أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب ما يحرم أو يكره في الصلاة

    ج/ 22 ص -526- باب ما يكره فى الصلاة
    وَقَال شيخ الإسلام قدسَ الله روحه ‏:‏
    فَصْل
    فى بيان ما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها‏:‏
    قال الله تعالى فى غير موضع من كتابه ‏:‏
    ‏"‏وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ‏"‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏"‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ‏"‏‏[‏المعارج‏:‏ 19 - 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏1 - 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏103‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏238‏]‏‏.‏ وسيأتى بيان الدلالة فى هذه الآيات‏.‏

    ج/ 22 ص -527-وقد أخرج البخارى ومسلم فى الصحيحين وأخرج أصحاب السنن أبو داود والترمذى، والنسائى، وابن ماجه وأصحاب المسانيد‏:‏ كمسند أحمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة رضى الله عنه ‏:‏ أن رسول الله ﷺ دخل المسجد، فدخل رجل، ثم جاء فسلم على النبى ﷺ‏.‏ فرد رسول الله ﷺ عليه السلام‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ارجع فصل، فإنك لم تصل‏"‏‏.‏ فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم سلم عليه‏.‏ فقال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏وعليك السلام‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏ارجع فصل، فإنك لم تصل‏"‏، حتى فعل ذلك ثلاث مرات‏.‏ فقال الرجل‏:‏ والذى بعثك بالحق ما أحسن غير هذا، فعلمنى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها‏"‏‏.‏ وفى رواية للبخارى‏:‏ ‏"‏إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً،

    ج/ 22 ص -528- ثم ارفع حتى تستوى وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوى قائما، ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها‏"‏‏.‏
    وفى رواية له‏:‏ ‏"‏ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوى قائماً‏"‏ وباقيه مثله‏.‏ وفى رواية‏:‏ ‏"‏وإذا فعلت هذا، فقد تمت صلاتك‏.‏ وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك‏"‏‏.‏
    وعن رفاعة بن رافع رضى الله عنه ‏:‏ أن رجلا دخل المسجد‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر الحديث وقال فيه‏:‏ فقال النبى ﷺ‏:‏
    ‏"‏إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله عز وجل ويثنى عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول‏:‏ الله أكبر، ثم يركع حتى يطمئن راكعاً، ثم يقول‏:‏ الله أكبر، ثم يرفع رأسه حتى يستوى قائما، ثم يسجد حتى يطمئن ساجداً، ثم يقول‏:‏ الله أكبر، ثم يرفع رأسه حتى يستوى قاعداً ثم يقول‏:‏ الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيَكبر‏.‏ فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته‏"‏ وفى رواية‏:‏ ‏"‏إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمر الله عز وجل فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين‏.‏ ثم يكبر الله ويحمده، ثم يقرأ من القرآن ما أذن له وتيسر وذكر نحو اللفظ الأول، وقال ‏:‏ ثم يكبر، فيسجد، فيمكن وجهه وربما قال‏:‏ جبهته من الأرض، حتى تطمئن مفاصله وتسترخى،

    ج/ 22 ص -529- ثم يكبر فيستوى قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ، ثم قال ‏:‏ لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك‏"‏ رواه أهل السنن‏:‏ أبو داود والنسائى وابن ماجه والترمذى‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏ والروايتان لفظ أبى داود‏.‏
    وفى رواية ثالثة له‏:‏ قال‏:‏ ‏"‏إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ‏.‏ فإذا ركعت، فضع راحتك على ركبتيك وامدد ظهرك‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى‏"‏ ، وفى رواية أخرى قال‏:‏ ‏"‏إذا أنت قمت فى صلاتك فكبر الله عز وجل ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن‏"‏ وقال فيه‏:‏ ‏"‏فإذا جلست فى وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد، ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك‏"‏ وفى رواية أخرى قال‏:‏ ‏"‏فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد فأتم، ثم كبر‏.‏ فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله عز وجل وكبره وهلله‏"‏‏.‏ وقال فيه‏:‏ ‏"‏وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك‏"‏‏.‏
    فالنبى ﷺ أمر ذلك المسىء فى صلاته بأن يعيد الصلاة‏.‏ وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب، وأمره

    ج/ 22 ص -530- إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع والسجود‏.‏ وأمره المطلق على الإيجاب‏.‏
    وأيضاً، قال له‏:‏ ‏"‏فإنك لم تصل‏"‏ فنفى أن يكون عمله الأول صلاة، والعمل لا يكون منفياً إلا إذا انتفى شىء من واجباته‏.‏ فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز وجل فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شىء من المستحبات التى ليست بواجبة‏.‏
    وأما ما يقوله بعض الناس‏:‏ إن هذا نفى للكمال، كقوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد‏"‏، فيقال له‏:‏ نعم هو لنفى الكمال، لكن لنفى كمال الواجبات أو لنفى كمال المستحبات‏؟‏ فأما الأول فحق‏.‏ وأما الثانى، فباطل، لا يوجد مثل ذلك فى كلام الله عز وجل ولا فى كلام رسوله قط، وليس بحق‏.‏ فإن الشىء إذا كملت واجباته، فكيف يصح نفيه‏؟‏‏!‏
    وأيضاً، فلو جاز لجاز نفى صلاة عامة الأولين والآخرين؛ لأن كمال المستحبات من أندر الأمور‏.‏
    وعلى هذا، فما جاء من نفى الأعمال فى الكتاب والسنة، فإنما هو لانتفاء بعض واجباته‏.‏ كقوله تعالى‏:‏

    ج/ 22 ص -531-‏"‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 47‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا‏"‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ‏"‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏، ونظائر ذلك كثيرة‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ قوله ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا إيمان لمن لا أمانة له‏"‏، و‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏"‏، و‏"‏لا صلاة إلا بوُضوء‏"‏‏.‏
    وأما قوله‏:‏ ‏"‏لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد‏"‏‏:‏ فهذا اللفظ قد قيل‏:‏ إنه لا يحفظ عن النبى ﷺ‏.‏ وذكر عبد الحق الإشْبِيلى‏:‏ أنه رواه بإسناد كلهم ثقات، وبكل حال فهو مأثور عن على رضى الله عنه ولكن نظيره فى السنن عن النبى ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له‏"‏‏.
    ولا ريب أن هذا يقتضى أن إجابة المؤذن المنادى، والصلاة فى جماعة‏:‏ من الواجبات، كما ثبت فى الصحيح‏:‏ أن ابن أم مكتوم قال‏:‏

    ج/ 22 ص -532-يا رسول الله، إنى رجل شاسع الدار، ولى قائد لا يلائمنى‏.‏ فهل تجد لى رُخْصَة أن أصلى فى بيتى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هل تسمع النداء‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏ما أجد لك رخصة‏"‏، لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه، ويثاب على ما فعله من الصلاة، أم يقال‏:‏ إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها‏؟‏ هذا فيه نزاع بين العلماء‏.‏ وعلى هذا قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك‏"‏‏.‏
    فقد بين أن الكمال الذى نفى هو هذا التمام الذى ذكره النبى ﷺ؛ فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها‏.‏ وكذلك قوله فى الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته‏"‏‏.‏
    ويؤيد هذا‏:‏ أنه أمره بأن يعيد الصلاة‏.‏ ولو كان المتروك مستحباً لم يأمره بالإعادة؛ ولهذا يؤمر مثل هذا المسىء بالإعادة، كما أمر النبى ﷺ هذا، لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة، فهل يقال‏:‏ إن وجودها كعدمها، بحيث يعاقب على تركها‏؟‏ أو يقال‏:‏ إنه يثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع‏؟‏ هذا فيه نزاع‏.‏ والثانى أظهر؛ لما روى أبو داود وابن ماجه عن أنس بن حكيم الضَّبِّىّ قال‏:‏ "خاف

    ج/ 22 ص -533- رجل من زياد أو ابن زياد فأتى المدينة، فلقى أبا هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ فنسبنى، فانتسبت له، فقال‏:‏ يا فتى، ألا أحدثك حديثاً‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ بلى يرحمك الله قال يونس‏:‏ فأحسبه ذكره عن النبى ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏يقول ربنا عز وجل لملائكته، وهو أعلم‏:‏ انظروا فى صلاة عبدى، أتمها أم نقصها‏؟‏ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال‏:‏ انظروا، هل لعبدى من تطوع‏؟‏ فإن كان له تطوع قال‏:‏ أتموها من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم‏"‏‏.‏ وفى لفظ عن أبى هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله‏:‏ صلاته، فإن صَلُحَتْ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر‏.‏ فإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب‏:‏ انظروا، هل لعبدى من تطوع‏؟‏ فكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر أعماله على هذا‏"‏ رواه الترمذى وقال‏:‏ ‏"‏حديث حسن‏"‏‏.‏
    وروى أيضا أبو داود وابن ماجه عن تميم الدَّارِىّ رضى الله عنه عن النبى ﷺ بهذا المعنى قال‏
    :‏ ‏"‏ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك‏"‏‏.‏
    وأيضاً، فعن أبى مسعود البدرى رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله

    ج/ 22 ص -534- ﷺ‏:‏ ‏"‏لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود‏"‏ رواه أهل السنن الأربعة، وقال الترمذى‏:‏ ‏[‏حديث حسن صحيح‏]‏‏.‏ فهذا صريح فى أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود‏.‏ فهذا يدل على إيجاب الاعتدال فى الركوع والسجود‏.‏
    وهذه المسألة وإن لم تكن هى مسألة الطمأنينة فهى تناسبها وتلازمها؛ وذلك أن هذا الحديث نص صريح فى وجوب الاعتدال‏.‏ فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع والسجود، فالطمأنينة فيهما أوجب‏.‏
    وذلك أن قوله‏:‏ ‏"‏يقيم ظهره فى الركوع والسجود‏"‏ أى‏:‏ عند رفعه رأسه منهما‏.‏ فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود؛ لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحنى إلى أن يعود فيعتدل، ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل‏.‏ فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما؛ فلهذا قال‏:‏ ‏"‏يقيم صلبه فى الركوع والسجود‏"‏‏.‏
    ويبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود، وهذا كقوله فى الحديث المتقدم‏:‏ ‏"‏ثم يكبر فيسجد،

    ج/ 22 ص -535- فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخى، ثم يكبر فيستوى قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه‏"‏‏.‏ فأخبر أن إقامة الصلب فى الرفع من السجود لا فى حال الخفض‏.‏
    والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة؛ لكن قال فى الركوع والسجود والقعود‏:‏ ‏"‏حتى تطمئن راكعاً، وحتى تطمئن ساجداً، وحتى تطمئن جالساً‏"‏‏.‏ وقال فى الرفع من الركوع‏:‏ ‏"‏حتى تعتدل قائماً، وحتى تستوى قائماً‏"‏؛ لأن القائم يعتدل ويستوى، وذلك مستلزم للطمأنينة‏.‏
    وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين‏.‏ وذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال والاستواء؛ فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك وإما إلى أمامه؛ لأن أعضاءه التى يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة، مع أنه قد روى ابن ماجه‏:‏ أنه ﷺ قال فى الرفع من الركوع‏:‏ ‏
    "‏حتى تطمئن قائما‏"‏‏.‏
    وعن على بن شَيْبَان الحنفى قال‏:‏ خرجنا حتى قدمنا على رسول الله ﷺ، فبايعناه وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته يعنى‏:‏ صلبه فى الركوع والسجود فلما قضى النبى ﷺ الصلاة قال‏:‏ ‏"‏يا معشر المسلمين، لا صلاة

    ج/ 22 ص -536- لمن لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود‏"‏ رواه الإمام أحمد وابن ماجه‏.‏ وفى رواية للإمام أحمد‏:‏ أن رسول الله ﷺ قال‏:‏ ‏"‏لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده‏"‏‏.‏
    وهذا يبين أن إقامة الصلب هى الاعتدال فى الركوع، كما بيناه، وإن كان طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة، واحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده، لا على الاعتدالين، وعلى ما ذكرناه فإنه يدل عليهما‏.‏
    وروى الإمام أحمد فى المسند عن أبى قتادة رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏أسوأ الناس سرقة الذى يسرق من صلاته‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا يتم ركوعها ولا سجودها‏"‏ أو قال‏:‏ ‏"‏لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود‏"‏، وهذا التردد فى اللفظ ظاهره‏:‏ أن المعنى المقصود من اللفظين واحد، وإنما شك فى اللفظ‏.‏ كما فى نظائر ذلك‏.‏
    وأيضا، فعن عبد الرحمن بن شِبْل رضى الله عنه قال‏:‏ نهى رسول الله ﷺ عن نَقْر الغراب وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان فى المسجد، كما يوطن البعير‏.‏ أخرجه أبو داود والنسائى وابن ماجه‏.‏

    ج/ 22 ص -537- وإنما جمع بين الأفعال الثلاثة وإن كانت مختلفة الأجناس لأنه يجمعها مشابهة البهائم فى الصلاة، فنهى عن مشابهة فعل الغراب، وعما يشبه فعل السبع، وعما يشبه فعل البعير، وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين، لما فيه من أحاديث أخر‏.‏ وفى الصحيحين عن قتادة عن أنس رضى الله عنه عن النبى ﷺ قال‏:‏ ‏"‏اعتدلوا فى الركوع والسجود، ولايبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب‏"‏، لا سيما وقد بين فى حديث آخر‏:‏ ‏"‏أنه من صلاة المنافقين‏"‏، والله تعالى أخبر فى كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين‏.‏
    فروى مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك عن النبى ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏تلك صلاة المنافق، يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قَرْنَى شيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلا‏"‏، فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة، ويضيع فعلها وينقرها، فدل ذلك على ذم هذا وهذا، وإن كان كلاهما تاركا للواجب‏.‏
    وذلك حجة واضحة فى أن نقر الصلاة غير جائز، وأنه من فِعْل من فيه نفاق‏.‏ والنفاق كله حرام‏.‏ وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها، وهو مفسر لحديث قبله‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏
    ‏"‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً‏"‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏، وهذا وعيد شديد لمن ينقر فى صلاته،

    ج/ 22 ص -538- فلا يتم ركوعه وسجوده بالاعتدال والطمأنينة‏.‏
    والمثل الذى ضربه النبى ﷺ من أحسن الأمثال، فإن الصلاة قُوتُ القلوب، كما أن الغذاء قوت الجسد، فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل، فالقلب لا يقتات بالنقر فى الصلاة، بل لابد من صلاة تامة تقيت القلوب‏.‏
    وأما ما يرويه طوائف من العامة‏:‏ أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى رجلا ينقر فى صلاته فنهاه عن ذلك‏.‏ فقال‏:‏ لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار، فسكت عنه عمر، فهذا لا أصل له، ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغنى، لا فى الصحيح ولا فى الضعيف‏.‏ والكذب ظاهر عليه؛ فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك، وهم فى الدرك الأسفل من النار‏.‏
    وأيضاً، فعن أبى عبد الله الأشعرى الشامى قال‏:‏ صلى رسول الله ﷺ بأصحابه، ثم جلس فى طائفة منهم، فدخل رجل فقام يصلى، فجعل يركع وينقر فى سجوده، ورسول الله ﷺ ينظر إليه‏.‏ فقال‏:‏
    ‏"‏ترون هذا‏؟‏ لو مات مات على غير ملة محمد، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرِّمَّة‏.‏ إنما مثل الذى يصلى ولا يتم ركوعه وينقر فى سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين،

    ج/ 22 ص -539- لا تغنيان عنه شيئاً، فأسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار، وأتموا الركوع والسجود‏"‏‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ فقلت لأبى عبد الله الأشعرى‏:‏ من حدثك بهذا الحديث‏؟‏ قال‏:‏ أمراء الأجناد‏:‏ خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشُرَحْبِيل بن حسنة ويزيد بن أبى سفيان‏.‏ كل هؤلاء يقولون‏:‏ سمعت رسول الله ﷺ‏.‏ رواه أبو بكر بن خزيمة فى صحيحه بكماله، وروى ابن ماجه بعضه‏.‏
    وأيضا، ففى صحيح البخارى عن أبى وائل، عن زيد بن وهب، أن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده‏.‏ فلما قضى صلاته دعاه، وقال له حذيفة‏:‏ ما صليت، ولو مِتَّ مِتَّ على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمداً ﷺ‏.‏ ولفظ أبى وائل‏:‏ ما صليت‏.‏ وأحسبه قال‏:‏ لو مت مت على غير سنة محمد ﷺ‏.‏
    وهذا الذى لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة، أو ترك الاعتدال، أو ترك كليهما، فإنه لابد أن يكون قد ترك بعض ذلك، إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف، والهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإتيان بما قد يقال‏:‏ إنه ركوع أو سجود‏.‏ وهذا الرجل كان يأتى بما قد يقال له‏:‏ ركوع وسجود، لكنه لم يتمه‏.‏ ومع هذا قال له حذيفة‏:‏ ‏"‏ما صليت‏"‏ فنفى عنه الصلاة، ثم قال‏:‏ ‏"‏لو

    ج/ 22 ص -540- مت مت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمداً ﷺ‏"‏ و‏"‏على غير السنة‏"‏ وكلاهما المراد به هنا‏:‏ الدين والشريعة، ليس المراد به فعل المستحبات؛ فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد‏.‏ فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبى ﷺ من المستحبات‏.‏ ولأن لفظ ‏[‏الفطرة والسنة‏]‏ فى كلامهم هو الدين والشريعة‏.‏ وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ ‏[‏السنة‏]‏ يراد به ما ليس بفرض، إذ قد يراد بها ذلك، كما فى قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه‏"‏‏.‏ فهى تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات‏.‏ كما فى الصحيح عن ابن مسعود رضى الله عنه قال‏:‏ إن الله شرع لنبيكم ﷺ سنن الهدى، وإن هذه الصلوات فى جماعة من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم فى بيوتكم، كما يصلى هذا المتخلف فى بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق‏.‏ ومنه قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ‏"‏‏.‏
    ولأن الله سبحانه وتعالى أمر فى كتابه بإقامة الصلاة،وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها، فقال تعالى فى غير موضع‏:‏ ‏"‏وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏"‏

    ج/ 22 ص -541-وإقامتها‏:‏ تتضمن إتمامها بحسب الإمكان، كما سيأتى فى حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال‏:‏ ‏"‏أقيموا الركوع والسجود، فإنى أراكم من بعد ظهرى‏"‏، وفى رواية‏:‏ ‏"‏أتموا الركوع والسجود‏"‏ وسيأتى تقرير دلالة ذلك‏.‏
    والدليل على ذلك من القرآن‏:‏ أنه سبحانه وتعالى قال‏:‏ ‏
    "‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏"‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، فأباح الله القصر من عددها، والقصر من صفتها؛ ولهذا علقه بشرطين السفر والخوف‏.‏ فالسفر‏:‏ يبيح قصر العدد فقط، كما قال النبى ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة‏"‏؛ ولهذا كانت سنة رسول الله ﷺ المتواترة عنه، التى اتفقت الأمة على نقلها عنه‏:‏ أنه كان يصلى الرباعية فى السفر ركعتين‏.‏ ولم يصلها فى السفر أربعاً قط، ولا أبو بكر ولا عمر رضى الله عنهما لا فى الحج ولا فى العمرة، ولا فى الجهاد‏.‏ والخوف يبيح قصر صفتها، كما قال الله فى تمام الكلام‏:‏ ‏"‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، فذكر صلاة الخوف وهى صلاة ذات الرقاع، إذ كان العدو فى جهة القبلة‏.‏وكان فيها‏:‏

    ج/ 22 ص -542- أنهم كانوا يصلون خلفه، فإذا قام إلى الثانية فارقوه وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم‏.‏ كما قال‏:‏ ‏"‏سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ‏"‏، فجعل السجود لهم خاصة، فعلم أنهم يفعلونه منفردين، ثم قال‏:‏ ‏"‏وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ‏"‏، فعلم أنهم يفعلونه‏.‏
    وفى هذه الصلاة تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام، وقيام الآخرين قبل سلام الإمام، ويتمون لأنفسهم ركعة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏
    ‏"‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة‏.‏ وذلك يتضمن الإتمام وترك القصر منها الذى أباحه الخوف والسفر‏.‏ فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان‏.‏
    وأما قوله فى صلاة الخوف‏:‏ ‏
    "‏فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ‏"‏ فتلك إقامة وإتمام فى حال الخوف‏.‏ كما أن الركعتين فى السفر إقامة وإتمام، كما ثبت فى الصحيح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال‏:‏ صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم ﷺ‏.‏ وهذا يبين ما رواه مسلم وأهل السنن عن يَعْلىَ بن أمية قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه ‏:‏ إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله عز وجل ‏:‏

    ج/ 22 ص -543-"‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏" وقد ذهب ذلك اليوم‏؟‏ فقال‏:‏ عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته‏"‏‏.‏ فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقاً مشروط بعدم الأمن، فبينت السنة أن القصر نوعان، كل نوع له شرط‏.‏
    وثبتت السنة أن الصلاة مشروعة فى السفر تامة؛ لأنه بذلك أمر الناس، ليست مقصورة فى الأجر والثواب، وإن كانت مقصورة فى الصفة والعمل، إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة، ويؤمر بالاقتصار تارة‏.‏
    وأيضاً، فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏
    "‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، والموقوت‏:‏ قد فسره السلف بالمفروض وفسروه بما له وقت‏.‏ والمفروض‏:‏ هو المقدر المحدد، فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة‏.‏ وذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة‏.‏ وذلك فى زمانها، وأفعالها، وكما أن زمانها محدود، فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة‏.‏ وهو يتناول تقدير عددها؛ بأن جعله خمساً، وجعل بعضها أربعا فى الحضر واثنتين فى السفر، وبعضها ثلاثاً،وبعضها اثنتين فى الحضر والسفر‏.‏وتقدير عملها أيضاً‏.‏ ولهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم والتأخير فى الزمان،كما يجوز أيضا القصر من عددها

    ج/ 22 ص -544- ومن صفتها، بحسب ما جاءت به الشريعة‏.‏ وذلك أيضا مقدر عند العذر، كما هو مقدر عند غير العذر؛ ولهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، أو صلاة الليل إلى النهار، وصلاتى النهار‏:‏ الظهر والعصر، وصلاتى الليل‏:‏ المغرب والعشاء‏.‏ وكذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها وصفتها، وهو موقوت محدود، ولابد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء‏.‏ فالقيام محدود بالانتصاب، بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع باختياره، لم يكن قد أتى بحد القيام‏.‏
    ومن المعلوم أن ذكر القيام الذى هو القراءة أفضل من ذكر الركوع والسجود، ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام؛ ولهذا كان عبادة بنفسه‏.‏ ولم يصح فى شرعنا إلا للَّه بوجه من الوجوه، وغير ذلك من الأدلة المذكورة فى غير هذا الموضع‏.‏
    وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها‏.‏ فالساجد‏:‏ عليه أن يصل إلى الأرض، وهو غاية التمكن، ليس له غاية دون ذلك إلا لعذر، وهو من حين انحنائه أخذ فى السجود، سواء سجد من قيام أو من قعود‏.‏ فينبغى أن يكون ابتداء السجود مقدراً بذلك، بحيث يسجد من قيام أو قعود، لا

    ج/ 22 ص -545- يكون سجوده من انحناء، فإن ذلك يمنع كونه مقدراً محدوداً بحسب الإمكان‏.‏ ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال فى الركوع وبين السجدتين‏.‏
    وأيضاً، ففى ذلك إتمام الركوع والسجود‏.‏
    وأيضاً، فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر، وذلك هو الطمأنينة‏.‏ فإن من نَقَر نَقْر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا، فإن قدر الشىء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده؛ ولهذا يقال للشىء الدائم‏:‏ ليس له قدر، فإن القدر لا يكون لأدنى حركة، بل لحركة ذات امتداد‏.‏
    وأيضاً، فإن اللّه عز وجل أمرنا بإقامتها، والإقامة‏:‏ أن تجعل قائمة، والشىء القائم‏:‏ هو المستقيم المعتدل، فلا بد أن تكون أفعال الصلاة مستقرة معتدلة‏.‏ وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها‏.‏ وهذا يتضمن الطمأنينة، فإن من نَقَر نَقْر الغراب لم يقم السجود، ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر، وكذلك الراكع‏.‏
    يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏
    ‏"‏سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصف من تمام الصلاة‏"‏‏.‏ وأخرجاه من حديث

    ج/ 22 ص -546- عبد العزيز بن صُهَيْب عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"‏أتموا الصفوف، فإني أراكم من خلف ظهري‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏أقيموا الصفوف‏"‏‏.‏ وروى البخاري من حديث حميد عن أنس، قال‏:‏ أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول اللّه ﷺ، فقال‏:‏ ‏"‏أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري‏"‏‏.‏ وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وبدنه ببدنه‏"‏‏.‏
    فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها، بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا، لم يكونوا مصطفين، ولكانوا يؤمرون بالإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده، فأمره النبي ﷺ أن يعيد صلاته، فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها، بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود‏.‏
    ويدل على ذلك وهو دليل مستقل في المسألة ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ، قال‏:‏
    ‏"‏أقيموا الركوع والسجود، فواللّه إني لأراكم من بعدي وفي رواية‏:‏ من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم‏"‏‏.‏ وفي رواية للبخاري عن همام، عن قتادة، عن أنس رضي اللّه عنه أنه سمع النبي ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏أتموا الركوع

    ج/ 22 ص -547- والسجود، فوالذي نفسى بيده، إني لأراكم من بعد ظهري إذا ماركعتم وإذا ما سجدتم‏"‏‏.‏ ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي، وابن أبي عَرُوبَة عن قتادة عن أنس رضي اللّه عنه أن نبي اللّه ﷺ قال‏:‏ ‏"‏أتموا الركوع والسجود ولفظ ابن أبي عَرُوَبة‏:‏ أقيموا الركوع والسجود، فإني أراكم وذكره‏"‏‏.‏
    فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامهما، كما في اللفظ الآخر‏.‏
    وأيضًا، فأمره لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما؛ إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة؛ بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضًا الاعتدال فيهما، وإتمام طرفيهما، وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما، وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه‏.‏ ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الانصراف قبله‏.‏
    وأيضًا، فقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ أمر بالقنوت في القيام للّه، والقنوت‏:‏ دوام الطاعة للّه عز وجل سواء كان في حال الانتصاب، أو في حال السجود، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ‏"‏[‏النساء‏:‏ 34‏]

    ج/ 22 ص -548-وقال‏:‏ ‏"‏وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏"‏ ‏[‏الروم‏:‏ 26‏] فإذا كان ذلك كذلك، فقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ إما أن يكون أمرًا بإقامة الصلاة مطلقًا، كما في قوله‏:‏ ‏"‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ فيعم أفعالها، ويقتضي الدوام في أفعالها، وإما أن يكون المراد به‏:‏ القيام المخالف للقعود، فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده، ويقتضي الطول، وهو القنوت المتضمن للدعاء، كقنوت النوازل، وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه‏.‏
    وإذا ثبت وجوب هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى‏.‏
    ويقوي الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال‏:‏ كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه إلى الصلاة، فنزلت‏:‏ ‏
    "‏وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام‏.‏ حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة‏.‏ ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة، فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة، ودل الأمر بالقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس؛ لأن القنوت هو دوام الطاعة، فالمشتغل بمخاطبة العباد تارك للاشتغال

    ج/ 22 ص -549- بالصلاة التي هي عبادة اللّه وطاعته، فلا يكون مداومًا على طاعته؛ ولهذا قال النبي ﷺ لما سلم عليه ولم يرد، بعد أن كان يرد‏:‏ ‏"‏إن في الصلاة لشغلا‏"‏، فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلي عن مخاطبة الناس، وهذا هو القنوت فيها، وهو دوام الطاعة، ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي بما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح؛ لأن ذلك لا يشغله عنها، ولا ينافي القنوت فيها‏.‏
    وأيضًا، فإنه سبحانه قال‏:‏ ‏
    "‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏15‏]‏ فأخبر أنه لا يكون مؤمنًا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات وسبح بحمد ربه‏.‏
    ومعلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات، ولذلك وجب السجود مع ذلك‏.‏ وقد أوجب خرورهم سجدًا، وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم، وذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود، وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة، ولهذا قال طائفة من العلماء، من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم‏.‏
    والثاني‏:‏ أن الخرور هو السقوط والوقوع، وهذا إنما يقال فيما يثبت ويسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض، ولهذا قال

    ج/ 22 ص -550- اللّه‏:‏ ‏"‏فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ والوجوب في الأصل‏:‏ هو الثبوت والاستقرار‏.‏
    وأيضًا، فعن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما نزلت‏:‏‏
    "‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏"‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"‏اجعلوها في ركوعكم‏"‏‏.‏ ولما نزلت‏: ‏"‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏اجعلوها في سجودكم‏"‏ رواه أبو داود، وابن ماجه‏"‏‏.‏ فأمر النبي بجعل هذين التسبيحين في الركوع والسجود، وأمره على الوجوب‏.‏ وذلك يقتضي وجوب ركوع وسجود تبعًا لهذا التسبيح، وذلك هو الطمأنينة‏.‏
    ثم إن من الفقهاء من قد يقول‏:‏ التسبيح ليس بواجب، وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعًا، فإذا دل دليل على عدم وجوب القول، لم يمنع وجوب الفعل‏.‏
    وأما من يقول بوجوب التسبيح؛ فيستدل لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏"‏[‏ق‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وهذا أمر بالصلاة كلها، كما ثبت في الصحيحين، عن جرير بن عبد اللّه البجلي رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنا جلوسًا عند النبي ﷺ إذ نظر

    ج/ 22 ص -551- إلى القمر ليلة البدر‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر لا تُضَارُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏"‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏"‏‏.‏ وإذا كان اللّه عز وجل قد سمى الصلاة تسبيحًا، فقد دل ذلك على وجوب التسبيح، كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا‏"‏[‏المزمل‏:‏ 2‏]‏، دل على وجوب القيام‏.‏ وكذلك لما سماها قرآنًا في قوله تعالى‏:‏‏"‏وَقُرْآنَ الْفَجْرِ‏"‏[‏الإسراء‏:‏78‏]‏ دل على وجوب القرآن فيها، ولما سماها ركوعًا وسجودًا في مواضع دل على وجوب الركوع والسجود فيها‏.‏
    وذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها، فإذا وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة، كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له‏.‏ فيسمونه رقبة ورأسًا ووجهًا، ونحو ذلك‏.‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏92‏]‏ ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرًا بالصلاة، فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه، ولا على ما يستلزم معناه‏.‏
    وأيضًا، فإن اللّه عز وجل ذم عموم الإنسان واستثنى المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، قال تعالى‏:‏‏

    ج/ 22 ص -552-"‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ‏"‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19 - 23‏]‏ والسلف من الصحابة ومن بعدهم قد فسروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها، وبالدائم على أفعالها بالإقبال عليها‏.‏ والآية تعم هذا وهذا، فإنه قال‏:‏ ‏"‏عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ‏"‏ والدائم على الفعل هو المديم له، الذي يفعله دائمًا‏.‏ فإذا كان هذا فيما يفعل في الأوقات المتفرقة‏:‏ وهو أن يفعله كل يوم، بحيث لا يفعله تارة ويتركه أخرى، وسمى ذلك دوامًا عليه، فالدوام على الفعل الواحد المتصل أولى أن يكون دوامًا، وأن تتناول الآية ذلك‏.‏ وذلك يدل على وجوب إدامة أفعالها؛ لأن اللّه عز وجل ذم عموم الإنسان واستثنى المداوم على هذه الصفة‏.‏ فتارك إدامة أفعالها يكون مذمومًا من الشارع، والشارع لا يذم إلا على ترك واجب، أو فعل محرم‏.‏
    وأيضًا، فإنه سبحانه وتعالى قال‏:
    ‏ ‏"‏إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ‏"‏ ‏[‏المعارج‏:‏22، 23‏]‏ فدل ذلك على أن المصلي قد يكون دائمًا على صلاته، وقد لا يكون دائمًا عليها، وأن المصلي الذي ليس بدائم مذموم‏.‏ وهذا يوجب ذم من لا يديم أفعالها المتصلة والمنفصلة‏.‏ وإذا وجب دوام أفعالها فذلك هو نفس الطمأنينة، فإنه يدل على وجوب إدامة الركوع والسجود وغيرهما، ولو كان المجزئ أقل مما ذكر من الخفض وهو نقر الغراب لم يكن ذلك دوامًا، ولم يجب الدوام على الركوع

    ج/ 22 ص -553- والسجود، وهما أصل أفعال الصلاة‏.‏
    فعلم أنه كما تجب الصلاة يجب الدوام عليها، المتضمن للطمأنينة والسكينة في أفعالها‏.‏
    وأيضًا، فقد قال اللّه تعالى‏:‏
    ‏"‏وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏
    وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين، كقوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏143‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏
    فقد دل كتاب اللّه عز وجل على من كبر عليه ما يحبه اللّه، وأنه مذموم بذلك في الدين، مسخوط منه ذلك، والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب، أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين، دل ذلك على وجوب الخشوع‏.‏
    فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ لابد أن يتضمن الخشوع في الصلاة؛ فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى، إذ لو قيل‏:‏ إن الصلاة

    ج/ 22 ص -554- لكبيرة إلا على من خشع خارجها، ولم يخشع فيها، كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها، وتكبر على من خشع فيها‏.‏ وقد انتفى مدلول الآية، فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة‏.‏
    ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضًا قوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 1-11‏]‏‏.‏ أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة، وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم‏.‏ وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال؛ إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها؛ لأن الجنة تنال بفعل الواجبات، دون المستحبات، ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب‏.‏ وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبًا، فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعًا‏.‏
    ومنه حديث عمر رضي اللّه عنه حيث رأي رجلاً يعبث في صلاته‏.‏ فقال‏:‏ لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه‏.‏أي‏:‏ لسكنت

    ج/ 22 ص -555- وخضعت‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز، والاهتزاز حركة، وتربو، والربو‏:‏ الارتفاع‏.‏ فعلم أن الخشوع فيه سكون وانخفاض‏.‏
    ولهذا كان النبي ﷺ يقول في حال ركوعه‏:‏
    ‏"‏اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت‏.‏ خشع لك سمعي وبصري ومُخِّي وعقلي وعصبي‏"‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏ فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع؛ لأن الراكع ساكن متواضع‏.‏ وبذلك فسرت الآية‏.‏ ففي التفسير المشهور، الذي يقال له تفسير الوالبي عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد رواه المصنفون في التفسير، كأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهما من حديث أبي صالح عبد اللّه بن صالح عن معاوية بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى‏:‏ ‏"‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏ يقول‏:‏ ‏"‏خائفون ساكنون‏"‏، ورووا في التفاسير المسندة كتفسير ابن المنذر وغيره من حديث سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد‏:‏ ‏"‏خاشعون‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏السكون فيها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وكذلك قال الزهري ومن حديث هشام عن مغيرة عن إبراهيم النَّخَعِيّ، قال‏:‏ الخشوع في القلب، وقال‏:‏ ساكنون‏.‏ قال الضحاك‏:‏الخشوع‏:‏ الرهبة للّه‏.‏وروي

    ج/ 22 ص -556- عن الحسن‏:‏ خائفون، وروي ابن المنذر من حديث أبي عبد الرحمن المقبري، حدثنا المسعودي حدثنا أبو سنان‏:‏ أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏"‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏ قال‏:‏ الخشوع في القلب، وأن يلين كنفه للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك‏.‏
    وفي تفسير ابن المنذر أيضًا ما في تفسير إسحاق بن راهويه، عن روح، حدثنا سعيد عن قتادة‏:
    ‏ ‏"‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏"‏ قال‏:‏ الخشوع في القلب، والخوف وغض البصر في الصلاة‏.‏ وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه‏:‏ ‏[‏مختار القرآن‏]‏‏:‏ ‏"‏فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏"‏ أي‏:‏ لا تطمح أبصارهم ولا يلتفتون‏.‏ وقد روى الإمام أحمد في ‏[‏كتاب الناسخ والمنسوخ‏]‏ من حديث ابن سيرين، ورواه إسحاق بن راهويه في التفسير، وابن المنذر أيضا? في التفسير الذي له، رواه من حديث الثوري، حدثني خالد عن ابن سيرين، قال‏:‏كان النبي ﷺ يرفع بصره إلى السماء فأمر بالخشوع، فرمى ببصره نحو مسجده أي‏:‏ محل سجوده‏.‏ قال سفيان‏:‏ وحدثني غيره عن ابن سيرين‏:‏ أن هذه الآية‏:‏ نزلت في ذلك ‏"‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏1، 2‏]‏ قال‏:‏هو سكون المرء في صلاته‏.‏ قال معمر‏:‏ وقال الحسن ‏[‏خائفون‏]‏، وقال قتادة‏:‏ ‏[‏الخشوع في القلب‏]‏ ومنه خشوع البصر وخفضه وسكون ضد تقليبه في الجهات، كقوله تعالى‏:‏

    ج/ 22 ص -557-"‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏"‏‏[‏القمر‏:‏6- 8‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏"‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ‏"‏[‏المعارج‏:‏43، 44‏]‏، وفي القراءة الأخرى‏:‏‏"‏خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ‏"‏، وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة، حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصارهم، بخلاف آية الصلاة، فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين بقوله تعالى‏:‏‏"‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏"‏‏[‏القلم‏:‏ 42، 43‏]‏‏.‏ ومن ذلك‏:‏ خشوع الأصوات، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ‏"‏ ‏[‏طه‏:‏108‏]‏، وهو انخفاضها وسكونها، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 44، 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏"‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2 - 5‏]‏، وهذا يكون يوم القيامة‏.‏ وهذا هو الصواب من القولين بلا ريب،

    ج/ 22 ص -558- كما قال في القسم الآخر‏:‏ ‏"‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏"‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 8 - 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72، 73‏]‏‏.‏
    وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبًا، وهو متضمن للسكون والخشوع، فمن نَقَر نَقْر الغراب لم يخشع في سجوده‏.‏ وكذلك من لم يرفع رأسه من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن؛ لأن السكون هو الطمأنينة بعينها‏.‏ فمن لم يطمئن لم يسكن، ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده، ومن لم يخشع كان آثمًا عاصيًا، وهو الذي بيناه‏.‏
    ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة‏:‏ أن النبي ﷺ تَوَعَّد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء، فإنه حركته ورفعه، وهو ضد حال الخاشع‏.‏ فعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏
    ‏"‏مابال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم‏؟‏ فاشتد قوله في ذلك‏.‏ فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم‏"‏‏.‏ وعن جابر بن سَمُرَة قال‏:‏ دخل رسول اللّه ﷺ المسجد، وفيه ناس يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء، أو لا ترجع إليهم أبصارهم‏"‏‏.‏

    ج/ 22 ص -559- الأول في البخاري، والثاني في مسلم‏.‏ وكلاهما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه‏.‏
    وقال محمد بن سيرين‏:‏ كان رسول اللّه ﷺ يرفع بصره في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية‏:‏
    ‏"‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏"‏ [‏المؤمنون‏:‏ 1، 2‏]‏ لم يكن يجاوز بصره موضع سجوده‏.‏ رواه الإمام أحمد في ‏[‏كتاب الناسخ والمنسوخ‏]‏‏.‏ فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع، حرمه النبي ﷺ وتَوَعَّد عليه‏.‏
    وأما الالتفات لغير حاجة، فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه؛ فلهذا كان ينقص الصلاة، كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سألت رسول اللّه ﷺ عن التفات الرجل في الصلاة‏؟‏ فقال‏
    :‏ ‏"‏هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد‏"‏‏.‏ وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص، عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه‏:‏ ‏"‏لا يزال اللّه مقبلاً على العبد، وهو في صلاته، ما لم يلتفت‏.‏ فإذا التفت انصرف عنه‏"‏‏.‏
    وأما لحاجة فلا بأس به، كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال‏:‏ ثوب الصلاة يعني‏:‏ صلاة الصبح فجعل رسول اللّه

    ج/ 22 ص -560- ﷺ يصلي، وهو يلتفت إلى الشعب‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وكان أرسل فارسًا إلى الشعب من الليل يحرس‏.‏ وهذا كحمله أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، من زينب بنت رسول اللّه‏.‏ وفتحه الباب لعائشة، ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم، وتأخره في صلاة الكسوف، وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته، وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة، وأمره برد المار بين يدي المصلي ومقاتلته، وأمره النساء بالتصفيق، وإشارته في الصلاة، وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة، ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة‏.‏
    ويدل على ذلك أيضًا ما رواه تميم الطائي عن جابر بن سَمُرَة رضي اللّه عنه قال‏:‏ دخل علينا رسول اللّه ﷺ، والناس رافعوا أيديهم قال الراوي وهو زهير بن معاوية وأراه قال في الصلاة فقال‏:‏
    ‏"‏ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خَيْل شُمْس، اسكنوا في الصلاة‏"‏ رواه مسلم وأبو داود والنسائي‏.‏ ورووا أيضًا عن عبيد الله ابن القبطية عن جابر بن سَمُرَة رضي اللّه عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول اللّه ﷺ فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه، ومن عن يساره‏.‏ فلما صلى قال‏:‏ ‏"‏ما بال أحدكم يومئ بيده، كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم أو ألا يكفي أحدكم

    ج/ 22 ص -561- أن يقول‏:‏ هكذا وأشار بأصبعه يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله‏"‏‏.‏ وفي رواية قال‏:‏ ‏"‏أما يكفي أحدكم أو أحدهم أن يضع يده علي فخذه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه، ومن عن شماله‏"‏‏.‏ ولفظ مسلم‏:‏ صلينا مع رسول اللّه ﷺ، وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا‏:‏ السلام عليكم‏.‏ فنظر إلينا رسول اللّه ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏ما شأنكم‏؟‏ تشيرون بأيديكم، كأنها أذناب خَيْلٍ شُمْس‏؟‏ إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يؤمئ بيده‏"‏‏.‏
    فقد أمر رسول اللّه ﷺ بالسكون في الصلاة، وهذا يقتضي السكون فيها كلها، والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة‏.‏ فمن لم يطمئن لم يسكن فيها، وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر اللّه تعالى به من الخشوع فيها، وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث‏.‏
    ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهي عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه، وحمله على ذلك فقد غلط؛ فإن الحديث جاء مفسرًا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل، أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال‏.‏
    ويبين ذلك قوله‏:‏ ‏"‏مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل

    ج/ 22 ص -562- شمس‏؟‏‏"‏ و ‏[‏الشُمْس‏]‏ جمع شَمُوس، وهو الذي تقول له العامة الشَّمُوص، وهو الذي يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال، وهي حركة لا سكون فيها‏.‏
    وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عند الاستفتاح، فذلك مشروع باتفاق المسلمين‏.‏ فكيف يكون الحديث نهيًا عنه‏؟‏
    وقوله‏:‏ ‏"‏اسكنوا في الصلاة‏"‏ يتضمن ذلك؛ ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد اللّه بن المبارك، فرفع ابن المبارك يديه، فقال له‏:‏ ‏"‏أتريد أن تطير‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن كنت أطير في أول مرة، فأنا أطير في الثانية، وإلا فلا‏"‏ وهذا نقض لما ذكره من المعنى‏.‏
    وأيضًا، فقد تواترت السنن عن النبي ﷺ وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيًا عنه، ولا يكون ذلك الحديث معارضًا، بل لو قد تعارضا‏.‏ فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة، ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها، وهذا الرفع فيه سكون‏.‏ فقوله‏:‏ ‏"‏اسكنوا في الصلاة‏"‏ لا ينافي هذا الرفع، كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة، بل قوله‏:‏ ‏"‏اسكنوا‏"‏ يقتضي السكون في كل

    ج/ 22 ص -563- بعض من أبعاض الصلاة، وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين‏.‏
    فبين هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان؛ ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة؛ فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة، كما أمر النبي ﷺ في المشي إليها‏.‏ وهي حركة إليها، فكيف بالحركة فيها‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصَلُّوا، وما فاتكم فاقضوا‏"‏‏.‏
    وهذا أيضًا دليل مستقل في المسألة، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه ﷺ يقول‏:‏
    ‏"‏إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا‏"‏ رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه‏.‏ قال أبو داود وكذلك قال الترمذي وابن أبي ذئب، وإبراهيم بن سعد، ومَعْمَر، وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري‏:‏ ‏"‏وما فاتكم فأتموا‏"‏‏.‏ وقال ابن عيينة عن الزهري‏:‏ ‏"‏فاقضوا‏"‏‏.‏ قال محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه وجعفر ابن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏فأتموا‏"‏، وابن مسعود عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏فأتموا‏"‏، وروى أبو داود عن

    ج/ 22 ص -564-أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال‏:‏‏"‏ائتوا الصلاة وعليكم السكينة، فصلوا ما أدركتم، واقضوا ما سبقكم‏"‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وكذا قال ابن سِيرين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ‏:‏ ‏"‏وليقض‏"‏‏.‏ وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة، وأبو ذر رضي اللّه عنه روى عنه‏:‏ ‏"‏فأتموا، واقضوا‏"‏ اختلف عنه‏.‏
    فإذا كان النبي ﷺ قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة، ونهي عن السعي الذي هو إسراع في ذلك، لكونه سببًا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة، وينهي فيها عن الاستعجال، فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة، منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأحرى، لاسيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها، ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع، وإن أفضى ذلك إلى فوات بعض الصلاة، فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردًا بعد سلام الإمام، وجعل ذلك مقدمًا على الإسراع إليها‏.‏ وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها، فكيف فيها‏؟‏
    يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثُمَامَة الحناط، عن كعب بن عُجْرَة قال‏:‏ إن رسول الله ﷺ قال
    ‏"‏إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن يديه، فإنه في صلاة‏"‏‏.‏ فقد نهاه ﷺ في مشيه إلى الصلاة عما

    ج/ 22 ص -565- نهاه عنه في الصلاة من الكلام والعمل له منفردًا، فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي وغير ذلك‏؟‏ فإذا كان منهيًا عن السرعة والعجلة في المشي، مأمورًا بالسكينة، وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيًا له، فأولى أن يكون مأمورًا بالسكينة فيها‏.‏
    ويدل على ذلك‏:‏ أن اللّه عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقًا، فقال‏:‏
    ‏"‏وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ‏"‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 19‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏‏.‏ قال الحسن وغيره‏:‏ ‏"‏بسكينة ووقار‏"‏، فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء‏.‏ فإذا كان مأمورًا بالسكينة والوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة، فكيف الأفعال العبادية‏؟‏ ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون، كالركوع والسجود‏؟‏ فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال؛ كالرفع والخفض والنهوض والانحطاط‏.‏ وأما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال، كالركوع نفسه، والسجود نفسه، والقيام والقعود أنفسهما وهذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها، وإنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود ولم يأت به، كمن مد يده إلى الطعام، ولم يأكل منه، أو وضعه على فيه ولم يطعمه‏.‏
    وأيضًا، فإن اللّه تعالى أوجب الركوع والسجود في الكتاب

    ج/ 22 ص -566- والسنة، وهو واجب بالإجماع لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا‏"‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ‏"‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42، 43‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ‏"‏[‏الانشقاق‏:‏ 20، 21‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏"‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏"‏ ‏[‏العلق‏:‏ 19‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏‏.‏
    فدل على أن الذي لا يسجد للّه من الناس، قد حق عليه العذاب، وقوله‏:‏
    ‏"‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا‏"‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 26‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ‏"‏[‏الحجر‏:‏ 98‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ‏"‏ ‏[‏المرسلات‏:‏48‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 55‏]‏‏.‏
    وإذا كان اللّه عز وجل قد فرض الركوع والسجود للّه في كتابه، كما فرض أصل الصلاة، فالنبي ﷺ هو المبين للناس ما نزل إليهم، وسنته تفسر الكتاب وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه،

    ج/ 22 ص -567- وفعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرًا لمجمل، كان حكمه حكم ما امتثله وفسره‏.‏ وهذا كما أنه ﷺ لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبًا، وكان هذا امتثالا منه لما أمر اللّه به من الركوع والسجود، وتفسيرًا لما أجمل ذكره في القرآن، وكذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود‏.‏ وقد كان يصلي الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده، ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود، وبالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها‏.‏ قد نقل ذلك كل من نقل صلاة الفريضة والنافلة‏.‏ والناس يصلون على عهده، ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة‏.‏ وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده‏.‏ وهذا يقتضي وجوب السكون والطمأنينة في هذه الأفعال، كما يقتضي وجوب عددها‏.‏ وهو سجودان مع كل ركوع‏.‏
    وأيضًا، فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم، مع كثرة الصلوات، من أقوى الأدلة على وجوب ذلك؛ إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة، ليبين الجواز، أو ليبين جواز تركه بقوله‏.‏ فلما لم يبين لا بقوله ولا بفعله جواز ترك ذلك مع مداومته عليه، كان ذلك دليلاً على وجوبه‏.‏
    وأيضًا، فقد ثبت عنه ﷺ في صحيح البخاري‏:‏

    ج/ 22 ص -568- أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه‏:‏ ‏"‏إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما‏"‏ و‏"‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏"‏ فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي‏.‏
    وذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي ﷺ يصلي لهم، ولا معارض لذلك ولا مخصص؛ فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم والمنفرد‏.‏
    وقد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال‏:‏ لقد رأيت رسول اللّه ﷺ قام على المنبر وكبر، وكبر الناس معه وراءه، وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي‏"‏‏.‏ وفي سنن أبي داود والنسائي عن سالم البراد قال‏:‏ أتينا عقبة بن عامر الأنصاري أبا مسعود، فقلنا له‏:‏ حدثنا عن صلاة رسول اللّه ﷺ‏.‏ فقام بين أيدينا في المسجد، فكبر، فلما ركع وضع يديه على ركبتيه، وجعل أصابعه أسفل من ذلك، وجافى بين مرفقيه، حتى استقر كل شيء منه، ثم قال‏:‏ سمع اللّه لمن حمده، فقام حتى استقر كل شيء

    ج/ 22 ص -569- منه ثم كبر وسجد ووضع كفيه على الأرض، ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه، ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه، ففعل ذلك أيضًا ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الركعة، فصلى صلاته‏.‏ ثم قال‏:‏ هكذا رأينا رسول اللّه ﷺ يصلي‏.‏
    وهذا إجماع الصحابة رضي اللّه عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين‏.‏ وإذا رأي بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه‏.‏ ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك‏.‏ وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة، قولاً وفعلاً‏.‏ ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانًا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب‏.‏
    وأيضًا، فإن الركوع والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه وحين وضع وجهه على الأرض، فأما مجرد الخفض والرفع عنه، فلا يسمى ذلك ركوعًا، ولا سجودًا‏.‏ ومن سماه ركوعًا وسجودًا فقد غلط على اللغة‏.‏ فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعًا وساجدًا، حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر، وحتى يقال‏:‏ إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعًا وسجودًا وهذا مما لا سبيل إليه، ولا دليل عليه‏.‏ فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب اللّه وفي لغة العرب، وإذا حصل الشك‏:‏ هل هذا ساجد أو ليس بساجد‏؟‏ لم يكن ممتثلًا بالاتفاق؛ لأن الوجوب معلوم، وفعل

    ج/ 22 ص -570- الواجب ليس بمعلوم، كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه، ويشك في فعلها‏.‏
    وهذا أصل ينبغي معرفته؛ فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول‏:‏ إن هذا يسمى ساجدًا وراكعًا في اللغة، فإنه قال بلا علم ولا حجة‏.‏ وإذا طولب بالدليل انقطع، وكانت الحجة لمن يقول‏:‏ ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود والركوع المعروفين‏.‏
    ثم يقال‏:‏ لو وجد استعمال لفظ ‏[‏الركوع والسجود‏]‏ في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدًا، ولكان الراغم أنفه وهو الذي لصق أنفه بالرُّغام وهو التراب ساجدًا، لا سيما عند المنازع الذي يقول‏:‏ يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة‏.‏ فيكون نقر الأرض بالأنف سجودًا، ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم، كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجودًا، ولو كان ذلك كذلك لكان يقال للذى يضع وجهه على الأرض، ليمص شيئًا على الأرض، أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك‏:‏ ساجدًا‏.‏
    وأيضًا، فإن اللّه أوجب المحافظة والإدامة على الصلاة، وذم إضاعتها

    ج/ 22 ص -571-والسهو عنها، فقال في أول سورة المؤمنين‏:‏ ‏"‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1 - 9‏]‏، وقد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة‏.‏ وكذلك في سورة سأل سائل قال‏:‏‏"‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏"‏[‏المعارج‏:‏19-34‏]‏‏.‏ فذم الإنسان كله إلا ما استثناه‏.‏ فمن لم يكن متصفًا بما استثناه كان مذموما، كما في قوله تعالى‏:‏‏"‏وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏"‏ ‏[‏سورة العصر‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏"‏[‏الماعون‏:‏ 4، 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏‏.‏

    ج/ 22 ص -572- وهذه الآيات تقتضي ذم من ترك شيئًا من واجبات الصلاة، وإن كان في الظاهر مصليًا، مثل أن يترك الوقت الواجب، أو يترك تكميل الشرائط والأركان من الأعمال الظاهرة والباطنة، وبذلك فسرها السلف‏.‏ ففي تفسير عبد بن حميد وذكره عن ابن المنذر في تفسيره من حديث عبد حدثنا روح، عن سعيد، عن قتادة‏:‏ ‏"‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 9‏]‏‏.‏ على وضوئها ومواقيتها وركوعها‏.‏ وروى أبو بكر بن المنذر في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن، عن عبد اللّه قال‏:‏ قيل لعبد اللّه‏:‏ إن اللّه أكثر ذكر الصلاة في القرآن ‏"‏الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ‏"‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 32‏]‏، ‏"‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏] و‏"‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 9‏]‏ فقال عبد اللّه‏:‏ ذلك على مواقيتها فقالوا‏:‏ ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك‏.‏ قال‏:‏ تركها كفر‏.‏ وروى سعيد بن منصور‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قول اللّه‏:‏ ‏"‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏"‏ قال‏:‏ على مواقيتها، فقالوا‏:‏ ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن، إلا الترك‏.‏ قال‏:‏ تركها كفر‏.‏ وروى من حديث سعيد بن أبي مريم‏:‏ ‏"‏الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏"‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 5‏]‏، بتضييع ميقاتها‏.‏ وروى عن أبي ثور عن ابن جُرَيْج في قوله‏:‏ ‏"‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏"‏ المكتوبة، والتي في ‏"‏سَأَلَ سَائِلٌ‏"‏‏:‏ التطوع‏.‏، وهذا قول ضعيف‏.

    ج/ 22 ص -573-فصل
    وأما القدر المشروع للإمام‏:‏ فهي صلاة رسول اللّه ﷺ، كما في صحيح البخاري عن أبي قِلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال‏
    :‏‏"‏إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم، ثم صلوا كما رأيتمونى أصلي‏"‏‏.‏
    وأما‏[‏القيام‏]‏‏:‏ ففي صحيح مسلم عن جابر بن سَمُرَة‏:‏ أن النبي ﷺ كان يقرأ في الفجر ب ‏"‏ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ‏"‏ ونحوها، وكانت صلاته بعد إلى تخفيف‏.‏ أي‏:‏ يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة، كما في صحيح مسلم أيضًا عنه قال‏:‏ كان رسول اللّه ﷺ يقرأ في الظهر ب ‏"‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏"‏، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال‏:‏ كان رسول اللّه ﷺ يصلي الهجير التي تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية قال الراوي‏:‏ ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر العشاء، التي تدعونها العتمة‏.‏

    ج/ 22 ص -574- وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة‏"‏‏.‏
    وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال‏:‏ حَزَرْنا قيام رسول اللّه ﷺ في الظهر والعصر‏.‏ فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر‏:‏ قدر ثلاثين آية، قدر ‏[‏الم السجدة‏]‏‏.‏ وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر‏.‏ وحزرنا قيامه في الآخرتين من العصر على النصف من ذلك‏.‏ رواه مسلم وأبو داود والنسائي‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين وغيرهما عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال عمر لسعد بن أبي وقاص‏:‏ لقد شَكَاك الناسُ في كل شيء حتى في الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين‏.‏ ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول اللّه ﷺ‏.‏ قال‏:‏ ذاك الظن بك يا أبا? إسحاق‏.‏ وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي سعيد رضي اللّه عنه قال‏:‏ لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البَقِيع فيقضى حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول اللّه ﷺ في الركعة الأولى مما يطيلها‏.‏ وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي وائل قال‏:‏ خطبنا عمار بن ياسر يومًا، فأوجز وأبلغ، فقلنا‏:‏ يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست‏.‏ فقال‏:‏ إني سمعت رسول اللّه ﷺ
    يقول‏:‏ ‏"‏إن طول صلاة الرجل وقِصَر

    ج/ 22 ص -575- خطبته مَئنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، إن من البيان سحرًا‏"‏‏.‏
    وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنت أصلي مع النبي ﷺ الصلوات‏.‏ فكانت صلاته قصدًا‏.‏ أي‏:‏ وسطًا‏.‏
    وفعله الذي سَنَّه لأمته هو من التخفيف الذي أمر به الأئمة؛ إذ التخفيف من الأمور الإضافية، فالمرجع في مقداره إلى السنة‏.‏ وذلك كما خرجاه في الصحيحين عن جابر رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان معاذ يصلي مع النبي ﷺ، ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة‏:‏ ثم يرجع فيصلي بقومه فأخبر النبي ﷺ وقال مرة‏:‏ العشاء؛ فصلى معاذ مع النبي ﷺ، ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة‏.‏ فاعتزل رجل من القوم فصلى‏.‏ فقيل‏:‏ نافقت‏.‏ فقال‏:‏ ما نافقت‏.‏ فأتى النبي ﷺ‏.‏ فقال‏:‏ إن معاذًا يصلي معك، ثم يرجع فيؤمنا يارسول اللّه، إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا، فقرأ سورة البقرة، فقال‏:
    ‏ ‏"‏أفتان أنت يا معاذ‏؟‏ اقرأ بكذا، اقرأ بكذا‏"‏‏.‏ قال أبو الزبير‏:‏ ‏"‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏"‏، ‏"‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏"‏‏.‏ وفي رواية للبخاري عن جابر رضي اللّه عنه قال‏:‏ أقبل رجل بناضحين، وقد جنح الليل، فوافق معاذا

    ج/ 22 ص -576- يصلي وذكر نحوه، فقال في آخره‏:‏ ‏"‏فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى‏.‏ فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول اللّه ﷺ فقال‏:‏ إني لأتاخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت رسول اللّه غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏فإن فيهم الضعيف والكبير‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة‏"‏‏.‏
    وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز، كراهية أن أشق على أمه‏"‏‏.‏
    وأما ‏[‏مقدار بقية الأركان مع القيام‏]‏‏:‏ فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك بن عبد اللّه ابن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ماصليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي ﷺ‏"‏‏.‏ وفي رواية عن شريك عنه‏:‏ ‏"‏وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف، مخافة أن تفتتن أمه‏"‏‏.‏ وأخرجا فيهما من حديث

    ج/ 22 ص -577- عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان النبي ﷺ يوجز الصلاة ويكملها‏.‏ وفي لفظ‏:‏ يوجز الصلاة ويتم‏.‏
    وأخرجا أيضًا عن أبي قتادة عن أنس رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز من صلاتي، مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه‏"‏ رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رسول اللّه ﷺ يسمع بكاء الصبي مع أمه، وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة، أو بالسورة القصيرة‏.‏
    وروى مسلم أيضًا عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول اللّه ﷺ‏.‏ وكانت صلاته متقاربة، وصلاة أبي بكر متقاربة‏.‏ فلما كان عمر رضي اللّه عنه مد في صلاة الصبح‏.‏ وعن قتادة عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه ﷺ كان من أخف الناس صلاة في تمام‏.‏
    فقول أنس رضي اللّه عنه ‏:‏ ‏"‏ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول اللّه‏"‏ يريد‏:‏ أنه ﷺ كان أخف

    ج/ 22 ص -578- الأئمة صلاة، وأتم الأئمة صلاة‏.‏ وهذا لاعتدال صلاته وتناسبها‏.‏ كما في اللفظ الآخر‏:‏ ‏"‏وكانت صلاته معتدلة‏"‏ وفي اللفظ الآخر‏:‏ ‏"‏وكانت صلاته متقاربة‏"‏ لتخفيف قيامها وقعودها، وتكون أتم صلاة لإطالة ركوعها وسجودها، ولو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك؛ ولهذا بين التخفيف الذي كان يفعله إذا بكى الصبي‏.‏ وهو قراءة سورة قصيرة‏.‏ وبين أن عمر بن الخطاب مد في صلاة الصبح، وإنما مد في القراءة، فإن عمر رضي اللّه عنه كان يقرأ في الفجر بسورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف‏.‏
    والذي يبين ذلك‏:‏ ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال‏:‏ ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول اللّه ﷺ في تمام‏.‏ وكان رسول اللّه ﷺ إذا قال‏:
    ‏ ‏"‏سمع اللّه لمن حمده‏"‏ قام حتى نقول‏:‏ قد أوهم، ثم يكبر ويسجد‏.‏ وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول‏:‏ قد أوهم‏.‏ كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول اللّه ﷺ يصلي بنا‏.‏ قال ثابت‏:‏ فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل‏:‏ قد نسي‏.‏ وللبخاري من حديث

    ج/ 22 ص -579- شعبة عن ثابت قال‏:‏ قال أنس رضي اللّه عنه ينعت لنا صلاة رسول اللّه ﷺ ‏:‏ وكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل‏:‏ قد نسي‏.‏
    فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي ﷺ التي كان يوجزها ويكملها، والتي كانت أخف الصلاة وأتمها أنه ﷺ كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل‏:‏ إنه قد نسي، ويقعد بين السجدتين حتى يقول القائل‏:‏ قد نسي‏.‏ وإذا كان في هذا يفعل ذلك، فمن المعلوم باتفاق المسلمين والسنة المتواترة‏:‏ أن الركوع والسجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين، بل كثير من العلماء يقول‏:‏ لا يشرع ولا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع والسجود، بل ينقصان عن الركوع والسجود‏.‏
    وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال‏:‏ غلب على الكوفة رجل قد سماه زَمَن ابن الأشعث، وسماه غُنْدَر في رواية‏:‏ مطر بن ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد اللّه أن يصلي بالناس فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول‏:‏ ‏"‏اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بَعْدُ، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏‏.‏ قال الحكم‏:‏ فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي

    ج/ 22 ص -580- ليلى‏.‏ قال‏:‏ سمعت البراء بن عازب يقول‏:‏ كانت صلاة رسول اللّه ﷺ‏.‏ قيامه وركوعه، وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين‏:‏ قريبًا من السواء‏.‏ قال شعبة‏:‏ فذكرته لعمرو بن مُرَّة‏.‏ فقال‏:‏ قد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فلم تكن صلاته هكذا‏.‏ ولفظ مطر عن شعبة‏:‏ كان ركوع النبي ﷺ وسجوده وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء‏.‏ وهو في الصحيح والسنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال‏:‏ رمقت الصلاة مع محمد ﷺ‏.‏ فوجدت قيامه، فركوعه، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف‏:‏ قريبًا من السواء‏.‏
    ويشهد لهذا ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه ﷺ كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع‏:‏ ‏"‏سمع الّله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد‏:‏ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏"‏أحق ما قال العبد‏"‏ هكذا هو في الحديث‏.‏ وهو

    ج/ 22 ص -581- خبر مبتدأ محذوف‏.‏ وأما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء والصوفية من قوله‏:‏ ‏"‏حق ما قال العبد‏"‏ فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والسنة، ليس له أصل في الأثر‏.‏ ومعناه أيضًا فاسد؛ فإن العبد يقول الحق والباطل، وأما الرب سبحانه وتعالى فهو يقول الحق ويهدى السبيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 84‏]‏‏.‏
    وأيضًا، فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على اللّه عز وجل‏.‏
    وروى مسلم وغيره عن عطاء، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ‏:‏ أن النبي ﷺ كان إذا رفع رأسه من الركوع قال‏:‏ ‏
    "‏اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد‏:‏ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏‏.‏
    وروى مسلم وغيره عن عبد اللّه بن أبي أوْفي قال‏:‏ كان رسول اللّه ﷺ إذا رفع رأسه من الركوع يقول‏:‏ ‏"‏سمع اللّه لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد‏"‏‏.‏ وفي رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا‏:‏ أنه

    ج/ 22 ص -582- كان يقول‏:‏ ‏"‏اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس‏"‏‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فإذا كانت هذه صلاة رسول اللّه ﷺ التي اتفق الصحابة رضي اللّه عنهم على نقلها عنه‏.‏وقد نقلها أهل الصحاح والسنن والمسانيد من هذه الوجوه وغيرها، والصلاة عمود الدين، فكيف خفي ذلك على طائفة من فقهاء العراق وغيرهم، حتى لم يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقاربة للركوع والسجود، ولا استحبوا في ذلك ذكرًا أكثر من التحميد بقول‏:‏ ‏"‏ربنا لك الحمد‏"‏، حتى إن بعض المتفقهة قال‏:‏ إذا طال ذلك طولاً كثيرًا بَطَلَت صلاته‏؟‏‏!‏
    قيل‏:‏ سبب ذلك وغيره‏:‏ أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها بالمسلمين الأمراء وولاة الحرب‏.‏ فوالي الجهاد كان هو أمير الصلاة على عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس‏.‏ والخليفة هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس والجمعة، لا يعرف المسلمون غير ذلك، وقد أخبر النبي ﷺ بما سيكون بعده من تغير الأمراء، حتى قال
    ‏:‏ ‏"‏سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏"‏، فكان من هؤلاء من يؤخرها

    ج/ 22 ص -583- عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها، كما أن بعضهم كان لا يتم التكبير، أي لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره، ومنهم من لا يتم الاعتدالين‏.‏ وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير، ويهرم فيه الكبير، حتى إن كثيرًا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك‏.‏ فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك‏.‏ كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن عِكْرِمة قال‏:‏ صليت خلف شيخ بمكة، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة‏.‏ فقلت لابن عباس‏:‏ إنه لأحمق‏.‏ فقال‏:‏ ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم ﷺ‏.‏
    وفي رواية أبي بشر عن عكرمة قال‏:‏ رأيت رجلاً عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال‏:‏ أو ليس تلك صلاة رسول اللّه ﷺ‏؟‏ لا أمَّ لك‏.‏ وهذا يعني به‏:‏ أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير‏.‏ فكان الأئمة الذين يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك، وابن عباس لم يكن إمامًا حتى يعرف ذلك منه، فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس، وأما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على أحد وهذا كما أن عامة الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير، بل يفعل ذلك المؤذن ونحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة‏.‏ ولا خلاف

    ج/ 22 ص -584- بين أهل العلم أن هذه ليست هي السنة، بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبي ﷺ أن المؤذن وغيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائمًا‏.‏ كما أن بلالاً لم يكن يجهر بذلك خلف النبي ﷺ، لكن إذا احتيج إلى ذلك، لضعف صوت الإمام، أو بعد المكان، فهذا قد احتجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه كان يُسْمع الناس التكبير خلف النبي ﷺ في مرضه، حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة، هل يبطل صلاته أم لا‏؟‏
    ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين والسنن عن مطرف بن عبد اللّه بن الشِّخِّير قال‏:‏ صليت خلف على بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر‏.‏ فلما قضى الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي‏.‏ فقال‏:‏ قد ذكرني هذا صلاة محمد ﷺ، أو قال‏:‏ لقد صلى بنا صلاة محمد ﷺ‏.‏ ولهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران ومطرف، كما سمعه غيرهما‏.‏
    ومثل هذا ما في الصحيحين والسنن أيضًا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ‏:‏ أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها‏:‏ يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر

    ج/ 22 ص -585- حين يقوم من الجلوس من الثنتين‏:‏ يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف‏:‏ والذي نفسي بيده، إني لأقربكم شبها بصلاة رسول اللّه ﷺ، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا‏.‏
    وهذا كان يفعله أبو هريرة رضي اللّه عنه لما كان أميرًا على المدينة، فإن معاوية كان يعاقب بينه وبين مروان بن الحكم في إمارة المدينة، فيولي هذا تارة ويولي هذا تارة‏.‏ وكان مروان يستخلف، وكان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه بصلاة ﷺ من صلاة مروان وغيره من أمراء المدينة‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏"‏في المكتوبة وغيرها‏"‏ يعني‏:‏ ما كان من النوافل، مثل قيام رمضان‏.‏ كما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي سلمة‏:‏ أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره، فيكبر حين يقوم، ويكبر حين يركع، ثم يقول‏:‏ سمع اللّه لمن حمده، ثم يقول‏:‏ ربنا لك الحمد‏.‏ وذكر نحوه‏.‏
    وكان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره، فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه، كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة‏:‏

    ج/ 22 ص -586- أن أبا هريرة رضي اللّه عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع‏.‏ فقلت‏:‏ يا أبا هريرة، ماهذا التكبير‏؟‏ قال‏:‏ إنها لصلاة رسول اللّه ﷺ‏.‏ وهذا كله معناه‏:‏ جهر الإمام بالتكبير؛ ولهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت، وفعله في كل خفض ورفع‏.‏
    يبين ذلك‏:‏ أن البخاري ذكر في ‏[‏باب التكبير عند النهوض من الركعتين‏]‏ قال‏:‏ وكان ابن الزبير يكبر في نهضته، ثم روى البخاري من حديث فُلَيْح بن سليمان عن سعيد بن الحارث‏.‏ قال‏:‏ صلى لنا أبو سعيد، فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد وحين رفع، وحين قام من الركعتين‏.‏ وقال‏:‏ هكذا رأيت رسول اللّه ﷺ‏.‏ ثم أردفه البخاري بحديث مطرف‏:‏ قال‏:‏ صليت أنا وعمران بن حصين خلف على بن أبي طالب رضي اللّه عنه فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي‏.‏ فقال‏:‏ لقد صلى بنا هذا صلاة محمد ﷺ، أو قال‏:‏ لقد ذكرني هذا صلاة محمدﷺ‏.‏
    فهذا يبين أن الكلام إنما هو في الجهر بالتكبير، وأما أصل التكبير‏:‏ فلم يكن مما يخفى على أحد‏.‏ وليس هذا أيضًا مما يجهل،

    ج/ 22 ص -587- هل يفعله الإمام أم لا يفعله‏؟‏ فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة‏.‏ كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة، ونفي التسبيح في الركوع والسجود، ونفي القراءة في الركعتين الآخرتين ونحو ذلك‏.‏
    ولهذا استدل بعض من كان لا يتم التكبير، ولا يجهر به، بما روى عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى عن أبيه‏:‏ أنه صلى مع رسول اللّه ﷺ‏.‏ وكان لا يتم التكبير‏.‏ رواه أبو داود والبخاري في التاريخ الكبير‏.‏ وقد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال‏:‏ هذا عندنا باطل‏.‏ وهذا إن كان محفوظًا فلعل ابن أبزى صلى خلف النبي ﷺ في مؤخر المسجد‏.‏ وكان النبي ﷺ صوته ضعيفًا، فلم يسمع تكبيره، فاعتقد أنه لم يتم التكبير، وإلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك‏.‏ فلو خلافها كان شاذًا لا يتلفت إليه، ومع هذا فإن كثيرًا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرًا، وأن علي بن أبي طالب وأبا هريرة وغيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات‏.‏ ولازم هذا‏:‏ أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها ولا رفعها‏.‏
    وهذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال، ولو كان المراد التكبير سرًا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته؛ فإن المأموم

    ج/ 22 ص -588- لا يعرف ذلك من إمامه، ولا يسمى ترك التكبير بالكلية تركًا؛ لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الافتتاح دون الانتقالات، وليس كذلك السنة، بل الأحاديث المروية تبين أن رفع الإمام وخفضه كان في جميعها التكبير‏.‏ وقد قال إسحاق بن منصور‏:‏ قلت‏:‏ لأحمد بن حنبل‏:‏ ما الذي نقصوا من التكبير‏؟‏ قال‏:‏ إذا انحط إلى السجود من الركوع، وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة‏.‏
    فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير، بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك واللّه أعلم لأن الخفض يشاهد بالأبصار، فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام، لأنه يرى ركوعه ويرى سجوده، بخلاف الرفع من الركوع والسجود، فإن المأموم لا يرى الإمام، فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره‏.‏
    ويدل على صحة ما قاله أحمد، من حديث ابن أبزى‏:‏ أنه صلى خلف النبي ﷺ فلم يتم التكبير، وكان لا يكبر إذا خفض‏.‏ هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن الحسن ابن عمران، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه‏.‏
    وقد ظن أبو عمر ابن عبد البر كما ظن غيره أن هؤلاء

    ج/ 22 ص -589- السلف ما كانوا يكبرون في الخفض والرفع‏.‏ وجعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب؛ لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب، حتى إنه قد روي عن ابن عمر‏:‏ أنه كان يكبر إذا صلى وحده في الفرض، وأما التطوع فلا‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لا يحكى أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله‏.‏
    قال‏:‏ وأما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر‏:‏ أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إمامًا وغير إمام‏.‏
    قلت‏:‏ ما روى مالك لا ريب فيه‏.‏ والذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك، ولكن غلط ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد‏.‏ فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر، لم يكن التكبير في الصلاة، ولهذا فرق أحمد بين الفرض والنفل، فقال‏:‏ أحب إلى أن يكبر في الفرض دون النفل‏.‏ ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض والنفل، بل ظاهر مذهبه‏:‏ أن تكبير الصلاة واجب في النفل، كما أنه واجب في الفرض‏.‏ وإن قيل‏:‏ هو سنة في الفرض قيل‏:‏ هو سنة في النفل‏.‏ فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره‏.‏
    وأما الذي ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردًا،

    ج/ 22 ص -590- فهو مشهور عنه‏.‏
    وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة‏.‏ وقد قال ابن عبد البر، لما ذكر حديث أبي سلمة‏:‏ إن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي لهم، فيكبر كلما خفض ورفع، فلما انصرف، قال‏:‏ والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ‏.‏ فقال ابن عبد البر‏:‏ إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك، ويدل عليه ما رواه ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ثلاث كان رسول الله ﷺ يفعلهن، وتركهن الناس‏:‏ كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا، وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله، وكان يكبر كلما رفع وخفض‏.‏ قلت‏:‏ هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة والفقهاء ممن لا يرفع إلى دين ولا يوجب التكبير، ومن لا يستحب الاستفتاح والاستعاذة، ومن لا يجهر من الأئمة بتكبير الانتقال‏.‏
    قال‏:‏ وقد قال قوم من أهل العلم‏:‏ إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام وشعار للصلاة، وليس بسنة إلا في الجماعة، أما من صلى وحده فلا بأس عليه ألا يكبر؛ ولهذا ذكر مالك هذا الحديث وحديث ابن شهاب عن على بن حسين قال‏:‏ كان رسول الله ﷺ، يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز وجل‏.‏ وحديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهم ‏:‏

    ج/ 22 ص -591- أنهما كانا يكبران كلما خفضًا ورفعًا في الصلاة‏.‏ فكان جابر يعلمهم ذلك‏.‏ قال‏:‏ فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة‏.‏
    قلت‏:‏ ما ذكره مالك، فكما ذكره‏.‏ وأما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف، فلم أجده ذكر لذلك أصلاً، إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين‏:‏ أن التكبير مشروع في الصلوات، وإنما ذكر ذلك مالك وغيره والله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير‏.‏ وقد قال ابن عبد البر‏:‏ روي ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله الفهري، أن عبد الله بن عمر كان يقول‏:‏ لكل شيء زينة، وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها‏.‏ وإذا كان ابن عمر يقول ذلك، فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده‏؟‏ هذا لا يظنه عاقل بابن عمر‏.‏
    قال ابن عبد البر‏:‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم‏:‏ أنهم كانوا لا يتمون التكبير‏.‏ وذكر ذلك أيضًا عن القاسم وسالم وسعيد بن جبير‏.‏ وروي عن أبي سلمة‏:‏ عن أبي هريرة‏:‏ أنه كان يكبر هذا التكبير‏.‏ ويقول‏:‏ إنها لصلاة رسول الله ﷺ‏.‏ قال‏:‏ وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه، وفي ترك الناس

    ج/ 22 ص -592- له من غير نكير من واحد منهم، ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة‏.‏
    قلت‏:‏ لا يمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به، فأما ترك الإمام التكبير سرًا فلا يجوز أن يدعي تركه، إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة، ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع، بل قالوا‏:‏ كانوا لا يتمونه‏.‏ ومعنى ‏[‏لا يتمونه‏]‏‏:‏ لا ينقصونه، ونقصه‏:‏ عدم فعله في حال الخفض كما تقدم من كلامه‏.‏ وهو نقص بترك رفع الصوت به، أو نقص له بترك ذلك في بعض المواضع‏.‏
    وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ صلىت خلف رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض‏.‏ قال‏:‏ وهذا معارض لما روي عن عمر‏:‏ أنه كان لا يتم التكبير‏.‏ وروي عن سعيد ابن عبد العزيز عن الزهري قال‏:‏ قلت‏:‏ لعمر بن عبد العزيز‏:‏ ما منعك أن تتم التكبير وهذا عاملك عبد العزيز يتمه‏؟‏ فقال‏:‏ تلك صلاة الأول، وأبى أن يقبل مني‏.‏
    قلت‏:‏ وإنما خفي على عمر بن عبد العزيز وعلى هؤلاء الجهر بالتكبير، كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا، وقبله ما ذكره ابن

    ج/ 22 ص -593- أبي شيبة، أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم‏.‏ قال‏:‏ أول من نقص التكبير زياد‏.‏
    قلت‏:‏ زياد كان أميرًا في زمن عمر، فيمكن أن يكون ذلك صحيحًا‏.‏ ويكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره‏.‏ وروي عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ لقد ذكرنا على صلاة كنا نصلىها مع رسول الله ﷺ‏:‏ إما نسيناها، وإما تركناها عمدًا، وكان يكبر كلما رفع وكلما وضع وكلما سجد‏.‏
    ومعلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد، وهم أئمة، ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله ﷺ، رأوا من شاهدوهم من أهل العلم والدين لا يعرفون غير ذلك، فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة‏.‏ وحصل بذلك نقصان في وقت الصلاة وفعلها‏.‏ فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها؛ كما كان الأئمة يفعلون ذلك‏.‏ وكذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله ﷺ، حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده‏:‏ أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏
    "‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏59‏]‏ فكان يقول‏:‏ كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، إذا ترك فيها

    ج/ 22 ص -594- شيء، قيل‏:‏ تركت السنة‏.‏ فقيل‏:‏ متي ذلك يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ فقال‏:‏ ذلك إذا ذهب علماؤكم، وقلت فقهاؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين‏.‏ وكان عبد الله بن مسعود يقول أيضًا‏:‏ أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال‏:‏ أمور تكون من كبرائكم، فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول، فالسمت الأول‏.‏
    ومن هذا الباب‏:‏ أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه وعمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضي الله عنه? فقال ما رواه أبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ‏:‏ ما صليت وراء أحد بعد رسول الله ﷺ أشبه صلاة برسول الله ﷺ من هذا الفتي يعني عمر بن عبد العزيز‏.‏ قال‏:‏ فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات‏.‏ وهذا كان في المدينة، مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار‏.‏ فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك، والمدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله ﷺ أو نحو هذا، ولكن كانوا قد غيروا أيضًا بعض السنة‏.‏ ومن اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط، فإن أنس بن مالك رضي

    ج/ 22 ص -595- الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز، بل مات قبل ذلك بسنتين‏.‏
    وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات‏:‏ سبحان ربي العظيم وذلك أدناه وإذا سجد فليقل‏:‏ سبحان ربي الأعلى ثلاثًا وذلك أدناه‏"‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ هذا مرسل، عون لم يدرك عبد الله بن مسعود‏.‏ وكذلك قال البخاري في تاريخه‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ ليس إسناده بمتصل، عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود، عون هو من علماء الكوفة المشهورين، وهو من أهل بيت عبد الله‏.‏ وقيل‏:‏ إنما تلقاه من علماء أهل بيته‏.‏ فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد، حتى صاروا يقولون في الثلاث‏:‏ إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع‏.‏ وذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا‏.‏
    فقول من يقول من الفقهاء‏:‏ إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وغيرهم، هو من جنس قول من يقول‏:‏ من السنة ألا يطيل الاعتدال بعد الركوع، أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، أو نحو ذلك‏.‏ فإن

    ج/ 22 ص -596- الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلاً، بل الأحاديث المستفيضة عن النبي ﷺ، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، تبين أنه ﷺ كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك، كما تقدم دلالة الأحاديث عليه‏.‏ ولكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء‏"‏، ولم يعرفوا مقدار التطويل، ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال لمعاذ‏:‏ ‏"‏أفَتَّان أنت يا معاذ‏؟‏‏"‏، فجعلوا هذا برأيهم قدرًا للمستحب، ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة، فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد‏.‏ إذ النبي ﷺ كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات، وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم، فيجب البحث عما سنه رسول الله ﷺ، ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي، وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله ﷺ، لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس‏.‏
    ومما يبين هذا‏:‏ أن التخفيف أمر نسبي إضافي، ليس له حد في اللغة ولا في العرف؛ إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف

    ج/ 22 ص -597- هؤلاء ما يستطيله هؤلاء، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ومقادير العبادات، ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية‏.‏
    فعلم أن الواجب على المسلم‏:‏ أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة، وبهذا يتبين أن أمره ﷺ بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضًا‏.‏ في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال‏:‏ إن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة‏"‏‏.‏ وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما؛ فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة، والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"‏فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء‏"‏‏.‏
    فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة، بخلاف الإمام؛ لأجل مراعاة المأمومين‏.‏ فإن خلفه السقيم والكبير وذا الحاجة؛ ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض، كما قال ﷺ‏:‏
    ‏"‏إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأخفف لما أعلم من وَجْد أمه‏"‏‏.‏ وبذلك علل النبي ﷺ فيما تقدم من حديث ابن مسعود‏.‏

    ج/ 22 ص -598- وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة‏.‏ وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء‏"‏‏.‏ وفي رواية ‏"‏فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة‏"‏‏.‏
    ولهذا كان النبي ﷺ يقصرها أحيانًا عما كان يفعل غالبًا، كما روي مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال‏:‏ كأني أسمع صوت النبي ﷺ يقرأ في صلاة الغداة‏:‏ ‏
    "‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ‏"‏[‏التكوير‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ وروي أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة‏.‏ وكان يطول أحيانًا، حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏:‏ أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ‏:‏ ‏"‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا‏"‏ فقالت‏:‏ يا بني، لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله ﷺ يقرأ بها في المغرب‏.‏ وفي الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله ﷺ يقرأ بالطور في المغرب‏.‏ وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال‏:‏ قال لي زيد بن ثابت‏:‏ مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله ﷺ يقرأ في المغرب بطولي الطوليين‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ ما طولي الطوليين‏؟‏ قال‏:‏ الأعراف‏.‏

    ج/ 22 ص -599- فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث‏.‏ وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور، وتارة بالمرسلات، مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر من القراءة في الفجر‏.‏ فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها‏؟‏
    ومن هذا الباب‏:‏ ما روي وَكِيع عن منصور عن إبراهيم النَّخَعي قال‏:‏ كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه‏.‏ قال أبو محمد ابن حزم‏:‏ العيب على من عاب عمل رسول الله ﷺ وعول على من لا حجة فيه‏.‏
    قلت‏:‏ قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح، وموافقته لفعل رسول الله ﷺ‏.‏ وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث، لم يكونوا من الصحابة، ولا عرف أنهم من أعيان التابعين‏.‏ وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود، فابن ابن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه، بل الإمام الراتب كان غيره، وابن ابن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين‏.‏
    فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة، إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة

    ج/ 22 ص -600- التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية، ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء‏.‏
    يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة وتوفي قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله‏.‏ فإن علقمة توفي سنة إحدي أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد، وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك‏.‏ وكذلك مسروق، قيل‏:‏ إنه توفي قبل السبعين أيضًا‏.‏ وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه‏.‏
    فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد اللهبن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك، مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي‏.‏ وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك، وهم رأوا ذلك، وهم أخذوا العلم عن عبد الله ونحوه‏.‏ فقد تبين أن الأمر ليس كذلك‏.

    ج/ 22 ص -601-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل لا يطمئن في صلاته‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الطمأنينة في الصلاة واجبة، وتاركها مسيء باتفاق الأئمة، بل جمهور أئمة الإسلام؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وأبو حنيفة، ومحمد، لا يخالفون في أن تارك ذلك مسيء غير محسن، بل هو آثم عاص، تارك للواجب‏.‏
    وغيرهم يوجبون الإعادة على من ترك الطمأنينة‏.‏ ودليل وجوب الإعادة ما في الصحيحين‏:‏ أن رجلاً صلى في المسجد ركعتين، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ‏.‏ فقال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏ارجع فصل، فإنك لم تصل‏"‏، مرتين أو ثلاثًا فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق، ما أحسن غير هذا‏.‏ فعلمني ما يجزئني في صلاتي، فقال‏:‏ ‏"‏إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها‏"‏‏.‏ فهذا كان رجلاً جاهلاً، ومع هذا فأمره النبي

    ج/ 22 ص -602- ﷺ أن يعيد الصلاة، وأخبره أنه لم يصل، فتبين بذلك أن من ترك الطمأنينة فقد أخبر الله ورسوله أنه لم يصل، فقد أمره الله ورسوله بالإعادة‏.‏ ومن يعص الله ورسوله فله عذاب أليم‏.‏
    وفي السنن عن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏لا يقبل الله صلاة رجل لا يقيم صُلْبَه في الركوع والسجود‏"‏ يعني يقيم صلبه إذا رفع من الركوع وإذا رفع من السجود‏.‏ وفي الصحيح أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلاً لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال‏:‏ منذ كم تصلي هذه الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ منذ كذا وكذا، فقال‏:‏ أما إنك لو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا ﷺ‏"‏‏.‏
    وقد روى هذا المعنى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعًا إلى النبي ﷺ، وأنه قال لمن نقر في الصلاة‏:‏
    ‏"‏أما إنك لو مت على هذا مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا ﷺ‏"‏ أو نحو هذا‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه وسجوده، مثل الذي يأكل لقمة أو لقمتين، فما تغني عنه‏"‏‏.‏
    وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني

    ج/ 22 ص -603- شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً‏"‏‏.‏ وقد كتبنا في ذلك من دلائل الكتاب والسنة في غير هذا الموضع، ما يطول ذكره هنا والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عمن يحصل له الحضور في الصلاة تارة، ويحصل له الوسواس تارة، فما الذي يستعين به على دوام الحضور في الصلاة‏؟‏ وهل تكون تلك الوساوس مبطلة للصلاة‏؟‏ أو منقصة لها أم لا‏؟‏ وفي قول عمر‏:‏ إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة‏.‏ هل كان ذلك يشغله عن حاله في جمعيته أو لا‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، الوسواس لا يبطل الصلاة إذا كان قليلاً باتفاق أهل العلم، بل ينقص الأجر، كما قال ابن عباس‏:‏ ليس لك من صلاتك إلا ما عَقِلْتَ منها‏.‏
    وفي السنن عن النبي ﷺ أنه
    قال‏:‏ ‏"‏إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها‏"‏‏.‏

    ج/ 22 ص -604- ويقال‏:‏ إن النوافل شرعت لجبر النقص الحاصل في الفرائض، كما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن أكملها، وإلا قيل‏:‏ انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر أعماله‏"‏‏.‏ وهذا الإكمال يتناول ما نقص مطلقًا‏.‏
    وأما الوسواس الذي يكون غالبًا على الصلاة فقد قال طائفة منهم أبو عبد الله بن حامد، وأبو حامد الغزالي وغيرهما ‏:‏ إنه يوجب الإعادة أيضًا، لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان، وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم‏"‏‏.‏ وقد صح عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏الصلاة مع الوسواس مطلقًا‏"‏‏.‏ ولم يفرق بين القليل والكثير‏.‏
    ولا ريب أن الوسواس كلما قل في الصلاة كان أكمل، كما في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏إن من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لم يحدث

    ج/ 22 ص -605- فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏‏.‏ وكذلك في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بوجهه، وقلبه غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏‏.‏
    وما زال في المصلين من هو كذلك، كما قال سعد بن معاذ رضي الله عنه ‏:‏ في ثلاث خصال، لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن كنت أنا أنا؛ إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه؛ وإذا سمعت من رسول ﷺ حديثًا لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول، ويقال لها‏.‏ وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد، فانهدم طائفة منه وقام الناس، وهو في الصلاة لم يشعر‏.‏ وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه‏.‏ وقالوا لعامر بن عبد القيس‏:‏ أتحدث نفسك بشيء في الصلاة فقال‏:‏ أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال‏:‏ أبالجنة والحور ونحو ذلك‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال‏:‏ لأن تختلف الأسنة في أحب إلي‏.‏ وأمثال هذا متعدد‏.‏
    والذي يعين على ذلك شيئان‏:‏ قوة المقتضي، وضعف الشاغل‏.‏
    أما الأول‏:‏ فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبر

    ج/ 22 ص -606- القراءة والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناج لله تعالى، كأنه يراه، فإن المصلي إذا كان قائمًا فإنما يناجي ربه‏.‏ والإحسان‏:‏ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان‏.‏ والأسباب المقوية للإيمان كثيرة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة‏"‏‏.‏ وفي حديث آخر أنه قال‏:‏ ‏"‏أرحنا يابلال بالصلاة‏"‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ أرحنا منها‏.‏ وفي أثر آخر‏:‏ ‏"‏ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهمومًا حتى يقوم إلى الصلاة‏"‏، أو كلام يقارب هذا‏.‏ وهذا باب واسع‏.‏
    فإن ما في القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته، وإخلاص الدين له، وخوفه ورجائه، والتصديق بأخباره، وغير ذلك، مما يتباين الناس فيه، ويتفاضلون تفاضلاً عظيمًا، ويقوي ذلك كلما ازداد العبد تدبرًا للقرآن، وفهمًا، ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وتفقره إليه في عبادته واشتغاله به، بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب، فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه، ويأنس به، ويلتذ بذكره، ويستريح به، ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله، ومتى كان

    ج/ 22 ص -607- للقلب إله غير الله فسد وهلك هلاكًا لا صلاح معه، ومتي لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه‏.‏
    ولهذا يروى أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها في الكتب الأربعة، وجمع الكتب الأربعة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله‏:
    ‏ ‏"‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏‏.‏ ونظير ذلك قوله‏:‏ ‏"‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏"‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏"‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 65‏]‏، ولهذا قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله‏"‏‏.‏ وبسط هذا طويل لا يحتمله هذا الموضع‏.‏
    وأما زوال العارض، فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه، فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها‏.‏

    ج/ 22 ص -608- والوساوس إما من قبيل الحب، من أن يخطر بالقلب ما قد كان أو من قبيل الطلب، وهو أن يخطر في القلب ما يريد أن يفعله‏.‏ ومن الوساوس ما يكون من خواطر الكفر والنفاق، فيتألم لها قلب المؤمن تألمًا شديدًا، كما قال الصحابة‏:‏ يارسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال‏:‏ ‏"‏أوجدتموه‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ذلك صريح الإيمان‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به، فقال‏:‏ ‏"‏الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة‏"‏‏.‏
    قال كثير من العلماء‏:‏ فكراهة ذلك وبغضه، وفرار القلب منه، هو صريح الإيمان، والحمد لله الذي كان غاية كيد الشيطان الوسوسة، فإن شيطان الجن إذا غلب وسوس، وشيطان الإنس إذا غلب كذب، والوسواس يعرض لكل من توجه إلى اللهتعالى بذكر أو غيره، لابد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، ‏"‏إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 76‏]‏، وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف‏:‏ إن اليهود والنصارى يقولون‏:‏ لا

    ج/ 22 ص -609- نوسوس، فقال‏:‏ صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب‏.‏ وتفاصيل ما يعرض للسالكين طويل موضعه‏.‏
    وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله‏:‏ إني لأجهز جيشي، وأنا في الصلاة‏.‏ فذاك لأن عمر كان مأمورًا بالجهاد، وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد‏.‏ فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو، إما حال القتال، وإما غير حال القتال، فهو مأمور بالصلاة، ومأمور بالجهاد فعليه أن يؤدي الواجبين بحسب الإمكان، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 54‏]‏‏.‏ ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا تكون كطمأنينته حال الأمن، فإذا قدر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته؛ ولهذا تخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن‏.‏ ولما ذكر سبحانه وتعالى صلاة الخوف قال‏:‏ ‏"‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، فالإقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف‏.‏
    ومع هذا، فالناس متفاوتون في ذلك، فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة، مع تدبره للأمور بها، وعمر قد

    ج/ 22 ص -610- ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وهو المحدث الملهم، فلا ينكر لمثله أن يكون له مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره، لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى، ولا ريب أن صلاة رسول الله ﷺ حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة، فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة، فكيف بالباطنة‏.‏
    وبالجملة، فتفكر المصلي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يضيق وقته ليس كتفكره فيما ليس بواجب، أو فيما لم يضق وقته، وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر في تدبير الجيش إلا في تلك الحال، وهو إمام الأمة والواردات عليه كثيرة‏.‏ ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته، والإنسان دائمًا يذكر في الصلاة مالا يذكره خارج الصلاة، ومن ذلك ما يكون من الشيطان، كما يذكر أن بعض السلف ذكر له رجل أنه دفن مالا وقد نسي موضعه، فقال‏:‏ قم فصل، فقام فصلى، فذكره، فقيل له‏:‏ من أين علمت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ علمت أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يذكره بما يشغله، ولا أهم عنده من ذكر موضع الدفن‏.‏ لكن العبد الكيس يجتهد في كمال الحضور، مع كمال فعل بقية المأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

    ج/ 22 ص -611-وسئل عن وسواس الرجل في صلاته، وما حد المبطل للصلاة‏؟‏ وما حد المكروه منه‏؟‏ وهل يباح منه شيء في الصلاة‏؟‏ وهل يعذب الرجل في شيء منه‏؟‏ وما حد الإخلاص في الصلاة‏؟‏ وقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏ليس لأحدكم من صلاته إلا ما عقل منها‏"‏‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، الوسواس نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا يمنع ما يؤمر به من تدبر الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي في الصلاة، بل يكون بمنزلة الخواطر، فهذا لا يبطل الصلاة؛ لكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته الأول شبه حال المقربين، والثاني شبه حال المقتصدين‏.‏
    وأما الثاني‏:‏ فهو ما منع الفهم وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلاً، فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب، كما روى أبو داود في سننه عن عمار بن ياسر عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏
    "‏إن الرجل لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها،

    ج/ 22 ص -612- إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها‏"‏، حتى قال‏:‏‏"‏إلا عشرها‏"‏، فأخبر ﷺ أنه قد لا يكتب له منها إلا العشر‏.‏
    وقال ابن عباس‏:‏ ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، ولكن هل يبطل الصلاة ويوجب الإعادة‏؟‏ فيه تفصيل‏.‏ فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقل من الحضور، والغالب الحضور، لم تجب الإعادة، وإن كان الثواب ناقصًا، فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة، وإنما يجبر بعضه بسجدتي السهو، وأما إن غلبت الغفلة على الحضور، ففيه للعلماء قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا تصح الصلاة في الباطن، وإن صحت في الظاهر، كحقن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لم يحصل، فهو شبيه صلاة المرائي، فإنه بالاتفاق لا يبرأ بها في الباطن، وهذا قول أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي وغيرهما‏.‏
    والثاني‏:‏ تبرأ الذمة، فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان لا أجر له فيها، ولا ثواب، بمنزلة صوم الذي لم يدع قول الزور والعمل به، فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش‏.‏ وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، واستدلوا بما في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، أنه قال‏:‏
    ‏"‏إذا أذن المؤذن

    ج/ 22 ص -613- بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثوُبِّ بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، ما لم يكن يذكر، حتى يظل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين‏"‏‏.‏ فقد أخبر النبي ﷺ أن الشيطان يذكره بأمور حتى لا يدري كم صلى، وأمره بسجدتين للسهو، ولم يأمره بالإعادة، ولم يفرق بين القليل والكثير‏.‏
    وهذا القول أشبه وأعدل؛ فإن النصوص والآثار إنما دلت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور، لا تدل على وجوب الإعادة، لا باطنًا ولا ظاهرًا، والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عما إذا أحدث المصلي قبل السلام‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا أحدث المصلي قبل السلام بَطَلَت، مكتوبة كانت أو غير مكتوبة‏.‏

    ج/ 22 ص -614-وسئل عن رجل ضحك في الصلاة، فهل تبطل صلاته أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما التبسم فلا يبطل الصلاة، وأما إذا قهقه في الصلاة فإنها تبطل، ولا ينتقض وضوؤه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد؛ لكن يستحب له أن يتوضأ في أقوى الوجهين، لكونه أذنب ذنبًا، وللخروج من الخلاف، فإن مذهب أبي حنيفة ينتقض وضوؤه، والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -615-وسئل رحمه الله عن النحنحة، والسعال، والنفخ، والأنين، وما أشبه ذلك في الصلاة‏:‏ فهل تبطل بذلك أم لا‏؟‏ وأي شيء الذي تبطل الصلاة به من هذا أو غيره‏؟‏ وفي أي مذهب‏؟‏ وإيش الدليل على ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، الأصل في هذا الباب أن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث ألا تكلموا في الصلاة‏"‏ قال زيد بن أرقم‏:‏ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام‏.‏ وهذا مما اتفق عليه المسلمون‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدًا وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة، والعامد من يعلم أنه في صلاة، وأن الكلام محرم‏.‏
    قلت‏:‏ وقد تنازع العلماء في الناسي والجاهل والمكره والمتكلم لمصلحة الصلاة، وفي ذلك كله نزاع في مذهب أحمد وغيره من العلماء‏.‏

    ج/ 22 ص -616- إذا عرف ذلك فاللفظ على ثلاث درجات‏:‏
    أحدها‏:‏ أن يدل على معنى بالوضع إما بنفسه، وإما مع لفظ غيره، كفى، وعن، فهذا الكلام مثل‏:‏ يد، ودم، وفم، وخذ‏.‏
    الثاني‏:‏ أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه، والأنين، والبكاء، ونحو ذلك‏.‏
    الثالث‏:‏ ألا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع، كالنحنحة‏.‏ فهذا القسم كان أحمد يفعله في صلاته، وذكر أصحابه عنه روايتين في بطلان الصلاة بالنحنحة‏.‏ فإن قلنا‏:‏ تبطل، ففعل ذلك لضرورة فوجهان‏.‏ فصارت الأقوال فيها ثلاثة‏:‏
    أحدها‏
    :‏ أنها لا تبطل بحال، وهو قول أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن مالك؛ بل ظاهر مذهبه‏.‏
    والثاني‏:‏ تبطل بكل حال، وهو قول الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد ومالك‏.‏
    والثالث‏:‏ إن فعله لعذر لم تبطل وإلا بَطَلَت، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وغيرهما، وقالوا‏:‏ إن فعله لتحسين الصوت وإصلاحه،

    ج/ 22 ص -617- لم تبطل، قالوا‏:‏ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرًا فرخص فيه للحاجة‏.‏ ومن أبطلها قال‏:‏ إنه يتضمن حرفين، وليس من جنس أذكار الصلاة، فأشبه القهقهة، والقول الأول أصح، وذلك أن النبي ﷺ إنما حرم التكلم في الصلاة، وقال‏:‏ ‏"‏إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين‏"‏، وأمثال ذلك من الألفاظ التي تتناول الكلام‏.‏ والنحنحة لا تدخل في مسمي الكلام أصلاً، فإنها لا تدل بنفسها، ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلمًا، وإنما يفهم مراده بقرينة، فصارت كالإشارة‏.‏
    وأما القهقهة ونحوها ففيها جوابان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن تدل على معنى بالطبع‏.‏
    والثاني‏:‏ أنا لا نسلم أن تلك أبطلت لأجل كونها كلامًا‏.‏ يدل على ذلك أن القهقهة تبطل بالإجماع، ذكره ابن المنذر‏.‏
    وهذه الأنواع فيها نزاع، بل قد يقال‏:‏ إن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة، وتنافي الخشوع الواجب في الصلاة، فهي كالصوت العالي الممتد، الذي لا حرف معه‏.‏ وأيضًا، فإن فيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها، فأبطلت لذلك

    ج/ 22 ص -618- لا لكونه متكلمًا‏.‏ وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه كلامًا، وليس مجرد الصوت كلامًا، وقد روي عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ كان لي من رسول الله ﷺ مدخلان بالليل والنهار، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والنسائي بمعناه‏.‏
    وأما النوع الثاني وهو ما يدل على المعنى طبعًا لا وضعًا فمنه النفخ، وفيه عن مالك وأحمد روايتان أيضًا‏:‏
    إحداهما‏
    :‏ لا تبطل، وهو قول إبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، وقول أبي يوسف وإسحاق‏.‏
    والثانية‏:‏ أنها تبطل، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد، والثوري والشافعي، وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين‏.‏
    وقد قيل عن أحمد‏:‏ إن حكمه حكم الكلام، وإن لم يبن حرفين‏.‏
    واحتجوا لهذا القول بما روي عن أم سلمة عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏من نفخ في الصلاة فقد تكلم‏"‏ رواه الخلال؛ لكن مثل هذا الحديث لا يصح مرفوعًا، فلا يعتمد عليه، لكن حكى أحمد هذا اللفظ عن ابن عباس، وفي لفظ عنه‏:‏ النفخ في الصلاة كلام‏.‏ رواه سعيد في سننه‏.‏
    قالوا‏:‏ ولأنه تضمن حرفين، وليس هذا من جنس أذكار

    ج/ 22 ص -619- الصلاة، فأشبه القهقهة، والحجة مع القول، كما في النحنحة، والنزاع، كالنزاع، فإن هذا لا يسمي كلامًا في اللغة التي خاطبنا بها النبي ﷺ، فلا يتناوله عموم النهي عن الكلام في الصلاة، ولو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور، ولو حلف ليتكلمن لم يبر بمثل هذه الأمور، والكلام لابد فيه من لفظ دال على المعنى، دلالة وضعية، تعرف بالعقل، فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال المصوتين، فهو دلالة طبعية حسية، فهو وإن شارك الكلام المطلق في الدلالة فليس كل ما دل منهيا عنه في الصلاة، كالإشارة فإنها تدل وتقوم مقام العبارة، بل تدل بقصد المشير، وهي تسمى كلامًا، ومع هذا لا تبطل، فإن النبي ﷺ كان إذا سلموا عليه رد عليهم بالإشارة، فعلم أنه لم ينه عن كل ما يدل ويفهم، وكذلك إذا قصد التنبيه بالقرآن والتسبيح جاز، كما دلت عليه النصوص‏.‏
    ومع هذا، فلما كان مشروعًا في الصلاة لم يبطل، فإذا كان قد قصد إفهام المستمع ومع هذا لم تبطل، فكيف بما دل بالطبع، وهو لم يقصد به إفهام أحد، ولكن المستمع يعلم منه حاله، كما يعلم ذلك من حركته، ومن سكوته، فإذا رآه يرتعش أو يضطرب أو يدمع أو يبتسم علم حاله، وإنما امتاز هذا بأنه من نوع الصوت، هذا لو لم يرد به سنة، فكيف وفي المسند عن المغيرة بن شعبة، أن النبي

    ج/ 22 ص -620- ﷺ كان في صلاة الكسوف، فجعل ينفخ، فلما انصرف قال‏:‏ إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي‏"‏‏.‏ وفي المسند وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ في صلاة كسوف الشمس نفخ في آخر سجوده، فقال‏:‏ ‏"‏أف أف أف، رب‏!‏ ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم‏؟‏‏!‏‏"‏‏.‏ وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنه محمول على أنه فعله قبل تحريم الكلام، أو فعله خوفًا من الله، أو من النار‏.‏ قالوا‏:‏ فإن ذلك لا يبطل عندنا، نص عليه أحمد‏.‏ كالتأوه والأنين عنده، والجوابان ضعيفان‏:‏
    أما الأول‏:‏ فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي ﷺ يوم مات ابنه إبراهيم، وإبراهيم كان من مارية القبطية، ومارية أهداها له المقوقس، بعد أن أرسل إليه المغيرة، وذلك بعد صلح الحديبية، فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك، ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين، لاسيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذي اليدين كانت قبل تحريم الكلام؛ لأن أبا هريرة شهدها، فكيف يجوز أن يقال بمثل هذا في صلاة الكسوف، بل قد قيل‏:‏ الشمس كسفت بعد حجة الوداع، قبل موته بقليل‏.‏
    وأما كونه من الخشية، ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه، وهذا نفخ لدفع ما يؤذي من خارج، كما ينفخ الإنسان في المصباح ليطفئه،

    ج/ 22 ص -621- أو ينفخ في التراب‏.‏ ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين، وليس هذا ذاك‏.‏
    وأما السعال والعطاس والتثاؤب والبكاء الذي يمكن دفعه والتأوه والأنين، فهذه الأشياء هي كالنفخ‏.‏ فإنها تدل على المعنى طبعًا، وهي أولى بألا تبطل، فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه، إذ النفخ يشبه التأفيف كما قال‏:‏
    ‏"‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، لكن الذين ذكروا هذه الأمور من أصحاب أحمد كأبي الخطاب ومتبعيه، ذكروا أنها تبطل، إذ أبان حرفين، ولم يذكروا خلافًا‏.‏
    ثم منهم من ذكر نصه في النحنحة، ومنهم من ذكر الرواية الأخري عنه في النفخ، فصار ذلك موهمًا أن النزاع في ذلك فقط، وليس كذلك، بل لا يجوز أن يقال‏:‏ إن هذه تبطل، والنفخ لا يبطل‏.‏ وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين لا يبطل مطلقًا على أصله، وهو أصح الأقوال في هذه المسألة‏.‏
    ومالك مع الاختلاف عنه في النحنحة والنفخ قال‏:‏ الأنين لا يقطع صلاة المريض، وأكرهه للصحيح‏.‏ ولا ريب أن الأنين من غير حاجة مكروه، ولكنه لم يره مبطلاً‏.‏

    ج/ 22 ص -622- وأما الشافعي، فجرى على أصله الذي وافقه عليه كثير من متأخري أصحاب أحمد، وهو أن ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلامًا مبطلاً، وهو أشد الأقوال في هذه المسألة، وأبعدها عن الحجة، فإن الإبطال إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله ﷺ، فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام، وإن كان بالقياس لم يصح ذلك، فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظه، وذلك يشغل المصلي، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن في الصلاة لشغلاً‏"‏ وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته، وإنما تفارق التنفس بأن فيها صوتًا، وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل، ولا نظير‏.‏
    وأيضًا، فقد جاءت أحاديث بالنحنحة والنفخ، كما تقدم، وأيضًا فالصلاة صحيحة بيقين، فلا يجوز إبطالها بالشك، ونحن لا نعلم أن العلة في تحريم الكلام، هو ما يدعى من القدر المشترك، بل هذا إثبات حكم بالشك الذي لا دليل معه، وهذا النزاع إذا فعل ذلك لغير خشية الله، فإن فعل ذلك لخشية الله فمذهب أحمد وأبي حنيفة أن صلاته لا تبطل، ومذهب الشافعي أنها تبطل؛ لأنه كلام، والأول أصح، فإن هذا إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه، فإنه كلام

    ج/ 22 ص -623- يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه، وهذا خوف الله في الصلاة، وقد مدح الله إبراهيم بأنه أوَّاه، وقد فسر بالذي يتأوه من خشية الله‏.‏ ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته، بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة، فإنه لو صرح بمعناه كان كلامًا مبطلاً‏.‏
    وفي الصحيحين أن عائشة قالت للنبي ﷺ‏:‏ إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء، قال‏:
    ‏ ‏"‏مروه فليصل، إنكن لأنتن صواحب يُوُسف‏"‏ وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏ والنشيج‏:‏ رفع الصوت بالبكاء، كما فسره أبو عبيد‏.‏ وهذا محفوظ عن عمر، ذكره مالك وأحمد، وغيرهما، وهذا النزاع فيما إذا لم يكن مغلوبًا‏.‏
    فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتثاؤب، فالصحيح عند الجمهور أنه لايبطل، وهو منصوص أحمد وغيره، وقد قال بعض أصحابه‏:‏ إنه يبطل، وإن كان معذورًا، كالناسي‏.‏ وكلام الناسي فيه روايتان عن أحمد‏:‏
    أحدهما‏:‏ وهو مذهب أبي حنيفة أنه يبطل‏.‏

    ج/ 22 ص -624-والثاني‏:‏ وهو مذهب مالك والشافعي أنه لا يبطل، وهذا أظهر، وهذا أولى من الناسي، لأن هذه أمور معتادة لا يمكنه دفعها، وقد ثبت أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع‏"‏‏.‏
    وأيضًا، فقد ثبت حديث الذي عطس في الصلاة وشمته معاوية بن الحكم السلمي، فنهى النبي ﷺ معاوية عن الكلام في الصلاة؛ ولم يقل للعاطس شيئًا‏.‏ والقول بأن العطاس يبطل تكليف من الأقوال المحدثة التي لا أصل لها عن السلف رضي الله عنهم‏.‏
    وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع، فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأن الأظهر فيها جميعًا أنها لا تبطل‏.‏ فإن الأصوات من جنس الحركات، وكما أن العمل اليسير لا يبطل، فالصوت اليسير لا يبطل، بخلاف صوت القهقهة، فإنه بمنزلة العمل اليسير، وذلك ينافي الصلاة، بل القهقهة تنافي مقصود الصلاة أكثر؛ ولهذا لا تجوز فيها بحال، بخلاف العمل الكثير، فإنه يرخص فيه للضرورة، والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -625-وسئل عما إذا قرأ القرآن، ويعد في الصلاة بسبحة، هل تبطل صلاته أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات، أو يعد تكرار السورة الواحدة، مثل قوله‏:‏‏
    "‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ بالسبحة فهذا لا بأس به، وإن أريد بالسؤال شيء آخر، فليبينه، والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏هل للإنسان إذا دخل المسجد والناس في الصلاة أن يجهر بالسلام أولاً‏؟‏ خشية أن يرد عليه من هو جاهل بالسلام‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إن كان المصلي يحسن الرد بالإشارة، فإذا سلم عليه فلا بأس، كما كان الصحابة يسلمون على النبي ﷺ، وهو يرد عليهم بالإشارة، وإن لم يحسن الرد بل قد يتكلم فلا ينبغي إدخاله فيما يقطع صلاته، أو يترك به الرد الواجب عليه، والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -626- وسئل عن المرور بين يدي المأموم‏:‏ هل هو في النهي كغيره مثل الإمام والمنفرد أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    المنهي عنه إنما هو بين يدي الإمام والمنفرد، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML