أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب الذكر بعد الصلاة

    ج/ 22 ص -492- بَاب الذكر بَعْد الصَّلاَة
    وَسُئِلَ رَحمه الله عن حديث عقبة بن عامر، قال‏:‏ ‏"‏أمرني رسول الله ﷺ أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة‏"‏ وعن أبي أمامة قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أي الدعاء أسمع‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبة‏"‏‏.‏ وعن معاذ بن جبل؛ أن رسول الله ﷺ أخذ بيده فقال‏:‏ ‏"‏يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول‏:‏ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏"‏ فهل هذه الأحاديث تدل على أن الدعاء بعد الخروج من الصلاة سنة‏؟‏ أفتونا وابسطوا القول في ذلك مأجورين‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه رب العالمين، الأحاديث المعروفة في الصحاح والسنن والمساند تدل على أن النبي ﷺ كان يدعو في دبر صلاته قبل الخروج منها، وكان يأمر أصحابه بذلك ويعلمهم ذلك، ولم ينقل أحد أن النبي ﷺ كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعًا لا في الفجر، ولا في العصر، ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان

    ج/ 22 ص -493- يستقبل أصحابه، ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة‏.‏
    ففي الصحيح أنه كان قبل أن ينصرف يستغفر ثلاثًا، ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان يقول‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏‏.‏ وفي الصحيح من حديث ابن الزبير أن النبي ﷺ كان يهلل بهؤلاء الكلمات‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عن ابن عباس‏:‏ أن رفع الناس أصواتهم بالذكر كان على عهد النبي ﷺ‏.‏ وفي لفظ‏:‏ كنا نعرف انقضاء صلاته بالتكبير‏.‏
    والأذكار التي كان النبي ﷺ يعلمها المسلمين عقيب الصلاة أنواع‏:‏

    ج/ 22 ص -494-أحدها‏:‏ أنه يسبح ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويكبر ثلاثًا وثلاثين‏.‏ فتلك تسع وتسعون ويقول تمام المائة‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏"‏‏.‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏
    والثاني‏:‏ يقولها خمسًا وعشرين، ويضم إليها ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ وقد رواه مسلم‏.‏
    والثالث‏:‏ يقول‏:‏ الثلاثة ثلاثًا وثلاثين، وهذا على وجهين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يقول كل واحدة ثلاثًا وثلاثين‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يقول كل واحدة إحدي عشرة مرة، والثلاث والثلاثون في الحديث المتفق عليه في الصحيحين‏.‏
    والخامس‏:‏ يكبر أربعًا وثلاثين ليتم مائة‏.‏
    والسادس‏:‏ يقول‏:‏ الثلاثة عشرًا عشرًا‏.‏ فهذا هو الذي مضت به سنة رسول الله ﷺ، وذلك مناسب؛ لأن المصلي يناجي ربه‏.‏ فدعاؤه له، ومسألته إياه، وهو يناجيه أولي به من مسألته ودعائه بعد انصرافه عنه‏.‏

    ج/ 22 ص -495- وأما الذكر بعد الانصراف، فكما قالت عائشة رضي الله عنها ‏:‏ هو مثل مسح المرآة بعد صقالها، فإن الصلاة نور، فهي تصقل القلب كما تصقل المرآة، ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة، وقد قال الله تعالي‏:‏ ‏"‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏"‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏، قيل‏:‏ إذا فرغت من أشغال الدنيا فانصب في العبادة، وإلى ربك فارغب‏.‏ وهذا أشهر القولين‏.‏ وخرج شريح القاضي على قوم من الحاكة يوم عيد وهم يلعبون فقال‏:‏ ما لكم تلعبون‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا تفرغنا، قال‏:‏ أو بهذا أمر الفارغ‏؟‏ وتلا قوله تعالي‏:‏ ‏"‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏"‏‏.‏ ويناسب هذا قوله تعالي‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا‏"‏إلي قوله‏:‏ ‏"‏إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا‏"‏ [‏المزمل‏:‏ 1، 7‏]‏، أي ذهابًا ومجيئًا، وبالليل تكون فارغا‏.‏ وناشئة الليل في أصح القولين‏:‏ إنما تكون بعد النوم، يقال‏:‏ نشأ إذا قام بعد النوم؛ فإذا قام بعد النوم، كانت مواطأة قلبه للسانه أشد لعدم ما يشغل القلب، وزوال أثر حركة النهار بالنوم، وكان قوله‏:‏‏"‏وَأَقْوَمُ‏"‏‏.‏
    وقد قيل‏:‏ ‏"‏فَإِذَا فَرَغْتَ‏"‏ من الصلاة، ‏"‏فَانصَبْ‏"‏ في الدعاء، ‏"‏وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏"‏ وهذا القول سواء كان صحيحًا أو لم يكن، فإنه يمنع الدعاء في آخر الصلاة، لاسيما والنبي ﷺ هو المأمور بهذا، فلابد أن يمتثل ما أمره الله به‏.‏

    ج/ 22 ص -496- ودعاؤه في الصلاة المنقول عنه في الصحاح وغيرها، إنما كان قبل الخروج من الصلاة‏.‏ وقد قال لأصحابه في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إذا تشهد أحدكم، فليستعذ باللَّه من أربع؛ يقول‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏"‏‏.‏
    وفي حديث ابن مسعود الصحيح لما ذكر التشهد قال‏:‏ ‏"‏ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه‏"‏، وقد روت عائشة وغيرها دعاءه في صلاته بالليل، وأنه كان قبل الخروج من الصلاة‏.‏
    فقول من قال‏:‏ إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، يشبه قول من قال في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد‏:‏ فإذا فعلت ذلك، فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد‏.‏ وهذه الزيادة سواء كانت من كلام النبي ﷺ، أو من كلام من أدرجها في حديث ابن مسعود، كما يقول ذلك من ذكره من أئمة الحديث، ففيها أن قائل ذلك جعل ذلك قضاء للصلاة، فهكذا جعله هذا المفسر فراغًا من الصلاة، مع أن تفسير قوله‏:‏ ‏
    "‏فّإذّا فّرّغًتّ فّانصّبً‏"‏ أي‏:‏ فرغت من الصلاة قول ضعيف؛ فإن قوله‏:‏ إذا فرغت مطلق، ولأن الفارغ إن أريد به الفارغ من العبادة، فالدعاء أيضًا عبادة، وإن أريد به الفراغ من

    ج/ 22 ص -497- أشغال الدنيا بالصلاة، فليس كذلك‏.‏
    يوضح ذلك أنه لا نزاع بين المسلمين أن الصلاة يدعي فيها، كما كان النبي ﷺ يدعو فيها، فقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح‏:‏ ‏
    "‏اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد‏"‏ وأنه كان يقول‏:‏ ‏"‏اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت‏"‏‏.‏
    وثبت عنه في الصحيح أنه كان يدعو إذا رفع رأسه من الركوع، وثبت عنه الدعاء في الركوع والسجود، سواء كان في النفل أو في الفرض، وتواتر عنه الدعاء آخر الصلاة‏.‏ وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏ يا رسول الله، علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏"‏ فإذا كان الدعاء مشروعا في الصلاة لاسيما في آخرها، فكيف يقول‏:‏

    ج/ 22 ص -498- إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، والذي فرغ منه هو نظير الذي أمر به، فهو في الصلاة كان ناصبا في الدعاء، لا فارغا‏.‏ ثم إنه لم يقل مسلم‏:‏ إن الدعاء بعد الخروج من الصلاة يكون أوكد وأقوي منه في الصلاة، ثم لو كان قوله‏:‏ ‏"‏فَانصَبْ‏"‏ في الدعاء، لم يحتج إلى قوله‏:‏ ‏"‏وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏"‏؛ فإنه قد علم أن الدعاء إنما يكون للَّه‏.‏
    فعلم أنه أمره بشيئين‏:‏ أن يجتهد في العبادة عند فراغه من أشغاله، وأن تكون رغبته إلى ربه لا إلى غيره كما في قوله‏:
    ‏ ‏"‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏ فقوله‏:‏ ‏"‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏"‏، موافق لقوله‏:‏ ‏"‏فَانصَبْ‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏، موافق لقوله‏:‏ ‏"‏وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏"‏، ومثله قوله‏:‏ ‏"‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏ [‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏"‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقول شعيب عليه السلام ‏:‏ ‏"‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏"‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏، ومنه الذي يروي عند دخول المسجد‏:‏ ‏"‏اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأفضل من سألك ورغب إليك‏"‏، والأثر الآخر‏:‏ وإليك الرغباء والعمل، وذلك أن دعاء الله المذكور في القرآن نوعان‏:‏ دعاء عبادة، ودعاء مسألة ورغبة، فقوله‏:‏ ‏"‏فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏"‏، يجمع نوعي دعاء الله، قال تعالي‏:‏ ‏"‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا‏"‏ ‏[‏الجن‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ‏"‏ الآية ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏، ونظائره كثيرة‏.‏

    ج/ 22 ص -499- وأما لفظ ‏[‏دبر الصلاة‏]‏، فقد يراد به آخر جزء منه، وقد يراد به ما يلي آخر جزء منه‏.‏ كما في دبر الإنسان، فإنه آخر جزء منه، ومثله لفظ ‏[‏العقب‏]‏ قد يراد به الجزء المؤخر من الشيء، كعقب الإنسان، وقد يراد به ما يلي ذلك‏.‏ فالدعاء المذكور في دبر الصلاة إما أن يراد به آخر جزء منها ليوافق بقية الأحاديث، أو يراد به ما يلي آخرها، ويكون ذلك ما بعد التشهد كما سمي ذلك قضاء للصلاة وفراغا منها حيث لم يبق إلا السلام المنافي للصلاة، بحيث لو فعله عمدًا في الصلاة بطلت صلاته، ولا تبطل سائر الأذكار المشروعة في الصلاة، أو يكون مطلقا أو مجملا‏.‏ وبكل حال، فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام؛ لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك، ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة‏.‏
    والناس لهم في هذه فيما بعد السلام ثلاثة أحوال‏:‏
    منهم من لا يرى قعود الإمام مستقبل المأموم لا بذكر ولا دعاء ولا غير ذلك، وحجتهم ما يروي عن السلف أنهم كانوا يكرهون للإمام أن يستديم استقبال القبلة بعد السلام، فظنوا أن ذلك يوجب قيامه من مكانه، ولم يعلموا أن انصرافه مستقبل المأمومين بوجهه كما كان النبي ﷺ يفعل يحصل هذا المقصود،

    ج/ 22 ص -500- وهذا يفعله من يفعله من أصحاب مالك‏.‏
    ومنهم من يرى دعاء الإمام والمأموم بعد السلام، ثم منهم من يرى ذلك في الصلوات الخمس، ومنهم من يراه في صلاة الفجر والعصر، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب الشافعي وأحمد، وغيرهم، وليس مع هؤلاء بذلك سنة، وإنما غايتهم التمسك بلفظ مجمل، أو بقياس، كقول بعضهم‏:‏ ما بعد الفجر والعصر ليس بوقت صلاة، فيستحب فيه الدعاء‏.‏ ومن المعلوم أن ما تقدمت به سنة رسول الله ﷺ الثابتة الصحيحة، بل المتواترة لا يحتاج فيه إلى مجمل، ولا إلى قياس‏.‏
    وأما قول عقبة بن عامر‏:‏ أمرني رسول الله ﷺ أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة، فهذا بعد الخروج منها‏.‏
    وأما حديث أبي أمامة‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله أي الدعاء أسمع‏؟‏ قال‏
    :‏ ‏"‏جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبة‏"‏، فهذا يجب ألا يخص ما بعد السلام، بل لابد أن يتناول ما قبل السلام‏.‏ وإن قيل‏:‏ أنه يعم ما قبل السلام وما بعده، لكن ذلك لا يستلزم أن يكون دعاء الإمام والمأموم جميعًا بعد السلام سنة، كما لا يلزم مثل ذلك قبل السلام، بل إذا دعا كل واحد وحده بعد السلام، فهذا لا يخالف السنة‏.‏ وكذلك قوله ﷺ لمعاذ بن جبل‏:‏

    ج/ 22 ص -501- ‏"‏لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول‏:‏ اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك‏"‏، يتناول ما قبل السلام‏.‏ ويتناول ما بعده أيضًا كما تقدم‏.‏ فإن معاذًا كان يصلي إمامًا بقومه، كما كان النبي ﷺ يصلي إماما، وقد بعثه إلى اليمن معلما لهم، فلو كان هذا مشروعًا للإمام والمأموم مجتمعين على ذلك، كدعاء القنوت، لكان يقول‏:‏ اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، فلما ذكره بصيغة الإفراد، علم أنه لا يشرع للإمام والمأموم ذلك بصيغة الجمع‏.‏
    ومما يوضح ذلك ما في الصحيح عن البراء بن عازب قال‏:‏ كنا إذا صلينا خلف رسول الله ﷺ، أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال‏:‏ فسمعته يقول‏:‏
    ‏"‏رب قني عذابك يوم تبعث عبادك، أو يوم تجمع عبادك‏"‏، فهذا فيه دعاؤه ﷺ بصيغة الإفراد، كما في حديث معاذ، وكلاهما إمام‏.‏
    وفيه‏:‏ أنه كان يستقبل المأمومين، وأنه لا يدعو بصيغة الجمع، وقد ذكر حديث معاذ بعض من صنف في الأحكام‏:‏ في الأدعية في الصلاة قبل السلام، موافقة لسائر الأحاديث، كما في مسلم، والسنن الثلاثة، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فليتعوذ باللَّه من أربع‏:‏ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ‏"‏‏.‏

    وفي مسلم وغيره عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله ﷺ كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول‏:‏ ‏"‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏"‏‏.‏

    ج/ 22 ص -502-في السنن أنه قال رسول الله ﷺ لرجل‏:‏ ما تقول في الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ أتشهد، ثم أقول‏:‏ اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما والله ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال ﷺ‏:‏ ‏"‏حولهما ندندن‏"‏، رواه أبو داود وأبو حاتم في صحيحه، وظاهر هذا أن دندنتهما أيضًا بعد التشهد في الصلاة، ليكون نظير ما قاله‏.‏ وعن شداد بن أوس أن رسول الله ﷺ كان يقول في صلاته‏:‏ ‏"‏اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليما، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم‏"‏ رواه النسائي‏.‏
    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ‏:‏ أن النبي ﷺ كان يدعو في الصلاة‏
    :‏ ‏"‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات‏.‏ اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم‏"‏ فقال له قائل‏:‏ ما أكثر ما تستعيذ

    ج/ 22 ص -503-يا رسول الله من المغرم، قال‏:‏ ‏"‏إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف‏"‏‏.‏
    قال المصنف في الأحكام‏:‏ والظاهر أن هذا يدل على أنه كان بعد التشهد‏.‏ يدل عليه حديث ابن عباس أن النبي ﷺ كان يقول بعد التشهد‏:‏ ‏"‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏"‏‏.‏ وقد تقدم حديث ابن عباس الذي في الصحيحين أنه كان يعلمهم هذا الدعاء، كما يعلمهم السورة من القرآن‏.‏ وحديث أبي هريرة وأنه يقال بعد التشهد‏.‏ وقد روي في لفظ الدبر ما رواه البخاري وغيره عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول‏:‏ إن رسول الله ﷺ كان يتعوذ بهن دبر الصلاة‏:‏ ‏"‏اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر‏"‏‏.‏
    وفي النسائي عن أبي بكرة أن النبي ﷺ كان يقول في دبر الصلاة‏:‏ ‏"‏اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر‏"‏‏.‏ وفي النسائي أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ دخلت علي

    ج/ 22 ص -504- امرأة من اليهود‏.‏ فقالت‏:‏ إن عذاب القبر من البول، فقلت‏:‏ كذبت‏.‏ فقالت‏:‏ بلي، إنا لنقرض منه الجلود والثوب، فخرج رسول الله ﷺ إلى الصلاة وقد ارتفعت أصواتنا، فقال‏:‏ ‏"‏ما هذا‏"‏ فأخبرته بما قالت، قال‏:‏ ‏"‏صدقت‏"‏ فما صلى بعد يومئذ، إلا قال في دبر الصلاة‏:‏ ‏"‏اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، أجرني من حر النار، وعذاب القبر‏"‏‏.‏
    قال المصنف في ‏[‏الأحكام‏]‏‏:‏ والظاهر أن المراد بدبر الصلاة في الأحاديث الثلاثة قبل السلام توفيقًا بينه وبين ما تقدم من حديث ابن عباس، وأبي هريرة‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الذي قاله صحيح، فإن هذا الحديث في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها‏:‏ أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله ﷺ عن عذاب القبر، فقال‏:‏ ‏"‏نعم عذاب القبر حق‏"‏‏.‏ قالت عائشة‏:‏ فما رأيت رسول الله ﷺ بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر‏.‏ والأحاديث في هذا الباب يوافق بعضها بعضا وتبين ما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -505-وَسُئِلَ عن جماعة يسبحون الله، ويحمدونه، ويكبرونه عقب الصلاة، هل ذلك سنة أم مكروه‏؟‏ وربما في الجماعة من يثقل بالتطويل من غير ضرورة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    التسبيح والتكبير عقب الصلاة مستحب، ليس بواجب‏.‏ ومن أراد أن يقوم قبل ذلك فله ذلك، ولا ينكر عليه‏.‏ وليس لمن أراد فعل المستحب أن يتركه، ولكن ينبغي للمأموم ألا يقوم حتى ينصرف الإمام، أي ينتقل عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة إلا مقدار ما يستغفر ثلاثًا، ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام‏"‏‏.‏ وإذا انتقل الإمام فمن أراد أن يقوم قام، ومن أحب أن يقعد يذكر الله فعل ذلك‏.‏

    ج/ 22 ص -506- وَقَال شَيْخ الإسْلاَم أحْمَد بن تيمية رحمه اللّه‏:‏
    فَصْل
    وعد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبي ﷺ للنساء‏:
    ‏ ‏"‏سبحن واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات‏"‏‏.‏ وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك، فحسن‏.‏ وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يفعل ذلك، وقد رأى النبي ﷺ أم المؤمنين تسبح بالحصى، وأقرها على ذلك، وروي أن أبا هريرة كان يسبح به‏.‏
    وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز، ونحوه، فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية، فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة، أو إظهاره للناس مثل تعليقة في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك فهذا إما رياء للناس، أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة‏.‏ الأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة؛ فإن مراءاة الناس في العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب، قال الله

    ج/ 22 ص -507- تعالي‏:‏ ‏"‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏"‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4، 7‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إلى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَي يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏
    فأما المرائي بالفرائض، فكل أحد يعلم قبح حاله، وأن الله يعاقبه لكونه لم يعبده مخلصًا له الدين، والله تعالي يقول‏:‏ ‏
    "‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏"‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
    وقال تعالي‏:‏
    ‏"‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏"‏ ‏[‏الزمر2، 3‏]‏ فهذا في القرآن كثير‏.‏
    وأما المرائي بنوافل الصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن، فلا يظن الظان أنه يكتفي فيه بحبوط عمله فقط، بحيث يكون لا له ولا عليه، بل هو مستحق للذم والعقاب، على قصده شهرة عبادة غير الله؛ إذ هي عبادات مختصة، ولا تصح إلا من مسلم، ولا يجوز إيقاعها على غير وجه التقرب، بخلاف ما فيه نفع العبد، كالتعليم والإمامة، فهذا في الاستئجار عليه نزاع بين العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -508-وَسُئِلَ عن قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة في جماعة، هل هي مستحبة أم لا‏؟‏ وما كان فعل النبي ﷺ في الصلاة‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏"‏دبر كل صلاة‏"‏‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، قد روي في قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة حديث، لكنه ضعيف؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي‏.‏ ولم يكن النبي ﷺ وأصحابه وخلفاؤه يجهرون بعد الصلاة بقراءة آية الكرسي، ولا غيرها من القرآن، فجهر الإمام والمأموم بذلك، والمداومة عليها، بدعة مكروهة بلا ريب، فإن ذلك إحداث شعار، بمنزلة أن يحدث آخر جهر الإمام والمأمومين بقراءة الفاتحة دائمًا، أو خواتيم البقرة، أو أول الحديد، أو آخر الحشر، أو بمنزلة اجتماع الإمام والمأموم دائمًا على صلاة ركعتين عقيب الفريضة، ونحو ذلك مما لا ريب أنه من البدع‏.‏
    وأما إذا قرأ الإمام آية الكرسي في نفسه، أو قرأها أحد المأمومين، فهذا لا بأس به؛ إذ قراءتها عمل صالح، وليس في ذلك تغيير لشعائر

    ج/ 22 ص -509- الإسلام، كما لو كان له ورد من القرآن والدعاء والذكر عقيب الصلاة‏.‏
    وأما الذي ثبت في فضائل الأعمال في الصحيح عن النبي ﷺ من الذكر عقيب الصلاة، ففي الصحيح عن المغيرة بن شعبة أنه كان يقول، دبر كل صلاة‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَد‏"‏‏.‏
    وفي الصحيح أيضًا عن ابن الزبير؛ أنه كان يقول‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون‏"‏‏.‏ وثبت في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين وذلك تسعة وتسعون وقال تمام المائة‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر‏"‏‏.‏
    وقد روي في الصحيحين أنه يقول‏:‏ كل واحد خمسة وعشرين، ويزيد فيها التهليل، وروي أنه يقول كل واحد عشر، ويروي أحد عشر مرة، وروي أنه يكبر أربعًا وثلاثين‏.‏ وعن ابن عباس، أن رفع

    ج/ 22 ص -510- الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله ﷺ، قال ابن عباس‏:‏ كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ما كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير‏.‏ فهذه هي الأذكار التي جاءت بها السنة في أدبار الصلاة‏.‏
    وَسُئِلَ رَحمه الله عمن يقول‏:‏ أنا أعتقد أن من أحدث شيئًا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله ﷺ وصح عنه، أنه قد أساء وأخطأ، إذ لو ارتضى أن يكون رسول الله ﷺ نبيه وإمامه ودليله لاكتفى بما صح عنه من الأذكار، فعدوله إلى رأيه واختراعه جهل، وتزيين من الشيطان، وخلاف للسنة؛ إذ الرسول ﷺ لم يترك خيرًا، إلا دلنا عليه وشرعه لنا، ولم يدخر الله عنه خيرًا؛ بدليل إعطائه خير الدنيا والآخرة؛ إذ هو أكرم الخلق على الله فهل الأمر كذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات‏.‏ والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى

    ج/ 22 ص -511- والابتداع‏.‏ فالأدعية والأذكار النبوية، هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة‏.‏ والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان‏.‏ وما سواها من الأذكار قد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس، وهي جملة يطول تفصيلها‏.‏
    وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به، بخلاف ما يدعو به المرء أحيانًا من غير أن يجعله للناس سنة، فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معني محرمًا، لم يجز الجزم بتحريمه، لكن قد يكون فيه ذلك، والإنسان لا يشعر به‏.‏ وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت، فهذا وأمثاله قريب‏.‏
    وأما اتخاذ وِرْد غير شرعي، واستنان ذكر غير شرعي، فهذا مما ينهى عنه‏.‏ ومع هذا، ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العلية، ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد‏.‏

    ج/ 22 ص -512-وسئل رَحمه الله عن الدعاء عقيب الصلاة هل هو سنة أم لا‏؟‏ ومن أنكر على إمام لم يدع عقيب صلاة العصر هل هو مصيب أم مخطئ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، لم يكن النبي ﷺ يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس، كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر‏.‏ ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة‏.‏ ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، وكذلك أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك‏.‏
    ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر‏.‏ قالوا‏:‏ لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما، فتعوض بالدعاء عن الصلاة‏.‏
    واستحب طائفة أخري من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه،

    ج/ 22 ص -513- ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء‏.‏ فإن هذا ليس مأمورا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب، في هذا الموطن‏.‏ والمنكر على التارك أحق بالإنكار منه، بل الفاعل أحق بالإنكار‏.‏ فإن المداومة على ما لم يكن النبي ﷺ يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعا، بل مكروه، كما لو داوم على الدعاء قبل الدخول في الصلوات، أو داوم على القنوت في الركعة الأولي، أو في الصلوات الخمس، أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة، ونحو ذلك، فإنه مكروه‏.‏ وإن كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي ﷺ أحيانًا، وقد كان عمر يجهر بالاستفتاح أحيانًا، وجهر رجل خلف النبي ﷺ بنحو ذلك، فأقره عليه، فليس كل ما يشرع فعله أحيانًا تشرع المداومة عليه‏.‏
    ولو دعا الإمام والمأموم أحيانا عقيب الصلاة لأمر عارض، لم يعد هذا مخالفًا للسنة، كالذي يداوم على ذلك‏.‏ والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي ﷺ كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام، ويأمر بذلك‏.‏ كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضع؛ وذلك لأن المصلي يناجي ربه، فإذا سلم انصرف عن مناجاته‏.‏ ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب، دون سؤاله

    ج/ 22 ص -514- بعد انصرافه‏.‏ كما أن من كان يخاطب ملكا أو غيره فإن سؤاله وهو مقبل على مخاطبته، أولي من سؤاله له بعد انصرافه‏.
    وَسُئِلَ‏:‏ عن هذا الذى يفعله الناس بعد كل صلاة من الدعاء‏:‏ هل هو مكروه‏؟‏ وهل ورد عن أحد من السلف فعل ذلك‏؟‏ ويتركون أيضا الذكر الذى صح أن النبى ﷺ كان يقوله، ويشتغلون بالدعاء‏؟‏ فهل الأفضل الاشتغال بالذكر الوارد عن النبى ﷺ أو هذا الدعاء‏؟‏ وهل صح أن النبى ﷺ كان يرفع يديه ويمسح وجهه أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه رب العالمين، الذى نقل عن النبى ﷺ من ذلك بعد الصلاة المكتوبة، إنما هو الذكر المعروف؛ كالأذكار التى فى الصحاح، وكتب السنن والمساند، وغيرها، مثل ما فى الصحيح‏:‏ أنه كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثاً، ثم يقول‏:‏ ‏"‏اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام‏"‏ وفى الصحيح أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير،

    ج/ 22 ص -515- اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت‏.‏ ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏‏.‏
    وفى الصحيح أنه كان يهلل هؤلاء الكلمات فى دبر المكتوبة‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير‏.‏ لا حول ولا قوة إلا باللَّه لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون‏"‏‏.‏
    وفى الصحيح أن رفع الصوت بالتكبير عقيب انصراف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله ﷺ، وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله ﷺ بذلك‏.‏ وفى الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏من سبح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر‏"‏ وفى الصحيح أيضا أنه يقول‏:‏ ‏"‏سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثاً وثلاثين‏"‏، وفى السنن أنواع أخر‏.‏
    والمأثور ستة أنواع‏:‏

    ج/ 22 ص -516-أحدها‏:‏ أنه يقول‏:‏ هذه الكلمات عشراً عشراً‏:‏ فالمجموع ثلاثون‏.‏
    والثانى‏:‏ أن يقول كل واحدة إحدى عشر، فالمجموع ثلاث وثلاثون ‏.‏
    والثالث‏:‏ أن يقول كل واحدة ثلاثاً وثلاثين، فالمجموع تسع وتسعون ‏.‏
    والرابع‏:‏ أن يختم ذلك بالتوحيد التام، فالمجموع مائة ‏.‏
    والسادس ‏:‏ أن يقول كل واحد من الكلمات الأربع خمساً وعشرين،فالمجموعة مائة‏.‏
    وأما قراءة آية الكرسى، فقد رويت بإسناد لا يمكن أن يثبت به سنة ‏.‏
    وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة، فلم ينقل هذا أحد عن النبى ﷺ، ولكن نقل عنه أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة‏:‏
    ‏"‏اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏"‏ ونحو ذلك‏.‏ ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة‏.‏ كما يراد بدبر الشئ مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها، كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَأَدْبَارَ السُّجُودِ‏"‏[‏ق‏:‏40‏]‏، وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث

    ج/ 22 ص -517- يفسر بعضاً لمن تتبع ذلك وتدبره‏.‏ وبالجملة، فهنا شيئان‏:‏
    أحدهما‏:‏ دعاء المصلى المنفرد، كدعاء المصلى صلاة الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلى وحده، إماما كان أو مأموماً‏.‏
    والثانى‏:‏ دعاء الإمام والمأمومين جميعاً، فهذا الثانى لا ريب أن النبى ﷺ لم يفعله فى أعقاب المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك؛ ولهذا كان العلماء المتأخرون فى هذا الدعاء على أقوال‏:‏
    منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبى حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم، ولم يكن معهم فى ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما‏.‏
    ومنهم من استحبه أدبار الصلوات كلها، وقال‏:‏ لا يجهر به، إلا إذا قصد التعليم‏.‏ كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعى، وغيرهم، وليس معهم فى ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعاً، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة‏.‏ وهذا الذى ذكروه قد اعتبره الشارع فى صلب الصلاة، فالدعاء فى آخرها قبل الخروج، مشروع مسنون

    ج/ 22 ص -518- بالسنة المتواترة،وباتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء فى آخرها واجب،وأوجبوا الدعاء الذى أمر به النبى ﷺ آخر الصلاة بقوله‏:‏ ‏"‏إذا تشهد أحدكم فليستعذ باللَّه من أربع‏:‏ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏"‏ رواه مسلم‏.‏ وغيره، وكان طاووس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة، وهو قول بعض أصحاب أحمد، وكذلك فى حديث ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه‏"‏‏.‏ وفى حديث عائشة وغيرها، أنه كان يدعو فى هذا الموطن، والأحاديث بذلك كثيرة‏.‏
    والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة‏.‏ فإن المصلى يناجى ربه، فما دام فى الصلاة لم ينصرف، فإنه يناجى ربه، فالدعاء حينئذ مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله، لم يكن موطن مناجاة له، ودعاء‏.‏ وإنما هو موطن ذكر له، وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه فى الصلاة‏.‏ أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى‏.‏
    وكما أن من العلماء من استحب عقب الصلاة من الدعاء ما لم ترد به السنة، فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة، ولا يستعملون الذكر المأثور، بل قد يكرهون ذلك، وينهون

    ج/ 22 ص -519- عنه، فهؤلاء مفرطون بالنهى عن المشروع، وأولئك مجاوزون الأمر بغير المشروع، والدين إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع‏.‏
    وأما رفع النبى ﷺ يديه فى الدعاء، فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث، أو حديثان، لا يقوم بهما حجة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ‏:‏هل دعاء الإمام والمأموم عقيب صلاة الفرض جائز، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، أما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة، فهو بدعة لم يكن على عهد النبى ﷺ، بل إنما كان دعاؤه فى صلب الصلاة‏.‏ فإن المصلى يناجى ربه، فإذا دعا حال مناجاته له كان مناسبا‏.‏
    وأما الدعاء بعد انصرافه من مناجاته وخطابه، فغير مناسب، وإنما المسنون عقب الصلاة هو الذكر المأثور عن النبى ﷺ من التهليل، والتحميد، والتكبير كما كان النبى ﷺ يقول عقب الصلاة‏:
    ‏ ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك،

    ج/ 22 ص -520-وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏‏.‏
    وقد ثبت فى الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏من سبح دبر الصلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين، فذلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، حطت خطاياه‏"‏ أو كما قال‏.‏ فهذا ونحوه هو المسنون عقب الصلاة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن رجل ينكر على أهل الذكر يقول لهم‏:‏ هذا الذكر بدعة وجهركم فى الذكر بدعة، وهم يفتتحون بالقرآن ويختتمون، ثم يدعون للمسلمين الأحياء والأموات، ويجمعون التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة، ويصلون على النبى ﷺ، والمنكر يعمل السماع مرات بالتصفيق، ويبطل الذكر فى وقت عمل السماع‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الاجتماع لذكر الله، واستماع كتابه، والدعاء عمل صالح وهو من أفضل القربات والعبادات فى الأوقات‏.‏ ففى الصحيح عن

    ج/ 22 ص -521- النبى ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن للَّه ملائكة سياحين فى الأرض، فإذا مروا بقوم يذكرون الله، تنادوا هلموا إلى حاجتكم‏"‏ وذكر الحديث، وفيه ‏"‏وجدناهم يسبحونك ويحمدونك‏"‏‏.‏ لكن ينبغى أن يكون هذا أحياناً فى بعض الأوقات، والأمكنة، فلا يجعل سنة راتبة يحافظ عليها إلا ما سن رسول الله ﷺ المداومة عليه فى الجماعات‏:‏ من الصلوات الخمس فى الجماعات، ومن الجمعات، والأعياد، ونحو ذلك‏.‏
    وأما محافظة الإنسان على أوراد له من الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء، طرفى النهار وزلفاً من الليل، وغير ذلك، فهذا سنة رسول الله ﷺ والصالحين من عباد الله قديما وحديثاً، فما سن عمله على وجه الاجتماع كالمكتوبات، فعل كذلك‏.‏ وما سن المداومة عليه على وجه الانفراد من الأوراد، عمل كذلك، كما كان الصحابة رضى الله عنهم يجتمعون أحياناً، يأمرون أحدهم يقرأ، والباقون يستمعون‏.‏ وكان عمر بن الخطاب يقول‏:‏ يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، وكان من الصحابة من يقول‏:‏ اجلسوا بنا نؤمن ساعة، وصلى النبى ﷺ بأصحابه التطوع فى جماعة مرات، وخرج على الصحابة من أهل الصفة، وفيهم قارئ يقرأ، فجلس معهم يستمع‏.‏

    ج/ 22 ص -522- وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجسوم، فهذا أفضل الأحوال التى نطق بها الكتاب والسنة‏.‏
    وأما الاضطراب الشديد، والغشى والموت والصيحات، فهذا إن كان صاحبه مغلوبا عليه، لم يُلَم عليه، كما قد كان يكون فى التابعين ومن بعدهم‏.‏ فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب‏.‏ والقوة، والتمكن أفضل، كما هو حال النبى ﷺ والصحابة، وأما السكون، قسوة وجفاء، فهذا مذموم لا خير فيه‏.‏
    وأما ما ذكر من السماع، فالمشروع الذى تصلح به القلوب، ويكون وسيلتها إلى ربها بصلة ما بينه وبينها، هو سماع كتاب الله الذى هو سماع خيار هذه الأمة، لاسيما وقد قال ﷺ‏:‏
    ‏"‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏زَيِّنوا القرآن بأصواتكم‏"‏ وهو السماع الممدوح فى الكتاب والسنة‏.‏ لكن لما نسى بعض الأمة حظاً من هذا السماع الذى ذكروا به، ألقى بينهم العداوة والبغضاء، فأحدث قوم سماع القصائد والتصفيق والغناء مضاهاة لما ذمه الله من المكاء والتصدية، والمشابهة لما ابتدعه النصارى‏.‏ وقابلهم قوم قست قلوبهم عن ذكر الله، وما نزل من الحق، وقست قلوبهم فهى كالحجارة أو أشد قسوة مضاهاة لما عابه الله على اليهود‏.‏ والدين الوسط هو ما عليه خيار هذه الأمة قديماً وحديثاً‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -523-وَسُئِلَ رَحمه الله عن عوام فقراء، يجتمعون فى مسجد يذكرون، ويقرؤون شيئاً من القرآن، ثم يدعون ويكشفون رؤوسهم ويبكون ويتضرعون، وليس قصدهم من ذلك رياء ولا سمعة، بل يفعلونه على وجه التقرب إلى الله تعالى، فهل يجوز ذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة ولا اقترن به بدعة منكرة‏.‏ وأما كشف الرأس مع ذلك، فمكروه، لاسيما إذا اتخذ على أنه عبادة، فإنه حينئذ يكون منكراً، ولا يجوز التعبد بذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن رجل إذا صلى ذكر فى جوفه‏:‏ ‏[‏بسم لله‏]‏ بابنا، ‏[‏تبارك‏]‏ حيطاننا، ‏[‏يس‏]‏ سقفنا‏.‏ فقال رجل‏:‏ هذا كفر، أعوذ باللَّه

    ج/ 22 ص -524- من هذا القول‏.‏ فهل يجب على ما قال هذا المنكر رد‏؟‏ وإذا لم يجب عليه، فما حكم هذا القول‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه رب العالمين، ليس هذا كفر، فإن هذا الدعاء وأمثاله يقصد به التحصن والتحرز بهذه الكلمات، فيتقى بها من الشر كما يتقى ساكن البيت بالبيت من الشر والحر والبرد والعدو‏.‏
    وهذا كما جاء فى الحديث المعروف عن النبى ﷺ فى الكلمات الخمس التى قام يحيى ابن زكريا فى بنى إسرائىل قال‏:‏ أوصيكم بذكر الله، فإن مثل ذلك مثل رجل طلبه العدو فدخل حصناً، فامتنع به من العدو، فكذلك ذكر الله، هو حصن ابن آدم من الشيطان، أو كما قال‏.‏ فشبه ذكر الله فى امتناع الإنسان به من الشيطان بالحصن الذى يمتنع به من العدو‏.‏
    والحصن له باب وسقف وحيطان‏.‏ ونحو هذا، أن الأعمال الصالحة من ذكر الله وغيره تسمى جنة ولباساً‏.‏ كما قال تعالى‏:‏
    ‏"‏وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏، فى أشهر القولين‏.‏ وكما قال فى الحديث‏:‏ ‏"‏خذوا جنتكم‏"‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله، من عدو حضر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا، ولكن جنتكم من النار‏:‏ سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏"‏ ومنه قول الخطيب‏:‏ فتدرعوا جُنن التقوى، قبل جُنَنْ

    ج/ 22 ص -525- السَّابِرى‏.‏ وفوقوا سهام الدعاء قبل سهام القِسِىّ‏.‏ ومثل هذا كثير يسمى سوراً وحيطاناً ودرعاً وجنة، ونحو ذلك‏.‏
    ولكن هذا الدعاء المسؤول عنه ليس بمأثور، والمشروع للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة؛ فإن الدعاء من أفضل العبادات، وقد نهانا الله عن الاعتداء فيه، فينبغى لنا أن نتبع فيه ما شرع، وسن، كما أنه ينبغى لنا ذلك فى غيره من العبادات، والذى يعدل عن الدعاء المشروع إلى غيره وإن كان من أحزاب بعض المشائخ الأحسن له ألا يفوته الأكمل الأفضل، وهى الأدعية النبوية، فإنها أفضل وأكمل باتفاق المسلمين من الأدعية التى ليست كذلك، وإن قالها بعض الشيوخ، فكيف يكون فى عين الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك‏.‏
    ومن أشد الناس عيباً من يتخذ حزبا ليس بمأثور عن النبى ﷺ وإن كان حزبا لبعض المشايخ ويدع الأحزاب النبوية التى كان يقولها سيد بنى آدم، وإمام الخلق، وحجة الله على عباده‏.‏ والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML