المشروع هناك هو الذكر والدعاء‏.‏ وقد تنازع العلماء في القراءة في الطواف هل تكره أم لا تكره‏؟‏ على قولين مشهورين‏.‏
    والنوع الثاني‏:‏ أن يكون العبد عاجزًا عن العمل الأفضل، إما عاجزًا عن أصله، كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه كالأعرابي الذي سأل النبي ﷺ، أو عاجزًا عن فعله على وجه الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال‏.‏ ومن هنا قال من قال‏:‏ إن الذكر أفضل من القرآن، فإن الواحد من هؤلاء قد يخبر عن حاله‏.‏ وأكثر السالكين بل العارفين منهم إنما يخبر أحدهم عما ذاقه ووجده، لا يذكر أمرًا عامًا للخلق؛ إذ المعرفة تقتضي أمورًا معينة جزئية، والعلم يتناول أمرًا عامًا كليا‏.‏ فالواحد من هؤلاء يجد في الذكر من اجتماع قلبه، وقوة إيمانه، واندفاع الوسواس عنه، ومزيد السكينة، والنور، والهدي‏:‏ ما لا يجده في قراءة القرآن، بل إذا قرأ القرآن لا يفهمه أو لا يحضر قلبه وفهمه، ويلعب عليه الوسواس

    ج/ 23 ص -60- والفكر، كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع في الصلاة، بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك، وليس كل من كان أفضل يشرع لكل أحد بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له‏.‏
    فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس، وإن كان جنس الصدقة أفضل‏.‏ ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء، وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل‏.‏ قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏الحج جهاد كل ضعيف‏"‏ ونظائر هذا متعددة‏.‏
    إذا عرف هذان الأصلان، عرف بهما جواب هذه المسائل‏.‏ إذا عرف هذا فيقال‏:‏ الأذكار المشروعة في أوقات معينة مثل ما يقال عند جواب المؤذن هو أفضل من القراءة في تلك الحال، وكذلك ما سنه النبي ﷺ فيما يقال عند الصباح والمساء، وإتيان المضجع هو مقدم على غيره‏.‏وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إن أطاقها وإلا فليعمل ما يطيق، والصلاة أفضل منهما؛ ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة فقال‏:‏ ‏
    "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عليكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ‏"‏ الآية ‏[‏المزمل‏:‏20‏]‏، والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -61-وسئل‏:‏ أيما أفضل قارئ القرآن الذي لا يعمل، أو العابد‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان العابد يعبد بغير علم، فقد يكون شرًا من العالم الفاسق، وقد يكون العالم الفاسق شرًا من‏.‏
    وإن كان يعبد الله بعلم فيؤدي الواجبات، ويترك المحرمات، فهو خير من الفاسق، إلا أن يكون للعالم الفاسق حسنات تفضل على سيئاته، بحيث يفضل له منها أكثر من حسنات العابد‏.‏ والله أعلم‏.‏

    وسئل‏:‏ أيما أفضل استماع القرآن أم صلاة النفل‏؟‏ وهل تكره القراءة عند الصلاة غير الفرض أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    من كان يقرأ القرآن والناس يصلون تطوعًا فليس له أن يجهر جهرًا يشغلهم به؛ فإن النبي ﷺ خرج على أصحابه

    ج/ 23 ص -62-وهم يصلون من السحر فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، كلكم يناجي ربه‏.‏ فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة‏"‏‏.‏ والقراءة في الصلاة النافلة أفضل في الجملة، لكن قد تكون القراءة وسماعها أفضل لبعض الناس، والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏ أيما أفضل إذا قام من الليل‏:‏ الصلاة،أم القراءة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    بل الصلاة أفضل من القراءة في غير الصلاة، نص على ذلك أئمة العلماء‏.‏ وقد قال‏:‏ ‏"‏استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن‏"‏‏.‏ لكن من حصل له نشاط وتدبر، وفهم للقراءة دون الصلاة، فالأفضل في حقه ما كان أنفع له‏.‏
    وسئل عن رجل أراد تحصيل الثواب‏:‏ هل الأفضل له قراءة القرآن أم الذكر والتسبيح‏؟‏

    ج/ 23 ص -63-فأجاب‏:‏
    قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء من حيث الجملة، لكن قد يكون المفضول أفضل من الفاضل في بعض الأحوال، كما أن الصلاة أفضل من ذلك كله‏.‏
    ومع هذا، فالقراءة والذكر والدعاء في أوقات النهي عن الصلاة كالأوقات الخمسة، ووقت الخطبة هي أفضل من الصلاة، والتسبيح في الركوع والسجود أفضل من القراءة، والتشهد الأخير أفضل من الذكر‏.‏
    وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالمفضول أكثر بحسب حاله، إما لاجتماع قلبه عليه، وانشراح صدره له، ووجود قوته له، مثل من يجد ذلك في الذكر أحيانًا دون القراءة، فيكون العمل الذي أتي به على الوجه الكامل أفضل في حقه من العمل الذي يأتي به على الوجه الناقص، وإن كان جنس هذا‏.‏ وقد يكون الرجل عاجزًا عن الأفضل فيكون ما يقدر عليه في حقه أفضل له‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -64-وسئل رحمه الله‏:‏ ما يقول سيدنا فيمن يجهر بالقراءة، والناس يصلون في المسجد السنة أو التحية، فيحصل لهم بقراءته جهرًا أذي‏.‏ فهل يكره جهر هذا بالقراءة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس لأحد أن يجهر بالقراءة لا في الصلاة، ولا في غير الصلاة، إذا كان غيره يصلي في المسجد، وهو يؤذيهم بجهره، بل قد خرج النبي ﷺ على الناس وهم يصلون في رمضان، ويجهرون بالقراءة‏.‏ فقال‏:‏
    ‏"‏يا أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة‏"‏
    وأجاب أيضًا رحمه الله تعالى ‏:‏ ليس لأحد أن يجهر بالقراءة، بحيث يؤذي غيره كالمصلين‏.‏

    ج/ 23 ص -65-وسئل رحمه الله عن القيام للمصحف وتقبيله، وهل يكره أيضًا أن يفتح فيه الفأل‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئًا مأثورًا عن السلف، وقد سئل الإمام أحمد عن تقبيل المصحف‏.‏ فقال‏:‏ ما سمعت فيه شيئًا، ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل‏:‏ أنه كان يفتح المصحف، ويضع وجهه عليه، ويقول‏:‏ كلام ربي‏.‏ كلام ربي‏.‏‏.‏ ولكن السلف وإن لم يكن من عادتهم القيام له فلم يكن من عادتهم قيام بعضهم لبعض، اللهم إلا لمثل القادم من مغيبه ونحو ذلك‏.‏
    ولهذا قال أنس‏:‏ لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك‏.‏ والأفضل للناس أن يتبعوا طريق السلف في كل شيء فلا

    ج/ 23 ص -66- يقومون إلا حيث كانوا يقومون‏.‏
    فأما إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض‏.‏ فقد يقال‏:‏ لو تركوا القيام للمصحف مع هذه العادة لم يكونوا محسنين في ذلك، ولا محمودين، بل هم إلى الذم أقرب، حيث يقوم بعضهم لبعض، ولا يقومون للمصحف الذي هو أحق بالقيام، حيث يجب من احترامه وتعظيمه ما لا يجب لغيره‏.‏ حتى ينهى أن يمس القرآن إلا طاهر، والناس يمس بعضهم بعضاً مع الحدث، لا سيما وفي ذلك من تعظيم حرمات اللّه وشعائره ما ليس في غير ذلك، وقد ذكر من ذكر من الفقهاء الكبار قيام الناس للمصحف ذكر مقرر له غير منكر له‏.‏
    وأما استفتاح الفأل في المصحف، فلم ينقل عن السلف فيه شيء، وقد تنازع فيه المتأخرون‏.‏ وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعا‏:‏ ذكر عن ابن بطة أنه فعله، وذكر عن غيره أنه كرهه، فإن هذا ليس الفأل الذي يحبه رسول الله ﷺ، فإنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة‏.‏
    والفأل الذي يحبه هو أن يفعل أمراً أو يعزم عليه متوكلا على اللّه، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره‏:‏ مثل أن يسمع يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك‏.‏ كما لقي في سفر الهجرة

    ج/ 23 ص -67- رجلا فقال‏:‏ ‏"‏ما اسمك‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ بريدة‏.‏ قال‏:‏‏"‏يا أبا بكر، برد أمرنا‏"‏
    وأما الطيرة بأن يكون قد فعل أمرًا متوكلاً على الله، أو يعزم عليه، فيسمع كلمة مكروهة‏:‏ مثل ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك‏.‏ فيتطير ويترك الأمر، فهذا منهي عنه‏.‏ كما في الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمي قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، منا قوم يتطيرون، قال‏:‏
    ‏"‏ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم‏"‏‏.‏ فنهى النبي ﷺ أن تصد الطيرة العبد عما أراد، فهو في كل واحد من محبته للفأل وكراهته للطيرة، إنما يسلك مسلك الاستخارة لله، والتوكل عليه، والعمل بما شرع له من الأس
    باب، لم يجعل الفأل آمرًا له، وباعثًا له على الفعل، ولا الطيرة ناهية له عن الفعل، وإنما يأتمر وينتهي عن مثل ذلك أهل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام، وقد حرم الله الاستقسام بالأزلام في آيتين من كتابه، وكانوا إذا أرادوا أمرًا من الأمور أحالوا به قداحًا مثل السهام أو الحصي، أو غير ذلك، وقد عَلَّمُوا على هذا علامة الخير، وعلى هذا علامة الشر، وآخر غفل‏.‏ فإذا خرج هذا فعلوا، وإذا خرج هذا تركوا، وإذا خرج الغفل أعادوا الاستقسام‏.‏
    فهذه الأنواع التي تدخل في ذلك مثل الضرب بالحصي والشعير واللوح والخشب، والورق المكتوب عليه حروف أبجد، أو أبيات من

    ج/ 23 ص -68- الشعر، أو نحو ذلك مما يطلب به الخيرة فيما يفعله الرجل ويتركه ينهى عنها؛ لأنها من باب الاستقسام بالأزلام، وإنما يسن له استخارة الخالق، واستشارة المخلوق، والاستدلال بالأدلة الشرعية التي تبين ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه وينهى عنه‏.‏
    وهذه الأمور تارة يقصد بها الاستدلال على ما يفعله العبد‏:‏ هل هو خير أم شر، وتارة الاستدلال على ما يكون فيه نفع في الماضي والمستقبل‏.‏ وكلاً غير مشروع، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -69- وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله‏:‏
    فصل
    تنازع الناس، أيما أفضل‏:‏ كثرة الركوع والسجود أو طول القيام‏.‏ وقد ذكر عن أحمد في ذلك ثلالاث روايات‏:‏
    إحداهن‏:‏ أن كثرة الركوع والسجود أفضل، وهي التي اختارها طائفة من أصحابه‏.‏
    والثانية‏:‏ أنهما سواء‏.‏
    والثالثة‏:‏ أن طول القيام أفضل، وهذا يحكي عن الشافعي‏.‏
    فنقول‏:‏ هذه المسألة لها صورتان‏:‏
    إحداهما‏:‏ أن يطيل القيام، مع تخفيف الركوع والسجود، فيقال‏:‏

    ج/ 23 ص -70- أيما أفضل، هذا أم تكثير الركوع والسجود مع تخفيف القيام‏؟‏ ويكون هذا قد عدل بين القيام، وبين الركوع والسجود، فخفف الجميع‏.‏
    والصورة الثانية‏:‏ أن يطيل القيام،فيطيل معه الركوع والسجود فيقال‏:‏ أيما أفضل، هذا أم أن يكثر من الركوع والسجود والقيام‏.‏ وهذا قد عدل بين القيام والركوع والسجود في النوعين، لكن أيما أفضل، تطويل الصلاة قيامًا وركوعًا وسجودًا، أم تكثير ذلك مع تخفيفها، فهذه الصورة ذكر أبو محمد وغيره فيها ثلاث روايات، وكلام غيره يقتضي أن النزاع في الصورة الأولى أيضًا‏.‏
    والصواب في ذلك‏:‏ أن الصورة الأولى تقليل الصلاة مع كثرة الركوع والسجود، وتخفيف القيام أفضل من تطويل القيام وحده مع تخفيف الركوع والسجود‏.‏ ومن فضل تطويل القيام احتجوا بالحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ سئل‏:‏ أي الصلاة أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"
    ‏طول القنوت‏"‏‏.‏ وظنوا أن المراد بطول القنوت طول القيام، وإن كان مع تخفيف الركوع والسجود، وليس كذلك‏.‏ فإن القنوت هو دوام العبادة والطاعة، ويقال لمن أطال السجود‏:‏ إنه قانت‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏"‏ [‏الزمر‏:‏ 9‏]‏، فجعله قانتًا في حال السجود، كما هو قانت في حال القيام، وقدم السجود على القيام‏.‏

    ج/ 23 ص -71- وفي الآية الأخري قال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا‏"‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 64‏]‏، ولم يقل قنوتًا، فالقيام ذكره بلفظ القيام، لا بلفظ القنوت‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، فالقائم قد يكون قانتًا، وقد لا يكون، وكذلك الساجد‏.‏ فالنبي ﷺ بين أن طول القنوت أفضل الصلاة، وهو يتناول القنوت في حال السجود، وحال القيام‏.‏ وهذا الحديث يدل على الصورة الثانية، وأن تطويل الصلاة قيامًا وركوعًا وسجودًا أولى من تكثيرها قيامًا وركوعًا وسجودًا؛ لأن طول القنوت يحصل بتطويلها لا بتكثيرها، وأما تفضيل طول القيام مع تخفيف الركوع والسجود على تكثير الركوع والسجود فغلط‏.‏ فإن جنس السجود أفضل من جنس القيام، من وجوه متعددة‏:‏
    أحدها‏:‏ أن السجود بنفسه عبادة، لا يصلح أن يفعل إلا على وجه العبادة لله وحده، والقيام لا يكون عبادة إلا بالنية، فإن الإنسان يقوم في أمور دنياه، ولا ينهى عن ذلك‏.‏
    الثاني‏:‏أن الصلاة المفروضة لابد فيها من السجود، وكذلك كل صلاة فيها ركوع لابد فيها من سجود،لا يسقط السجود فيها بحال من الأحوال،فهو عماد الصلاة،وأما القيام فيسقط في التطوع دائمًا،وفي الصلاة على الراحلة في السفر،وكذلك يسقط القيام في الفرض عن المريض،وكذلك عن المأموم إذا صلى إمامه جالسًا،كما

    ج/ 23 ص -72- جاءت به الأحاديث الصحيحة‏.‏
    وسواء قيل‏:‏ إنه عام للأمة، أو مخصوص بالرسول، فقد سقط القيام عن المأموم في بعض الأحوال، والسجود لا يسقط لا عن قائم ولا قاعد، والمريض إذا عجز من إيمائه أتي منه بقدر الممكن، وهو الإيماء برأسه، وهو سجود مثله، ولو عجز عن الإيماء برأسه، ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه يومئ بطرفه، فجعلوا إيماءه بطرفه هو ركوعه وسجوده، فلم يسقطوه‏.‏
    والثاني‏:‏ أنه تسقط الصلاة في هذه الحال، ولا تصح على هذا الوجه، وهو قول أبي حنيفة، وهذا القول أصح في الدليل؛ لأن الإيماء بالعين ليس من أعمال الصلاة، ولا يتميز فيه الركوع عن السجود، ولا القيام عن القعود، بل هو من نوع العبث الذي لم يشرعه الله تعالى‏.‏
    وأما الإيماء بالرأس، فهو خفضه، وهذا بعض ما أمر به المصلي‏.‏ وقد قال النبي ﷺ في الحديث المتفق على صحته‏:‏ ‏
    "‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏، وهو لا يستطيع من السجود إلا

    ج/ 23 ص -73- هذا الإيماء، وأما تحريك العين فليس من السجود في شيء‏.‏
    وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه لابد في الصلاة من السجود، وهذا يقول‏:‏ الإيماء بطرفه هو سجود، وهذا يقول‏:‏ ليس بسجود فلا يصلي‏.‏ فلو كانت الصلاة تصح مع القدرة بلا سجود لأمكن أن يكبر ويقرأ ويتشهد ويسلم، فيأتي بالأقوال دون الأفعال، وما علمت أحدًا قال‏:‏ إن الصلاة تصح بمجرد الأقوال، بل لابد من السجود‏.‏ وأما القيام والقراءة، فيسقطان بالعجز باتفاق الأئمة، فَعُلِم أن السجود هو أعظم أركان الصلاة القولية والفعلية‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أن القيام إنما صار عبادة بالقراءة، أو بما فيه من ذكر ودعاء، كالقيام في الجنازة‏.‏ فأما القيام المجرد، فلم يشرع قط عبادة مع إمكان الذكر فيه بخلاف السجود فإنه مشروع بنفسه عبادة، حتى خارج الصلاة، شرع سجود التلاوة، والشكر، وغير ذلك‏.‏
    وأما المأموم إذا لم يقرأ، فإنه يستمع قراءة إمامه، واستماعه عبادة، وإن لم يسمع فقد اختلف في وجوب القراءة عليه، والأفضل له أن يقرأ‏.‏ والذين قالوا‏:‏ لا قراءة عليه، أو لا تستحب له القراءة، قالوا‏:‏ قراءة الإمام له قراءة، فإنه تابع للإمام‏.‏

    ج/ 23 ص -74- فإن قيل‏:‏ إذا عجز الأمي عن القراءة والذكر، قيل‏:‏ هذه الصورة نادرة، أو ممتنعة، فإن أحدًا لا يعجز عن ذكر الله، وعليه أن يأتي بالتكبير، وما يقدر عليه من تحميد وتهليل، وعلى القول بتكرار ذلك‏:‏ هل يكون بقدر الفاتحة‏؟‏ فيه وجهان لقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا قمت إلى الصلاة فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله، ثم اركع‏"‏ رواه أبو داود، والترمذي‏.‏
    قال أحمد‏:‏ إنه إذا قام إلى الثانية وقد نسي بعض أركان الأولى، إن ذكر قبل الشروع في القراءة مضي،وصارت هذه بدل تلك‏.‏ فإن المقصود بالقيام هو القراءة؛ ولهذا قالوا‏:‏ ما كان عبادة بنفسه لم يحتج إلى ركن قولي كالركوع والسجود، وما لم يكن عبادة بنفسه احتاج إلى ركن قولي كالقيام والقعود‏.‏ وإذا كان السجود عبادة بنفسه علم أنه أفضل من القيام‏.‏
    الوجه الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ القيام يمتاز بقراءة القرآن، فإنه قد نهى عن القراءة في الركوع والسجود، وقراءة القرآن أفضل من التسبيح، فمن هذا الوجه تميز القيام، وهو حجة من سوي بينهما، فقال‏:‏ السجود بنفسه أفضل، وذكر القيام أفضل، فصار كل منهما أفضل من وجه، أو تعادلا‏.‏ لكن يقال قراءة القرآن تسقط في مواضع‏.‏ وتسقط عن المسبوق القراءة والقيام أيضًا كما في حديث أبي بكرة‏.‏ وفي السنن‏:‏

    ج/ 23 ص -75- ‏"‏من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة‏"‏‏.‏ وهذا قول جماهير العلماء، والنزاع فيه شاذ‏.‏
    أيضًا، فالأمي تصح صلاته بلا قراءة باتفاق العلماء، كما في السنن أن رجلاً قال‏:‏ يا? رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزيني منه‏.‏ فقال‏:‏
    ‏"‏قل‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ هذا لله، فما لي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏تقول‏:‏ اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني‏"‏‏.‏
    وأيضًا، فلو نسي القراءة في الصلاة، قد قيل‏:‏ تجزيه الصلاة، وروي ذلك عن الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ إذا نسيها في الأولى، قرأ في الثانية قراءة الركعتين، وروي هذا عن أحمد‏.‏ وأما السجود فلا يسقط بحال، فعلم أن السجود أفضل من القراءة، كما أنه أفضل من القيام، والمسبوق في الصلاة يبني على قراءة الإمام الذي استخلفه، كما قد بني النبي ﷺ على قراءة أبي بكر‏.‏
    الوجه الخامس‏:‏ أنه قد ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏إن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود‏"‏‏.‏ فتأكل القدم، وإن كان موضع القيام‏.‏

    ج/ 23 ص -76- الوجه السادس‏:‏ أن الله تعالى قال‏:‏ ‏"يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ‏"‏[‏القلم‏:‏42، 43‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة‏:‏ ‏"‏إنه إذا تجلى لهم يوم القيامة سجد له المؤمنون، ومن كان يسجد في الدنيا رياء يصير ظهره مثل الطبق‏"‏‏.‏
    فقد أمروا بالسجود في عرصات القيامة، دون غيره من أجزاء الصلاة، فعلم أنه أفضل من غيره‏.‏
    الوجه السابع‏:‏ أنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة‏:‏ أن الرسول إذا طلب منه الناس الشفاعة يوم القيامة قال‏:‏ ‏"‏فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن‏"‏، فهو إذا رآه سجد وحمد، وحينئذ يقال له‏:‏ ‏"‏أي محمد، ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع‏"‏‏.‏ فعلم أنه أفضل من غيره‏.‏
    الوجه الثامن‏:‏ أن الله تعالى قال‏:‏ ‏
    "كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏"‏[‏العلق‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏"‏، وهذا نص في أنه في حال السجود أقرب إلى الله منه في غيره، وهذا صريح في فضيلة السجود على غيره‏.‏ والحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة‏:‏

    ج/ 23 ص -77- أن رسول الله ﷺ قال‏:‏ ‏"‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏.‏ فأكثروا الدعاء‏"‏‏.‏
    الوجه التاسع‏:‏ ما رواه مسلم في صحيحه عن مَعْدان بن أبي طلحة قال‏:‏ لقيت ثوبان مولي رسول الله ﷺ فقلت‏:‏ أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة، أو قال‏:‏ بأحب الأعمال إلى الله، فسكت‏.‏ثم سألته الثانية، فقال‏:‏ سألت عن ذلك رسول الله ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة‏"‏، قال معدان‏:‏ ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته‏.‏ فقال لي مثلما قال لي ثوبان‏.‏ فإن كان سأله عن أحب الأعمال فهو صريح في أن السجود أحب إلى الله من غيره، وإن كان سأله عما يدخله الله به الجنة، فقد دله على السجود دون القيام، فدل على أنه أقرب إلى حصول المقصود‏.‏
    وهذا الحديث يحتج به من يري أن كثرة السجود أفضل من تطويله، لقوله‏:‏ ‏"‏فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة‏"‏، ولا حجة فيه؛ لأن كل سجدة يستحق بها ذلك، لكن السجدة أنواع‏.‏ فإذا كانت إحدي السجدتين أفضل من الأخري، كان ما يرفع به من الدرجة أعظم، وما يحط به عنه من الخطايا أعظم‏.‏ كما أن السجدة التي يكون فيها أعظم خشوعًا وحضورًا، هي أفضل

    ج/ 23 ص -78- من غيرها، فكذلك السجدة الطويلة التي قنت فيها لربه هي أفضل من القصيرة‏.‏
    الوجه العاشر‏:‏ ما روي مسلم أيضًا عن ربيعة بن كعب قال‏:‏ كنت أبيت مع رسول الله ﷺ فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي‏:‏
    ‏"‏سل‏"‏، فقلت‏:‏ أسألك مرافقتك في الجنة، فقال‏:‏ ‏"‏أو غير ذلك‏؟‏‏"‏ فقلت‏:‏ هو ذاك، قال‏:‏ ‏"‏فأعني على نفسك بكثرة السجود‏"‏‏.‏ فهذا قد سأل عن مرتبة علية، وإنما طلب منه كثرة السجود‏.‏ وهذا أدل على أن كثرة السجود أفضل‏.‏ لكن يقال‏:‏ المكثر من السجود قد يكثر من سجود طويل، وقد يكثر من سجود قصير، وذاك أفضل‏.‏
    وأيضًا، فالإكثار من السجود لابد منه، فإذا صلى إحدي عشرة ركعة طويلة، كما كان النبي ﷺ يصلي، فإذا صلى المصلي في مثل زمانهن عشرين ركعة، فقد أكثر السجود، لكن سجود ذاك أفضل وأتم، وهذا أكثر من ذاك، وليس لأحد أن يقول‏:‏ إنما كان أكثر من قصرها فهو أفضل مما هو كثير أيضًا وهو أتم وأطول كصلاة النبي ﷺ‏.‏

    ج/ 23 ص -79-الوجه الحادي عشر‏:‏ أن مواضع الساجد تسمي مساجد، كم قال تعالى‏:‏ ‏"وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏"‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله‏"‏[‏التوبة‏:‏17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏"‏[‏الأعراف‏:‏29‏]‏، ولا تسمي مقامات إلا بعد فعل السجود فيها‏.‏ فَعُلِم أن أعظم أفعال الصلاة هو السجود، الذي عبر عن مواضع السجود بأنها مواضع فعله‏.‏
    الوجه الثاني عشر‏:‏ أنه تعالى قال‏:‏
    ‏"إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وهذا وإن تناول سجود التلاوة، فتناوله لسجود الصلاة أعظم، فإن احتياج الإنسان إلى هذا السجود أعظم على كل حال، فقد جعل الخرور إلى السجود، مما لا يحصل الإيمان إلا به، وخصه بالذكر، وهذا مما تميز به‏.‏ وكذلك أخبر عن أنبيائه أنهم‏:‏ ‏"إِذَا تُتْلَى عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏، وقال في تلك الآية‏:‏ ‏"تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا‏"‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏‏.‏
    والدعاء في السجود أفضل من غيره، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل قوله في حديث أبي هريرة‏:‏ ‏"‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء‏"‏، ومثل ما روي مسلم في صحيحه عن

    ج/ 23 ص -80- ابن عباس قال‏:‏ كشف رسول الله ﷺ الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تري له‏.‏ ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم‏"‏‏.‏ وقد ثبت عن النبي ﷺ الدعاء في السجود في عدة أحاديث‏.‏ وفي غير حديث، تبين أن ذلك في صلاته بالليل، فعلم أن قوله‏:‏ ‏"تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا‏"‏، وإن كان يتناول الدعاء في جميع أحوال الصلاة، فالسجود له مزية على غيره، كما لآخر الصلاة مزية على غيرها؛ ولهذا جاء في السنن‏:‏ ‏"‏أفضل الدعاء جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات‏"‏‏.‏
    فهذه الوجوه وغيرها، مما يبين أن جنس السجود أفضل من جنس القيام والقراءة، ولو أمكن أن يكون أطول من القيام، لكان ذلك أفضل، لكن هذا يشق مشقة عظيمة، فلهذا خفف السجود عن القيام مع أن السنة تطويله إذا طول القيام، كما كان النبي ﷺ يصلي فروي‏:‏ أنه كان يخفف القيام والقعود، ويطيل الركوع والسجود‏.‏ولما أطال القيام في صلاة الكسوف، أطال الركوع والسجود‏.‏
    وكذلك في حديث حذيفة الصحيح‏:‏ أنه لما قرأ بالبقرة والنساء

    ج/ 23 ص -81- وآل عمران، قال‏:‏ ركع نحوا من قيامه، وسجد نحوًا من ركوعه‏.‏ وفي حديث البراء الصحيح أنه قال‏:‏ كان قيامه فركعته فاعتداله فسجدته فجلوسه بين السجدتين فجلسته ما بين السلام والانصراف قريبًا من السواء‏.‏ وفي رواية‏:‏ ما خلا القيام والقعود‏.‏
    وثبت في الصحيح عن عائشة‏:‏ أنه كان يسجد السجدة بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية‏.‏ فهذه الأحاديث تدل على أن تطويل الصلاة قيامها وركوعها وسجودها، أفضل من تكثير ذلك مع تخفيفه، وهو القول الثالث في الصورة الثانية، ومن سوي بينهما قال‏:‏ إن الأحاديث تعارضت في ذلك، وليس كذلك‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏"‏أفضل الصلاة طول القنوت‏"‏، يتناول التطويل في القيام والسجود، وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه، عن عمار عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏من أمَّ الناس فليخفف، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء‏"‏‏.‏ وأحاديث تفضيل السجود قد بينا أنها لا تنافي ذلك‏.‏ ومعلوم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ‏.‏
    وأيضًا، فإنه لما صلى الكسوف كان يمكنه أن يصلي عشر ركعات، أو عشرين ركعة يكثر فيها قيامها وسجودها، فلم يفعل، بل صلى

    ج/ 23 ص -82- ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، وجعل في كل ركعة قيامين وركوعين‏.‏ وعلى هذا، فكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام الذي ليس فيه تطويل الركوع والسجود‏.‏
    وأما إذا أطال القيام والركوع والسجود، فهذا أفضل من إطالة القيام فقط، وأفضل من تكثير الركوع والسجود والقيام بقدر ذلك‏.‏ والكلام إنما هو في الوقت الواحد‏:‏ كثلث الليل، أو نصفه، أو سدسه أو الساعة‏.‏ هل هذا أفضل من هذا، أو هذا أفضل من هذا‏.‏
    وفي الصحيحين عن أم هانئ، لما صلى الثماني ركعات يوم الفتح قالت‏:‏ ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها، غير أنه كان يتم الركوع والسجود‏.‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ثم قام فركع ثماني ركعات، لا أدري أقيامه فيها أطول، أم ركوعه، أم سجوده، كل ذلك متقارب، فهذا يبين أنه طول الركوع، والسجود قريبًا من القيام، وأن قولها‏:‏لم أره صلى صلاة أخف منها، إخبار منها عما رأته، وأم هانئ لم تكن مباشرة له في جميع الأحوال، ولعلها أرادت منع كثرة الركعات، فإنه لم يصل ثمانيا جميعًا أخف منها، فإن صلاته بالليل كانت أطول من ذلك، وهو بالنهار لم يصل ثمانيا متصلة قط، بل إنما كان يصلي المكتوبة، والظهر كان يصلي بعدها ركعتين،وقبلها أربعًا، أو ركعتين‏.‏أو لعله خففها لضيق الوقت،فإنه صلاها بالنهار وهو مشتغل بأمور فتح مكة

    ج/ 23 ص -83- كما كان يخفف المكتوبة في السفر حتى يقرأ في الفجر بالمعوذتين‏.‏وروي أنه قرأ في الفجر بالزلزلة في الركعتين،فهذا التخفيف لعارض‏.‏
    وقد احتج من فضل التكثير على التطويل بحديث ابن مسعود قال‏:‏ إني لأعرف السور التي كان رسول الله ﷺ يقرأ بهن من المفصل، كل سورتين في ركعة، يدل على أنه لم يكن يطيل القيام، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه أولاً جمع بين سورتين من المفصل‏.‏ وأيضًا، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها‏.‏
    وأيضًا، فإن حذيفة روي عنه‏:‏ أنه قام بالبقرة، والنساء، وآل عمران في ركعة‏.‏ وابن مسعود ذكر أنه طول حتى هممت بأمر سوء‏:‏ أن أجلس وأدعه‏.‏ ومعلوم أن هذا لا يكون بسورتين، فعلم أنه كان يفعله أحيانًا، ولا ريب أنه كان يطيل بعض الركعات أطول من بعض، كما روت عائشة وغيرها‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -84-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    فصل
    قد ذكر الله قيام الليل في عدة آيات‏.‏ تارة بالمدح، وتارة بالأمر أمر إيجاب، ثم نسخه بأمر الاستح
    باب، إذا لم تدخل صلاة العشاء فيه، بل أريد القيام بعد النوم؛ فإنه قد قال سعيد ابن المسيب وغيره‏:‏ من صلى العشاء في جماعة، فقد أخذ بنصيبه من قيام ليلة القدر‏.‏ فقد جعل ذلك من القيام‏.‏
    وقد روي عن عبيدة السلماني‏:‏ أن قيام الليل واجب لم ينسخ، ولو كحلب شاة‏.‏ وهذا إذا أريد به ما يتناول صلاة الوتر، فهو قول كثير من العلماء‏.‏
    والدليل عليه‏:‏ أن في حديث ابن مسعود لما قال‏:‏ ‏"‏أوتروا يا أهل القرآن‏"‏، قال أعرابي‏:‏ ما يقول رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏
    ‏"‏إنها ليست لك، ولا لأصحابك‏"‏‏.‏ فقد خاطب أهل القرآن من قيام الليل بما لم يخاطب به غيرهم‏.‏

    ج/ 23 ص -85- وعلى هذا قوله‏:‏ ‏"فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏"‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، فسر بقرائته بالليل لئلا ينساه‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏نظرت في سيئات أمتي‏.‏ فوجدت فيها الرجل يؤتيه الله آية فينام عنها حتى ينساها‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من صلى العشاء في جماعة‏.‏ فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله‏"‏، أي‏:‏ الصبح مع العشاء‏.‏ فهذا يدل على أنهما ليسا من قيام الليل، ولكن فاعلهما كمن قام الليل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏15 18‏]‏، وقال‏:‏ ‏"الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏17‏]‏، وهذا على أصح الأقوال معناه‏:‏ كانوا يهجعون قليلاً‏.‏ ف ‏[‏قليلاً‏]‏ منصوب ب ‏[‏يهجعون‏]‏ و‏[‏ما‏]‏ مؤكدة‏.‏ وهذا مثل قوله‏:‏ ‏"بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 17‏]‏، هو مفسر في سورة المزمل بقوله‏:‏ ‏"قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عليه وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا‏"‏[‏المزمل‏:‏2،4‏]‏، فهذا المستثنى من الأمر هو القليل المذكور في تلك السورة، وهو قليل بالنسبة إلى مجموع الليل والنهار، فإنهم إذا هجعوا ثلثه أو نصفه أو ثلثاه، فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يهجعوه من الليل والنهار، وسواء ناموا بالنهار أو لم يناموا‏.‏

    ج/ 23 ص -86- وقد قيل‏:‏ لم يأت عليهم ليلة إلا قاموا فيها‏.‏ فالمراد هجوع جميع الليلة، وهذا ضعيف؛ لأن هجوع الليل محرم‏.‏ فإن صلاة العشاء فرض‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏"‏[‏السجدة‏:‏15،17‏]‏، وفي حديث معاذ الذي قال فيه‏:‏ يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا أدلك على أبواب الخير‏؟‏ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل‏"‏، ثم تلي‏:‏ ‏"تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏"‏، حتى بلغ‏:‏ ‏"يَعْمَلُونَ‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه‏؟‏ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا أخبرك بملاك ذلك كله‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ بلي، قال‏:‏ فأخذ بلسانه - فقال‏:‏ ‏"‏اكفف عليك هذا‏"‏، فقلت‏:‏ يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏ثكلتك أمك يامعاذ‏!‏ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم‏"‏‏.‏

    ج/ 23 ص -87- وقال تعالى‏:‏ ‏"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْباب‏"‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏113‏]‏، وقال تعالى بعد قوله‏:‏ ‏"أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏78،79‏]‏، وقال في سورة المزمل‏:‏ ‏"قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عليه وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عليكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا‏"‏[‏المزمل‏:‏ 2،6‏]‏‏.‏
    وإذا نسخ الوجوب بقي الاستحباب، قال أحمد وغيره‏:‏ و‏[‏الناشئة‏]‏ لا تكون إلا بعد نوم‏.‏ يقال‏:‏ نشأ، إذا قام‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏
    "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏63،64‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عليكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا‏"‏[‏الإنسان‏:‏2326‏]‏‏.‏ فإن هذا يتناول صلاة العشاء، والوتر، وقيام الليل‏.‏ لقوله‏:‏ ‏"وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا‏"‏وقوله تعالى‏:‏ ‏"وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 97،98‏]‏‏.‏

    ج/ 23 ص -88-مطلق لم يخصه بوقت آخر‏.‏
    والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم تسليمًا‏.‏
    وسئل عن رجل لم يصل وتر العشاء الآخرة‏:‏ فهل يجوز له تركه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد الله، الوتر سنة مؤكدة، باتفاق المسلمين‏.‏ ومن أصر على تركه فإنه ترد شهادته‏.‏
    وتنازع العلماء في وجوبه، فأوجبه أبو حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد، والجمهور لا يوجبونه‏:‏ كمالك، والشافعي، وأحمد؛ لأن النبي ﷺ كان يوتر على راحلته، والواجب لا يفعل على الراحلة، لكن هو باتفاق المسلمين سنة مؤكدة لا ينبغي لأحد تركه‏.‏
    والوتر أوكد من سنة الظهر والمغرب والعشاء، والوتر أفضل من جميع تطوعات النهار، كصلاة الضحي، بل أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل‏.‏ وأوكد ذلك الوتر، وركعتا الفجر‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -89-وسئل عما إذا كان الرجل مسافرًا وهو يقصر‏:‏ هل عليه أن يصلي الوتر أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
    فأجاب‏:‏
    نعم، يوتر في السفر، فقد كان النبي ﷺ يوتر سفرًا وحضرًا، وكان يصلي على دابته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة‏.‏
    وسئل عمن نام عن صلاة الوتر‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يصلي ما بين طلوع الفجر وصلاة الصبح، كما فعل ذلك عبد الله بن عمر، وعائشة، وغيرهما‏.‏ وقد روي أبو داود في سننه عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏من نام عن وتره أو نسيه، فليصله إذا أصبح، أو ذكر‏"‏‏.‏

    ج/ 23 ص -90-واختلفت الرواية عن أحمد‏:‏ هل يقضي شفعه معه‏؟‏ والصحيح أنه يقضي شفعه معه‏.‏ وقد صح عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها‏"‏‏.‏وهذا يعم الفرض، وقيام الليل، والوتر، والسنن الراتبة‏.‏ قالت عائشة‏:‏ كان رسول الله ﷺ إذا منعه من قيام الليل نوم، أو وجع، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة‏.‏ رواه مسلم‏.‏
    وروي عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه بين صلاة الصبح، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ وهكذا في السنن الراتبة‏.‏
    وقد صح عن النبي ﷺ‏:‏ أنه لما نام هو وأصحابه عن صلاة الصبح في السفر، صلى سنة الصبح ركعتين، ثم صلى الصبح بعد طلوع الشمس، ولما فاتته سنة الظهر التي بعدها صلاها بعد العصر‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ كان رسول الله ﷺ إذا لم يصل أربعًا قبل الظهر، صلاهن بعدها‏.‏ رواه الترمذي‏.‏ وروي أبو هريرة عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏من لم يصل ركعتي الفجر، فليصلهما بعد ما تطلع الشمس‏"‏‏.‏ رواه الترمذي، وصححه ابن خزيمة‏.‏

    ج/ 23 ص -91-وفيه قول آخر‏:‏ أن الوتر لا يقضي، وهو رواية عن أحمد؛ لما روي عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا طلع الفجر فقد ذهبت صلاة الليل والوتر‏"‏ قالوا‏:‏ فإن المقصود بالوتر أن يكون آخر عمل الليل، كما أن وتر عمل النهار المغرب؛ ولهذا كان النبي ﷺ إذا فاته عمل الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولو كان الوتر فيهن لكان ثلاث عشرة ركعة‏.‏ والصحيح أن الوتر يقضي قبل صلاة الصبح فإنه إذا صليت لم يبق في قضائه الفائدة التي شرع لها، والله أعلم‏.‏
    وسئل شيخُ الإسلام عن إمام شافعي يصلي بجماعة حنفية وشافعية، وعند الوتر الحنفية وحدهم
    فأجاب‏:‏
    قد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏صلاة الليل مثني مثني، فإذا خشيت الصبح فصل واحدة توتر لك ما صليت‏"‏، وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يوتر بواحدة مفصولة عما قبلها، وأنه كان يوتر بخمس، وسبع لا يسلم إلا في آخرهن‏.‏

    ج/ 23 ص -92-والذي عليه جماهير أهل العلم، أن ذلك كله جائز، وأن الوتر بثلاث بسلام واحد جائز - أيضًا - كما جاءت به السنة‏.‏
    ولكن هذه الأحاديث لم تبلغ جميع الفقهاء، فكره بعضهم الوتر بثلاث متصلة كصلاة المغرب، كما نقل عن مالك، وبعض الشافعية والحنبلية‏.‏ وكره بعضهم الوتر بغير ذلك، كما نقل عن أبي حنيفة، وكره بعضهم الوتر بخمس، وسبع، وتسع متصلة، كما قاله بعض أصحاب الشافعي، وأحمد، ومالك‏.‏
    والصواب أن الإمام إذا فعل شيئًا مما جاءت به السنة، وأوتر على وجه من الوجوه المذكورة، يتبعه المأموم في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن صلاة ركعتين بعد الوتر‏.‏
    فأجاب‏:‏
    وأما صلاة الركعتين بعد الوتر، فهذه روي فيها مسلم في صحيحه إلى النبي ﷺ‏:‏ أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين، وهو جالس‏.‏ وروي ذلك من حديث أم سلمة في بعض الطرق الصحيحة‏:‏ أنه كان يفعل ذلك إذا أوتر بتسع فإنه كان يوتر

    ج/ 23 ص -93- بإحدي عشرة، ثم كان يوتر بتسع، ويصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس‏.‏ وأكثر الفقهاء ما سمعوا بهذا الحديث؛ ولهذا ينكرون هذه، وأحمد وغيره سمعوا هذا وعرفوا صحته‏.‏
    ورخص أحمد أن تصلي هاتين الركعتين وهو جالس، كما فعل ﷺ، فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، لكن ليست واجبة بالاتفاق، ولا يذم من تركها، ولا تسمي ‏[‏زحافة‏]‏ فليس لأحد إلزام الناس بها، ولا الإنكار على من فعلها‏.‏
    ولكن الذي ينكر ما يفعله طائفة من سجدتين مجردتين بعد الوتر، فإن هذا يفعله طائفة من المنسوبين إلى العلم والعبادة من أصحاب الشافعي وأحمد، ومستندهم‏:‏ أنه ﷺ كان يصلي بعد الوتر سجدتين‏.‏ رواه أبو موسي المديني، وغيره‏.‏ فظنوا أن المراد‏:‏ سجدتان مجردتان، وغلطوا‏.‏ فإن معناه‏:‏ أنه كان يصلي ركعتين‏.‏ كما جاء مبينًا في الأحاديث الصحيحة، فإن السجدة يراد بها الركعة، كقول ابن عمر‏:‏ حفظت من رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ والمراد بذلك‏:‏ ركعتان، كما جاء مفسرًا في الطرق الصحيحة‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏من أدرك سجدة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الفجر‏"‏، أراد به ركعة‏.‏ كما جاء ذلك مفسرًا في الرواية المشهورة‏.‏

    ج/ 23 ص -94-وظن بعض أن المراد بها سجدة مجردة، وهو غلط‏.‏ فإن تعليق الإدارك بسجدة مجردة، لم يقل به أحد من العلماء، بل لهم فيما تدرك به الجمعة والجماعة ثلاثة أقوال‏:‏
    أصحها‏:‏ أنه لا يكون مدركًا للجمعة ولا الجماعة إلا بإدراك ركعة، لا يكون مدركًا للجماعة بتكبيرة‏.‏ وقد استفاض عن الصحابة أن من أدرك من الجمعة أقل من ركعة صلى أربعًا‏.‏ وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة‏"‏‏.‏ وعلى هذا، إذا أدرك المسافر خلف المقيم ركعة، فهل يتم، أو يقصر‏؟‏ فيها قولان‏.‏
    والمقصود هنا أن لفظ ‏[‏السجدة‏]‏ المراد به الركعة‏.‏ فإن الصلاة يعبر عنها
    بابعاضها، فتسمي قيامًا، وقعودًا، وركوعًا، وسجودًا، وتسبيحًا، وقرآنا‏.‏
    وأنكر من هذا ما يفعله بعض الناس من أنه يسجد بعد السلام سجدة مفردة، فإن هذه بدعة، ولم ينقل عن أحد من الأئمة استحباب ذلك‏.‏ والعبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإن الإسلام مبني على أصلين‏:‏ ألا نعبد إلا الله وحده، وأن نعبده بما شرعه على لسان رسوله ﷺ، لا نعبده بالأهوء والبدع‏.

    ج/ 23 ص -95-فصل
    وأما الصلاة ‏[‏الزحافة‏]‏ وقولهم‏:‏ من لم يواظب عليها فليس من أهل السنة ومرادهم الركعتان بعد الوتر جالساً فقد أجمع المسلمون على أن هذه ليست واجبة، وإن تركها طول عمره، وإن لم يفعلها ولا مرة واحدة في عمره‏.‏ لا يكون بذلك من أهل البدع، ولا ممن يستحق الذم والعقاب، ولا يهجر ولا يوسم بميسم مذموم أصلا، بل لو ترك الرجل ما هو أثبت منها كتطويل قيام الليل، كما كان النبي ﷺ يطوله، وكقيام إحدي عشرة ركعة‏.‏ كما كان النبي ﷺ يفعل ذلك، ونحو ذلك‏.‏ لم يكن بذلك خارجا عن السنة، ولا مبتدعا ولا مستحقا للذم، مع اتفاق المسلمين على أن قيام الليل إحدي عشرة ركعة طويلة‏.‏ كما كان النبي ﷺ يفعل أفضل، من أن يدع ذلك ويصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس‏.‏
    فإن الذي ثبت في صحيح مسلم عن عائشة‏:‏ أن النبي ﷺ كان يصلي من الليل إحدي عشرة ركعة وهو جالس ثم صار يصلي تسعاً، يجلس عقيب الثامنة والتاسعة، ولا يسلم إلا عقيب

    ج/ 23 ص -96-التاسعة، ثم يصلي بعدها ركعتين وهو جالس، ثم صار يوتر بسبع، وبخمس، فإذا أوتر بخمس لم يجلس إلا عقيب الخامسة، ثم يصلي بعدها ركعتين وهو جالس‏.‏ وإذا أوتر بسبع، فقد روي أنه لم يكن يجلس إلا عقيب السابعة، وروي‏:‏ أنه كان يجلس عقيب السادسة والسابعة، ثم يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس‏.‏ وهذا الحديث الصحيح دليل على أنه لم يكن يداوم عليها، فكيف يقال‏:‏ إن من لم يداوم عليها فليس من أهل السنة‏.‏
    والعلماء متنازعون فيها‏:‏ هل تشرع أم لا‏؟‏ فقال كثير من العلماء‏:‏ إنها لا تشرع بحال، لقوله ﷺ‏:‏
    ‏"‏اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً‏"‏‏.‏ ومن هؤلاء من تأول الركعتين اللتين روي أنه كان يصليهما بعد الوتر على ركعتي الفجر‏.‏ لكن الأحاديث صحيحة صريحة بأنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس، غير ركعتي الفجر‏.‏ وروي في بعض الألفاظ‏:‏ أنه كان يصلي سجدتين بعد الوتر، فظن بعض الشيوخ أن المراد سجدتان مجردتان، فكانوا يسجدون بعد الوتر سجدتين مجردتين، وهذه بدعة لم يستحبها أحد من علماء المسلمين، بل ولا فعلها أحد من السلف‏.‏ وإنما غرهم لفظ السجدتين، والمراد بالسجدتين الركعتان، كما قال ابن عمر‏:‏ حفظت عن رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء،

    ج/ 23 ص -97-وسجدتين قبل الفجر أي‏:‏ ركعتين‏.‏
    ولعل بعض الناس يقول‏:‏ هاتان الركعتان اللتان كان النبي ﷺ يصليهما بعد الوتر جالساً، نسبتها إلى وتر الليل‏:‏ نسبة ركعتي المغرب إلى وتر النهار، فإن النبي ﷺ قال‏
    :‏ ‏"‏المغرب وتر النهار‏.‏ فأوتروا صلاة الليل‏"‏‏.‏ رواه أحمد في المسند‏.‏
    فإذا كانت المغرب وتر النهار، فقد كان النبي ﷺ يصلي بعد المغرب ركعتين، ولم يخرج المغرب بذلك عن أن يكون وتراً؛ لأن تلك الركعتين هما تكميل الفرض وجبر لما يحصل منه من سهو ونقص، كما جاءت السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها‏"‏ حتى قال‏:‏ ‏"‏إلا عشرها‏"‏، فشرعت السنن جبراً لنقص الفرائض‏.‏ فالركعتان بعد المغرب لما كانتا جبراً للفرض، لم يخرجها عن كونها وتراً، كما لو سجد سجدتي السهو، فكذلك وتر الليل جبره النبي ﷺ بركعتين بعده‏.‏ ولهذا كان يجبره إذا أوتر بتسع أو سبع أو خمس لنقص عدده عن إحدي عشرة‏.‏ فهنا نقص العدد، نقص ظاهر‏.‏
    وإن كان يصليهما إذا أوتر بإحدي عشرة كان هناك جبراً لصفة

    ج/ 23 ص -98-الصلاة، وإن كان يصليهما جالساً؛ لأن وتر الليل دون وتر النهار فينقص عنه في الصفة، وهي مرتبة بين سجدتي السهو، وبين الركعتين الكاملتين، فيكون الجبر على ثلاث درجات، جبر للسهو سجدتان، لكن ذاك نقص في قدر الصلاة ظاهر، فهو واجب متصل بالصلاة‏.‏ وأما الركعتان المستقلتان، فهما جبر لمعناها الباطل، فلهذا كانت صلاته تامة‏.‏ كما في السنن‏:‏ ‏"‏إن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة فإن أكملها، وإلا قيل‏:‏ انظروا هل له من تطوع‏"‏، ثم يصنع بسائر أعماله كذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه الله تعالى عن قنوت رسول الله ﷺ هل كان في العشاء الآخرة أو الصبح‏؟‏ وما توفي رسول الله ﷺ والعمل عليه عند الصحابة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما القنوت في صلاة الصبح، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقنت في النوازل‏.‏ قنت مرة شهراً يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه، ثم تركه‏.‏ وقنت مرة أخري يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند أقوام يمنعونهم من الهجرة إليه‏.‏

    ج/ 23 ص -99- وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت، فما كان يداوم عليه، وما يدعه بالكلية، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال‏:‏
    قيل‏:‏ إن المداومة عليه سنة‏.‏
    وقيل‏:‏ القنوت منسوخ‏.‏ وأنه كله بدعة‏.‏
    والقولالثالث‏:‏ وهو الصحيح أنه يسن عند الحاجة إليه، كما قنت رسول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون‏.‏ وأما القنوت في الوتر، فهو جائز وليس بلازم، فمن أصحابه من لم يقنت، ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان، ومنهم من قنت السنة كلها‏.‏
    والعلماء منهم من يستحب الأول كمالك، ومنهم من يستحب الثاني كالشافعي، وأحمد في رواية، ومنهم من يستحب الثالث كأبي حنيفة، والإمام أحمد في رواية، والجميع جائز‏.‏
    فمن فعل شيئاً من ذلك، فلا لوم عليه‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -100- وقال شيخ الإِسلاَم رَحِمه ُالله‏:‏
    فصل
    وأما القنوت، فالناس فيه طرفان، ووسط‏:‏
    منهم من لا يري القنوت إلا قبل الركوع، ومنهم من لا يراه إلا بعده‏.‏ وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما، وإن اختاروا القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس‏.‏ فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد‏:‏ سمع الله لمن حمده، فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك‏:‏ أولها ثناء، وآخرها دعاء‏.‏
    وأيضاً، فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال‏:‏ بعد اتفاقهم على أن النبي ﷺ قنت في الفجر‏.‏
    منهم من قال‏:‏ إنه منسوخ، فإنه قنت ثم ترك‏.‏ كما جاءت به الأحاديث الصحيحة‏.‏

    ج/ 23 ص -101- ومن قال‏:‏المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار،فلم تبلغه ألفاظ الحديث،أو بلغته فلم يتأملها، فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال‏:‏ سألت أنس بن مالك عن القنوت‏:‏ هل كان قبل الركوع أو بعده‏؟‏ فقال‏:‏ قبل الركوع‏.‏ قال‏:‏ فإن فلانا أخبرني أنك قلت بعد الركوع‏.‏ قال‏:‏ كذب، إنما قنت رسول الله ﷺ قبل الركوع‏.‏ أراه بعث قوماً يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد، وقنت ﷺ شهراً يدعو عليهم‏.‏ وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس، عن أنس أنه قال‏:‏ ما زال رسول الله ﷺ يقنت حتى فارق الدنيا، جاء لفظه مفسرا‏:‏ أنه‏:‏ ما زال يقنت قبل الركوع‏.‏ والمراد هنا بالقنوت طول القيام، لا الدعاء‏.‏ كذلك جاء مفسرا، ويبينه ما جاء في الصحيحين عن محمد بن سيرين قال‏:‏ قلت لأنس‏:‏ قنت رسول الله ﷺ في صلاة الصبح‏؟‏ قال‏:‏ نعم، بعد الركوع يسيرا، فأخبر أن قنوته كان يسيرا وكان بعد الركوع، فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة، سمي كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتاً‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا‏"‏ [‏الزمر‏:‏ 9‏]‏؛ ولهذا لما سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنوت الراتب قال‏:‏ ما سمعنا ولا رأينا، وهذا قول‏.‏
    ومنهم من قال‏:‏ بل القنوت سنة راتبة، حيث قد ثبت عن النبي

    ج/ 23 ص -102- ﷺ أنه قنت، وروي عنه‏:‏ أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا‏.‏ وهذا قول الشافعي، ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات، لما صح عن النبي ﷺ أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة، والظهر‏.‏ لكن لم يرو أحد أنه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف‏.‏ فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه النبي ﷺ للحسن بن على وهو‏:‏ اللهم، اهدني فيمن هديت‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره‏.‏
    وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره فقالوا‏:‏ قد ثبت أن النبي ﷺ قنت للنوازل التي نزلت به من العدو، في قتل أصحابه، أو حبسهم ونحو ذلك‏.‏ فإنه قنت مستنصراً، كما استسقي حين الجدب، فاستنصاره عند الحاجة، كاسترزاقه عند الحاجة؛ إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس‏.‏ كما قال تعالى‏:‏
    ‏"الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏"‏ [‏قريش‏:‏ 4‏]‏، وكما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏ بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم‏"‏، وكما قال في صفة الأبدال‏:‏ ‏"‏بهم ترزقون، وبهم تنصرون‏"‏، وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك، وبين أنهما بيده سبحانه في قوله‏:‏ ‏"أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ‏"‏ ‏[‏الملك‏:‏20، 21‏]‏، ثم ترك القنوت‏.‏ وجاء مفسراً أنه تركه لزوال ذلك السبب‏.‏

    ج/ 23 ص -103-

    ج/ 23 ص -104- يسقط بالعذر العارض، بحيث لا يبقي لا واجباً ولا مستحباً، كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات‏.‏
    وكذلك أيضاً قد يجب أو يستحب لأسباب العارضة، ما لا يكون واجباً ولا مستحباً راتباً، فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة، وسواء في ذلك ثبوت الوجوب، أو الاستحباب، أو سقوطه‏.‏
    وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتباً، أو تجعل الراتب لا يتغير بحال، ومن اهتدي للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة، انحلت عنه هذه المشكلات كثيرا‏.‏

    وسئل‏:‏
    هل قنوت الصبح دائماً سنة‏؟‏ ومن يقول‏:‏ إنه من أبعاض الصلاة التي تجبر بالسجود، وما يجبر إلا الناقص‏.‏ والحديث ‏"‏ما زال رسول الله ﷺ يقنت حتى فارق الحياة‏"‏‏:‏ فهل هذا الحديث من الأحاديث الصحاح‏؟‏ وهل هو هذا القنوت‏؟‏ وما أقوال العلماء في ذلك‏؟‏ وما حجة كل منهم‏؟‏ وإن قنت لنازلة‏:‏ فهل يتعين قوله، أو يدعو بما شاء‏؟‏

    ج/ 23 ص -105-فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه رب العالمين، قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ‏:‏ أنه قنت شهراً يدعو على رَعْل وذَكْوان وعصية، ثم تركه‏.‏ وكان ذلك لما قتلوا القراء من الصحابة‏.‏
    وثبت عنه أنه قنت بعد ذلك بمدة بعد صلح الحديبية، وفتح خيبر، يدعو للمستضعفين من أصحابه الذين كانوا بمكة‏.‏ ويقول في قنوته‏:‏ ‏"‏اللهم، انج الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين‏.‏ اللهم، اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏"‏‏.‏ وكان يقنت يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار، وكان قنوته في الفجر‏.‏
    وثبت عنه في الصحيح أنه قنت في المغرب والعشاء، وفي الظهر، وفي السنن أنه قنت في العصر أيضاً?‏.‏ فتنازع المسلمون في القنوت على ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏
    :‏ أنه منسوخ، فلا يشرع بحال، بناء على أن النبي ﷺ قنت، ثم ترك، والترك نسخ للفعل، كما أنه لما كان يقوم للجنازة، ثم قعد‏.‏ جعل القعود ناسخاً للقيام، وهذا قول طائفة من أهل العراق كأبي حنيفة وغيره‏.‏

    ج/ 23 ص -106-والثاني‏:‏ أن القنوت مشروع دائماً، وأن المداومة عليه سنة، وأن ذلك يكون في الفجر‏.‏
    ثم من هؤلاء من يقول‏:‏ السنة أن يكون قبل الركوع بعد القراءة سراً، وألا يقنت بسوي‏:‏ اللهم، إنا نستعينك‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخرها، واللهم، إياك نعبد، إلى آخرها، كما يقول‏:‏ مالك‏.‏
    ومنهم من يقول‏:‏ السنة أن يكون بعد الركوع جهراً‏.‏ ويستحب أن يقنت بدعاء الحسن بن على الذي رواه عن النبي ﷺ قي قنوته‏:‏
    ‏"‏اللهم اهدني فيمن هديت‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ إلى آخره‏.‏ وإن كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد‏.‏ وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى‏:‏ ‏"حَافِظُواْ على الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَي وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، ويقولون‏:‏ الوسطى‏:‏ هي الفجر، والقنوت فيها‏.‏ وكلتا المقدمتين ضعيفة‏:‏
    أما الأولى‏:‏ فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي ﷺ أن الصلاة الوسطي هي العصر، وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة‏.‏ ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم‏.‏ وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة، فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم‏.‏

    ج/ 23 ص -107-وأما الثانية‏:‏ فالقنوت هو المداومة على الطاعة، وهذا يكون في القيام، والسجود‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ولو أريد به إدامة القيام كما قيل في قوله‏:‏ ‏"يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏، فحمل ذلك على إطالته القيام للدعاء، دون غيره، لا يجوز؛ لأن الله أمر بالقيام له قانتين، والأمر يقتضي الوجوب، وقيام الدعاء المتنازع فيه لا يجب بالإجماع؛ ولأن القائم في حال قراءته هو قانت للَّه أيضاً ولأنه قد ثبت في الصحيح‏:‏ أن هذه الآية لما نزلت أمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام‏.‏ فعلم أن السكوت هو من تمام القنوت المأمور به‏.‏
    ومعلوم أن ذلك واجب في جميع أجزاء القيام؛ ولأن قوله‏:‏ ‏
    "وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، لا يختص بالصلاة الوسطي‏.‏ سواء كانت الفجر أو العصر؛ بل هو معطوف على قوله‏:‏ ‏"حَافِظُواْ على الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَي وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، فيكون أمرا بالقنوت مع الأمر بالمحافظة، والمحافظة تتناول الجميع، فالقيام يتناول الجميع‏.‏
    واحتجوا أيضاً بما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في صحيحه، عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس‏:‏ أن النبي ﷺ ما زال يقنت حتى فارق الدنيا قالوا‏:‏ وقوله في الحديث الآخر‏:‏ ثم تركه، أراد ترك الدعاء على تلك

    ج/ 23 ص -108- القبائل، لم يترك نفس القنوت‏.‏
    وهذا بمجرده لا يثبت به سنة راتبة في الصلاة، وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي‏.‏ وكثيراً ما يصحح الموضوعات، فإنه معروف بالتسامح في ذلك، ونفس هذا الحديث لا يخص القنوت قبل الركوع أو بعده، فقال‏:‏ ما قنت رسول الله ﷺ بعد الركوع إلا شهراً ?، فهذا حديث صحيح صريح عن أنس أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهراً، فبطل ذلك التأويل‏.‏
    والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع، سواء كان هناك دعاء زائد، أو لم يكن‏.‏ فحينئذ، فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء، وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم في الصلوات الخمس، محتجين بأن النبي ﷺ قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض، وهذا قول شاذ‏.‏
    والقول الثالث‏:‏ أن النبي ﷺ قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به، فيكون القنوت مسنوناً عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم‏.‏
    فإن عمر رضي الله عنه لما حارب النصاري قنت عليهم القنوت

    ج/ 23 ص -109- المشهور‏:‏ اللهم عذب كفرة أهل الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره‏.‏ وهو الذي جعله بعض الناس سنة في قنوت رمضان، وليس هذا القنوت سنة راتبة، لا في رمضان ولا غيره، بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة، ودعا في قنوته دعاء يناسب تلك النازلة، كما أن النبي ﷺ لما قنت أولا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء يناسب مقصوده‏.‏ فسنة رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين تدل على شيئين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه،ليس بسنة دائمة في الصلاة‏.‏
    الثاني‏:‏ أن الدعاء فيه ليس دعاء راتباً، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه، كما دعا النبي ﷺ أولا، وثانياً‏.‏ وكما دعا عمر‏.‏ وعلى رضي الله عنهم لما حارب من حاربه في الفتنة، فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده، والذي يبين هذا أنه لو كان النبي ﷺ يقنت دائماً، ويدعو بدعاء راتب، لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم، فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه، وليس بسنة راتبة، كدعائه على الذين قتلوا أصحابه، ودعائه للمستضعفين من

    ج/ 23 ص -110- أصحابه، ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم‏.‏
    فكيف يكون النبي ﷺ يقنت دائما في الفجر أو غيرها، ويدعو بدعاء راتب، ولم ينقل هذا عن النبي ﷺ لا في خبر صحيح، ولا ضعيف‏؟‏‏!‏ بل أصحاب النبي ﷺ الذين هم أعلم الناس بسنته، وأرغب الناس في اتباعها، كابن عمر وغيره، أنكروا، حتى قال ابن عمر‏:‏ ما رأينا ولا سمعنا‏.‏ وفي رواية‏:‏ أرأيتكم قيامكم هذا‏:‏ تدَّعون‏.‏ ما رأينا ولا سمعنا‏.‏ أفيقول مسلم‏:‏ إن النبي ﷺ كان يقنت دائما‏؟‏‏!‏ وابن عمر يقول‏:‏ ما رأينا، ولا سمعنا‏.‏ وكذلك غير ابن عمر من الصحابة، عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة‏.‏
    ومن تدبر هذه الأحاديث في هذا الباب، علم علماً يقيناً قطعياً أن النبي ﷺ لم يكن يقنت دائماً في شيءٍ من الصلوات، كما يعلم علماً يقينياً أنه لم يكن يداوم على القنوت في الظهر والعشاء والمغرب، فإن من جعل القنوت في هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاهلين له في الفجر سنة راتبة‏.‏ ولا ريب أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قنت في هذه الصلوات؛ لكن الصحابة بينوا الدعاء الذي كان يدعو به، والسبب الذي قنت له، وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود، نقلوا ذلك في

    ج/ 23 ص -111- قنوت الفجر، وفي قنوت العشاء أيضاً‏.‏
    والذي يوضح ذلك، أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائماً بقنوت الحسن بن على، أو بسورتي أُبي، ليس معهم إلا دعاء عارض، والقنوت فيها إذا كان مشروعاً، كان مشروعاً للإمام والمأموم والمنفرد، بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن، أو سورتي أبي سنة راتبة في المغرب والعشاء، لكان حاله شبيهاً بحال من جعل ذلك سنة راتبة في الفجر؛ إذ هؤلاء ليس معهم في الفجر إلا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض، ولم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذا، كما لم ينقل ذلك في المغرب والعشاء‏.‏ وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء في الفجر؛ لأن القنوت فيها كان أكثر، وهي أطول‏.‏ والقنوت يتبع الصلاة، وبلغهم أنه داوم عليه، فظنوا أن السنة المداومة عليه، ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه‏.‏ فسنوا هذه الأدعية المأثورة في الوتر، مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة في الوتر‏.‏
    وهذا النزاع الذي وقع في القنوت له نظائر كثيرة في الشريعة‏:‏ فكثيراً ما يفعل النبي ﷺ لسبب، فيجعله بعض الناس سنة، ولا يميز بين السنة الدائمة والعارضة‏.‏ وبعض الناس يري أنه لم يكن يفعله في أغلب الأوقات، فيراه بدعة، ويجعل فعله في بعض الأوقات مخصوصاً أو منسوخا، إن كان قد بلغه ذلك، مثل صلاة التطوع في جماعة‏.‏ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح‏:‏ أنه صلى بالليل وخلفه ابن

    ج/ 23 ص -112- عباس مرة، وحذيفة بن اليمان مرة، وكذلك غيرهما‏.‏ وكذلك صلى بعتبان بن مالك في بيته التطوع جماعة، وصلى بأنس ابن مالك وأمه واليتيم في داره، فمن الناس من يجعل هذا فيما يحدث من ‏[‏صلاة الألفية‏]‏ ليلة نصف شعبان، والرغائب، ونحوهما مما يداومون فيه على الجماعات‏.‏
    ومن الناس من يكره التطوع؛ لأنه رأي أن الجماعة إنما سنت في الخمس، كما أن الأذان إنما سن في الخمس‏.‏ ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة، فلا يكره أن يتطوع في جماعة‏.‏ كما فعل النبي ﷺ‏.‏ ولا يجعل ذلك سنة راتبة‏.‏ كمن يقيم للمسجد إمامًا راتباً يصلي بالناس بين العشائين، أو في جوف الليل، كما يصلي بهم الصلوات الخمس، كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما أذاناً كأذان الخمس؛ ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور إذ ذاك‏.‏
    ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان، فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث‏.‏ فرأي كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر‏.‏ واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة؛ بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم‏.‏

    ج/ 23 ص -113- وقال طائفة‏:‏ قد ثبت في الصحيح عن عائشة‏:‏ أن النبي ﷺ لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، واضطرب قوم في هذا الأصل، لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين، وعمل المسلمين‏.‏
    والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي ﷺ لم يوقت فيها عدداً‏.‏ وحينئذ، فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره‏.‏
    فإن النبي ﷺ كان يطيل القيام بالليل، حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة، والنساء، وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات‏.‏ وأبي بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة لم يمكن أن يطيل بهم القيام‏.‏ فكثر الركعات ليكون ذلك عوضاً عن طول القيام، وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته، فإنه كان يقوم بالليل إحدي عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة، ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعاً وثلاثين‏.‏

    ج/ 23 ص -114- ومما يناسب هذا أن الله تعالى لما فرض الصلوات الخمس بمكة، فرضها ركعتين ركعتين، ثم أقرت في السفر، وزيد في صلاة الحضر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ لما هاجر إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وجعلت صلاة المغرب ثلاثا؛ لأنها وتر النهار، وأما صلاة الفجر فأقرت ركعتين لأجل تطويل القراءة فيها، فأغني ذلك عن تكثير الركعات‏.‏
    وقد تنازع العلماء‏:‏ أيما أفضل‏:‏ إطالة القيام أم تكثير الركوع والسجود أم هما سواء‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏ وهي ثلاث روايات عن أحمد‏.‏
    وقد ثبت عنه في الصحيح أي الصلاة أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏طول القنوت‏]‏‏.‏ وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إنك لن تسجد للَّه سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة‏"‏‏.‏ وقال لربيعة بن كعب‏:‏ ‏"‏أعني على نفسك بكثرة السجود‏"‏‏.‏
    ومعلوم أن السجود في نفسه أفضل من القيام، ولكن ذكر القيام أفضل، وهو القراءة، وتحقيق الأمر أن الأفضل في الصلاة أن تكون معتدلة‏.‏ فإذا أطال القيام يطيل الركوع والسجود، كما كان النبي ﷺ يصلي بالليل، كما رواه حذيفة وغيره‏.‏ وهكذا

    ج/ 23 ص -115- كانت صلاته الفريضة، وصلاة الكسوف، وغيرهما‏:‏ كانت صلاته معتدلة، فإن فضل مفضل إطالة القيام والركوع والسجود مع تقليل الركعات وتخفيف القيام والركوع والسجود مع تكثير الركعات، فهذان متقاربان‏.‏ وقد يكون هذا أفضل في حال، كما أنه لما صلى الضحي يوم الفتح صلى ثماني ركعات يخففهن، ولم يقتصر على ركعتين طويلتين‏.‏ وكما فعل الصحابة في قيام رمضان لما شق على المأمومين إطالة القيام‏.‏
    وقد تبين بما ذكرناه أن القنوت يكون عند النوازل، وأن الدعاء في القنوت ليس شيئاً معيناً، ولا يدعو بما خطر له، بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت، كما إنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود، فكذلك إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود، كما لو دعا خارج الصلاة لذلك السبب؛ فإنه كان يدعو بما يناسب المقصود، فهذا هو الذي جاءت به سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه من أبعاض الصلاة التي يجبر بسجود السهو، فإنه بني ذلك على أنه سنة يسن المداومة عليه، بمنزلة التشهد الأول، ونحوه‏.‏ وقد تبين أن الأمر ليس كذلك، فليس بسنة راتبة، ولا يسجد له، لكن من اعتقد ذلك متأولاً في ذلك له تأويله، كسائر موارد الاجتهاد‏.‏
    ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد،

    ج/ 23 ص -116- فإذا قَنَتَ قَنَتَ معه، وإن ترك القنوت لم يقنت، فإن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏لا تختلفوا على أئمتكم‏"‏، وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏يُصَلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم‏"‏‏.‏ ألا تري أن الإمام لو قرأ في الأخيرتين بسورة مع الفاتحة وطولهما على الأوليين‏:‏ لوجبت متابعته في ذلك‏.‏ أما مسابقة الإمام، فإنها لا تجوز‏.‏
    فإذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه، فلابد من متابعته، ولهذا كان عبد الله بن مسعود قد أنكر على عثمان التربيع بمني، ثم إنه صلى خلفه أربعاً، فقيل له‏:‏ في ذلك‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ الخلاف شر‏.‏ وكذلك أنس بن مالك لما سأله رجل عن وقت الرمي، فأخبره، ثم قال‏:‏ افعل كما يفعل إمامك‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه الله عن قوله ﷺ‏
    :‏ ‏"‏لا يحل لرجل يؤم قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم‏"‏‏.‏ فهل يستحب للإمام أنه كلما دعا الله عز وجل أن يشرك المأمومين‏؟‏ وهل صح عن النبي ﷺ أنه كان يخص نفسه بدعائه في صلاته دونهم‏؟‏

    ج/ 23 ص -117- فكيف الجمع بين هذين‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه رب العالمين‏.‏ قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال للنبي ﷺ‏:‏ أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة‏.‏ ما تقول‏؟‏ قال‏:‏
    ‏"‏أقول‏:‏ اللهم، باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم، نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم، اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد‏"‏، فهذا حديث صحيح صريح في أنه دعا لنفسه خاصة، وكان إماماً‏.‏ وكذلك حديث على في الاستفتاح الذي أوله‏:‏ ‏"‏وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض‏"‏، فيه‏:‏ ‏"‏فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت‏"‏‏.‏
    وكذلك ثبت في الصحيح أنه كان يقول بعد رفع رأسه من الركوع بعد قوله‏:‏ ‏"‏لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت‏"‏، ‏"‏اللهم، طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم، نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس‏"‏‏.‏ وجميع هذه الأحاديث المأثورة في دعائه بعد التشهد من فعله، ومن أمره، لم ينقل فيها إلا لفظ الإفراد‏.‏ كقوله‏:‏ ‏"‏اللهم، إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏"‏‏.‏ وكذا دعاؤه بين

    ج/ 23 ص -118- السجدتين، وهو في السنن من حديث حذيفة، ومن حديث ابن عباس، وكلاهما كان النبي ﷺ فيه إماما، أحدهما بحذيفة، والآخر
    بابن عباس‏.‏ وحديث حذيفة‏:‏ ‏"‏رب، اغفر لي، رب، اغفر لي‏"‏، وحديث ابن عباس فيه‏:‏ ‏"‏اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني‏"‏، ونحو هذا‏.‏ فهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن تدل على أن الإمام يدعو في هذه الأمكنة بصيغة الإفراد‏.‏ وكذلك اتفق العلماء على مثل ذلك‏.‏ حيث يرون أنه يشرع مثل هذه الأدعية‏.‏
    وإذا عرف ذلك تبين أن الحديث المذكور إن صح فالمراد به الدعاء الذي يُؤمِّن عليه المأموم كدعاء القنوت فإن المأموم إذا أَمَّن كان داعياً، قال الله تعالى لموسى وهرون‏:‏
    ‏"قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏89‏]‏، وكان أحدهما يدعو، والآخر يؤمن‏.‏ وإذا كان المأموم مؤمناً على دعاء الإمام، فيدعو بصيغة الجمع، كما في دعاء الفاتحة في قوله‏:‏ ‏"اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، فإن المأموم إنما أمن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما جميعاً، فإن لم يفعل، فقد خان الإمام المأموم‏.‏
    فأما المواضع التي يدعو فيها كل إنسان لنفسه كالاستفتاح، وما بعد التشهد، ونحو ذلك فكما أن المأموم يدعو لنفسه، فالإمام يدعو لنفسه‏.‏ كما يسبح المأموم في الركوع والسجود، إذا سبح الإمام في

    ج/ 23 ص -119- الركوع والسجود، وكما يتشهد إذا تشهد، ويكبر إذا كبر، فإن لم يفعل المأموم ذلك فهو المفرط‏.‏
    وهذا الحديث لو كان صحيحاً صريحاً معارضاً للأحاديث المستفيضة المتواترة، ولعمل الأمة، والأئمة، لم يلتفت إليه، فكيف وليس من الصحيح، ولكن قد قيل‏:‏ إنه حسن، ولو كان فيه دلالة لكان عاماً، وتلك خاصة، والخاص يقضي على العام‏.‏ ثم لفظه ‏"‏فيخص نفسه بدعوة دونهم‏"‏، يراد بمثل هذا إذا لم يحصل لهم دعاء، وهذا لا يكون مع تأمينهم‏.‏ وأما مع كونهم مؤمِّنين على الدعاء كلما دعا، فيحصل لهم كما حصل له بفعلهم، ولهذا جاء دعاء القنوت بصيغة الجمع‏:‏ ‏"‏اللهم، إنا نستعينك، ونستهديك‏"‏ إلى آخره‏.‏ ففي مثل هذا يأتي بصيغة الجمع، ويتبع السنة على وجهها‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عمن يصلي التراويح بعد المغرب‏:‏ هل هو سنة أم بدعة‏؟‏ وذكروا أن الإمام الشافعي صلاها بعد المغرب، وتممها بعد العشاء الآخرة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه رب العالمين‏.‏ السنة في التراويح أن تصلي بعد العشاء الآخرة، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة‏.‏ والنقل المذكور

    ج/ 23 ص -120- عن الشافعي رضي الله عنه باطل، فما كان الأئمة يصلونها إلا بعد العشاء على عهد النبي ﷺ، وعهد خلفائه الراشدين، وعلى ذلك أئمة المسلمين، لا يعرف عن أحد أنه تعمد صلاتها قبل العشاء، فإن هذه تسمي قيام رمضان، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه، غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏‏.‏ وقيام الليل في رمضان وغيره، إنما يكون بعد العشاء‏.‏ وقد جاء مصرحاً به في السنن‏:‏ أنه لما صلى بهم قيام رمضان صلى بعد العشاء‏.‏
    وكان النبي ﷺ قيامه بالليل هو وتره، يصلي بالليل في رمضان وغير رمضان إحدي عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يصليها طوالا‏.‏ فلما كان ذلك يشق على الناس، قام بهم أبي بن كعب في زمن عمر بن الخطاب عشرين ركعة، يوتر بعدها، ويخفف فيها القيام، فكان تضعيف العدد عوضاً عن طول القيام‏.‏ وكان بعض السلف يقوم أربعين ركعة فيكون قيامها أخف، ويوتر بعدها بثلاث‏.‏ وكان بعضهم يقوم بست وثلاثين ركعة يوتر بعدها، وقيامهم المعروف عنهم بعد العشاء الآخرة‏.‏
    ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح‏.‏ فإذا صلوها قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح، كما أنهم إذا توضؤوا يغسلون

    ج/ 23 ص -121- أرجلهم أول الوضوء، ويمسحونها في آخره‏.‏ فمن صلاها قبل العشاء، فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة الجمعة هل هي بدعة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم بدعة‏.‏ فإنه لم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك، وإنما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره، من أن سورة الأنعام نزلت جملة‏.‏ مشيعة بسبعين ألف ملك، فقرؤوها جملة لأنها نزلت جملة‏.‏ وهذا استدلال ضعيف وفي قراءتها جملة من الوجوه المكروهة أمور‏.‏ منها‏:‏ أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشاً‏.‏ والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبي ﷺ‏.‏ ومنها تطويل آخر قيام الليل على أوله، وهو خلاف السنة، فإنه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -122-وسئل عن قوم يصلون بعد التراويح ركعتين في الجماعة، ثم في آخر الليل يصلون تمام مائة ركعة، ويسمون ذلك صلاة القدر، وقد امتنع بعض الأئمة من فعلها‏.‏ فهل الصواب مع من يفعلها أو مع من يتركها‏؟‏ وهل هي مستحبة عند أحد من الأئمة أو مكروهة‏؟‏ وهل ينبغي فعلها والأمر بها، أو تركها والنهي عنها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها، والذي تركها‏.‏ فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة، ولا فعل هذه الصلاة لا رسول الله ﷺ ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا يستحبها أحد من أئمة المسلمين، والذي ينبغي‏:‏ أن تترك وينهى عنها‏.‏
    وأما قراءة القرآن في التراويح، فمستحب باتفاق أئمة المسلمين، بل من أجل مقصود التراويح قراءة القرآن فيها ليسمع المسلمون كلام الله‏.‏ فإن شهر رمضان فيه نزل القرآن، وفيه كان جبريل يدارس النبي

    ج/ 23 ص -123-ﷺ القرآن، وكان النبي ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن‏.‏
    وسئل عن سنة العصر‏:‏ هل ورد عن النبي ﷺ فيها حديث‏؟‏ والخلاف الذي فيها ما الصحيح منه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، أما الذي صح عن النبي ﷺ فحديث ابن عمر‏:‏ حفظت عن رسول الله ﷺ عشر ركعات‏:‏ ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر‏.‏ وفي الصحيح أيضاً عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"
    ‏من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً، بني الله له بيتاً في الجنة‏"‏، وجاء في السنن تفسيره‏:‏ ‏"‏أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر‏"‏‏.‏
    وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة‏"‏، ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏"‏لمن شاء‏"‏؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة‏.‏ ففي هذا الحديث أنه يصلي

    ج/ 23 ص -124-قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء‏.‏ وقد صح أن أصحاب النبي ﷺ كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين والنبي ﷺ يراهم فلا ينهاهم، ولم يكن يفعل ذلك‏.‏ فمثل هذه الصلوات حسنة ليست سنة، فإن النبي ﷺ كره أن تتخذ سنة‏.‏
    ولم يكن النبي ﷺ يصلي قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء، فلا تتخذ سنة، ولا يكره أن يصلي فيها؛ بخلاف ما فعله ورغب فيه، فإن ذلك أوكد من هذا‏.‏ وقد روي‏:‏ أنه كان يصلي قبل العصر أربعاً?، وهو ضعيف‏.‏ وروي‏:‏ أنه كان يصلي ركعتين‏.‏ والمراد به الركعتان قبل الظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏ هل للعصر سنة راتبة أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، الذي ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يصلي مع المكتوبات عشر ركعات أو اثنتي عشرة ركعة؛ ركعتين قبل الظهر أو أربعاً وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين‏.‏ وكذلك ثبت في الصحيح أن

    ج/ 23 ص -125-النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة بني الله له بيتا في الجنة‏"‏، ورويت في السنن‏:‏ ‏"‏أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر‏"‏‏.‏ وليس في الصحيح سوي هذه الأحاديث الثلاثة‏:‏ حديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة‏.‏ وأما قبل العصر، فلم يقل أحد أن النبي ﷺ كان يصلي قبل العصر إلا وفيه ضعف، بل خطأ كحديث يروي عن على أنه كان يصلي نحو ستة عشر ركعة، منها قبل العصر، وهو مطعون فيه فإن الذين اعتنوا بنقل تطوعاته كعائشة وابن عمر بينوا ما كان يصليه، وكذلك الصلاة قبل المغرب وقبل العشاء لم يكن يصليها لكن كان أصحابه يصلون قبل المغرب بين الأذان والإقامة، وهو يراهم فلا ينكر ذلك عليهم‏.‏ وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏بين كل أذانين صلاة، بين كلا أذانين صلاة‏"‏، ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏"‏لمن شاء‏"‏؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة فهذا يبين أن الصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء حسنة وليست بسنة، فمن أحب أن يصلي قبل العصر كما يصلي قبل المغرب والعشاء على هذا الوجه، فحسن‏.‏ وأما أن يعتقد أن ذلك سنة راتبة كان يصليها النبي ﷺ كما يصلي قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب، فهذا خطأ‏.‏ والصلاة مع المكتوبة ثلاث درجات‏:‏
    إحداها‏
    :‏ سنة الفجر والوتر‏:‏ فهاتان أمر بهما النبي ﷺ ولم يأمر بغيرهما وهما سنة باتفاق الأئمة، وكان النبي

    ج/ 23 ص -126- ﷺ يصليهما في السفر والحضر ولم يجعل مالك سنة راتبة غيرهما‏.‏
    والثانية‏:‏ ما كان يصليه مع المكتوبة في الحضر وهو عشر ركعات وثلاث عشرة ركعة وقد أثبت أبو حنيفة والشافعي وأحمد مع المكتوبات سنة مقدرة بخلاف مالك‏.‏
    والثالثة‏:‏ التطوع الجائز في هذا الوقت من غير أن يجعل سنة لكون النبي ﷺ لم يداوم عليه ولا قدر فيه عدداً، والصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء من هذا ال
    باب وقريباً من ذلك صلاة الضحي، والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏ هل سنة العصر مستحبة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لم يكن النبي ﷺ يصلي قبل العصر شيئاً وإنما كان يصلي قبل الظهر‏:‏ إما ركعتين، وإما أربعاً، وبعدها‏.‏ وكان يصلي بعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين‏.‏
    وأما قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء، فلم يكن يصلي؛ لكن ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏بين كل أذانين صلاة‏"‏ ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏"‏لمن شاء‏"‏؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة، فمن شاء أن يصلي تطوعاً قبل العصر، فهو حسن‏.‏ لكن لا يتخذ ذلك سنة، والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -127-وسئل رحمه الله‏:‏ هل تقضي السنن الرواتب‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا فاتت السنة الراتبة مثل سنة الظهر فهل تقضي بعد العصر‏؟‏ على قولين هما روايتان عن أحمد‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا تقضي، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك‏.‏
    والثاني‏:‏ تقضي، وهو قول الشافعي، وهو أقوي‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله‏:‏ عمن لا يواظب على السنن الرواتب‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    من أصر على تركها، دل ذلك على قلة دينه، وردت شهادته في مذهب أحمد، والشافعي، وغيرهما‏.‏

    ج/ 23 ص -128-وسئل رحمه الله‏:‏ عن صلاة المسافر‏:‏ هل لها سنة‏؟‏ فإن الله جعل الرباعية ركعتين رحمة منه على عباده، فما حجة من يدعي السنة‏؟‏ وقد أنكر عمر على من سبح بعد الفريضة‏.‏ فهل في بعض المذاهب تأكد السنة في السفر كأبي حنيفة‏؟‏ وهل نقل هذا عن أبي حنيفة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما الذي ثبت عن النبي ﷺ‏:‏ أنه كان يصلي في السفر من التطوع، فهو ركعتا الفجر، حتى إنه لما نام عنها هو وأصحابه في منصرفه من خيبر، قضاهما مع الفريضة هو وأصحابه، وكذلك قيام الليل، والوتر‏.‏ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح‏:‏ أنه كان يصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة‏.‏
    وأما الصلاة قبل الظهر وبعدها، فلم ينقل عنه أنه فعل ذلك في السفر، ولم يصل معها شيئاً، وكذلك كان يصلي بمني ركعتين، ركعتين ولم ينقل عنه أحد أنه صلى معها شيئاً‏.‏

    ج/ 23 ص -129-وابن عمر كان أعلم الناس بالسنة، وأتبعهم لها، وأما العلماء فقد تنازعوا في استح
    باب ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏ عن الصلاة بعد أذان المغرب، وقبل الصلاة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    كان بلال كما أمره النبي ﷺ يفصل بين أذانه وإقامته، حتى يتسع لركعتين، فكان من الصحابة من يصلي بين الأذانين ركعتين، والنبي ﷺ يراهم ويقرهم، وقال‏:
    ‏ ‏"‏بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة‏"‏، ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏"‏لمن شاء‏"‏؛ مخافة أن تتخذ سنة‏.‏
    فإذا كان المؤذن يفرق بين الأذانين مقدار ذلك، فهذه الصلاة حسنة، وأما إن كان يصل الأذان بالإقامة، فالاشتغال بإجابة المؤذن هو السنة، فإن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول‏"‏‏.‏
    ولا ينبغي لأحد أن يدع إجابة المؤذن، ويصلي هاتين الركعتين، فإن السنة لمن سمع المؤذن أن يقول‏:‏ مثل ما يقول، ثم يصلي على

    ج/ 23 ص -130- النبي ﷺ، ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم، رب هذه الدعوة التامة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ إلى آخره، ثم يدعو بعد ذلك‏.‏
    وسئل‏:‏ عن امرأة لها وِرْدٌ بالليل تصليه، فتعجز عن القيام في بعض الأوقات‏.‏ فقيل لها‏:‏ إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم فهل هو صحيح‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم‏.‏ صحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم‏"‏‏.‏ لكن إذا كان عادته أنه يصلي قائما، وإنما قعد لعجزه، فإن الله يعطيه أجر القائم‏.‏ لقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم‏"‏، فلو عجز عن الصلاة كلها لمرض كان الله يكتب له أجرها كله؛ لأجل نيته وفعله بما قدر عليه، فكيف إذا عجز عن أفعالها‏؟‏‏!‏

    ج/ 23 ص -131-وسئل عن معنى قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا تجعلوا بيوتكم قبورا‏"‏‏.‏
    فأجاب‏:‏
    وأما لفظ الحديث‏:‏ ‏"‏اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم‏"‏، وإذا لم تذكروا الله فيها كنتم كالميت، وكانت كالقبور؛ فإن في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت‏"‏‏.‏
    وسئل عن صلاة نصف شعبان‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا صلى الإنسان ليلة النصف وحده، أو في جماعة خاصة كما كان يفعل طوائف من السلف، فهو أحسن‏.‏ وأما الاجتماع في المساجد على صلاة مقدرة‏.‏ كالاجتماع على مائة ركعة، بقراءة ألف ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏سورة الإخلاص ‏]‏، دائما، فهذا بدعة، لم يستحبها أحد من الأئمة‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -132- وَقَالَ شيخ الإسلام‏:‏
    وأما صلاة الرغائب، فلا أصل لها، بل هي محدثة‏.‏ فلا تستحب لا جماعة، ولا فرادي‏.‏ فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ نهي أن تخص ليلة الجمعة بقيام، أو يوم الجمعة بصيام‏.‏ والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء‏.‏ ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً‏.‏ وأما ليلة النصف، فقد روي في فضلها أحاديث وآثار ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها،
    فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا‏.‏ وأما الصلاة فيها جماعة، فهذا مبني على قاعدة عامة في الاجتماع على الطاعات والعبادات‏.‏ فإنه نوعان أحدهما سنة راتبة إما واجب وإما مستحب كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين‏.‏وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح، فهذا سنة راتبة ينبغي المحافظة عليها والمداومة‏.‏
    والثاني‏:‏ ما ليس بسنة راتبة مثل الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو على قراءة قرآن، أو ذكر الله أو دعاء‏.‏ فهذا لا بأس به إذا لم يُتَّخذ عادة راتبة‏.‏ فإن النبي ﷺ

    ج/ 23 ص -133- صلى التطوع في جماعة أحياناً ولم يداوم عليه إلا ما ذكر‏.‏ وكان أصحابه إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون‏.‏ وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسي‏:‏ ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون‏.‏ وقد روي أن النبي ﷺ خرج على أهل الصفة ومنهم واحد يقرأ فجلس معهم‏.‏ وقد روي‏:‏ في الملائكة السيارين الذين يتبعون مجالس الذكر الحديث المعروف‏.‏ فلو أن قوماً اجتمعوا بعض الليالي على صلاة تطوع من غير أن يتخذوا ذلك عادة راتبة تشبه السنة الراتبة لم يكره‏.‏ لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع‏.‏ ولو ساغ ذلك، لساغ أن يعمل صلاة أخري وقت الضحي أو بين الظهر والعصر أو تراويح في شعبان أو أذان في العيدين، أو حج إلى الصخرة ببيت المقدس، وهذا تغيير لدين الله وتبديل له‏.‏ وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها‏.‏ والبدع المكروهة ما لم تكن مستحبة في الشريعة وهي أن يشرع ما لم يأذن به الله فمن جعل شيئاً ديناً وقربة بلا شرع من الله، فهو مبتدع ضال وهو الذي عناه النبي ﷺ بقوله‏:‏ ‏"‏كل بدعة ضلالة‏"‏‏.‏ فالبدعة ضد الشرعة، والشرعة ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب، وإن لم يفعل على عهده كالاجتماع في التراويح على إمام واحد وجمع القرآن في المصحف‏.‏ وقتل أهل الردة والخوارج ونحو ذلك‏.‏ وما لم يشرعه الله ورسوله، فهو بدعة وضلالة‏:‏ مثل تخصيص

    ج/ 23 ص -134- مكان أو زمان باجتماع على عبادة فيه كما خص الشارع أوقات الصلوات وأيام الجمع والأعياد‏.‏ وكما خص مكة بشرفها والمساجد الثلاثة وسائر المساجد بما شرعه فيها من الصلوات وأنواع العبادات كل بحسبه؛ وبهذا التفسير يظهر الجمع بين أدلة الشرع من النصوص والإجماعات، فإن المراد بالبدعة ضد الشرعة وهو ما لم يشرع في الدين، فمتى ثبت بنص أو إجماع في فعل أنه مما يحبه الله ورسوله، خرج بذلك عن أن يكون بدعة، وقد قررت ذلك مبسوطا في قاعدة كبيرة من القواعد الكبار‏.‏
    وَقَالَ رَحمَه الله ‏:‏
    ‏[‏صلاة الرغائب‏]‏ بدعة باتفاق أئمة الدين، لم يسنها رسول الله ﷺ، ولا أحد من خلفائه، ولا استحبها أحد من أئمة الدين كمالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث وغيرهم‏.‏ والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث، وكذلك الصلاة التي تذكر أول ليلة جمعة من رجب، وفي ليلة المعراج، وألفية نصف شعبان، والصلاة يوم الأحد، والإثنين وغير هذا من أيام الأسبوع، وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في الرقائق، فلا نزاع بين أهل المعرفة بالحديث أن أحاديثه كلها موضوعة، ولم يستحبها أحد من أئمة الدين‏.‏ وفي صحيح مسلم

    ج/ 23 ص -135- عن أبي هريرة عن النبي? ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام، ولا يوم الجمعة بصيام‏"‏‏.‏
    والأحاديث التي تذكر في صيام يوم الجمعة، وليلة العيدين، كذب على النبي ﷺ‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذه الصلاة لم يصلها رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا رغب فيها رسول الله ﷺ، ولا أحد من السلف، ولا الأئمة ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها‏.‏ والحديث المروي في ذلك عن النبي ﷺ كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك؛ ولهذا قال المحققون‏:‏ إنها مكروهة غير مستحبة، والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -136-وَقَال شيخ الإِسلام‏:‏
    فصل
    في ‏[‏سجود القرآن‏]‏ وهو نوعان ‏:‏ خبر عن أهل السجود، ومدح لهم، أو أمر به، وذم على تركه‏.‏
    فالأول سجدة الأعراف‏:‏
    ‏"إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏، وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر‏.‏
    وفي الرعد‏:‏‏
    "وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ‏"‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏، وفي النحل‏:‏ ‏"أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏"‏[‏النحل‏:‏ 48 50‏]‏،

    ج/ 23 ص -137-وفي سبحان‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 107 109‏]‏، وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد‏.‏
    وكذلك في مريم‏:‏
    ‏"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏، فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلي عليهم آيات الرحمن، وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلي عليهم القرآن يسجدون‏.‏
    وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة، وكقوله‏:‏
    ‏"وَادْخُلُواْ الْباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏، وإن كان المراد به الركوع‏.‏ فالسجود هو خضوع له وذل له؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع‏.‏ كما قال الشاعر‏:‏
    ترى الأُكُم فيها سجداً للحوافر
    قال جماعة من أهل اللغة‏:‏ السجود التواضع والخضوع وأنشدوا‏:‏

    ج/ 23 ص -138-ساجد المنخر ما يرفعه
    خاشع الطرف أصم المسمع
    قيل لسهل بن عبد الله‏:‏ أيسجد القلب‏؟‏ قال‏:‏ نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبداً‏.‏
    وفي سورة ‏[‏الحج‏]‏ الأولى خبر‏:‏ ‏"
    أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏"‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏، والثانية‏:‏ أمر مقرون بالركوع؛ ولهذا صار فيها نزاع‏.‏
    وسجدة الفرقان‏:‏
    ‏"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏60‏]‏، خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد، ليس هو مدحاً‏.‏ وكذلك سجدة النمل‏:‏ ‏"وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏ 24 26‏]‏، خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله، ولم يسجد للَّه‏.‏ ومن قرأ ألا يا اسجدوا، كانت أمراً‏.‏
    وفي ‏[‏ألم تنزيل السجدة‏]‏‏:‏
    ‏"إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏،

    ج/ 23 ص -139-وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص؛ فإنه نفي الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها‏.‏
    وفي ‏[‏ص‏]‏‏:‏ خبر عن سجدة داود، وسماها ركوعاً‏.‏، و‏[‏حم تنزيل‏]‏ أمر صريح‏:‏
    ‏"وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ‏"‏[‏فصلت‏:‏37،38‏]‏، والنجم أمر صريح‏:‏ ‏"فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏ 62‏]‏، والانشقاق أمر صريح عند سماع القرآن‏:‏ ‏"فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ‏"‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏20،21‏]‏، و‏"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏"‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، أمر مطلق‏:‏ ‏"وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏"‏[‏العلق‏:‏ 91‏]‏‏.‏ فالستة الأول إلى الأولى من الحج خبر ومدح‏.‏ والتسع البواقي من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد، إلا ‏[‏ص‏]‏، فنقول‏:‏ قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة‏.‏ قيل‏:‏ يجب‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجب‏.‏ وقيل‏:‏ يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة، وهو رواية عن أحمد، والذي يتبين لي أنه واجب‏:‏ فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب؛ لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال‏:‏ إنه محمول على الصلاة، كالثانية من الحج، والفرقان، واقرأ، وهذا ضعيف، فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله‏:‏

    ج/ 23 ص -140-"إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏، فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجداً إذا ذكر بها، وإذا كان سامعاً لها، فقد ذكر بها‏.‏
    وكذلك سورة ‏[‏الانشقاق‏]‏‏:‏ ‏
    "فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ‏"‏[‏الانشقاق‏:‏20،21‏]‏، وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله‏:‏ ‏"فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏49‏]‏، ‏"وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 8‏]‏، ‏"فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏، وكذلك سورة ‏[‏النجم‏]‏ قوله‏:‏ ‏"أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا‏"‏[‏النجم‏:‏59 62‏]‏، أمرا بالغاً عقب ذكر الحديث الذي هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود، لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة، فمن ظن هذا أو هذا، فقد غلط، بل هو متناول لهما جميعاً، كما بينه الرسول صلى الله عيله وسلم‏.‏ فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه‏.‏ فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة، سواء تليت مع سائر القرآن، أو وحدها، ليس هو سجوداً عند تلاوة مطلق القرآن، فهو سجود عند جنس القرآن‏.‏ وعند خصوص الأمر بالسجود، فالأمر يتناوله‏.‏ وهو أيضاً متناول لسجود القرآن أيضاً وهو أبلغ؛فإنه سبحانه وتعالى

    ج/ 23 ص -141-قال‏:‏ ‏"إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏"‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏، فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجداً، وسبح بحمد ربه، وهو لا يستكبر‏.‏
    ومعلوم أن قوله‏:‏
    ‏"بِآيَاتِنَا‏"‏ ليس يعني بها آيات السجود فقط، بل جميع القرآن‏.‏ فلابد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجداً، وهذا حال المصلي، فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام، والإمام يذكر بقراءة نفسه، فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجداً، وهو سجودهم في الصلاة، وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود، والسجود مثني كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران‏:‏ خرور من قيام وهو السجدة الأولى‏.‏ وخرور من قعود، وهو السجدة الثانية‏.‏ وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل، والطمأنينة فيها، كما مضت به السنة؛ فإن الخرور ساجداً لا يكون إلا من قعود أو قيام‏.‏ وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف، أو كان إلى القعود أقرب، لم يكن هذا خروراً‏.‏
    ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض، كيف ما كان‏.‏ وليس كذلك، بل هو مأمور به كما قال‏:‏
    ‏"إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا‏"‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏، ولم يقل‏:‏ سجدوا‏.‏ فالخرور مأمور

    ج/ 23 ص -142-به، كما ذكره في هذه الآية، ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة‏.‏ يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 107 109‏]‏، فمدح هؤلاء، وأثني عليهم بخرورهم للأذقان، أي على الأذقان سجداً‏.‏ والثاني بخرورهم للأذقان‏:‏ أي عليها يبكون‏.‏
    فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، يحبها الله‏.‏ وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض، كما تلصق الجبهة، والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع، والسجود منتهاه‏.‏ فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه، لكنه يخر على ذقنه، والذقن آخر حد الوجه، وهو أسفل شيء منه، وأقربه إلى الأرض‏.‏ فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعاً للَّه‏.‏ ومن حينئذ، قد شرع في السجود‏.‏ فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود، فالخرور على الذقن أول السجود، وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود، وقد روي عن ابن عباس‏:‏ ‏
    "وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ‏"‏ أي‏:‏ للوجوه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه، والذقن مجتمع اللحيين، وهو غضروف أعضاء الوجه‏.‏ فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن‏.‏

    ج/ 23 ص -143-وقال ابن الأنباري‏:‏ أول ما يلقي الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه، فلذلك قال‏:‏ ‏"لِلأَذْقَانِ‏"‏، ويجوز أن يكون المعني يخرون للوجوه، فاكتفي بالذقن من الوجه‏.‏ كما يكتفي بالبعض من الكل‏.‏ وبالنوع من الجنس‏.‏
    قلت‏:‏ والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن، فليس الذقن من أعضاء السجود، بل أعضاء السجود سبعة‏.‏ كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء‏:‏ الجبهة وأشار بيده إلى الأنف واليدين، والركبتين، والقدمين‏"‏، ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته، والجمع بينهما متعذر، أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ، يمنع إلصاقهما معاً بالأرض في حال واحدة، فالساجد يخر على ذقنه، ويسجد على جبهته‏.‏ فهذا خرور السجود‏.‏ ثم قال‏:‏
    ‏"وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 109‏]‏، فهذا خرور البكاء، قد يكون معه سجود، وقد لا يكون‏.‏
    فالأول كقوله‏:‏
    ‏"إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏58‏]‏، فهذا خرور وسجود وبكاء‏.‏
    والثاني‏:‏ كقوله‏:‏ ‏
    "وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ‏"‏، فقد يبكي الباكي من خشية الله مع خضوعه بخروره، وإن لم يصل إلى حد السجود

    ج/ 23 ص -144-وهذا عبادة أيضاً لما فيه من الخرور للَّه، والبكاء له‏.‏ وكلاهما عبادة للَّه، فإن بكاء الباكي للَّه، كالذي يبكي من خشية الله‏.‏ من أفضل العبادات‏.‏ وقد روي‏:‏ ‏"‏عينان لا تمسهما النار‏:‏ عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله‏"‏، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال إني أخاف الله رب العالمين‏"‏‏.‏
    فذكر ﷺ هؤلاء السبعة، إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها، وقد صنف مصنف في نعتهم سماه‏:‏ ‏[‏اللمعة في أوصاف السبعة‏]‏‏.‏ فالإمام العادل‏:‏ كمل ما يجب من الإمارة، والشاب الناشئ في عبادة الله‏:‏ كمل ما يجب من عبادة الله، والذي قلبه معلق بالمساجد‏:‏ كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس؛ لقوله‏:‏ ‏"إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏، والعفيف‏:‏ كمل الخوف من الله، والمتصدق‏:‏ كمل الصدقة، والباكي‏:‏ كمل الإخلاص‏.‏

    ج/ 23 ص -145-وأما قوله عن داود عليه السلام ‏:‏ ‏"وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ‏"‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏، لا ريب أنه سجد‏.‏ كما ثبت بالسنة، وإجماع المسلمين أنه سجد لله، والله سبحانه مدحه بكونه خر راكعاً، وهذا أول السجود، وهو خروره‏.‏ فذكر سبحانه أول فعله وهو خروره راكعاً، ليبين أن هذا عبادة مقصودة، وإن كان هذا الخرور كان ليسجد‏.‏ كما أثني على النبيين بأنهم كانوا‏:‏ ‏"إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏، "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ‏"‏ أنهم‏:‏ ‏"إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا‏"‏، ‏"وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏107 109‏]‏، وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافي للكبر‏.‏ فإن المتكبر يكره أن يخر، ويحب ألا يزال منتصباً مرتفعاً، إذا كان الخرور فيه ذل وتواضع، وخشوع؛ ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب، وغير العرب‏.‏ فكان أحدهم إذا سقط منه الشيء لا يتناوله، لئلا يخر وينحني‏.‏
    فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس، وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله‏.‏ وهو قد خلق رفيعا منتصبا، فإذا خفضه، لاسيما بالسجود، كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا للَّه، فمن سجد لغيره، فهو مشرك، ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته، وكلاهما كافر من أهل النار‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏"‏[‏غافر‏:‏60‏]‏، وقال

    ج/ 23 ص -146-تعالى‏:‏ ‏"وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏، وقال في قصة بلقيس‏:‏ ‏"وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏"‏[‏النمل‏:‏24،26‏]‏‏.‏ والشمس أعظم ما يري في عالم الشهادة وأعمه نفعا، وتأثيراً‏.‏ فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب، والأشجار، وغير ذلك‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏
    "وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ‏"‏، دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق، وإن عظم قدره، بل لمن خلقه‏.‏ وهذا لمن يقصد عبادته وحده‏.‏ كما قال‏:‏ ‏"إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏"‏، لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات، قال تعالى‏:‏ ‏"فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 38‏]‏، فإنه قد علم سبحانه أن في بني آدم من يستكبر عن السجود له فقال‏:‏ الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم، بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة، بخلاف الآدميين، فوصفهم هنا بالتسبيح له، ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا في قوله‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏206‏]‏‏.‏

    ج/ 23 ص -147-وهم يُصَفُّون له صفوفاً كما قالوا‏:‏ ‏"وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ‏"‏[‏الصافات‏:‏165،166‏]‏‏.‏
    وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏ألا تَصُفون كما تَصْف الملائكة عند ربها‏؟‏‏"‏، قالوا‏:‏ وكيف تصف الملائكة عند ربها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف‏"‏‏.‏
    فصل
    فآياته سبحانه توجب شيئين‏:‏
    أحدهما‏:‏ فهمها وتدبرها، ليعلم ما تضمنته‏.‏
    والثاني‏:‏ عبادته، والخضوع له إذا سمعت، فتلاوته إياها وسماعها يوجب هذا وهذا، فلو سمعها السامع ولم يفهمها، كان مذموما‏.‏ ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموماً، بل لابد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها‏.‏ كما أنه لابد لكل أحد من استماعها، فالمعرض عن استماعها كافر، والذي لا يفهم ما أمر به فيها كافر‏.‏ والذي يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر‏.‏ وهو سبحانه يذم الكفار بهذا، وهذا كقوله‏:‏ ‏
    "فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏49،51‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏،

    ج/ 23 ص -148-وقوله‏:‏ ‏"كِتَابٌ فصلتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ‏"‏[‏فصلت‏:‏3،4‏]‏، ونظائره كثيرة‏.‏
    وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها‏:‏
    ‏"وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏"‏ [‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏، فذمهم على أنهم لا يفهمون، ولو فهموا لم يعملوا بعلمهم‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 21،23‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عليها صُمًّا وَعُمْيَانًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 73‏]‏‏.‏
    قال ابن قتيبة‏:‏ لم يتغافلوا عنها، فكأنهم صم لم يسمعوها عمي لم يروها‏.‏ وقال غيره من أهل اللغة‏:‏ لم يبقوا على حالهم الأولى، كأنهم لم يسمعوا، ولم يروا، وإن لم يكونوا خروا حقيقة‏.‏ تقول العرب‏:‏ شتمت فلانا فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يتعذر، وظل يفتخر، وإن لم يكن قام، ولا قعد‏.‏
    قلت‏:‏ في ذكره سبحانه لفظ الخرور دون غيره، حكمة‏.‏ فإنهم لو خروا وكانوا صما وعمياناً، لم يكن ذلك ممدوحا، بل معيبا‏.‏ فكيف إذا كانوا صما وعميانا بلا خرور‏.‏ فلابد من شيئين‏:‏ من الخرور، والسجود‏.‏ ولابد من السمع والبصر لما في آياته من النور والهدي

    ج/ 23 ص -149-والبيان، وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة، في القيام، ثم الركوع، والسجود‏.‏
    فأول ما أنزل الله من القرآن‏:‏ ‏
    "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏"‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، فقال‏:‏ ‏"وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏"‏ ‏[‏العلق‏:‏ 19‏]‏، فقوله تعالى‏:‏ ‏"إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏"‏ [‏السجدة‏:‏15‏]‏، يدل على أن التذكير بها كقراءتها في الصلاة موجب للسجود والتسبيح، وأنه من لم يكن إذا ذكر بها يخر ساجداً، ويسبح بحمد ربه، فليس بمؤمن، وهذا متناول الآيات التي ليس فيها سجود، وهي جمهور آيات القرآن، ففي القرآن أكثر من ستة آلاف آية، وأما آيات السجدة، فبضع عشرة آية‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"ذُكِّرُوا بِهَا‏"‏، يتناول جميع الآيات، فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود، وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود‏.‏ وعلى هذا، تدل عامة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة تدل على وجوب جنس التسبيح فمن لم يسبح في السجود، فقد عصي الله ورسوله، وإذا أتي بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه‏.‏
    وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال‏.‏ قيل‏:‏ لا يجب ذكر بحال،

    ج/ 23 ص -150-وقيل‏:‏ يجب ويتعين قوله‏:‏ ‏"سبحان ربي الأعلى‏"‏، لا يجزئ غيره‏.‏ وقيل‏:‏ يجب جنس التسبيح، وإن كان هذا النوع أفضل من غيره؛ لأنه أمر به أن يجعل في السجود‏.‏ وقد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح أنواع أخر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏اجعلوها في سجودكم‏"‏، فيه كلام ليس هذا موضعه، إذ قد يقال المسبح لربه‏:‏ بأي اسم سبحه، فقد سبح اسم ربه الأعلى‏.‏ كما أنه بأي اسم دعاه فقد دعا ربه الذي له الأسماء الحسني‏.‏ كما قال‏:‏ ‏"قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏‏.‏
    فإذا كان يدعي بجميع أسمائه الحسني، وبأي اسم دعاه، فقد دعا الذي له الأسماء الحسني، وهو يسبح بجميع أسمائه الحسني، وبأي اسم سبح فقد سبح الذي له الأسماء الحسني، ولكن قد يكون بعض الأسماء أفضل من بعض‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن الأمر بالسجود تابع لقراءة القرآن كله، كما في الآية‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏
    ‏"فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ‏"‏ ‏[‏الانشقاق 20،21‏]‏، فهذا يتناول جميع القرآن، وأنه من قرئ عليه القرآن فهو مأمور بالسجود، والمصلي قد قرئ عليه القرآن، وذلك سبب للأمر بالسجود، فلهذا يسمع القرآن ويسجد الإمام والمنفرد يسمع قراءة نفسه وهو يقرأ على نفسه القرآن‏.‏ وقد

    ج/ 23 ص -151- يقال‏:‏ لا يصلون، لكن قوله‏:‏ ‏"خَرُّوا سُجَّدًا‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏15‏]‏، صريح في السجود المعروف؛ لاقترانه بلفظ الخرور‏.‏ وأما هذه الآية ففيها نزاع، قال أبو الفرج‏:‏ ‏"وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ‏"‏، فيه قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا يصلون، قاله عطاء، وابن السائب‏.‏
    والثاني‏:‏ لا يخضعون له، ولا يستكينون له، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى‏.‏ قال‏:‏ واحتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك‏.‏ وإنما المعني لا يخشعون، ألا تري أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه‏.‏
    قلت‏:‏ القول الأول هو الذي يذكره كثير من المفسرين، لا يذكرون غيره كالثعلبي، والبغوي وحكوه عن مقاتل، والكلبي وهو المنقول عن مفسري السلف، وعليه عامة العلماء‏.‏
    وأما القول الثاني‏:‏ فما علمت أحداً نقله عن أحد من السلف‏.‏ والذين قالوه إنما قالوه لما رأوا أنه لا يجب على كل من سمع شيئاً من القرآن أن يسجد، فأرادوا أن يفسروا الآية بمعني يجب في كل حال‏.‏ فقالوا‏:‏ يخضعون، ويستكينون‏.‏ فإن هذا يؤمر

    ج/ 23 ص -152-به كل من قرئ عليه القرآن‏.‏
    ولفظ السجود يراد به مطلق الخضوع، والاستكانة‏.‏ كما قد بسط هذا في مواضع، لكن يقال لهم‏:‏ الخضوع مأمور به، وخضوع الإنسان وخشوعه، لا يتم إلا بالسجود المعروف، وهو فرض في الجملة على كل أحد، وهو المراد من السجود المضاف إلى بني آدم‏:‏ حيث ذكر في القرآن‏:‏ إذ هو خضوع الآدمي للرب،والرب لا يرضي من الناس بدون هذا الخضوع؛ إذ هو غاية خضوع العبد، ولكل مخلوق خضوع بحسبه، هو سجوده‏.‏
    وأما إن يكون سجود الإنسان لا يراد به إلا خضوع ليس فيه سجود الوجه، فهذا لا يعرف، بل يقال‏:‏ هم مأمورون‏:‏ إذا قرئ عليهم القرآن بالسجود، وإن لم يكن السجود التام عقب استماع القرآن، فإنه لابد أن يكون بين صلاتين، فإذا قاموا إلى الصلاة، فقد أتوا بالسجود الواجب عليهم، وهم لما قرئ عليهم حصل لهم نوع من الخضوع والخشوع باعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال‏.‏ فإذا اعتقدوا وجوب الصلاة وعزموا على الامتثال، فهذا مبدأ السجود المأمور به، ثم إذا صلوا، فهذا تمامه‏.‏ كما قال في المشركين‏:‏ ‏
    "فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، فهم إذا تابوا والتزموا الصلاة كف عن قتالهم‏.‏ فهذا مبدأ إقامتها، ثم إذا فعلوها فقد أتموا إقامتها‏.‏ وأما إذا التزموها

    ج/ 23 ص -153-بالكلام ولم يفعلوا فإنهم يقاتلون‏.‏
    ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ‏:‏ أنه سجد بها في الصلاة‏.‏ ففي الصحيحين عن أبي رافع قال‏:‏ صليت مع أبي هريرة العتمة‏.‏ فقرأ‏:‏
    ‏"إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ‏"‏ ‏[‏سورة الانشقاق ‏]‏، فسجد فقلت‏:‏ ما هذه‏؟‏ قال‏:‏سجدت بها خلف أبي القاسم، ولا أزال أسجد بها حتى ألقاه، وهذا الحديث قد اتفق العلماء على صحته‏.‏
    وأما سجوده فيها، فرواه مسلم دون البخاري‏.‏ والسجود فيها قول جمهور العلماء كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم‏.‏ وهو قول ابن وهب، وغيره من أصحاب مالك، فكيف يقال‏:‏ إن لفظ السجود فيها لم يرد به إلا مطلق الخضوع والاستكانة، وأما السجود المعروف فلم يدل عليه اللفظ‏؟‏ ولو كان هذا صحيحاً، لم يكن السجود الخاص مشروعا إذا تليت، لاسيما في الصلاة، وبهذا يظهر جواب من أجاب من احتج بها على وجوب سجود التلاوة، بأن المراد الخضوع‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فإذا فسر السجود بالصلاة، كما قاله الأكثرون، لم يجب سجود التلاوة‏.‏ قيل‏:‏ الصلاة مرادة من جنس قراءة القرآن‏.‏ كما تقدم‏.‏ وهذه الآية توجب على من قرئ عليه القرآن أن يسجد،

    ج/ 23 ص -154-فإن قرئ عليه خارج الصلاة، فعليه أن يسجد قريباً، إذا حضر وقت الصلاة،فإنه ما من ساعة يقرأ عليه فيها القرآن،إلا هو وقت صلاة مفروضة،فعليه أن يصليها؛ إذ بينه وبين وقت الصلاة المفروضة أقل من نصف يوم، فإذا لم يصل، فهو ممن إذا قرئ عليه القرآن لا يسجد فإن قرئ عليه القرآن في الصلاة فعليه أن يسجد سجدة يخر فيها من قيام، وسجدة يخر فيها من قعود، وكل منهما بعد ركوع، كما بينه الرسول ﷺ‏.‏
    وأما السجود عند تلاوة هذه الآية، فهو السجود الخاص، وهو سجود التلاوة، وهذا سجود مبادر إليه عند سماع هذه الآية، فإنها أمرته أن يسجد إذا قرئ عليه القرآن، فمن تمام المبادرة أن يسجد عند سماعها سجود التلاوة‏.‏ ثم يسجد عند تلاوة غيرها كما تقدم، فإن هذه الآية تأمر بالسجود إذا قرئ عليه هي أو غيرها، فهي الآمرة بالسجود عند قراءة القرآن، دون سائر الآيات التي لا يسجد عندها، فكان لها حض من الأمر بالسجود مع عموم كونها من القرآن، فتخص بالسجود لها، ويسجد في الصلاة إذا قرئت كما يسجد إذا قرئ غيرها‏.‏
    وبهذا فسرها النبي ﷺ‏.‏ فإنه سجد بها في الصلاة وفعله إذا خرج امتثالا لأمر، أو تفسيراً لمجمل كان حكمه حكمه، فدل

    ج/ 23 ص -155-ذلك على وجوب السجود الذي سجده عند قراءة هذه السورة، لا سيما وهو في الصلاة‏.‏ والصلاة مفروضة، وإتمامها مفروض، فلا تقطع إلا بعمل هو أفضل من إتمامها، فعلم أن سجود التلاوة فيها أفضل من إتمامها بلا سجود، ولو زاد في الصلاة فعلا من جنسها عمداً بطلت صلاته‏.‏ وهنا سجود التلاوة مشروع فيها‏.‏
    وعن أحمد في وجوب هذا السجود في الصلاة روايتان، والأظهر الوجوب، كما قدمناه لوجوه متعددة‏:‏
    منها‏:‏ أن نفس الأئمة يؤمرون أن يصلوا كما صلى النبي ﷺ، وهو هكذا صلى‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"لَا يَسْجُدُونَ‏"‏[‏الانشقاق‏:‏21‏]‏، ولم يقل لا يصلون، يدل على أن السجود مقصود لنفسه، وأنه يتناول السجود في الصلاة وخارج الصلاة، فيتناول أيضاً الخضوع والخشوع، كما مثل‏.‏ فالقرآن موجب لمسمي السجود الشامل لجميع أنواعه، فما من سجود إلا والقرآن موجب له، ومن لم يسجد إذا قرئ عليه مطلقاً فهو كافر، ولكن لا يجب كل سجود في كل وقت، بل هو بحسب ما بينه رسول الله ﷺ، ولكن الآية دلت على تكرار السجود عند تكرار قراءة القرآن عليه،

    ج/ 23 ص -156-وهذا واجب إذا قرئ عليه القرآن في الصلاة وخارج الصلاة، كما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وأما الأمر المطلق بالسجود، فلا ريب أنه يتناول الصلوات الخمس‏.‏ فإنها فرض بالاتفاق، ويتناول سجود القرآن؛ لأن النبي ﷺ سن السجود في هذه المواضع‏.‏ فلابد أن يكون ما تلي سبباً له، وإلا كان أجنبيا‏.‏ والمذكور إنما هو الأمر، فدل على أن هذا السجود من السجود المأمور به، وإلا فكيف يخرج السجود المقرون بالأمر عن الأمر، وهذا كسجود الملائكة لآدم لما أمروا‏.‏
    وهكذا جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي‏.‏ يقول‏:‏ يا ويله‏.‏ أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار‏!‏‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ والنبي ﷺ ذكر هذا ترغيباً في هذا السجود، فدل على أن هذا السجود مأمور به، كما كان السجود لآدم؛ لأن كلاهما أمر، وقد سن السجود عقبه، فمن سجد كان متشبهاً بالملائكة، ومن أبي، تشبه
    بابليس، بل هذا سجود للَّه، فهو أعظم من السجود لآدم‏.‏
    وهذا الحديث كاف في الدلالة على الوجوب، وكذلك الآيات التي فيها الأمر المقيد، والأمر المطلق أيضاً‏.‏

    ج/ 23 ص -157-وأيضاً، فإن النبي ﷺ لما قرأ‏:‏ ‏[‏والنجم‏]‏، سجد وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس‏.‏ كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس‏.‏ وفي الصحيح عن ابن مسعود‏:‏ أنهم سجدوا إلا رجلا من المشركين أخذ كفا من حصا، وقال‏:‏ يكفيني هذا‏.‏ قال‏:‏ فلقد رأيته بعد قتل كافرا‏.‏ وهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بهذا السجود، وأن تاركه كان مذموماً، وليس هو سجود الصلاة، بل كان خضوعا للَّه، وفيهم كفار، وفيهم من لم يكن متوضيا، لكن سجود الخضوع إذا تلي كلامه‏.‏
    كما أثنى على من إذا سمعه سجد، فقال‏:
    ‏ ‏"إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏"‏ [‏مريم‏:‏58‏]‏، وقال‏:‏ ‏"قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏107 109‏]‏، وهذا وإن قيل‏:‏ إنه متناول سجود الصلاة، فإنهم إذا سمعوا القرآن ركعوا وسجدوا، فلا ريب أنه متناول سجود القرآن بطريق الأولى؛ لأن هناك السجود بعض الصلاة، وهنا ذكر سجوداً مجرداً على الأذقان، فما بقي يمكن حمله على الركوع؛ لأن الركوع لا يكون على الأذقان‏.‏
    وقوله‏:
    ‏ ‏"لِلأَذْقَانِ‏"‏ أي‏:‏ على الأذقان‏.‏ كما قال‏:‏ ‏"وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏]‏ أي‏:‏ على الجبين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"لِلأَذْقَانِ‏"‏، يدل على تمام السجود،

    ج/ 23 ص -158-وأنهم سجدوا على الأنف مع الجبهة حتى التصقت الأذقان بالأرض، ليسوا كمن سجد على الجبهة فقط، والساجد على الأنف قد لا يلصق الذقن بالأرض، إلا إذا زاد انخفاضه‏.‏
    وأما احتجاج من لم يوجبه بكون النبي ﷺ لم يسجد لما قرأ عليه زيد ‏[‏النجم‏]‏، وبقول عمر‏:‏ لما قرأ على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى جاء السجدة‏.‏ قال‏:‏ يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، وفي لفظ‏:‏ فلما كان في الجمعة الثانية تشرفوا فقال‏:‏ إنا نمر بالسجدة ولم تكتب علينا، ولكن قد تشوفتم، ثم نزل فسجد‏.‏
    فيقال‏:‏ تلك قضية معينة، ولعله لما لم يسجد زيد لم يسجد هو، كما قال ابن مسعود‏:‏ أنت إمامنا، فإن سجدت سجدنا‏.‏ وقال عثمان‏:‏ إنما السجدة على من جلس إليها، واستمع‏.‏ وهذا يدل على أنها تجب على المستمع، ولا تجب على السامع، وكذلك حديث ابن مسعود يدل على أنها لا تجب إذا لم يسجد القارئ‏.‏
    وقد يقال‏:‏ كان للنبي ﷺ عذر عند من يقول‏:‏ إن السجود فيها مشروع‏.‏ فمن الناس من يقول‏:‏يمكن أنه لم يكن على

    ج/ 23 ص -159- طهارة، ولكن قد يرجح جواز السجود على غير طهارة‏.‏
    وقد قيل‏:‏ إن السجود في ‏[‏النجم‏]‏ وحدها منسوخ، بخلاف ‏[‏اقرأ‏]‏ و‏[‏الانشقاق‏]‏، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سجد فيهما، وسجد معه أبو هريرة، وهو أسلم بعد خيبر‏.‏ وهذا يبطل قول من يقول لم يسجد في الم
    فصل بعد الهجرة، وأما سورة النجم‏.‏
    بل حديث زيد صريح في أنه لم يسجد فيها، قال هؤلاء‏:‏ فيكون النسخ فيها خاصة، لا في غيرها، لما كان الشيطان قد ألقاه حين ظن من ظن أنه وافقهم، ترك السجود فيها بالكلية سداً لهذه الذريعة‏.‏ وهي في الصلاة تأتي في آخر القيام، وسجدة الصلاة تغني عنها، فهذا القول أقرب من غيره‏.‏ والله أعلم ‏.‏
    وأما حديث عمر‏:‏ فلو كان صريحاً لكان قوله وإقرار من حضر، وليسوا كل المسلمين‏.‏ وقول عثمان وغيره يدل على الوجوب‏.‏ ثم يقال‏:‏ قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب علينا السجود في هذه الحال، وهو إذا قرأها الإمام على المنبر‏.‏ يبين ذلك أن السجود في هذه الحال

    ج/ 23 ص -160- ليس كالسجود المطلق؛ لأنه يقطع فيه الإمام الخطبة، ويعمل عملا كثيراً‏.‏ والسنة في الخطبة الموالاة، فلما تعارض هذا وهذا صار السجود غير واجب؛ لأن القارئ يشتغل بعبادة أفضل منه، وهو خطبة الناس وإن سجد جاز‏.‏
    ولهذا يقول مالك وغيره‏:‏ إن هذا السجود لا يستحب، قال‏:‏ وليس العمل عندنا على أن يسجد الإمام إذا قرأ على المنبر، كما أنه لم يستحب السجود في الصلاة لا السر ولا الجهر‏.‏ وأحمد في إحدي الروايتين، وأبو حنيفة وغيرهما يقولون‏:‏ لا يستحب في صلاة السر، مع أن أبا حنيفة يوجب السجود، وأحمد في إحدي الروايتين يوجبه في الصلاة، ثم لم يستحبوه في هذه الحال، بل اتصال الصلاة عندهم أفضل، فكذلك قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب في مثل هذه الحال، كما يقول من يقول، لا يستحب -أيضاً- في هذه الحال‏.‏
    وهذا كما أن الدعاء بعرفة لما كانت سنته الاتصال لم يقطع بصلاة العصر، بل صليت قبله، فكذلك الخاطب يوم الجمعة مقصوده خطابهم وأمرهم ونهيهم، ثم الصلاة عقب ذلك، فلا يجب أن يشتغلوا عن هذا المقصود، مع أن عقبه يحصل السجود‏.‏
    وهذا يدل على أن سجود التلاوة يسقط لما هو أفضل منه‏.‏ ألا

    ج/ 23 ص -161-تري أن الإنسان لو قرأ لنفسه يوم الجمعة، قد يقال‏:‏ إنه لم يستحب له أن يسجد دون الناس، كما لا يشرع للمأموم أن يسجد لسهوه‏؟‏ لأن متابعة الإمام أولى من السجود، وهو مع البعد‏.‏ وإن قلنا يستحب له أن يقرأ، فهو كما يستحب للمأموم أن يقرأ خلف إمامه‏.‏ ولو قرأ بالسجدة، لم يسجد بها دون الإمام‏.‏ وما أعلم في هذا نزاعا‏.‏ فهنا محافظته على متابعة الإمام في الفعل الظاهر أفضل من سجود التلاوة، ومن سجود السهو، بل هو منهي عن ذلك، ويوم الجمعة إنما سجد الناس لما سجد عمر، ولو لم يسجد لم يسجدوا حينئذ‏.‏ فإذا كان حديث عمر قد يراد به أنه لم يكتب علينا في هذه الحال، لم يبق فيه حجة، ولو كان مرفوعاً‏.‏
    وأيضاً، فسجود القرآن هو من شعائر الإسلام الظاهرة، إذا قرئ القرآن في الجامع سجد الناس كلهم للَّه رب العالمين، وفي ترك ذلك إخلال بذلك؛ ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، كقول أبي حنيفة وغيره، وهو أحد أقوال الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد‏.‏
    وقول من قال‏:‏ لا تجب، في غاية البعد، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شرع فيها التكبير، وقول من قال‏:‏ هي فرض على الكفاية، لا ينضبط، فإنه لو حضرها في

    ج/ 23 ص -162-المصر العظيم أربعون رجلاً لم يحصل المقصود، وإنما يحصل بحضور المسلمين كلهم، كما في الجمعة‏.‏
    وأما الأضحية، فالأظهر وجوبها -أيضاً- فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، والنسك مقرون بالصلاة‏.‏ في قوله‏:‏
    ‏"إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"فصل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏"‏[‏الكوثر‏:‏2‏]‏، فأمر بالنحر كما أمر بالصلاة‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ‏"‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36، 37‏]‏‏.‏ وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته، وبها يذكر قصة الذبيح، فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم، وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج، في بعض السنين‏.‏
    وقد قالوا‏:‏ إن الحج كل عام فرض على الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام، والضحايا في عيد النحر كذلك، بل هذه تفعل في كل بلد

    ج/ 23 ص -163-هي والصلاة، فيظهر بها عبادة الله وذكره، والذبح له، والنسك له، ما لا يظهر بالحج، كما يظهر ذكر الله بالتكبير في الأعياد‏.‏ وقد جاءت الأحاديث بالأمر بها‏.‏ وقد خرج وجوبها قولاً في مذهب أحمد، وهو قول أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب مالك، أو ظاهر مذهب مالك‏.‏
    ونفاة الوجوب ليس معهم نص، فإن عمدتهم قوله ﷺ‏
    :‏ ‏"‏من أراد أن يضحي ودخل العشر، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ والواجب لا يعلق بالإرادة‏.‏ وهذا كلام مجمل، فإن الواجب لا يوكل إلى إرادة العبد‏.‏ فيقال‏:‏ إن شئت فافعله، بل قد يعلق الواجب بالشرط لبيان حكم من الأحكام‏.‏ كقوله‏:‏ ‏"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وقد قدروا فيه‏:‏ إذا أردتم القيام، وقدروا‏:‏ إذا أردت القراءة فاستعذ، والطهارة واجبة، والقراءة في الصلاة واجبة‏.‏ وقد قال‏:‏ ‏"إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏"‏ ‏[‏التكوير‏:‏27،28‏]‏، ومشيئة الاستقامة واجبة‏.‏
    وأيضاً، فليس كل أحد يجب عليه أن يضحي، وإنما تجب على القادر، فهو الذي يريد أن يضحي‏.‏ كما قال‏:‏ ‏"‏من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد تضل الضالة، وتعرض الحاجة‏"‏‏.‏ والحج فرض على المستطيع‏.‏ فقوله‏:‏ ‏"‏من أراد أن يضحي‏"‏، كقوله‏:‏ ‏"‏من أراد الحج

    ج/ 23 ص -164-فليتعجل‏"‏ ووجوبها حينئذ مشروط بأن يقدر عليها فاضلا عن حوائجه الأصلية‏.‏ كصدقة الفطر‏.‏
    ويجوز أن يضحي بالشاة عن أهل البيت صاحب المنزل ونسائه وأولاده، ومن معهم كما كان الصحابة يفعلون‏.‏ وما نقل عن بعض الصحابة من أنه لم يضح، بل اشتري لحماً، فقد تكون مسألة نزاع‏.‏ كما تنازعوا في وجوب العمرة، وقد يكون من لم يضح لم يكن له سعة في ذلك العام، وأراد بذلك توبيخ أهل المباهاة الذين يفعلونها لغير الله، أو أن يكون قصد بتركها ذلك العام توبيخهم، فقد ترك الواجب لمصلحة راجحة‏.‏ كما قال ﷺ‏:‏ ‏
    "‏لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال، معهم حزم حطب إلى قوم لايشهدون الصلاة، فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنار، لولا ما في البيوت من النساء والذرية‏"‏‏.‏ فكان يدع الجمعة والجماعة الواجبة؛ لأجل عقوبة المتخلفين، فإن هذا من
    باب الجهاد الذي قد يضيق وقته، فهو مقدم على الجمعة والجماعة‏.‏
    ولو أن ولي الأمر كالمحتسب وغيره تخلف بعض الأيام عن الجمعة لينظر من لا يصليها فيعاقبه، جاز ذلك‏.‏ وكان هذا من الأعذار المبيحة لترك الجمعة‏.‏ فإن عقوبة أولئك واجب متعين لا يمكن إلا بهذا الطريق، والنبي ﷺ قد بين أنه لولا النساء والصبيان،

    ج/ 23 ص -165- لحرق البيوت على من فيها، لكن فيها من لا تجب عليهم جمعة ولا جماعة من النساء والصبيان، فلا تجوز عقوبته‏.‏ كما لا ترجم الحامل حتى تضع حملها؛ لأن قتل الجنين لا يجوز‏.‏ كما في حديث الغامدية‏.
    فصل
    وسجود القرآن لا يشرع فيه تحريم ولا تحليل‏:‏ هذا هو السنة المعروفة عن النبي ﷺ، وعليه عامة السلف، وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين‏.‏ وعلى هذا، فليست صلاة، فلا تشترط لها شروط الصلاة، بل تجوز على غير طهارة‏.‏ كما كان ابن عمر يسجد على غير طهارة، لكن هي بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر‏.‏
    فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به؛ لكن قد يقال‏:‏ إنه لا يجب في هذه الحال، كما لا يجب على السامع، ولا على من لم يسجد قارئه، وإن كان ذلك السجود جائزاً عند جمهور العلماء‏.‏
    وكما يجب على المؤتم في الصلاة تبعاً لإمامه بالاتفاق، وإن قالوا‏:‏ لا يجب في غير هذه الحال، وقد حمل بعضهم حديث زيد على أن

    ج/ 23 ص -166- النبي ﷺ لم يكن متطهراً، وكما لا تجب الجمعة على المريض، والمسافر، والعبد، وإن جاز له فعلها، لاسيما وأكثر العلماء لا يجوزون فعلها إلا مع الطهارة، ولكن الراجح أنه يجوز فعلها للحديث‏.‏ والمروي فيها عن النبي ﷺ تكبيرة واحدة، فإنه لا ينتقل من عبادة إلى عبادة‏.‏ وعلى هذا ترجم البخاري فقال‏:‏ ‏[‏باب سجدة المسلمين مع المشركين‏]‏، والمشرك نجس ليس له وضوء‏.‏ قال‏:‏ وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء، وذكر سجود النبي ﷺ بالنجم لما سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون‏.‏ وهذا الحديث في الصحيحين من وجهين‏:‏ من حديث ابن مسعود، وحديث ابن عباس‏.‏ وهذا فعلوه تبعاً للنبي ﷺ لما قرأ قوله‏:‏ ‏"فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏ 62‏]‏‏.‏
    ومعلوم أن جنس العبادة لا تشترط له الطهارة، بل إنما تشترط للصلاة‏.‏ فكذلك جنس السجود يشترط لبعضه، وهو السجود الذي للَّه كسجود الصلاة، وسجدتي السهو، بخلاف سجود التلاوة، وسجود الشكر، وسجود الآيات‏.‏
    ومما يدل على ذلك‏:‏ أن الله أخبر عن سجود السحرة لما آمنوا بموسي على وجه الرضا بذلك السجود، ولا ريب أنهم لم يكونوا متوضئين، ولا يعرفون الوضوء‏.‏ فعلم أن السجود المجرد للَّه مما يحبه

    ج/ 23 ص -167- الله ويرضاه، وإن لم يكن صاحبه متوضئاً، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهذا سجود إيمان، ونظيره الذين اسلموا فاعتصموا بالسجود، ولم يقبل ذلك منهم خالد فقتلهم، فأرسل النبي ﷺ عليا فوداهم بنصف دية، ولم ينكر عليهم ذلك السجود، ولم يكونوا بعد قد أسلموا، ولا عرفوا الوضوء، بل سجدوا للَّه سجود الإسلام، كما سجد السحرة‏.‏
    ومما يدل على ذلك، أن الله أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الباب سجداً، ويقولوا‏:‏ حطة‏.‏ ومعلوم أنه لم يأمرهم بوضوء، ولا كان الوضوء مشروعا لهم، بل هو من خصائص أمة محمد، وسواء أريد السجود بالأرض، أو الركوع، فإنه إن أريد الركوع فهو عبادة مفردة يتضمن الخضوع للَّه، وهو من جنس السجود‏.‏ لكن شرعنا شرع فيه سجود مفرد، وأما ركوع مفرد ففيه نزاع، جوزه بعض العلماء بدلا عن سجود التلاوة‏.‏
    وأيضاً، فقد أخبر الله عن الأنبياء بالسجود المجرد، في مثل قوله‏:‏ ‏"
    أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏، ولم يكونوا مأمورين بالوضوء فإن الوضوء من خصائص أمة محمد، كما جاءت الأحاديث الصحيحة‏:‏ أنهم

    ج/ 23 ص -168-يبعثون يوم القيام غراً محجلين من آثار الوضوء، وأن الرسول يعرفهم بهذه السيماء فدل على أنه لا يشركهم فيها غيرهم‏.‏ والحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وقال‏:‏ ‏"‏هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي‏"‏‏.‏ حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث، لا يجوز الاحتجاج بمثله، وليس عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين، بخلاف الاغتسال من الجنابة فإنه كان مشروعاً، ولكن لم يكن لهم تيمم إذا عدموا الماء، وهذه الأمة مما فضلت به التيمم مع الجنابة، والحدث الأصغر، والوضوء‏.‏
    فإن قيل‏:‏ أولئك الأنبياء إنما سجدوا على غير وضوء؛ لأن الصلاة كانت تجوز لهم بغير وضوء‏.‏
    قيل‏:‏ لم يقص الله علينا في القرآن أن أحداً منهم صلي بغير وضوء، ونحن إنما نتبع من شرع الأنبياء ما قصه الله علينا، وما أخبرنا به نبينا ﷺ، فإنه قص ذلك علينا لنعتبر به‏.‏ وقال‏:‏
    ‏"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏"‏ [‏الأنعام‏:‏90‏]‏، وكذلك ذكر عن الذين أوتوا العلم من قبله‏:‏ أنهم ‏"إِذَا يُتْلَى عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏"‏ [‏الإسراء‏:‏ 107 109‏]‏‏.‏

    ج/ 23 ص -169-وقد أوجب الله تعالى الطهارة للصلاة كما أمر بذلك في القرآن، وكما ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول‏"‏، وقد أجمع المسلمون على وجوب الطهارة للصلاة‏.‏
    يبقي الكلام في مسمي ‏[‏الصلاة‏]‏ فإن الذين أوجبوا الطهارة للسجود المجرد، اختلفوا فيما بينهم‏.‏ فقالوا‏:‏ يسلم منه، وقال بعضهم‏:‏ يكبر تكبيرتين‏:‏ تكبيرة للافتتاح، وتكبيرة للسجود، وقال بعضهم‏:‏ يتشهد فيه، وليس معهم لشيء من هذه الأقوال أثر، لا عن النبي صلي الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، بل هو مما قالوه برأيهم، لما ظنوه صلاة‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ لا تكون الصلاة إلا ركعتين، وما دون ذلك لا يكون صلاة، إلا ركعة الوتر‏.‏ واحتج بما في السنن عن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم
    قال‏:‏ ‏"‏صلاة الليل والنهار مثني مثني‏"‏، وهذا القول قاله ابن حزم، ولم يشترط الطهارة لما دون ذلك، لا لصلاة الجنازة، ولا لغيرها‏.‏ وهذا أيضاً ضعيف‏.‏ فإن الحديث ضعيف‏.‏ والحديث الذي في الصحاح الذي رواه الثقاة قوله‏:‏ ‏"‏صلاة الليل مثني مثني‏"‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ و‏"‏النهار‏"‏، فزيادة انفرد بها البارقي، وقد ضعفها أحمد،

    ج/ 23 ص -170-وغيره‏.‏ والمرجع في مسمي الصلاة إلى الرسول‏.‏
    وفي السنن حديث على عن النبي صلي الله عليه وسلم‏
    :‏‏"‏مفتاح الصلاة الطهور،وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏"‏‏.‏ وهذا محفوظ عن ابن مسعود من قوله‏:‏فهذا يبين أن ‏[‏الصلاة ‏]‏ ‏:‏التي مفتاحها الطهور،وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏.‏وهذا يتناول كل ما تحريمه التكبير، وتحليله التسليم‏:‏كالصلاة التي فيها ركوع وسجود،سواء كانت مثني أو واحدة، أو كانت ثلاثاً متصلة،أو أكثر من ذلك‏.‏ وهو يتناول صلاة الجنازة، فإن تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏.‏
    والصحابة أمروا بالطهارة لما فرقوا بينها وبين سجود التلاوة، وهو الذي ذكره البخاري في صحيحه‏.‏ فقال في ‏[‏باب سنة الصلاة على الجنازة‏]‏‏:‏ وقال النبي صلي الله عليه وسلم‏:‏
    ‏"‏من صلي على الجنازة‏"‏ وقال‏:‏‏"‏صلوا على صاحبكم‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏صلوا على النجاشي‏"‏، سماها صلاة، وليس فيها ركوع ولا سجود، ولا يتكلم فيها، وفيها تكبير وتسليم، وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهراً، ولا يصلي عند طلوع الشمس، ولا غروبها، ويرفع يديه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، وفيها صفوف وإمام‏.‏
    وهذه الأمور التي ذكرها كلها منتفية في سجود التلاوة، والشكر،

    ج/ 23 ص -171-وسجود الآيات‏.‏ فإن النبي صلي الله عليه وسلم لم يسم ذلك صلاة ولم يشرع لها الاصطفاف، وتقدم الإمام، كما يشرع في صلاة الجنازة وسجدتي السهو بعد السلام، وسائر الصلوات‏.‏ ولا سن فيها النبي صلي الله عليه وسلم سلاما، لم يرو ذلك عنه لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، بل هو بدعة‏.‏ ولا جعل لها تكبير افتتاح، وإنما روي عنه أنه كبر فيها إما للرفع، وإما للخفض، والحديث في السنن‏.‏
    وابن عباس جوز التيمم للجنازة عند عدم الماء، وهذا قول كثير من العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين، فدل على أن الطهارة تشترط لها عنده، وكذلك هذه الصفات منتفية في الطواف، فليس فيه تسليم، والكلام جائز فيه، وليس فيه اصطفاف وإمام، وقد قرن الله في كتابه وسنة رسوله بين الطائف والمصلي، ولم يرد عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف، لكنه كان يطوف متطهراً هو والصحابة، وكانوا يصلون ركعتي الطواف بعد الطواف، ولا يصلي إلا متطهراً، والنهي إنما جاء في طواف الحائض فقال‏:‏ ‏"‏الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت‏"‏، وقد قيل‏:‏ إن ذلك لأجل المسجد، وقيل لأجل الطواف، وقيل‏:‏ لهما‏.‏ والله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام ‏:‏
    ‏"وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏"‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، فاقتضي ذلك تطهيره من دم الحيض وغيره‏.‏

    ج/ 23 ص -172- وأيضا، فإبراهيم والنبيون بعده، كانوا يطوفون بغير وضوء، كما كانوا يصلون بغير وضوء، وشرعهم شرعنا إلا فيما نسخ، فالصلاة قد أمرنا بالوضوء لها، ولم يفرض علينا الوضوء لغيرها، كما جعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً، فحيث ما أدركت المسلم الصلاة، فعنده مسجده وطهوره، وإن كان جنباً تيمم وصلي، ومن قبلنا لم يكن لهم ذلك، بل كانوا ممنوعين من الصلاة مع الجنابة حتى يغتسلوا، كما يمنع الجنب من اللبث في المسجد، ومن قراءة القرآن‏.‏
    ويجوز للمحدث اللبث في المسجد معتكفا، وغير معتكف‏.‏ ويجوز له قراءة القرآن، والمروي فيها عن النبي صلي الله عليه وسلم تكبيرة واحدة، فإنه لم ينتقل من عبادة إلى عبادة‏.

    ج/ 23 ص -173-وسئل شَيْخ الإسْلاَم رَحمه الله عن الرجل إذا كان يتلو الكتاب العزيز بين جماعة، فقرأ سجدة، فقام على قدميه وسجد‏.‏ فهل قيامه أفضل من سجوده وهو قاعد أم لا‏؟‏ وهل فعله ذلك رياء ونفاق‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    بل سجود التلاوة قائما أفضل منه قاعدا، كما ذكر ذلك من ذكره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وكما نقل عن عائشة، بل وكذلك سجود الشكر، كما روي أبو داود في سننه عن النبي صلي الله عليه وسلم من سجوده للشكر قائما، وهذا ظاهر في الاعتبار، فإن صلاة القائم أفضل من صلاة القاعد‏.‏
    وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه كان أحياناً يصلي قاعداً فإذا قرب من الركوع فإنه يركع ويسجد وهو قائم، وأحياناً يركع ويسجد وهو قاعد، فهذا قد يكون للعذر، أو للجواز، ولكن تحريه مع قعوده أن يقوم ليركع ويسجد وهو قائم، دليل على أنه أفضل‏.‏ إذ هو أكمل وأعظم خشوعا لما فيه من هبوط رأسه وأعضائه الساجدة للَّه من القيام‏.‏

    ج/ 23 ص -174- ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحي، أو قيام ليل، أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس، إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سراً للَّه مع اجتهاده في سلامته من الرياء، ومفسدات الإخلاص؛ ولهذا قال الفضيل بن عياض‏:‏ ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك‏.‏ وفعله في مكانه الذي تكون فيه معيشته التي يستعين بها على عبادة الله خير له من أن يفعله حيث تتعطل معيشته، ويشتغل قلبه بسبب ذلك، فإن الصلاة كلما كانت أجمع للقلب، وأبعد من الوسواس، كانت أكمل‏.‏
    ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء، فنهيه مردود عليه من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفاً من الرياء، بل يؤمر بها، وبالإخلاص فيها، ونحن إذا رأينا من يفعلها أقررناه، وإن جزمنا أنه يفعلها رياء، فالمنافقون الذين قال الله فيهم‏:‏
    ‏"إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً‏"‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏، فهؤلاء كان النبي صلي الله عليه وسلم والمسلمون يقرونهم على ما يظهرونه من الدين، وإن كانوا مرائين، ولا ينهونهم عن الظاهر؛ لأن الفساد في ترك إظهار

    ج/ 23 ص -175- المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء، كما أن فساد ترك إظهار الإيمان والصلوات أعظم من الفساد في إظهار ذلك رياء؛ ولأن الإنكار إنما يقع على الفساد في إظهار ذلك رئاء الناس‏.‏
    الثاني‏:‏ لأن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏
    ‏"‏إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم‏"‏‏.‏ وقد قال عمر بن الخطاب‏:‏ من أظهر لنا خيرا أحببناه، وواليناه عليه وإن كانت سريرته بخلاف ذلك‏.‏ ومن أظهر لنا شراً أبغضناه عليه، وإن زعم أن سريرته صالحة‏.‏
    الثالث‏:‏ أن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين إذا رأوا من يظهر أمراً مشروعا مسنوناً، قالوا‏:‏ هذا مراء، فيترك أهل الصدق والإخلاص إظهار الأمور المشروعة، حذرا من لمزهم وذمهم، فيتعطل الخير، ويبقي لأهل الشرك شوكة يظهرون الشر، ولا أحد ينكر عليهم، وهذا من أعظم المفاسد‏.‏
    الرابع‏:‏ أن مثل هذا من شعائر المنافقين، وهو يطعن على من يظهر الأعمال المشروعة، قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ اليمٌ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏‏.‏

    ج/ 23 ص -176-فإن النبي صلي الله عليه وسلم لما حض على الإنفاق عام تبوك جاء بعض الصحابة بِصُرَّة كادت يده تعجز من حملها، فقالوا‏:‏ هذا مراء، وجاء بعضهم بصاع، فقالوا‏:‏ لقد كان الله غنياً عن صاع فلان، فلمزوا هذا وهذا، فأنزل الله ذلك، وصار عبرة فيمن يلمز المؤمنين المطيعين لله ورسوله‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن الرجل إذا تلي عليه القرآن فيه سجدة سجد على غير وضوء، فهل يأثم أو يكفر، أو تطلق عليه زوجته‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يكفر، ولا تطلق عليه زوجته، ولكن يأثم عند أكثر العلماء، ولكن ذكر بعض أصحاب أبي حنيفة أن من صلي بلا وضوء فيما تشترط له الطهارة بالإجماع‏.‏ كالصلوات الخمس، أنه يكفر بذلك، وإذا كفر كان مرتداً‏.‏ والمرتد عند أبي حنيفة تبين منه زوجته، ولكن تكفير هذا ليس منقولاً عن أبي حنيفة نفسه، ولا عن صاحبيه وإنما هو عن أتباعه، وجمهور العلماء على أنه يعزر، ولا يكفر إلا إذا استحل ذلك، واستهزأ بالصلاة‏.‏
    وأما سجدة التلاوة، فمن العلماء من ذهب إلى أنها تجوز بغير

    ج/ 23 ص -177- طهارة، وما تنازع العلماء في جوازه لا يكفر فاعله بالاتفاق، وجمهور العلماء على أن المرتد لا تبين منه زوجته، إلا إذا انقضت عدتها، ولم يرجع إلى الإسلام‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن دعاء الاستخارة، هل يدعو به في الصلاة أم بعد السلام‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة، وغيرها قبل السلام وبعده، والدعاء قبل السلام أفضل؛ فإن النبي صلي الله عليه وسلم أكثر دعائه كان قبل السلام، والمصلي قبل السلام لم ينصرف، فهذا أحسن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -178- وقال شيخ الإِسلاَم أحمد بن تيمية رَحِمه الله‏:‏
    فصل
    في أوقات النهي، والنزاع في ذوات الأسباب، وغيرها‏.‏ فإن للناس في هذا الباب اضطراباً كثيراً‏.‏
    فنقول‏:‏ قد ثبت بالنص والإجماع، أن النهي ليس عامًا لجميع الصلوات؛ فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"
    ‏من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فليصل إليها أخري‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فيتم صلاته‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏سجدة‏"‏‏.‏ وكلها صحيحة، وكذلك قال‏:‏ ‏"‏من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فليتم صلاته‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فليصل إليها أخري‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏سجدة‏"‏ وفي هذا أمره بالركعة الثانية من الفجر عند طلوع الشمس‏.‏
    وفيه أنه إذا صلي ركعة من العصر عند غروب الشمس صحت

    ج/ 23 ص -179- تلك الركعة، وهو مأمور بأن يصل إليها أخري‏.‏ وهذا الثاني مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء‏.‏
    وأما الأول، فهو قول جمهور العلماء، يروي عن على، وغير واحد من الصحابة والتابعين، وعلى هذا مجموع الصحابة، فقد ثبت أن أبا بكر الصديق قرأ في الفجر بسورة البقرة، فلما سلم، قيل له‏:‏ كادت الشمس تطلع، فقال‏:‏ لو طلعت لم تجدنا غافلين‏.‏
    فهذا خطاب الصديق للصحابة يبين أنها لو طلعت لم يضرهم ذلك، ولم تجدهم غافلين، بل وجدتهم ذاكرين الله، ممتثلين لقوله‏:‏
    ‏"وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏، وهذا القول مذهب مالك، والشافعي، وأحمد وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر‏.‏
    وهؤلاء يقولون‏:‏ يقضي ما نام عنه أو نسيه في أوقات النهي، ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون‏:‏ تفسد صلاته؛ لأنها صارت فائتة، والفوات عندهم لا يقضي في أوقات النهي، بخلاف عصر يومه فإنها حاضرة، مفعولة في وقتها‏.‏
    واحتجوا بتأخير الصلاة يوم نام هو وأصحابه عنها حتى طلعت

    ج/ 23 ص -180- الشمس‏.‏ وأجاب الجمهور بوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن التأخير كان لأجل المكان؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال‏:‏
    ‏"‏هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان‏"‏‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه دليل على الجواز لا على الوجوب‏.‏
    الثالث‏:‏ أن هذا غايته أن يكون فيمن ابتدأ قضاء الفائتة‏.‏ أما من صلي ركعة قبل طلوع الشمس، فقد أدرك الوقت‏.‏ كما قال‏:‏ ‏"‏فقد أدرك‏"‏‏.‏ والثانية تفعل تبعاً، كما يفعله المسبوق، إذا أدرك ركعة‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا أولى بالعذر من العصر إلى الغروب؛ لأن الغروب مشهود، يمكنه أن يصلي قبله‏.‏ وأما الطلوع فهو قبل أن تطلع لا يعلم متي تطلع‏.‏ فإذا صلي صلي في الوقت؛ ولهذا لا يأثم من أخر الصلاة حتى يفرغ منها قبل الطلوع، كما ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم في أحاديث المواقيت، أنه سلَّم في اليوم الثاني، والقائل يقول‏:‏ قد طلعت الشمس أو كادت، وقال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏وقت الفجر ما لم تطلع الشمس‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏وقت العصر ما لم تصفر الشمس‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ما لم تضيف للغروب‏"‏‏.‏ فمن صلي قبل طلوع الشمس جميع صلاة الفجر، فلا إثم عليه، ومن صلي العصر وقت الغروب من غير عذر، فهو آثم‏.‏ كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى

    ج/ 23 ص -181- إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً‏"‏‏.‏
    لكن جعله الرسول مدركا للوقت، وهو وقت الضرورة، في مثل النائم إذا استيقظ، والحائض إذا طهرت، والكافر إذا أسلم، والمجنون والمغمي عليه إذا أفاقا، فأما من أمكنه قبل ذلك، فهو آثم بالتأخير إليه، وهو من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولكن فعلها في ذلك الوقت خير من تفويتها، فإن تفويتها من الكبائر‏.‏
    وفي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏من فاتته الصلاة صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله‏"‏‏.‏ وأما المصلي قبل طلوع الشمس فلا إثم عليه، فإذا كان من صلي ركعة بعد غروب الشمس غير متمكن فلا إثم عليه فمن صلي ركعة قبل طلوعها أو قد صلاها قبل أن يطلع شيء منها، فهو غير آثم أيضاً‏.‏
    وقولهم‏:‏ إن ذلك يصلي الثانية في وقت جواز بعد الغروب، بخلاف الأول، فإنه يصلي الثانية وقت نهي‏.‏ يقال‏:‏ الكلام في الأمرين‏.‏ لم جوزتم له أن يصلي العصر وقت النهي مع أن النبي صلي الله عليه وسلم

    ج/ 23 ص -182- إنما جعل وقت العصر ما لم تغرب الشمس، أو تضيف للغروب ولم تجوزوا فعل الفجر وقت النهي‏؟‏
    الثاني‏:‏ أن مُصَلِّي العصر، وإن صلي الثانية في غير وقت نهي، فمصلي الفجر صلي الأولى في غير وقت نهي، ثم إنه ترجح عليه بأنه صلى الأولى في وقتها، بلا ذم ولا نهي، بخلاف مصلي العصر، فإنه إنما صلي الأولى مع الذم والنهي‏.‏
    وبكل حال، فقد دل الحديث، واتفاقهم‏:‏ على أنه لم ينه عن كل صلاة، بل عصر يومه تفعل وقت النهي بالنص، واتفاقهم‏.‏ وكذلك الثانية من الفجر تفعل بالنص، مع قول الجمهور‏.‏ فإن قيل‏:‏ فهو مذموم على صلاة العصر وقت النهي، فكيف يقولون‏:‏ لم ينه قبل الذم‏؟‏ إنما هو لتأخيرها إلى هذا الوقت، ثم إذا عصي بالتأخير أمر أن يصليها في هذا الوقت، ولا يفوتها، فإن التفويت أعظم إثماً؛ ولا يجوز بحال من الأحوال، وكان أن يصليها مع نوع من الإثم خيراً من أن يفوتها، فيلزمه من الإثم ما هو أعظم من ذلك‏.‏
    والشارع دائما يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما، وهذا كمن معه ماء في السفر هو محتاج إليه لطهارته، يؤمر بأن يتطهر به فإن أراقه، عصي وأمر بالتيمم، وكانت صلاته

    ج/ 23 ص -183- بالتيمم خيراً من تفويت الصلاة، لكن في وجوب الإعادة عليه قولان، هما وجهان في مذهب أحمد، وغيره‏.‏
    ومفوت الوقت لا تمكنه الإعادة‏.‏ كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏ وبكل حال فقد دل النص مع اتفاقهم على أن النهي ليس شاملاً لكل صلاة، وقد احتج الجمهور على قضاء الفوائت في وقت النهي بقوله في الحديث الصحيح المتفق عليه‏:‏ ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك‏"‏‏.‏ وفي حديث أبي قتادة المتفق عليه، واللفظ لمسلم‏:‏ ‏"‏ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخري، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد، فليصلها عند وقتها‏"‏، فقد أمره بالصلاة حين ينتبه، وحين يذكر، وهذا يتناول كل وقت‏.‏
    وهذا العموم أولى من عموم النهي؛ لأنه قد ثبت أن ذاك لم يتناول الفرض، لا أداءً ولا قضاءً، لم يتناول عصر يومه، ولم يتناول الركعة الثانية من الفجر؛ ولأنه إذا استيقظ أو ذكر، فهو وقت تلك الصلاة فكان فعلها في وقتها، كفعل عصر يومه في وقتها، مع أن هذا معذور وذاك غير معذور لكن يقال‏:‏ هذا المفوت لو أخرها حتى يزول وقت النهي، لم يحصل له تفويت ثان بخلاف العصر، فإنه لو لم يصلها لفاتت، وكذلك الثانية من الفجر‏.‏

    ج/ 23 ص -184- فيقال‏:‏ هذا يقتضي جواز تأخيرها لمصلحة راجحة كما أخرها النبي صلي الله عليه وسلم، وقال‏:‏ ‏"‏هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان‏"‏ ومثل أن يؤخرها حتى يتطهر غيره، ويصلوها جماعة، كما صلوا خلف النبي صلي الله عليه وسلم صلاة الفجر لما ناموا عنها، بخلاف الفجر والعصر الحاضرة، فإنه لا يجوز تفويتها بحال من الأحوال‏.‏
    وهذا الذي بيناه، يقتضي أنه لا عموم لوقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، فغيرهما من المواقيت أولى وأحرى‏.‏
    فصل
    وروي جبير بن مطعم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال‏:
    ‏ ‏"‏يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلي أية ساعة شاء من ليل أو نهار‏"‏‏.‏ رواه أهل السنن‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ واحتج به الأئمة، الشافعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم، وأخذوا به وجوزوا الطواف والصلاة بعد الفجر والعصر، كما روي عن ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من الصحابة والتابعين‏.‏
    وأما في الأوقات الثلاثة، فعن أحمد فيه روايتان‏.‏ وآخرون من أهل العلم كأبي حنيفة ومالك، وغيرهما، لا يرون ركعتي الطواف في

    ج/ 23 ص -185- وقت النهي، والحجة مع أولئك من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏"‏لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلي أية ساعة شاء من ليل أو نهار‏"‏، عموم مقصود في الوقت، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إنه لم يدخل في ذلك المواقيت الخمسة‏؟‏‏!‏
    الثاني‏:‏ أن هذا العموم لم يخص منه صورة لا بنص ولا إجماع، وحديث النهي مخصوص بالنص والإجماع، والعموم المحفوظ راجح على العموم المخصوص‏.‏
    الثالث‏:‏ أن البيت ما زال الناس يطوفون به، ويصلون عنده من حين بناه إبراهيم الخليل، وكان النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه قبل الهجرة يطوفون به، ويصلون عنده، وكذلك لما فتحت مكة كثر طواف المسلمين به، وصلاتهم عنده‏.‏ ولو كانت ركعتا الطواف منهياً عنها في الأوقات الخمسة، لكان النبي صلي الله عليه وسلم ينهى عن ذلك نهياً عاماً، لحاجة المسلمين إلى ذلك، ولكان ذلك ينقل، ولم ينقل مسلم أن النبي صلي الله عليه وسلم نهى عن ذلك، مع أن الطواف طرفي النهار أكثر وأسهل‏.‏
    الرابع‏:‏ أن في النهي تعطيلا لمصالح ذلك من الطواف والصلاة‏.‏

    ج/ 23 ص -186-الخامس‏:‏ أن النهي إنما كان لسد الذريعة، وما كان لسد الذريعة، فإنه يفعل للمصلحة الراجحة، وذلك أن الصلاة في نفسها من أفضل الأعمال، وأعظم العبادات، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة‏"‏‏.‏ فليس فيها نفسها مفسدة تقتضي النهي، ولكن وقت الطلوع والغروب‏:‏ الشيطان يقارن الشمس، وحينئذ يسجد لها الكفار، فالمُصَلِّي حينئذ يتشبه بهم في جنس الصلاة‏.‏
    فالسجود وإن لم يكونوا يعبدون معبودهم، ولا يقصدون مقصودهم لكن يشبههم في الصورة، فنهى عن الصلاة في هاتين الوقتين سداً للذريعة، حتى ينقطع التشبه بالكفار، ولا يتشبه بهم المسلم في شركهم، كما نهى عن الخلوة بالأجنبية، والسفر معها، والنظر إليها لما يفضي إليه من الفساد، ونهاها أن تسافر إلا مع زوج، أو ذي محرم، وكما نهى عن سب آلهة المشركين؛ لئلا يسبوا الله بغير علم، وكما نهى عن أكل الخبائث لما يفضي إليه من حيث التغذية الذي يقتضي الأعمال المنهي عنها، وأمثال ذلك‏.‏
    ثم إن ما نهى عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة، والسفر بها إذا خيف ضياعها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم، وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن

    ج/ 23 ص -187- المُعَطَّل، فإنه لم ينه عنه، إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضياً للمصلحة الراجحة، لم يكن مفضياً إلى المفسدة‏.‏
    وهذا موجود في التطوع المطلق، فإنه قد يفضي إلى المفسدة، وليس الناس محتاجين إليه في أوقات النهي، لسعة الأوقات التي تباح فيها الصلاة، بل في النهي عنه بعض الأوقات مصالح أخر من إجمام النفوس بعض الأوقات، من ثقل العبادة كما يجم بالنوم وغيره‏.‏ ولهذا قال معاذ‏:‏ إني لأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي‏.‏ ومن تشويقها وتحبيب الصلاة إليها إذا منعت منها وقتاً، فإنه يكون أنشط وأرغب فيها، فإن العبادة إذا خصت ببعض الأوقات، نشطت النفوس لها أعظم مما تنشط للشيء الدائم‏.‏ ومنها‏:‏ أن الشيء الدائم تسأم منه، وتمل وتضجر، فإذا نهى عنه بعض الأوقات، زال ذلك الملل، إلى أنواع أخر من المصالح في النهي عن التطوع المطلق، ففي النهي دفع لمفاسد،وجلب لمصالح من غير تفويت مصلحة‏.‏
    وأما ما كان له سبب، فمنها ما إذا نهى عنه فاتت المصلحة، وتعطل على الناس من العبادة والطاعة، وتحصيل الأجر والثواب، والمصلحة العظيمة في دينهم، ما لا يمكن استدراكه، كالمعادة مع إمام الحي، وكتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، ونحو ذلك‏.‏

    ج/ 23 ص -188- ومنها ما تنقص به المصلحة، كركعتي الطواف، لاسيما للقادمين، وهم يريدون أن يغتنموا الطواف في تلك الأيام، والطواف لهم، ولأهل البلد طرفي النهار‏.‏
    الوجه السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ ذوات الأسباب إنما دعا إليها داع، لم تفعل لأجل الوقت، بخلاف التطوع المطلق الذي لا سبب له‏.‏ وحينئذ، فمفسدة النهي إنما تنشأ مما لا سبب له دون ما له السبب، ولهذا قال في حديث ابن عمر‏:‏ ‏"‏لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها‏"‏‏.‏
    وهذه الوجوه التي ذكرناها تدل أيضاً على قضاء الفوائت في أوقات النهي‏.‏
    فصل
    والمعادة‏:‏ إذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد تعاد في وقت النهي عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد، وأبي ثور وغيرهم‏.‏
    وأبو حنيفة، وغيره جعلوها مما نهى عنه، واحتج الأكثرون بثلاثة أحاديث‏:‏

    ج/ 23 ص -189-أحدها‏:‏ حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال‏:‏ شهدت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الفجر في مسجد الخيف، وأنا غلام شاب، فلما قضي صلاته‏.‏ إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال‏:‏ ‏"‏على بهما‏"‏، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال‏:‏ ‏"‏ما منعكما أن تصليا معنا‏؟‏‏"‏ قالا‏:‏ يا رسول الله، قد صلينا في رحالنا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏"‏‏.‏ رواه أهل السنن‏.‏ كأبي داود، والترمذي، وغيرهما، وأحمد والأثرم‏.‏
    والثاني‏:‏ ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن بشر بن محجن عن أبيه‏:‏ أنه كان جالساً مع النبي صلي الله عليه وسلم فأذن للصلاة فقام رسول الله صلي الله عليه وسلم فصلى، ثم رجع وَمحْجَنُ في مجلسه، فقال النبي صلي الله عليه وسلم‏:‏
    ‏"‏ما منعك أن تصلي مع الناس‏؟‏ ألست برجل مسلم‏؟‏‏!‏‏"‏ قال‏:‏ بلي يا رسول الله‏!‏ ولكن قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت‏"‏ وهذا يدل بعمومه، والأول صريح في الإعادة بعد الفجر‏.‏
    الثالث‏:‏ ما روي مسلم في الصحيح عن أبي ذر قال‏:‏ قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏
    ‏"‏كيف أنت إذا كانت عليك أمراء

    ج/ 23 ص -190- يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها‏؟‏‏"‏، قال‏:‏ قلت‏:‏ فما تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة‏"‏، وفي رواية له‏:‏ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم وضرب فخذي ‏:‏ ‏"‏كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ فما تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏صل الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل‏"‏، وفي رواية‏:‏ لمسلم أيضاً ‏:‏ ‏"‏صل الصلاة لوقتها فإن أدركت الصلاة فصل، ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي‏"‏‏.‏
    وهذه النصوص تتناول صلاة الظهر والعصر قطعا، فإنهما هما اللتان كان الأمراء يؤخرونهما، بخلاف الفجر، فإنهم لم يكونوا يصلونها بعد طلوع الشمس، وكذلك المغرب لم يكونوا يؤخرونها، ولكن كانوا يؤخرون العصر أحيانا إلى شروع الغروب‏.‏
    وحينئذ، فقد أمره أن يصلي الصلاة لوقتها، ثم يصليها معهم بعد أن صلاها، ويجعلها نافلة، وهو في وقت نهي؛ لأنه قد صلي العصر، ولأنهم قد يؤخرون العصر إلى الاصفرار، فهذا صريح بالإعادة في وقت النهي‏.‏

    ج/ 23 ص -191-فصل
    والصلاة على الجنازة بعد الفجر، وبعد العصر، قال ابن المنذر‏:‏ إجماع المسلمين في الصلاة على الجنازة بعد الفجر، وبعد العصر، وتلك الأنواع الثلاثة لم يختلف فيها قول أحمد أنها تفعل في أوقات النهي؛ لأن فيها أحاديث خاصة تدل على جوازها في وقت النهي، فلهذا استثناها، واستثني الجنازة في الوقتين، لإجماع المسلمين‏.‏
    وأما سائر ذوات الأسباب‏:‏ مثل تحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، ومثل ركعتي الطواف في الأوقات الثلاثة،ومثل الصلاة على الجنازة في الأوقات الثلاثة، فاختلف كلامه فيها‏.‏ والمشهور عنه النهي، وهو اختيار كثير من أصحابه‏:‏ كالخِرَقي، والقاضي، وغيرهما‏.‏ وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة‏.‏ لكنْ أبو حنيفة يجوز السجود بعد الفجر والعصر، لا واجب عنده‏.‏
    والرواية الثانية‏:‏ جواز جميع ذوات الأسباب، وهي اختيار أبي الخطاب، وهذا مذهب الشافعي، وهو الراجح في هذا الباب لوجوه‏:‏

    ج/ 23 ص -192- منها‏:‏ أن تحية المسجد قد ثبت الأمر بها في الصحيحين، عن أبي قتادة، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين‏.‏ قبل أن يجلس‏"‏، وعنه قال‏:‏ دخلت المسجد ورسول الله صلي الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس‏.‏ قال‏:‏ فجلست، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس‏؟‏‏"‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، رأيتك جالسا والناس جلوس، قال‏:‏ ‏"‏فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين‏"‏، فهذا فيه الأمر بركعتين قبل أن يجلس، والنهي عن أن يجلس حتى يركعهما، وهو عام في كل وقت عموما محفوظاً لم يخص منه صورة بنص، ولا إجماع‏.‏ وحديث النهي قد عرف أنه ليس بعام، والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص فإن هذا قد علم أنه ليس بعام، بخلاف ذلك، فإن المقتضي لعمومه قائم لم يعلم أنه خرج منه شيء‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ ما أخرجا في الصحيحين عن جابر قال‏:‏ جاء رجل والنبي صلي الله عليه وسلم يخطب الناس فقال‏:‏
    ‏"‏صليت يا فلان‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏"‏قم فاركع‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏فصل ركعتين‏"‏‏.‏ ولمسلم قال‏:‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما‏"‏‏.‏ وأحمد أخذ بهذا الحديث بلا خلاف عنه، هو وسائر فقهاء الحديث، كالشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وابن

    ج/ 23 ص -193- المنذر، كما روي عن غير واحد من السلف، مثل الحسن، ومكحول وغيرهما‏.‏
    وكثير من العلماء لم يعرفوا هذا الحديث فنهوا عن الصلاة وقت الخطبة؛ لأنه وقت نهي، كما نقل عن شريح والنخعي وابن سيرين، وهو قول أبي حنيفة، والليث، ومالك، والثوري‏.‏
    وهو قياس قول من منع تحية المسجد وقت النهي، فإن الصلاة والخطيب على المنبر أشد نهياً؛ بل هو منهي عن كل ما يشغله عن الاستماع، وإذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا، فإذا كان قد أمر بتحية المسجد في وقت الخطبة، فهو في سائر الأوقات أولى بالأمر‏.‏
    وقد احتج بعض أصحابنا‏:‏ أنه إذا دخل المسجد في غير وقت النهي عن الصلاة، يسن له الركوع، لقوله‏:‏ ‏"‏إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب، فلا يجلس، حتى يصلي ركعتين‏"‏‏.‏ وقالوا‏:‏ تنقطع الصلاة بجلوس الإمام على المنبر، فلا يصلي أحد غير الداخل يصلي تحية المسجد ويوجز، وهذا تناقض بين، بل إذا كان النبي صلي الله عليه وسلم أمر بالتحية في هذا الموضع، وهو وقت نهى عن الصلاة وغيرها، مما يشغل عن الاستماع، فأوقات النهي الباقية أولى بالجواز‏.‏
    يبين ذلك أنه في هذه الحال لا يصلي على جنازة، ولا يطاف

    ج/ 23 ص -194- بالبيت، ولا يصلي ركعتا الطواف، والإمام يخطب‏.‏ فدل على أن النهي هنا أوكد، وأضيق منه بعد الفجر والعصر، فإذا أمر هنا بتحية المسجد، فالأمر بها هناك أولى وأحرى‏.‏ وهذا بين واضح، ولا حول ولاقوة إلا باللَّه‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ قد ثبت استثناء بعض الصلوات من النهي‏:‏ كالعصر الحاضرة، وركعتي الفجر، والفائتة، وركعتي الطواف‏.‏ والمعادة في المسجد‏.‏ فقد ثبت انقسام الصلاة أوقات النهي إلى منهي عنه ومشروع غير منهي عنه، فلابد من فرق بينهما، إذا كان الشارع لا يفرق بين المتماثلين، فيجعل هذا مأموراً، وهذا محظوراً‏.‏ والفرق بينهما، إما أن يكون المأذون فيه له سبب، فالمصلي صلاة السبب صلاها لأجل السبب، لم يتطوع تطوعا مطلقاً، ولو لم يصلها لفاته مصلحة الصلاة، كما يفوته إذا دخل المسجد ما في صلاة التحية من الأجر، وكذلك يفوته ما في صلاة الكسوف، وكذلك يفوته ما في سجود التلاوة، وسائر ذوات الأسباب‏.‏
    وإما أن يكون الفرق شيئاً آخر، فإن كان الأول، حصل المقصود من الفرق بين ذوات الأسباب، وغيرها‏.‏ وإن كان الثاني، قيل لهم‏:‏ فأنتم لا تعلمون الفرق، بل قد علمتم أنه نهى عن بعض، ورخص في بعض، ولا تعلمون الفرق، فلا يجوز لكم أن تتكلموا في سائر موارد

    ج/ 23 ص -195- النزاع، لا بنهي ولا بإذن؛ لأنه يجوز أن يكون الفرق الذي فرق به الشارع في صورة النص، فأباح بعضاً وحرم بعضاً، متناولا لموارد النزاع، إما نهياً عنه، وإما إذناً فيه، وأنتم لا تعلمون واحداً من النوعين، فلا يجوز لكم أن تنهوا إلا عما علمتم أنه نهي عنه؛ لانتفاء الوصف المبيح عنه، ولا تأذنوا إلا فيما علمتم أنه أذن فيه؛ لشمول الوصف المبيح له‏.‏ وأما التحليل والتحليل بغير أصل مفرق عن صاحب الشرع، فلا يجوز‏.‏
    فإن قيل‏:‏ أحاديث النهي عامة، فنحن نحملها على عمومها إلا ما خصه الدليل، فما علمنا أنه مخصوص لمجيء نص خاص فيه خصصناها به، وإلا أبقيناها على العموم‏.‏
    قيل‏:‏ هذا إنما يستقيم أن لو كان هذا العام المخصوص لم يعارضه عمومات محفوظة أقوي منه، وأنه لما خص منه صور، علم اختصاصها بما يوجب الفرق، فلو ثبت أنه عام خص منه صور لمعني منتف من غيرها، بقي ما سوي ذلك على العموم، فكيف وعمومه منتف‏؟‏، وقد عارضه أحاديث خاصة وعامة وعموماً محفوظاً، وما خص منه لم يختص بوصف يوجب استثناءه دون غيره، بل غيره مشارك له في الوصف الموجب لتخصيصه، أو أولى منه بالتخصيص‏.‏

    ج/ 23 ص -196- وحاجة المسلمين العامة إلى تحية المسجد أعظم منها إلى ركعتي الطواف، فإنه يمكن تأخير الطواف، بخلاف تحية المسجد، فإنها لا تمكن؛ ثم الرجل إذا دخل وقت نهى إن جلس ولم يصل، كان مخالفاً لأمر النبي صلي الله عليه وسلم، مفوتاً هذه المصلحة، إن لم يكن آثماً بالمعصية، وإن بقي قائماً أو امتنع من دخول المسجد، فهذا شيء عظيم‏.‏ ومن الناس من يصلي سنة الفجر في بيته، ثم يأتي إلى المسجد، فالذين يكرهون التحية‏:‏ منهم من يقف على
    باب المسجد حتى يقيم، فيدخل يصلي معهم، ويحرم نفسه دخول بيت الله في ذلك الوقت الشريف، وذكر الله فيه‏.‏ ومنهم من يدخل ويجلس ولا يصلي فيخالف الأمر، وهذا ونحوه مما يبين قطعاً أن المسلمين مأمورون بالتحية في كل وقت، وما زال المسلمون يدخلون المسجد طرفي النهار، ولو كانوا منهيين عن تحية المسجد حينئذ لكان هذا مما يظهر نهى الرسول عنه، فكيف وهو قد أمرهم إذا دخل أحدهم المسجد والخطيب على المنبر فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، أليس في أمرهم بها في هذا الوقت تنبيها على غيره من الأوقات‏؟‏
    الوجه الرابع‏:‏ ما قدمناه من أن النهي كان لسد ذريعة الشرك، وذوات الأسباب فيها مصلحة راجحة، والفاعل يفعلها لأجل السبب، لا يفعلها مطلقاً فتمتنع فيه المشابهة‏.‏

    ج/ 23 ص -197-الوجه الخامس‏:‏ أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم‏:‏ أنه قضي ركعتي الظهر بعد العصر، وهو قضاء النافلة، في وقت النهي، مع إمكان قضائها في غير ذلك الوقت، فالنوافل التي إذا لم تفعل في أوقات النهي، تفوت هي أولى بالجواز من قضاء نافلة في هذا الوقت مع إمكان فعلها في غيره، لاسيما إذا كانت مما أمر به‏:‏ كتحية المسجد، وصلاة الكسوف‏.‏ وقد اختار طائفة من أصحاب أحمد منهم أبو محمد المقدسي أن السنن الراتبة تقضي بعد العصر، ولاتقضي في سائر أوقات النهي‏.‏ كالأوقات الثلاثة‏.‏
    وذكر أن مذهب أحمد‏:‏ أن قضاء سنة الفجر جائز بعدها، إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحي‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ إن صلاهما بعد الفجر أجزأه، وأما أنا فأختار ذلك‏.‏ وذكر في قضاء الوتر بعد طلوع الفجر أن المنصوص عن أحمد أنه يفعله‏.‏ قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد الله يُسْأَل‏:‏ أيوتر الرجل بعد ما يطلع الفجر‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وحذيفة، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وفضالة بن عبيد، وعائشة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة‏.‏ وهو أيضاً مروي عن على بن أبي طالب‏.‏ وأنه لما ذكر له عن أبي موسي أنه قال‏:‏ من أوتر بعد المؤذن لا وتر له، وسألوا علياً‏.‏ قال‏:‏ أعرف‏.‏ يوتر ما بينه وبين الصلاة، وأنكر

    ج/ 23 ص -198- ذلك ولم يذكر نزاعاً إلا عن أبي موسي، مع أنه لا ينبغي بعد الفجر‏.‏
    قال‏:‏ وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر، وإنما فيه حديث أُبَي، وقد احتج أحمد بحديث أبي نضرة الغفاري عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح‏:‏ الوتر‏"‏‏.‏ وهذا مذهب مالك والشافعي والجمهور‏.‏ قال مالك‏:‏ من فاتته صلاة الليل، فله أن يصلي بعد الفجر قبل أن يصلي الصبح، قال‏:‏ وحكاه ابن أبي موسي الخرقي في ‏[‏الإرشاد‏]‏ مذهباً لأحمد، قياساً على الوتر‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الذي اختاره لا يناقض ما ذكره الخرقي وغيره من قدماء الأصحاب، فإنه ذكر إباحة الأنواع الأربعة في جميع أوقات النهي‏:‏ قضاء الفوائت، وركعتي الطواف، وإذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد، وصلاة الجنازة، ولكن ذكر النهي عن الكسوف، وسجود التلاوة، في
    بابهما‏.‏ فلم ينه عن قضاء السنن في أوقات النهي‏.‏
    فاختار الشيخ أبو محمد وطائفة من أصحاب أحمد‏:‏ أن السنن الراتبة تقضي بعد العصر، ولا تقضي في سائر أوقات النهي، ولا يفعل غيرها من ذوات الأسباب، كالتحية، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة،

    ج/ 23 ص -199- وصلاة التوبة، وسنة الوضوء، وسجود التلاوة، لا في هذا الوقت، ولا في غيره؛ لأنهم وجدوا القضاء فيها قد ثبت بالأحاديث الصحيحة، قالوا‏:‏ والنهي في هذا الوقت أخف من غيره، لاختلاف الصحابة فيه فلا يلحق به سائر الأوقات‏.‏ والرواتب لها مزية، وهذا الفرق ضعيف، فإن أمر النبي صلي الله عليه وسلم بتحية المسجد، وأمره بصلاة الكسوف وسجود التلاوة، أقوي من قضاء سنة فائتة، فإذا جاز هذا، فذاك أجوز، فإن قضاء السنن ليس فيه أمر من النبي صلي الله عليه وسلم بل ولا أمر بنفس السنة‏:‏ سنة الظهر، لكنه فعلها وداوم عليها، وقضاها لما فاتته‏.‏ وما أمر به أمته، لاسيما وكان هو أيضاً يفعله، فهو أوكد مما فعله، ولم يأمرهم به‏.‏
    فإذا جاز لهم فعل هذا في أوقات النهي ففعل ذاك أولى، وإذا جاز قضاء سنة الظهر بعد العصر، فقضاء سنة الفجر بعد الفجر أولى، فإن ذاك وقتها، وإذا أمكن تأخيرها إلى طلوع الشمس أمكن تأخير تلك إلى غروب الشمس، وقد كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها وهو صلي الله عليه وسلم يراهم ويقرهم على ذلك وقال‏
    :‏ ‏"‏بين كل أذانين صلاة‏"‏، ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏"‏لمن شاء‏"‏، كراهية أن يتخذها الناس سنة‏.‏

    ج/ 23 ص -200-فصل
    والنهي في العصر معلق بصلاة العصر‏:‏ فإذا صلاها لم يصل بعدها وإن كان غيره لم يصل، وما لم يصلها فله أن يصلي، وهذا ثابت بالنص والاتفاق، فإن النهي معلق بالفعل‏.‏وأما الفجر‏:‏ ففيها نزاع مشهور، وفيه عن أحمد روايتان‏:‏
    قيل‏:‏ إنه معلق بطلوع الفجر، فلا يطوع بعده بغير الركعتين، وهو قول طائفة من السلف، ومذهب أبي حنيفة‏.‏ قال النخعي‏:‏ كانوا يكرهون التطوع بعد الفجر‏.‏
    وقيل‏:‏ إنه معلق بالفعل، كالعصر‏.‏ وهو قول الحسن والشافعي‏.‏ فإنه لم يثبت النهي إلا بعد الصلاة، كما في العصر‏.‏ وأحاديث النهي تسوي بين الصلاتين، كما في الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر ‏:‏ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب‏.‏

    ج/ 23 ص -201- وكذلك فيهما عن أبي هريرة ولفظه‏:‏ وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب‏.‏ وفيهما عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس‏"‏، ولمسلم‏:‏ ‏"‏لا صلاة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر‏"‏، وفي صحيح مسلم حديث عمرو بن عَبَسَة قال‏:‏ قلت يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان‏.‏ وحينئذ، يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة محضورة مشهودة، حتى يستقل الظل بالرمح‏.‏ ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تُسْجَر جهنم‏.‏ فإذا أقبل الفيء، فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان‏.‏ وحينئذ، يسجد لها الكفار‏"‏‏.‏
    والأحاديث المختصة بوقت الطلوع والغروب، وبالاستواء‏:‏ حديث ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏
    ‏"‏إذا بدا حاجب الشمس، فأخروا الصلاة حتى تبرز‏.‏ وإذا غاب حاجب الشمس، فأخروا الصلاة حتى تغيب‏"‏ هذا اللفظ لمسلم، وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، قال‏:‏ ثلاث ساعات كان رسول الله صلي الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا‏:‏ حين تطلع

    ج/ 23 ص -202- الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب‏.‏ ووقت الزوال ليس في عامة الأحاديث، ولم يذكر حديثه البخاري، لكن رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر، ومن حديث عمرو بن عَبَسَة، وتابعهما الصنابحي، وعلى هذه الثلاثة اعتمد أحمد‏.‏ ولما ذكر له الرخصة في الصلاة نصف النهار يوم الجمعة، قال‏:‏ في حديث النبي صلي الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه‏:‏ حديث عقبة بن عامر، وحديث عمرو بن عَبَسَة، وحديث الصُّنَابِحي‏.‏
    والخِرقي لم يذكره في أوقات النهي، بل قال‏:‏ ويقضي الفوائت من الصلوات الفرض، ويركع للطواف، وإن كان في المسجد وأقيمت الصلاة‏.‏ وقد كان صلي في كل وقت نهي عن الصلاة فيه، وهو بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب‏.‏
    وهذا يقتضي أنه ليس وقت نهي إلا هذان، ويقتضي أن ما أباحه يفعل في أوقات النهي كإحدي الروايتين، ويقتضي أن النهي معلق بالفعل، فإنه قال‏:‏ بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولم يقل‏:‏ الفجر‏.‏ ولو كان النهي من حين طلوع الفجر لاستثني الركعتين، بل استثني الفرض والنفل‏.‏ وهذه ألفاظ الرسول، فإنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، كما نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس‏.‏

    ج/ 23 ص -203- ومعلوم أنه لو أراد الوقت لاستثني ركعتي الفجر والفرض، كما ورد استثناء ذلك في ما نهي عنه، حيث قال‏:‏ ‏"‏لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين‏"‏، فلما لم يذكر ذلك في الأحاديث، علم أنه أراد فعل الصلاة كما جاء مفسراً في أحاديث صحيحة، ولأنه يمتنع أن تكون أوقات الصلاة المكتوبة فرضها وسنتها وقت نهي، وما بعد الفجر وقت صلاة الفجر سنتها وفرضها، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إن هذا وقت نهي‏؟‏ وهل يكون وقت نهي سن فيه الصلاة دائماً بلا سبب‏؟‏ وأمر بتحري الصلاة فيه‏؟‏ هذا تناقض مع أن هذا الوقت جعل وقتاً للصلاة إلى طلوع الشمس، ليس كوقت العصر الذي جعل آخر الوقت فيه إذا اصفرت الشمس‏.‏
    والنهي هو لأن الكفار يسجدون لها، وهذا لا يكون من طلوع الفجر، ولهذا كان الأصل في النهي عند الطلوع والغروب، كما في حديث ابن عمر، لكن نهي عن الصلاة بعد الصلاتين سداً للذريعة فإن المتطوع قد يصلي بعدهما حتى يصلي وقت الطلوع والغروب‏.‏ والنهي في هذين أخف؛ ولهذا كان يداوم على الركعتين بعد العصر، حتى قبضه اللّه‏.‏ فأما قبل صلاة الفجر، فلا وجه للنهي، لكن لا يسن ذلك الوقت إلا الفجر سنتها وفرضها‏.‏
    ولهذا كان النبي ﷺ يصلي بالليل، ويوتر، ثم إذا طلع الفجر صلى الركعتين، ثم صلى الفرض، وكان يضطجع أحيانًا

    ج/ 23 ص -204- ليستريح، إما بعد الوتر، وإما بعد ركعتي الفجر، وكان إذا غلبه من الليل نوم أو وجع صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة بدل قيامه من الليل، ولم يكن يقضي ذلك قبل صلاة الفجر؛ لأنه لم يكن يتسع لذلك، فإن هذه الصلاة فيها طول، وكان يغلس بالفجر‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر،كتب له كأنما قرأه من الليل‏"‏‏.‏ومعلوم أنه لو أمكن قراءة شيء منه قبل صلاة الفجر،كان أبلغ، لكن إذا قرأه قبل الزوال، كتب له كأنما قرأه من الليل، فإن هذا الوقت تابع لليلة الماضية، ولهذا يقال فيما قبل الزوال‏:‏ فعلناه الليلة‏.‏ ويقال بعد الزوال‏:‏ فعلناه البارحة، وهو وقت الضحي، وهو خلف عن قيام الليل‏.‏
    ولهذا كان النبي ﷺ إذا نام عن قيامه قضاه من الضحي، فيصلي اثنتي عشرة ركعة‏.‏ وقد جاء هذا عن عمر وغيره من الصحابة في قوله‏:‏ ‏"
    وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏"‏ ‏[‏الفرقان‏:‏62‏]‏‏.‏ فما بعد طلوع الفجر إنما سن للمسلمين السنة الراتبة، وفرضها الفجر، وما سوي ذلك لم يسن، ولم يكن منهيًا عنه إذا لم يتخذ سنة، كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة‏"‏، ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏"‏لمن شاء‏"‏، كراهية أن يتخذها الناس سنة‏.‏

    ج/ 23 ص -205- فهذا فيه إباحة الصلاة بين كل أذانين، كما كان الصحابة يصلون ركعتين بين أذاني المغرب، والنبي ﷺ يراهم ويقرهم على ذلك، فكذلك الصلاة بين أذاني العصر والعشاء، وكذلك بين أذاني الفجر والظهر، لكن بين أذاني الفجر الركعتان سنة بلا ريب، وما سواها يفعل ولا يتخذ سنة، فلا يدوام عليه، ويؤمر به جميع المسلمين، كما هو حال السنة، فإن السنة تعم المسلمين ويداوم عليها، كما أنهم كلهم مسنون لهم ركعتا الفجر، والمداومة عليها‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ لا سنة بعد طلوع الفجر إلا ركعتان، فهذا صحيح، وأما النهي العام فلا‏.‏ والإنسان قد لا يقوم من الليل فيريد أن يصلي في هذا الوقت، وقد استحب السلف له قضاء وتره، بل وقيامه من الليل في هذا الوقت، وذلك عندهم خير من أن يؤخره إلى الضحي‏.
    فصل
    وللناس في الصلاة نصف النهار يوم الجمعة وغيرها أقوال‏:‏
    قيل بالنهي مطلقاً وهو المشهور عن أحمد‏.‏ وقيل‏:‏ الإذن مطلقاً، كما اقتضاه كلام الخِرْقِي، ويروي عن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ بالفرق بين الجمعة وغيرها، وهو مذهب الشافعي، وأباحه فيها عطاء في الشتاء، دون الصيف؛ لأن النبي ﷺ قال في حديث عمرو بن عَبَسَة‏:‏
    ‏"‏ثم بعد طلوعها صل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل

    ج/ 23 ص -206- الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تُسْجَر جهنم‏.‏ فإذا أقبل الفيء فصل‏"‏‏.‏
    فعلل النهي حينئذ بأنه حينئذ تسجر جهنم‏.‏ وفي الطلوع والغروب بمقارنة الشيطان، فقال‏:‏ ‏"‏ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع، فإنها تطلع بين قرني شيطان‏"‏‏.‏ وفي الغروب قال‏:‏ ‏"‏ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب فإنها تغرب بين قرني شيطان‏"‏‏.‏ وأما مقارنة الشيطان لها حين الاستواء، فليس في شيء من الحديث إلا في حديث الصُّنَابِحي‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إنها تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت، قارنها، ثم إذا استوت، قارنها، فإذا زالت، قارنها، وإذا دنت للغروب، قارنها، فإذا غربت، قارنها‏"‏، فنهي رسول اللّه ﷺ عن الصلاة في تلك الساعات‏.‏ لكن الصُّنَابحي قد قيل‏:‏ إنه لم تثبت له صحبة، فلم يسمع هذا من النبي ﷺ، بخلاف حديث عمرو بن عَبَسَة فإنه صحيح سمعه منه‏.‏
    ويؤيد هذا أن عامة الأحاديث ليس فيها إلا النهي وقت الطلوع ووقت الغروب، أو بعد الصلاتين‏.‏ فدل على أن النهي نصف النهار نوع آخر له علة غير علة ذينك الوقتين‏.‏
    يوضح هذا‏:‏ أن الكفار يسجدون لها وقت الطلوع، ووقت

    ج/ 23 ص -207- الغروب، كما أخبر به النبي ﷺ‏.‏ فأما سجودهم لها قبل الزوال، فهذا لم يذكره النبي ﷺ عنهم، ولم يعلل به‏.‏
    وأيضاً، فإن ضبط هذا الوقت متعسر، فقد ثبت في الصحيح أنه قال ﷺ‏:‏
    ‏"‏إذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم‏"‏‏.‏ وهذا حديث اتفق العلماء على صحته، وتلقيه بالقبول، فأخبر أن شدة الحر من فيح جهنم، وهذا موافق لقوله‏:‏ ‏"‏فإنه حينئذ تسجر جهنم‏"‏، وأمر بالإبراد، فدل على أن الصلاة منهي عنها عند شدة الحر؛ لأنه من فيح جهنم‏.‏
    ففي الصيف تُسْجَر نصف النهار، فيكون النهي عن الصلاة نصف النهار في الحر، وهو يؤمر بأن يؤخر الصلاة عن الزوال حتى يبرد، لكن إذا زالت الشمس فاءت الأفياء فطالت الأظلة، بعد تناهي قصرها، وهذا مشروع في الإبراد، فلهذا كانت الصلاة جائزة من حين الزوال، كما في حديث عمرو بن عَبَسَة‏:‏ ‏"‏ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء
    فصل‏"‏، فدل على أن الصلاة مشروعة من حين يقبل الفيء، فيفيء الظل‏:‏ أي يرجع من جهة المغرب إلى جهة المشرق، ويرجع في الزيادة بعد النقصان‏.‏
    ولهذا قالوا‏:‏ إن لفظ الفيء مختص بما بعد الزوال، لما فيه من

    ج/ 23 ص -208- معني الرجوع‏.‏ ولفظ الظل يتناول هذا وهذا، فإنه قبل طلوع الشمس يكون الظل ممتداً، كما قال تعالى‏:‏ ‏"أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏45‏]‏‏.‏ ثم إذا طلعت الشمس كانت عليه دليلا، فتميز الظل عن الضحي، ونسخت الشمس الظل، لا تزال تنسخه وهو يقصر إلى الزوال، فإذا زالت، فإنه يعاد ممتداً إلى المشرق، حيث ابتدأ بعد أن كان أول ما نسخته عن المشرق، ثم عن المغرب، ثم تفيء إلى المشرق ثم المغرب، ولم يزل يمتد ويطول إلى أن تغرب، فينسخ الظل جميع الشمس‏.‏ فلهذا قال في حديث عمرو بن عبسة‏:‏ ‏"‏ثم اقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل‏"‏‏.‏
    وعلى هذا، فمن رخص في الصلاة يوم الجمعة قال‏:‏ إنها لا تُسْجَر يوم الجمعة، كما قد روي‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه لا يستحب الإبراد يوم الجمعة، بل يجوز عقب الزوال بالسنة الصحيحة، واتفاق الناس، وفي الإبراد مشقة للخلق‏.‏ ويجوز عند أحمد وغيره أن يصلي وقت الزوال كما فعله غير واحد من الصحابة، فكيف يكون وقت نهي والجمعة جائزة فيه، والفرائض المؤداة لا تشرع في وقت النهي لغير عذر، كما قلنا في الفجر، فإن هذا تناقض‏.‏
    وبالجملة جواز الصلاة وقت الزوال يوم الجمعة على أصل أحمد أظهر منه على أصل غيره، فإنه يجوز الجمعة وقت الزوال، ولا يجعل

    ج/ 23 ص -209- ذلك وقت نهي، بل قد قيل في مذهبه، إنها لا تجوز إلا في ذلك الوقت، وهو الوقت الذي هو وقت نهي في غيرها‏.‏ فعلم الفرق بين الجمعة وغيرها، وكما أن الإبراد المأمور به في غيرها لا يؤمر به فيها، بل ينهي عنه، وهو معلل بأن شدة الحر من فيح جهنم، فكذلك قد علل بأنه حينئذ تسجر جهنم‏.‏ وهذا من جنس قوله‏:‏ ‏"‏فإن شدة الحر من فيح جهنم‏"‏‏.‏
    وإذا كانت مختصة بما سوي يوم الجمعة، فكذلك الأخري، وعلى مقتضي هذه العلة لا ينهي عن الصلاة وقت الزوال، لا في الشتاء، ولا يوم الجمعة‏.‏ ويؤيد ذلك ما في السنن عن النبي ﷺ‏:‏ أنه نهي عن الصلاة نصف النهار، إلا يوم الجمعة، وهو أرجح مما احتجوا به على أن النهي في الفجر معلق بالوقت‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَقَالَ شيخ الإِسلام‏:‏
    الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليماً‏.‏

    ج/ 23 ص -210-فصل
    في أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي‏.‏ فقد كتبنا فيما تقدم في الأسكندرية وغيرها كلاماً مبسوطاً في أن هذا أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه، اختارها أبو الخطاب‏.‏
    وكنا قبل متوقفين لبعض الأدلة التي احتج بها المانعون، فلما بحثنا عن حقيقتها، وجدناها أحاديث ضعيفة، أو غير دالة، وذكرنا أن الدلائل على ذلك متعددة‏:‏
    منها‏:‏ أن أحاديث الأمر بذوات الأسباب كقوله‏:‏ ‏"‏إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏"‏، عام محفوظ لا خصوص فيه‏.‏ وأحاديث النهي ليس فيها حديث واحد عام، بل كلها مخصوصة، فوجب تقديم العام الذي لا خصوص فيه، فإنه حجة باتفاق السلف والجمهور القائلين بالعموم، بخلاف الثاني، وهو أقوي منه بلا ريب‏.‏
    ومنها‏:‏ أنه قد ثبت أن النبي ﷺ أمر بصلاة

    ج/ 23 ص -211- تحية المسجد للداخل عند الخطبة هنا بلا خلاف عنه لثبوت النص به، والنهي عن الصلاة في هذا الوقت أشد بلا ريب، فإذا فعلت هناك، فهنا أولي‏.‏
    ومنها‏:‏ أن حديث ابن عمر في الصحيحين لفظه‏:‏ ‏"‏لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها‏"‏‏.‏ والتحري هو التعمد والقصد، وهذا إنما يكون في التطوع المطلق‏.‏ فأما ما له سبب فلم يتحره، بل فعله لأجل السبب، والسبب ألجأه إليه‏.‏ وهذا اللفظ المقيد المفسر يفسر سائر الألفاظ، ويبين أن النَّهي إنما كان عن التحري، ولو كان عن النوعين لم يكن للتخصيص فائدة، ولكان الحكم قد علق بلفظ عديم التأثير‏.‏
    ومنها‏:‏ أنه قد ثبت جواز بعض ذوات الأسباب بعضها بالنص، كالركعة الثانية من الفجر، وكركعتي الطواف، وكالمعادة مع إمام الحي، وبعضها بالنص والإجماع كالعصر عند الغروب، وكالجنازة بعد العصر، وإذا نظر في المقتضي للجواز لم توجد له علة صحيحة، إلا كونها ذات سبب، فيجب تعليق الحكم بذلك، وإلا فما الفرق بين المعادة وبين تحية المسجد، والأمر بهذه أصح، وكذلك الكسوف قد أمر بها في أحاديث كثيرة صحيحة‏.‏

    ج/ 23 ص -212- والمقصود هنا أن نقول‏:‏ الصلاة في وقت النهي لا تخلو أن تكون مفسدة محضة، لا تشرع بحال، كالسجود للشمس نفسها، أو يكون مما يشرع في حال دون حال، والأول باطل؛ لأنه قد ثبت بالنص والإجماع، أن العصر تصلي وقت الغروب قبل سقوط القرص كله‏.‏ وثبت في الصحيحين قوله‏:‏ ‏"‏من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك‏.‏ ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك‏"‏‏.‏ والأول‏:‏ قد اتفق عليه، والثاني‏:‏ قول الجمهور‏.‏
    وأبو حنيفة يفرق بين الفجر والعصر، ويقول‏:‏ إذا طلعت الشمس بطلت الصلاة؛ لأنها تبقي منهياً عنها فائتة‏.‏ والعصر إذا غربت الشمس دخل في وقت الجواز، لا في وقت النهي‏.‏ وقد ضعف أحمد والجمهور هذا الفرق، وقالوا‏:‏ الكلام في العصر وقت الغروب، فإنه وقت نهي، كما أن ما بعد الطلوع وقت نهي، وليس له أن يؤخر العصر إلى هذا الوقت، لكن يكون له عذر كالحائض تطهر، والنائم يستيقظ‏.‏ ولو قدر أنه أخرها من غير عذر، فهو مأمور بفعلها في وقت النهي، مع إمكان أن يصليها بعد الغروب‏.‏ فإذا قيل‏:‏ صلاتها في الوقت فرض‏.‏ قيل‏:‏ وقضاء الفائتة على الفور فرض؛ لقوله‏:‏ ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك‏"‏‏.‏

    ج/ 23 ص -213- وأيضا، فإذا صلى ركعة من الفجر قبل الطلوع، فقد شرع فيها قبل وقت النهي، فهو أخف من ابتدائها وقت النهي، مع أن هذا جائز عند الجمهور‏.‏ وإذا ثبت أن الصلاة في أغلظ أوقات النهي وهو وقت الطلوع والغروب ليس مفسدة محضة لا تشرع بحال، بل تشرع في بعض الأحوال، عُلِمَ أن وجود بعض الصلوات في هذه الأوقات لا يوجب مفسدة النهي، إذ لو وجدت، لما جاز شيء من الصلوات‏.‏
    وإذا كان كذلك، فالشرع قد استقر على أن الصلاة، بل العبادة التي تفوت إذا أخرت تفعل بحسب الإمكان في الوقت، ولو كان في فعلها من ترك الواجب وفعل المحظور ما لايسوغ عند إمكان فعله في الوقت،مثل الصلاة بلا قراءة، وصلاة العريان، وصلاة المريض وصلاة المستحاضة، ومن به سلس البول، والصلاة مع الحدث بلا اغتسال ولا وضوء، والصلاة إلى غير القبلة، وأمثال ذلك من الصلوات التي لا يحرم فعلها، إذا قدر أن يفعلها على الوجه المأمور به في الوقت‏.‏ ثم إنه يجب عليه فعلها في الوقت مع النقص لئلا يفوت، وإن أمكن فعلها بعد الوقت على وجه الكمال‏.‏ فعلم أن اعتبار الوقت في الصلاة مقدم على سائر واجباتها، وهذا في التطوع كذلك؛، فإنه إذا لم يمكنه أن يصلي إلا عريانا، أو إلى غير القبلة، أو مع سلس البول، صلى كما

    ج/ 23 ص -214- يصلي الفرض؛ لأنه لو لم يفعل إلا مع الكمال تعذر فعله، فكان فعله مع النقص خيراً من تعطيله‏.‏
    وإذا كان كذلك، فذوات الأسباب إن لم تفعل وقت النهي فاتت وتعطلت، وبطلت المصلحة الحاصلة به، بخلاف التطوع المطلق، فإن الأوقات فيها سعة، فإذا ترك في أوقات النهي، حصلت حكمة النهي، وهو قطع للتشبه بالمشركين الذين يسجدون للشمس في هذا الوقت، وهذه الحكمة لا يحتاج حصولها إلى المنع من جميع الصلوات، كما تقدم، بل يحصل المنع من بعضها فيكفي التطوع المطلق‏.‏
    وأيضاً، فالنهي عن الصلاة فيها هو من باب سد الذرائع لئلا يتشبه بالمشركين، فيفضي إلى الشرك، وما كان منهياً عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيها مصلحة راجحة، ولا تفوت المصلحة لغير مفسدة راجحة‏.‏ والصلاة للّه فيه ليس فيها مفسدة، بل هي ذريعة إلى المفسدة فإذا تعذرت المصلحة إلا بالذريعة، شرعت واكتفي منها إذا لم يكن هناك مصلحة‏.‏ وهو التطوع المطلق‏.‏ فإنه ليس في المنع منه مفسدة، ولا تفويت مصلحة، لإمكان فعله في سائر الأوقات‏.‏
    وهذا أصل لأحمد وغيره في أن ما كان من باب سد الذريعة، إنما ينهي عنه إذا لم يحتج إليه، وإما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به، وقد ينهي عنه؛ ولهذا يفرق في العقود بين الحيل وسد الذرائع‏.‏ فالمحتال‏:‏

    ج/ 23 ص -215- يقصد المحرم، فهذا ينهي عنه‏.‏ وأما الذريعة‏:‏ فصاحبها لا يقصد المحرم، لكن إذا لم يحتج إليها، نهي عنها، وأما مع الحاجة فلا‏.‏
    وأما مالك، فإنه يبالغ في سد الذرائع، حتى ينهي عنها مع الحاجة إليها‏.‏
    وذوات الأسباب كلها تفوت إذا أخرت عن وقت النهي‏:‏ مثل سجود التلاوة، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف، ومثل الصلاة عقب الطهارة كما في حديث بلال، وكذلك صلاة الاستخارة إذا كان الذي يستخير له يفوت إذا أخرت الصلاة وكذلك صلاة التوبة، فإذا أذنب فالتوبة واجبة على الفور، وهو مندوب إلى أن يصلي ركعتين ثم يتوب، كما في حديث أبي بكر الصديق‏.‏ ونحو قضاء السنن الرواتب كما قضي النبي ﷺ ركعتي الظهر بعد العصر‏.‏ وكما أقر الرجل على قضاء ركعتي الفجر بعد الفجر، مع أنه يمكن تأخيرها، لكن تفوت مصلحة المبادرة إلى القضاء، فإن القضاء مأمور به على الفور في الواجب واجب، وفي المستحب مستحب‏.‏
    والشافعي يجوز القضاء في وقت النهي، وإن كان لا يوجب تعجيله؛ لأنها من ذوات الأس
    باب، وهي مع هذا لا تفوت بفوات

    ج/ 23 ص -216- الوقت، لكن يفوت فضل تقديمها، وبراءة الذمة، كما جاز فعل الصلاة في أول الوقت للعريان والمتيمم، وإن أمكن فعلها آخر الوقت بالوضوء والسترة، لكن هو محتاج إلى براءة ذمته في الواجب، ومحتاج في السنن الرواتب إلى تكميل فرضه؛ فإن الرواتب مكملات للفرض، ومحتاج إلى ألا يزيد التفويت، فإنه مأمور بفعلها في الوقت، فكلما قرب كان أقرب إلى الأمر، مما يبعد منه‏.‏
    وقد قال النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏.‏ فيقربها من الوقت ما استطاع، والشيخ أبو محمد المقدسي يجوز فعل الرواتب في أوقات النهي، موافقة لأبي الخطاب لكن أبو الخطاب يعمم كالشافعي، وهو الصواب‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فالتطوع المطلق يفوت من قصده عمارة الأوقات كلها بالصلاة‏؟‏
    قيل‏:‏ هذا ليس بمشروع، بل هو منهي عنه، ولا يمكن بشرًا أن يصلي دائمًا جميع النهار والليل، بل لابد له من وقت راحة ونوم وقد ثبت في الصحيحين أن رجالاً قال أحدهم‏:‏ أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر‏:‏ وأنا أقوم لا أنام، وقال الآخر‏:‏ لا أتزوج النساء، وقال الآخر‏:‏ لا آكل اللحم، فقال النبي ﷺ‏:‏

    ج/ 23 ص -217- ‏"‏لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم‏.‏ فمن رغب عن سنتي فليس مني‏"‏، قد قيل‏:‏ إن من جملة حكمة النهي عن التطوع المطلق في بعض الأوقات، إجمام النفوس في وقت النهي لتنشط للصلاة، فإنها تنبسط إلى ما كانت ممنوعة منه، وتنشط للصلاة بعد الراحة‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 23 ص -218-وسئل عمن رأي رجلاً يتنفل في وقت نهي فقال‏:‏ نهي النبي ﷺ عن الصلاة في هذا الوقت، وذكر له الحديث الوارد في الكراهة‏.‏ فقال هذا‏:‏ لا أسمعه، وأصلي كيف شئت، فما الذي يجب عليه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أما التطوع الذي لا سبب له، فهو منهي عنه بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، باتفاق الأئمة، وكان عمر بن الخطاب يضرب من يصلي بعد العصر‏.‏ فمن فعل ذلك، فإنه يعزر اتباعًا لما سنه عمر بن الخطاب أحد الخلفاء الراشدين إذ قد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بالنهي عن ذلك‏.‏
    وأما ما له سبب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، فهذا فيه نزاع، وتأويل‏.‏ فإن كان يصلي صلاة يسوغ فيها الاجتهاد لم يعاقب‏.‏
    وأما رده الأحاديث بلا حجة، وشتم الناهي، وقوله للناهي‏:‏

    ج/ 23 ص -219- أصلي كيف شئتُ، فإنه يعزر على ذلك، إذ الرجل عليه أن يصلي كما يشرع له، لا كما يشاء هو‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن الرجل إذا دخل المسجد في وقت النهي‏:‏ هل يجوز أن يصلي تحية المسجد ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله‏.‏ هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد‏:‏
    أحدهما‏:‏ وهو قول أبي حنيفة، ومالك‏:‏ أنه لا يصليها‏.‏
    والثاني‏:‏ وهو قول الشافعي، أنه يصليها، وهذا أظهر‏.‏ فإن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏"‏‏.‏ وهذا أمر يعم جميع الأوقات، ولم يعلم أنه خص منه صورة من الصور‏.‏ وأما نهيه عن الصلاة بعد طلوع الفجر وبعد غروبها، فقد خص منه صور متعددة‏.‏ منها قضاء الفوائت‏.‏ ومنها ركعتا الطواف‏.‏ ومنها المعادة مع إمام الحي، وغير ذلك‏.‏ والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص‏.‏

    ج/ 23 ص -220- وأيضا، فإن الصلاة وقت الخطبة منهي عنها، كالنهي في هذين الوقتين، أو أوكد، ثم قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا دخل أحدكم المسجد والخطيب على المنبر، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏"‏‏.‏ فإذا كان قد أمر بالتحية في هذا الوقت، وهو وقت نهي‏.‏ فكذلك الوقت الآخر بطريق الأولي، ولم يختلف قول أحمد في هذا لمجيء السنة الصحيحة به، بخلاف أبي حنيفة ومالك فإن مذهبهما في الموضعين النهي، فإنه لم تبلغهما هذه السنة الصحيحة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن تحية المسجد‏:‏ هل تفعل في أوقات النهي أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏"‏‏.‏ فإذا دخل وقت نهي فهل يصلي‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏ لكن أظهرهما أنه يصلي، فإن نهي النبي ﷺ عن الصلاة بعد الفجر، وبعد العصر قد خص من صور كثيرة‏.‏ وخص من نظيره وهو وقت الخطبة، بأن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب، فلا

    ج/ 23 ص -221-يجلس حتى يصلي ركعتين‏"‏ فإذا أمر بالتحية وقت الخطبة، ففي هذه الأوقات أولي‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل إذا توضأ قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب، وقد صلى الفجر، فهل يجوز له أن يصلي شكرًا للوضوء‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذا فيه نزاع، والأشبه أن يفعل لحديث بلال‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML