ج/ 22 ص -259- باب صفة الصلاة
سئل رحمه الله عن رجل مشي إلى صلاة الجمعة مستعجلا، فأنكر ذلك عليه بعض الناس، وقال: امش على رسلك. فرد ذلك الرجل وقال: قد قال تعالي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الجمعة: 9] فما الصواب؟
فأجاب:
ليس المراد بالسعي المأمور به العَدْو. فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال"إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" وروي: "فاقضوا". ولكن قال الأئمة: السعي في كتاب الله هو العمل والفعل، كما قال تعالي: "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى" [الليل: 4]، وقال تعالي: "وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا" [الإسراء:19]، وقال تعالي:"وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا" [البقرة: 205]، وقال تعالي: "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا" [المائدة: 33]،
ج/ 22 ص -260-وقال عن فرعون: "ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى" [النازعات: 22]، وقد قرأ عمر بن الخطاب:"فامضوا إلى ذكر الله" فالسعي المأمور به إلى الجمعة هو المضي إليها، والذهاب إليها.
ولفظ [السعي] في الأصل اسم جنس، ومن شأن أهل العرف، إذا كان الاسم عامًا لنوعين، فإنهم يفردون أحد نوعيه باسم، ويبقي الاسم العام مختصًا بالنوع الآخر، كما في لفظ: [ذوي الأرحام] ، فإنه يعم جميع الأقارب: من يرث بفرض وتعصيب، ومن لا فرض له ولا تعصيب. فلما مُيِّز ذو الفرض والعصبة، صار في عرف الفقهاء ذوو الأرحام مختصًا بمن لا فرض له ولا تعصيب.
وكذلك لفظ [الجائز] يعم ما وجب ولزم من الأفعال والعقود، وما لم يلزم. فلما خص بعض الأعمال بالوجوب وبعض العقود باللزوم، بقي اسم الجائز في عرفهم مختصًا بالنوع الآخر.
وكذلك اسم [الخمر] هو عام لكل شراب، لكن لما أفرد ما يصنع من غير العنب باسم النبيذ، صار اسم الخمر في العرف مختصًا بعصير العنب، حتى ظن طائفة من العلماء أن اسم الخمر في الكتاب والسنة مختص بذلك. وقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بعمومه، ونظائر هذا كثيرة.
ج/ 22 ص -261- وبسبب هذا الاشتراك الحادث، غلط كثير من الناس في فهم الخطاب بلفظ السعي من هذا الباب. فإنه في الأصل عام في كل ذهاب ومضي، وهو السعي المأمور به في القرآن. وقد يخص أحد النوعين باسم المشي، فيبقي لفظ السعي مختصًا بالنوع الآخر، وهذا هو السعي الذي نهي عنه النبي ﷺ حيث قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون". وقد روي أن عمر كان يقرأ: "فامضوا" ويقول: لو قرأتها فاسعوا لعدوت حتى يكون كذا وهذا إن صح عنه فيكون قد اعتقد أن لفظ السعي هو الخاص.
ومما يشبه هذا: السعي بين الصفا والمروة، فإنه إنما يهرول في بطن الوادي بين الميلين. ثم لفظ السعي يخص بهذا. وقد يجعل لفظ السعي عامًا لجميع الطواف بين الصفا والمروة، لكن هذا كأنه باعتبار أن بعضه سعي خاص. و الله أعلم.
وَسُئِلَ عن أقوام يبتدرون السواري قبل الناس، وقبل تكميل الصفوف ويتخذون لهم مواضع دون الصف، فهل يجوز التأخر عن الصف الأول؟
ج/ 22 ص -262-فأجاب:
قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟" قالوا: يا رسول الله، كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف". وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه". وثبت عنه في الصحيح: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها". وأمثال ذلك من السنن، التي ينبغي فيها للمصلين أن يتموا الصف الأول، ثم الثاني.
فمن جاء أول الناس، وصف في غير الأول، فقد خالف الشريعة، وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة، أو فضول الكلام، أو مكروهه، أو محرمه، ونحو ذلك مما يصان المسجد عنه فقد ترك تعظيم الشرائع، وخرج عن الحدود المشروعة من طاعة الله. وإن لم يعتقد نقص ما فعله، ويلتزم اتباع أمر الله، استحق العقوبة البليغة التي تحمله وأمثاله على أداء ما أمر الله به، وترك ما نهي الله عنه. و الله أعلم.
ج/ 22 ص -263- وَسُئِلَ عن المصلين إذا لم يسووا صفوفهم، بل كل إنسان يصلي منفردًا؟ وهل تجوز صلاتهم هكذا في الأسواق، أم لا؟ فأجاب:
ليس لأحد أن يصلي منفردًا خلف الصف، بل على الناس أن يصلوا مصطفين. وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "لا صلاة لفذ خلف الصف". ولا يصح لهم أن يصلوا في السوق حتى تتصل الصفوف، بل عليهم أن يقاربوا الصفوف، ويسدوا الأول فالأول.
والله أعلم.
ج/ 22 ص -264-وَسُئِلَ شيخُ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله : عما يشتبه على الطالب للعبادة من جهة الأفضلية مما اختلف فيه الأئمة من المسائل التي أذكرها وهي: أيما أفضل في صلاة الجهر: ترك الجهر بالبسملة، أو الجهر بها؟ وأيما أفضل: المداومة على القنوت في صلاة الفجر، أم تركه، أم فعله أحيانا بحسب المصلحة؟ وكذلك في الوتر؟ وأيما أفضل: طول الصلاة ومناسبة أبعاضها في الكمية والكيفية، أو تخفيفها بحسب ما اعتادوه في هذه الأزمنة؟ وأيما أفضل مع قصر الصلاة في السفر: مداومة الجمع، أم فعله أحيانا بحسب الحاجة؟ وهل قيام الليل كله بدعة أم سنة، أم قيام بعضه أفضل من قيامه كله؟ وكذلك سرد الصوم أفضل، أم صوم بعض الأيام وإفطار بعضها؟ وفي المواصلة أيضا؟ وهل لبس الخشن وأكله دائما أفضل، أم لا؟ وأيما أفضل: فعل السنن الرواتب في السفر، أم تركها؟ أم فعل البعض دون البعض. وكذلك التطوع بالنوافل في السفر؟ وأيما أفضل: الصوم في السفر أم الفطر؟ وإذا لم يجد ماء أو تعذر عليه استعماله لمرض، أو يخاف منه الضرر من شدة البرد، وأمثال ذلك،
ج/ 22 ص -265- فهل يتيمم أم لا؟ وهل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر أم لا؟ وأيما أفضل في إغماء هلال رمضان: الصوم أم الفطر؟ أم يخير بينهما؟ أم يستحب فعل أحدهما؟ وهل ما واظب عليه النبي ﷺ في جميع أفعاله وأحواله وأقواله وحركاته وسكناته، وفي شأنه كله من العبادات والعادات، هل المواظبة على ذلك كله سنة في حق كل واحد من الأمة، أم يختلف بحسب اختلاف المراتب والراتبين؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد للَّه، هذه المسائل التي يقع فيها النزاع مما يتعلق بصفات العبادات أربعة أقسام:
منها: ما ثبت عن النبي ﷺ أنه سن كل واحد من الأمرين، واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك. لكن قد يتنازعون في الأفضل. وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبي ﷺ التي اتفق الناس على جواز القراءة بأي قراءة شاء منها، كالقراءة المشهورة بين المسلمين، فهذه يقرأ المسلم بما شاء منها، وإن اختار بعضها لسبب من الأسباب.
ومن هذا الباب الاستفتاحات المنقولة عن النبي ﷺ
ج/ 22 ص -266- أنه كان يقولها في قيام الليل، وأنواع الأدعية التي كان يدعو بها في صلاته في آخر التشهد. فهذه الأنواع الثابتة عن النبي ﷺ كلها سائغة باتفاق المسلمين، لكن ما أمر به من ذلك أفضل لنا مما فعله ولم يأمر به.
وقد ثبت في الصحيح أنه قال: "إذا قعد أحدكم في التشهد فليستعذ باللَّه من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". فالدعاء بهذا أفضل من الدعاء بقوله: "اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت". وهذا أيضًا قد صح عن النبي ﷺ أنه كان يقوله في آخر صلاته، لكن الأول أمر به.
وما تنازع العلماء في وجوبه، فهو أوكد مما لم يأمر به ولم يتنازع العلماء في وجوبه. وكذلك الدعاء الذي كان يكرره كثيرًا كقوله: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [البقرة:102]، أوكد مما ليس كذلك.
ج/ 22 ص -267-القسم الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلا من الأمرين كانت عبادته صحيحة، ولا إثم عليه، لكن يتنازعون في الأفضل، وفيما كان النبي ﷺ يفعله. ومسألة القنوت في الفجر والوتر، والجهر بالبسملة، وصفة الاستعاذة ونحوها، من هذا الباب. فإنهم متفقون على أن من جهر بالبسملة، صحت صلاته. ومن خافت، صحت صلاته. وعلي أن من قنت في الفجر، صحت صلاته. ومن لم يقنت فيها، صحت صلاته. وكذلك القنوت في الوتر. وإنما تنازعوا في وجوب قراءة البسملة، وجمهورهم على أن قراءتها لا تجب. وتنازعوا أيضًا في استحباب قراءتها. وجمهورهم على أن قراءتها مستحبة.
وتنازعوا فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه، مثل أن يترك قراءة البسملة والمأموم يعتقد وجوبها. أو يمس ذكره ولا يتوضأ، والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك. أو يصلي في جلود الميتة المدبوغة، والمأموم يرى أن الدباغ لا يطهر. أو يحتجم ولا يتوضأ والمأموم يرى الوضوء من الحجامة. والصحيح المقطوع به أن صلاة المأموم صحيحة خلف إمامه، وإن كان إمامه مخطئا في نفس الأمر؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "يصلون لكم، فإن أصابوا، فلكم ولهم. وإن أخطؤوا، فلكم وعليهم" .
وكذلك إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر، قنت معه. سواء
ج/ 22 ص -268- قنت قبل الركوع، أو بعده. وإن كان لا يقنت معه.
ولو كان الإمام يرى استحباب شيء، والمأمومون لا يستحبونه، فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف، كان قد أحسن. مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة، كالمغرب. كقول من قاله من أهل العراق.
والثاني: أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها، كقول من قال ذلك من أهل الحجاز.
والثالث: أن الأمرين جائزان، كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو الصحيح. وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله. فلو كان الإمام يرى الفصل، فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب، فوافقهم على ذلك تأليفًا لقلوبهم، كان قد أحسن، كما قال النبي ﷺ لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين، بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه" فترك الأفضل عنده؛ لئلا ينفر الناس.
ج/ 22 ص -269- وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة، فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم، كان قد أحسن، وإنما تنازعوا في الأفضل، فهو بحسب ما اعتقدوه من السنة.
وطائفة من أهل العراق اعتقدت أن النبي ﷺ لم يقنت إلا شهرًا، ثم تركه على وجه النسخ له، فاعتقدوا أن القنوت في المكتوبات منسوخ. وطائفة من أهل الحجاز اعتقدوا أن النبي ﷺ مازال يقنت حتى فارق الدنيا. ثم منهم من اعتقد أنه كان يقنت قبل الركوع، ومنهم من كان يعتقد أنه كان يقنت بعد الركوع. والصواب هو [القول الثالث] الذي عليه جمهور أهل الحديث. وكثير من أئمة أهل الحجاز، وهو الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما؛ أنه ﷺ قنت شهرًا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هذا القنوت، ثم إنه بعد ذلك بمدة بعد خيبر، وبعد إسلام أبي هريرة قنت، وكان يقول في قنوته: "اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف". فلو كان قد نسخ القنوت، لم يقنت هذه المرة الثانية. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قنت في المغرب، وفي العشاء الآخرة.
وفي السنن أنه كان يقنت في الصلوات الخمس.وأكثر قنوته
ج/ 22 ص -270- كان في الفجر، ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر ولا غيرها، بل قد ثبت في الصحيحين عن أنس أنه قال: لم يقنت بعد الركوع إلا شهرًا، فالحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: مازال يقنت حتى فارق الدنيا، إنما قاله في سياقه القنوت قبل الركوع. وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت إليه، فإن الربيع بن أنس ليس من رجال الصحيح، فكيف وهو لم يعارضه، وإنما معناه أنه كان يطيل القيام في الفجر دائما، قبل الركوع.
وأما أنه كان يدعو في الفجر دائمًا قبل الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه أو لا يسمع، فهذا باطل قطعًا. وكل من تأمل الأحاديث الصحيحة، علم هذا بالضرورة، وعلم أن هذا لو كان واقعًا، لنقله الصحابة والتابعون، ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا، مع أنهم نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه، وإنما يشرع نظيره. فإن دعاءه لأولئك المعينين، وعلي أولئك المعينين، ليس بمشروع باتفاق المسلمين، بل إنما يشرع نظيره. فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين، ويدعو على الكفار في الفجر، وفي غيرها من الصلوات، وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصاري بدعائه الذي فيه: اللهم العن كفرة أهل الكتاب ... إلى آخره.
ج/ 22 ص -271- وكذلك على رضي الله عنه لما حارب قوما، قنت يدعو عليهم. وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمي من يدعو لهم من المؤمنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنًا.
وأما قنوت الوتر، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يستحب بحال؛ لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه قنت في الوتر. وقيل: بل يستحب في جميع السنة، كما ينقل عن ابن مسعود وغيره؛ ولأن في السنن أن النبي ﷺ علم الحسن بن على رضي الله عنهما دعاء يدعو به في قنوت الوتر. وقيل: بل يقنت في النصف الأخير من رمضان. كما كان أبي ابن كعب يفعل.
وحقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة، من شاء فعله، ومن شاء تركه. كما يخير الرجل أن يوتر بثلاث، أو خمس، أو سبع، وكما يخير إذا أوتر بثلاث، إن شاء فصل، وإن شاء وصل.
وكذلك يخير في دعاء القنوت إن شاء فعله، وإن شاء تركه. وإذا صلى بهم قيام رمضان فإن قنت في جميع الشهر، فقد أحسن. وإن قنت في النصف الأخير، فقد أحسن. وإن لم يقنت بحال فقد أحسن.
ج/ 22 ص -272- كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي ﷺ فيه عددًا معينًا، بل كان هو ﷺ لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات. فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب، كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث. وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ. فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه، فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها. كما كان النبي ﷺ يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه، فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين. فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين. وإن قام بأربعين وغيرها، جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، كأحمد وغيره.
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي ﷺ لا يزاد فيه ولا ينقص منه، فقد أخطأ، فإذا كانت هذه
ج/ 22 ص -273- السعة في نفس عدد القيام، فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه، كل ذلك سائغ حسن. وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها.
وكانت صلاة رسول الله ﷺ معتدلة. إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود. هكذا كان يفعل في المكتوبات، وقيام الليل، وصلاة الكسوف، وغير ذلك.
وقد تنازع الناس: هل الأفضل طول القيام؟ أم كثرة الركوع والسجود؟ أو كلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال:
أصحها أن كليهما سواء. فإن القيام اختص بالقراءة، وهي أفضل من الذكر والدعاء، والسجود نفسه أفضل من القيام، فينبغي أنه إذا طول القيام، أن يطيل الركوع والسجود، وهذا هو طول القنوت الذي أجاب به النبي ﷺ لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال: "طول القنوت". فإن القنوت هو إدامة العبادة، سواء كان في حال القيام، أو الركوع، أو السجود، كما قال تعالي: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا" [الزمر: 9] فسماه قانتا في حال سجوده، كما سماه قانتًا في حال قيامه.
ج/ 22 ص -274- وأما البسملة: فلا ريب أنه كان في الصحابة من يجهر بها وفيهم من كان لا يجهر بها، بل يقرؤها سرًا، أو لا يقرؤها. والذين كانوا يجهرون بها، أكثرهم كان يجهر بها تارة، ويخافت بها أخري؛ وهذا لأن الذكر قد تكون السنة المخافتة به، ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المأمومين، فإنه قد ثبت في الصحيح أن ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة، ليعلمهم أنها سنة.
وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاث أقوال:
قيل: لا تستحب بحال، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك.
وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة. كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي، وأحمد.
وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة، وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة، جاز. وهذا هو الصواب.
وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقول: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك يجهر بذلك مرات كثيرة. واتفق العلماء على أن الجهر بذلك ليس بسنة راتبة، لكن جهر به للتعليم؛ ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنه كان
ج/ 22 ص -275- يجهر أحيانًا بالتعوذ، فإذا كان من الصحابة من جهر بالاستفتاح والاستعاذة مع إقرار الصحابة له على ذلك، فالجهر بالبسملة أولي أن يكون كذلك وأن يشرع الجهر بها أحيانا لمصلحة راجحة.
لكن لا نزاع بين أهل العلم بالحديث أن النبي ﷺ لم يجهر بالاستفتاح، ولا بالاستعاذة،بل قد ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قال له: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟ قال: "أقول: اللهم بَعِّد بيني وبين خطاياي، كما بعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد" .
وفي السنن عنه أنه كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة، والجهر بالبسملة أقوى من الجهر بالاستعاذة؛ لأنها آية من كتاب الله تعالي وقد تنازع العلماء في وجوبها. وإن كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح، والاستعاذة. وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره. لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة.
والقائلون بوجوبها من العلماء، أفضل وأكثر، لكن لم يثبت عن النبي ﷺ أنه كان يجهر بها، وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر، والأحاديث الصريحة بالجهر كلها
ج/ 22 ص -276- ضعيفة بل موضوعة. ولهذا لما صنف الدارقطني مصنفًا في ذلك، قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي ﷺ فلا، وأما عن الصحابة، فمنه صحيح، ومنه ضعيف.
ولو كان النبي ﷺ يجهر بها دائمًا، لكان الصحابة ينقلون ذلك، ولكان الخلفاء يعلمون ذلك، ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء، ولما كان الخلفاء الراشدون ثم خلفاء بني أمية وبني العباس كلهم متفقين على ترك الجهر، ولما كان أهل المدينة وهم أعلم أهل المدائن بسنته ينكرون قراءتها بالكلية سرًا، وجهرًا، والأحاديث الصحيحة تدل على أنها آية من كتاب الله، وليست من الفاتحة، ولا غيرها.
وقد تنازع العلماء: هل هي آية، أو بعض آية من كل سورة؟ أو ليست من القرآن إلا في سورة النمل؟ أو هي آية من كتاب الله حيث كتبت في المصاحف، وليست من السور؟ على ثلاثة أقوال. والقول الثالث: هو أوسط الأقوال، وبه تجتمع الأدلة. فإن كتابة الصحابة لها في المصاحف دليل على أنها من كتاب الله. وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على أنها ليست منها. وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: "نزلت على آنفا سورة فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"إلى آخرها".
ج/ 22 ص -277- وثبت في الصحيح "أنه أول ما جاء الملك بالوحي قال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق:1-5]، فهذا أول ما نزل، ولم ينزل قبل ذلك "بسم اللّه الرحمن الرحيم". وثبت عنه في السنن أنه قال: "سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ". وهي ثلاثون آية بدون البسملة.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "يقول اللّه تعالي قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، قال اللّه: حمدني عبدي. فإذا قال: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"، قال اللّه: أثني على عبدي. فإذا قال: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، قال اللّه: مجدني عبدي. فإذا قال: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" قال: هذه الاية بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"، قال اللّه: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل" .
فهذا الحديث صحيح صريح في أنها ليست من الفاتحة، ولم يعارضه
ج/ 22 ص -278- حديث صحيح صريح. وأجود ما يري في هذا الباب من الحديث إنما يدل على أنه يقرأ بها في أول الفاتحة، لا يدل على أنها منها. ولهذا كان القراء منهم من يقرأ بها في أول السورة، ومنهم من لا يقرأ بها. فدل على أن كلا الأمرين سائغ، لكن من قرأ بها، كان قد أتي بالأفضل. وكذلك من كرر قراءتها في أول كل سورة كان أحسن ممن ترك قراءتها؛ لأنه قرأ ما كتبته الصحابة في المصاحف. فلو قدر أنهم كتبوها على وجه التبرك، لكان ينبغي أن تقرأ على وجه التبرك، وإلا فكيف يكتبون في المصحف ما لا يشرع قراءته، وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القرآن، حتى أنهم لم يكتبوا التأمين، ولا أسماء السور ولا التخميس، والتعشير، ولا غير ذلك. مع أن السنة للمصلي أن يقول عقب الفاتحة: آمين، فكيف يكتبون ما لا يشرع أن يقوله، وهم لم يكتبوا ما يشرع أن يقوله المصلي من غير القرآن؟ فإذا جمع بين الأدلة الشرعية، دلت على أنها من كتاب اللّه، وليست من السورة.
والحديث الصحيح عن أنس ليس فيه نفي قراءة النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ "بٌسًمٌ بلَّهٌ برَّحًمّنٌ برَّحٌيمٌ" أو: فلم يكونوا يجهرون "ببسم اللّه الرحمن الرحيم" ورواية من روي:فلم يكونوا يذكرون "بسم اللّه الرحمن الرحيم" في
ج/ 22 ص -279- أول قراءة ولا آخرها إنما تدل على نفي الجهر، لأن أنسًا لم ينف إلا ما علم، وهو لا يعلم ما كان يقوله النبي ﷺ سرًا. ولا يمكن أن يقال: إن النبي ﷺ لم يكن يسكت، بل يصل التكبير بالقراءة. فإنه قد ثبت في الصحيحين أن أبا هريرة قال له: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول ؟.
ومن تأول حديث أنس على نفي قراءتها سرًا، فهو مقابل لقول من قال: مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور، وهذا أيضًا ضعيف. فإن هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه، وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرؤون الفاتحة قبل السورة، ولم ينازع في ذلك أحد ولا سئل عن ذلك أحد لا أنس ولا غيره. ولا يحتاج أن يروي أنس هذا عن النبي ﷺ وصاحبيه، ومن روي عن أنس أنه شك هل كان النبي ﷺ يقرأ البسملة أو لا يقرؤها، فروايته توافق الروايات الصحيحة؛ لأن أنسًا لم يكن يعلم هل قرأها سرًا أم لا، وإنما نفى الجهر.
ومن هذا الباب الذي اتفق العلماء على أنه يجوز فيه الأمران: فعل الرواتب في السفر، فإنه من شاء فعلها، ومن شاء تركها، باتفاق الأئمة. والصلاة التي يجوز فعلها وتركها، قد يكون فعلها أحيانًا أفضل
ج/ 22 ص -280- لحاجة الإنسان إليها، وقد يكون تركها أفضل إذا كان مشتغلًا عن النافلة بما هو أفضل منها، لكن النبي ﷺ في السفر لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر، ولما نام عن الفجر صلى السنة والفريضة بعدما طلعت الشمس، وكان يصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، وهذا كله ثابت في الصحيح.
فأما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل أحد عنه أنه فعل ذلك في السفر.
وقد تنازع العلماء في السنن الرواتب مع الفريضة. فمنهم من لم يوقت في ذلك شيئًا. ومنهم من وقت أشياء بأحاديث ضعيفة، بل أحاديث يعلم أهل العلم بالحديث أنها موضوعة، كمن يوقت ستًا قبل الظهر، وأربعًا بعدها، وأربعا قبل العصر، وأربعًا قبل العشاء، وأربعًا بعدها ونحو ذلك.
والصواب في هذا الباب القول بما ثبت في الأحاديث الصحيحة دون ما عارضها، وقد ثبت في الصحيح ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر قال:" حفظت عن رسول اللّه ﷺ ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء،
ج/ 22 ص -281- وركعتين قبل الفجر"، وحديث عائشة كان رسول اللّه ﷺ يصلي قبل الظهر أربعًا وهو في الصحيح أيضًا وسائره في صحيح مسلم، كحديث ابن عمر، وهكذا في الصحيح وفي رواية صححها الترمذي صلي قبل الظهر ركعتين.
وحديث أم حبيبة عن النبي ﷺ أنه قال: "من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة، بنى اللّه له بيتًا في الجنة" . وقد جاء في السنن تفسيرها: "أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر" فهذا الحديث الصحيح فيه أنه رغب بقوله في: ثنتي عشرة ركعة.
وفي الحديثين الصحيحين أنه كان يصلي مع المكتوبة إما عشر ركعات، وإما اثنتي عشرة ركعة. وكان يقوم من الليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة . فكان مجموع صلاة الفريضة والنافلة في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة، كان يوتر صلاة النهار بالمغرب، ويوتر صلاة الليل بوتر الليل. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، وقال: في الثالثة لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة.
ج/ 22 ص -282- وثبت في الصحيح أن أصحابه كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين، وهو يراهم ولا ينهاهم". فإذا كان التطوع بين أذاني المغرب مشروعا، فلأن يكون مشروعا بين أذاني العصر والعشاء بطريق الأولى؛ لأن السنة تعجيل المغرب باتفاق الأئمة. فدل ذلك على أن الصلاة قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء: من التطوع المشروع، وليس هو من السنن الراتبة التي قدرها بقوله، ولا داوم عليها بفعله.
ومن ظن أنه كان له سنة يصليها قبل العصر قضاها بعد العصر، فقد غلط، وإنما كانت تلك ركعتي الظهر لما فاتته قضاها بعد العصر، وما يفعل بعد الظهر فهو قبل العصر، ولم يقض بعد العصر إلا الركعتين بعد الظهر.
و[التطوع المشروع] كالصلاة بين الأذانين، وكالصلاة وقت الضحى، ونحو ذلك، هو كسائر التطوعات من الذكر والقراءة والدعاء مما قد يكون مستحبًا لمن لا يشتغل عنه بما هو أفضل منه، ولا يكون مستحبًا لمن اشتغل عنه بما هو أفضل منه. والمداومة على القليل أفضل من كثير لا يداوم عليه؛ ولهذا كان عمل رسول اللّه ﷺ ديمة.
واستحب الأئمة أن يكون للرجل عدد من الركعات يقوم بها من
ج/ 22 ص -283- الليل لا يتركها، فإن نشط أطالها، وإن كسل خففها، وإذا نام عنها صلى بدلها من النهار، كما كان النبي ﷺ إذا نام عن صلاة الليل صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة، وقال: "من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل" .
ومن هذا الباب [صلاة الضحى] فإن النبي ﷺ لم يكن يداوم عليها باتفاق أهل العلم بسنته. ومن زعم من الفقهاء أن ركعتي الضحى كانتا واجبتين عليه، فقد غلط. والحديث الذي يذكرونه: "ثلاث هن علي فريضة، ولكم تطوع: الوتر، والفجر، وركعتا الضحى" حديث موضوع بل ثبت في حديث صحيح لا معارض له أن النبي ﷺ كان يصلي وقت الضحى لسبب عارض لا لأجل الوقت: مثل أن ينام من الليل، فيصلي من النهار. اثنتي عشرة ركعة، ومثل أن يقدم من سفر وقت الضحى، فيدخل المسجد فيصلي فيه.
ومثل ما صلى لما فتح مكة ثماني ركعات، وهذه الصلاة كانوا يسمونها [صلاة الفتح]، وكان من الأمراء من يصليها إذا فتح مصرًا. فإن النبي ﷺ إنما صلاها لما فتح مكة. ولو كان سببها مجرد الوقت كقيام الليل، لم يختص بفتح مكة. ولهذا كان
ج/ 22 ص -284- من الصحابة من لا يصلي الضحى، لكن قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: "أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" . وفي رواية لمسلم: "وركعتي الضحى كل يوم" .
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول اللّه ﷺ: "يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة. فكل تسبيحة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن المنكر صدقة. ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" . وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خرج النبي ﷺ على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى" . وهذه الأحاديث الصحيحة وأمثالها، تبين أن الصلاة وقت الضحى حسنة محبوبة.
بقي أن يقال: فهل الأفضل المداومة عليها كما في حديث أبي هريرة أو الأفضل ترك المداومة اقتداء بالنبي ﷺ ؟ هذا مما تنازعوا فيه. والأشبه أن يقال: من كان مداومًا على قيام الليل، أغناه عن المداومة على صلاة الضحى، كما كان النبي ﷺ يفعل، ومن كان ينام عن قيام الليل، فصلاة الضحى بدل عن قيام الليل.
ج/ 22 ص -285- وفي حديث أبي هريرة أنه أوصاه أن يوتر قبل أن ينام. وهذا إنما يوصى به من لم يكن عادته قيام الليل، وإلا فمن كانت عادته قيام الليل، وهو يستيقظ غالبًا من الليل، فالوتر آخر الليل أفضل له، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: "من خشي ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله. ومن طمع أن يستيقظ آخره فليوتر آخره. فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل" وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ فقال: "قيام الليل" .
فصل
والقسم الثالث: ما قد ثبت عن النبي ﷺ فيه أنه سن الأمرين، لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين، أو كرهه؛ لكونه لم يبلغه، أو تأول الحديث تأويلا ضعيفًا. والصواب في مثل هذا أن كل ما سنه رسول اللّه ﷺ لأمته، فهو مسنون، لا ينهى عن شيء منه، وإن كان بعضه أفضل من ذلك.
فمن ذلك أنواع التشهدات: فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ تشهد ابن مسعود، وثبت عنه في صحيح
ج/ 22 ص -286- مسلم تشهد أبي موسى، وألفاظه قريبة من ألفاظه. وثبت عنه في صحيح مسلم تشهد ابن عباس.
وفي السنن تشهد ابن عمر، وعائشة، وجابر. وثبت في الموطأ وغيره أن عمر بن الخطاب علم المسلمين تشهدًا على منبر النبي ﷺ، ولم يكن عمر ليعلمهم تشهدًا يقرونه عليه إلا وهو مشروع، فلهذا كان الصواب عند الأئمة المحققين أن التشهد بكل من هذه جائز، لا كراهة فيه. ومن قال: إن الإتيان بألفاظ تشهد ابن مسعود واجب كما قاله بعض أصحاب أحمد، فقد أخطأ.
ومن ذلك الأذان والإقامة: فإنه قد ثبت في الصحيح عن أنس أن بلالًا أُمِرَ أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وثبت في الصحيح أنه علم أبا محذورة الأذان والإقامة، فرجَّع في الأذان، وثنّى الإقامة. وفي بعض طرقه أنه كبر في أوله أربعًا، كما في السنن. وفي بعضها أنه كبر مرتين، كما في صحيح مسلم. وفي السنن أن أذان بلال الذي رواه عبد اللّه بن زيد ليس فيه ترجيع للأذان، ولا تثنية للإقامة، فكل واحد من أذان بلال وأبي محذورة سنة، فسواء رجع المؤذن في الأذان، أو لم يرجع، وسواء أفرد الإقامة، أو ثناها، فقد أحسن، واتبع السنة.
ج/ 22 ص -287- ومن قال: إن الترجيع واجب، لابد منه، أو أنه مكروه منهي عنه، فكلاهما مخطئ، وكذلك من قال: إن إفراد الإقامة مكروه، أو تثنيتها مكروه، فقد أخطأ. وأما اختيار أحدهما فهذا من مسائل الاجتهاد، كاختيار بعض القراءات على بعض، واختيار بعض التشهدات على بعض.
ومن هذا الباب أنواع [صلاة الخوف] التي صلاها رسول اللّه ﷺ، وكذلك أنواع [الاستسقاء]. فإنه استسقي مرة في مسجده بلا صلاة الاستسقاء، ومرة خرج إلى الصحراء فصلي بهم ركعتين، وكانوا يستسقون بالدعاء بلا صلاة، كما فعل ذلك خلفاؤه، فكل ذلك حسن جائز.
ومن هذا الباب الصوم والفطر للمسافر في رمضان: فإن الأئمة الأربعة اتفقوا على جواز الأمرين، وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا الفطر، وأنه لو صام لم يجزئه. وزعموا أن الإذن لهم في الصوم في السفر منسوخ بقوله: "ليس من البر الصيام في السفر" والصحيح ما عليه الأئمة. وليس في هذا الحديث ما ينافي إذنه لهم في الصيام في السفر. فإنه نفي أن يكون من البر، ولم ينف أن يكون جائزًا مباحا. والفرض يسقط بفعل النوع الجائز المباح إذا أتي بالمأمور به.
ج/ 22 ص -288- والمراد به كونه في السفر ليس من البر، كما لو صام وعَطَّشَ نفسه بأكل المالح، أو صام وأضحي للشمس، فإنه يقال: ليس من البر الصيام في الشمس. ولهذا قال سفيان بن عُيَينة: معناه :ليس من صام بأبر ممن لم يصم.
ففي هذا ما دل على أن الفطر أفضل. فإنه آخر الأمرين من النبي ﷺ. فإنه صام أولا في السفر؛ ثم أفطر فيه. ومن كان يظن أن الصوم في السفر نقص في الدين، هذا مبتدع ضال وإذا صام على هذا الوجه معتقدًا وجوب الصوم عليه، وتحريم الفطر، فقد أمر طائفة من السلف والخلف بالإعادة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن حمزة بن عمرو سأله فقال: إنني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس" . فإذا فعل الرجل في السفر أيسر الأمرين عليه من تعجيل الصوم أو تأخيره، فقد أحسن. فإن اللّه يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر. أما إذا كان الصوم في السفر أشق عليه من تأخيره، فالتأخير أفضل، فإن في المسند عن النبي ﷺ أنه قال:"إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته" وأخرجه بعضهم إما ابن خزيمة، وإما غيره في صحيحه. وهذه الصحاح مرتبتها دون مرتبة صحيحي البخاري ومسلم.
ج/ 22 ص -289- وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون منظر الهلال غيم، أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان، فكان في الصحابة من يصومه احتياطًا، وكان منهم من يفطر، ولم نعلم أحدًا منهم أوجب صومه، بل الذين صاموه إنما صاموه على طريق التحري والاحتياط، والآثار المنقولة عنهم صريحة في ذلك، كما نقل عن عمر، وعلي، ومعاوية، وعبد اللّه بن عمر، وعائشة، وغيرهم.
والعلماء متنازعون فيه على أقوال: منهم من نهى عن صومه نهي تحريم أو تنزيه، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك والشافعي وأحمد. ومنهم من يوجبه كما يقول ذلك طائفة من أصحاب أحمد. ومنهم من يشرع فيه الأمرين بمنزلة الإمساك إذا غم مطلع الفجر، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو المنصوص عن أحمد، فإنه كان يصومه على طريق الاحتياط اتباعًا لابن عمر وغيره، لا على طريق الإيجاب، كسائر ما يشك في وجوبه، فإنه يستحب فعله احتياطًا من غير وجوب.
وإذا صامه الرجل بنية معلقة بأن ينوي إن كان من رمضان أجزأه وإلا فلا، فتبين أنه من رمضان أجزأه ذلك عند أكثر العلماء،وهو مذهب أبي حنيفة، وأصح الروايتين عن أحمد وغيره. فإن النية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فِعْلَه، نواه بغير اختياره، وأما إذا لم يعلم الشيء فيمتنع أن يقصده.
ج/ 22 ص -290- فلا يتصور أن يقصد صوم رمضان جزما من لم يعلم أنه من رمضان.
وقد يدخل في هذا الباب القصر في السفر، والجمع بين الصلاتين. والذي مضت به سنة رسول الله ﷺ أنه كان يقصر في السفر، فلا يصلي الرباعية في السفر إلا ركعتين، وكذلك الشيخان بعده أبو بكر ثم عمر.
وما كان يجمع في السفر بين الصلاتين إلا أحيانًا عند الحاجة، لم يكن جمعه كقصره، بل القصر سنة راتبة، والجمع رخصة عارضة.فمن نقل عن النبي ﷺ أنه ربّع في السفر الظهر أو العصر أو العشاء، فهذا غلط. فإن هذا لم ينقله عنه أحد لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف. ولكن روي بعض الناس حديثًا عن عائشة أنها قالت: كان رسول اللّه ﷺ في السفر يقصر، وتتم، ويفطر، وتصوم فسألته عن ذلك، فقال: "أحسنت يا عائشة" فتوهم بعض العلماء أنه هو كان الذي يقصر في السفر ويتم، وهذا لم يروه أحد. ونفس الحديث المروي في فعلها باطل، ولم تكن عائشة ولا أحد غيرها ممن كان مع النبي ﷺ يصلي إلا كصلاته، ولم يصل معه أحد أربعا قط لا بعرفة ولا بمزدلفة ولا غيرهما، لا من أهل مكة ولا من غيرهم، بل جميع المسلمين كانوا يصلون معه ركعتين، وكان يقيم بمنى أيام الموسم يصلي بالناس ركعتين، وكذلك بعده أبو بكر، ثم عمر
ج/ 22 ص -291- ثم عثمان بن عفان في أول خلافته، ثم صلى بعد ذلك أربعًا لأمور رآها تقتضي ذلك، فاختلف الناس عليه، فمنهم من وافقه، ومنهم من خالفه.
ولم يجمع النبي ﷺ في حجة الوداع إلا بعرفة وبمزدلفة خاصة. لكنه كان إذا جد به السير في غير ذلك من أسفاره، أخر المغرب إلى بعد العشاء، ثم صلاهما جميعًا، ثم أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما جميعًا .ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن القصر في السفر يجوز، سواء نوي القصر أو لم ينوه. وكذلك الجمع حيث يجوز له سواء نواه مع الصلاة الأولى، أو لم ينوه، فإن الصحابة لما صلوا خلف النبي ﷺ بعرفة الظهر ركعتين، ثم العصر ركعتين، لم يأمرهم عند افتتاح صلاة الظهر بأن ينووا الجمع، ولا كانوا يعلمون أنه يجمع؛ لأنه لم يفعل ذلك في غير سفرته تلك، ولا أمر أحدًا خلفه لا من أهل مكة، ولا غيرهم أن ينفرد عنه، لا بتربيع الصلاتين، ولا بتأخير صلاة العصر، بل صلوها معه.
وقد اتفق العلماء على جواز القصر في السفر، واتفقوا أنه الأفضل إلا قولًا شاذًا لبعضهم. واتفقوا أن فعل كل صلاة في وقتها في السفر أفضل إذا لم يكن هناك سبب يوجب الجمع، إلا قولًا شاذًا لبعضهم.
ج/ 22 ص -292- والقصر سببه السفر خاصة، لا يجوز في غير السفر. وأما الجمع فسببه الحاجة والعذر. فإذا احتاج إليه، جمع في السفر القصير، والطويل. وكذلك الجمع للمطر ونحوه، وللمرض ونحوه، ولغير ذلك من الأسباب، فإن المقصود به رفع الحرج عن الأمة، ولم يرد عن النبي ﷺ أنه جمع في السفر وهو نازل إلا في حديث واحد. ولهذا تنازع المجوزون للجمع. كمالك والشافعي وأحمد: هل يجوز الجمع للمسافر النازل؟ فمنع منه مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وجوزه الشافعي وأحمد في الرواية الأخري، ومنع أبو حنيفة الجمع إلا بعرفة ومزدلفة.
ومن هذا الباب التمتع والإفراد والقران في الحج. فإن مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة جواز الأمور الثلاثة.
وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا التمتع، وهو قول ابن عباس ومن وافقه من أهل الحديث والشيعة. وكان طائفة من بني أمية ومن اتبعهم ينهون عن المتعة، ويعاقبون من تمتع.
وقد تنازع العلماء في حج النبي ﷺ: هل تمتع فيه، أو أفرد أو قرن، وتنازعوا أي الثلاثة أفضل؟ فطائفة من أصحاب أحمد تظن أنه تمتع تمتعًا حل فيه من إحرامه. وطائفة أخرى تظن أنه أحرم بالعمرة، ولم يحرم بالحج حتى طاف وسعي للعمرة.
ج/ 22 ص -293- وطائفة من أصحاب مالك والشافعي، تظن أنه أفرد الحج واعتمر عقيب ذلك. وطائفة من أصحاب أبي حنيفة تظن أنه قرن قرانًا طاف فيه طوافين، وسعي فيه سعيين. وطائفة تظن أنه أحرم مطلقًا. وكل ذلك خطأ لم تروه الصحابة رضوان اللّه عليهم بل عامة روايات الصحابة متفقة، ومن نسبهم إلى الاختلاف في ذلك فلعدم فهمه أحكامهم. فإن الصحابة نقلوا أن النبي ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج، هكذا الذي نقله عامة الصحابة. ونقل غير واحد من هؤلاء وغيرهم، أنه قرن بين العمرة والحج، وأنه أهل بهما جميعًا، كما نقلوا أنه اعتمر مع حجته، مع اتفاقهم على أنه لم يعتمر بعد الحج، بل لم يعتمر معه من أصحابه بعد الحج إلا عائشة؛ لأجل حيضتها.
ولفظ [المتمتع] في الكتاب والسنة وكلام الصحابة اسم لمن جمع بين العمرة والحج في أشهر الحج، سواء أحرم بهما جميعًا، أو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، أو أحرم بالحج بعد تحلله من العمرة، وهذا هو التمتع الخاص في عرف المتأخرين، وأحرم بالحج بعد قضاء العمرة قبل التحلل منها لكونه ساق الهدي، أو مع كونه لم يسقه، وهذا قد يسمونه متمتعًا التمتع الخاص، وقارنًا. وقد يقولون: لا يدخل في التمتع الخاص، بل هو قارن.
وما ذكرته من أن القران يسمونه تمتعًا، جاء مصرحا به في أحاديث
ج/ 22 ص -294- صحيحة. وهؤلاء الذين نقلوا أنه تمتع نقل بعضهم أنه أفرد الحج، فإنه أفرد أعمال الحج، ولم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدي، فهو لم يتمتع متعة حل فيها من إحرامه، فلهذا صار كالمفرد من هذا الوجه.
وأما الأفضل لمن قدم في أشهر الحج ولم يسق الهدي، فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل له كما أمر النبي ﷺ أصحابه في حجة الوداع. فإنه أمر كل من لم يسق الهدي بالتمتع. ومن ساق الهدي، فالقِرَان له أفضل، كما فعل النبي ﷺ. ومن اعتمر في سفرة، وحج في سفرة. أو اعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج، فهذا الإفراد له أفضل من التمتع والقران، باتفاق الأئمة الأربعة.
وأما القسم الرابع: فهو مما تنازع العلماء فيه: فأوجب أحدهم شيئًا أو استحبه وحرمه الآخر، والسنة لا تدل إلا على أحد القولين لم تسوغهما جميعا، فهذا هو أشكل الأقسام الأربعة. وأما الثلاثة المتقدمة، فالسنة قد سوغت الأمرين.
وهذا مثل تنازعهم في قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر. فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال. قيل: ليس له أن يقرأ حال جهر الإمام إذا كان يسمع، لا بالفاتحة، ولا غيرها، وهذا قول الجمهور من السلف
ج/ 22 ص -295- والخلف،وهذا مذهب مالك وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم، وأحد قولي الشافعي. وقيل: بل يجوز الأمران، والقراءة أفضل. ويروي هذا عن الأوزاعي، وأهل الشام، والليث بن سعد، وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم. وقيل: بل القراءة واجبة، وهو القول الآخر للشافعي.
وقول الجمهور هو الصحيح، فإن اللّه سبحانه قال: "وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الأعراف: 204]،
قال أحمد: أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا. وإذا قرأ فأنصتوا. وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا. فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم، فتلك بتلك" الحديث إلى آخره. وروي هذا اللفظ من حديث أبي هريرة أيضًا، وذكر مسلم أنه ثابت: فقد أمر اللّه ورسوله بالإنصات للإمام إذا قرأ، وجعل النبي ﷺ ذلك من جملة الائتمام به. فمن لم ينصت له، لم يكن قد ائتم به. ومعلوم أن الإمام يجهر لأجل المأموم، ولهذا يؤمن المأموم على دعائه. فإذا لم يستمع لقراءته، ضاع جهره. ومصلحة متابعة الإمام مقدمة على مصلحة ما يؤمر به المنفرد. ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في وتر من صلاته فعل كما يفعل، فيتشهد عقيب الوتر،
ج/ 22 ص -296- ويسجد بعد التكبير إذا وجده ساجدًا،كل ذلك لأجل المتابعة،فكيف لا يستمع لقراءته! مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة؟ فإن المستمع له مثل أجر القارئ.
ومما يبين هذا اتفاقهم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على الفاتحة إذا جهر، فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له، لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه للإمام، وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ، لم يحتج إلى قراءته، فلا يكون فيها منفعة، بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به، وقد تنازعوا إذا لم يسمع الإمام لكون الصلاة صلاة مخافتة، أو لبعد المأموم، أو طرشه، أو نحو ذلك، هل الأولى له أن يقرأ أو يسكت؟ والصحيح أن الأولى له أن يقرأ في هذه المواضع؛ لأنه لا يستمع قراءة يحصل له بها مقصود القراءة، فإذا قرأ لنفسه، حصل له أجر القراءة وإلا بقي ساكتًا لا قارئا ولا مستمعًا، ومن سكت غير مستمع ولا قارئ في الصلاة، لم يكن مأمورًا بذلك، ولا محمودًا، بل جميع أفعال الصلاة لابد فيها من ذكر اللّه تعالي: كالقراءة، والتسبيح، والدعاء، أو الاستماع للذكر.
وإذا قيل: بأن الإمام يحمل عنه فرض القراءة، فقراءته لنفسه أكمل له، وأنفع له، وأصلح لقلبه، وأرفع له عند ربه،والإنصات
ج/ 22 ص -297- لا يؤمر به إلا حال الجهر، فأما حال المخافتة، فليس فيه صوت مسموع، حتى ينصت له .
ومن هذا الباب: فعل الصلاة التي لها سبب، مثل تحية المسجد بعد الفجر، والعصر. فمن العلماء من يستحب ذلك، ومنهم من يكرهه كراهة تحريم أو تنزيه. والسنة إما أن تستحبه، وإما أن تكرهه. والصحيح قول من استحب ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، اختارها طائفة من أصحابه. فإن أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات مثل قوله: "لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" عموم مخصوص، خص منها صلاة الجنائز باتفاق المسلمين، وخص منها قضاء الفوائت بقوله:" من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح" .
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قضي ركعتي الظهر بعد العصر، وقال للرجلين اللذين رآهما، لم يصليا بعد الفجر في مسجد الخيف: "إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" ، وقد قال: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل أو نهار" . فهذا المنصوص يبين أن ذلك العموم خرجت منه صورة.
ج/ 22 ص -298- أما قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" فهو أمر عام لم يخص منه صورة، فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص، بل العموم المحفوظ أولى من العموم المخصوص.
وأيضًا، فإن الصلاة والإمام على المنبر، أشد من الصلاة بعد الفجر والعصر، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" فلما أمر بالركعتين في وقت هذا النهي، فكذلك في وقت ذلك النهي، وأولي. ولأن أحاديث النهي في بعضها: "لا تتحروا بصلاتكم" ، فنهى عن التحري للصلاة ذلك الوقت. ولأن من العلماء من قال: إن النهي فيها نهي تنزيه لا تحريم.
ومن السلف من جوز التطوع بعد العصر مطلقًا، واحتجوا بحديث عائشة؛ لأن النهي عن الصلاة إنما كان سدًا للذريعة إلى التشبه بالكفار وما كان منهيا عنه للذريعة، فإنه يفعل لأجل المصلحة الراجحة. كالصلاة التي لها سبب تفوت بفوات السبب، فإن لم تفعل فيه، وإلا فاتت المصلحة. والتطوع المطلق لا يحتاج إلى فعله وقت النهي، فإن الإنسان لا يستغرق الليل والنهار بالصلاة، فلم يكن في النهي تفويت مصلحة، وفي فعله فيه مفسدة، بخلاف التطوع الذي له سبب يفوت: كسجدة التلاوة، وصلاة الكسوف، ثم إنه إذا جاز ركعتا الطواف مع إمكان تأخير
ج/ 22 ص -299- الطواف، فما يفوت أولي أن يجوز.
وطائفة من أصحابنا يجوزون قضاء السنن الرواتب دون غيرها، لكون النبي ﷺ قضي ركعتي الظهر، وروي عنه أنه رخص في قضاء ركعتي الفجر، فيقال: إذا جاز قضاء السنة الراتبة مع إمكان تأخيرها، فما يفوت كالكسوف وسجود التلاوة وتحية المسجد أولي أن يجوز، بل قد ثبت بالحديث الصحيح قضاء الفريضة في هذا الوقت، مع أنه قد يستحب تأخير قضائها، كما أخر النبي ﷺ قضاء الفجر لما نام عنها في غزوة خيبر. وقال: "إن هذا واد حضرنا فيه الشيطان" فإذا جاز فعل ما يمكن تأخيره، فما لا يمكن ولا يستحب تأخيره أولي. وبسط هذه المسائل لا يمكن في هذا الجواب.
فصل
وأما قيام الليل وصيام النهار فالأفضل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه فعله. وقال: "أفضل القيام قيام داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وأفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى" وقد ثبت
ج/ 22 ص -300- في الصحاح أن عبد اللّه بن عمرو قال: لأصومن النهار، ولأقومن الليل، ولأقرأن القرآن كل يوم. فقال له النبي ﷺ: "لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين أي غارت ونفهت له النفس أي سئمت ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام، فذلك صيامك الدهر" يعني الحسنة بعشر أمثالها. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك. فما زال يزايده، حتى قال: "صم يوما وأفطر يوما" قال: اني أطيق أفضل من ذلك، قال: "لا أفضل من ذلك" وقال له: في القراءة "اقرأ القرآن في كل شهر"، فما زال يزايده حتى قال: "اقرأ في سبع" وذكر له أن أفضل القيام قيام داود، وقال له: "إن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه" فبين له ﷺ أن المداومة على هذا العمل تغير البدن والنفس وتمنع من فعل ما هو آجر من ذلك من القيام لحق النفس والأهل والزوج. وأفضل الجهاد والعمل الصالح، ما كان أطوع للرب، وأنفع للعبد. فإذا كان يضره ويمنعه مما هو أنفع منه، لم يكن ذلك صالحًا، وقد ثبت في الصحيح أن رجالًا قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم،
ج/ 22 ص -301-وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال ﷺ: "ما بال رجال يقول أحدهم كيت وكيت، لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني" فبين ﷺ أن مثل هذا الزهد الفاسد، والعبادة الفاسدة ليست من سنته، فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيرًا من سنته، فليس منه.
وقد قال أبي بن كعب: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليا فاقشعر جلده من خشية اللّه، إلا تحاتّت عنه خطاياه، كما يتحاتّ الورق اليابس عن الشجر، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليا، ففاضت عيناه من خشية اللّه، إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم. وكذلك قال عبد اللّه بن مسعود: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة.
وقد تنازع العلماء في سرد الصوم إذا أفطر يومي العيدين، وأيام منى. فاستحب ذلك طائفة من الفقهاء والعباد، فرأوه أفضل من صوم يوم، وفطر يوم. وطائفة أخرى لم يروه أفضل، بل جعلوه سائغًا بلا كراهة، وجعلوا صوم شطر الدهر أفضل منه، وحملوا ما ورد في ترك صوم الدهر على من صام أيام النهى. والقول الثالث:
ج/ 22 ص -302- وهو الصواب قول من جعل ذلك تركًا للأولى، أو كره ذلك. فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ كنهيه لعبد اللّه بن عمرو عن ذلك، وقوله: "من صام الدهر فلا صام، ولا أفطر" وغيرها صريحة في أن هذا ليس بمشروع.
ومن حمل ذلك على أن المراد صوم الأيام الخمسة، فقد غلط، فإن صوم الدهر لا يراد به صوم خمسة أيام فقط، وتلك الخمسة صومها محرم. ولو أفطر غيرها فلم ينه عنها لكون ذلك صومًا للدهر، ولا يجوز أن ينهي عن صوم أكثر من ثلاثمائة يوم، والمراد خمسة، بل مثال هذا مثال من قال: ائتني بكل من في الجامع، وأراد به خمسة منهم. وأيضًا، فإنه علل ذلك بأنك إذا فعلت ذلك: هجمت له العين، ونفهت له النفس، وهذا إنما يكون في سرد الصوم، لا في صوم الخمسة.
وأيضًا، فإن في الصحيح أن سائلا سأله عن صوم الدهر، فقال: "من صام الدهر فلا صام ولا أفطر" . قال: فمن يصوم يومين ويفطر يوما، فقال: "ومن يطيق ذلك؟!" قال: فمن يصوم يومًا، ويفطر يومين، فقال: "وددت أني طُوِّقت ذلك" ، فقال: فمن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فقال: ذلك أفضل الصوم" فسألوه عن صوم الدهر، ثم عن صوم ثلثيه، ثم عن صوم ثلثه، ثم عن صوم شطره.
ج/ 22 ص -303- وأما قوله: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر" ،وقوله: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال، فكأنما صام الدهر. الحسنة بعشر أمثالها" ونحو ذلك، فمراده أن من فعل هذا يحصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر، من غير حصول المفسدة، فإذا صام ثلاثة أيام من كل شهر، حصل له أجر صوم الدهر بدون شهر رمضان. وإذا صام رمضان وستًا من شوال، حصل بالمجموع أجر صوم الدهر، وكان القياس أن يكون استغراق الزمان بالصوم عبادة، لولا ما في ذلك من المعارض الراجح، وقد بين النبي ﷺ الراجح، وهو إضاعة ما هو أولي من الصوم، وحصول المفسدة راجحة فيكون قد فوت مصلحة راجحة واجبة أو مستحبة، مع حصول مفسدة راجحة على مصلحة الصوم.
وقد بين ﷺ حكمة النهي، فقال: "من صام الدهر فلا صام ولا أفطر" فإنه يصير الصيام له عادة، كصيام الليل، فلا ينتفع بهذا الصوم، ولا يكون صام، ولا هو أيضًا أفطر.
ومن نقل عن الصحابة أنه سرد الصوم، فقد ذهب إلى أحد هذه الأقوال. وكذلك من نقل عنه أنه كان يقوم جميع الليل دائمًا، أو أنه يصلي الصبح بوضوء العشاء الآخرة، كذا كذا سنة، مع أن كثيرًا من المنقول من ذلك ضعيف. وقال عبد اللّه بن مسعود لأصحابه: أنتم
ج/ 22 ص -304- أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد، وهم كانوا خيرًا منكم. قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة.
فأما سرد الصوم بعض العام، فهذا قد كان النبي ﷺ يفعله، قد كان يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر. ويفطر حتى يقول القائل:لا يصوم.
وكذلك قيام بعض الليالي جميعها. كالعشر الأخير من رمضان، أو قيام غيرها أحيانًا، فهذا مما جاءت به السنن. وقد كان الصحابة يفعلونه، فثبت في الصحيح: أن النبي ﷺ كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله كله.
وفي السنن أنه قام بآية ليلة حتى أصبح: "إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [المائدة:118]، ولكن غالب قيامه كان جوف الليل، وكان يصلي بمن حضر عنده، كما صلى ليلة بابن عباس، وليلة بابن مسعود، وليلة بحذيفة بن اليمان، وقد كان أحيانًا يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران، ويركع نحوًا من قيامه، يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم" ويرفع نحوًا من ركوعه
ج/ 22 ص -305-يقول: "لربي الحمد، لربي الحمد" ويسجد نحوًا من قيامه يقول: "سبحان ربي الأعلي، سبحان ربي الأعلي" ويجلس نحوًا من سجوده يقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" ويسجد.
وأما الوصال في الصيام، فقد ثبت أنه نهي عنه أصحابه، ولم يرخص لهم إلا في الوصال إلى السحر، وأخبر أنه ليس كأحدهم. وقد كان طائفة من المجتهدين في العبادة يواصلون، منهم من يبقي شهرًا لا يأكل ولا يشرب، ومنهم من يبقي شهرين وأكثر وأقل. ولكن كثير من هؤلاء ندم على ما فعل، وظهر ذلك في بعضهم. فإن رسول اللّه ﷺ أعلم الخلق بطريق اللّه، وأنصح الخلق لعباد اللّه، وأفضل الخلق، وأطوعهم له، وأتبعهم لسنته.
والأحوال التي تحصل عن أعمال فيها مخالفة السنة، أحوال غير محمودة وإن كان فيها مكاشفات، وفيها تأثيرات فمن كان خبيرًا بهذا الباب، علم أن الأحوال الحاصلة عن عبادات غير مشروعة كالأموال المكسوبة بطريق غير شرعي، والملك الحاصل بطريق غير شرعي. فإن لم يتدارك اللّه عبده بتوبة، يتبع بها الطريق الشرعية، وإلا كانت تلك الأمور سببًا لضرر يحصل له، ثم قد يكون مجتهدًا مخطئًا مغفورًا له خطؤه. وقد يكون مذنبًا ذنبا مغفورًا لحسنات ماحية، وقد يكون مبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يعاقب بسلب تلك الأحوال،
ج/ 22 ص -306- وإذا أصر على ترك ما أمر به من السنة، وفعل ما نهى عنه، فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات، حتى قد يصير فاسقا أو داعيا إلى بدعة. وإن أصر على الكبائر، فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان. فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير، حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة، كما وقع هذا لغير واحد ممن كان لهم أحوال من المكاشفات والتأثيرات، وقد عرفنا من هذا ما ليس هذا موضع ذكره.
فالسنة مثال سفينة نوح: من ركبها، نجا. ومن تخلف عنها، غرق. قال الزهري: كان من مضي من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة وعامة من تجد له حالا من مكاشفة أو تأثير، أعان به الكفار أو الفجار أو استعمله في غير ذلك من معصية، فإنما ذاك نتيجة عبادات غير شرعية، كمن اكتسب أموالًا محرمة فلا يكاد ينفقها إلا في معصية اللّه.
والبدع نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات. وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني.
فالمنتسبون إلى العلم والنظر وما يتبع ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الأول.والمنتسبون إلى العبادة والنظر والإرادة وما يتبع ذلك، يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب
ج/ 22 ص -307- والسنة من القسم الثاني.وقد أمرنا اللّه أن نقول في كل صلاة: "\ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" [الفاتحة: 6، 7] آمين.
وصح عن النبي ﷺ أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصاري ضالون" قال سفيان بن عُيَيْنَة: كانوا يقولون: من فسد من العلماء، ففيه شبه من اليهود. ومن فسد من العُبٌاد، ففيه شبه من النصاري. وكان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فعل ما يجب عليه، وترك ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال.
وأهل الإرادة إن لم يقترن بإرادتهم طلب العلم الواجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقعوا في الضلال والبغي، ولو اعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب، كان غاويا. وإذا اعتصم بالعبادة الشرعية من غير علم بالواجب كان ضالا. والضلال سمة النصاري، والبغي سمة اليهود، مع أن كلا من الأمتين فيها الضلال والبغي. ولهذا تجد من انحرف عن الشريعة في الأمر والنهي من أهل الإرادة والعبادة والسلوك والطريق، ينتهون إلى الفناء الذي لا يميزون فيه بين المأمور والمحظور، فيكونون فيه متبعين أهواءهم.
وإنما الفناء الشرعي أن يفني بعبادة اللّه عن عبادة ما سواه،
ج/ 22 ص -308- وبطاعته عن طاعة ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وهذا هو إخلاص الدين للّه وعبادته وحده لا شريك له، وهو دين الإسلام الذي أرسل اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب.
وتجد أيضا من انحرف عن الشريعة من الجبر والنفي والإثبات من أهل العلم والنظر والكلام والبحث، ينتهي أمرهم إلى الشك والحيرة، كما ينتهي الأولون إلى الشطح والطامات، فهؤلاء لا يصدقون بالحق، وأولئك يصدقون بالباطل، وإنما يتحقق الدين بتصديق الرسول في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر باطنا وظاهرًا، من المعارف والأحوال القلبية، وفي الأقوال والأعمال الظاهرة.
ومن عَظَّمَ مطلق السهر والجوع، وأمر بهما مطلقًا، فهو مخطئ، بل المحمود السهر الشرعي، والجوع الشرعي، فالسهر الشرعي كما تقدم من صلاة أو ذكر أو قراءة أو كتابة علم أو نظر فيه أو درسه أو غير ذلك من العبادات. والأفضل يتنوع بتنوع الناس، فبعض العلماء يقول: كتابة الحديث أفضل من صلاة النافلة، وبعض الشيوخ يقول: ركعتان أصليهما بالليل حيث لا يراني أحد أفضل من كتابة مائة حديث،وآخر من الأئمة يقول: بل الأفضل فعل هذا وهذا، والأفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس، فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل، ثم يكون
ج/ 22 ص -309- تارة مرجوحًا أو منهيًا عنه. كالصلاة. فإنها أفضل من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، ثم الصلاة في أوقات النهي كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة منهي عنها. والاشتغال حينئذٍ إما بقراءة أو ذكر أو دعاء أو استماع أفضل من ذلك.
وكذلك قراءة القرآن أفضل من الذكر، ثم الذكر في الركوع والسجود هو المشروع. دون قراءة القرآن، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة هو المشروع دون القراءة والذكر، وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل، فيكون أفضل في حقه، كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد.
ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة، ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة، ومنهم من يكون اجتهاده في الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل. والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له، وتارة هذا أفضل له. ومعرفة حال كل شخص شخصًا، وبيان الأفضل له، لا يمكن ذكره في كتاب، بل لابد من هداية يهدي اللّه بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق اللّه عبد إلا صنع له.
وفي الصحيح: أن النبي ﷺ كان إذا قام من الليل
ج/ 22 ص -310- يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" .
فصل
وأما الأكل واللباس، فخير الهدي هدي محمدصلي الله عليه وسلم. وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه، ولا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، فكان إن حضر خبز ولحم، أكله. وإن حضر فاكهة وخبز ولحم، أكله. وإن حضر تمر وحده أو خبز وحده، أكله. وإن حضر حلو أو عسل طَعِمَه أيضًا وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القِثَّاء بالرطب. فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول: لا آكل لونين، ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة.
وكان أحيانا يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء. وأحيانا، يربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان لا يعيب طعامًا، فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه. وأكل على
ج/ 22 ص -311- مائدته لحم ضب فامتنع من أكله، وقال: "إنه ليس بحرام، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" .
وكذلك اللباس، كان يلبس القميص والعمامة، ويلبس الإزار والرداء ويلبس الجبة
والفَرُوج، وكان يلبس من القطن والصوف، وغير ذلك. لبس في السفر جبة صوف، وكان يلبس مما يجلب من اليمن وغيرها، وغالب ذلك مصنوع من القطن، وكانوا يلبسون من قباطي مصر، وهي منسوجة من الكتان. فسنته في ذلك تقتضي أن يلبس الرجل ويطعم مما يسره الله ببلده، من الطعام واللباس. وهذا يتنوع بتنوع الأمصار.
وقد كان اجتمع طائفة من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه، وعلي الامتناع من تزوج النساء، فأنزل الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ" [المائدة: 87، 88]،
وفي الصحيحين عنه أنه بلغه أن رجالاً قال أحدهم: أما أنا، فأصوم لا أفطر. وقال الآخر: أما أنا، فأقوم لا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء. وقال الآخر: أما أنا، فلا آكل اللحم. فقال: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ، وقد قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" [البقرة:172]
ج/ 22 ص -312-فأمر بأكل الطيبات، والشكر ﷺ، فمن حرم الطيبات كان معتدياً، ومن لم يشكر كان مفرطًا مضيعًا لحق الله. وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها". وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: "الطاعم الشاكر، بمنزلة الصائم الصابر" .
فهذه الطريقة التي كان عليها رسول الله ﷺ هي أعدل الطرق وأقومها. والانحراف عنها إلى وجهين: قوم يسرفون في تناول الشهوات، مع إعراضهم عن القيام بالواجبات، وقد قال تعالى:"وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" [الأعراف: 31]، وقال تعالى: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" [مريم:59].
وقوم يحرمون الطيبات، ويبتدعون رهبانية، لم يشرعها الله تعالي ولا رهبانية في الإسلام. وقد قال تعالى: "لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [المائدة: 87]،
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" [المؤمنون: 51].
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله أمر المؤمنين
ج/ 22 ص -313- بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا"، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأني يستجاب لذلك. وكل حلال طيب، وكل طيب حلال. فإن الله أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، لكن جهة طيبه، كونه نافعًا لذيذًا.
و الله حرم علينا كل ما يضرنا، وأباح لنا كل ما ينفعنا، بخلاف أهل الكتاب فإنه بظلم منهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم، فحرم عليهم طيبات عقوبة لهم، ومحمد ﷺ لم يحرم علينا شيئًا من الطيبات، والناس تتنوع أحوالهم في الطعام واللباس والجوع والشبع، والشخص الواحد يتنوع حاله، ولكن خير الأعمال ما كان ﷺ أطوع، ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين، وقد يكون أشدهما. فليس كل شديد فاضلا، ولا كل يسير مفضولا، بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد، فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة، لا لمجرد تعذيب النفس. كالجهاد الذي قال فيه تعالي: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ" [البقرة:216].
ج/ 22 ص -314- والحج هو الجهاد الصغير؛ ولهذا قال النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها في العمرة: "أجرك على قدر نَصَبِك" وقال تعالى في الجهاد: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [التوبة: 210].
وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة، فليس هذا مشروعًا لنا، بل أمرنا الله بما ينفعنا، ونهانا عما يضرنا. وقد قال ﷺ في الحديث الصحيح: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" ،وقال: "هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا" وروي عنه أنه قال: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" .
فالإنسان إذا أصابه في الجهاد والحج أو غير ذلك حر أو برد أو جوع، ونحو ذلك. فهو مما يحمد عليه، قال الله تعالى: "وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ" [التوبة: 81].
وكذلك قال ﷺ: "الكفارات: إسباغ الوضوء
ج/ 22 ص -315- على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" .
وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد بلا منفعة شرعية، واحتفاؤه وكشف رأسه، ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس، فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان، وطاعة ﷺ، فلا خير فيه. بل قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ رأي رجلاً قائمًا في الشمس، فقال: "ما هذا؟" قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال: "مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه" .
ولهذا نهي عن الصمت الدائم، بل المشروع ما قاله النبي ﷺ قال: "من كان يؤمن ب الله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت". فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خير من التكلم به.
فصل
والأفضل للإمام أن يتحرى صلاة رسول الله ﷺ التي كان يصليها بأصحابه، بل هذا هو المشروع الذي يأمر به الأئمة،
ج/ 22 ص -316- كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال لمالك بن الحويْرِث وصاحبه: "إذا حضرت الصلاة، فأذنا وأقيما، وليؤمكما أحدكما، وصلوا كما رأيتموني أصلي".
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقرأ في الفجر بما بين الستين آية إلى مائة آية، وهذا بالتقريب نحو ثلث جزء، إلى نصف جزء، من تجزئة ثلاثين، فكان يقرأ بطوال المفصل، يقرأ بقاف، ويقرأ ألم تنزيل، وتبارك، ويقرأ سورة المؤمنين، ويقرأ الصافات، ونحو ذلك.
وكان يقرأ في الظهر بأقل من ذلك بنحو ثلاثين آية، ويقرأ في العصر بأقل من ذلك، ويقرأ في المغرب بأقل من ذلك، مثل قصار المفصل. وفي العشاء الآخرة بنحو: "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا"[الشمس:1] و "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى"[الليل:1]، ونحوهما.
وكان أحيانًا يطيل الصلاة، ويقرأ بأكثر من ذلك، حتي يقرأ في المغرب [بالأعراف] ويقرأ فيها [بالطور]، ويقرأ فيها [بالمرسلات].
وأبو بكر الصديق قرأ مرة في الفجر بسورة البقرة، وعمر كان يقرأ في الفجر بسورة هود، وسورة يوسف، ونحوهما. وأحيانًا، يخفف إما لكونه في السفر، أو لغير ذلك. كما قال
ج/ 22 ص -317- ﷺ: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي، فأخفف لِمَا أعلم من وَجْدِ أمه به"، حتي روي عنه أنه قرأ في الفجر [سورة التكوير] و [سورة الزلزلة] فينبغي للإمام أن يتحرى الاقتداء برسول الله ﷺ.
وإذا كان المأمومون لم يعتادوا لصلاته، وربما نفروا عنها درجهم إليها شيئًا بعد شيء، فلا يبدؤهم بما ينفرهم عنها، بل يتبع السنة بحسب الإمكان، وليس للإمام أن يطيل على القدر المشروع، إلا أن يختاروا ذلك. كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال ﷺ:"من أم الناس فليخفف بهم، فإن منهم السقيم والكبير، وذا الحاجة" أخرجاه في الصحيحين. وقال: "إذا أم أحدكم الناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء". وكان يطيل الركوع والسجود، والاعتدالين. كما ثبت عنه في الصحيح: أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقوم حتي يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود يقعد، حتي يقول القائل: قد نسي.
وفي السنن أن أنس بن مالك شبه صلاة عمر بن عبد العزيز بصلاته وكان عمر يسبح في الركوع نحو عشر تسبيحات، وفي السجود نحو عشر تسبيحات. فينبغي للإمام أن يفعل في الغالب ما كان النبي ﷺ يفعله في الغالب. وإذا اقتضت المصلحة أن يطيل أكثر
ج/ 22 ص -318- من ذلك، أو يقصر عن ذلك فعل ذلك، كما كان النبي ﷺ أحيانًا يزيد على ذلك، وأحيانًا ينقص عن ذلك.
فصل
وأما الوضوء عند كل حدث، ففيه حديث بلال المعروف عن بريدة بن حصيب، قال: أصبح رسول الله ﷺ فدعا بلالاً فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي، فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل عربي، فقلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من قريش. قلت: أنا رجل من قريش، لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من أمة محمد، فقلت: أنا محمد، لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فقال بلال: يا رسول الله ، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، و ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، فرأيت أن ﷺ على ركعتين، فقال رسول الله ﷺ: "عليك بهما". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهذا يقتضي استحباب الوضوء عند كل حدث، ولا يعارض ذلك
ج/ 22 ص -319- الحديث الذي في الصحيح عن ابن عباس قال: كنا عند النبي ﷺ، فجاء من الغائط فأتي بطعام، فقيل له: ألا تتوضأ؟ قال: لم أصَلِّ، فأتوضأ" فإن هذا ينفي وجوب الوضوء، وينفي أن يكون مأمورًا بالوضوء لأجل مجرد الأكل، ولم نعلم أحدًا استحب الوضوء للأكل إلا إذا كان جُنَبًا، وتنازع العلماء في غسل اليدين قبل الأكل: هل يكره أو يستحب ؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد.
فمن استحب ذلك، احتج بحديث سلمان أنه قال للنبي ﷺ: قرأت في التوراة أن من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده. ومن كرهه قال: لأن هذا خلاف سنة المسلمين، فإنهم لم يكونوا يتوضَؤون قبل الأكل، وإنما كان هذا من فعل اليهود فيكره التشبه بهم.
وأما حديث سلمان، فقد ضعفه بعضهم، وقد يقال: كان هذا في أول الإسلام لما كان النبي ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء؛ ولهذا كان يسدل شعره موافقة، ثم فرق بعد ذلك، ولهذا صام عاشوراء لما قدم المدينة، ثم إنه قال قبل موته: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع" يعني مع العاشر؛ لأجل مخالفة اليهود.
ج/ 22 ص -320-فصل
وأما سؤال السائل عن المواظبة على ما واظب عليه النبي ﷺ في عبادته وعادته هل هي سنة أم تختلف باختلاف أحوال الراتبين؟ فيقال: الذي نحن مأمورون به هو طاعة الله ورسوله، فعلينا أن نطيع رسول الله ﷺ فيما أمرنا به، فإن الله قد ذكر طاعته في أكثر من ثلاثين موضعًا من كتابه، فقال تعالى: "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ" [النساء:80]، وقال: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ" [النساء: 64].
وقد أوجب السعادة لمن أطاعه بقوله: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" [النساء: 69].
وعلق السعادة والشقاوة بطاعته ومعصيته في قوله:"وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ" [النساء: 13، 14].
وكان ﷺ يقول في خطبته: "من يطع الله ،ورسوله،
ج/ 22 ص -321- فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا" وجميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وتقواه وخشيته وإلي طاعتهم، كما قال نوح عليه السلام: "أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ" [نوح: 3]، وقال تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [النور: 52]، وقال كل من نوح والنبيين: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ" [الشعراء: 108].
وطاعة الرسول فيما أمرنا به هو الأصل الذي على كل مسلم أن يعتمده، وهو سبب السعادة، كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة وطاعته في أمره أولي بنا من موافقته في فعل لم يأمرنا بموافقته فيه باتفاق المسلمين، ولم يتنازع العلماء أن أمره أوكد من فعله، فإن فعله قد يكون مختصًا به، وقد يكون مستحبًا، وأما أمره لنا فهو من دين الله الذي أمرنا به. ومن أفعاله ما قد علم أنه أمرنا أن نفعل مثله، كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقوله لما صلى بهم على المنبر : "إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي " وقوله لما حج : "خذوا عني مناسككم " .
وأيضًا، فقد ثبت بالكتاب والسنة أن ما فعله على وجه العادة فهو مباح لنا، إلا أن يقوم دليل على اختصاصه به، كما قال سبحانه وتعالي : "فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا" [الأحزاب:37]، فأباح له أن يتزوج
ج/ 22 ص -322- امرأة دعيه ليرفع الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم، فعلم أن ما فعله كان لنا مباحًا أن نفعله.
ولما خصه ببعض الأحكام قال: "وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" [الأحزاب:50]، فلما أحل له أن ينكح الموهوبة بيّن أن ذلك خالص له من دون المؤمنين، فليس لأحد أن ينكح امرأة بلا مهر غيره ﷺ.
وفي صحيح مسلم: أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ: أيقبل الصائم؟ فقال له:" سل هذه لأم سلمة " فأخبرتهم أن رسول الله ﷺ يفعل ذلك، فقال: يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له: "أما و الله إنني لأتقاكم ﷺ، وأخشاكم له" فلما أجابه ﷺ بفعله، دل ذلك على أنه يباح للأمة ما أبيح له؛ ولهذا كان جمهور علماء الأمة على أن الله إذا أمره بأمر، أو نهاه عن شيء، كانت أمته أسوة له في ذلك، ما لم يقم دليل على اختصاصه بذلك.
ج/ 22 ص -323- فمن خصائصه: ما كان من خصائص نبوته ورسالته، فهذا ليس لأحد أن يقتدي به فيه، فإنه لا نبي بعده، وهذا مثل كونه يطاع في كل ما يأمر به، وينهي عنه، وإن لم يعلم جهة أمره، حتي يقتل كل من أمر بقتله، وليس هذا لأحد بعده، فولاة الأمور من العلماء والأمراء يطاعون إذا لم يأمروا بخلاف أمره؛ ولهذا جعل الله طاعتهم. في ضمن طاعته. قال الله تعالى: "أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" [النساء: 59]. فقال: "وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ"؛ لأن أولي الأمر يطاعون طاعة تابعة لطاعته، فلا يطاعون استقلالا، ولا طاعة مطلقة، وأما الرسول، فيطاع طاعة مطلقة مستقلة، فإنه: "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ" [النساء:80]، فقال تعالى: "أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ". فإذا أمرنا الرسول كان علينا أن نطيعه، وإن لم نعلم جهة أمره وطاعته طاعة الله لا تكون طاعته بمعصية الله قط، بخلاف غيره.
وقد ذكر الناس من خصائصه فيما يجب عليه، ويحرم عليه، ويكرم به، ما ليس هذا موضع تفصيله. وبعض ذلك متفق عليه، وبعضه متنازع فيه. وقد كان ﷺ إمام الأمة، وهو الذي يقضي بينهم، وهو الذي يقسم، وهو الذي يغزو بهم، وهو الذي يقيم الحدود، وهو الذي يستوفي الحقوق، وهو الذي يصلي بهم فالاقتداء به في كل مرتبة بحسب تلك المرتبة، فإمام الصلاة والحج يقتدي
ج/ 22 ص -324- به في ذلك، وأمير الغزو يقتدي به في ذلك، والذي يقيم الحدود يقتدي به في ذلك.والذي يقضي أو يفتي يقتدي به في ذلك.
وقد تنازع الناس في أمور فعلها: هل هي من خصائصه أم للأمة فعلها؟ كدخوله في الصلاة إمامًا، بعد أن صلى بالناس غيره، وكتركه الصلاة على الغال والقاتل. وأيضًا، فإذا فعل فعلاً لسبب وقد علمنا ذلك السبب أمكننا أن نقتدي به فيه، فأما إذا لم نعلم السبب، أو كان السبب أمرًا اتفاقيًا، فهذا مما يتنازع فيه الناس: مثل نزوله في مكان في سفره. فمن العلماء من يستحب أن ينزل حيث نزل، كما كان ابن عمر يفعل، وهؤلاء يقولون: نفس موافقته في الفعل هو حسن، وإن كان فعله هو اتفاقًا، ونحن فعلناه لقصد التشبه به. ومن العلماء من يقول: إنما تستحب المتابعة إذا فعلناه على الوجه الذي فعله، فأما إذا فعله اتفاقًا لم يشرع لنا أن نقصد ما لم يقصده؛ ولهذا كان أكثر المهاجرين والأنصار لا يفعلون، كما كان ابن عمر يفعل.
وأيضًا، فالاقتداء به، يكون تارة في نوع الفعل، وتارة في جنسه فإنه قد يفعل الفعل لمعني يعم ذلك النوع وغيره، لا لمعنى يخصه، فيكون المشروع هو الأمر العام.
مثال ذلك احتجامه ﷺ. فإن ذلك كان لحاجته
ج/ 22 ص -325- إلي إخراج الدم الفاسد، ثم التأسي هل هو مخصوص بالحجامة أو المقصود إخراج الدم على الوجه النافع؟ ومعلوم أن التأسي هو المشروع. فإذا كان البلد حارًا يخرج فيه الدم إلى الجلد، كانت الحجامة هي المصلحة وإن كان البلد باردًا يغور فيه الدم إلى العروق كان إخراجه بالفصد هو المصلحة.
وكذلك إدهانه ﷺ: هل المقصود خصوص الدهن، أو المقصود ترجيل الشعر؟ فإن كان البلد رطبًا وأهله يغتسلون بالماء الحار الذي يغنيهم عن الدهن، والدهن يؤذي شعورهم وجلودهم، يكون المشروع في حقهم ترجيل الشعر بما هو أصلح لهم، ومعلوم أن الثاني هو الأشبه.
وكذلك لما كان يأكل الرطب والتمر وخبز الشعير، ونحو ذلك من قوت بلده، فهل التأسي به أن يقصد خصوص الرطب والتمر والشعير، حتي يفعل ذلك من يكون في بلاد لا ينبت فيها التمر، ولا يقتاتون الشعير، بل يقتاتون البر أو الرز أو غير ذلك، ومعلوم أن الثاني هو المشروع. والدليل على ذلك أن الصحابة لما فتحوا الأمصار كان كل منهم يأكل من قوت بلده، ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها، ولو كان هذا الثاني هو الأفضل في حقهم، لكانوا أولي باختيار الأفضل.
ج/ 22 ص -326- وعلي هذا يبنى نزاع العلماء في صدقة الفطر: إذا لم يكن أهل البلد يقتاتون التمر والشعير، فهل يخرجون من قوتهم كالبر والرز، أو يخرجون من التمر والشعير؛ لأن النبي ﷺ فرض ذلك؟ فإن في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى، حر أو عبد، من المسلمين. وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، وأكثر العلماء على أنه يخرج من قوت بلده، وهذا هو الصحيح كما ذكر الله ذلك في الكفارة بقوله: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ" [المائدة: 89].
ومن هذا الباب أن الغالب عليه وعلي أصحابه، أنهم كانوا يأتزرون ويرتدون،فهل الأفضل لكل أحد أن يرتدي ويأتزر ولو مع القميص؟ أو الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء؟ هذا أيضًا مما تنازع فيه العلماء، والثاني أظهر وهذا باب واسع.
وهذا النوع ليس مخصوصًا بفعله وفعل أصحابه، بل وبكثير مما أمرهم به ونهاهم عنه، وهذا سمته طائفة من الناس: [تنقيح المناط]. وهو أن يكون الحكم قد ثبت في عين معينة، وليس مخصوصًا بها، بل الحكم ثابت فيها وفي غيرها، فيحتاج أن يعرف[مناط الحكم].
ج/ 22 ص -327- مثال ذلك أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم" فإنه متفق على أن الحكم ليس مختصًا بتلك الفأرة، وذلك السمن، بل الحكم ثابت فيما هو أعم منهما، فبقي المناط الذي علق به الحكم ما هو؟ فطائفة من أهل العلم يزعمون أن الحكم مختص بفأرة وقعت في سمن، فينجسون ما كان كذلك مطلقًا، ولا ينجسون السمن إذا وقع فيه الكلب، والبول والعذرة، ولا ينجسون الزيت ونحوه إذا وقعت فيه الفأرة وهذا القول خطأ قطعًا.
وليس هذا مبنيًا على كون القياس حجة. فإن القياس الذي يكون النزاع فيه هو تخريج المناط، وهو أن يجوز اختصاص مورد النص بالحكم، فإذا جاز اختصاصه، وجاز أن يكون الحكم مشتركًا بين مورد النص وغيره، احتاج معتبر القياس إلى أن يعلم أن المشترك بين الأصل والفرع هو مناط الحكم، كما في قوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الشعير بالشعير إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الملح بالملح إلا مثلاً بمثل" فلما نهى عن التفاضل في مثل هذه الأصناف، أمكن أن يكون النهي لمعنى مشترك، ولمعنى مختص.
ولما سئل عن فأرة وقعت في سمن، فأجاب عن تلك القضية
ج/ 22 ص -328- المعينة، ولا خفاء أن الحكم ليس مختصًا بها، وكذلك سائر قضايا الأعيان، كالأعرابي الذي قال له: إني وقعت على أهلي في رمضان، فأمره أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينًا. فإن الحكم ليس مخصوصًا بذلك الأعرابي باتفاق المسلمين. لكن هل أمره بذلك لكونه أفطر، أو جامع في رمضان، أو أفطر فيه بالجماع، أو أفطر بالجنس الأعلي؟ هذا مما تنازع فيه العلماء.
وكذلك لما سأله سائل عمن أحرم بالعمرة وعليه جبة، وهو متضمخ بالخلوق. فقال: "انزع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجتك". فهل أمره بغسل الخلوق لكونه طيبًا، حتي يؤمر المحرم بغسل كل طيب كان عليه، أو لكونه خلوقًا لرجل؟ وقد نهي أن يتزعفر الرجل، فينهي عن الخلوق للرجل سواء كان محرمًا أو غير محرم.
وكذلك لما عتقت بريرة فخيرها، فاختارت نفسها عند من يقول: إن زوجها كان عبدًا، فإن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لا يختص بها، لكن هل التخيير لكونها عتقت تحت عبد فكملت تحت ناقص؟ ولا تخير إذا عتقت تحت الحر؟ أو الحكم لكونها ملكت نفسها فتخير، سواء كان الزوج حرًا أو عبدًا؟ هذا مما تنازعوا فيه. وهذا باب واسع، وهو متناول لكل حكم تعلق بعين معينة، مع العلم بأنه لا يختص بها
ج/ 22 ص -329- فيحتاج أن يعرف المناط الذي يتعلق به الحكم،وهذا النوع يسميه بعض الناس قياسًا، وبعضهم لا يسميه قياسًا؛ ولهذا كان أبو حنيفة وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعملون فيها القياس.
والصواب أن هذا ليس من القياس الذي يمكن فيه النزاع، كما أن تحقيق المناط ليس مما يقبل النزاع باتفاق العلماء.
وهذه الأنواع الثلاثة [تحقيق المناط] و[تنقيح المناط] و[تخريج المناط] هي جماع الاجتهاد.
فالأول: أن يعمل بالنص والإجماع، فإن الحكم معلق بوصف يحتاج في الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه، كما يعلم أن الله أمرنا بإشهاد ذوي عدل منا، وممن نرضي من الشهداء، ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد، فيحتاج أن يعلم في الشهود المعينين هل هم من ذوي العدل المرضيين أم لا؟ وكما أمر الله بعشرة الزوجين بالمعروف، وقال النبي ﷺ: "للنساء رزقهن وكسوتهن بالمعروف" ولم يمكن تعيين كل زوج فيحتاج أن ينظر في الأعيان ثم من الفقهاء من يقول: إن نفقة الزوجة مقدرة بالشرع، والصواب ما عليه الجمهور أن ذلك مردود إلى العرف كما قال النبي ﷺ لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" .
ج/ 22 ص -330- وكما قال تعالى: "وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [الإسراء:34] ويبقى النظر في تسليمه إلى هذا التاجر، بجزء من الربح. هل هو من التي هي أحسن أم لا؟ وكذلك قوله: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ" [التوبة:60]، يبقى هذا الشخص المعين هل هو من الفقراء المساكين المذكورين في القرآن أم لا؟ وكما حرم الله الخمر والربا عمومًا يبقى الكلام في الشراب المعين: هل هو خمر أم لا؟ وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون، بل العقلاء بأنه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص، إنما يتكلم بكلام عام، وكان نبينا ﷺ قد أوتي جوامع الكلم.
وأما النوع الثاني: الذي يسمونه [تنقيح المناط] بأن ينص على حكم أعيان معينة، لكن قد علمنا أن الحكم لا يختص بها، فالصواب في مثل هذا أنه ليس من باب القياس، لاتفاقهم على النص، بل المعين هنا نص على نوعه، ولكنه يحتاج إلى أن يعرف نوعه، ومسألة الفأرة في السمن، فإن الحكم ليس مخصوصًا بتلك الفأرة، وذلك السمن. ولا بفأر المدينة وسمنها، ولكن السائل سأل النبي ﷺ عن فأرة وقعت في سمن، فأجابه، لا أن الجواب يختص به، ولا بسؤاله. كما أجاب غيره ولفظ الفأرة والسمن ليست من كلام النبي ﷺ حتي يكون هو الذي علق الحكم بها، بل من كلام السائل الذي أخبر بما وقع له، كما قال له
ج/ 22 ص -331- الأعرابي: إنه وقع على امرأته، ولو وقع على سريته، لكان الأمر كذلك، وكما قال له الآخر: رأيت بياض خلخالها في القمر، فوثبت عليها، ولو وطئها بدون ذلك، كان الحكم كذلك.
فالصواب في هذا ما عليه الأئمة المشهورون: أن الحكم في ذلك معلق بالخبيث الذي حرمه الله، إذا وقع في السمن ونحوه من المائعات؛ لأن الله أباح لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث. فإذا علقنا الحكم بهذا المعني، كنا قد اتبعنا كتاب الله. فإذا وقع الخبيث في الطيب، ألقي الخبيث وما حوله، وأكل الطيب، كما أمر النبي ﷺ.
وليس هذا الجواب موضع بسط مثل هذه المسائل، ولكن نبهنا على هذا لأن الاقتداء بالنبي ﷺ في أفعاله يتعلق بهذا. وحينئذ، هذا مما يتعلق باجتهاد الناس، واستدلالهم وما يؤتيهم الله من الفقه والحكمة والعلم، وأحق الناس بالحق من علق الأحكام بالمعاني، التي علقها بها الشارع.
وهذا موضع تفاوت فيه الناس وتنازعوا: هل يستفاد ذلك من خطاب الشارع أو من المعاني القياسية؟ فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع، بل تحتاج إلى القياس. وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص، وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر،
ج/ 22 ص -332- حتى أنكروا فحوي الخطاب وتنبيهه. كقوله تعالي: "فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ" [الإسراء:23] وقالوا: إن هذا لا يدل إلا على النهي عن التأفيف، لا يفهم منه النهي عن الضرب والشتم، وأنكروا [تنقيح المناط] وادعوا في الألفاظ من الظهور ما لا تدل عليه. وقوم يقدمون القياس تارة، لكون دلالة النص غير تامة، أو لكونه خبر الواحد. وأقوام يعارضون بين النص والقياس ويقدمون النص ويتناقضون، ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض، فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة.
فإن القياس الصحيح حقيقة التسوية بين المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل، والرسول لا يأمر بخلاف العدل، ولا يحكم في شيئين متماثلين بحكمين مختلفين، ولا يحرم الشيء ويحل نظيره.
وقد تأملنا عامة المواضع التي قيل: إن القياس فيها عارض النص، وأن حكم النص فيها على خلاف القياس. فوجدنا ما خصه الشارع بحكم عن نظائره، فإنما خصه به لاختصاصه بوصف أوجب اختصاصه بالحكم، كما خص العرايا بجواز بيعها بمثلها خرصًا؛ لتعذر الكيل مع
ج/ 22 ص -333- الحاجة إلى البيع، والحاجة توجب الانتقال إلى البدل عند تعذر الأصل.
فالخرص عند الحاجة قام مقام الكيل، كما يقوم التراب مقام الماء، والميتة مقام المذكي عند الحاجة، وكذلك قول من قال: القرض أو الإجارة أو القراض أو المساقاة أو المزارعة ونحو ذلك، على خلاف القياس، إن أراد به أن هذه الأفعال اختصت بصفات أوجبت أن يكون حكمها مخالفاً لحكم ما ليس مثلها، فقد صدق. وهذا هو مقتضي القياس، وإن أراد أن الفعلين المتماثلين حكم فيهما بحكمين مختلفين، فهذا خطأ، ينزه عنه من هو دون الأنبياء صلوات الله عليهم.
ولكن هذه الأقيسة المعارضة هي الفاسدة، كقياس الذين قالوا: "إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" [البقرة:275]، وقياس الذين قالوا: "أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله ؟" يعنون الميتة، وقال تعالى: "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" [الأنعام: 121].
ولعل من رزقه الله فهما، وآتاه من لدنه علمًا، يجد عامة الأحكام التي تعلم بقياس شرعي صحيح يدل عليها الخطاب الشرعي، كما أن غاية
ج/ 22 ص -334- ما يدل عليه الخطاب الشرعي هو موافق للعدل الذي هو مطلوب القياس الصحيح.
وإذا كان الأمر كذلك، فالكلام في أعيان أحوال الرجل السالك يحتاج إلى نظر خاص، واستهداء من الله ، و الله قد أمر العبد أن يقول في كل صلاة: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" [الفاتحة: 6، 7].
فعلي العبد أن يجتهد في تحقيق هذا الدعاء؛ ليصير من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
ج/ 22 ص -335-وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
فصل
العبادات التي جاءت على وجوه متنوعة
قد تقدم القول في مواضع: أن العبادات التي فعلها النبي ﷺ على أنواع يشرع فعلها على جميع تلك الأنواع، لا يكره منها شيء، وذلك مثل أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاح، ومثل الوتر أول الليل وآخره، ومثل الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة، وأنواع القراءات التي أنزل القرآن عليها، والتكبير في العيد، ومثل الترجيع في الأذان وتركه، ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها.
وقد بسطنا في جواب مسائل الزرعية وغيرها أن ما اختلف فيه العلماء وأراد الإنسان أن يحتاط فيه فهو نوعان:
أحدهما: ما اتفقوا فيه على جواز الأمرين، ولكن تنازعوا: أيهما أفضل؟
ج/ 22 ص -336-والثاني: ما تنازعوا فيه في جواز أحدهما، وكثير مما تنازعوا فيه قد جاءت السنة فيه بالأمرين، مثل الحج. قيل: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة، بل قيل: ولا تجوز المتعة، وقيل: بل ذلك واجب، والصحيح أن كليهما جائز. فإن النبي ﷺ أمر الصحابة في حجة الوداع بالفسخ، وقد كان خيرهم بين الثلاثة، وقد حج الخلفاء بعده ولم يفسخوا، كما بسط في موضعه. وكذلك الصوم في السفر قيل: لا يجوز، بل يجب الفطر، والصحيح الذي عليه الجمهور جواز الأمرين.
ثم قال كثير منهم: إن الصوم أفضل. والصحيح أن الفطر أفضل إلا لمصلحة راجحة، وما قال أحد: إنه لا يجوز الفطر، كما يظنه بعض الجهال، وهذا مبسوط في مواضع.
والمقصود هنا أن ما جاءت به السنة على وجوه كالأذان، والإقامة وصلاة الخوف، والاستفتاح فالكلام فيه من مقامين:
أحدهما: في جواز تلك الوجوه كلها بلا كراهة، وهذا هو الصواب، وهو مذهب أحمد وغيره في هذا كله. ومن العلماء من قد يكرِّه، أو يحرم بعض تلك الوجوه؛ لظنه أن السنة لم تأت به، أو أنه منسوخ. كما كره طائفة الترجيع في الأذان، وقالوا: إنما قاله لأبي
ج/ 22 ص -337- محذورة تلقينًا للإسلام لا تعليما للأذان. والصواب أنه جعله من الأذان وهذا هو الذي فهمه أبو محذورة، وقد عمل بذلك هو وولده والمسلمون يقرونهم على ذلك بمكة وغيرها.
وكره طائفة الأذان بلا ترجيع، وهو غلط أيضًا فإن أذان بلال الثابت ليس فيه ترجيع، وكره طائفة ترجيعها، وكره طائفة صلاة الخوف إلا على حديث ابن عمر، وكره آخرون ما أمر به هؤلاء.
والصواب في هذا كله أن كل ما جاءت به السنة فلا كراهة لشيء منه، بل هو جائز، وهذا مبسوط في مواضع.
والمقصود هنا هو: المقام الثاني. وهو أن ما فعله النبي ﷺ من أنواع متنوعة. وإن قيل: إن بعض تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء بالنبي ﷺ في أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين، وهجر الآخر، وهذا مثل الاستفتاح. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال:قلت: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول:"اللهم بعد بيني وبين خطاياي، كما بعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد" ولم يخرج البخاري في الاستفتاح شيئا إلا
ج/ 22 ص -338- هذا، وهو أقوى الحجج على الاستفتاح في المكتوبة، فإنه صريح في ذلك بقوله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة؟ وهذا سؤال عن السكوت، لا عن القول سرًا، ويشهد له حديث سمرة،وحديث أبي بن كعب، أنه كان له سكتتان.
وأيضًا، فللناس في الصلاة أقوال:
أحدها: أنه لا سكوت فيها كقول مالك، ولا يستحب عنده استفتاح، ولا استعاذة، ولا سكوت لقراءة الإمام.
والثاني: أنه ليس فيها إلا سكوت واحد للاستفتاح: كقول أبي حنيفة، لأن هذا الحديث يدل على هذه السكتة.
والثالث: أن فيها سكتتين، كما في حديث السنن. لكن روي فيه أنه يسكت إذا فرغ من القراءة، وهو الصحيح. وروي إذا فرغ من الفاتحة، فقال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: يستحب ثلاث سكتات.
وسكتة الفاتحة جعلها أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد ليقرأ المأموم الفاتحة. والصحيح أنه لا يستحب إلا سكتتان، فليس في الحديث إلا ذلك، وإحدي الروايتين غلط، وإلا كانت ثلاثًا،
ج/ 22 ص -339- وهذا هو المنصوص عن أحمد. وأنه لا يستحب إلا سكتتان، والثانية عند الفراغ من القراءة للاستراحة، والفصل بينها وبين الركوع.
وأما السكوت عقيب الفاتحة، فلا يستحبه أحمد، كما لا يستحبه مالك وأبو حنيفة، والجمهور لا يستحبون أن يسكت الإمام ليقرأ المأموم. وذلك أن قراءة المأموم عندهم إذا جهر الإمام ليست بواجبة، ولا مستحبة، بل هي منهي عنها، وهل تبطل الصلاة إذا قرأ مع الإمام؟ فيه وجهان في مذهب أحمد، فهو إذا كان يسمع قراءة الإمام فاستماعه أفضل من قراءته، كاستماعه لما زاد على الفاتحة، فيحصل له مقصود القراءة، والاستماع بدل عن قراءته، فجمعه بين الاستماع والقراءة جمع بين البدل والمبدل؛ ولهذا لم يستحب أحمد وجمهور أصحابه قراءته في سكتات الإمام إلا أن يسكت سكوتًا بليغًا يتسع للاستفتاح والقراءة.
وأما إن ضاق عنهما، فقوله وقول أكثر أصحابه: إن الاستفتاح أولي من القراءة، بل هو في إحدي الروايتين يأمر بالاستفتاح مع جهر الإمام، فإذا كان الإمام ممن يسكت عقيب الفاتحة سكوتًا يتسع للقراءة، فالقراءة فيه أفضل من عدم القراءة، لكن هل يقال: القراءة فيه بالفاتحة أفضل للاختلاف في وجوبها أو بغيرها من القرآن؛ لكونه قد استمعها؟ هذا فيه نزاع. ومقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن
ج/ 22 ص -340- القراءة بغيرها أفضل، فإنه لا يستحب أن يقرأ بها مع استماعه قراءتها وعامة السلف الذين كرهوا القراءة خلف الإمام هو فيما إذا جهر. ولم يكن أكثر الأئمة يسكت عقب الفاتحة سكوتًا طويلا. وكان الذي يقرأ حال الجهر قليلا. وهذا منهي عنه بالكتاب والسنة، وعلى النهي عنه جمهور السلف والخلف، وفي بطلان الصلاة بذلك نزاع.
ومن العلماء من يقول: يقرأ حال جهره بالفاتحة. وإن لم يقرأ بها ففي بطلان صلاته أيضا نزاع، فالنزاع من الطرفين، لكن الذين ينهون عن القراءة مع الإمام هم جمهور السلف والخلف، ومعهم الكتاب والسنة الصحيحة، والذين أوجبوها على المأموم في حال الجهر هكذا. فحديثهم قد ضعفه الأئمة، ورواه أبو داود. وقوله في حديث أبي موسي: "وإذا قرأ فأنصتوا" صححه أحمد وإسحاق ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعلله البخاري بأنه اختلف فيه، وليس ذلك بقادح في صحته. بخلاف ذلك الحديث، فإنه لم يخرج في الصحيح، وضعفه ثابت من وجوه. وإنما هو قول عبادة بن الصامت، بل يفعل في سكوته ما يشرع من الاستفتاح والاستعاذة، ولو لم يسكت الإمام سكوتًا يتسع لذلك، أو لم يدرك سكوته، فهل يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام؟ فيه ثلاثروايات:
إحداها: يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام وإن لم يقرأ؛ لأن
ج/ 22 ص -341- مقصود القراءة حصل بالاستماع، وهو لا يسمع استفتاحه واستعاذته إذ كان الإمام يفعل ذلك سرًا.
والثانية: يستفتح ولا يستعيذ؛ لأن الاستعاذة تراد للقراءة، وهو لا يقرأ، وأما الاستفتاح فهو تابع لتكبيرة الافتتاح.
والثالثة: لا يستفتح ولا يستعيذ، وهو أصح، وهو قول أكثر العلماء، كمالك والشافعي، وكذا أبو حنيفة فيما أظن لأنه مأمور بالإنصات والاستماع، فلا يتكلم بغير ذلك؛ ولأنه ممنوع من القراءة، فكذا يمنع من ذلك. وكثير من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم يقول: منعه أولى؛ لأن القراءة واجبة، وقد سقطت بالاستماع؛ لكن مذهب أحمد ليس منعه من القراءة أوكد. فإن القراءة عنده لا تجب على المأموم لا سرًا ولا جهرًا، وإن اختلف في وجوبها على المأموم، فقد اختلف في وجوب الاستفتاح والاستعاذة. وفي مذهبه في ذلك قولان مشهوران.
ومن حجة من يأمر بهما عند الجهر أنهما واجبان لم يجعل عنهما بدل، بخلاف القراءة فإنه جعل منها بدل وهو الاستماع، لكن الصحيح أن ذلك ليس بواجب، والاستعاذة إنما أمر بها من يقرأ، والأمر باستماع قراءة الإمام والإنصات له مذكور في القرآن، وفي السنة الصحيحة، وهو
ج/ 22 ص -342- إجماع الأمة فيما زاد على الفاتحة، وهو قول جماهير السلف من الصحابة وغيرهم في الفاتحة وغيرها، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من حذاق أصحابه: كالرازي، وأبي محمد بن عبد السلام، فإن القراءة مع جهر الإمام منكر مخالف للكتاب والسنة، وما كان عليه عامة الصحابة. ولكن طائفة من أصحاب أحمد استحبوا للمأموم القراءة في سكتات الإمام. ومنهم من استحب أن يقرأ بالفاتحة وإن جهر، وهو اختيار جدي. كما استحب ذلك طائفة منهم الأوزاعي وغيره، واستحب بعضهم للإمام أن يسكت عقب الفاتحة ليقرأ من خلفه، وأحمد لم يستحب هذا السكوت، فإنه لا يستحب القراءة إذا جهر الإمام؛ وبسط هذا له موضع آ خر.
والمقصود هنا أن سكوت الاستفتاح ثبت بهذا الحديث الصحيح. ومع هذا، فعامة العلماء من الصحابة ومن بعدهم يستحبون الاستفتاح بغيره كما يستحب جمهورهم الاستفتاح بقوله: "سبحانك اللهم" وقد بينا سبب ذلك في غير هذا الموضع، وهو أن فضل بعض الذكر على بعض هو لأجل ما اختص به الفاضل، لا لأجل إسناده.
والذكر ثلاثة أنواع أفضله ما كان ثناء على الله ، ثم ما كان إنشاء من العبد، أو اعترافا بما يجب للَّه عليه، ثم ما كان دعاء من العبد.
ج/ 22 ص -343-فالأول: مثل النصف الأول من الفاتحة، ومثل: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك" ، ومثل التسبيح في الركوع والسجود.
والثاني: مثل قوله: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض" ، ومثل قوله في الركوع والسجود: "اللهم لك ركعت ولك سجدت" وكما في حديث على الذي رواه مسلم.
والثالث: مثل قوله: "اللهم بَعِّد بيني وبين خطاياي" ومثل دعائه في الركوع والسجود. ولهذا أوجب طائفة من أصحاب أحمد ما كان ثناء، كما أوجبوا الاستفتاح. وحكي في ذلك عن أحمد روايتان، واختار ابن بطة وغيره وجوب ذلك، وهذا لبسطه موضع آخر.
والمقصود هنا أن النوع المفضول مثل الاستفتاح الذي رواه أبو هريرة، ومثل الاستفتاح بوجهت، أو سبحانك اللهم، عند من يفضل الآخر، فِعْلُه أحيانًا أفضل من المداومة على نوع، وهجر نوع، وذلك أن أفضل الهدي هدي محمد ﷺ. كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول في خطبة الجمعة: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ". ولم يكن يداوم على استفتاح واحد قطعًا. فإن حديث أبي هريرة يدل على أنه كان يستفتح بهذا.
ج/ 22 ص -344- فإن قيل: كان يداوم عليه، فكانت المداومة عليه أفضل، قلنا: لم يقل هذا أحد من العلماء فيما علمناه فَعُلِم أنه لم يكن يداوم عليه.
وأيضًا، فقد كان عمر يجهر: "بسبحانك اللهم وبحمدك" يعلمها الناس. ولولا أن النبي ﷺ كان يقولها في الفريضة، ما فعل ذلك عمر. وأقره المسلمون. وكما كان بعضهم يجهر بالاستعاذة، وكذلك قيل في جهر جماعة منهم بالبسملة: إنه كان لتعليم الناس قراءتها، كما جهر من جهر منهم بالاستعاذة والاستفتاح، وكما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ ولهذا كان الصواب هو المنصوص عن أحمد أنه يستحب الجهر أحيانا بذلك، فيستحب الجهر بالبسملة أحيانًا ونص قوم على أنه كان يجهر بها إذا صلى بالمدينة، فظن القاضي أن ذلك لأن أهل المدينة شيعة يجهرون بها، وينكرون على من لم يجهر بها؛ لأن القاضي لما حج كان قد ظهر بها التشيع، واستولى عليها وعلى أهل مكة العبيديون المصريون، وقطعوا الحج من العراق مدة وإنما حج القاضي من الشام.
والصواب أن أحمد لم يأمر بالجهر لذلك، بل لأن أهل المدينة على عهده كانوا لايقرؤون بها سرًا ولا جهرًا، كما هو مذهب مالك، فأراد أن يجهر بها كما جهر بها من جهر من الصحابة تعليمًا للسنة، وأنه يستحب قراءتها في الجملة. وقد استحب أحمد أيضًا لمن صلى بقوم لا يقنتون
ج/ 22 ص -345- بالوتر، وأرادوا من الإمام ألا يقنت لتأليفهم. فقد استحب ترك الأفضل لتأليفهم، وهذا يوافق تعليل القاضي. فيستحب الجهر بها إذا كان المأمومون يختارون الجهر لتأليفهم، ويستحب أيضا إذا كان فيه إظهار السنة، وهم يتعلمون السنة منه ولا ينكرونه عليه.
وهذا كله يرجع إلى أصل جامع: وهو أن المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة، وإذا كان المحرم كأكل الميتة قد يصير واجبًا للمصلحة الراجحة، ودفع الضرر، فلأن يصير المفضول فاضلا لمصلحة راجحة أولي.
وكذلك يقال في أجناس العبادات كالصلاة: جنسها أفضل من جنس القراءة، والذكر. ثم إنها منهي عنها في أوقات النهي، فالقراءة والذكر والدعاء في ذلك الوقت أفضل من الصلاة، وكذلك الدعاء في مشاعر الحج بعرفة ومزدلفة ومني والصفا والمروة أفضل من القراءة أيضا بالنص والإجماع. فإن النبي ﷺ قال: "إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعًا وساجدًا" وهذا في الصحيح من حديث ابن عباس، ومن حديث على أيضا أنه نهاه عن ذلك، ولو قرأ هل تبطل صلاته؟ فيه وجهان في مذهب أحمد، فالنهي عن الصلاة والقراءة في المشاعر الفضيلة...
ج/ 22 ص -346-
ج/ 22 ص -347-"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" وليس أجرها من جنس أجرها. وإن كان جنس أجر "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" أفضل، فقد يحتاج إلى المفضول حيث لا يغني الفاضل. كما يحتاج الإنسان إلى رجله حيث لا تغني عنها عينه.
وكذلك المخلوقات لكل مخلوق حكمة خلق لأجلها، فكذلك العبادات، فجميع ما شرعه الرسول له حكمة ومقصود ينتفع به مقصوده فلا يهمل ما شرعه من المستحبات. وإن قيل: إن جنس غيره أفضل فهو في زمانه ومكانه أفضل من غيره. والصلوات التي كان يدعو فيها بهذا الاستفتاح، كان دعاؤه فيها بهذا الاستفتاح أفضل من غيره وهو دعاؤه بالطهارة والتنقية من الذنوب والتبعيد عنها من جنس الاستغفار في السحر، وكاستغفاره عقب الصلاة، وقد كان يدعو بمثل هذا الدعاء في آخر قيام الاعتدال بعد التحميد، فكان يفتتح به القيام تارة، ويختم به القيام أيضًا.
وقد روي عنه في الاستفتاح أنواع وعامتها في قيام الليل، كما ذكر ذلك أحمد. ويستحب للمصلي بالليل أن يستفتح بها كلها، وهذا أفضل من أن يداوم على نوع ويهجر غيره، فإن هذا هدي النبي ﷺ، لكن يقال أيضًا : هدي النبي ﷺ هو أفضل، ومن الناس من لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول
ج/ 22 ص -348- أنفع. كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع، فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه ويرغب فيها ويحبها، أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة. كالغذاء الذي يشتهيه الإنسان وهو جائع: هو أنفع له من غذاء لا يشتهيه، أو يأكله وهو غير جائع.
فكذلك يقال هنا: قد تكون مداومته على النوع المفضول أنفع لمحبته وشهود قلبه وفهمه ذلك الذكر. ونحن إذا قلنا: التنوع في هذه الأذكار أفضل، فهو أيضًا تفضيل لجنس التنوع. والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس لمناسبته له، كما قد يكون جنسه في الشرع أفضل في بعض الأمكنة والأزمنة والأحوال، فالمفضول تارة يكون أفضل مطلقًا في حق جميع الناس، كما تقدم. وقد يكون أفضل لبعض الناس؛ لأن انتفاعه به أتم. وهذه حال أكثر الناس قد ينتفعون بالمفضول لمناسبته لأحوالهم الناقصة ما لا ينتفعون بالفاضل الذي لا يصلون إلى أن يكونوا من أهله.
فصل
وكذلك [صلاة الخوف] إذا صلى مرة على وجه، ومرة على وجه، كان أتبع من حفظ وجه وترك آخر، وقد يكون على وجه
ج/ 22 ص -349- أفضل في وقت لمناسبة حاله حال ذلك الوقت، وربما كان بعض الذكر والدعاء في بعض الأوقات أفضل. كذلك، فقد يكون في حال يكون الاستغفار أنفع له، وفي حال يكون إقراره للَّه بالتوحيد أفضل له، وفي حال يكون تسبيحه وتحميده وتهليله وتكبيره أفضل له. والذين يستحبون بعض المشروع ويكرهون بعضه، فإن الله سبحانه يقيم طائفة تقول هذا وطائفة تقول هذا، وطائفة تقول هذا، ويتنازعون. فإن بسبب النزاع تظهر كل طائفة من السنة ما قالت به وتركته الأخري، كالمختلفين في البسملة، هل تجب ويجهر بها؟ أم تكره قراءتها سرًا وجهرًا؟ يحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها من القرآن آية مفردة تبعًا للسور، ويحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها ليست من السور، ولا تجب قراءتها، وكلا القولين حق.
وسورة [اقرأ] هي أول ما نزل من القرآن، وقد احتج بها كل من الطائفتين، وفيها حجة لما معه من الحق، فالذين قالوا: ليست من السور،قالوا: إن جبريل لما أتي النبي ﷺ لم يأمره بقراءتها، بل أمره أن يقرأ: "بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"[العلق: 1] ولو كانت هي أول السورة لأمره بها، وهذا ثابت في الصحيحين من حديث عائشة. والذين قالوا بقراءتها قالوا: قد قال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" [العلق: 1]، فهذا أمر لكل قارئ أن يقرأ باسم ربه. فإذا قيل: اذبح بسم الله ،
ج/ 22 ص -350- وكل بسم الله ، واركب بسم الله ، فمعناه اذكر اسم الله إذا فعلت ذلك فلما قال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"[العلق: 1] كان أمرًا للقارئ أن يذكر اسم الله ، فيقول: بسم الله ، وهذا أولي من ذكر اسم ربه عند الذبح والأكل والشرب.
وهنا قد أمر بالاستعاذة أيضا عند القراءة. وهو إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقد امتثل ما أمر به فذكر اسم ربه إذا قرأ، وإنما لم يذكرها جبريل ابتداء؛ لأنه بعد لم يتعلم شيئًا من القرآن، لكن علمه هذا وأمره فيه بذكر اسم ربه إذا قرأ، فكان بعد هذا إذا قرأ السورة، يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، كما ثبت في صحيح مسلم أنه قال: "قد أنزل علي آنفًا سورة" ثم قرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ" [ سورة الكوثر].
ولكن هذه تدل على أنها تبع للقرآن المقصود؛ لما فيها من ذكر الله؛ ولهذا كتبت في المصاحف مفردة عن السورة لم تخلط بها، فهي قرآن مكتوب في المصاحف، لكن أنزل تبعًا لغيره، والمقصود غيره، فلهذا أفردت في الكتابة والتلاوة، ففي الكتابة تكتب مفردة، وفي التلاوة كان النبي ﷺ لا يجهر بها، ولم يجعلها من القرآن المفروض في الحديث الصحيح بقوله: "يقول الله تعالي: قسمت الصلاة
ج/ 22 ص -351- بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"، قال: أثني على عبدي، فإذا قال: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، قال: مجدني عبدي..." إلى آخر الحديث.
وهذا قول جمهور العلماء في البسملة أنها آية من القرآن مفردة وليست من السورة، وأنه يقرأ بها في الصلاة سرًا، فلا تخرج من القرآن وتهجر، ولا تشبه بالقرآن المقصود فتجهر، وهي تشبه الاستعاذة من بعض الوجوه، لكن الاستعاذة ليست بقرآن، ولم تكتب في المصاحف وإنما فيه الأمر بالاستعاذة، وهذا قرآن. والفاتحة سبع آيات بالاتفاق. وقد ثبت ذلك بقوله: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ" [الحجر:87]. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "فاتحة الكتاب هي السبع المثاني" .
وقد كان كثير من السلف يقول: البسملة آية منها، ويقرؤها، وكثير من السلف لا يجعلها منها، ويجعل الآية السابعة "أَنعَمتَ عَلَيهِمْ" كما دل على ذلك حديث أبي هريرة الصحيح، وكلا القولين حق، فهي منها من وجه، وليست منها من وجه، والفاتحة سبع آيات. من وجه تكون البسملة منها، فتكون آية. ومن وجه لا تكون منها فالآية السابعة "أَنعَمتَ عَلَيهِمْ"؛ لأن البسملة أنزلت تبعًا للسور.
ج/ 22 ص -352- والمقصود أن يبتدأ القرآن بذكر اسم الله ، فهي أنزلت في أول السورة تبعًا لم تنزل في أواخر السور، وكتبت في المصاحف مفردة لكن تبعًا لما بعدها، لا لما قبلها. ولهذا قال النبي ﷺ: "قد أنزلت على آنفًا سورة" وقرأ :"بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ." [ سورة الكوثر ].
وفي السنن كان النبي ﷺ لا يعلم فصل السورة حتى ينزل عليه "بسم الله الرحمن الرحيم" فمن جهة كونها تابعة للسورة تجعل منها، ومن جهة كون المقصود أن يقرأ بسم الله كما يفعل سائر الأفعال بسم الله. والقرآن المقصود غيرها لم تكن آية من السورة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: "إني لأعلم سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ"" . والقراء منهم من يفصل بها بين السورتين، ومنهم من لا يفصل؛ لكون القرآن كله كلام الله ، فلا يفصلون بها بين السورتين، كمن سمي إذا أكل، ثم أكل أنواعًا من الطعام. ومنهم من يسمي في أول كل سورة، وهذا أحسن لمتابعته لخط المصحف، وهو بمنزلة رفع طعام، ووضع طعام. فالتسمية عنده أفضل.
ج/ 22 ص -353- وكذلك من ذبح شاة بعد شاة فالتسمية على كل شاة أفضل. وأما تلاوتها في أول الفاتحة فهو ابتداء بها للقرآن، ولهذا اختلف كلام أحمد، هل قراءتها في أول الفاتحة واجبة فرض لا تصح الصلاة إلا به؟ على روايتين. وذكر عنه روايتان في الاستعاذة والاستفتاح، فالبسملة أولي بالوجوب، ثم وجوبها قد يبتني على أنها من الفاتحة، وقد يقال بوجوبها وإن لم تكن من الفاتحة، كما يوجب الاستعاذة والاستفتاح؛ ولهذا لا يجعل الجهر بها تبعًا لوجوبها، بل يوجبها ويستحب المخافتة بها، ولو كانت من الفاتحة من كل وجه، لكان الجهر ببعض الفاتحة دون بعض بعيدًا عن الأصول، فإذا جعلت منها من وجه دون وجه، اتفقت الأدلة والأصول، وأعطي كل شيء من ذلك صفة، ولم يقل: إنها من القرآن في أول الفاتحة، ولو كقول من لم يجعلها من القرآن في حال إلا في سورة النمل.
وقد قال طائفة: إنها من القرآن في قراءة دون قراءة، لتواتر هذه القراءات، فيقال: المتواتر هو الأمر الوجودي، وهو ما سمعوه من القرآن من الصحابة، وبلغوه عن الرسول، والقرآن في زمانه لم يكتب، ولا كان ترتيب السور على هذا الوجه أمرًا واجبًا، مأمورًا به من عند الله ، بل الأمر مفوض في ذلك إلى اختيار المسلمين؛ ولهذا كان لجماعة من الصحابة لكل منهم اصطلاح في ترتيب سوره غير
ج/ 22 ص -354- اصطلاح الآخر. وحينئذ، فيكون الذين لا يقرؤونها، قد أقرأهم الرسول ولم يبسمل، وأولئك أقرأهم وبسمل. فهذا يدل على جواز الأمرين، وإن كان أحدهما أفضل لا يدل على أنها في أحد الحرفين ليست من القرآن، وأنه نهي عن قراءتها، فإن هذا جمع بين النقيضين، كيف يسوغ قراءتها والنهي عن قراءتها؟ بل هذا يدل على جواز الأمرين كالحروف التي ثبتت في قراءة دون قراءة مثل "من تحتها" ، ومثل "إن الله هو الغني" فالرسول يجوز إثبات ذلك، ويجوز حذفه، كلاهما جائز في شرعه.
وبهذا يتبين أن من قال من الفقهاء: إنها واجبة على قراءة من أثبتها أو مكروهة على قراءة من لم يثبتها فقد غلط، بل القرآن يدل على جواز الأمرين. ومن قرأ بإحدي القراءات لا يقال: إنه كلما قرأ يجب أن يقرأ بها، ومن ترك ما قرأ به غيره لا يقول: إن قراءة أولئك مكروهة، بل كل ذلك جائز بالاتفاق. وإن رجح كل قوم شيئًا، وبهذا يتبين أن من أنكر كونها من القرآن بالكلية إلا في سورة النمل، وقطع بخطأ من أثبتها بناء على أن القرآنية لا تثبت إلا بالقطع، فهو مخطئ في ذلك، ويقال له: ولا تنفي إلا بالقطع أيضا.
ثم يقال له: من أثبتها يقطع بأنها ثابتة، ويقطع بخطأ من نفاها، بل التحقيق أن كون الشيء قطعيًا أو غير قطعي، أمر إضافي، والقراءات
ج/ 22 ص -355- تدل على جواز الأمرين، ولكن القراءة بها أفضل. وهذا قول جمهور العلماء يجوزون هذا، ويرجحون قراءتها، ويخفونها عن غيرها من القرآن؛ لأنها تابعة لغيرها. و الله أعلم. والحمد للَّه رب العالمين. وصلي الله على سيدنا محمد. وآله وصحبه وسلم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ج/ 22 ص -356- وَقَالَ شيخ الإِسلام:
[قاعدة] في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي: مثل الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف.
ومثل التمتع، والإفراد، والقِرَان في الحج، ونحو ذلك. فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة، والشعائر أوجب أنواعًا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله، وعباده المؤمنون:
أحدها: جهل كثير من الناس، أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله، والذي سنه رسول الله ﷺ لأمته، والذي أمرهم باتباعه.
الثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم، تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم، وصلتهم، لعدم موافقتهم له
ج/ 22 ص -357- علي الوجه الذي يؤثرونه، حتى يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرًا عند الله ورسوله، ويتركون من يكون مقدما عند الله ورسوله لذلك.
الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس، حتى يصير كثير منهم مدينًا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة. وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة: كالخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: "وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" [ص:26]، وقال في كتابه: "وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ" [المائدة: 77].
الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا، ويعاديه، ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله ، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن، واللعن، والهمز، واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله.
ج/ 22 ص -358- والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال الله تعالي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ" إلى قوله: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ" [آل عمران:102- 106]، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه عن السنة التي شرعها رسول الله ﷺ لأمته، ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها ورسوله، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ" [الأنعام:159]، وقال تعالى: "وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ" [البقرة:213]، وقال تعالى: "وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" [البينة: 4، 5]، وقال تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ" [آل عمران: 19]، وقال تعالى: "وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ" [الجاثية: 17]، وقال تعالى: "فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [يونس:93]،
ج/ 22 ص -359-وقال تعالى: "فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ" [الأنفال: 1]، وقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" [الحجرات:10]، وقال: "إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ" [النساء: 114].
وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وألا يتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالي به في كتابه.
ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي ﷺ في مواطن عامة وخاصة، مثل قوله: "عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة" ، وقوله:"فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"، وقوله:"من رأي من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه"، وقوله:"ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟" قالوا: بلي يا رسول الله .قال: "صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".
وقوله:"من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان", وقوله: "يصلون لكم
ج/ 22 ص -360- فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم" ، وقوله: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة ناجية، واثنتان وسبعون في النار"، قيل: ومن الفرقة الناجية؟ قال: "هي الجماعة، يد الله على الجماعة" .
وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غيرها، هو التفرق والاختلاف. فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها، من ملوكها ومشايخها، وغيرهم من ذلك ما الله به عليم. وإن كان بعض ذلك مغفورًا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو لغير ذلك، لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره. وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة. النوعالخامس: هو شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون، وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة. ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخرى.
ج/ 22 ص -361- أما الأول، فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله، وأمر أزواج نبيه بذكره، حيث يقول: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ" [الأحزاب:34]، حفظه من أن يقع فيه من التحريف ما وقع فيما أنزل قبله. كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، فعصم حروف التنزيل أن يغير، وحفظ تأويله أن يضل فيه أهل الهدي المتمسكون بالسنة والجماعة، وحفظ أيضًا سنة رسول الله ﷺ عما ليس فيها من الكذب عمدًا أو خطأ، بما أقامه من علماء أهل الحديث وحفاظه، الذين فحصوا عنها وعن نقلتها ورواتها، وعلموا من ذلك ما لا يعلم غيرهم، حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها إجماعًا معصوما من الخطأ؛ لأسباب يطول وصفها في هذا الموضع. وعلموا هم خصوصًا وسائر علماء الأمة، بل وعامتها عموما ما صانوا به الدين عن أن يزاد فيه، أو ينقص منه، مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم في اليوم والليلة إلا الصلوات الخمس، وأن مقادير ركعاتها ما بين الثنائي والثلاثي والرباعي، وأنه لم يفرض عليهم من الصوم إلا شهر رمضان، ومن الحج إلا حج البيت العتيق، ومن الزكاة إلا فرائضها المعروفة، إلى نحو ذلك.
وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبي ﷺ؛ لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة أن النبي
ج/ 22 ص -362- ﷺ نص على علي بالخلافة نصًا قاطعًا جليًا، وزعم آخرين أنه نص على العباس.
وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة التي يأثرونها في مثل الغزوات التي يروونها عن على وليس لها حقيقة، كما يرويها المكذبون الطرقية مثل أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنتر والبطَّال حيث علموا مجموع مغازي رسول الله ﷺ، وأن القتال فيها كان في تسعة مغاز فقط، ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو في شيء من مغازي القتال عشرين ألفا.
ومثل الفضائل المروية ليزيد بن معاوية ونحوه، والأحاديث التي يرويها كثير من الكَرَّامية في الإرجاء ونحوه، والأحاديث التي يرويها كثير من النساك في صلوات أيام الأسبوع، وفي صلوات أيام الأشهر الثلاثة، والأحاديث التي يروونها في استماع النبي ﷺ هو وأصحابه، وتواجده، وسقوط البردة عن ردائه، وتمزيقه الثوب، وأخذ جبريل لبعضه، وصعوده به إلى السماء، وقتال أهل الصفة مع الكفار، واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء، والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة، وصبيحة مزدلفة، ورؤية النبي ﷺ له في الأرض بعين رأسه، وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التي يطول وصفها. فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلا الله تعالي؛ لأن الكذب يحدث شيئًا فشيئًا ليس بمنزلة الصدق
ج/ 22 ص -363- الموروث عن النبي ﷺ الذي لا يحدث بعده، وإنما يكون موجودًا في زمنه ﷺ، وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول، وورثة الأنبياء.
وكان من الدلائل على انتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه:
أحدها: أن ما توفرت همم الخلق ودواعيهم على نقله وإشاعته يمتنع في العادة كتمانه، فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم، كما يعلم كذب من خرج يوم الجمعة وأخبر بحادثة كبيرة في الجامع مثل سقوط الخطيب وقتله، وإمساك أقوام في المسجد، إذا لم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان. ويعلم كذب من أخبر أن في الطرقات بلادًا عظيمة وأمما كثيرين، ولم يخبر بذلك السيارة، وإنما انفرد به الواحد والاثنان، ويعلم كذب من أخبر بمعادن ذهب وفضة متيسرة لمن أرادها بمكان يعلمه الناس، ولم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان. وأمثال ذلك كثيرة فباعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال، يعلم كذب ما ينقل من الأمور التي مضت سنة الله بظهورها وانتشارها، لو كانت موجودة.
كما يعلم أيضا صدق ما مضت سنة الله في عباده أنهم لا يتواطؤون فيه على الكذب، من الأمور المتواترة، والمنقولات المستفيضة. فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان، في مثل هذه الأمور، دون
ج/ 22 ص -364- الكذب والكتمان، كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس، فالنفس بطبعها تختار الصدق، إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح وتختار الأخبار بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها.
والناس يستخبر بعضهم بعضًا، ويميلون إلى الاستخبار والاستفهام عما يقع. وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه، ويبين له دون أن يكذبه ويكتمه. والكذب والكتمان يقع كثيرًا في بني آدم في قضايا كثيرة لا تنضبط، كما يقع منهم الزنا وقتل النفوس والموت جوعًا وعريًا ونحو ذلك، لكن ليس الغالب على أنسابهم إلا الصحة، وعلي أنفسهم إلا البقاء، فالغرض هنا أن الأمور المتواترة يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكذب، والأخبار الشاذة يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكتمان.
الوجه الثاني: أن دين الأمة يوجب عليهم تبليغ الدين، وإظهاره وبيانه، ويحرم عليهم كتمانه، ويوجب عليهم الصدق، ويحرم عليهم الكذب، فتواطؤهم على كتمان ما يجب بيانه، كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمور التي تحرم في دين الأمة، وذلك باعث موجب الصدق والبيان.
الثالث: أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها وعظيم رغبتها في تبليغ الدين وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول
ج/ 22 ص -365- ﷺ ما يوجب أعظم العلوم الضرورية، بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه، ولا كتموا ما أمرهم بتبليغه، وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم غير العادة العامة المشتركة بين جنس البشر.
الرابع: أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله ﷺ الموجبة عليهم التبليغ، ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله، ومن دين آحادهم مثل الخلفاء، ومثل ابن مسعود، وأبي، ومعاذ، وأبي الدرداء إلى ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو، وغيرهم. يعلمون علما يقينا لا يتخالجه ريب امتناع هؤلاء من كتمان قواعد الدين التي يجب تبليغها إلى العامة، كما يعلمون امتناعهم من الكذب على رسول الله ﷺ.
ويعلم أيضًا أهل الحديث مثل أحوال المشاهير بمعرفة ذلك مثل: الزهري وقتادة ويحيي ابن أبي كثير، ومثل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وغيرهم أمورًا يعلمون معها امتناعهم من الكذب، وامتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التي تأبي أحوالهم كتمانها، لو كانت موجودة، ولهم في ذلك أسباب يطول شرحها وليس الغرض هنا تقرير ذلك. وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة لبعض الناس من أهل الأهواء.
ج/ 22 ص -366- قالوا: هذا الذي ذكرتموه معارض بأمر الأذان والإقامة، فإنه كان يفعل على عهد النبي ﷺ كل يوم خمس مرات، ومع هذا فقد وقع الاختلاف في صفته. وكذلك الجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، وحجة الوداع من أعظم وقائعه، وقد وقع الاختلاف في نقلها، وذكروا نحو هذه الأمور التي وقعت فيها الشبهة والنزاع عند بعض الناس، وجعلوا هذا معارضًا لما تقدم ليسوغوا أن يكون من أمور الدين ما لم ينقل، بل كتم لأهواء وأغراض.
وأما جهة الرأي والتنازع، فإن تنازع العلماء واختلافهم في صفات العبادات، بل وفي غير ذلك من أمور الدين صار شبهة لكثير من أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم، وقالوا: إن دين الله واحد، والحق لا يكون في جهتين: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" [النساء: 82].
فهذا التفرق والاختلاف، دليل على انتفاء الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، ويعبرون عنهم بعبارات تارة يسمونهم الجمهور، وتارة يسمونهم الحشوية، وتارة يسمونهم العامة، ثم صار أهل الأهواء لما جعلوا هذا مانعًا من كون الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، كل ينتحل سبيلا من سبل الشيطان.
ج/ 22 ص -367- فالرافضة تنتحل النقل عن أهل البيت لما لا وجود له. وأصل من وضع ذلك لهم زنادقة، مثل رئيسهم الأول عبد الله بن سبأ، الذي ابتدع لهم الرفض، ووضع لهم أن النبي ﷺ نص على علي بالخلافة، وأنه ظُلِم ومُنِع حقه، وقال: إنه كان معصومًا، وغرض الزنادقة بذلك التوسل إلى هدم الإسلام؛ ولهذا كان الرفض باب الزندقة والإلحاد، فالصابئة المتفلسفة ومن أخذ ببعض أمورهم، أو زاد عليهم من القرامطة والنصيرية والإسماعيلية والحاكمية وغيرهم إنما يدخلون إلى الزندقة والكفر بالكتاب والرسول، وشرائع الإسلام من باب التشيع والرفض، والمعتزلة ونحوهم تنتحل القياس والعقل. وتطعن في كثير مما ينقله أهل السنة والجماعة، ويعللون ذلك بما ذكر من الاختلاف ونحوه. وربما جعل ذلك بعض أرباب الملة من أسباب الطعن فيها، وفي أهلها، فيكون بعض هؤلاء المتعصبين ببعض هذه الأمور الصغار ساعيًا في هدم قواعد الإسلام الكبار.
فَصْل
إذا تبين بعض ما حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفساد، فنحن نذكر طريق زوال ذلك، ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات، وذلك ببيان الأصلين اللذين هما [السنة والجماعة]
ج/ 22 ص -368- المدلول عليهما بكتاب الله، فإنه إذا اتبع كتاب الله وما تضمنه من اتباع رسوله، والاعتصام بحبله جميعًا، حصل الهدي والفلاح، وزال الضلال والشقاء.
أما الأصل الأول وهو الجماعة وبدأنا به لأنه أعرف عند عموم الخلق، ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنة فنقول:
عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات، لا في واجبات ومحرمات، فإن الرجل إذا حج متمتعًا أو مفردًا أو قارنًا كان حجه مجزئًا عند عامة علماء المسلمين، وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك، ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك، فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها، ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال.
وكذلك الأذان سواء رَجع فيه أو لم يرجع، فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة، وعامة خلفها. وسواء ربّع التكبير في أوله أو ثناه. وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة، كما خالف فيه بعض الشيعة، فأوجب له الحيعلة [بحي على خير العمل] وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية بأيها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام، إلا
ج/ 22 ص -369- ما تنازع فيه شذوذ الناس.
وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة. وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما، أو يكره الآخر، أو يختار ألا يقرأ بها، فالمنازعة بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء، فإنهم وإن تنازعوا بالجهر والمخافتة في موضعهما، هل هما واجبان أم لا؟ وفيه نزاع معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فهذا في الجهر الطويل بالقدر الكثير، مثل المخافتة بقرآن الفجر، والجهر بقراءة صلاة الظهر.
فأما الجهر بالشيء اليسير، أو المخافتة به، فمما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك. وما أعلم أحدًا قال به. فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه كان في صلاة المخافتة يسمعهم الآية أحيانًا. وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي ﷺ، فلما رفع رأسه من الركعة. قال:"سمع الله لمن حمده"، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركا فيه، فلما انصرف قال:"من المتكلم؟" قال: أنا، قال: "رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول" .
ومعلوم أنه لولا جهره بها، لما سمعه النبي ﷺ، ولا
ج/ 22 ص -370- الراوي. ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك، وكذلك ثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك". وهذا فعله بين المهاجرين والأنصار. والسنة الراتبة فيه المخافتة، وكذلك كان من الصحابة من يجهر بالاستعاذة. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها السنة، ولهذا نظائر.
وأيضًا، فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة، كابن الزبير ونحوه، ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره، وتكلم الصحابة في ذلك، ولم يبطل أحد منهم صلاة أحد في ذلك. وهذا مما لم أعلم فيه نزاعًا، وإن تنازعوا في وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى.
وكذلك القنوت في الفجر إنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته، وسجود السهو لتركه أو فعله، وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت، وأنه ليس بواجب، وكذلك من فعله إذ هو تطويل يسير للاعتدال، ودعاء الله في هذا. الأذان، فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله ﷺ قد أمره النبي ﷺ
ج/ 22 ص -371- بأحد النوعين، صار ذلك مثل تعليمه القرآن لعمر بحرف، ولهشام بن حكيم بحرف آخر، وكلاهما قرآن أذن الله أن يقرأ به. وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة، وهو محذوف من أذان بلال الذي رووه في السنن، وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة بها صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة، وصحت المخافتة بها عن أكثرهم، وعن بعضهم الأمران جميعًا.
وأما المأثور عن النبي ﷺ، فالذي في الصحاح والسنن، يقتضي أنه لم يكن يجهر بها، كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته، ففي الصحيح حديث أنس وعائشة وأبي هريرة، يدل على ذلك دلالة بينة، لا شبهة فيها، وفي السنن أحاديث أخر: مثل حديث ابن مغفل وغيره، وليس في الصحاح والسنن حديث فيه ذكر جهره بها، والأحاديث المصرحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لم يخرجوا في أمهات الدواوين منها شيئًا، ولكن في الصحاح والسنن أحاديث محتملة.
وقد روي الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس: أن النبي ﷺ كان يجهر بها إذ كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتي مات. ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وهذا
ج/ 22 ص -372- يناسب الواقع. فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها، وأما أهل المدينة والشام والكوفة، فلم يكونوا يجهرون بها، وكذلك أكثر البصريين، وبعضهم كان يجهر بها؛ ولهذا سألوا أنسًا عن ذلك. ولعل النبي ﷺ كان يجهر بها بعض الأحيان، أو جهرًا خفيفًا إذا كان ذلك محفوظًا، وإذا كان في نفس كتب الحديث أنه فعل هذا مرة، وهذا مرة زالت الشبهة.
وأما القنوت، فأمره بيِّن لا شبهة فيه عند التأمل التام. فإنه قد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ: أنه قنت في الفجر مرة يدعو على رَعْل وذَكْوَان وعَصِيَّة. ثم تركه ولم يكن تركه نسخًا له؛ لأنه ثبت عنه في الصحاح: أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين: مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، ويدعو على مُضر، وثبت عنه أنه قنت أيضا في المغرب والعشاء، وسائر الصلوات قنوت استنصار.
فهذا في الجملة منقول ثابت عنه، لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تركه ترك نسخ، فاعتقد أن القنوت منسوخ، واعتقد بعضهم من المكيين أنه مازال يقنت في الفجر القنوت المتنازع فيه حتي فارق الدنيا. والذي عليه أهل المعرفة بالحديث، أنه قنت لسبب، وتركه لزوال السبب.
ج/ 22 ص -373- فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب؛ لأنه ثبت أنه تركه لما زال العارض، ثم عاد إليه مرة أخرى، ثم تركه لما زال العارض. وثبت في الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرًا، هكذا ثبت عن أنس وغيره، ولم ينقل أحد قط عنه أنه قنت القنوت المتنازع فيه، لا قبل الركوع ولا بعده، ولا في كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك، بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر، وأبي مالك الأشجعي وغيرهما.
ومن المعلوم - قطعًا - أن الرسول ﷺ لو كان كل يوم يقنت قنوتا يجهر به، لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة، فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت العارض، وقنوت الوتر، فالقنوت الراتب أولي أن ينقل دعاؤه فيه. فإذا كان الذي نستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر، علم أنه ليس فيه شيء عن النبي ﷺ، وهذا مما يعلم باليقين القطعي، كما يعلم عدم النص على هذا وأمثاله، فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نقل ذلك. فإنه مما يعلم بطلانه قطعًا.
وكذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر، وعلي، وغيرهما هو القنوت العارض، قنوت النوازل، ودعاء عمر فيه، وهو قوله:"اللهم عذِّب كفرة أهل الكتاب" إلخ. يقتضي أنه دعا به عند قتله للنصاري، وكذلك دعاء على عند قتاله لبعض أهل القبلة. والحديث الذي فيه عن
ج/ 22 ص -374- أنس: أنه لم يزل يقنت حتي فارق الدنيا مع ضعف في إسناده، وأنه ليس في السنن، إنما فيه القنوت قبل الركوع.
وفي الصحاح عن أنس أنه قال: لم يقنت رسول الله ﷺ بعد الركوع إلا شهرًا والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل إذ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة، فتارة يكون في السجود وتارة يكون في القيام، كما قد بيناه في غير هذا الموضع.
وأما حجة الوداع وإن اشتبهت على كثير من الناس فإنما أتوا من جهة الألفاظ المشتركة حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج. وهؤلاء أيضًا يقولون: إنه أفرد الحج، ويقول بعضهم: إنه قرن العمرة إلى الحج، ولا خلاف في ذلك. فإنهم لم يختلفوا أن النبي ﷺ لم يحل من إحرامه، وأنه كان قد ساق الهدي ونحره يوم النحر، وأنه لم يعتمر بعد الحجة في ذلك العام، لا هو ولا أحد من أصحابه، إلا عائشة أمر أخاها أن يعمرها من التنعيم أدني الحل وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه فيها أنه لم يطف بالصفا والمروة إلا مرة واحدة، مع طوافه الأول.
فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا، ل أنه أفرد أعمال الحج لم يقرن
ج/ 22 ص -375- بها عمل العمرة، كما يتوهم من يقول:إن القارن يطوف طوافين. ويسعي سعيين، ولم يتمتع تمتعًا حل به من إحرامه كما يفعله المتمتع الذي لم يسق الهدي، بل قد أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، ويهلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم . ا. ه .
ج/ 22 ص -376- وَقال الشيخ رحمه الله :
فصل
أنواع الاستفتاح للصلاة ثلاثة وهي أنواع الأذكار مطلقًا بعد القرآن أعلاها ما كان ثناء على الله، ويليه ما كان خبرًا من العبد عن عبادة الله، والثالث ما كان دعاء للعبد.
فإن الكلام إما إخبار، وإما إنشاء، وأفضل الأخبار ما كان خبرًا عن الله. والإخبار عن الله أفضل من الخبر عن غيره، ومن الإنشاءات. ولهذا كانت "قٍلً هٍوّ بلَّهٍ أّحّدِ" [سورة الإخلاص]، تعدل ثلث القرآن؛ لأنها تتضمن الخبر عن الله، وكانت آية الكرسي أفضل آية في القرآن؛ لأنها خبر عن الله، فما كان من الذكر من جنس هذه السورة، وهذه الآية، فهو أفضل الأنواع. والسؤال للرب هو بعد الذكر المحض، كما في حديث مالك بن الحويرث: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" .
ولهذا كانت الفاتحة نصفين: نصفًا ثناء، ونصفًا دعاء. والنصف
ج/ 22 ص -377- الثاني هو المقدم، وهو الذي للَّه عز وجل. وكذلك في حديث الشفاعة الصحيح قال: "فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسَلْ تُعطَه، واشفع تشفع" فبدأ بالحمد للَّه، حتي أذن له في السؤال فسأل .
وفي صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: "من تَعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، والحمد للَّه، وسبحان الله، والله أكبر، اللهم اغفر لي. فإن دعا استجيب دعاؤه، وإن توضأ وصلي قبلت صلاته" وقال: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" ولهذا كان التشهد ثناء على الله -عز وجل. وقال في آخره: "ثم ليتخير من المسألة ما شاء" .
والأدعية الشرعية هي بعد التشهد ولم يشرع الدعاء في القعود قبل التشهد بل قُدم الثناء على الدعاء، وفي حديث الذي دعا قبل الثناء قال النبي ﷺ: "عجل هذا". فروي الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبيد قال: سمع رسول الله ﷺ، رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على
ج/ 22 ص -378- النبي ﷺ، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم عَجِل هذا" ، ثم دعاه فقال له - أو لغيره -:"إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي ﷺ، ثم يدعو بعد ذلك بما شاء" والذكر المشروع باتفاق المسلمين في الركوع والسجود، والاعتدال. وأما الدعاء في الفرض ففي كراهيته نزاع، وإن كان الصحيح أنه لا يكره ولكن الذكر أفضل، فإن الذكر مأمور به فيهما بقوله تعالي: "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ " [الواقعة: 74]، و"سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" [الأعلي: 1]، قال النبي ﷺ: "اجعلوها في ركوعكم" ، والثانية: "اجعلوها في سجودكم" .
فأما قوله ﷺ: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" ، ففيه الأمر في الركوع بالتعظيم، وأمره بالدعاء في السجود بيان منه أن الدعاء في السجود أحق بالإجابة من الركوع؛ ولهذا قال: "فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم" كما قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" ، فهو أمر بأن يكون الدعاء في السجود.
أمر بالصفة لا بالموصوف، أو أمر بالصفة والموصوف، وإن كان التسبيح أفضل، فإنه ليس من شرط المأمور ألا يكون غيره أفضل
ج/ 22 ص -379- منه؛ لأن الدعاء هو بحسب مطلوب العبد، لم يذكر دعاء معينًا أمر به كما أمر بالفاتحة، بقوله: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ" [الفاتحة: 6]، والدعاء الواجب لا يكون إلا معينًا، وإن كان جنس الدعاء واجبًا، فمعلوم أن الدعاء جائز في نفس الصلاة، وخارج الصلاة. وأكثر الأدعية المنقولة عن النبي ﷺ كانت في آخر الصلاة، كما في الحديث المروي عنه ﷺ أنه ذكر: أن أجوب الدعاء جوف الليل الآخر ودبر الصلاة.
فعلم أن الدعاء دبر الصلاة لاسيما قبل السلام كما كان النبي ﷺ يدعو في الغالب فهو أجوب سائر أحوال الصلاة؛ لأنه دعاء بعد إكمال العبادة.
وأما السجود فإنما ذكره والركوع، لأنه قال: "إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا؛ أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم" فلما نهي عن القراءة في هذين الحالين، ذكر ما يكون بدلا مشروعا لمن أراد، فخص الركوع بالتعظيم، والسجود بالدعاء. فجمع الأقسام الثلاثة: القراءة، والذكر، والدعاء.
ومما يبين فضل الذكر على المسألة، ما ثبت في صحيح مسلم عن
ج/ 22 ص -380- النبي ﷺ أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن :سبحان الله والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر" ولهذا أمر بالذكر من عجز عن القراءة في الصلاة؛ لأن الاعتدال مشروع فيه التحميد بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين، وهو الذي كان النبي ﷺ يفعله في كل صلاة، وكان أحيانا يدعو بعد التحميد بقوله: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" فأخر السؤال عن الحمد والثناء والمجد، وأمر أيضًا بالحمد بقوله: "فإذا قال:سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد" وما داوم عليه وقدمه وأمر به أفضل مما كان يفعله أحيانا، ويؤخره، ولم يأمر به. وأيضًا، فنوع الثناء أضافه الرب إلى نفسه، ونوع السؤال أضافه إلى عبده. فقال: "إذا قال العبد: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" قال: أثني على عبدي. وإذا قال: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" قال: هذه الآية، بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل، فإذا قال: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ" إلى آخر السورة. قال: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل" .
وأيضًا، فجماهير العلماء على إيجاب الثناء، فيوجبون التشهد الأخير، وكذلك التشهد الأول، يجب مع الذكر عند مالك وأحمد، فإذا تركه
ج/ 22 ص -381- عمدًا، بطلت صلاته، وتسبيح الركوع والسجود كذلك أيضا عند أحمد وغيره، وكذلك التكبير، تكبير الانتقال، ف مذهب مالك من ترك من ذلك ثلاثًا عمدًا أعاد الصلاة، ومذهب أحمد مشهور عنه مطلقا، وما يذكره أصحاب أحمد في مسائل الخلاف أن إيجاب هذه الأذكار من مفردات أحمد عن الثلاثة فذلك لأن أصحاب مالك يسمون هذه سننا، والسنة عندهم قد تكون واجبة إذا تركها أعاد، وهذه من ذلك، فيظن من يظن أن السنة عندهم لا تكون إلا لما يجوز تركه، وليس كذلك. وأما الدعاء، فلم يجب منه دعاء مفرد أصلا، بل ما وجب من الفاتحة وجب بعد الثناء وكذلك من أوجب أن يدعو بعد التشهد بالدعاء المأمور به هناك، هو الاستعاذة من عذاب جهنم، والقبر، وفتنة المحيا والممات، والدجال. فإنما أوجبه بعد التشهد الذي هو ثناء، وهو قول طاووس ووجه في مذهب أحمد.
وأيضًا، فالدعاء لم يشرع مجردًا، لم يشرع إلا مع الثناء. وأما الثناء، فقد شرع مجردًا بلا كراهة. فلو اقتصر في الاعتدال على الثناء، وفي الركوع والسجود على التسبيح، كان مشروعا بلا كراهة، ولو اقتصر في ذلك على الدعاء، لم يكن مشروعًا، وفي بطلان الصلاة نزاع.
وأيضًا، فالثناء يتضمن مقصود الدعاء، كما في الحديث: "أفضل
ج/ 22 ص -382- الذكر. لا إله إلا الله. وأفضل الدعاء الحمد للَّه" فإن ثناء الداعي على المدعو بما يتضمن حصول مطلوبه، قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب كما قيل:
إذا أثني عليك المرء يومًا كفاه من تعرضه الثناء
ولهذا يقول في الدعاء المأثور: "أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض". فسأله بأن له الحمد، فعلم بأن الاعتراف بكونه مستحقًا للحمد، هو سبب في حصول المطلوب.
وهذا كقول أيوب عليه السلام :"مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" [الأنبياء: 83]، فقوله: هذا أحسن من قوله: ارحمني. وفي دعاء ليلة القدر الذي روته عائشة: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" .
وفي الصحيحين عن ابن عباس: أن النبي ﷺ كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع، ورب الأرض رب العرش الكريم" .
ومما يبين فضل الثناء على الدعاء، أن الثناء المشروع يستلزم الإيمان باللَّه، وأما الدعاء فقد لا يستلزمه، إذ الكفار يسألون الله
ج/ 22 ص -383- فيعطيهم، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع فإن سؤال الرزق والعافية ونحو ذلك من الأدعية المشروعة، هو مما يدعو به المؤمن والكافر؛ بخلاف الثناء كقوله: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك" و"التحيات للَّه والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فإن هذا لا يثني به إلا المؤمن، وكذلك قوله: "اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد ". لكن قد يكون بعض الثناء يقر به الكفار، كإقرارهم بأن الله خالق السموات والأرض، وأنه يجيب المضطر إذا دعاه، ونحو ذلك.
لكن المشركون لم يكن لهم ثناء مشروع يثنون به على الله. حتي في تلبيتهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكذلك النصارى ثناؤهم فيه الشرك، وأما اليهود فليس في عبادتهم ثناء، اللهم إلا ما يكون مأثورًا عن الأنبياء، وذلك من ثناء أهل الإيمان. وكذلك النصارى، إن كان عندهم شيء من ذلك. وأما ما شرعه من ثنائه، فهو يتضمن الإيمان، والأدلة الدالة على فضل جنس الثناء على جنس الدعاء كثيرة. مثل أمره أن يقال عند سماع المؤذن مثل ما يقول، ثم يصلي على النبي ﷺ ثم يسأل له الوسيلة، ثم يسأل العبد بعد ذلك. فقدم الثناء على
ج/ 22 ص -384- الدعاء، وهكذا بعد التشهد، فإنه قدم فيه الثناء على الله، ثم الدعاء لرسوله، ثم للإنسان. وكذلك هنا مع أني لا أعلم في هذا نزاعًا بين العلماء، ولكن المفضول قد يكون أحيانا أفضل. فإن الصلاة أفضل من قراءة القرآن. والقرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء. والمفضول قد يعرض له حال يكون فيه أفضل لأسباب متعددة، إما مطلقًا كفضيلة القراءة وقت النهي على الصلاة، وإما لحال مخصوص، وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن جنس الثناء أفضل من السؤال. كما قال تعالي: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" وقراءة القرآن أفضل منهما، كما في حديث الترمذي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه قال: "يقول الله عز وجل : من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، قال الترمذي: حسن غريب.
وهذا بين في الاعتبار، لأن السائل غاية مقصوده حصول مطلوبه ومراده، فهو مريد من الله، وإن كان مطلوبه محبوبًا للَّه، مثل أن يطلب منه إعانته على ذكره وشكره، وحسن عبادته، فهو يريد منه هذا الأمر المحبوب للَّه.
ج/ 22 ص -385- وأما المثني، فهو ذاكر لنفس محبوب الحق من أسمائه وصفاته فالمطلوب بهذا معرفة الله ومحبته وعبادته. وهذا مطلوب لنفسه لا لغيره، وهو الغاية التي خلق لها الخلق. كما قال تعالي: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56]، والسؤال وسيلة إلى هذا. ولهذا قال في الفاتحة: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" فقدم قوله:"إِيَّاكَ نَعْبُدُ"؛ لأنه المقصود لنفسه، على قوله: "وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"؛ لأنه وسيلة إلى ذلك. والمقاصد مقدمة في القصد والقول على الوسائل، ثم مقصود السائل من الدعاء يحصل لهذا العابد المثني مع اشتغاله بأشرف القسمين.
وأما الداعي، فإذا كان مهتما بما هو محتاج إليه من جلب منفعة ودفع مضرة، كحاجته إلى الرزق والنصر الضروري، كان اشتغاله بهذا نفسه صارفًا له عن غيره. فإذا دعا الله سبحانه فقد يحصل له بالدعاء من معرفة الله. ومحبته، والثناء عليه، والعبودية له، والافتقار إليه ما هو أفضل وأنفع من مطلوبه ذلك. كما قال بعض السلف: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة كثرت فيها قرع باب سيدك. وقال بعضهم: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فادعوه، فيفتح لي من باب معرفته ما أحب معه ألا يعجل لي قضاءها؛ لئلا ينصرف قلبي عن الدعاء.
والسائل إذا حصل سؤاله برد، فإنه لم يكن مراده إلا سؤاله، وإذا حصل أعرض عن الله، فهذا حال الكفار الذين ذمهم الله في القرآن كقوله: "وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ" [يونس: 12]،
ج/ 22 ص -386-وقال تعالى: "قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ"[الأنعام: 63،64]، وقال تعالى:"وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" [ الزمر: 8].
فقوله سبحانه : "نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ"، أي نسي ما كان يدعو الله إليه، وهو الحاجة التي طلبها، فإن دعاءه كان إليها، أي توجهه إليها، وقصده، فهي الغاية التي كان يقصدها. وإذا كانت ما مصدرية، كان تقديره نسي كونه يدعو الله إلى حاجته. كما قال تعالي في الآية الأخري: "فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ". لكن على هذا، يبقي الضمير في إليه عائدًا على غير مذكور، بخلاف ما إذا جعلت بمعني الذي فإن التقدير نسي حاجته الذي دعاني إليها من قبل، فنسي دعاءه الله الذي كان سبب الحاجة، وإلي حرف الغاية. كما قال تعالي في الآية الأخري: "قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ" [الأنعام: 40، 41]، فقد أخبر تعالى أنه يكشف ما يدعون
ج/ 22 ص -387-إليه وهي الشدة التي دعوا إليها.
وأما المؤمن فلابد بعد قضاء حاجته من عبادة الله وإخلاصه له كما أمره، إما قياما بالواجب فقط، فيكون من الأبرار، أو بالواجب والمستحب فيكون من المقربين. ومن ترك بعض ما أمر به بعد قضاء حاجته فهو من أهل الذنوب. وقد يكون ذلك من الشرك الأصغر الذي يبتلي به غالب الخلق. إما شركًا في الربوبية، وإما شركا في الألوهية، كما هو مبسوط في موضعه.
وقد يبتلي في أماكن الجهل وزمانه كثير من الناس بما هو من الشرك الأكبر، وهم لا يعلمون. فالسائل مقصوده سؤاله. وإن حصل له ما هو محبوب الرب من إنابته إليه ومحبته وتوبته. فهذا بالعرض، وقد يدوم. والأغلب أنه لا يدوم إلا أن يكون ذلك المحبوب للرب هو سؤاله، مثل أن يسأل الله التوبة والإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته. فهنا مطلوبه محبوب للرب؛ ولهذا ذم الله من لم يطلب إلا الدنيا في قوله: "َمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ" [البقرة: 200].
وأما المثني، فنفس ثنائه محبوب للرب، وحصول مقصود السائل يحصل ضمنًا وتبعًا، فهذا أرفع. لكن هذا إنما يتم لمن يخلص إيمانه
ج/ 22 ص -388- فصار يحب الله، ويحب حمده وثناءه وذكره. وذلك أحب إلى قلبه من مطالب السائلين رزقًا ونصرًا.
وأما من كان اهتمامه بهذا أكثر، فهذا يكون انتفاعه بالدعاء أكثر وإن كان جنس الثناء أفضل. كما أن قراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء. وقد يكون بعض الناس لنقص حاله انتفاعه بالذكر والدعاء أكمل. فهو خير له بحسب حاله، لا أفضل في نفس الأمر.
والمقصود هنا بيان ما شرعه الله لعباده مطلقًا عامًا. ولهذا ما كان من أذكار الصلاة من جنس الدعاء، لم يجب عند عامة العلماء.
وأما الثناء كدعاء الاستفتاح وغيره، فاختلفوا في وجوبه. فذهب طائفة من أصحاب أحمد إلى وجوب الذكر الذي هو ثناء كالاستفتاح، وهو اختيار ابن بطة وغيره، وذكر هذا رواية عن أحمد. كما وجب في المشهور عنه التسبيح في الركوع والسجود والتسميع والتحميد وتكبيرة الانتقال، فهذان نوعان ظهر فضل أحدهما على الآخر.
وأما النوع المتوسط بينهما، فهو إخبار الإنسان بعبادة الله تعالي، كقوله: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" [الأنعام:79]، وقوله: "إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [ الأنعام:162]، وقوله: "لك سجدت ولك عبدت، وبك آمنت، وبك أسلمت" ونحو ذلك. فهذا
ج/ 22 ص -389- أفضل من الدعاء، ودون الثناء، فإنه إنشاء وإخبار بما يحبه الله، ويأمر به العبد، فمقصوده محبوب الحق، فهو أفضل مما مقصوده مطلوب العبد، لكن جنس الثناء أفضل منه. كما روى مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" فجعل هذا الكلام الذي هو ذكر الله أفضل من جميع الكلام بعد القرآن. وكذلك قال للرجل الذي قال: لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزيني فعله: "سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر" فجعل ذلك بدلا عن القرآن.
فَصْل
وسورة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" أفضل من "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" وتلك أمر بأن يقال: ما هو صفة الرب. وهذه أمر بأن يقال ما هو إنشاء خبر عن توحيد العبد، وكان النبي ﷺ يقدم ذلك الصنف، كقوله في الحديث الصحيح: "اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق وقولك الحق، ووعدك حق، والجنة حق والنار حق،
ج/ 22 ص -390- والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت" .
فهذا الذكر تضمن الأنواع الثلاثة. فقدم ما هو خبر عن الله واليوم الآخر ورسوله، ثم ذكر ما هو خبر عن توحيد العبد وإيمانه، ثم ختم بالسؤال. وهذا لأن خبر الإنسان عن نفسه سلوك يشهد فيه نفسه، وتحقيق عبادة الله عز وجل. وأما الثناء المحض، فهو لا يشهد فيه إلا الله عز وجل بأسمائه وصفاته، وما جرد فيه ذكر الله تعالي أفضل مما جرد فيه الخلق أيضًا. ولهذا فضلت سورة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" ، وجعلت تعدل ثلث القرآن؛ لأنها صفة الرحمن وذكره محضًا لم تشب بذكر غيره، لكن في ابتداء السلوك لابد من ذكر الإنشاء. ولهذا كان مبتدأ الدخول في الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بخلاف حال العبادة المحضة، فإنه يقول: سبحان الله والحمد للَّه ولا إله إلا الله والله أكبر. فإن الشهادة بها يصير مسلمًا، وهو الأصل والأساس، ولهذا جعلت ركنًا في الخطب في خطب الصلاة وهي التشهد يختم بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وفي الخطب خارج -كخطبة
ج/ 22 ص -391- الحاجة. خطبة ابن مسعود، والخطب المشروعة، خطبة الجمعة وغيرها.
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد، فهي كاليد الجذماء" .
والذين أوجبوا ذكر النبي ﷺ في الخطبة كأصحاب الشافعي وأحمد قال كثير منهم: يجب مع الحمد الصلاة عليه، وقال بعضهم: يجب ذكره، إما بالصلاة، وإما بالتشهد. وهو اختيار جدي أبي البركات.
والصواب أن ذكره بالتشهد هو الواجب، لدلالة هذا الحديث. ولأن الشهادة إيمان به، والصلاة عليه دعاء له، وأين هذا من هذا والتشهد في الصلاة لابد فيه من الشهادة له في الأول والآخر، وأما الصلاة عليه، فشرعت مع الدعاء.
وأما التشهد، فهو مشروع في الخطب والثناء. فتشهد الصلاة ثناء على الحق، شرع فيه التشهد، والخطبة خطاب مع الناس، شرع فيها التشهد، والأذان ذكر الله يقصد به الإعلام بوقت العبادة وفعلها، فشرع فيه التشهد. وأما الصلاة عليه، فإنما جاءت الآثار بأنها تكون مع الدعاء، كحديث الذي قال فيه: "عجل هذا" وأمثاله. فإن الصلاة
ج/ 22 ص -392- عليه من جنس الدعاء، وهو أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فيكون الدعاء له مقدما على الدعاء لغيره، كما قدم السلام عليه في التشهد على السلام على غيره، حتي على المصلي نفسه، فهذا مما يبين كمال أسرار الدين فقدم في الخطب الحمد على التشهد، كما قدم في الفاتحة الحمد على التوحيد بقوله: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". فإن في سنن أبي داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للَّه، فهو أجذم" فالحمد للَّه له الابتداء.
ولهذا كانت خطب النبي ﷺ يفتتحها بالحمد للَّه، وكذلك الصلاة إنما تفتتح بالحمد. فتفتتح بسورة الحمد عند المسلمين كلهم. إذ هي السنة المتواترة عن النبي ﷺ، وتفتتح بالجهر بكلمة [الحمد] عند المسلمين جمهورهم.
وإذا كانت البسملة مقصودة عند جمهورهم، فهي وسيلة؛ إذ قول القارئ: بسم الله، معناه بسم الله أقرأ. أو أنا قارئ، ولهذا شرعت التسمية في افتتاح الأعمال كلها، فيسمي الله عند الأكل، والشرب، ودخول المنزل، والخروج منه، ودخول المسجد، والخروج منه، وغير ذلك من الأفعال. وهي عند الذبح من شعائر التوحيد فالصلاة والقراءة عمل من الأعمال، فافتتحت بالتسمية.
ج/ 22 ص -393- ولهذا إنما أنزلها الله في أول كل سورة، وهي من القرآن حيث كتبت كما كتبها الصحابة، لكنها آية مفردة في أول السورة، وليست من السورة، وهذا القول أعدل الأقوال الثلاثة، التي للعلماء فيها، فلما كانت تابعة ووسيلة، والحمد مقصود لنفسه، والتسمية لأجله، جهر بالمقصود وأعلن، وأخفي الوسيلة. كما هو قول جمهور العلماء، وعليه تدل الأحاديث الصحيحة. ألا تري أنه باتفاق المسلمين، وهي السنة المتواترة عن النبي ﷺ لايجهر بها في الخطب، بل يفتتح الخطبة بالحمد، وإن لم تكن الخطبة قرآنًا.
ولهذا لم يذكرها النبي ﷺ في الحديث الصحيح حديث قسمة الصلاة بين العبد والرب، وخطبة الجمعة تفتتح بالحمد بالسنة المتواترة، واتفاق العلماء. وأما خطبة الاستسقاء، ففيها ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره.
أحدها: أنها تفتتح بالحمد للَّه كالجمعة.
والثاني: بالتكبير كالعيد.
والثالث: بالاستغفار لأنه أخص بالاستسقاء، وخطبة العيد قد ذكر عبد الله بن عقبة أنها تفتتح بالتكبير، وأخذ بذلك من أخذ
ج/ 22 ص -394- به من الفقهاء، لكن لم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه افتتح خطبته بغير الحمد، لا خطبة عيد ولا استسقاء، ولا غير ذلك. وقد قال ﷺ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم".
وقد كان يخطب خطب الحج، وغير خطب الحج، خطبًا عارضة. ولم ينقل أحد عنه أنه افتتح خطبة بغير الحمد، فالذي لابد منه في الخطبة: الحمد للَّه، والتشهد، والحمد يتبعه التسبيح، والتشهد يتبعه التكبير، وهذه هي الباقيات الصالحات. وقال تعالي: "فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [ غافر: 65 ] .
فَصْل
إذا تبين هذا الأصل: فأفضل أنواع الاستفتاح ما كان ثناء محضا، مثل: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك" وقوله: "الله أكبر كبيرًا، والحمد للَّه كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا" ولكن ذاك فيه من الثناء ما ليس في هذا، فإنه تضمن ذكر [الباقيات الصالحات] التي هي أفضل الكلام بعد القرآن، وتضمن قوله: "تبارك اسمك، وتعالى جدك". وهما من القرآن أيضًا. ولهذا كان أكثر السلف يستفتحون به وكان عمر بن الخطاب يجهر به يعلمه الناس.
ج/ 22 ص -395- وبعده النوع الثاني: وهو الخبر عن عبادة العبد. كقوله: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، إلخ. " وهو يتضمن الدعاء، وإن استفتح العبد بهذا بعد ذلك، فقد جمع بين الأنواع الثلاثة وهو أفضل الاستفتاحات. كما جاء ذلك في حديث مصرحًا به، وهو اختيار أبي يوسف، وابن هبيرة -الوزير- من أصحاب أحمد، صاحب [الإفصاح]، وهكذا أستفتح أنا.
وبعده النوع الثالث كقوله: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي. كما باعدت بين المشرق والمغرب.. . إلخ"، وهكذا ذكر الركوع والسجود، والتسبيح فيهما، أفضل من قوله: "لك ركعت، ولك سجدت". وهذا أفضل من الدعاء. والترتيب هنا متفق عليه -فيما أعلم- فإني لم أعلم أحدًا قال: إن الدعاء فيهما أفضل من التسبيح، كما قيل مثل ذلك في الاستفتاح.
فإن قلت: هذا الترتيب عكس الأسانيد، فإنه ليس في الصحيحين حديث عن النبي ﷺ في استفتاح الفريضة إلا هذا الدعاء "اللهم باعد بيني وبين خطاياي". وقوله: "وجهت وجهي" في صحيح مسلم. وحديث "سبحانك اللهم" في السنن. وقد تكلم فيه، وقد روي أن هذا كان في قيام الليل. وكذلك قوله: "وجهت وجهي".
ج/ 22 ص -396- قلت: كون هذا مما بلغنا من طريق أصح من هذا، فهذا ليس في صفة الذكر نفسه فضيلة توجب فضله على الآخر، لكنه طريق لعلمنا به، والفضيلة كانت ثابتة عن النبي ﷺ، وفي زمنه قبل أن يبلغنا الأمر.
وقد ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يجهر بسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، يعلمه الناس، فلولا أن هذا من السنن المشروعة، لم يفعل هذا عمر، ويقره المسلمون عليه.
وحديث أبي هريرة دليل على أن الاستفتاح لا يختص بسبحانك اللهم، ووجهت وجهي وغيرهما، بل يستفتح بكل ما روي، لكن فضل بعض الأنواع على بعض، يكون بدليل آخر، كما قدمنا.
وأيضًا، فإن قوله: "سبحانك اللهم.. . إلخ" يتضمن الباقيات الصالحات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن، كما في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
وأيضًا، ففي صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ سئل:
ج/ 22 ص -397- أي الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده" فهذه الكلمة هي أول ما في الاستفتاح، وهي أفضل الكلام.
وأيضا، فاللَّه قد أمر بالتسبيح بحمده، وعبر بذلك عن الصلاة. بقوله: "وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ" [الطور: 48]، فكان ابتداء الامتثال بهذا الذكر أولي. وقد قال طائفة من المفسرين كالضحاك في تفسير هذه الآية: هو قول المصلي: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وقد بسطت الكلام على معني هذه الكلمة في غير هذا الموضع، وبينت أنها تشتمل على التنزيه والتحميد والتعظيم بصفات البقاء والإثبات: وأفعاله كلها سبحانه وبحمده.
فَصْل
التكبير مشروع في الأماكن العالية، وحال ارتفاع العبد، وحيث يقصد الإعلان، كالتكبير في الأذان، والتكبير في الأعياد، والتكبير إذا علا شرفا، والتكبير إذا رقي الصفا والمروة، والتكبير إذا ركب الدابة، والتسبيح في الأماكن المنخفضة، وحيث ما نزل العبد، كما في السنن عن جابر قال: "كنا مع النبي ﷺ إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك".
ج/ 22 ص -398- والحمد مفتاح كل أمر ذي بال من مناجات الرب، ومخاطبة العباد بعضهم بعضًا. والشهادة مقرونة بالحمد وبالتكبير، فهي في الأذان، وفي الخطب خاتمة الثناء، فتذكر بعد التكبير. ثم يخاطب الناس بقول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح. وتذكر في الخطب، ثم يخاطب الناس بقول: أما بعد. وتذكر في التشهد، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه، فالحمد والتوحيد مقدم في خطاب الخلق للخالق، والحمد له الابتداء.
فإن الله لما خلق آدم عليه السلام أول ما أنطقه بالحمد، فإنه عطس، وقال: الحمد للَّه رب العالمين، فقال الله: يرحمك ربك، وكان أول ما نطق به الحمد. وأول ما سمع من الله الرحمة، وبه افتتح الله أم القرآن، والتشهد هو الخاتمة. فأول الفاتحة "الْحَمْدُ للّهِ" وآخر ما للرب "إِيَّاكَ نَعْبُدُ". وكذلك التشهد. والخطب فيها التشهد بعد الفاتحة. فإن يتضمن إلهية الرب، وهو أن يكون الرب هو المعبود، هذا هو الغاية التي ينتهي إليها أعمال العباد، و"لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22]، لكن قدم الحمد؛ لأن الحمد يكون من الله، ويكون من الخلق. وهو باق في الجنة: ف"لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [يونس:10] بخلاف العبادة. فإن العبادة إنما تكون في الدنيا بالسجود ونحوه، وتوحيده وذكره باق في الجنة يلهمه أهل الجنة، كما يلهمهم النفس.
ج/ 22 ص -399- وهذه الأذكار هي من جنس الأقوال ليست من العبادات العملية كالسجود والقيام والإحرام، والرب تعالى يحمد نفسه، ولا يعبد نفسه فالحمد أوسع العلوم الإلهية، والحمد يفتح به، ويختم به. فالسنة لمن أكل وشرب أن يحمد الله. وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها"، وقال تعالى : "وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الزمر:75]، وقال تعالى : "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام:45]، وقال: "وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [يونس:10].
فَصْل
وإنما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرر الصلوات، بل الركعات فرضها ونفلها هو الدعاء الذي تتضمنه أم القرآن، وهو قوله تعالى: "\اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" [الفاتحة6، 7]؛ لأن كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء، وهو هداية الصراط المستقيم، فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلا به، فمن فاته هذا الهدي، فهو إما من المغضوب عليهم، أو من الضالين.
ج/ 22 ص -400- وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله: "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا" [الكهف:17]، وهذه الآية مما يبين به فساد مذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد لا يفتقر في حصول هذا الاهتداء. بل كل عبد عندهم فمعه ما يحصل به الطاعة والمعصية، لا فرق عندهم بين المؤمن والكافر، ولم يخص الله المؤمن عندهم بهدي حصل به الاهتداء، والكلام عليهم مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن كل عبد فهو مفتقر دائمًا إلى حصول هذه الهداية وأما سؤال من يقول: فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدي. وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدي. فكلام من لم يعرف حال الإنسان، وما أمر به؛ فإن الصراط المستقيم حقيقته أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحذور. وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة، لا يتصور أن يحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدي به في ذلك الوقت. نعم حصل له هدي مجمل، بأن القرآن حق، ودين الإسلام حق والرسول حق، ونحو ذلك. ولكن هذا الهدي المجمل لا يغنيه إن لم يحصل هدي مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار
ج/ 22 ص -401- في كثير منها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى والشهوات أكثر الخلق، لغلبة الشبهات والشهوات على النفوس.
والإنسان خلق ظلومًا جهولًا. فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه، وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى عدل ينافي ظلمه. فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل، وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم. وقد قال الله تعالى لنبيه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا. وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا" [الفتح: 1 - 3].
فأخبر أنه فعل هذا؛ ليهديه صراطًا مستقيمًا، فإذا كان هذا حاله فكيف بحال غيره.
و[الصراط المستقيم] قد فسر بالقرآن، والإسلام، وطريق العبودية، فكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره. فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه. فإذا انقطع رزقه مات، والموت لابد منه، فإن كان من أهل الهداية، كان سعيدًا بعد الموت، وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فيكون رحمة في حقه.
ج/ 22 ص -402- وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب، حتى قتل. فإذا كان من أهل الهداية والاستقامة، مات شهيدًا، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه. فتبين أن حاجة العباد إلى الهدي أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما. فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم.
وأيضًا، فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين،"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" [الطلاق: 2، 3]، وكان من المتوكلين، "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ" [الطلاق: 3]، وكان ممن ينصر الله ورسوله، ومن ينصر الله ينصره الله، وكان من جند الله، وجند الله هم الغالبون. فالهدي التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر.
فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة، ويندفع به كل مضرة، فلهذا فرض على العبد. وهذا مما يبين أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها أصلا، وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع. فإذا تعينت الأفعال فهذا أولى.
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
ج/ 22 ص -403-وَسئل رحمه الله عن استفتاح الصلاة: هل هو واجب أو مستحب؟ وما قول العلماء في ذلك؟
فأجاب:
الاستفتاح عقب التكبير مسنون عند جمهور الأئمة، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد. كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة: مثل حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين. قال: قلت: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول اللهم باعد بيني..." وذكر الدعاء. فبين أن النبي ﷺ كان يسكت بين التكبير والقراءة سكوتًا يدعو فيه.
وقد جاء في صفته أنواع، وغالبها في قيام الليل، فمن استفتح بقوله: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك" فقد أحسن، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم أن عمر كان يجهر في الصلاة المكتوبة بذلك، وقد روي ذلك في السنن مرفوعًا إلى النبي ﷺ.
ج/ 22 ص -404- ومن استفتح بقوله: "وجهت وجهي..." إلخ فقد أحسن. فإنه قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ كان يستفتح به، وروي أن ذلك كان في الفرض. وروي أنه في قيام الليل، ومن جمع بينهما، فاستفتح: ب "سبحانك اللهم وبحمدك" إلى آخره. و"وجهت وجهي"، فقد أحسن. وقد روي في ذلك حديث مرفوع.
والأول: اختيار أبي حنيفة وأحمد. والثاني: اختيار الشافعي. والثالث: اختيار طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومن أصحاب أحمد. وكل ذلك حسن بمنزلة أنواع التشهدات، وبمنزلة القراءات السبع التي يقرأ الإنسان منها بما اختار.
وأما كونه واجبًا، فمذهب الجمهور أنه مستحب، وليس بواجب. وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو المشهور عن أحمد، وفي مذهبه قول آخر يذكره بعضهم رواية عنه أن الاستفتاح واجب. والله أعلم.
وَسئل: عن رجل يؤم الناس، وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ، ثم يسمي ويقرأ، ويفعل ذلك في كل صلاة؟
ج/ 22 ص -405-فأجاب:
إذا فعل ذلك أحيانًا للتعليم ونحوه، فلا بأس بذلك، كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح مدة، وكما كان ابن عمر وأبو هريرة يجهران بالاستعاذة أحيانًا. وأما المداومة على الجهر بذلك، فبدعة مخالفة لسنة رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين. فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائمًا، بل لم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه جهر بالاستعاذة. والله أعلم.
وَقَال شيخ الإسلام رحمه الله :
فَصْل
فأما صفة الصلاة ومن شعائرها مسألة البسملة، فإن الناس اضطربوا فيها نفيًا وإثباتًا، في كونها آية من القرآن، وفي قراءتها، وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع جهل وظلم، مع أن الخطب فيها يسير.
وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها، فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنها. إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفترقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدًا، لولا ما يدعو
ج/ 22 ص -406- إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة.
فأما كونها آية من القرآن، فقالت طائفة كمالك: ليست من القرآن، إلا في سورة النمل. والتزموا أن الصحابة أودعوا المصحف ما ليس من كلام الله على سبيل التبرك، وحكي طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه، وربما اعتقد بعضهم أنه مذهبه.
وقالت طائفة منهم الشافعي: ما كتبوها في المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف، عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة، مع أدلة أخري.
وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة فقالوا: كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن، للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن، لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة، بل تكون آية مفردة أنزلت في أول كل سورة، كما كتبها الصحابة سطرًا مفصولًا، كما قال ابن عباس: كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ". فعند هؤلاء هي آية من كتاب الله في أول كل سورة، كتبت فيه. وليست من السور. وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع. ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك، وهو قول عبد الله بن المبارك، وغيره. وهو أوسط الأقوال وأعدلها.
ج/ 22 ص -407- وكذلك الأمر في تلاوتها في الصلاة. طائفة لا تقرؤها لا سرًا ولا جهرًا. كمالك والأوزاعي.
وطائفة تقرؤها جهرًا، كأصحاب ابن جريج والشافعي.
والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث، مع فقهاء أهل الرأي يقرؤونها سرًا، كما نقل عن جماهير الصحابة، مع أن أحمد يستعمل ما روي عن الصحابة في هذا الباب، فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة، حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها، فقال بعض أصحابه؛ لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها.
ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي ﷺ تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متمًا. وقال: الخلاف شر.
وهذا، وإن كان وجهًا حسنًا، فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرؤونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها سنة، وكما جهر عمر
ج/ 22 ص -408- بالاستفتاح غير مرة، وكما كان النبي ﷺ يجهر بالآية أحيانًا، في صلاة الظهر والعصر.
ولهذا نقل عن أكثر من روي عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة، فكأنهم جهروا لإظاهر أنهم يقرؤونها، كما جهر بعضهم بالاستعاذة أيضًا. والاعتدال في كل شيء، استعمال الآثار على وجهها، فإن كون النبي ﷺ يجهر بها دائمًا وأكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك، ولم يفعلوه ممتنع قطعًا. وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبي ﷺ، ولم يعارض ذلك خبر ثابت إلا وهو محتمل، وكون الجهر بها لا يشرع بحال مع أنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة نسبة للصحابة إلى فعل المكروه، وإقراره، مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض، كما تقدم.
وكراهة قراءتها مع ما في قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها إلى النبي ﷺ، وكون الصحابة كتبتها في المصحف وأنها كانت تنزل مع السورة، فيه ما فيه، مع أنها إذا قرئت في أول كتاب سليمان، فقراءتها في أول كتاب الله في غاية المناسبة، فمتابعة الآثار فيها الاعتدال والائتلاف، والتوسط الذي هو أفضل الأمور.
ثم مقدار الصلاة يختار فيها فقهاء الحديث صلاة النبي ﷺ
ج/ 22 ص -409- التي كان يفعلها غالبًا، وهي الصلاة المعتدلة المتقاربة، التي يخفف فيها القيام والقعود، ويطيل فيها الركوع والسجود، ويسوي بين الركوع والسجود، وبيَّن الاعتدال منهما. كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ، مع كون القراءة في الفجر بما بين الستين إلى المائة، وفي الظهر نحو الثلاثين آية، وفي العصر والعشاء على النصف من ذلك، مع أنه قد يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال النبي ﷺ: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف، لما أعلم من وجد أمه به".
كما أنه قد يطيلها على ذلك لعارض كما قرأ النبي ﷺ في المغرب بطولي الطوليين، وهي الأعراف. ويستحب إطالة الركعة الأولي من كل صلاة على الثانية، ويستحب أن يمد في الأوليين، ويحذف في الأخريين، كما رواه سعد بن أبي وقاص عن النبي ﷺ وعامة فقهاء الحديث على هذا.
ومن الفقهاء من لا يستحب أن يمد الاعتدال عن الركوع والسجود، ومنهم من يراه ركنا خفيفًا، بناءً على أنه يشرع تابعًا لأجل الفصل، لا أنه مقصود. ومنهم من يسوي بين الركعتين الأوليين، ومنهم من يستحب ألا يزيد الإمام في تسبيح الركوع والسجود على ثلاث. إلى أقوال أخر قالوها.
ج/ 22 ص -410-وَسئل عن حديث نُعَيْم الْمُجَمِّر قال: كنت وراء أبي هريرة، فقرأ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ"، ثم قرأ بأم الكتاب، حتى بلغ "ولا الضالين". قال: آمين، وقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر. فلما سلم، قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ وكان المعتمر بن سليمان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب، وبعدها، ويقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس، وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة النبي ﷺ، فهذا حديث ثابت في الجهر بها. ذكر الحاكم أبو عبد الله: أن رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات. فهل يحمل ما قاله أنس وهو: صليت خلف رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم، على عدم السماع؟ وما التحقيق في هذه المسألة والصواب؟
فأجاب:0
الحمد لله رب العالمين، أما حديث أنس في نفي الجهر فهو
ج/ 22 ص -411- صريح لا يحتمل هذا التأويل، فإنه قد رواه مسلم في صحيحه فقال فيه: صليت خلف النبي ﷺ، وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، في أول قراءة، ولا في آخرها، وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك، لايجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع.
واللفظ الآخر الذي في صحيح مسلم: صليت خلف النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يجهر، أو قال: يصلي ببسم الله الرحمن الرحيم، فهذا نفي فيه السماع، ولو لم يرو إلا هذا اللفظ لم يجز تأويله، بأن النبي ﷺ كان يقرأ جهرًا، ولا يسمع أنس لوجوه:
أحدها: أن أنسًا إنما روى هذا ليبين لهم ما كان النبي ﷺ يفعله، إذ لا غرض للناس في معرفة كون أنس سمع أو لم يسمع، إلا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع، فلو لم يكن ما ذكره دليلًا على نفي ذلك لم يكن أنس ليروي شيئًا لا فائدة لهم فيه، ولا كانوا يروون مثل هذا الذي لا يفيدهم.
الثاني: أن مثل هذا اللفظ صار دالًا في العرف على عدم ما لم
ج/ 22 ص -412- يدرك، فإذا قال: ما سمعنا، أو ما رأينا، لما شأنه أن يسمعه ويراه، كان مقصوده بذلك نفي وجوده، وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك. ومعلوم أنه دليل فيما جرت العادة بإدراكه.
وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو: أن أنسًا كان يخدم النبي ﷺ من حين قدم النبي ﷺ المدينة إلى أن مات، وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب، ويصحبه حضرًا وسفرًا وكان حين حج النبي ﷺ تحت ناقته يسيل عليه لعابها أفيمكن مع هذا القرب الخاص، والصحبة الطويلة ألا يسمع النبي ﷺ يجهر بها، مع كونه يجهر بها هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه في العادة.
ثم إنه صحب أبا بكر وعمر وعثمان، وتولى لأبي بكر وعمر ولايات، ولا كان يمكن مع طول مدتهم أنهم كانوا يجهرون، وهو لا يسمع ذلك، فتبين أن هذا تحريف لا تأويل. لو لم يرو إلا هذا اللفظ، فيكف والآخر صريح في نفي الذكر بها؟ وهو يفضل هذه الرواية الأخري. وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأول قوله: يفتتحون الصلاة ب "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" أنه أراد السورة، فإن قوله: يفتتحون ب "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"لا يذكرون "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ" في أول قراءة، ولا في آخرها، صريح أنه في قصد الافتتاح بالآية، لا بسورة الفاتحة
ج/ 22 ص -413- التي أولها "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ" إذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه.
وأيضًا، فإن افتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة، هو من العلم الظاهر العام الذي يعرفه الخاص والعام، كما يعلمون أن الركوع قبل السجود وجميع الأئمة غير النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا، ليس في نقل مثل هذا فائدة، ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس، وهم قد سألوه عن ذلك، وليس هذا مما يسأل عنه، وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش، وخلفاء بني أمية، وبني الزبير وغيرهم ممن أدركه أنس كانوا يفتتحون بالفاتحة، ولم يشتبه هذا على أحد، ولا شك. فكيف يظن أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه. وإنما مثل ذلك مثل أن يقال: فكانوا يصلون الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، أو يقول: فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاتي الظهرين، أو يقول: فكانوا يجهرون في الأوليين، دون الأخيرتين.
ومثل حديث أنس حديث عائشة الذي في الصحيح أيضًا : أن النبي ﷺ كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين إلى آخره، وقد روي: يفتح القراءة ب "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" [الفاتحة: 1-3]، وهذا صريح في إرادة
ج/ 22 ص -414- الآية، لكن مع هذا، ليس في حديث أنس نفي لقراءتها سرًا؛ لأنه روي: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا إنما نفي هنا الجهر.
وأما اللفظ الآخر [لا يذكرون] فهو إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتفائه وذلك موجود في الجهر، فإنه إذا لم يسمع مع القرب، علم أنهم لم يجهروا.
وأما كون الإمام لم يقرأها، فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة يمكن فيها القراءة سرًا؛ ولهذا استدل بحديث أنس على عدم القراءة. من لم ير هناك سكوتًا، كمالك وغيره. لكن قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟ قال: "أقول: كذا وكذا" إلى آخره. وفي السنن من حديث عمران وأبي وغيرهما: أنه كان يسكت قبل القراءة. وفيها أنه كان يستعيذ، وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسًا أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر، وإخباره بافتتاح القراءة بها إنما هو في الجهر، وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرًا يسمي سكوتًا، كما في حديث أبي هريرة، فيصلح أن يقال: لم يقرأها، ولم يذكرها، أي جهرًا، فإن لفظ السكوت، ولفظ نفي الذكر والقراءة مدلولهما هنا واحد.
ج/ 22 ص -415- ويؤيد هذا حديث عبد الله بن مغفل. الذي في السنن: أنه سمع ابنه يجهر بها فأنكر عليه، وقال: يا بني، إياك والحدث، وذكر أنه صلى خلف النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يجهرون بها، فهذا مطابق لحديث أنس، وحديث عائشة اللذين في الصحيح.
وأيضًا، فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان النبي ﷺ يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة، لم يكن في العادة ولا في الشرع ترك نقل ذلك، بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما؛ إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه، كالتواطؤ على الكذب فيه. ويمثل هذا بكذب دعوي الرافضة في النص على علي في الخلافة، وأمثال ذلك.
وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح، ولم يرو أهل السنن المشهورة كأبي داود والترمذي والنسائي شيئا من ذلك، وإنما يوجد الجهر بها صريحًا في أحاديث موضوعة، يرويها الثعلبي والماوردي، وأمثالهما في التفسير. أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره، بل يحتجون بمثل حديث الحميراء.
ج/ 22 ص -416- وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء من لم يعز في كتابه حديثًا إلى البخاري إلا حديثًا في البسملة، وذلك الحديث ليس في البخاري، ومن هذا مبلغ علمه في الحديث كيف يكون حالهم في هذا الباب، أو يرويها من جمع هذا الباب كالدارقطني، والخطيب، وغيرهما. فإنهم جمعوا ما روي، وإذا سئلوا عن صحتها قالوا: بموجب علمهم. كما قال الدارقطني لما دخل مصر. وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بها فجمعها، فقيل له: هل فيها شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي ﷺ فلا، وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف.
وسئل أبو بكر الخطيب عن مثل ذلك، فذكر حديثين حديث معاوية لما صلى بالمدينة، وقد رواه الشافعي رضي الله عنه قال: حدثنا عبد المجيد، عن ابن جُرَيْج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره أن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بأم القرآن، فقرأ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ"لأم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ" للسورة التي بعد أم القرآن، وكبر حين يهوي ساجدًا.
ج/ 22 ص -417- وقال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني ابن خثيم عن إسماعيل بن عبيد ابن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلي بهم، ولم يقرأ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ"، ولم يكبر إذا خفض، وإذا رفع فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار: أي معاوية؟ سرقت الصلاة؟ وذكره. وقال الشافعي: أنبأنا يحيي بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده، عن معاوية والمهاجرين والأنصار بمثله، أو مثل معناه، لا يخالفه وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول، وهو في كتاب إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده، عن معاوية. وذكر الخطيب أنه أقوي ما يحتج به، وليس بحجة. كما يأتي بيانه.
فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس في الجهر حديث صحيح، ولا صريح، فضلا أن يكون فيها أخبار مستفيضة أو متواترة، امتنع أن النبي ﷺ كان يجهر بها، كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالاستفتاح والتعوذ ثم لا ينقل.
فإن قيل: هذا معارض بترك الجهر بها، فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، ثم هو مع ذلك ليس منقولًا بالتواتر، بل قد تنازع فيه العلماء، كما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوم عليه، ثم لم ينقل نقلًا قاطعًا، بل وقع فيه النزاع.
ج/ 22 ص -418- قيل: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة، ويجب نقله شرعًا، هو الأمور الوجودية، فأما الأمور العدمية، فلا خبر لها، ولا ينقل منها إلا ما ظن وجوده، أو احتيج إلى معرفته، فينقل للحاجة؛ ولهذا قالوا: لو نقل ناقل افتراض صلاة سادسة، أو زيادة على صوم رمضان، أو حجًا غير حج البيت، أو زيادة في القرآن، أو زيادة في ركعات الصلاة، أو فرائض الزكاة، ونحو ذلك، لقطعنا بكذبه. فإن هذا لو كان، لوجب نقله نقلًا قاطعًا عادة وشرعًا، وإن عدم النقل يدل على أنه لم ينقل نقلًا قاطعًا عادة وشرعًا، بل يستدل بعدم نقله مع توافر الهمم والدواعي في العادة والشرع على نقله، أنه لم يكن.
وقد مثل الناس ذلك بما لو نقل ناقل: أن الخطيب يوم الجمعة سقط من المنبر، ولم يصل الجمعة، أو أن قومًا اقتتلوا في المسجد بالسيوف، فإنه إذا نقل هذا الواحد والاثنان والثلاثة دون بقية الناس، علمنا كذبهم في ذلك؛ لأن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة. وإن كانوا لا ينقلون عدم الاقتتال ولا غيره من الأمور العدمية. يوضح ذلك أنهم لم ينقلوا الجهر بالاستفتاح والاستعاذة، واستدلت الأمة على عدم جهره بذلك، وإن كان لم ينقل نقلًا عامًا عدم الجهر بذلك. فبالطريق الذي يعلم عدم جهره بذلك، يعلم عدم جهره بالبسملة. وبهذا
ج/ 22 ص -419- يحصل الجواب عما يورده بعض المتكلمين على هذا الأصل، وهو كون الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها يمتنع ترك نقلها. فإنهم عارضوا أحاديث الجهر والقنوت والأذان والإقامة. فأما الأذان والإقامة، فقد نقل فعل هذا وهذا، وأما القنوت، فإنه قنت تارة وترك تارة. وأما الجهر، فإن الخبر عنه أمر وجودي، ولم ينقل فيدخل في القاعدة.
الوجه الثاني: أن الأمور العدمية لما احتيج إلى نقلها، نقلت. فلما انقرض عصر الخلفاء الراشدين وصار بعض الأئمة يجهر بها كابن الزبير ونحوه، سأل بعض الناس بقايا الصحابة كأنس، فروي لهم أنس ترك الجهر بها. وأما مع وجود الخلفاء، فكانت السنة ظاهرة مشهورة ولم يكن في الخلفاء من يجهر بها، فلم يحتج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى ينقل. الثالث: أن نفي الجهر قد نقل نقلًا صحيحًا صريحًا في حديث أبي هريرة، والجهر بها لم ينقل نقلًا صحيحًا صريحًا، مع أن العادة والشرع يقتضي أن الأمور الوجودية أحق بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية.
وهذه الوجوه من تدبرها، وكان عالمًا بالأدلة القطعية، قطع
ج/ 22 ص -420- بأن النبي ﷺ لم يكن يجهر بها، بل ومن لم يتدرب في معرفة الأدلة القعطية من غيرها يقول أيضًا : إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيح صريح، فكيف يمكن بعد هذا أن النبي ﷺ كان يجهر بها، ولم تنقل الأمة هذه السنة، بل أهملوها وضيعوها؟ وهل هذه إلا بمثابة أن ينقل ناقل: أنه كان يجهر بالاستفتاح والاستعاذة، كما كان فيهم من يجهر بالبسملة؟ ومع هذا فنحن نعلم بالاضطرار أن النبي ﷺ لم يكن يجهر بالاستفتاح والاستعاذة، كما كان يجهر بالفاتحة. كذلك نعلم بالاضطرار أن النبي ﷺ لم يكن يجهر بالبسملة، كما كان يجهر بالفاتحة، ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانًا، أو أنه كان يجهر بها قديمًا ثم ترك ذلك، كما روى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير، ورواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس: أن النبي ﷺ، كان يجهر بها بمكة، فكان المشركون إذا سمعوها، سبوا الرحمن، فترك الجهر، فما جهر بها حتى مات فهذا محتمل.
وأما الجهر العارض، فمثل ما في الصحيح أنه كان يجهر بالآية أحيانًا، ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ومثل جهر عمر بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالي جدك ولا إله غيرك، ومثل جهر ابن عمر وأبي
ج/ 22 ص -421- هريرة بالاستعاذة، ومثل جهر ابن عباس بالقراءة على الجنازة ليعلموا أنها سنة. ويمكن أن يقال: جهر من جهر بها من الصحابة، كان على هذا الوجه؛ ليعرفوا أن قراءتها سنة، لا لأن الجهر بها سنة.
ومن تدبر عامة الآثار الثابتة في هذا الباب، علم أنها آية من كتاب الله، وأنهم قرؤوها لبيان ذلك، لا لبيان كونها من الفاتحة، وأن الجهر بها سنة، مثل ما ذكر ابن وهب في جامعه قال: أخبرني رجال من أهل العلم عن ابن عباس، وأبي هريرة، وزيد ابن أسلم، وابن شهاب مثله بغير هذا الحديث عن ابن عمر، أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال ابن شهاب: يريد بذلك أنها آية من القرآن، فإن الله أنزلها، قال: وكان أهل الفقه يفعلون ذلك فيما مضى من الزمان، وحديث ابن عمر معروف من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا صلى جهر ب "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ" فإذا قال: "غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"، قال: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ"فهذا الذي ذكره ابن شهاب الزهري هو أعلم أهل زمانه بالسنة يبين حقيقة الحال، فإن العمدة في الآثار في قراءتها، إنما هي عن ابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر. وقد عرف حقيقة حال أبي هريرة في ذلك، وكذلك غيره رضي الله عنهم أجمعين.
ج/ 22 ص -422- ولهذا كان العلماء بالحديث ممن يروي الجهر بها ليس معه حديث صريح؛ لعلمه بأن تلك أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله ﷺ، وإنما يتمسك بلفظ محتمل، مثل اعتمادهم على حديث نُعَيْم المْجَمِّر عن أبي هريرة المتقدم. وقد رواه النسائي. فإن العارفين بالحديث يقولون: إنه عمدتهم في هذه المسألة ولا حجة فيه.
فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة أظهر دلالة على نفي قراءتها من دلالة هذا على الجهر بها. فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"، قال: أثنى علي عبدي. فإذا قال: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، قال: مجدني عبدي أو قال: فوض إلي عبدي. فإذا قال: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"، قال: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل".
وقد روى عبد الله بن زياد بن سليمان وهو كذاب أنه قال: في أوله فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال ذكرني عبدي
ج/ 22 ص -423- ولهذا اتفق أهل العلم على كذب هذه الزيادة، وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر؛ لأن الشيعة ترى الجهر، وهم أكذب الطوائف، فوضعوا في ذلك أحاديث لبسوا بها على الناس دينهم؛ ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين، وترك الجهر بالبسملة، كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك؛ لأن هذا كان من شعار الرافضة.
ولهذا ذهب أبو على بن أبي هريرة أحد الأئمة من أصحاب الشافعي إلى ترك الجهر بها، قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين، كما ذهب من ذهب من أصحاب الشافعي إلى تسنمة القبور؛ لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع.
فحديث أبي هريرة دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة، ولا من القراءة المقسومة، وهو على نفي القراءة مطلقًا أظهر من دلالة حديث نعيم المجمر على الجهر. فإن في حديث نعيم المجمر أنه قرأ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ" ثم قرأ أم القرآن. وهذا دليل على أنها ليست من القرآن عندهم. وحديث أبي هريرة الذي في مسلم يصدق ذلك، فإنه قال: قال رسول الله ﷺ: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج، فهي خداج"، فقال له رجل: يا أبا هريرة، أنا أحيانًا أكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها
ج/ 22 ص -424- في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "قال الله تعالي: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" الحديث. وهذا صريح في أن أم القرآن التي يجب قراءتها في الصلاة عند أبي هريرة، هي القراءة المقسومة التي ذكرها مع دلالة قول النبي ﷺ على ذلك. وذلك ينفي وجوب قراءتها عند أبي هريرة فيكون أبو هريرة وإن كان قرأ بها قرأ بها استحبابًا لا وجوبًا.
والجهر بها مع كونها ليست من الفاتحة قول لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة، وغيرهم من الأئمة المشهورين، ولا أعلم به قائلا. لكن هي من الفاتحة، وإيجاب قراءتها مع المخافتة بها قول طائفة من أهل الحديث، وهو إحدي الروايتين عن أحمد. وإذا كان أبو هريرة إنما قرأها استحبابًا لا وجوبًا وعلي هذا القول لا تشرع المداومة على الجهر بها كان جهره بها أولي أن يثبت دليلًا على أنه ليعرفهم استحباب قراءتها. وأن قراءتها مشروعة، كما جهر عمر بالاستفتاح، وكما جهر ابن عباس بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، ونحو ذلك. ويكون أبو هريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ في الجملة، وإن لم يجهر بها وحينئذ، فلا يكون هذا مخالفًا لحديث أنس الذي في الصحيح، وحديث عائشة الذي في الصحيح، وغير ذلك. هذا، إن كان الحديث دالا على أنه جهر بها، فإن لفظه ليس صريحًا بذلك من وجهين:
ج/ 22 ص -425-أحدهما: أنه قال: قرأ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ" ثم قرأ أم القرآن، ولفظ القراءة محتمل أن يكون قرأها سرًا، ويكون نعيم علم ذلك بقربه منه. فإن قراءة السر إذا قويت، يسمعها من يلي القارئ. ويمكن أن أبا هريرة أخبره بقراءتها، وقد أخبر أبو قتادة بأن رسول الله ﷺ كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورة، وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب، وهي قراءة سر، كيف وقد بين في الحديث أنها ليست من الفاتحة، فأراد بذلك وجوب قراءتها، فضلا عن كون الجهر بها سنة؟ فإن النزاع في الثاني أضعف.
الثاني: أنه لم يخبر عن النبي ﷺ أنه قرأها قبل أم الكتاب، وإنما قال في آخر الصلاة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ. وفي الحديث أنه أمن وكبر في الخفض والرفع، وهذا ونحوه مما كان يتركه الأئمة، فيكون أشبههم برسول الله ﷺ من هذه الوجوه التي فيها ما فعله رسول الله ﷺ، وتركوه هم، ولا يلزم إذا كان أشبههم بصلاة رسول الله ﷺ أن تكون صلاته مثل صلاته، من كل وجه. ولعل قراءتها مع الجهر، أمثل من ترك قراءتها بالكلية عند أبي هريرة، وكان أولئك لا يقرؤونها أصلا، فيكون قراءتها مع الجهر أشبه عنده بصلاة رسول الله ﷺ، وإن كان غيره ينازع في ذلك.
ج/ 22 ص -426- وأما حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه، فيعلم أولًا: أن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به فيما دون هذا. فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارض فيه بتوثيق الحاكم. وقد اتفق أهل العلم في الصحيح على خلافه؟! ومن له أدني خبرة في الحديث وأهله، لا يعارض بتوثيق الحاكم ما قد ثبت في الصحيح خلافه. فإن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في باب التصحيح. حتى أن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني وأمثالهما بلا نزاع، فكيف بتصحيح البخاري ومسلم؟! بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر بن خزيمة، وأبي حاتم بن حبان البستي، وأمثالهما، بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاره خير من تصحيح الحاكم، فكتابه في هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب، عند من يعرف الحديث. وتحسين الترمذي أحيانًا يكون مثل تصحيحه أو أرجح، وكثيرًا ما يصحح الحاكم أحاديث يجزم بأنها موضوعة لا أصل لها، فهذا، هذا. والمعروف عن سليمان التيمي وابنه مُعْتَمِر، أنهما كانا يجهران بالبسملة، لكن نقله عن أنس هو المنكر، كيف وأصحاب أنس الثقات الأثبات يروون عنه خلاف ذلك، حتى أن شعبة سأل قتادة عن هذا قال: أنت سمعت أنسًا يذكر ذلك؟ قال: نعم. وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر.
ونقل شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس في غاية الصحة، وأرفع
ج/ 22 ص -427- درجات الصحيح عند أهله؛ إذ قتادة أحفظ أهل زمانه، أو من أحفظهم. وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم. وهذا مما يُرَدُّ به قول من زعم أن بعض الناس روي حديث أنس بالمعني الذي فهمه، وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله: يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها، فرواه من عنده، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو أبعد الناس علمًا برواة الحديث، وألفاظ روايتهم الصريحة التي لا تقبل التأويل، وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تحتمل المجازفة، أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه، ويدع موجب العلم والدليل.
ثم يقال: هب أن المعْتَمِر أخذ صلاته عن أبيه، وأبوه عن أنس وأنس عن النبي ﷺ، فهذا مجمل ومحتمل؛ إذ ليس يمكن أن يثبت كل حكم جزئي من أحكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل؛ لأنه من المعلوم أن مع طول الزمان وتعدد الإسناد، لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفرقة حق الضبط، إلا بنقل مفصل لا مجمل. وإلا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعْتَمِر، وحَمَّاد بن أبي سليمان، والأعمش، وغيرهم، أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النّخْعِي وذويه، وإبراهيم أخذها عن عَلْقَمة والأسود ونحوهما، وهم أخذوها عن ابن مسعود، وابن مسعود عن النبي ﷺ. وهذا الإسناد أجَلُّ رجالًا من
ج/ 22 ص -428- ذلك الإسناد. وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلي، وأمثالهم من فقهاء الكوفة. فهل يجوز أن يجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول الله ﷺ بهذا الإسناد، حتى في موارد النزاع؟ فإن جاز هذا، كان هؤلاء لا يجهرون، ولا يرفعون أيديهم، إلا في تكبيرة الافتتاح، ويسفرون بالفجر، وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون.
ونظير هذه، احتجاج بعضهم على الجهر بأن أهل مكة من أصحاب ابن جُرَيج، كانوا يجهرون، وأنهم أخذوا صلاتهم عن ابن جُرَيج، وهو أخذها عن عطاء، وعطاء عن ابن الزبير، وابن الزبير عن أبي بكر الصديق، وأبو بكر عن النبي ﷺ. ولا ريب أن الشافعي رضي الله عنه أول ما أخذ الفقه في هذه المسألة وغيرها عن أصحاب ابن جُرَيج. كسعيد ابن سالم القَدَّاح، ومسلم بن خالد الزَّنْجي، لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لايثبت بها أحكام مفصلة تنازع الناس فيها.
ولئن جاز ذلك، ليكونن مالك أرجح من هؤلاء، فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين، وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة، أجَلُّ قدرًا، وأعلم بالسنة، وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة. وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمر بالمدينة، فقالوا: هذا
ج/ 22 ص -429- المحراب الذي كان يصلي فيه رسول الله ﷺ، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم الأئمة، وهلم جرا. ونقلهم لصلاة رسول الله ﷺ نقل متواتر، كلهم شهدوا صلاة رسول الله ﷺ، ثم صلاة خلفائه، وكانوا أشد محافظة على السنة، وأشد إنكارًا على من خالفها من غيرهم، فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول الله ﷺ، وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية، وبني العباس، فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون، وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة في مثل هذا، ولا يمكن أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السنة، بل نحن نعلم ضرورة أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سنة لا تتعلق بأمر ملكهم، وما يتعلق بذلك من الأهواء، وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض.
وهذه الحجة إذا احتج بها المحتج، لم تكن دون تلك، بل نحن نعلم أنها أقوي منها، فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها، والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول الله ﷺ، أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر، حتى ينتهي ذلك إلى النبي ﷺ؛ ولهذا لم يذهب ذاهب قط إلى أن عمل غير أهل المدينة
ج/ 22 ص -430- أو إجماعهم حجة، وإنما تنوزع في عمل أهل المدينة وإجماعهم: هل هو حجة أم لا؟ نزاعًا لا يقصر عن عمل غيرهم، وإجماع غيرهم، إن لم يزد عليه.
فتبين دفع ذلك العمل عن سليمان التيمي، وابن جُرَيج، وأمثالهما بعمل أهل المدينة، لو لم يكن المنقول نقلًا صحيحًا صريحًا عن أنس يخالف ذلك، فكيف والأمر في رواية أنس أظهر وأشهر وأصح وأثبت من أن يعارض بهذا الحديث المجمل الذي لم يثبت، وإنما صححه مثل الحاكم، وأمثاله.
ومثل هذا أيضًا يظهر ضعف حديث معاوية الذي فيه أنه صلى بالصحابة بالمدينة، فأنكروا عليه ترك قراءة البسملة في أول الفاتحة وأول السورة حتى عاد يعمل ذلك. فإن هذا الحديث وإن كان الدارقطني قال: إسناده ثقات، وقال الخطيب: هو أجود ما يعتمد عليه في هذه المسألة، كما نقل ذلك عنه نصر المقدسي فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه:
أحدها: أنه يروى عن أنس أيضًا الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة الذي يرد هذا.
الثاني: أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خُثَيم
ج/ 22 ص -431- وقد ضعفه طائفة، وقد اضطربوا في روايته إسنادًا ومتنًا، كما تقدم وذلك يبين أنه غير محفوظ.
الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل السماع، بل فيه من الضعفة والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع أو سوء الحفظ.
الرابع: أن أنسًا كان مقيمًا بالبصرة، ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسًا كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه.
الخامس: أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت بالمدينة، والراوي لها أنس وكان بالبصرة، وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها. ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته، وأهل المدينة، لم ينقل أحد منهم ذلك، بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك، والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء.
السادس: أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة، لكان هذا أيضًا معروفًا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل هذا أحد عن معاوية. بل الشاميون كلهم خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها؛ بل الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك لا يقرؤها سرًا ولا جهرًا. فهذه الوجوه وأمثالها، إذا تدبرها العالم،
ج/ 22 ص -432- قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مغير عن وجهه، وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح، فحصلت الآفة من انقطاع إسناده.
وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة، لكان شاذًا؛ لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس، وعن أهل المدينة، وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت ألا يكون شاذًا ولا معللا، وهذا شاذ معلل، إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته.
والعمدة التي اعتمدها المصنفون في الجهر بها ووجوب قراءتها، إنما هو كتابتها في المصحف بقلم القرآن، وأن الصحابة جردوا القرآن عما ليس منه.
والذين نازعوهم، دفعوا هذه الحجة بلا حق، كقولهم: القرآن لا يثبت إلا بقاطع، ولو كان هذا قاطعًا لكفّر مخالفه. وقد سلك أبو بكر بن الطيب البَاقِلاَّني وغيره هذا المسلك، وادعوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعي في كونه جعل البسملة من القرآن، معتمدين على هذه الحجة، وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر، ولا تواتر هنا، فيجب القطع بنفي كونها من القرآن.
والتحقيق أن هذه الحجة مقابلة بمثلها، فيقال لهم: بل يقطع
ج/ 22 ص -433- بكونها من القرآن حيث كتبت، كما قطعتم بنفي كونها ليست منه. ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن، فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله، ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله على نبيه ﷺ، لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله.
فإن قال المنازع: إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت، فكفروا النافي، قيل لهم: وهذا يعارض حكمه إذا قطعتم بنفي كونها من القرآن، فكفروا منازعكم.
وقد اتفقت الأمة على نفي التكفير في هذا الباب، مع دعوي كثير من الطائفتين القطع بمذهبه؛ وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيًا عند شخص يجب أن يكون قطعيًا عند غيره، وليس كل ما ادعت طائفة أنه قطعي عندها، يجب أن يكون قطعيًا في نفس الأمر، بل قد يقع الغلط في دعوي المدعي القطع في غير محل القطع، كما يغلط في سمعه وفهمه ونقله، وغير ذلك من أحواله، كما قد يغلط الحس الظاهر في مواضع، وحينئذ، فيقال: الأقوال في كونها من القرآن ثلاثة: طرفان، ووسط.
ج/ 22 ص -434- الطرف الأول: قول من يقول: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، كما قال مالك، وطائفة من الحنفية، وكما قاله بعض أصحاب أحمد. مدعيًا أنه مذهبه، أو ناقلًا لذلك رواية عنه.
والطرف المقابل له: قول من يقول: إنها من كل سورة آية أو بعض آية، كما هو المشهور من مذهب الشافعي، ومن وافقه. وقد نقل عن الشافعي أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة، وإنما يستفتح بها في السور تبركًا بها. وأما كونها من الفاتحة، فلم يثبت عنه فيه دليل.
والقول الوسط: أنها من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في أول كل سورة، وكذلك تتلي آية منفردة في أول كل سورة، كما تلاها النبي ﷺ حين أنزلت عليه سورة "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ" كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، كما في قوله: "إن سورة من القرآن هي ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي سورة تبارك الذي بيده الملك" رواه أهل السنن، وحسنه الترمذي، وهذا القول قول عبد الله بن المبارك، وهو المنصوص الصريح عن أحمد بن حنبل.
وذكر أبو بكر الرازي أن هذا مقتضي مذهب أبي حنيفة عنده،
ج/ 22 ص -435- وهو قول سائر من حقق القول في هذه المسألة، وتوسط فيها جمع من مقتضي الأدلة، وكتابتها سطرًا مفصولًا عن السورة، ويؤيد ذلك قول ابن عباس: كان رسول الله ﷺ لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. رواه أبو داود، وهؤلاء لهم في الفاتحة قولان، هما روايتان عن أحمد.
أحدهما: أنها من الفاتحة دون غيرها، تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة.
والثاني: وهو الأصح لا فرق بين الفاتحة وغيرها في ذلك، وأن قراءتها في أول الفاتحة، كقراءتها في أول السور، والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول، لا تخالفه. وحينئذ، الخلاف أيضًا في قراءتها في الصلاة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها واجبة وجوب الفاتحة، كمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وطائفة من أهل الحديث، بناء على أنها من الفاتحة.
والثاني: قول من يقول: قراءتها مكروهة سرًا وجهرًا، كما هو المشهور من مذهب مالك.
والقول الثالث: أن قراءتها جائزة، بل مستحبة، وهذا مذهب
ج/ 22 ص -436- أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. وأكثر أهل الحديث، وطائفة من هؤلاء يسوي بين قراءتها وترك قراءتها، ويخير بين الأمرين معتقدين أن هذا على إحدي القراءتين، وذلك على القراءة الأخرى.
ثم مع قراءتها، هل يسن الجهر أو لا يسن؟ على ثلاثة أقوال:
قيل: يسن الجهر بها. كقول الشافعي، ومن وافقه.
وقيل: لا يسن الجهر بها، كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأي، وفقهاء الأمصار.
وقيل: يخير بينهما. كما يروي عن إسحاق، وهو قول ابن حزم وغيره.
ومع هذا، فالصواب أن ما لا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة. فيشرع للإمام أحيانًا لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانًا. ويسوغ أيضًا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب، واجتماع الكلمة خوفًا من التنفير، عما يصلح كما ترك النبي ﷺ بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك،
ج/ 22 ص -437-ورأي أن مصلحة الاجتماع والائتلاف، مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم.
وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان، وأنكر عليه فقيل له، في ذلك، فقال: الخلاف شر. ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول، مراعاة ائتلاف المأمومين، أو لتعريفهم السنة، وأمثال ذلك. والله أعلم.
ج/ 22 ص -438-وَسئلَ أيضًا رَحمَه الله عن [بسم الله الرحمن الرحيم] هل هي آية من أول كل سورة أفتونا مأجورين؟
فأجاب:
الحمد الله، اتفق المسلمون على أنها من القرآن في قوله: "إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" [النمل: 30]، وتنازعوا فيها في أوائل السور حيث كتبت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ليست من القرآن، وإنما كتبت تبركا بها، وهذا مذهب مالك، وطائفة من الحنفية، ويحكي هذا رواية عن أحمد ولا يصح عنه، وإن كان قولًا في مذهبه.
والثاني: أنها من كل سورة، إما آية، وإما بعض آية، وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه.
والثالث: أنها من القرآن حيث كتبت آية من كتاب الله من أول كل سورة، وليست من السورة. وهذا مذهب ابن المبارك، وأحمد
ج/ 22 ص -439- بن حنبل رضي الله عنه وغيرهما. وذكر الرازي أنه مقتضي مذهب أبي حنيفة عنده. وهذا أعدل الأقوال.
فإن كتابتها في المصحف بقلم القرآن، تدل على أنها من القرآن وكتابتها مفردة مفصولة عما قبلها وما بعدها تدل على أنها ليست من السورة، ويدل على ذلك ما رواه أهل السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "إن سورة من القرآن ثلاثين آية، شفعت لرجل، حتى غفر له. وهي "تّبّارّكّ بَّذٌي بٌيّدٌهٌ بًمٍلًكٍ"" وهذا لا ينافي ذلك، فإن في الصحيح أن النبي ﷺ أغفي إغفاءة فقال: "لقد نزلت على آنفًا سورة. وقرأ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ""؛ لأن ذلك لم يذكر فيه أنها من السورة، بل فيه أنها تقرأ في أول السورة، وهذا سنة، فإنها تقرأ في أول كل سورة، وإن لم تكن من السورة.
ومثله حديث ابن عباس: كان رسول الله ﷺ لا يعرف فصل الصورة حتى تنزل "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" رواه أبو داود، ففيه أنها نزلت للفصل، وليس فيه أنها آية منها، و"تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" ثلاثون آية بدون البسملة. ولأن العادين لآيات القرآن لم يعد أحد منهم البسملة من السورة، لكن هؤلاء تنازعوا في الفاتحة: هل هي آية منها دون غيرها؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد:
ج/ 22 ص -440-أحدهما: أنها من الفاتحة دون غيرها، وهذا مذهب طائفة من أهل الحديث، أظنه قول أبي عبيد، واحتج هؤلاء بالآثار التي رويت في أن البسملة من الفاتحة. وعلي قول هؤلاء، تجب قراءتها في الصلاة، وهؤلاء يوجبون قراءتها وإن لم يجهروا بها.
والثاني: أنها ليست من الفاتحة، كما أنها ليست من غيرها، وهذا أظهر فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "يقول الله تعالي: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها له، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، يقول الله: حمدني عبدي. يقول العبد: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"، يقول الله: أثني علي عبدي. يقول العبد: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، يقول الله: مجدني عبدي. يقول العبد: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، يقول الله: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ"، إلى آخرها. يقول الله: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل". فلو كانت من الفاتحة، لذكرها كما ذكر غيرها.
وقد روي ذكرها في حديث موضوع، رواه عبد الله بن زياد بن سَمْعَان، فذكره مثل الثَّعْلَبي في تفسيره، ومثل من جمع أحاديث الجهر، وأنها كلها ضعيفة، أو موضوعة. ولو كانت منها، لما كان للرب
ج/ 22 ص -441- ثلاث آيات ونصف، وللعبد ثلاث ونصف. وظاهر الحديث أن القسمة وقعت على الآيات، فإنه قال: "فهؤلاء لعبدي". وهؤلاء إشارة إلى جمع، فَعُلِم أن من قوله: "\اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ" إلى آخرها، ثلاث آيات على قول من لا يعد البسملة آية منها، ومن عدها آية منها، جعل هذا آيتين.
وأيضًا، فإن الفاتحة سورة من سور القرآن، والبسملة مكتوبة في أولها، فلا فرق بينها وبين غيرها من السور في مثل ذلك، وهذا من أظهر وجوه الاعتبار.
وأيضًا، فلو كانت منها، لتليت في الصلاة جهرًا، كما تتلى سائر آيات السورة، وهذا مذهب من يرى الجهر بها كالشافعي وطائفة من المكيين والبصريين، فإنهم قالوا: إنها آية من الفاتحة يجهر بها: كسائر آيات الفاتحة، واعتمد على آثار منقولة بعضها عن الصحابة، وبعضها عن النبي ﷺ. فأما المأثور عن الصحابة، كابن الزبير ونحوه، ففيه صحيح، وفيه ضعيف. وأما المأثور عن النبي ﷺ، فهو ضعيف، أو موضوع، كما ذكر ذلك حفاظ الحديث كالدارقطني، وغيره.
ولهذا لم يرو أهل السنن والمسانيد المعروفة عن النبي
ج/ 22 ص -442- ﷺ في الجهر بها حديثًا واحدًا. وإنما يروي أمثال هذه الأحاديث من لا يميز من أهل التفسير: كالثعلبي ونحوه، وكبعض من صنف في هذا الباب من أهل الحديث، كما يذكره طائفة من الفقهاء في كتب الفقه، وقد حكى القول بالجهر عن أحمد وغيره بناء على إحدى الروايتين عنه من أنها من الفاتحة، فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة، وليس هذا مذهبه، بل يخافت بها عنده.
وإن قال هي من الفاتحة لكن يجهر بها عنده لمصلحة راجحة، مثل أن يكون المصلون لا يقرؤونها بحال، فيجهر بها ليعلمهم أن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بالفاتحة على الجنازة، وكما جهر عمر بن الخطاب بالاستفتاح، وكما نقل عن أبي هريرة أنه قرأ بها، ثم قرأ بأم الكتاب، وقال: أنا أشبهكم صلاة برسول الله ﷺ. رواه النسائي. وهو أجود ما احتجوا به.
وكذلك فسر بعض أصحاب أحمد خلافه، أنه كان يجهر بها إذا كان المأمومون ينكرون على من لم يجهر بها، وأمثال ذلك. فإن الجهر بها والمخافتة سنة، فلو جهر بها المخافت، صحت صلاته بلا ريب. وجمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي لا يرون الجهر، لكن منهم من يقرؤها سرًا، كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ومنهم من لا يقرؤها سرًا ولا جهرًا، كمالك.
ج/ 22 ص -443- وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيح من أن النبي ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي لفظ لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا آخرها واللّّه أعلم.
وسئل: هل من يلحن في الفاتحة تصح صلاته أم لا؟
فأجاب:
أما اللحن في الفاتحة الذي لا يحيل المعني، فتصح صلاة صاحبه، إمامًا أو منفردًا، مثل
أن يقول:"رَبِّ الْعَالَمِينَ" و "الضَّالِّينَ" ونحو ذلك.
وأما ما قرئ به مثل: الحمد الله ربَّ، وربِّ، وربُّ. ومثل الحمد الله، والحمد الله، بضم اللام، أو بكسر الدال. ومثل عليهِمُ، وعليهم، وعليهُمُ، وأمثال ذلك، فهذا لا يعد لحنًا.
وأما اللحن الذي يحيل المعني: إذا علم صاحبه معناه مثل أن يقول: "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ"، وهو يعلم أن هذا ضمير المتكلم، لا تصح صلاته. وإن لم يعلم أنه يحيل المعني واعتقد أن هذا ضمير المخاطب، ففيه نزاع. والله أعلم.
ج/ 22 ص -444-وسئل عمن يقرأ القرآن وما عنده أحد يسأله عن اللحن. . . إلخ؟ وإذا وقف على شيء يطلع في المصحف: هل يلحقه إثم أم لا؟
فأجاب:
إن احتاج إلى قراءة القرآن قرأه بحسب الإمكان، ورجع إلى المصحف فيما يشكل عليه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يترك ما يحتاج إليه وينتهي به من القراءة؛ لأجل ما يعرض من الغلط أحيانًا، إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة. والله أعلم.
وسئل عما إذا نصب المخفوض في صلاته؟
فأجاب:
إن كان عالمًا، بَطَلَت صلاته؛ لأنه متلاعب في صلاته. وإن كان جاهلًا، لم تبطل على أحد الوجهين.
ج/ 22 ص -445-وسئل عن رجل يصلي بقوم وهو يقرأ بقراءة الشيخ أبي عمرو: فهل إذا قرأ لورش أو لنافع باختلاف الروايات مع حمله قراءته لأبي عمرو يأثم، أو تنقص صلاته أو ترد؟
فأجاب:
يجوز أن يقرأ بعض القرآن بحرف أبي عمرو، وبعضه بحرف نافع. وسواء كان ذلك في ركعة أو ركعتين، وسواء كان خارج الصلاة أو داخلها. والله أعلم.
وسئل: هل روي عن النبي ﷺ أنه صلى بالأعراف أو بالأنعام جميعًا في المغرب، أو في صلاة غيرها، وإن كان قد رواه أحمد، هل هو صحيح أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم ثبت في الصحيح: أنه صلى في المغرب بالأعراف، ولكن لم يكن يداوم على ذلك، ومرة أخري قرأ فيها بالمرسلات، ومرة أخري قرأ فيها بالطور، وهذا كله في الصحيح. والله أعلم.
ج/ 22 ص -446-وسئل رحمه الله عن رفع الأيدي بعد الركوع، هل يبطل الصلاة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يبطل الصلاة باتفاق الأئمة، بل أكثر أئمة المسلمين يستحبون هذا. كما استفاضت به السنة عن النبي ﷺ. من حديث ابن عمر، ومالك بن الحويرث، ووائل بن حَجَر، وأبي حُمَيْد السَّاعدي، وأبي قتادة الأنصاري، في عشرة من الصحابة، وحديث علي، وأبي هريرة، وغيرهم.
وهو مستحب عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد، ومالك في إحدى الروايتين عنه، وأبو حنيفة قال: إنه لا يستحب، ولم يقل: إنه يبطل صلاته. والله أعلم.
وسئل عن قول النبي ﷺ: "ولا ينفع ذا الجِدِّ منك الجِدُّ" وهل هو بالخفض أو بالضم؟ أفتونا مأجورين.
ج/ 22 ص -447-فأجاب:
الحمد لله، أما الأولي: فبالخفض. وأما الثانية: فبالضم. والمعني: أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده: أي لا ينجيه ويخلصه منك جده، وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح. و[الجد] هو الغني، وهو العظمة، وهو المال. بيَّن ﷺ: أنه من كان له في الدنيا رئاسة ومال لم ينجه ذلك، ولم يخلصه من الله وإنما ينجيه من عذابه إيمانه وتقواه، فإنه ﷺ قال: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين:
أحدهما: توحيد الربوبية، وهو ألا معطي لما منع الله، ولا مانع لما أعطه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو.
والثاني: توحيد الإلهية، وهو بيان ما ينفع، وما لا ينفع، وأنه ليس كل من أُعْطِي مالًا أو دنيا أو رئاسة، كان ذلك نافعًا له عند الله منجيًا له من عذابه، فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب. قال تعالي: "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا" [الفجر: 15 - 17]، يقول: ما كل من وسعت عليه أكرمته، ولا كل من قدرت عليه أكون قد أهنته، بل هذا ابتلاء ليشكر العبد على السراء، ويصبر على الضراء، فمن رزق الشكر
ج/ 22 ص -448- والصبر، كان كل قضاء يقضيه الله خيرًا له، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء، شكر فكان خيرًا له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له".
وتوحيد الإلهية: أن يعبد الله، ولا يشرك به شيئًا، فيطيعه، ويطيع رسله، ويفعل ما يحبه ويرضاه.
وأما توحيد الربوبية: فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه وأرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله، ويفعل ما أمر به، وهو توحيد الإلهية ويستعين الله على ذلك، وهو توحيد له، فيقول: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". والله أعلم.
وسئل رحمه الله إذا أراد إنسان أن يسجد في الصلاة يتأخر خطوتين: هل يكره ذلك أم لا؟
فأجاب:
وأما التأخر حين السجود فليس بسنة، ولا ينبغي فعل ذلك. إلا إذا كان الموضع ضيقًا، فيتأخر ليتمكن من السجود.
ج/ 22 ص -449-وسئل رحمه الله عن الصلاة، واتقاء الأرض بوضع ركبتيه قبل يديه، أو يديه قبل ركبتيه؟
فأجاب:
أما الصلاة بكليهما، فجائزة باتفاق العلماء. إن شاء المصلي، يضع ركبتيه قبل يديه. وإن شاء، وضع يديه ثم ركبتيه. وصلاته صحيحة في الحالتين باتفاق العلماء. ولكن تنازعوا في الأفضل.
فقيل: الأول كما هو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين.
وقيل: الثاني، كما هو مذهب مالك، وأحمد في الرواية الأخري. وقد روي بكل منهما حديث في السنن عن النبي ﷺ. ففي السنن عنه: أنه كان إذا صلى وضع ركبتيه ثم يديه، وإذا رفع رفع يديه ثم ركبتيه. وفي سنن أبي داود وغيره أنه قال: "إذا سجد أحدكم، فلا يبرك بروك الجمل، ولكن يضع يديه ثم ركبتيه" وقد روي ضد ذلك، وقيل: إنه منسوخ. والله أعلم.
ج/ 22 ص -450-وسئل رحمه الله عما يروى عن النبي ﷺ أنه قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وألا أكف لي ثوبًا، ولا شعرًا". وفي رواية "وألا أكفت لي ثوبًا، ولا شعرًا" فما هو الكف؟ وما هو الكفت؟ وهل ضفر الشعر من الكفت؟
فأجاب:
الكفت: الجمع والضم، والكف: قريب منه، وهو منع الشعر والثوب من السجود، وينهى الرجل أن يصلي وشعره مغروز في رأسه، أو معقوص.
وفيه عن النبي ﷺ: "مثل الذي يصلي وهو معقوص كمثل الذي يصلي وهو مكتوف"؛ لأن المكتوف لا يسجد ثوبه، والمعقوص لا يسجد شعره، وأما الضفر مع إرساله، فليس من الكفت. والله أعلم.
ج/ 22 ص -451-وسئل عن رجل يصلي مأمومًا، ويجلس بين الركعات جلسة الاستراحة ولم يفعل ذلك الإمام، فهل يجوز ذلك له؟ وإذا جاز: هل يكون منقصًا لأجره؛ لأجل كونه لم يتابع الإمام في سرعة الإمام؟
فأجاب:
جلسة الاستراحة، قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ جلسها، لكن تردد العلماء هل فعل ذلك من كبر السن للحاجة، أو فعل ذلك؛ لأنه من سنة الصلاة.
فمن قال بالثاني: استحبها، كقول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين.
ومن قال بالأول: لم يستحبها إلا عند الحاجة، كقول أبي حنيفة ومالك، وأحمد في الرواية الأخرى. ومن فعلها لم ينكر عليه، وإن كان مأمومًا؛ لكون التأخر بمقدار ما ليس هو من التخلف المنهي عنه عند من يقول باستحبابها. وهل هذا إلا فعل في محل اجتهاد؟ فإنه قد تعارض فعل هذه السنة عنده، والمبادرة إلى موافقة الإمام؛
ج/ 22 ص -452- فإن ذلك أولى من التخلف، لكنه يسير، فصار مثل ما إذا قام من التشهد الأول قبل أن يكمله المأموم، والمأموم يرى أنه مستحب، أو مثل أن يسلم وقد بقي عليه يسير من الدعاء، هل يسلم أو يتمه؟
ومثل هذه المسائل هي من مسائل الاجتهاد، والأقوي أن متابعة الإمام أولي من التخلف، لفعل مستحب. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رفع اليدين بعد القيام من الجلسة بعد الركعتين الأوليين: هل هو مندوب إليه؟ وهل فعله النبي ﷺ، أو أحد من الصحابة؟
فأجاب:
نعم، هو مندوب إليه عند محققي العلماء العالمين بسنة رسول الله ﷺ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول طائفة من أصحابه، وأصحاب الشافعي وغيرهم. وقد ثبت ذلك عن النبي ﷺ في الصحاح والسنن. ففي البخاري، وسنن أبي داود، والنسائي عن نافع: أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه. وإذا ركع رفع يديه. وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه. وإذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ذلك ابن عمر
ج/ 22 ص -453- إلى النبي ﷺ.
وعن على بن أبي طالب عن النبي ﷺ: أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة، كبر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضي قراءته. وإذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد. وإذا قام من الركعتين، رفع يديه كذلك وكبر رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي حُمَيد السَّاعدي أنه ذكر صفة صلاة النبي ﷺ وفيه: إذا قام من السجدتين، كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح الصلاة. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه والنسائي، والترمذي، وصححه.
فهذه أحاديث صحيحة ثابتة، مع ما في ذلك من الآثار، وليس لها ما يصلح أن يكون معارضًا مقاومًا، فضلًا عن أن يكون راجحًا. والله أعلم.
ج/ 22 ص -454-وسئل شيخ الإسلام عن قوله ﷺ: "اللهم صل على محمد، وعلي آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" الحديث. وقوله: "اللهم صل على محمد، وعلي آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلي آل إبراهيم" هل الحديثان في الصحة سواء؟ وما الحكم في ذكر الآل دون إبراهيم؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا الحديث في الصحاح من أربعة أوجه: أشهرها حديث عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: لقيني كعب بن عُجْرَة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله ﷺ، فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد، وعلي آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك وفي لفظ : وبارك على محمد وعلي آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" رواه أهل الصحاح، والسنن، والمسانيد؛ كالبخاري ومسلم، وأبي داود والترمذي والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد في مسنده، وغيرهم.
ج/ 22 ص -455- وهذا لفظ الجماعة إلا أن الترمذي قال فيه: على إبراهيم، في الموضعين لم يذكر آله، وذلك رواية لأبي داود والنسائي. وفي رواية: "كما صليت على آل إبراهيم"، وقال: "كما باركت على إبراهيم"، ذكر لفظ الآل في الأول، ولفظ إبراهيم في الآخر.
وفي الصحيحين والسنن الثلاثة عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلي أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلي أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" هذا هو اللفظ المشهور، وقد روي فيه: كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم بدون لفظ الآل في الموضعين، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله، هذا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم".
وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله ﷺ، ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله ﷺ حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله
ج/ 22 ص -456- ﷺ: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلي آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم" وقد رواه أيضًا غير مسلم؛ كمالك وأحمد وأبي داود والنسائي والترمذي بلفظ آخر. وفي بعض طرقه: "كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم" لم يذكر "الآل". وفي رواية: "كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على آل إبراهيم". فهذه الأحاديث التي في الصحاح، لم أجد فيها ولا فيما نقل لفظ: "إبراهيم وآل إبراهيم"، بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ: "آل إبراهيم" وفي بعضها لفظ: "إبراهيم" وقد يجيء في أحد الموضعين لفظ: "آل إبراهيم" وفي الآخر لفظ: "إبراهيم".
وقد روي لفظ: "إبراهيم، وآل إبراهيم" في حديث رواه البيهقي عن يحيي بن السباق، عن رجل من بني الحارث، عن ابن مسعود عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد، وعلي آل محمد. وبارك على محمد وعلي آل محمد، وبارك على محمد، وارحم محمدًا كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلي آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" وهذا إسناده ضعيف لكن رواه ابن ماجه في سننه عن ابن مسعود موقوفًا قال: إذا صليتم
ج/ 22 ص -457- على رسول الله ﷺ فأحسنوا الصلاة، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه، قال: فقولوا له: فعلِّمنا، قال: "قولوا: اللهم اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة. اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلي آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلي آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد". ولا يحضرني إسناد هذا الأثر، ولم يبلغني إلى الساعة حديث مسند بإسناد ثابت "كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم"، بل أحاديث السنن توافق أحاديث الصحيحين، كما في سنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفي إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي، وعلي أزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" رواه الشافعي في مسنده عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ يعني في الصلاة. قال: "تقولون: اللهم صلِ على محمد وعلي آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على إبراهيم، ثم تسلمون علي".
ج/ 22 ص -458- ومن المتأخرين من سلك في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي ﷺ يقولها ويعملها بألفاظ متنوعة ورويت بألفاظ متنوعة طريقة محدثة بأن جمع بين تلك الألفاظ، واستحب ذلك، ورأي ذلك أفضل ما يقال فيها.
مثاله الحديث الذي في الصحيحين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". قد روي "كثيرًا" وروي "كبيرًا"، فيقول هذا القائل: يستحب أن يقول: "كثيرًا، كبيرًا". وكذلك إذا روي: "اللهم صل على محمد وعلي آل محمد" وروي: "اللهم صلِ على محمد وعلي أزواجه وذريته" وأمثال ذلك. وهذه طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين.
وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة، وأن يقال: الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة، وهذا مع أنه خلاف عمل المسلمين لم يستحبه أحد من أئمتهم، بل عملوا بخلافه، فهو بدعة في الشرع، فاسد في العقل.
ج/ 22 ص -459- أما الأول: فلأن تنوع ألفاظ الذكر والدعاء كتنوع ألفاظ القرآن مثل: [تعلمون] و[يعلمون]، و [باعدوا] و [بعدوا] و [أرجلَكم] و[أرجلِكم] ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب للقارئ في الصلاة، والقارئ عبادة وتدبرًا خارج الصلاة، أن يجمع بين هذه الحروف، إنما يفعل الجمع بعض القراء بعض الأوقات ليمتحن بحفظه للحروف، وتمييزه للقراءات، وقد تكلم الناس في هذا.
وأما الجمع في كل القراءة المشروعة المأمور بها، فغير مشروع باتفاق المسلمين، بل يخير بين تلك الحروف، وإذا قرأ بهذه تارة وبهذه تارة، كان حسنًا، كذلك الأذكار إذا قال تارة: "ظلمًا كثيرًا"، وتارة: "ظلمًا كبيرًا"، كان حسنًا. كذلك إذا قال تارة: "علي آل محمد"، وتارة: "علي أزواجه وذريته"، كان حسنًا. كما أنه في التشهد إذا تشهد تارة بتشهد ابن مسعود، وتارة بتشهد ابن عباس، وتارة بتشهد عمر كان حسنًا، وفي الاستفتاح إذا استفتح تارة باستفتاح عمر، وتارة باستفتاح علي، وتارة باستفتاح أبي هريرة، ونحو ذلك كان حسنًا.
وقد احتج غير واحد من العلماء كالشافعي وغيره على جواز الأنواع المأثورة في التشهدات ونحوها بالحديث الذي في الصحاح عن
ج/ 22 ص -460- النبي ﷺ أنه قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف فاقرؤوا بما تيسر" قالوا: فإذا كان القرآن قد رخص في قراءته سبعة أحرف، فغيره من الذكر والدعاء أولي أن يرخص في أن يقال على عدة أحرف. ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ أحدها، أو هذا تارة وهذا تارة، لا الجمع بينهما، فإن النبي ﷺ لم يجمع بين هذه الألفاظ في آن واحد، بل قال هذا تارة، وهذا تارة، إذا كان قد قالهما.
وأما إذا اختلفت الرواية في لفظ، فقد يمكن أنه قالهما، أو يمكن أنه رخص فيهما، ويمكن أن أحد الراويين حفظ اللفظ دون الآخر، وهذا يجيء في مثل قوله: "كبيرًا"، "كثيرًا". وأما مثل قوله: "وعلي آل محمد"، وقوله في الأخري: "وعلي أزواجه وذريته"، فلا ريب أنه قال هذا تارة، وهذا تارة؛ ولهذا احتج من احتج بذلك على تفسير الآل، وللناس في ذلك قولان مشهوران:
أحدهما: أنهم أهل بيته الذين حرموا الصدقة، وهذا هو المنصوص عن الشافعي وأحمد. وعلي هذا، ففي تحريم الصدقة على أزواجه وكونهم من أهل بيته روايتان عن أحمد:
إحداهما: لسن من أهل بيته، وهو قول زيد بن أرقم الذي رواه مسلم في صحيحه عنه.
ج/ 22 ص -461-والثانية: هن من أهل بيته؛ لهذا الحديث. فإنه قال: "وعلي أزواجه وذريته" وقوله: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" [الأحزاب: 33]. وقوله في قصة إبراهيم: "رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ" [هود: 73]. وقد دخلت سارة. ولأنه استثني امرأة لوط من آله، فدل على دخولها في الآل، وحديث الكساء يدل على أن عليًا وفاطمة وحسنا وحسينًا أحق بالدخول في أهل البيت من غيرهم، كما أن قوله في المسجد المؤسس على التقوي: "هو مسجدي هذا"، يدل على أنه أحق بذلك، وأن مسجد قباء أيضًا مؤسس على التقوي، كما دل عليه نزول الآية وسياقها، وكما أن أزواجه داخلات في آله وأهل بيته، كما دل عليه نزول الآية وسياقها. وقد تبين أن دخول أزواجه في آل بيته أصح، وإن كان مواليهن لا يدخلون في موإلى آله، بدليل الصدقة على بريرة مولاة عائشة، ونهيه عنها أبا رافع مولي العباس. وعلي هذا القول، فآل المطلب هل هم من آله ومن أهل بيته الذين تحرم عليهم الصدقة؟ على روايتين عن أحمد:
إحداهما: أنهم منهم، وهو قول الشافعي.
والثالانية: ليسوا منهم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
والقول الثاني: أن آل محمد هم أمته أو الأتقياء من أمته. وهذا
ج/ 22 ص -462- روي عن مالك مالك إن صح. وقاله طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم. وقد يحتجون على ذلك بما روي الخلاَّل، وتمام هذه: أنه سئل عن آل محمد فقال: "كل مؤمن تقي" وهذا الحديث موضوع لا أصل له.
والمقصود هنا أن النبي ﷺ ثبت عنه أنه قال أحيانًا : "وعلي آل محمد" وكان يقول أحيانًا: "وعلي أزواجه وذريته" فمن قال أحدهما، أو هذا تارة وهذا تارة، فقد أحسن. وأما من جمع بينهما، فقد خالف السنة.
ثم إنه فاسد من جهة العقل أيضًا. فإن أحد اللفظين بدل عن الآخر، فلا يجمع بين البدل والمبدل، ومن تدبر ما يقول وفهمه، علم ذلك.
وأما الحكم في ذلك فيقال: لفظ آل فلان إذا أطلق في الكتاب والسنة، دخل فيه فلان، كما في قوله: "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ" [آل عمران: 33]، وقوله: "إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ" [القمر: 34]، وقوله: "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" [غافر: 46]، وقوله: "سَلَامٌ على إِلْ يَاسِينَ" [الصافات: 130]، ومنه قوله ﷺ: "اللهم صلِ على آل أبي أوفي".
وكذلك لفظ: "أهل البيت" كقوله تعالي: "رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ" [هود: 73]، فإن إبراهيم داخل فيهم، وكذلك قوله: "من سره
ج/ 22 ص -463- أن يكتال بالمكيال الأوفي إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صلِ على محمد النبي"الحديث، وسبب ذلك أن لفظ "الآل" أصله أول، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فقيل: آل، ومثله باب، وناب. وفي الأفعال قال وعاد، ونحو ذلك. ومن قال: أصله أهل فقلبت الهاء ألفًا، فقد غلط. فإنه قال ما لا دليل عليه، وادعي القلب الشاذ بغير حجة، مع مخالفته للأصل.
وأيضًا، فإن لفظ الأهل يضيفونه إلى الجماد، وإلى غير المعظم، كما يقولون: أهل البيت، وأهل المدينة، وأهل الفقير، وأهل المسكين. وأما الآل، فإنما يضاف إلى معظم من شأنه أن يؤول غيره، أو يسوسه، فيكون مآله إليه. ومنه الإيالة: وهي السياسة. فآل الشخص هم من يؤوله، ويؤول إليه، ويرجع إليه، ونفسه هي أول وأولي من يسوسه، ويؤول إليه. فلهذا كان لفظ آل فلان متناولًا له، ولا يقال: هو مختص به، بل يتناوله ويتناول من يؤوله، فلهذا جاء في أكثر الألفاظ: "كما صليت على آل إبراهيم، وكما باركت على آل إبراهيم" وجاء في بعضها: "إبراهيم" نفسه، لأنه هو الأصل في الصلاة والزكاة، وسائر أهل بيته. إنما يحصل لهم ذلك تبعًا. وجاء في بعضها ذكر هذا، وهذا تنبيهًا على هذين.
فإن قيل: فلم قيل: صل على محمد وعلي آل محمد، وبارك
ج/ 22 ص -464- علي محمد وآل محمد، فذكر هنا محمدًا وآل محمد، وذكر هناك لفظ: "آل إبراهيم، أو إبراهيم".
قيل: لأن الصلاة على محمد وعلي آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، وأما الصلاة على إبراهيم، ففي مقام الخبر والقصة؛ إذ قوله: "علي محمد وعلي آل محمد"، جملة طلبية. وقوله: "صليت على آل إبراهيم"، جملة خبرية. والجملة الطلبية إذا بسطت، كان مناسبًا؛ لأن المطلوب يزيد بزيادة الطلب، وينقص بنقصانه.
وأما الخبر، فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضي، لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم يمكن في زيادة اللفظ زيادة المعني، فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأتم وأحسن؛ ولهذا جاء بلفظ آل إبراهيم تارة، وبلفظ إبراهيم أخري؛ لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر، وهو الصلاة التي وقعت ومضت، إذ قد علم أن الصلاة على إبراهيم التي وقعت، هي الصلاة على آل إبراهيم، والصلاة على آل إبراهيم، صلاة على إبراهيم. فكان المراد باللفظين واحدًا مع الإيجاز والاختصار.
وأما في الطلب، فلو قيل: "صل الله على محمد"، لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آل محمد، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ ليس خبرًا عن أمر قد وقع واستقر، ولو قيل: صل على
ج/ 22 ص -465- آل محمد، لكان إنما يصلي عليه في العموم. فقيل: على محمد وعلي آل محمد، فإنه يحصل بذلك الصلاة عليه بخصوصه، وبالصلاة على آله.
ثم إن قيل: إنه داخل في آله مع الاقتران، كما هو داخل مع الإطلاق، فقد صلى عليه مرتين خصوصًا وعمومًا، وهذا ينشأ على قول من يقول: العام المعطوف على الخاص يتناول الخاص.
ولو قيل: إنه لم يدخل ولم يضر؛ فإن الصلاة عليه خصوصًا تغني.
وأيضًا، ففي ذلك بيان أن الصلاة على سائر الآل إنما طلبت تبعًا له، وأنه هو الأصل الذي بسببه طلبت الصلاة على آله، وهذا يتم بجواب السؤال المشهور، وهو أن قوله: "كما صليت على إبراهيم"، يشعر بفضيلة إبراهيم، لأن المشبه دون المشبه به، وقد أجاب الناس عن ذلك بأجوبة ضعيفة.
فقيل: التشبيه عائد إلى الصلاة على الأول فقط، فقوله: "صل على محمد"، كلام منقطع، وقوله: "وعلي آل محمد كما صليت على إبراهيم"، كلام مبتدأ، وهذا نقله العمراني عن الشافعي، وهذا باطل عن الشافعي قطعًا لا يليق بعلمه وفصاحته. فإن هذا كلام ركيك في غاية البعد، وفيه من جهة العربية بحوث لا تليق بهذا الموضع.
ج/ 22 ص -466-الثاني: قول من منع كون المشبه به أعلي من المشبه، وقال: يجوز أن يكونا متماثلين، قال صاحب هذا القول: والنبي ﷺ يفضل على إبراهيم من وجوه غير الصلاة، وهما متماثلان في الصلاة، وهذا أيضًا ضعيف؛ فإن الصلاة من الله من أعلي المراتب، أو أعلاها، ومحمد أفضل الخلق فيها، فكيف وقد أمر الله بها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه. وأيضًا، فالله وملائكته يصلون على معلم الخير، وهو أفضل معلمي الخير، والأدلة كثيرة لا يتسع لها هذا الجواب.
الثالث: قول من قال: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس مثلهم في آل محمد، فإذا طلب من الصلاة مثلما صلى على هؤلاء، حصل لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم، فإنهم دون الأنبياء، وبقيت الزيادة لمحمد ﷺ، فحصل له بذلك من الصلاة عليه مزية ليست لإبراهيم، ولا لغيره، وهذا الجواب أحسن مما تقدم.
وأحسن منه أن يقال: محمد هو من آل إبراهيم، كما روي على بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ" [آل عمران: 33]. قال ابن عباس: محمد من آل إبراهيم. وهذا بين. فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء في آل إبراهيم، فهو أحق بالدخول فيهم، فيكون قولنا: كما صليت على آل
ج/ 22 ص -467- إبراهيم، متناولًا للصلاة عليه، وعلي سائر النبيين من ذرية آل إبراهيم. وقد قال تعالي: "وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ"[العنكبوت: 27]، ثم أمرنا أن نصلي على محمد، وعلي آل محمد خصوصًا بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عمومًا، ثم لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم، والباقي له، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم.
ومعلوم أن هذا أمر عظيم، يحصل له به أعظم مما لإبراهيم وغيره. فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله نصيب وافر من المشبه، وله أكثر المطلوب، صار له من المشبه وحده أكثر مما لإبراهيم وغيره. وإن كان جملة المطلوب مثل المشبه، وانضاف إلى ذلك ما له من المشبه به، فظهر بهذا من فضله على كل من النبيين ما هو اللائق به ﷺ تسليمًا كثيرًا، وجزاه عنا أفضل ما جزي رسولًا عن أمته. اللهم صلِ على محمد وعلي آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلي آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
ج/ 22 ص -468-وسئل رحمه الله عن الصلاة على النبي ﷺ هل الأفضل فيها سرًا أم جهرًا؟ وهل روي عن النبي ﷺ أنه قال: "ازعجوا أعضاءكم بالصلاة علي" أم لا؟ والحديث الذي يروي عن ابن عباس أنه أمرهم بالجهر ليسمع من لم يسمع؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
أما الحديث المذكور، فهو كذب موضوع، باتفاق أهل العلم. وكذلك الحديث الآخر. وكذلك سائر ما يروى في رفع الصوت بالصلاة عليه، مثل الأحاديث التي يرويها الباعة لتنفيق السلع، أو يرويها السؤال من قصاص وغيرهم لجمع الناس وجبايتهم، ونحو ذلك.
والصلاة عليه هي دعاء من الأدعية، كما علم النبي ﷺ أمته حين قالوا: قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلي آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" أخرجاه في الصحيحين. والسنة في الدعاء كله المخافتة، إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر
ج/ 22 ص -469- قال تعالى: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [الأعراف: 55]، وقال تعالى عن زكريا: "إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا" [مريم: 3]. بل السنة في الذكر كله ذلك، كما قال تعالى: "وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ" [الأعراف: 205]. وفي الصحيحين أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا معه في سفر، فجعلوا يرفعون أصواتهم فقال النبي ﷺ: "أيها الناس، أرْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصَمَّ، ولا غائبًا، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". وهذا الذي ذكرناه في الصلاة عليه والدعاء، مما اتفق عليه العلماء، فكلهم يأمرون العبد إذا دعا أن يصلي على النبي ﷺ كما يدعو، لا يرفع صوته بالصلاة عليه أكثر من الدعاء، سواء كان في صلاة، كالصلاة التامة، وصلاة الجنازة، أو كان خارج الصلاة، حتى عقيب التلبية، فإنه يرفع صوته بالتلبية، ثم عقيب ذلك يصلي على النبي ﷺ، ويدعو سرًا، وكذلك بين تكبيرات العيد إذا ذكر الله، وصلى على النبي ﷺ، فإنه وإن جهر بالتكبير، لا يجهر بذلك.
وكذلك لو اقتصر على الصلاة عليه ﷺ خارج الصلاة مثل أن يذكر فيصلي عليه، فإنه لم يستحب أحد من أهل العلم رفع
ج/ 22 ص -470- الصوت بذلك، فقائل ذلك مخطئ مخالف لما عليه علماء المسلمين.
وأما رفع الصوت بالصلاة أو الرضا الذي يفعله بعض المؤذنين قدام بعض الخطباء في الجمع، فهذا مكروه أو محرم، باتفاق الأمة، لكن منهم من يقول: يصلي عليه سرًا، ومنهم من يقول: يسكت. والله أعلم.
وسئل عمن يقول: "اللهم صلِ على سيدنا محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقي من صلاتك شيء وبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء، وارحم محمدًا وآل محمد حتى لا يبقى من رحمتك شيء، وسلم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من سلامك شيء" أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، ليس هذا الدعاء مأثورًا عن أحد من السلف. وقول القائل: حتى لا يبقى من صلاتك شيء، ورحمتك شيء إن أراد به أن ينفد ما عند الله من ذلك فهذا جاهل. فإن ما عند الله من الخير لا نفاد له وإن أراد أنه بدعائه معطيه جميع ما يمكن أن يعطاه، فهذا أيضًا جهل. فإن دعاءه ليس هو السبب الممكن من ذلك.
ج/ 22 ص -471-وسئل عن أقوام حصل بينهم كلام في الصلاة على النبي ﷺ منهم من قال: إنها فرض واجب في كل وقت، ومن لا يصلي عليه يأثم. وقال بعضهم: هي فرض في الصلاة المكتوبة؛ لأنها من فروض الصلاة، وما عدا ذلك فغير فرض؛ لكن موعود الذي يصلي عليه بكل مرة عشرة؟
فأجاب:
الحمد لله، مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين أنها واجبة في الصلاة، ولا تجب في غيرها، ومذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد في الرواية الأخرى أنها لا تجب في الصلاة، ثم من هؤلاء من قال: تجب في العمر مرة، ومنهم من قال: تجب في المجلس الذي يذكر فيه، والمسألة مبسوطة في غير هذا الموضع. والله أعلم.
ج/ 22 ص -472-وسئل عن قوله ﷺ: "من صلى علي مرة، صلى الله عليه عشرًا. ومن صلى على عشرًا، صلى الله عليه مائة. ومن صلى على مائة، صلى الله عليه ألف مرة. ومن لم يصل علي، يبقي في قلبه حسرات ولو دخل الجنة". إذا صلى العبد على الرسول ﷺ يصلي الله على ذلك العبد أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من صلى على مرة، صلى الله عليه عشرًا". وفي السنن عنه أنه قال: "ما اجتمع قوم في مجلس فلم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا فيه علي، إلا كان عليهم تُرَّة يوم القيامة". والتُّرة: النغص والحسرة. والله أعلم.
وسئل: هل يجوز أن يُصَلَّى على غير النبي ﷺ، بأن يقال: اللهم صلِ على فلان؟
ج/ 22 ص -473-فأجاب:
الحمد لله، قد تنازع العلماء: هل لغير النبي ﷺ أن يصلي على غير النبي ﷺ مفردًا؟ على قولين:
أحدهما: المنع، وهو المنقول عن مالك، والشافعي، واختيار جدي أبي بركات.
والثاني: أنه يجوز وهو المنصوص عن أحمد، واختيار أكثر أصحابه: كالقاضي، وابن عقيل، والشيخ عبد القادر. واحتجوا بما روي عن علي أنه قال لعمر: صلى الله عليك.
واحتج الأولون بقول ابن عباس: لا أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد، إلا على رسول الله ﷺ. وهذا الذي قاله ابن عباس، قاله لما ظهرت الشيعة، وصارت تظهر الصلاة على علي دون غيره، فهذا مكروه منهي عنه، كما قال ابن عباس.
وأما ما نقل عن علي، فإذا لم يكن على وجه الغلو وجعل ذلك شعارًا لغير الرسول، فهذا نوع من الدعاء، وليس في الكتاب والسنة ما يمنع منه، وقد قال تعالى: "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ" [الأحزاب: 34]، وقال النبي ﷺ: "إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام
ج/ 22 ص -474- في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث". وفي حديث قبض الروح: "صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه".
ولا نزاع بين العلماء أن النبي ﷺ يصلي على غيره كقوله: "اللهم صلِ على آل أبي أوفى" وأنه يصلي على غيره تبعًا له، كقوله: "اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد". والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
المنصوص المشهور عن الإمام أحمد، أنه لا يدعو في الصلاة إلا بالأدعية المشروعة المأثورة، كما قال الأثرم: قلت لأحمد: بماذا أدعو بعد التشهد؟ قال: بما جاء في الخبر. قلت له: أو ليس قال رسول الله ﷺ: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء"؟ قال: يتخير مما جاء في الخبر. فعاودته، فقال: ما في الخبر. هذا معنى كلام أحمد.
قلت: وقد بينت بعض أصل ذلك، لقوله: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [الأعراف: 55]، وأن الدعاء ليس كله جائزًا، بل فيه عدوان محرم، والمشروع
ج/ 22 ص -475- لا عدوان فيه، وأن العدوان يكون تارة في كثرة الألفاظ، وتارة في المعاني، كما قد فسر الصحابة ذلك؛ إذ قال هذا لابنه لما قال: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، وقال الآخر: أسألك الجنة وقصورها، وأنهارها، وأعوذ بك من النار، وسلاسلها وأغلالها. فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطَّهور". والاعتداء يكون في العبادة وفي الزهد. وقول أحمد: بما جاء في الخبر، حسن، فإن اللام في الدعاء للدعاء الذي يحبه الله، ليس لجنس الدعاء، فإن من الدعاء ما يحرم.
فإن قيل: ما جاز من الدعاء خارج الصلاة، جاز في الصلاة، مثل سؤاله: دارًا، وجارية حسناء.
قيل: ومن قال: إن مثل هذا مشروع خارج الصلاة، وأن مثل هذه الألفاظ ليست من العدوان؟ وحينئذ، فيقال: الدعاء المستحب هو الدعاء المشروع، فإن الاستحباب إنما يتلقى من الشارع فما لم يشرعه لا يكون مستحبًا، بل يكون شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فإن الدعاء من أعظم الدين، لكن إذا دعا بدعاء لم يعلم أنه مستحب، أو علم أنه جائز غير مستحب، لم تبطل صلاته بذلك. فإن الصلاة إنما تبطل بكلام الآدميين، والدعاء ليس من جنس كلام الآدميين، بل هو
ج/ 22 ص -476- كما لو أثني على الله بثناء لم يشرع له، وقد وجد مثل هذا من بعض الصحابة على عهد النبي ﷺ، ولم ينكر عليه كونه أثني ثناءً لم يشرع له في ذلك المكان، بل نفي ما له فيه من الأجر. ومن الدعاء ما يكون مكروهًا ولا تبطل به الصلاة، ومنه ما تبطل به الصلاة. فالدعاء خمسة أقسام.
الذي يشرع هو الواجب والمستحب. وأما المباح، فلا يستحب، ولا يبطل الصلاة. والمكروه يكره ولا يبطلها، كالالتفات في الصلاة، وكما لو تشهد في القيام، أو قرأ في القعود. والمحرم يبطلها؛ لأنه من الكلام. وهذا تحقيق قول أحمد. فإنه لم يبطل الصلاة بالدعاء غير المأثور، لكنه لم يستحبه؛ إذ لا يستحب غير المشروع. وبين أن التخيير عاد إلى المشروع، والمشروع يكون بلفظ النص وبمعناه، إذ لم يقيد النبي ﷺ الدعاء بلفظ واحد، كالقراءة.
ولهذا لما كانت صلاة الجنازة مقصودها الدعاء، لم يوقت فيها وقتًا. ولما كان الذكر أفضل، كان أقرب إلى التوقيت، كالأذان والتلبية، ونحو ذلك.
فأما قول الجد رحمه الله إلا بما ورد في الأخبار، وبما يرجع إلى أمر دينه، ففيه نظر. فإن أحمد لم يذكر إلا الأخبار. وأيضًا،
ج/ 22 ص -477- فالدعاء بمصالح الدنيا جائز، فإنه مشروع. والدعاء ببعض أمور الدين قد يكون من العدوان، كما ذكر عن الصحابة، وكما لو سأل منازل الأنبياء. فالأجود أن يقال: إلا بالدعاء المشروع المسنون، وهو ما وردت به الأخبار، وما كان في معناه؛ لأن ذلك لم يوجب علينا التعبد بلفظه، كالقرآن.
ونحن منعنا من ترجمة القرآن؛ لأن لفظه مقصود. وكذلك التكبير ونحوه. فأما الدعاء، فلم يوقت فيه لفظ، لكن كرهه أحمد بغير العربية. فالمراتب ثلاثة:
القراءة، والذكر، والدعاء باللفظ المنصوص، ثم باللفظ العربي في معنى المنصوص، ثم باللفظ العجمي. فهذا كرهه أحمد في الصلاة. وفي البطلان به خلاف، وهو من باب البدل. وأهل الرأي يجوزون مع تشددهم في المنع من الكلام في الصلاة. حتى كرهوا الدعاء الذي ليس في القرآن، أو ليس في الخبر، وأبطلوا به الصلاة يجوزون الترجمة بالعجمية، فلم يجعل بالعربية عبادة، وجوزوا التكبير بكل لفظ يدل على التعظيم.
فهم توسعوا في إبدال القرآن بالعجمية، وفي إبدال الذكر بغيره من الأذكار، ولم يتوسعوا مثله في الدعاء. وأحمد وغيره من الأئمة
ج/ 22 ص -478- بالعكس: الدعاء عندهم أوسع، وهذا هو الصواب؛ لأن النبي ﷺ قال: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه" ولم يوقت في دعاء الجنازة شيئًا، ولم يوقت لأصحابه دعاء معينًا، كما وقت لهم الذكر، فكيف يقيد ما أطلقه الرسول ﷺ من الدعاء، ويطلق ما قيده من الذكر، مع أن الذكر أفضل من الدعاء، كما قررناه في غير هذا الموضع؟
ولهذا توجب الأذكار العلمية ما لم يجب من الثنائية.
ولهذا كان أفضل الكلام بعد القرآن، الكلمات الباقيات الصالحات: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" فأمر النبي ﷺ بهذه الكلمات لمن عجز عن القرآن، وقال: "هن أفضل الكلام بعد القرآن" ولهذا كان أفضل الاستفتاحات في الصلاة، ما تضمنت ذلك، وهو قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" لِمَا قد بيناه في غير هذا الموضع.
وذكرنا أن هذا ثناء، فهو أفضل من الدعاء، وهو ثناء بمعني أفضل الكلام بعد القرآن، وذلك مقتضي للإجابة، يبين ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ:
ج/ 22 ص -479- "من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. الحمد لله وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودعا استجيب له، وإن توضأ قبلت صلاته" فقد أخبر أن هذه الكلمات الخمس، إذا افتتح بها المستيقظ من الليل كلامه، كان ذلك سببًا لإجابة دعائه، ولقبول صلاته، إذا توضأ بعد ذلك. فيكون افتتاح الصلاة بذلك سببًا لقبولها، وما فيها من الدعاء، أو حمد الله والثناء عليه قبل دعائه. ولذلك أمر النبي ﷺ بذلك في حديث المسيء فقال: "كبر فاحمد الله، واثن عليه، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن". وأيضًا، ففي أحاديث أخر من أحاديث الافتتاح أنه كان يقول: "الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا" وهذا معناها.
وأيضًا، فإنها مستحبة بين تكبيرات العيد الزوائد، كما نقل ذلك عن ابن مسعود، وتلك التكبيرات هي من جنس تكبيرات الافتتاح.
وأيضًا، ففي الحديث الآخر من أحاديث الاستفتاح، أنه كان يكبر عشرًا، ويحمد عشرًا، ويسبح عشرًا، أو كما قال. فتوافق معاني الأحاديث الكثيرة على معنى هذا الافتتاح، كتوافق معنى تشهد
ج/ 22 ص -480-أبي موسى وغيره على معني تشهد ابن مسعود. وإذا كان الذكر الواحد قد جاءت عامة الأذكار بمعناه، كان أرجح مما لم يجئ فيه إلا حديث واحد؛ لأنه يدل على كثرة قصد النبي ﷺ لتلك المعاني، وما كثر قصده واختياره له كان مقدمًا على ما لم يكثر.
ويؤيد ذلك أن هذه الكلمات مشروعة في دبر الصلوات المكتوبات أيضًا. كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، فتكون هي من الفواتح والخواتم التي أوتيها نبينا ﷺ. فإنه أوتي فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
وسئل رحمه الله: هل الدعاء عقيب الفرائض، أم السنن، أم بعد التشهد في الصلاة؟
فأجاب:
السنة التي كان النبي ﷺ يفعلها ويأمر بها، أن يدعو في التشهد قبل السلام. كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول بعد التشهد: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال".
ج/ 22 ص -481-وفي الصحيح أيضًا أنه أمر بهذا الدعاء بعد التشهد. وكذلك في الصحيح أنه كان يقول بعد التشهد قبل السلام: "اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" وفي الصحيح أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".
وفي الصحيح أحاديث غير هذه، أنه كان يدعو بعد التشهد وقبل السلام، وكان يدعو في سجوده. وفي رواية كان يدعو إذا رفع رأسه من الركوع، وكان يدعو في افتتاح الصلاة. ولم يقل أحد عنه أنه كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام، بل كان يذكر الله بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير، كما جاء في الأحاديث الصحيحة. والله أعلم.
وسئل عمن قال: لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسمًا، ولا يقول: يا حنان، يا منان، ولا يقول: يا دليل الحائرين، فهل له أن يقول ذلك؟
ج/ 22 ص -482-فأجاب:
الحمد لله، هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد ابن حزم وغيره، فإن جمهور العلماء على خلافه، وعلي ذلك مضي سلف الأمة وأئمتها، وهو الصواب لوجوه:
أحدها: أن التسعة والتسعين اسمًا لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي ﷺ، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديث ثان أضعف من هذا. رواه ابن ماجه. وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف.
وهذا القائل الذي حصر أسماء الله في تسعة وتسعين، لم يمكنه استخراجها من القرآن، وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال: هي التي يجوز الدعاء بها دون غيرها؛ لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور. فكل اسم يجهل حاله، يمكن أن يكون من المأمور، ويمكن أن يكون من المحظور. وإن قيل: لا تدعوا إلا باسم له ذكر في الكتاب والسنة، قيل: هذا أكثر من تسعة وتسعين.
الوجه الثاني: أنه إذا قيل تعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا، ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث، مثل اسم
ج/ 22 ص -483- [الرب]، فإنه ليس في حديث الترمذي، وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم، كقول آدم: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا" [الأعراف: 23]، وقول نوح: "قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ" [هود: 47]، وقول إبراهيم: "رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ" [إبراهيم: 41]، وقول موسى: "قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" [القصص: 16]، وقول المسيح: "رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء" [المائدة: 114]، وأمثال ذلك. حتى إنه يذكر عن مالك وغيره، أنهم كرهوا أن يقال: يا سيدي، بل يقال: يا رب، لأنه دعاء النبيين، وغيرهم، كما ذكر الله في القرآن.
وكذلك اسم [المنان] ففي الحديث الذي رواه أهل السنن أن النبي ﷺ سمع داعيًا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الملك، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي ﷺ: "لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى" وهذا رد لقول من زعم أنه لا يمكن في أسمائه المنان.
وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه لرجل ودعه، قل: يا دليل الحائرين، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين. وقد أنكر طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر، وأبي الوفاء ابن عقيل، أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو
ج/ 22 ص -484- الدلالة التي يستدل بها، والصواب ما عليه الجمهور؛ لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول، ولو كان الدليل ما يستدل به، فالعبد يستدل به أيضًا فهو دليل من الوجهين جميعًا.
وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله وتر يحب الوتر". وليس هذا الاسم في هذه التسعة والتسعين، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "إن الله جميل يحب الجمال" وليس هو فيها. وفي الترمذي وغيره أنه قال: "إن الله نظيف يحب النظافة" وليس هذا فيها، وفي الصحيح عنه أنه قال: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا" وليس هذا فيها. وتتبع هذا يطول.
ولفظ التسعة والتسعين المشهورة عند الناس في الترمذي: "الله. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي.
ج/ 22 ص -485- المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الأحد ويروي الواحد الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المعطي. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور. الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين، اسمه: السبوح، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه كان يقول: "سبوح قدوس". واسمه "الشافي" كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: "أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقمًا". وكذلك أسماؤه المضافة مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة، وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين، وليس من هذه التسعة والتسعين.
الوجه الثالث: ما احتج به الخطابي وغيره، وهو حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: "ما أصاب عبدًا قط
ج/ 22 ص -486- هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وشفاء صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي وهمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا" قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: "بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن" رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه.
قال الخطابي وغيره: فهذا يدل على أن له أسماء استأثر بها، وذلك يدل على أن قوله: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة"، أن في أسمائه تسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة، كما يقول القائل: إن لي ألف درهم أعددتها للصدقة، وإن كان ماله أكثر من ذلك.
والله في القرآن قال: "وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" [الأعراف: 180]، فأمر أن يدعى بأسمائه الحسني مطلقًا، ولم يقل: ليست أسماؤه الحسنى إلا تسعة وتسعين اسمًا، والحديث قد سلم معناه. والله أعلم.
ج/ 22 ص -487-وَسُئِلَ رَحمه الله عن رجل قال: إذا دعا العبد لا يقول: يا الله، يا رحمن؟
فألاجاب:
الحمد للَّه، لا خلاف بين المسلمين أن العبد إذا دعا ربه يقول: يا الله، يا رحمن، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، كما قال تعالي: "قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي" [الإسراء: 110]، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه: "يا الله يارحمن" فقال المشركون: محمد ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فقال الله تعالي: "قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي" أي المدعو إله واحد، وإن تعددت أسماؤه، كما قال تعالي: "وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ" [الأعراف: 180].
ومن أنكر أن يقال: يا الله يا رحمن، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل. والله أعلم.
ج/ 22 ص -488-وَسُئِلَ عن امرأة سمعت في الحديث "اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ناصيتي بيدك" إلى آخره فداومت على هذا اللفظ، فقيل لها: قولي: اللهم إني أمتك، بنت أمتك، إلى آخره، فأبت إلا المداومة على اللفظ، فهل هي مصيبة أم لا؟
فأجاب:
بل ينبغي لها أن تقول: اللهم إني أمتك، بنت عبدك، ابن امتك، فهو أولي وأحسن. وإن كان قولها: عبدك ابن عبدك له مخرج في العربية، كلفظ الزوج، والله أعلم.
وَسُئِلَ عن رجل دعا دعاء ملحونًا، فقال له رجل: ما يقبل الله دعاء ملحونًا؟
فأجاب:
من قال هذا القول فهو آثم مخالف للكتاب والسنة، ولما كان عليه السلف، وأما من دعا الله مخلصًا له الدين بدعاء جائز سمعه
ج/ 22 ص -489- الله، وأجاب دعاءه سواء كان معربًا أو ملحونًا، والكلام المذكور لا أصل له، بل ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب ألا يتكلف الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب، ذهب الخشوع، وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء، فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء من القلب، واللسان تابع للقلب.
ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه، أضعف توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه، لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه. والدعاء يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصد الداعي، ومراده، وإن لم يقوِّم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تنوع الحاجات.
وَقَال رَحمَه الله:
فَصْل
وأما السلام من الصلاة، فالمختار عند مالك ومن تبعه من أهل المدينة تسليمة واحدة في جميع الصلاة، فرضها ونفلها، المشتملة على الأركان الفعلية، أو على ركن واحد.
ج/ 22 ص -490- وعند أهل الكوفة: تسليمتان، في جميع ذلك، ووافقهم الشافعي.
والمختار في المشهور عن أحمد: أن الصلاة الكاملة المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان، وأما الصلاة بركن واحد، كصلاة الجنائز، وسجود التلاوة، وسجود الشكر: فالمختار فيها تسليمة واحدة، كما جاءت أكثر الآثار بذلك.
فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم المتعدد، ومن الركن الفعلي المفرد بالتسليم المفرد. فإن صلاة النبي ﷺ كانت معتدلة، فما طولها أعطي كل جزء منها حظه من الطول، وما خففها أدخل التخفيف على عامة أجزائها.
وَسُئِلَ عن رجل: إذا سلم عن يمينه يقول: السلام علكيم ورحمة الله، أسألك الفوز بالجنة، وعن شماله: السلام عليكم، أسألك النجاة من النار، فهل هذا مكروه أم لا؟ فإن كان مكروهًا، فما الدليل على كراهته؟
فأجلااب:
الحمد للَّه، نعم! يكره هذا؛ لأن هذا بدعة، فإن هذا
ج/ 22 ص -491- لم يفعله رسول الله ﷺ، ولا استحبه أحد من العلماء، وهو إحداث دعاء في الصلاة في غير محله، يفصل بأحدهما بين التسليمتين، ويصل التسليمة بالآخر، وليس لأحد فصل الصفة المشروعة بمثل هذا، كما لو قال: سمع الله لمن حمده، أسألك الفوز بالجنة، ربنا ولك الحمد، أسألك النجاة من النار، وأمثال ذلك. والله أعلم.