أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب شروط الصلاة

    ج/ 22 ص -74- باب شروط الصلاة
    قال رحمه الله ‏:‏
    فصل

    وأما إذا ابتدؤوا الصلاة بالمواقيت، ففقهاء الحديث قد استعملوا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي ﷺ في أوقات الجواز‏.‏ وأوقات الاختيار‏.‏
    فوقت الفجر‏:‏ ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، ووقت الظهر‏:‏ من الزوال إلى مصير ظل كل شىء مثله سوى فىء الزوال، ووقت العصر‏:‏ إلى اصفرار الشمس على ظاهر مذهب أحمد ووقت المغرب‏:‏ إلى مغيب الشفق، ووقت العشاء‏:‏ إلى منتصف الليل على ظاهر مذهب أحمد‏.‏
    وهذا بعينه قول رسول الله ﷺ في الحديث الذي

    ج/ 22 ص -75- رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو‏.‏ وروى أيضًا من حديث أبي هريرة رضى الله عنه‏.‏ وليس عن النبي ﷺ حديث من قوله في المواقيت الخمس أصح منه، وكذلك صح معناه من غير وجه من فعل النبي ﷺ في المدينة، من حديث أبي موسى وبريدة رضى الله عنهما‏.‏ وجاء مفرقًا في عدة أحاديث، وغالب الفقهاء إنما استعملوا غالب ذلك‏.‏
    فأهل العراق، المشهور عنهم أن العصر لا يدخل وقتها حتى يصير ظل كل شىء مثليه‏.‏ وأهل الحجاز مالك وغيره ‏:‏ ليس للمغرب عندهم إلا وقت واحد‏.‏
    فصل
    وكذلك نقول بما جاءت به السنة والآثار من الجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض، كما في حديث المستحاضة، وغير ذلك من الأعذار‏.‏
    ونقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت وقتان‏:‏ وقت اختيار، وهو خمس مواقيت‏.‏ ووقت اضطرار، وهو ثلاث مواقيت‏.‏ ولهذا أمرت الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهما

    ج/ 22 ص -76- الحائض إذا طهرت قبل الغروب أن تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء‏.‏ وأحمد موافق في هذه المسائل لمالك رحمه الله‏.‏ وزائد عليه بما جاءت به الآثار‏.‏ والشافعي رحمه الله هو دون مالك في ذلك، وأبو حنيفة أصله في الجمع معروف‏.‏
    وكذلك أوقات الاستحباب، فإن أهل الحديث يستحبون الصلاة في أول الوقت في الجملة، إلا حيث يكون في التأخير مصلحة راجحة كما جاءت به السنة، فيستحبون تأخير الظهر في الحر مطلقًا، سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين، ويستحبون تأخير العشاء ما لم يشق‏.‏
    وبكل ذلك جاءت السنن الصحيحة التي لا دافع لها‏.‏ وكل من الفقهاء يوافقهم في البعض أو الأغلب‏.‏
    فأبو حنيفة‏:‏ يستحب التأخير إلا في المغرب، والشافعي‏:‏ يستحب التقديم مطلقًا حتى في العشاء على أحد القولين وحتى في الحر، إذا كانوا مجتمعين، وحديث أبي ذر الصحيح فيه أمر النبي ﷺ لهم بالإبراد، وكانوا مجتمعين‏.

    ج/ 22 ص -77-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    فصل
    قاعدة في أعداد ركعات الصلوات وأوقاتها
    وما يدخل في ذلك من جمع وقصر
    جرت عادة كثير من العلماء المصنفين للعلم أن يذكروا في ‏[‏باب مواقيت الصلاة‏]‏‏:‏ أوقاتها وأعدادها وأسماءها، ثم منهم من يذكر القصر والجمع في بابين مفترقين مع صلاة أهل الأعذار كالمريض، والخائف‏.‏
    ومنهم من يذكر الجمع في المواقيت‏.‏ وأما القصر فيفرده‏.‏ فإن سبب القصر هو السفر وحده، فقران صلاة المسافر بصلاة الخائف والمريض مناسب‏.‏
    وأما الجمع‏:‏ فأسبابه متعددة؛ لاختصاص السفر به‏.‏ ونحن نذكر في كل منهما فصلاً جامعًا‏.‏

    ج/ 22 ص -78- أما العدد‏:‏ فمعلوم أنها خمس صلوات‏:‏ ثلاث رباعية، وواحدة ثلاثية وواحدة ثنائية، هذا في الحضر‏.‏ وأما في السفر، فقد سافر رسول الله ﷺ قريبًا من ثلاثين سَفْرة، وكان يصلي ركعتين في أسفاره، ولم ينقل عنه أحد من أهل العلم أنه صلى في السفر الفرض أربعًا قط، حتى في حجة الوداع، وهي آخر أسفاره، كان يصلي بالمسلمين بمنى الصلوات‏:‏ ركعتين، ركعتين‏.‏ وهذا من العلم العام المستفيض المتواتر الذي اتفق على نقله عنه جميع أصحابه، ومن أخذ العلم عنهم‏.‏
    والحديث الذي رواه الدارقطني عن عائشة أن النبي ﷺ كان يقصر في السفر وتُتم ويُفطر، وتَصوم‏.‏ باطل في الإتمام‏.‏ وإن كان صحيحًا‏.‏ في الإفطار، بخلاف النقل المتواتر المستفيض‏.‏ ولم يذكر هذا بعد قط‏.‏
    وكيف يكون والنبي ﷺ في أسفاره إنما كان يصلي الفرض إماما، لكن مرة في غزوة تبوك احتبس للطهارة ساعة فقدموا عبد الرحمن بن عوف، وأدرك النبي ﷺ خلفه بعض الصلاة، فلو صلى بهم أربعًا في السفر، لكان هذا من أوكد ما تتوفر هممهم ودواعيهم على نقله؛ لمخالفته سنته المستمرة، وعادته الدائمة كما نقلوا أنه جمع بين الصلاتين أحيانًا‏.‏ فلما لم ينقل ذلك أحد منهم علم قطعًا أنه لم يفعل ذلك‏.‏

    ج/ 22 ص -79- ولهذا قال ابن عمر‏:‏ صلاة السفر ركعتان، من خالف السنة كفر‏:‏ أي من اعتقد أن صلاة ركعتين ليس بمسنون، ولا مشروع، فقد كفر‏.‏
    وكذلك قال عمر بن الخطاب‏:‏ صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم‏.‏
    وقالت عائشة رضي الله عنها ‏:‏ الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر‏.‏ قال الزهري‏:‏ فقلت لعروة‏:‏ فما بال عائشة تتم‏؟‏ قال‏:‏ تأولت، كما تأول عثمان‏.‏ أخرجاه في الصحيحين ‏.‏
    وقال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة‏"‏‏.‏ هذا، ولما حج النبي ﷺ حجة الوداع، كان يقصر الصلاة في مقامه بمكة، والمشاعر، مع أنه دخل مكة يوم الأحد، وخرج منها يوم الخميس إلى منى، وعرف يوم الجمعة وأقام بمنى إلى عشية الثلاثاء، وبات بالمحصب ليلة الأربعاء، وطاف للوداع تلك الليلة‏.‏ وقام أيضًا قبل ذلك في غزوة الفتح بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة‏.‏

    ج/ 22 ص -80- وأما الحديث الذي يروى عن عائشة‏:‏ أنها اعتمرت مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت‏:‏ يا رسول الله بأبى وأمى قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أحسنت يا عائشة‏"‏‏!‏ وما عاب علي‏.‏ رواه النسائي‏.‏ وروى الدارقطني‏:‏ خرجت مع النبي ﷺ في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت‏.‏ وقال‏:‏ إسناده حسن‏.‏ فهذا لو صح، لم يكن فيه دليل على أن النبي ﷺ أتم، وإنما فيه إذنه في الإتمام، مع أن هذا الحديث على هذا الوجه ليس بصحيح، بل هو خطأ لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الذي في الصحيحين عن عائشة‏:‏ أن صلاة السفر ركعتان‏.‏ وقد ذكر ابن أخيها وهو أعلم الناس بها ‏:‏ أنها إنما أتمت الصلاة في السفر بتأويل تأولته، لا بنص كان معها‏.‏ فعلم أنه لم يكن معها فيه نص‏.‏
    الثانى‏:‏ أن في الحديث‏:‏ أنها خرجت معتمرة معه في رمضان عمرة رمضان، وكانت صائمة‏.‏ وهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإن النبي ﷺ لم يعتمر في رمضان قط، وإنما كانت عُمَره كلها في شوال، وإذا كان لم يعتمر في رمضان، ولم يكن في عمره عليه صوم، بطل هذا الحديث‏.‏

    ج/ 22 ص -81-الثالث‏:‏ أن النبي ﷺ إنما سافر في رمضان في غزوة بدر، وغزوة الفتح‏.‏ فأما غزوة بدر، فلم يكن معه فيها أزواجه، ولا كانت عائشة‏.‏ وأما غزوة الفتح، فقد كان صام فيها في أول سفره، ثم أفطر، خلاف ما في هذا الحديث المفتعل‏.‏
    الرابع‏:‏ أن اعتمار عائشة معه فيه نظر‏.‏
    الخامس‏:‏ أن عائشة لم تكن بالتي تصوم وتصلى طول سفرها إلى مكة، وتخالف فعله بغير إذنه، بل كانت تستفتيه قبل الفعل، فإن الإقدام على مثل ذلك لا يجوز‏.‏
    فثبت بهذه السنة المتواترة أن صلاة السفر ركعتان، كما أن صلاة الحضر أربع، فإن عدد الركعات إنما أخذ من فعل النبي ﷺ الذي سنه لأمته، وبطل قول من يقول من أصحاب أحمد والشافعي‏:‏ إن الأصل أربع، وإنما الركعتان رخصة‏.‏
    وبنوا على هذا‏:‏ أن القاصر يحتاج إلى نية القصر في أول الصلاة كما قاله الشافعي، وهو قول الخرقى، والقاضى، وغيرهما، بل الصواب ما قاله جمهور أهل العلم، وهو اختيار أبي بكر وغيره‏:‏ أن القصر لا يحتاج إلى نية، بل دخول المسافر في صلاته كدخول الحاضر، بل لو

    ج/ 22 ص -82- نوى المسافر أن يصلي أربعًا لكره له ذلك، وكانت السنة أن يصلي ركعتين، ونصوص الإمام أحمد إنما تدل على هذا القول‏.‏
    وقد تنازع أهل العلم في التربيع في السفر‏:‏ هل هو محرم‏؟‏ أو مكروه‏؟‏ أو ترك الأفضل‏؟‏ أو هو أفضل‏؟‏ على أربعة أقوال‏:‏
    فالأول‏:‏ قول أبى حنيفة، ورواية عن مالك‏.‏
    والثانى‏:‏ رواية عنه، وعن أحمد‏.‏
    والثالث‏:‏ رواية عن أحمد، وأصح قولى الشافعي‏.‏
    والرابع‏:‏ قول له‏.‏ و‏]‏الرابع‏[‏ خطأ قطعًا، لا ريب فيه‏.‏ والثالث ضعيف، وإنما المتوجه أن يكون التربيع إما محرم أو مكروه؛ لأن طائفة من الصحابة كانوا يربعون، وكان الآخرون لا ينكرونه عليهم إنكار من فعل المحرم، بل إنكار من فعل المكروه‏.‏
    وأما قوله تعالى‏:‏
    ‏"‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، فهنا علق القصر بسببين‏:‏ الضرب في الأرض، والخوف من فتنة الذين كفروا؛ لأن القصر المطلق يتناول قصر عددها، وقصر عملها، وأركانها‏.‏ مثل الإيماء بالركوع والسجود، فهذا القصر إنما شرع بالسببين كلاهما،

    ج/ 22 ص -83- كل سبب له قصر‏.‏ فالسفر يقتضي قصر العدد، والخوف يقتضي قصر الأركان‏.‏
    ولو قيل‏:‏ إن القصر المعلق هو قصر الأركان، فإن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، لكان وجيهًا‏.‏ ولهذا قال‏:‏
    ‏"‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏
    فقد ظهر بهذا أن القصر لا يسوي بالجمع، فإنه سنة رسول الله ﷺ، وشرعته لأمته، بل الإتمام في السفر أضعف من الجمع في السفر‏.‏ فإن الجمع قد ثبت عنه أنه كان يفعله في السفر أحيانًا وأما الإتمام فيه، فلم ينقل عنه قط، وكلاهما مختلف فيه بين الأمة، فإنهم مختلفون في جواز الإتمام، وفي جواز الجمع، متفقون على جواز القصر وجواز الإفراد‏.‏ فلا يشبه بالسنة المتواترة أن النبي ﷺ كان يداوم عليه في أسفاره، وقد اتفقت الأمة عليه، إلى أن ما فعله في سفره مرات متعددة،وقد تنازعت فيه الأمة‏.‏
    فصل
    وأما الوقت‏:‏ فالأصل في ذلك أن الوقت في كتاب الله وسنة رسول الله نوعان‏:‏ وقت اختيار ورفاهية، ووقت حاجة وضرورة‏.‏

    ج/ 22 ص -84- أما الأول، فالأوقات خمسة‏.‏
    وأما الثانى، فالأوقات ثلاثة، فصلاتا الليل، وصلاتا النهار، وهما اللتان فيهما الجمع والقصر، بخلاف صلاة الفجر فإنه ليس فيها جمع ولا قصر، لكل منهما وقت مختص، وقت الرفاهية والاختيار، والوقت مشترك بينهما عند الحاجة والاضطرار، لكن لا تؤخر صلاة نهار إلى ليل، ولا صلاة ليل إلى نهار‏.‏
    ولهذا وقع الأمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى صلاة العصر، وقال النبي ﷺ فيها‏
    :‏ ‏"‏من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏فكأنما وَتِرَ أهله وماله‏"‏‏.‏ وقد دل على هذا الأصل أن الله في كتابه ذكر الوقوت تارة ثلاثة، وتارة خمسة‏.‏
    أما الثلاثة، ففى قوله‏:‏
    ‏"‏أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏، وفى قوله‏:‏ ‏"‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏.‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ‏"‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48، 49‏[‏ أما الخمس فقد ذكرها أربعة‏:‏ في قوله‏:‏"‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏.‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏"‏[‏الروم‏:‏ 17، 18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 130‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏.‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ‏"‏[‏ق‏:‏39، 40‏]‏،

    ج/ 22 ص -85-والسنة هي التي فسرت ذلك وبينته وأحكمته‏.‏
    وذلك أنه قد ثبت بالنقل المتواتر عن النبي ﷺ‏:‏ أنه كان يصلي الصلوات الخمس في خمس مواقيت‏:‏ في حال مقامه بالمدينة، وفى غالب أسفاره حتى أنه في حجة الوداع آخر أسفاره كان يصلي كل صلاة في وقتها ركعتين، وإنما جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين العشائين بمزدلفة ؛ ولهذا قال ابن مسعود‏:‏ ما رأيت رسول الله ﷺ صلى صلاة لغير وقتها، إلا المغرب ليلة جمع، والفجر بمزدلفة‏.‏ وإنما قال ذلك لأنه غلس بها تغليسًا شديدًا، وقد بين جابر في حديثه أنه صلاها حين طلع الفجر‏.‏
    ولهذا اتفق المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة؛ لأن جمع هاتين الصلاتين في حجة الوداع دون غيرهما، مما صلاه بالمسلمين بمنى أو بمكة هو من المنقول نقلاً عامًا متواترًا مستفيضًا‏.‏
    وثبت عنه أنه بين مواقيت الصلاة بفعله لمن سأله عن المواقيت بالمدينة، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى موسى، وحديث بريدة بن الحصيب، وبين له جبريل المواقيت بمكة، كما رواه جابر، وابن عباس‏.‏ وروى مسلم في صحيحه المواقيت من كلام النبي

    ج/ 22 ص -86- ﷺ، من حديث عبد الله بن عمر، وهو أحسن أحاديث المواقيت؛ لأنه بيان بكلام النبي ﷺ حيث قال‏:‏
    ‏"‏وقت الفجر ما لم تطلع الشمس، ووقت الظهر ما لم يصر ظل كل شىء مثله، ووقت العصر ما لم تصفَرَّ الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل‏"‏‏.‏ وقد روى نحو ذلك من حديث أبى هريرة مرفوعًا، وفيه نظر‏.‏ وعلى هذه الأحاديث اعتمد الإمام أحمد لكثرة اطلاعه على السنن‏.‏ وأما غيره من الأئمة، فبلغه بعض هذه الأحاديث دون بعض، فاتبع ما بلغه، ومن اتبع ما بلغه فقد أحسن، وما على المحسنين من سبيل‏.‏
    وقال ﷺ في غير حديث‏:‏
    ‏"‏سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏"‏‏.‏ فهذا دليل على أنه لا يجوز تأخير الأولى إلى وقت الثانية ولا يجوز الجمع لغير حاجة، فإن الأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار، ولكن غايتهم أن يؤخروا الظهر إلى وقت العصر إلى الاصفرار، أو يؤخروا المغرب إلى مغيب الشفق‏.‏ وأما العشاء، فلو أخروها إلى نصف الليل لم يكن ذلك مكروهًا‏.‏ وتأخيرها إلى ما بعد ذلك لم يكن يفعله أحد، ولا هو مما يفعله الأمراء‏.‏

    ج/ 22 ص -87- وأما الثلاث، فقد ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة من حديث ابن عمر وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل‏:‏ أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، يجمع في وقت الثانية إذا جد به السير في وقت الأولى، أو إذا كان سائرًا في وقتها‏.‏ وهذا مما اتفق عليه القائلون بالجمع بين الصلاتين من فقهاء الحديث، وأهل الحجاز‏.‏ وكذلك ما روى عنه‏:‏ ‏"‏أنه كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا‏"‏ رواه أهل السنن من حديث معاذ‏.‏ ورواه مسلم في صحيحه عن معاذ‏:‏ ‏"‏أن النبي ﷺ جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر‏.‏ وبين المغرب والعشاء‏"‏‏.‏ وإنما تنازعوا فيما إذا كان نازلاً في وقت الصلاتين كلاهما، وفيه روايتان عن أحمد‏:‏
    إحداهما‏:‏ لا يجمع لعدم السنة، والحاجة، وهو قول مالك، واختيار الخرقي‏.‏
    الثانية‏:‏ يجمع، وهو قول الشافعي؛ لحديث روي في ذلك أيضًا رواه أبو داود‏.‏ وذكر ابن عبد البر أنه لم يرو غيره، وثبت عنه أيضًا بالأحاديث الصحيحة وبالاتفاق‏:‏ ‏"‏أنه جمع في حجة الوداع بعرفة بين صلاتي العشي، وبمزدلفة بين صلاتي العشائين‏"‏، وثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس‏:‏ أنه صلى بالمدينة سبعًا، وثمانياً‏:‏ الظهر والعصر

    ج/ 22 ص -88- والمغرب والعشاء‏.‏ وفى صحيح مسلم عنه‏:‏ جمع رسول الله ﷺ بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر‏.‏ قيل لابن عباس‏:‏ ما أراد بذلك‏؟‏ قال‏:‏ أراد ألا يحرج أمته‏.‏ وكذلك قال معاذ بن جبل‏.‏
    وروى أهل السنن عنه حديثين أو ثلاثة أنه أمر المستحاضة بالجمع بين الصلاتين في حديث حَمْنَة بنت جحش، وغيرها، فهذا الجمع بالمدينة للمطر ولغير مطر‏.‏ وقد نبه به ابن عباس على الجمع للخوف والمطر‏.‏ والجمع عند المسير في السفر، يجمع في المقام وفى السفر لرفع الحرج‏.‏ فعلم بذلك أنه ليس السفر سبب للجمع، كما هو سبب للقصر، فإن قصر العدد دائر مع السفر وجودًا وعدمًا، وأما الجمع فقد جمع في غير سفر، وقد كان في السفر يجمع للمسير، ويجمع في مثل عرفة ومزدلفة، ولا يجمع في سائر مواطن السفر، وأمر المستحاضة بالجمع‏.‏
    فظهر بذلك أن الجمع هو لرفع الحرج، فإذا كان في التفريق حرج، جاز الجمع، وهو وقت العذر والحاجة‏.‏ ولهذا قال الصحابة‏:‏ كعبد الرحمن بن عوف وابن عمر في الحائض إذا طهرت قبل الغروب، صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر، صلت المغرب والعشاء، وقال بذلك أهل الجمع كمالك والشافعي‏.‏ وأحمد فهذا يوافق ‏[‏قاعدة الجمع‏]‏ في أن الوقت مشترك بين صلاتى الجمع عند الضرورة

    ج/ 22 ص -89- والمانع‏.‏ فمن أدرك آخر الوقت المشترك، فقد أدرك الصلاتين كلاهما‏.‏
    ومن قال من أصحابنا وغيرهم ‏:‏ إن الجمع معلق بسفر القصر وجودًا وعدمًا، حتى منعوا الحجاج الذين بمكة وغيرهم من الجمع بين صلاتى العشى، وصلاتى العشاء، فما أعلم لقولهم حجة تعتمد، بل خلاف السنة المعلومة يقينًا عن النبي ﷺ‏.‏ فإنا قد علمنا أنه لم يأمر أحدًا من الحجاج معه من أهل مكة أن يؤخروا العصر إلى وقتها المختص، ولا يعجلوا المغرب قبل الوصول إلى مزدلفة، فيصلوها إما بعرفة، وإما قريبًا من المأزمين، هذا مما هو معلوم يقينًا، ولا قال هذا أحمد، بل كلامه ونصوصه تقتضى أنه يجمع بين الصلاتين ويؤخر المغرب جميع أهل الموسم، كما جاءت به السنة، وكما اختاره طوائف من أصحابه كأبي الخطاب في العبادات، وأبي محمد المقدسى وغيرهما‏.‏
    ثم إما أن يقال‏:‏ إن الجمع معلق بالسفر مطلقًا، قصيره وطويله إما مطلقًا وإما لأجل المسير، وإما أن يقال‏:‏ الجمع بمزدلفة لأجل النسك، كما يقوله من يقوله من أصحابنا، وغيرهم‏.‏ والأول أصوب عندى وأَقِيسه بأصول أحمد، ونصوصه، فإنه قد نص على الجمع في الحضر لشغل، فإذا جد به السير في السفر القصير فهو أولى؛ ولأن الأحكام المعلقة بالسفر تختص بالسفر، كالقصر والفطر والمسح‏.‏ وأما المتعلقة بالطويل والقصير كالصلاة على الدابة، والمتيمم، وكأكل الميتة،

    ج/ 22 ص -90- فهذه جاءت للحاجة، وكذلك يجوز في الحضر، والجمع هو من هذا الباب‏.‏ إنما جاز لعموم الحاجة لا لخصوص السفر؛ ولهذا كان ما تعلق بالسفر إنما هو رخصة قد يستغنى عنها‏.‏ وأما ما تعلق بالحاجة، فإنه قد يكون ضرورة لابد منها‏.‏ فالأول كفطر المسافر، والثانى كفطر المريض فهذا هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏
    ومما يشبه هذه الآية في العموم والجمع وإن اشتبه معناها ‏:‏ قوله تعالى‏
    :‏ ‏"‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏"‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏ فإنه أباح القصر بشرطين الضرب في الأرض، وخوف الكفار‏.‏
    ولهذا اعتقد كثير من الناس أن القصر مجرد قصر العدد، أشكل عليهم‏.‏ فمن أهل البدع من قال‏:‏ لا يجوز قصر الصلاة إلا في حال الخوف، حتى روى الصحابة السنن المتواترة عن النبي ﷺ في القصر في سفر الأمن، وقال ابن عمر‏:‏ صلاة السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر‏.‏ فإن من الخوارج من يرد السنة المخالفة لظاهر القرآن، مع علمه بأن الرسول سنها‏.‏
    وقال حارثة بن وهب‏:‏ صلينا مع رسول الله ﷺ آمن ما كان ركعتين‏.‏ وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ صلينا خلف

    ج/ 22 ص -91- رسول الله ﷺ بمنى ركعتين، وخلف أبى بكر ركعتين، وخلف عمر ركعتين، وقال عمر ليعلى بن أمية لما سأله عن الآية‏:‏ فقال‏:‏ عجبت مما عجبت منه‏.‏ فسألت رسول الله ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته‏"‏ ‏.‏
    فأخبر النبي ﷺ أن القصر في سفر الأمن صدقة من الله، ولم يقل إنها مخالفة لظاهر القرآن‏.‏ فنقول‏:‏ القصر الكامل المطلق هو قصر العدد، وقصر الأركان، فقصر العدد جعل الرباعية ركعتين، وقصر الأركان هو قصر القيام والركوع والسجود كما في صلاة الخوف الشديد، وصلاة الخوف اليسير‏.‏
    فالسفر سبب قصر العدد، والخوف سبب قصر الأركان، فإذا اجتمع الأمران قصر العدد والأركان وإن انفرد أحد السببين‏:‏ انفرد قصره فقوله سبحانه
    ‏:‏‏"‏أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، مطلق في هذا القصر، وهذا القصر، وسنة رسول الله ﷺ تفسر مجمل القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه‏.‏ وهى مفسرة له لا مخالفة لظاهره‏.‏
    ونظير هذا أيضًا ما قرئ به في قوله‏:‏
    ‏"‏وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، من أن المسح مطلق يدخل فيه المسح بإسالة، وهو الغسل،

    ج/ 22 ص -92- والمسح بغير إسالة وهو المسح بلا غسل‏.‏ فالقرآن أمر بمسح مطلق، والسنة تثبت أن المسح في الرأس بغير إسالة، والمسح على الرجلين بإسالة‏.‏ فهي مفسرة له، لا مخالفة لظاهره، فينبغي تدبر القرآن، ومعرفة وجوهه، فإن أكثر ما يتوهم الناس أنه قد خولف ظاهره، وليس كذلك، وإنما له دلالات يعرفها من أعطاه الله فهمًا في كتابه، ويستفيد بذلك خمس فوائد‏.‏
    أحدها‏
    :‏ تقرير الأحكام بدلائل القرآن‏.‏
    والثانى‏:‏ بيان اتفاق الكتاب والسنة‏.‏
    والثالث‏:‏ بيان أن السنة مفسرة له، لا منافية له‏.‏
    والرابع‏:‏ بيان المعاني والبيان التي في القرآن‏.‏
    والخامس‏:‏ الإجماع موافق للكتاب والسنة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن قوله ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏أفضل الأعمال عند الله الصلاة لوقتها‏"‏ فهل هو الأول أو الثانى‏؟‏

    ج/ 22 ص -93-فأجاب‏:‏
    الوقت يعم أول الوقت وآخره، والله يقبلها في جميع الوقت، لكن أوله أفضل من آخره، إلا حيث استثناه الشارع كالظهر في شدة الحر، وكالعشاء إذا لم يشق على المأمومين، والله أعلم‏.‏ وسئل رحمه الله ‏:‏
    هل يشترط الليل إلى مطلع الشمس‏؟‏ وكم أقل ما بين وقت المغرب ودخول العشاء من منازل القمر‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما وقت العشاء فهو مغيب الشفق الأحمر، لكن في البناء يحتاط حتى يغيب الأبيض، فإنه قد تستتر الحمرة بالجدران فإذا غاب البياض تيقن مغيب الأحمر‏.‏ هذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد‏.‏
    وأما أبو حنيفة‏:‏ فالشفق عنده هو البياض، وأهل الحساب يقولون‏:‏ إن وقتها منزلتان، لكن هذا لا ينضبط، فإن المنازل إنما تعرف بالكواكب، بعضها قريب من المنزلة الحقيقية، وبعضها بعيد من ذلك‏.‏
    وأيضًا، فوقت العشاء في الطول والقصر يتبع النهار فيكون

    ج/ 22 ص -94- في الصيف أطول، كما أن وقت الفجر يتبع الليل، فيكون في الشتاء أطول‏.‏
    ومن زعم أن حصة العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء، وفي الصيف‏.‏ فقد غلط غلطًا حسيًا باتفاق الناس‏.‏
    وسبب غلطه أن الأنوار تتبع الأبخرة، ففى الشتاء يكثر البخار بالليل، فيظهر النور فيه أولاً، وفي الصيف تقل الأبخرة بالليل، وفي الصيف يتكدر الجو بالنهار بالأبخرة، ويصفو في الشتاء؛ لأن الشمس مزقت البخار، والمطر لبد الغبار‏.‏
    وأيضًا، فإن النورين تابعان للشمس، هذا يتقدمها، وهذا يتأخر عنها، فيجب أن يكونا تابعين للشمس، فإذا كان في الشتاء طال زمن مغيبها، فيطول زمان الضوء التابع لها‏.‏
    وأما جعل هذه الحصة بقدر هذه الحصة، وأن الفجر في الصيف أطول، والعشاء في الشتاء أطول، وجعل الفجر تابعًا للنهار يطول في الصيف، ويقصر في الشتاء وجعل الشفق تابعًا لليل يقصر في الصيف ويطول في الشتاء، فهذا قلب الحس والعقل والشرع‏.‏ ولا يتأخر ظهور السواد عن مغيب الشمس‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -95-وسئل‏:‏هل التغليس أفضل أم الإسفار‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، بل التغليس أفضل، إذا لم يكن ثم سبب يقتضى التأخير، فإن الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي ﷺ تبين أنه كان يغلس بصلاة الفجر، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ لقد كان رسول الله ﷺ يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس‏.‏ والنبي ﷺ لم يكن في مسجده قناديل، كما في الصحيحين عن أبى بَرْزَةَ الأسلمي‏:‏ أن النبي ﷺ كان يقرأ في الفجر بما بين الستين آية إلى المائة، وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه، وهذه القراءة هي نحو نصف جزء أو ثلث جزء، وكان فراغه من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه‏.‏ وهكذا في الصحيح من غير هذا الوجه أنه كان يغلس بالفجر، وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكان بعده أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فنشأ في دولتهم فقهاء رأوا

    ج/ 22 ص -96- عادتهم فظنوا أن تأخير الفجر والعصر أفضل من تقديمها، وذلك غلط في السنة‏.‏
    واحتجوا بما رواه الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر‏"‏، وقد صححه الترمذي، وهذا الحديث لو كان معارضًا لم يقاومها؛ لأن تلك في الصحيحين، وهى مشهورة مستفيضة، والخبر الواحد إذا خالف المشهور المستفيض كان شاذًا، وقد يكون منسوخًا؛ لأن التغليس هو فِعْلُه حتى مات، وفِعْلُ الخلفاء الراشدين بعده‏.‏
    وقد تأول الطحاوي من أصحاب أبي حنيفة وغيره كأبى حفص البَرْمَكي من أصحاب أحمد وغيرهما، قوله‏:‏ ‏"‏أسفروا بالفجر‏"‏ على أن المراد‏:‏ الإسفار بالخروج منها، أي أطيلوا صلاة الفجر حتى تخرجوا منها مسفرين‏.‏
    وقيل‏:‏ المراد بالإسفار التبين، أي‏:‏ صلوها إذا تبين الفجر وانكشف ووضح؛ فإن في الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ ما رأيت رسول الله ﷺ صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة، وصلاة المغرب بجمع، وصلاة الفجر إنما صلاها يومئذ بعد طلوع الفجر‏.‏ هكذا في صحيح مسلم عن جابر قال‏:‏ وصلى صلاة الفجر حين برق

    ج/ 22 ص -97- الفجر‏.‏ وإنما مراد عبدالله بن مسعود أنه كان يؤخر الفجر عن أول طلوع الفجر حتى يتبين وينكشف ويظهر وذلك اليوم عجلها قبل‏.‏
    وبهذا تتفق معاني أحاديث النبي ﷺ، وأما إذا أخرها لسبب يقتضي التأخير مثل المتيمم عادته إنما يؤخرها ليصلي آخر الوقت بوضوء، والمنفرد يؤخرها حتى يصلي آخر الوقت في جماعة، أو أن يقدر على الصلاة آخر الوقت قائمًا، وفى أول الوقت لا يقدر إلا قاعدًا، ونحو ذلك مما يكون فيه فضيلة تزيد على الصلاة في أول الوقت، فالتأخير لذلك أفضل‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏ عن قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر‏"‏ ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما قوله ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر‏"‏، فإنه حديث صحيح‏.‏ لكن قد استفاض عن النبي ﷺ أنه كان يغلس بالفجر، حتى كانت تنصرف نساء المؤمنات متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس‏.‏ فلهذا فسروا ذلك الحديث بوجهين‏:‏

    ج/ 22 ص -98-أحدهما‏:‏ أنه أراد الإسفار بالخروج منها‏:‏ أي أطيلوا القراءة حتى تخرجوا منها مسفرين، فإن النبي ﷺ كان يقرأ فيها بالستين آية إلى مائة آية، نحو نصف حزب‏.‏
    والوجه الثانى‏:‏ أنه أراد أن يتبين الفجر ويظهر، فلا يصلي مع غلبة الظن، فإن النبي ﷺ كان يصلي بعد التبين، إلا يوم مزدلفة فإنه قدمها ذلك اليوم على عادته‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل من أهل القبلة ترك الصلاة مدة سنتين، ثم تاب بعد ذلك، وواظب على أدائها‏.‏ فهل يجب عليه قضاء ما فاته منها أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما من ترك الصلاة، أو فرضًا من فرائضها، فإما أن يكون قد ترك ذلك ناسيًا له بعد علمه بوجوبه، وإما أن يكون جاهلاً بوجوبه، وإما أن يكون لعذر يعتقد معه جواز التأخير، وإما أن يتركه عالمًا عمدًا‏.‏
    فأما الناسي للصلاة، فعليه أن يصليها إذا ذكرها بسنة رسول

    ج/ 22 ص -99- الله ﷺ المستفيضة عنه، باتفاق الأئمة‏.‏ قال ﷺ‏:‏ ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها‏.‏ لا كفارة لها إلا ذلك‏"‏ وقد استفاض في الصحيح وغيره‏:‏ أنه نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في السفر فصلوها بعد ما طلعت الشمس السنة والفريضة بأذان وإقامة ‏.‏
    وكذلك من نسي طهارة الحدث، وصلى ناسيًا‏:‏ فعليه أن يعيد الصلاة بطهارة بلا نزاع، حتى لو كان الناسي إمامًا كان عليه أن يعيد الصلاة، ولا إعادة على المأمومين إذا لم يعلموا عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد في المنصوص المشهور عنه‏.‏ كما جرى لعمر وعثمان رضي الله عنهما‏.‏
    وأما من نسى طهارة الخبث، فإنه لا إعادة عليه في مذهب مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه؛ لأن هذا من باب فعل المنهى عنه، وتلك من باب ترك المأمور به، ومن فعل ما نهى عنه ناسيًا فلا إثم عليه بالكتاب والسنة‏.‏ كما جاءت به السنة فيمن أكل في رمضان ناسيًا‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏ وطرد ذلك فيمن تكلم في الصلاة ناسيًا، ومن تطيب ولبس ناسيًا، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏

    ج/ 22 ص -100- وكذلك من فعل المحلوف عليه ناسيًا كما هو أحد القولين عن الشافعي وأحمد‏.‏
    وهنا مسائل تنازع العلماء فيها‏:‏ مثل من نسى الماء في رحله وصلى بالتيمم، وأمثال ذلك ليس هذا موضع تفصيلها‏.‏
    وأما من ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها مثل من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال‏.‏ وجهان في مذهب أحمد‏:‏
    أحدها‏:‏ عليه الإعادة مطلقًا‏.‏ وهو قول الشافعي، وأحد الوجهين في مذهب أحمد‏.‏
    والثانى‏:‏ عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام دون دار الحرب‏.‏ وهو مذهب أبى حنيفة؛ لأن دار الحرب دار جهل، يعذر فيه، بخلاف دار الإسلام‏.‏
    والثالث‏:‏ لا إعادة عليه مطلقًا‏.‏ وهو الوجه الثانى في مذهب أحمد، وغيره‏.‏
    وأصل هذين الوجهين‏:‏ أن حكم الشارع، هل يثبت في حق



    ج/ 22 ص -101- المكلف قبل بلوغ الخطاب له، فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد، وغيره‏:‏
    أحدها‏
    :‏ يثبت مطلقًا‏.‏
    والثانى‏:‏ لا يثبت مطلقًا‏.‏
    والثالث‏:‏ يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ، كقضية أهل قباء، وكالنزاع المعروف في الوكيل إذا عزل‏.‏ فهل يثبت حكم العزل في حقه قبل العلم‏.‏
    وعلى هذا، لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص‏.‏ مثل أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ، ثم يبلغه النص، ويتبين له وجوب الوضوء، أو يصلي في أعطان الإبل ثم يبلغه، ويتبين له النص، فهل عليه إعادة ما مضى‏؟‏ فيه قولان هما روايتان عن أحمد‏.‏
    ونظيره أن يمس ذكره ويصلي، ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر‏.‏
    والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة؛ لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال‏:‏
    ‏"‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏

    ج/ 22 ص -102-فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين، لم يثبت حكم وجوبه عليه؛ ولهذا لم يأمر النبي ﷺ عمر وعمارًا لما أجنبا فلم يصل عمر، وصلى عمار بالتمرغ أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء‏.‏
    ومن هذا الباب‏:‏ ‏[‏المستحاضة‏]‏ إذا مكثت مدة لا تصلى لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففى وجوب القضاء عليها قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا إعادة عليها‏.‏ كما نقل عن مالك وغيره؛ لأن المستحاضة التي قالت للنبى ﷺ‏:‏ إنى حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة منعتنى الصلاة والصيام، أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضى ‏.‏
    وقد ثبت عندى بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادى وغير البوادى من يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة‏:‏ صلى، تقول‏:‏ حتى أكبر وأصير عجوزة، ظانة أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة، كالعجوز ونحوها‏.‏ وفى أتباع الشيوخ

    ج/ 22 ص -103- طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم، فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات، سواء قيل‏:‏ كانوا كفارًا، أو كانوا معذورين بالجهل‏.‏
    وكذلك من كان منافقًا زنديقًا يظهر الإسلام ويبطن خلافه، وهو لا يصلي، أو يصلي أحيانًا بلا وضوء، أو لا يعتقد وجوب الصلاة، فإنه إذا تاب من نفاقه وصلى، فإنه لا قضاء عليه عند جمهور العلماء‏.‏ والمرتد الذي كان يعتقد وجوب الصلاة، ثم ارتد عن الإسلام، ثم عاد، لا يجب عليه قضاء ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه فإن المرتدين الذين ارتدوا على عهد النبي ﷺ كعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وغيره مكثوا على الكفر مدة ثم أسلموا، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما تركوه‏.‏ وكذلك المرتدون على عهد أبى بكر لم يؤمروا بقضاء صلاة، ولا غيرها‏.‏
    وأما من كان عالمًا بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها الموقت، فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة منهم ابن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدًا‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -104-وسئل رحمه الله عن رجل عليه صلوات كثيرة فاتته، هل يصليها بسننها‏؟‏ أم الفريضة وحدها‏؟‏ وهل تقضى في سائر الأوقات من ليل أو نهار‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    المسارعة إلى قضاء الفوائت الكثيرة أولى من الاشتغال عنها بالنوافل، وأما مع قلة الفوائت فقضاء السنن معها حسن‏.‏ فإن النبي ﷺ لما نام هو وأصحابه عن الصلاة صلاة الفجر عام حنين، قضوا السنة والفريضة‏.‏ ولما فاتته الصلاة يوم الخندق قضى الفرائض بلا سنن‏.‏ والفوائت المفروضة تقضى في جميع الأوقات؛ فإن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى‏"‏‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل‏:‏أيما أفضل صلاة النافلة‏؟‏ أم القضاء‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان عليه قضاء واجب، فالاشتغال به أولى من الاشتغال بالنوافل التي تشغل عنه‏.‏

    ج/ 22 ص -105-وسئل شيخ الإسلام‏:‏ عن رجل صلى ركعتين من فرض الظهر فسلم، ثم لم يذكرها إلا وهو في فرض العصر في ركعتين منها في التحيات‏.‏ فماذا يصنع‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان مأموما، فإنه يتم العصر، ثم يقضى الظهر‏.‏ وفى إعادة العصر قولان للعلماء، فإن هذه المسألة مبنية على أن صلاة الظهر بطلت بطول الفصل، والشروع في غيرها، فيكون بمنزلة من فاتته الظهر، ومن فاتته الظهر وحضرت جماعة العصر، فإنه يصلي العصر، ثم يصلي الظهر، ثم هل يعيد العصر‏؟‏ فيه قولان للصحابة والعلماء‏.‏
    أحدهما‏:‏ يعيدها، وهو مذهب أبى حنيفة، ومالك، والمشهور في مذهب أحمد‏.‏
    والثاني‏:‏ لا يعيد، وهو قول ابن عباس، ومذهب الشافعي، واختيار جدي‏.‏ ومتى ذكر الفائتة في أثناء الصلاة كان كما لو ذكر قبل الشروع فيها، ولو لم يذكر الفائتة حتى فرغت الحاضرة، فإن الحاضرة تجزئة عند جمهور العلماء‏.‏ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏ وأما مالك، فغالب ظني أن مذهبه أنها لا تصح‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -106-وسئل رحمه الله ‏:‏ عن رجل فاتته صلاة العصر‏:‏ فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت، فهل يصلي الفائتة قبل المغرب أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، بل يصلي المغرب مع الإمام، ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة، ولكن هل يعيد المغرب‏؟‏ فيه قولان‏.‏
    أحدهما‏:‏ يعيد، وهو قول ابن عمر، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه‏.‏
    والثاني‏:‏ لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس، وقول الشافعي، والقول الآخر في مذهب أحمد‏.‏ والثاني أصح، فإن الله لم يوجب على العبد أن يصلي الصلاة مرتين، إذا اتقى الله ما استطاع‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله ‏:‏ عن رجل دخل الجامع والخطيب يخطب، وهو لا يسمع كلام

    ج/ 22 ص -107- الخطيب، فذكر أن عليه قضاء صلاة فقضاها في ذلك الوقت، فهل يجوز ذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إذا ذكر أن عليه فائتة وهو في الخطبة يسمع الخطيب أو لا يسمعه، فله أن يقضيها في ذلك الوقت، إذا أمكنه القضاء، وإدراك الجمعة، بل ذلك واجب عليه عند جمهور العلماء؛ لأن النهي عن الصلاة وقت الخطبة لا يتناول النهي عن الفريضة، والفائتة مفروضة في أصح قولي العلماء، بل لا يتناول تحية المسجد، فإن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏"‏ ‏.‏
    وأيضًا، فإنَّ فِعْلَ الفائتة في وقت النهي ثابت في الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر‏"‏‏.‏
    وقد تنازع العلماء فيما إذا ذكر الفائتة عند قيامه إلى الصلاة، هل يبدأ بالفائتة وإن فاتته الجمعة كما يقوله أبو حنيفة أو يصلي الجمعة ثم يصلي الفائتة كما يقول الشافعي وأحمد وغيرهما‏؟‏ ثم هل عليه إعادة الجمعة ظهرًا‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏
    وأصل هذا‏:‏ أن الترتيب في قضاء الفوائت واجب في الصلوات

    ج/ 22 ص -108- القليلة، عند الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد، بل يجب عنده في إحدى الروايتين في القليلة والكثيرة‏.‏ وبينهم نزاع في حد القليل، وكذلك يجب قضاء الفوائت على الفور عندهم، وكذلك عند الشافعي إذا تركها عمدًا في الصحيح عندهم بخلاف الناسي‏.‏
    واحتج الجمهور بقول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك‏"‏‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ‏"‏فإن ذلك وقتها‏"‏‏.‏
    واختلف الموجبون للترتيب، هل يسقط بضيق الوقت‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏ لكن أشهرهما عنه أنه يسقط الترتيب، كقول أبي حنيفة وأصحابه‏.‏ والأخرى لا يسقط، كقول مالك‏.‏ وكذلك هل يسقط بالنسيان‏؟‏ فيه نزاع نحو هذا‏.‏
    وإذا كانت المسارعة إلى قضاء الفائتة، وتقديمها على الحاضرة بهذه المزية، كأن فعل ذلك في مثل هذا الوقت هو الواجب، وأما الشافعي فإذا كان يجوز تحية المسجد في هذا الوقت، فالفائتة أولى بالجواز، والله أعلم‏.

    ج/ 22 ص -109-وقال شيخ الإِسلام رَحِمَهُ اللَّه ‏:‏
    فصل
    في ‏[‏اللباس في الصلاة‏]‏، وهو أخذ الزينة عند كل مسجد، الذي يسميه الفقهاء‏:‏ ‏[‏باب ستر العورة في الصلاة‏]‏‏.‏ فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين وهو العورة، وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله‏:‏ ‏"‏وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏"‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏"‏ يعني الباطنة ‏"‏إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ‏"‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏
    فقال‏:‏ يجوز لها في الصلاة أن تبدي الزينة الظاهرة، دون الباطنة‏.‏ والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين؛ فقال ابن مسعود ومن وافقه‏:‏ هي الثياب‏.‏ وقال ابن عباس ومن وافقه‏:‏ هي في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم‏.‏ وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية‏.‏ فقيل‏:‏ يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي،وقول في مذهب أحمد‏.‏

    ج/ 22 ص -110- وقيل‏:‏ لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك‏.‏
    وحقيقة الأمر‏:‏ أن اللّه جعل الزينة زينتين‏:‏ زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يري الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل اللّه عز وجل آية الحجاب بقوله‏:‏ ‏
    "‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 95‏]‏، حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخي الستر، ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفي صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا‏:‏ إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها‏.‏
    فلما أمر اللّه ألا يُسْأَلْن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن و‏[‏الجلباب‏]‏ هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره‏:‏ الرداء، وتسميه العامة الإزار‏.‏ وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها‏.‏ وقد حكي أبو عبيد وغيره‏:‏ أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا

    ج/ 22 ص -111- عينها،ومن جنسه النقاب‏:‏ فكن النساء ينتقبن‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين‏.‏
    وعلى هذا فقوله‏:‏
    ‏"‏أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏31‏]‏، يدل على أن لها أن تبدي الزينة الباطنة لمملوكها‏.‏ وفيه قولان‏:‏ قيل المراد الإماء، والإماء الكتابيات، كما قاله ابن المسيب، ورجحه أحمد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو المملوك الرجل، كما قاله ابن عباس وغيره، وهو الرواية الأخري عن أحمد‏.‏
    فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته، وقد جاءت بذلك أحاديث، وهذا لأجل الحاجة؛ لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها، أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والمعامل والخاطب، فإذا جاز نظر أولئك، فنظر العبد أولي،وليس في هذا ما يوجب أن يكون محرما يسافر بها‏.‏ كغير أولي الإربة؛ فإنهم يجوز لهم النظر، وليسوا محارم يسافرون بها، فليس كل من جاز له النظر جاز له السفر بها، ولا الخلوة بها، بل عبدها ينظر إليها للحاجة، وإن كان لا يخلو بها، ولا يسافر بها

    ج/ 22 ص -112- فإنه لم يدخل في قوله الله تعالي‏:‏ ‏"‏لا تسافر امرأة إلا مع زوج، أو ذي محرم‏"‏‏.‏ فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق، كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها، والمحرم من تحرم عليه على التأبيد؛ ولهذا قال ابن عمر‏:‏ سفر المرأة مع عبدها ضيعة‏.‏
    فالآية رخصت في إبداء الزينة لذوي المحارم وغيرهم، وحديث السفر ليس فيه إلا ذوي المحارم، وذكر في الآية نساءهن، أو ما ملكت أيمانهن، وغير أولي الإربة، وهي لا تسافر معهم‏.‏ وقوله‏:‏
    ‏"‏أَوْ نِسَائِهِنَّ‏"‏ قال‏:‏ احتراز عن النساء المشركات‏.‏ فلا تكون المشركة قابلة للمسلمة، ولا تدخل معهن الحمام، لكن قد كن النسوة اليهوديات يدخلن على عائشة وغيرها، فيرين وجهها ويديها، بخلاف الرجال، فيكون هذا في الزينة الظاهرة في حق النساء الذميات، وليس للذميات أن يطلعن على الزينة الباطنة، ويكون الظهور والبطون بحسب ما يجوز لها إظهاره؛ ولهذا كان أقاربها تبدي لهن الباطنة، وللزوج خاصة ليست للأقارب‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، دليل على أنها تغطي العنق، فيكون من الباطن لا الظاهر، ما فيه من القلادة وغيرها‏.‏

    ج/ 22 ص -113-فصل
    فهذا ستر النساء عن الرجال، وستر الرجال عن الرجال، والنساء عن النساء في العورة الخاصة، كما قال ﷺ ‏:‏ ‏
    "‏لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة‏"‏ وكما قال‏:‏ ‏"‏احفظ عورتك إلا عن زوجتك أو ما ملكت يمينك‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ فإذا كان القوم بعضهم في بعض‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يراها‏"‏، قلت‏:‏ فإذا كان أحدنا خاليًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فاللّه أحق أن يستحيي منه‏"‏‏.‏ ونهى أن يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، والمرأة إلى المرأة في ثوب واحد، وقال عن الأولاد‏:‏ ‏"‏مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع‏"‏، فنهى عن النظر واللمس لعورة النظير؛ لما في ذلك من القبح والفحش‏.‏
    وأما الرجال مع النساء، فلأجل شهوة النكاح، فهذان نوعان، وفي الصلاة نوع ثالث‏.‏ فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، فأخذ الزينة في الصلاة لحق اللّه، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عريانا، ولو

    ج/ 22 ص -114- كان وحده بالليل، ولا يصلي عريانا ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس، فهذا نوع ، وهذا نوع‏.‏
    وحينئذ، فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال‏:‏
    فالأول‏:‏ مثل المنكبين‏.‏ فإن النبي ﷺ نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء‏.‏ فهذا لحق الصلاة‏.‏ ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة، وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا يقبل اللّه صلاة حائض إلا بخمار‏"‏ وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذوي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها، لهؤلاء ولا لغيرهم‏.‏
    وعكس ذلك‏:‏ الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبيل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب‏.‏ وأما ستر ذلك في الصلاة، فلا يجب باتفاق المسلمين بل يجوز لها إبداؤهما في الصلاة عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو إحدي الروايتين عن أحمد‏.‏ فكذلك القدم يجوز إبداؤه عند أبي حنيفة، وهو الأقوي‏.‏ فإن عائشة جعلته من الزينة الظاهرة‏.‏ قالت‏:‏
    ‏"‏وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، قالت‏:‏ ‏[‏الفتخ‏]‏ حلق

    ج/ 22 ص -115- من فضة تكون في أصابع الرجلين‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏ فهذا دليل على أن النساء كن يظهرن أقدامهن أولا، كما يظهرن الوجه واليدين، كن يرخين ذيولهن، فهي إذا مشت قد يظهر قدمها، ولم يكن يمشين في خفاف وأحذية، وتغطية هذا في الصلاة فيه حرج عظيم‏.‏ وأم سلمة قالت‏:‏ تصلي المرأة في ثوب سابغ، يغطي ظهر قدميها‏.‏ فهي إذا سجدت قد يبدو باطن القدم‏.‏
    وبالجملة، قد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت‏.‏ وحينئذ، فتصلي في بيتها، وإن رؤي وجهها ويداها وقدماها، كما كن يمشين أولا قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طردًا ولا عكسًا‏.‏
    وابن مسعود رضي اللّه عنه لما قال‏:‏ الزينة الظاهرة هي الثياب، لم يقل‏:‏ إنها كلها عورة حتى ظفرها، بل هذا قول أحمد، يعني أنها تشترط في الصلاة، فإن الفقهاء يسمون ذلك‏:‏ ‏[‏باب ستر العورة‏]‏ وليس هذا من ألفاظ الرسول، ولا في الكتاب والسنة أن ما يستره المصلي فهو عورة، بل قال تعالي ‏:‏
    ‏"‏يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، ونهى النبي ﷺ أن يطوف بالبيت عريانا؛ فالصلاة أولي‏.‏ وسئل عن الصلاة في الثوب الواحد‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أو لكلكم ثوبان‏؟‏‏"‏‏.‏

    ج/ 22 ص -116- وقال في الثوب الواحد‏:‏ ‏"‏إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به‏"‏ ‏.‏ ونهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء‏.‏
    فهذا دليل على أنه يؤمر في الصلاة بستر العورة‏:‏ الفخذ وغيره، وإن جوزنا للرجل النظر إلى ذلك، فإذا قلنا على أحد القولين وهو إحدي الروايتين عن أحمد‏:‏ أن العورة هي السوأتان، وأن الفخذ ليست بعورة، فهذا في جواز نظر الرجل إليها، ليس هو في الصلاة والطواف، فلا يجوز أن يصلي الرجل مكشوف الفخذين، سواء قيل هما عورة، أو لا‏.‏ ولا يطوف عريانا‏.‏ بل عليه أن يصلي في ثوب واحد، ولابد من ذلك، إن كان ضيقًا اتزر به، وإن كان واسعًا التحف به، كما أنه لو صلى وحده في بيت كان عليه تغطية ذلك باتفاق العلماء‏.‏
    وأما صلاة الرجل بادي الفخذين، مع القدرة على الإزار، فهذا لا يجوز، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، ومن بني ذلك على الروايتين في العورة، كما فعله طائفة، فقد غلطوا، ولم يقل أحمد ولا غيره‏:‏ إن المصلي يصلي على هذه الحال‏.‏ كيف وأحمد يأمره بستر المنكبين فكيف يبيح له كشف الفخذ‏؟‏‏!‏ فهذا هذا‏.‏

    ج/ 22 ص -117- وقد اختلف في وجوب ستر العورة، إذا كان الرجل خاليًا، ولم يختلف في أنه في الصلاة لا بد من اللباس، لا تجوز الصلاة عريانا مع قدرته على اللباس، باتفاق العلماء؛ ولهذا جوز أحمد وغيره للعراة أن يصلوا قعودًا، ويكون إمامهم وسطهم، بخلاف خارج الصلاة، وهذه الحرمة لا لأجل النظر‏.‏ وقد قال النبي ﷺ في حديث بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده لما قال‏:‏ قلت يارسول اللّه، فإذا كان أحدنا خاليًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فاللّه أحق أن يستحيي منه من الناس‏"‏‏.‏ فإذا كان هذا خارج الصلاة، فهو في الصلاة أحق أن يستحيي منه فتؤخذ الزينة لمناجاته سبحانه‏.‏
    ولهذا قال ابن عمر لغلامه نافع لما رآه يصلي حاسرًا‏:‏ أرأيت لو خرجت إلى الناس كنت تخرج هكذا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فاللّه أحق من يُتَجَمَّل له‏.‏ وفي الحديث الصحيح لما قيل له ﷺ ‏:‏
    الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنا‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن اللّه جميل يحب الجمال‏"‏‏.‏
    وهذا كما أمر المصلي بالطهارة والنظافة والطيب، فقد أمر النبي ﷺ أن تتخذ المساجد في البيوت، وتنظف، وتطيب‏.‏ وعلى هذا، فيستتر في الصلاة أبلغ مما يستتر الرجل من الرجل، والمرأة من المرأة‏.‏ ولهذا أمرت المرأة أن تختمر في الصلاة، وأما وجهها

    ج/ 22 ص -118- ويداها وقدماها، فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب، لم تنه عن إبدائه للنساء، ولا لذوي المحارم‏.‏
    فعلم أنه ليس من جنس عورة الرجل مع الرجل، والمرأة مع المرأة، التي نهى عنها؛ لأجل الفحش، وقبح كشف العورة؛ بل هذا من مقدمات الفاحشة، فكان النهى عن إبدائها نهيًا عن مقدمات الفاحشة كما قال في الآية‏:‏
    ‏"‏ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ‏"‏[‏البقرة‏:‏232‏]‏، وقال في آية الحجاب‏:‏ ‏"‏ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏53‏]‏، فنهى عن هذا سدًا للذريعة لا أنه عورة مطلقة لا في الصلاة ولا غيرها، فهذا هذا‏.‏
    وأمر المرأة في الصلاة بتغطية يديها بعيد جدًا، واليدان يسجدان كما يسجد الوجه، والنساء على عهد النبي ﷺ إنما كان لهن قمص، وكن يصنعن الصنائع، والقمص عليهن، فتبدي المرأة يديها إذا عجنت وطحنت، وخبزت، ولو كان ستر اليدين في الصلاة واجبًا لبينه النبي ﷺ‏.‏ وكذلك القدمان‏.‏ وإنما أمر بالخمار فقط مع القميص، فكن يصلين بقمصهن وخمرهن‏.‏ وأما الثوب التي كانت المرأة ترخيه وسألت عن ذلك النبي ﷺ، فقال‏:
    ‏ ‏"‏شبرًا‏"‏ فقلن‏:‏ إذن تبدو سوقهن، فقال‏:‏ ‏"‏ذراع لا يزدن عليه‏"‏‏.‏ وقول عمر بن أبي ربيعة‏:‏

    ج/ 22 ص -119- كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

    فهذا كان إذا خرجن من البيوت؛ ولهذا سئل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر، فقال‏:‏ ‏"‏يطهره ما بعده‏"‏ ‏.‏ وأما في نفس البيت، فلم تكن تلبس ذلك‏.‏ كما أن الخفاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجن، وهن لا يلبسنها في البيوت؛ ولهذا قلن‏:‏ إذن تبدو سوقهن‏.‏ فكان المقصود تغطية الساق؛ لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشي‏.‏
    وقد روي‏:‏ ‏"‏اعروا النساء يَلْزَمن الحِجَال‏"‏ يعني‏:‏ إذا لم يكن لها ما تلبسه في الخروج لزمت البيت، وكن نساء المسلمين يصلين في بيوتهن‏.‏ وقد قال النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه، وبيوتهن خير لهن‏"‏ ولم يؤمرن مع القمص إلا بالخمر، لم تؤمر بسراويل؛ لأن القميص يغني عنه‏.‏ ولم تؤمر بما يغطي رجليها لا خف ولا جورب، ولا بما يغطي يديها لا بقفازين ولا غير ذلك‏.‏ فدل على أنه لا يجب عليها في الصلاة ستر ذلك، إذا لم يكن عندها رجال أجانب‏.‏ وقد روي‏:‏ أن الملائكة لا تنظر إلى الزينة الباطنة فإذا وضعت خمارها وقميصها لم ينظر إليها وروي في ذلك حديث عن خديجة‏.‏

    ج/ 22 ص -120- فهذا القدر للقميص، والخمار هو المأمور به لحق الصلاة، كما يؤمر الرجل إذا صلى في ثوب واسع أن يلتحف به، فيغطي عورته ومنكبيه، فالمنكبان في حقه كالرأس في حق المرأة، لأنه يصلي في قميص أو ما يقوم مقام القميص‏.‏ وهو في الإحرام لا يلبس على بدنه ما يقدر له كالقميص والجبة، كما أن المرأة لا تنتقب ولا تلبس القفازين‏.‏ وأما رأسه فلا يخمره، ووجه المرأة فيه قولان في مذهب أحمد، وغيره قيل‏:‏ إنه كرأس الرجل، فلا يغطي‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كيديه فلا تغطي بالنقاب والبرقع ونحو ذلك، مما صنع على قدره، وهذا هو الصحيح؛ فإن النبي ﷺ لم ينه إلا عن القفازين والنقاب‏.‏
    وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال، من غير وضع ما يجافيها عن الوجه، فعلم أن وجهها كيدي الرجل، ويديها، وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم، فلها أن تغطي وجهها ويديها، لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل ويلبس الإزار‏.‏ واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -121-وَسُئِلَ عن الصلاة في النعل ونحوه ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما الصلاة في النعل ونحوه، مثل الجمجم، والمداس والزربول، وغير ذلك‏:‏ فلا يكره، بل هو مستحب؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يصلي في نعليه‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم‏"‏‏.‏ فأمر بالصلاة في النعال مخالفة لليهود‏.‏
    وإذا علمت طهارتها لم تكره الصلاة فيها باتفاق المسلمين، وأما إذا تيقن نجاستها، فلا يصلي فيها حتى تطهر‏.‏
    لكن الصحيح أنه إذا دلك النعل بالأرض طهر بذلك، كما جاءت به السنة، سواء كانت النجاسة عذرة، أو غير عذرة‏.‏ فإن أسفل النعل محل تكرر ملاقاة النجاسة له، فهو بمنزلة السبيلين، فلما كان إزالته عنها بالحجارة ثابتًا بالسنة المتواترة، فكذلك هذا‏.‏

    ج/ 22 ص -122- وإذا شك في نجاسة أسفل الخف لم تكره الصلاة فيه، ولو تيقن بعد الصلاة أنه كان نجسًا فلا إعادة عليه في الصحيح، وكذلك غيره كالبدن والثياب والأرض‏.‏
    وَسُئِلَ عن لبس القَبَاء في الصلاة، إذا أراد أن يدخل يديه في أكمامه ، هل يكره أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، لا بأس بذلك، فإن الفقهاء ذكروا جواز ذلك، وليس هو مثل السدل المكروه؛ لما فيه من مشابهة اليهود، فإن هذه اللبسة ليست من ملابس اليهود‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن الفراء من جلود الوحوش، هل تجوز الصلاة فيها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، أما جِلْدُ الأرنب فتجوز الصلاة فيه بلا ريب‏.‏ وأما الثعلب ففيه نزاع، والأظهر جواز الصلاة فيه، وجِلْدُ الضبع وكذلك كل جِلْدٍ غير جلود السباع التي نهى النبي ﷺ عن لبسها ‏.‏

    ج/ 22 ص -123-وَسُئِلَ عن المرأة إذا ظهر شيء من شعرها في الصلاة هل تبطل صلاتها أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا انكشف شيء يسير من شعرها وبدنها لم يكن عليها الإعادة، عند أكثر العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد‏.‏
    وإن انكشف شيء كثير، أعادت الصلاة في الوقت، عند عامة العلماء الأئمة الأربعة، وغيرهم واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن المرأة إذا صلت وظاهر قدمها مكشوف هل تصح صلاتها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذا فيه نزاع بين العلماء، ومذهب أبي حنيفة صلاتها جائزة، وهو أحد القولين‏.‏

    ج/ 22 ص -124- وَقَال رَحمَه اللّه ‏:‏
    فصل
    في ‏[‏محبة الجمال‏]‏ ثبت في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال ذرة عن إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبر‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‏"‏ فقال رجل‏:‏ يارسول اللّه، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، فقال‏:‏ ‏"‏إن اللّه جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس‏"‏‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏"‏إن اللّه جميل يحب الجمال‏"‏ قد أدرج فيه حسن الثياب التي هي المسؤول عنها، فعلم أن اللّه يحب الجميل من الناس، ويدخل في عمومه بطريق الفحوي الجميل من كل شيء‏.‏ وهذا كقوله في الحديث الذي رواه الترمذي‏:‏ ‏"‏إن اللّه نظيف يحب النظافة‏"‏‏.‏
    وقد ثبت عنه في الصحيح‏"‏إن اللّه طيب لا يقبل إلا طيبًا‏"‏

    ج/ 22 ص -125- وهذا مما يستدل به على استحباب التجمل في الجمع، والأعياد، كما في الصحيحين‏:‏ أن عمر بن الخطاب رأي حلة تباع في السوق فقال‏:‏ يارسول اللّه، لو اشتريت هذه تلبسها‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة‏"‏‏.‏ وهذا يوافقه في حسن الثياب ما في السنن عن أبي الأحْوَص الجُشَمِي ، قال‏:‏ رآني النبي ﷺ وعلى أطمار، فقال‏:‏ ‏"‏هل لك من مال‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏من أي المال‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ من كل ما آتاني اللّه، من الإبل والشاء، قال‏:‏ ‏"‏فلتر نعمة اللّه عليك، وكرامته عليك‏"‏‏.‏
    وفيها عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ ‏:‏ ‏"‏إن اللّه يحب أن يري أثر نعمته على عبده‏"‏ لكن هذا لظهور نعمة اللّه، وما في ذلك من شكره، وأنه يحب أن يشكر، وذلك لمحبة الجمال‏.‏ وهذا الحديث قد ضل قوم بما تأولوه، رأوه معارضًا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
    وكل مصنوع الرب جميل؛ لقول اللّه تعالي ‏:‏ ‏
    "‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏ فيحب كل شيء، وقد يستدلون بقول بعض المشائخ‏:‏ المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوي مراد المحبوب،

    ج/ 22 ص -126- والمخلوقات كلها مرادة له‏.‏ وهؤلاء يصرح أحدهم بإطلاق الجمال في كل شيء، وأقل ما يصيب هؤلاء أنهم يتركون الغيرة للّه، والنهى عن المنكر والبغض في اللّه، والجهاد في سبيله، وإقامة حدوده، وهم في ذلك متناقضون، إذ لا يتمكنون من الرضا بكل موجود‏.‏ فإن المنكرات هي أمور مضرة لهم ولغيرهم، فيبقي أحدهم مع طبعه وذوقه وينسلخون عن دين اللّه، وربما دخل أحدهم في الاتحاد والحلول المطلق، وفيهم من يخص الحلول والاتحاد ببعض المخلوقات، كالمسيح، أو على أو غيرهما، أو المشائخ والملوك والمرْدَان‏.‏
    فيقولون بحلوله في الصور الجميلة، ويعبدونها، ومنهم من لا يري ذلك، بل يتدين بحب الصور الجميلة من النساء الأجانب، والمردان، وغير ذلك، ويري هذا من الجمال الذي يحبه اللّه، فحيبه هو، ويلبس المحبة الطبيعية المحرمة بالمحبة الدينية، ويجعل ما حرمه اللّه مما يقرب إليه ‏
    "‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏
    والآخرون قالوا‏:‏ قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏"‏‏.‏ وقد قال تعالي عن المنافقين‏:‏ ‏"‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ‏"‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏

    ج/ 22 ص -127-"‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏"‏[‏مريم‏:‏ 74‏]‏، والأثاث‏:‏ المال من اللباس ونحوه‏.‏ والرئي‏:‏ المنظر‏.‏ فأخبر أن الذين أهلكهم قبلهم كانوا أحسن صورًا، وأحسن أثاثًا، وأموالا، ليبين أن ذلك لا ينفع عنده ولا يعبأ به‏.‏ وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوي‏"‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏البذاذة من الإيمان‏"‏‏.‏
    وأيضًا ، فقد حرم علينا من لباس الحرير والذهب، وآنية الذهب والفضة، ما هو من أعظم الجمال في الدنيا، وحرم اللّه الفخر والخيلاء، واللباس الذي فيه الفخر والخيلاء، كإطالة الثياب، حتى ثبت في الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏من جر ثوبه خيلاء لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة‏"‏‏.‏ ومثل ذلك ما في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول اللّه ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء، خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
    وقال تعالي‏:‏ ‏"‏يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏26‏]‏، فأخبر أن لباس التقوي خير من ذلك‏.‏ وقال تعالي‏:‏ ‏"‏أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ‏"‏[‏الزخرف‏:‏18‏]‏، وقال تعالي في حق قارون‏:‏

    ج/ 22 ص -128-‏‏"‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ‏"‏ [‏القصص‏:‏79‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ بثياب الأرجوان‏.‏ ولهذا ثبت عن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ رأي رسول اللّه ﷺ على ثوبين معصفرين، فقال‏:‏ ‏"‏إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسهما‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ أغسلهما، قال‏:‏ ‏"‏أحرقهما‏"‏‏.‏
    ولهذا كره العلماء الأحمر المشبع حمرة، كما جاء النهى عن الميثَرَة الحمراء‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ دعوا هذه البراقات للنساء‏.‏ والآثار في هذا ونحوه كثيرة‏.‏ وقال تعالي‏:‏
    ‏"‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ‏"‏ إلى قوله ‏:‏‏"‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏"‏[‏النور‏:‏ 30، 31‏]‏ ، وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد اللّه قال‏:‏ سألت رسول اللّه ﷺ عن نظرة الفجأة، فقال‏:‏ ‏"‏اصرف بصرك‏"‏ ‏.‏ وفي السنن أنه قال لعلي‏:‏ ‏"‏ياعلي، لا تُتْبِع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولي، وليست لك الآخرة‏"‏‏.‏
    وقد قال تعالي‏:‏ ‏
    "‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء‏"‏ إلى قوله‏:‏‏"‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 14، 15‏]‏، وقد قال تعالي مع ذمه لما ذمه من هذه الزينة ‏:‏ ‏"‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

    ج/ 22 ص -129-فنقول‏:‏ اعلم أن ما يصفه النبي ﷺ من محبته للأجناس المحبوبة، وما يبغضه من ذلك، هو مثل ما يأمر به من الأفعال، وينهى عنه من ذلك، فإن الحب والبغض هما أصل الأمر والنهي، وذلك نظير ما يعده على الأعمال الحسنة من الثواب، ويتوعد به على الأعمال السيئة من العقاب، فأمره ونهيه ووعده ووعيده وحبه وبغضه وثوابه وعقابه كل ذلك من‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
    وقد بسطنا الكلام على ما يتعلق بهذه القاعدة في غير موضع لتعلقها بأصول الدين وفروعه، فإن من أكبر شعبها ‏[‏مسألة الأسماء والأحكام‏]‏ في فساق أهل الملة‏.‏ وهل يجتمع في حق الشخص الواحد الثواب والعقاب، كما يقوله أهل السنة والجماعة، أم لا يجتمع ذلك‏؟‏ كما يقوله جمهور الخوارج والمعتزلة‏.‏ وهل يكون الشيء الواحد محبوبًا من وجه، مبغوضًا من وجه، محمودًا من وجه، مذمومًا من وجه‏؟‏ وقد تنازع في ذلك أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين، وغيرهم‏.‏ والتعارض بين النصوص، إنما هو لتعارض المقتضي للحمد والذم من الصفات

    ج/ 22 ص -130- القائمة بذلك؛ ولهذا كان هذا الجنس موجبًا للفرقة والفتنة‏.‏
    فأول مسألة فرقت بين الأمة مسألة الفاسق المِلِّي، فأدرجته الخوارج في نصوص الوعيد، فخلدوه في النار، لكن لم يحكموا بكفره، فلو كان شيء خيرًا محضًا لم يوجب فرقة، ولو كان شرًا محضًا لم يخف أمره، لكن لاجتماع الأمرين فيه أوجب الفتنة‏.‏
    وكذلك ‏[‏مسألة القدر‏]‏ التي هي من جملة فروع هذا الأصل فإنه اجتمع في الأفعال الواقعة التي نهى اللّه عنها‏:‏ أنها مرادة له لكونها من الموجودات، وأنها غير محبوبة له بل ممقوتة مبغوضة‏.‏ فأثبتوا وجود الكائنات بدون مشيئته؛ ولهذا لما قال غَيْلان القدري لربيعة بن أبي عبد الرحمن‏:‏ ياربيعة، نشدتك اللّه،أتري اللّه يحب أن يعصي‏؟‏ فقال له ربيعة‏:‏ أفتري اللّه يعصي قسرًا‏؟‏ فكأنه ألقمه حجرًا‏.‏ يقول له ‏:‏ نزهته عن محبة المعاصي، فسلبته الإرادة والقدرة، وجعلته مقهورًا مقسورًا‏.‏
    وقال من عارض القدرية‏:‏ بل كل ما أراده فقد أحبه ورضيه، ولزمهم أن يكون الكفر والفسوق والعصيان محبوبًا للّه مرضيًا‏.‏
    وقالوا أيضًا‏:‏ يأمر بما لا يريد، وكل ما أمر به من الحسنات

    ج/ 22 ص -131- فإنه لم يرده، وربما قالوا‏:‏ ولم يحبه ولم يرضه، إلا إذا وجد‏.‏ قالوا‏:‏ ولكن أمر به وطلبه‏.‏
    فقيل لهم‏:‏ هل يكون طلب وإرادة واستدعاء بلا إرادة ولا محبة ولا رضي‏؟‏ هذا جمع بين النقيضين، فتحيروا‏.‏ فأولئك سلبوا الرب خلقه وقدرته وإرادته العامة، وهؤلاء سلبوه محبته ورضاه وإرادته الدينية وما تضمنه أمره ونهيه من ذلك‏.‏ فكما أن الأولين لم يثبتوا أن الشخص الواحد يكون مثابًا معاقبًا، بل إما مثابًا وإما معاقبًا، فهؤلاء لم يثبتوا أن الفعل الواحد يكون مرادًا من وجه دون وجه، مرادًا غير محبوب، بل إما مراد محبوب، وإما غير مراد ولا محبوب‏.‏
    وكما تفرقوا في صفات الخالق، تفرقوا في صفات المخلوق، فأولئك لم يثبتوا له إلا قدرة واحدة تكون قبل الفعل، وهؤلاء لم يثبتوا له إلا قدرة واحدة تكون مع الفعل‏.‏ أولئك نفوا القدرة الكونية التي بها يكون الفعل، وهؤلاء نفوا القدرة الدينية التي بها يأمر اللّه العبد وينهاه، وهذا من أصول تفرقهم في ‏[‏مسألة تكليف ما لا يطاق‏]‏
    وانقسموا إلى قدرية مجوسية، تثبت الأمر والنهي، وتنفي القضاء والقدر‏.‏ وإلي قدرية مشركية شر منهم تثبت القضاء والقدر، وتكذب بالأمر والنهي، أو ببعض ذلك‏.‏ وإلي قدرية إبليسية تصدق بالأمر، لكن تري ذلك تناقضًا مخالفًا للحق والحكمة، وهذا

    ج/ 22 ص -132- شأن عامة ما تتعارض فيه الأسباب والدلائل‏.‏
    تجد فريقًا يقولون بهذا دون هذا، وفريقًا بالعكس، أو الأمرين، فاعتقدوا تناقضهما، فصاروا متحيرين، معرضين عن التصديق بهما جميعًا، ومتناقضين مع هذا تارة، ومع هذا تارة‏.‏ وهذا تجده في مسائل الكلام والاعتقادات، ومسائل الإرادة والعبادات؛ كمسألة السماع الصوتي، ومسألة الكلام، ومسائل الصفات، وكلام اللّه تعالي وغير ذلك من المسائل‏.‏
    وأصل هذا كله هو العدل بالتسوية بين المتماثلين‏.‏ فإن اللّه يقول‏:‏
    ‏"‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏‏.‏ وقد بسطنا القول في ذلك، وبينا أن العدل جماع الدين والحق والخير كله في غير موضع‏.‏ والعدل الحقيقي قد يكون متعذرًا أو متعسرًا، إما علمه، وإما العمل به؛ لكون التماثل من كل وجه غير متمكن، أو غير معلوم، فيكون الواجب في مثل ذلك ما كان أشبه بالعدل، وأقرب إليه، وهي الطريقة المثلي؛ ولهذا قال سبحانه ‏:‏ ‏"‏وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏"‏ [‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏‏.‏

    ج/ 22 ص -133-وَسُئلَ عن المتنزه عن الأقمشة الثمينة مثل الحرير والكتان المتغالي في تحسينه وما ناسبها‏:‏ هل في ترك ذلك أجر أم لا ‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، أما ما حرمه اللّه ورسوله كالحرير، فإنه يثاب على تركه، كما يعاقب على فعله‏.‏ وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال‏
    :‏ ‏"‏من يلبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة‏"‏‏.‏ وقال عن الحرير والذهب‏:‏ ‏"‏هذا حرام على ذكور أمتي حل لإناثها‏"‏ ‏.‏
    وأما المباحات‏:‏ فيثاب على ترك فضولها، وهو ما لا يحتاج إليه لمصلحة دينه، كما أن الإسراف في المباحات منهى عنه، كما قال تعالي‏:‏ ‏
    "‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏، وقال تعالي عن أصحاب النار‏:‏ ‏"‏إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ‏"‏[‏الواقعة‏:‏ 45، 46‏]‏، وقال تعالي ‏:‏ ‏"‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏29‏]‏، وقال تعالي ‏:‏

    ج/ 22 ص -134-"‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا‏"[‏الإسراء‏:‏ 26، 27‏]‏‏.‏
    والإسراف في المباحات هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم، وترك فضولها هو من الزهد المباح‏.‏ وأما الامتناع من فعل المباحات مطلقًا كالذي يمتنع من أكل اللحم، وأكل الخبز، أو شرب الماء، أو لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب، فهذا جاهل ضال من جنس زهاد النصاري‏.‏ قال اللّه تعالي ‏:
    ‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 87، 88‏]‏، نزلت هذه الآية بسبب أن جماعة من الصحابة كانوا قد عزموا على ترك أكل الطيبات، كاللحم ونحوه، وترك النكاح‏.‏
    وفي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"
    ‏ما بال رجال يقول أحدهم‏:‏ أمَّا أنا فأصوم ولا أفطر، ويقول الآخر‏:‏ أما أنا فأقوم ولا أنام، ويقول الآخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم‏.‏ لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏"‏‏.‏

    ج/ 22 ص -135- وفي صحيح البخاري أن النبي ﷺ رأي رجلا قائمًا في الشمس‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ماهذا‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏مروه أن يستظل، وأن يتكلم، وأن يجلس، ويتم صومه‏"‏‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]
    فأمر بالأكل من الطيبات، والشكر له، والطيب هو ما ينفع الإنسان‏.‏ وحرم الخبائث، وهو ما يضره، وأمر بشكره، وهو العمل بطاعته بفعل المأمور، وترك المحذور‏.‏ وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏
    :‏ ‏"‏إن اللّه ليرضي على العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها‏"‏‏.‏ وقال تعالي‏:‏ ‏"‏كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏، فمن أكل من الطيبات ولم يشكر، ولم يعمل صالحًا، كان معاقبًا على ما تركه من الواجبات، ولم تحل له الطيبات‏.‏
    فإنه إنما أحلها لمن يستعين بها على طاعته، لا لمن يستعين بها على معصيته، كما قال تعالي‏:
    ‏ ‏"‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏، وقال الخليل‏:‏

    ج/ 22 ص -136- ‏"‏وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏‏.‏
    ولهذا لا يجوز أن يعان الإنسان بالمباحات على المعاصي، مثل من يعطي الخبز واللحم لمن يشرب عليه الخمر، ويستعين به على الفواحش‏.‏
    ومن حرم الطيبات التي أحلها اللّه من الطعام واللباس والنكاح وغير ذلك، واعتقد أن ترك ذلك مطلقًا هو أفضل من فعله لمن يستعين به على طاعة اللّه، كان معتديا معاقبا على تحريمه ما أحل اللّه ورسوله، وعلى تعبده للّه تعالي بالرهبانية، ورغبته عن سنة رسول اللّه ﷺ، وعلى ما فرط فيه من الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب‏.‏
    وكذلك من أسرف في بعض العبادات‏:‏ كسرد الصوم، ومداومة قيام الليل، حتى يضعفه ذلك عن بعض الواجبات، كان مستحقا للعقاب كما قال النبي ﷺ لعبد اللّه بن عمرو‏:‏
    ‏"‏إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه‏"‏‏.‏
    فأصل الدين، فعل الواجبات، وترك المحرمات‏.‏ فما تقرب العبد

    ج/ 22 ص -137- إلى اللّه بأفضل من أداء ما افترض عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلى اللّه بالنوافل حتى يحبه‏.‏ فالنوافل المستحبة التي لا تمنع الواجبات‏:‏ مما يرفع اللّه بها الدرجات، وترك فضول المباحات، وهو ما لا يحتاج إليها لفعل واجب ولا مستحب مع الإيثار بها مما يثيب اللّه فاعله عليه، ومن تركها لمجرد البخل، لا للتقرب إلى اللّه لم يكن محمودًا‏.‏
    ومن امتنع عن نوع من الأنواع التي أباحها اللّه على وجه التقرب بتركها، فهو مخطئ ضال، ومن تناول ما أباحه اللّه من الطعام واللباس مظهرًا لنعمة اللّه، مستعينا على طاعة اللّه، كان مثابا على ذلك، وقوله تعالي‏:‏
    ‏"‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏"‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ عن شكر النعيم، فيطالب العبد بأداء شكر نعمة اللّه على النعيم، فإن اللّه سبحانه لا يعاقب على ما أباح، وإنما يعاقب على ترك مأمور، وفعل محذور‏.‏
    وهذه القواعد الجامعة تبين المسائل المذكورة وغيرها‏.‏
    وأما الحرير‏:‏ فهو حرام على الرجال، إلا في مواضع مستثناة ، فمن لبس ما حرم اللّه ورسوله فهو آثم‏.‏
    وأما الكتان والقطن ونحوهما فمن تركه مع الحاجة فهو جاهل ضال، ومن أسرف فيه فهو مذموم‏.‏ ومن تجمل بلبسه إظهارًا لنعمة اللّه عليه، فهو مشكور على ذلك،

    ج/ 22 ص -138- فإن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إن اللّه إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يري أثر نعمه عليه‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إن اللّه جميل يحب الجمال‏"‏‏.‏ ومن ترك لبس الرفيع من الثياب تواضعا للّه لا بخلا، ولا التزاما للترك مطلقا فإن اللّه يثيبه على ذلك، ويكسوه من حلل الكرامة‏.‏
    وتكره الشهرة من الثياب، وهو المترفع الخارج عن العادة‏.‏ والمتخفض الخارج عن العادة؛ فإن السلف كانوا يكرهون الشهرتين، المترفع والمتخفض ، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏من لبس ثوب شهرة ألبسه اللّه ثوب مذلة‏"‏‏.‏ وخيار الأمور أوساطها‏.‏
    والفعل الواحد في الظاهر يثاب الإنسان على فعله مع النية الصالحة ويعاقب على فعله مع النية الفاسدة، فمن حج ماشيا لقوته على المشي، وآثر بالنفقة كان مأجورًا أجرين‏:‏ أجر المشي، وأجر الإيثار‏.‏ ومن حج ماشيا؛ بخلا بالمال، إضرارًا بنفسه، كان آثما إثمين‏:‏ إثم البخل، وإثم الإضرار‏.‏ ومن حج راكبا؛ لضعفه عن المشي، وللاستعانة بذلك على راحته، ليتقوي بذلك على العبادة، كان مأجورًا أجرين‏.‏ ومن حج راكبا يظلم الجمال، والحمال، كان آثما إثمين‏.‏
    وكذلك اللباس‏:‏ فمن ترك جميل الثياب؛ بخلا بالمال، لم يكن له أجر‏.‏ ومن تركه متعبدًا بتحريم المباحات، كان آثما‏.‏ ومن لبس

    ج/ 22 ص -139- جميل الثياب إظهارًا لنعمة اللّه، واستعانة على طاعة اللّه ، كان مأجورًا‏.‏ ومن لبسه فخرًا وخيلاء، كان آثما‏.‏ فإن اللّه لا يحب كل مختال فخور‏.‏
    ولهذا حرم إطالة الثوب بهذه النية، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ قال‏
    :‏ ‏"‏من جر إزاره خيلاء لم ينظر اللّه يوم القيامة إليه‏"‏، فقال أبو بكر‏:‏ يارسول اللّه، إن طرف إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال‏:‏ ‏"‏يا أبا بكر، إنك لست ممن يفعله خيلا‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏بينما رجل يجر إزاره خيلاء، إذ خسف اللّه به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
    فهذه المسائل ونحوها، تتنوع بتنوع علمهم واعتقادهم‏.‏ والعبد مأمور أن يقول في كل صلاة‏:‏ ‏"‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏ واللّه سبحانه وتعالي أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن الحرير المحض‏:‏ هل يجوز للخياط خياطته للرجال‏؟‏ وهل أجرته حرام‏؟‏ وهل ينكر عليه لذلك ‏؟‏ وهل تباح الخياطة بخيوط الحرير في غير الحرير‏؟‏ وهل تجوز خياطته للنساء ‏؟‏

    ج/ 22 ص -140-فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، لا يجوز خياطة الحرير لمن يلبس لباسًا محرمًا مثل لبس الرجل للحرير المصمت في غير حال الحرب، ولغير التداوي، فإن هذا من الإعانة على الإثم والعدوان‏.‏ وكذلك صنعة آنية الذهب والفضة، على أصح القولين عند جماهير العلماء‏.‏ وكذلك صنعة آلات الملاهي ، ومثل تصوير الحيوان، وتصوير الأوثان، والصلبان، وأمثال ذلك مما يكون فيه تصوير الشيء على صورة يحرم استعماله فيها‏.‏
    وكذلك صنعة الخمر، وأما أمكنة المعاصي والكفر ونحو ذلك، والعوض المأخوذ على هذا العمل المحرم خبيث، ويجب إنكار ذلك‏.‏ وأما خياطته لمن يلبسه لبسًا جائزًا، فهو مباح‏:‏ كخياطته للنساء، وإن كان الرجل يمسه عند الخياطة، فإن هذا ليس من المحرم، ومثل ذلك صناعة الذهب والفضة لمن يستعمله استعمالا مباحا‏.‏
    ويجوز استعمال خيوط الحرير في لباس الرجال، وكذلك يباح العلم والسجاف، ونحو ذلك مما جاءت به السنة بالرخصة فيه، وهو ما كان موضع إصبعين، أو ثلاثة، أو أربعة، وقد كان للنبي ﷺ جُبَّة مكفوفة بحرير‏.‏

    ج/ 22 ص -141-وسئل رَحمه اللّه تعَالي عن خياط خاط للنصاري سير حرير فيه صليب ذهب‏.‏ فهل عليه إثم في خياطته‏؟‏ وهل تكون أجرته حلالا أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم، إذا أعان الرجل على معصية اللّه كان آثمًا؛ لأنه أعان على الإثم والعدوان؛ ولهذا لعن النبي ﷺ الخمر وعاصرها، ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومشتريها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها ‏.‏
    وأكثر هؤلاء كالعاصر والحامل والساقي إنما هم يعاونون على شربها؛ ولهذا ينهى عن بيع السلاح لمن يقاتل به قتالا محرما‏:‏ كقتال المسلمين، والقتال في الفتنة، فإذا كان هذا في الإعانة على المعاصي، فكيف بالإعانة على الكفر، وشعائر الكفر‏.‏
    والصليب لا يجوز عمله بأجرة، ولا غير أجرة، ولا بيعه صليبًا، كما لا يجوز بيع الأصنام، ولا عملها، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إن اللّه حرم بيع الخمر والميتة والخنزير

    ج/ 22 ص -142- والأصنام‏"‏‏.‏وثبت عنه أنه لعن المصورين ‏.‏ وأنه كان لا يري في البيت صورة إلا قَضَبه ‏.‏ فصانع الصليب ملعون لعنه اللّه ورسوله‏.‏
    ومن أخذ عوضًا عن عين محرمة، أو نفع استوفاه، مثل أجرة حمال الخمر، وأجرة صانع الصليب، وأجرة البغي، ونحو ذلك فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم، وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله، فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث، ولا يعاد إلى صاحبه؛ لأنه قد استوفي العوض، ويتصدق به‏.‏ كما نص على ذلك من نص من العلماء‏.‏ كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر، ونص عليه أصحاب مالك، وغيرهم‏.‏
    وَسُئِلَ عمن يتجر في الأقباع‏:‏ هل يجوز له بيع القُبْع المرعزي وشراؤه‏؟‏ والاكتساء منه‏؟‏ وما يجري مجراه من الحرير الصامت‏؟‏ أو يحرم عليه لكون القُبْع لبس الرجال دون النساء‏؟‏ وهل يجوز بيعه للجند والصبيان إذا كانوا دون البلوغ ‏؟‏ أو لليهود والنصاري، أم لا‏؟‏ إلى غير ذلك من المسائل‏.‏
    فأجاب‏:‏
    أما أقباع الحرير، فيحرم لبسها على الرجال؛ ولأنها حرير،

    ج/ 22 ص -143- ولبس الحرير حرام على الرجال، بسنة رسول اللّه ﷺ وإجماع العلماء ‏.‏ وإن كان مبطنا بقطن أو كتان‏.‏
    وأما على النساء؛ فلأن الأقباع من لباس الرجال، وقد لعن النبي ﷺ المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء ‏.‏
    وأما لباس الحرير للصبيان الذين لم يبلغوا‏:‏ ففيه قولان مشهوران للعلماء، لكن أظهرهما أنه لا يجوز، فإن ما حرم على الرجل فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير، فإنه يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها إذا بلغ عشرًا، فكيف يحل له أن يلبسه المحرمات‏.‏
    وقد رأي عمر بن الخطاب على صبي للزبير ثوبًا من حرير فمزقه، وقال‏:‏ لا تلبسوهم الحرير‏.‏ وكذلك ابن مسعود مزق ثوب حرير كان على ابنه‏.‏ وما حرم لبسه لم تحل صنعته ولا بيعه لمن يلبسه من أهل التحريم‏.‏
    ولا فرق في ذلك بين الجند وغيرهم، فلا يحل للرجل أن يكتسب بأن يخيط الحرير لمن يحرم عليه لبسه، فإن ذلك إعانة على الإثم والعدوان، وهو مثل الإعانة على الفواحش ونحوها‏.‏ وكذلك لا يباع

    ج/ 22 ص -144- الحرير لرجل يلبسه من أهل التحريم، وأما بيع الحرير للنساء فيجوز‏.‏ وكذلك إذا بيع لكافر، فإن عمر بن الخطاب أرسل بحرير أعطاه إياه النبي ﷺ إلى رجل مشرك‏.‏
    وَسُئِلَ‏:‏ هل طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه في أكمامه مكروه ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا بأس بذلك، باتفاق الفقهاء، وقد ذكروا جواز ذلك، وليس هذا من السدل المكروه؛ لأن هذه اللبسة ليست لبسة اليهود‏.‏
    وَسُئِلَ عن طول السراويل إذا تعدي عن الكعب، هل يجوز ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    طول القميص والسراويل وسائر اللباس، إذا تعدي ليس له أن يجعل ذلك أسفل من الكعبين، كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ ، وقال‏:‏
    ‏"‏الإسبال في السراويل والإزار والقميص‏"‏‏.‏ يعني نهى عن الإسبال‏.‏

    ج/ 22 ص -145-وَسئل رَحمه اللّه عن لبس الكوفية للنساء‏:‏ ما حكمها إذا كانت بالدائر والفرق‏؟‏ وفي لبسهن الفراجي‏؟‏ وما الضابط في التشبه بالرجال في الملبوس‏؟‏ هل هو بالنسبة إلى ما كان على عهد رسول اللّه ﷺ، أو كل زمان بحسبه ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، الكوفية التي بالفرق والدائر من غير أن تستر الشعر المسدول، هي من لباس الصبيان، والمرأة اللابسة لذلك متشبهة بهم‏.‏ وهذا النوع قد يكون أول من فعله من النساء قصدت التشبه بالمردان، كما يقصد بعض البغايا أن تضفر شعرها ضفيرًا واحدًا مسدولا بين الكتفين، وأن ترخي لها السوالف، وأن تعتم، لتشبه المردان في العمامة، والعذار والشعر‏.‏ ثم قد تفعل الحرة بعض ذلك، لا تقصد هذا، لكن هي في ذلك متشبهة بالرجال‏.‏
    وقد استفاضت السنن عن النبي ﷺ في الصحاح وغيرها، بلعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء، وفي رواية‏:‏ أنه لعن المخنثين من الرجال، والمترجلات من

    ج/ 22 ص -146- النساء، وأمر بنفي المخنثين‏.‏ وقد نص على نفيهم الشافعي وأحمد، وغيرهما‏.‏ وقالوا‏:‏ جاءت سنة رسول اللّه ﷺ بالنفي في حد الزنا، وبنفي المخنثين‏.‏
    وفي صحيح مسلم عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد‏:‏ كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها‏.‏ ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد اللّه‏"‏‏.‏
    وفي السنن أنه مر بباب أم سلمة وهي تعتصب فقال‏:‏ ‏"‏يا أم سلمة‏!‏ لَيَّةً لا ليَّتيْن‏"‏‏.‏ وقد فسر قوله‏:‏ ‏"‏كاسيات عاريات‏"‏ بأن تكتسي ما لا يسترها، فهي كاسية، وهي في الحقيقة عارية، مثل من تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها، مثل عجيزتها وساعدها، ونحو ذلك‏.‏ وإنما كسوة المرأة ما يسترها، فلا يبدي جسمها، ولا حجم أعضائها لكونه كثيفًا واسعًا‏.‏
    ومن هنا، يظهر الضابط في نهيه ﷺ عن تشبه الرجال بالنساء، وعن تشبه النساء بالرجال، وأن الأصل في ذلك ليس هو راجعًا إلى مجرد ما يختاره الرجال والنساء ويشتهونه، ويعتادونه، فإنه لو كان كذلك، لكان إذا اصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخمر التي

    ج/ 22 ص -147- تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان، وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة، ونحو ذلك أن يكون هذا سائغًا‏.‏ وهذا خلاف النص والإجماع‏.‏ فإن اللّه تعالي قال للنساء‏:‏ ‏"وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ‏"‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، وقال‏:‏ ‏"قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ‏"‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏.‏
    فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم، لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب، ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية الأولي؛ لأن ذلك كان عادة لأولئك، وليس الضابط في ذلك لباسًا معينًا من جهة نص النبي ﷺ، أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده، بحيث يقال‏:‏ إن ذلك هو الواجب، وغيره يحرم‏.‏
    فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابا طويلات الذيل، بحيث ينجر خلف المرأة إذا خرجت، والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين؛ ولهذا لما نهي النبي ﷺ الرجال عن إسبال الإزار، وقيل له‏:‏
    فالنساء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يرخين شبرًا‏"‏، قيل له‏:‏ إذن

    ج/ 22 ص -148- تنكشف سوقهن، قال‏:‏ ‏"‏ذراعا لا يزدن عليه‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏
    حتي إنه لأجل ذلك روي أنه رخص للمرأة إذا جرت ذيلها على مكان قذر ثم مرت به على مكان طيب، أنه يطهر بذلك، وذلك قول طائفة من أهل العلم في مذهب أحمد وغيره، جعل المجرور بمنزلة النعل الذي يكثر ملاقاته النجاسة، فيطهر بالجامد، كما يطهر السبيلان بالجامد لما تكرر ملاقاتهما النجاسة‏.‏
    ثم إن هذا ليس معينًا للستر، فلو لبست المرأة سراويل، أو خفًا واسعًا صلبًا كالموق، وتدلي فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم، لكان هذا محصلا للمقصود، بخلاف الخف اللين الذي يبدي حجم القدم؛ فإن هذا من لباس الرجال‏.‏ وكذلك المرأة لو لبست جبة وفروة لحاجتها إلى ذلك إلى دفع البرد، لم تنه عن ذلك‏.‏
    فلو قال قائل‏:‏ لم يكن النساء يلبسن الفراء، قلنا‏:‏ فإن ذلك يتعلق بالحاجة، فالبلاد الباردة يحتاج فيها إلى غلظ الكسوة، وكونها مدفئة، وإن لم يحتج إلى ذلك في البلاد الحارة، فالفارق بين لباس الرجال والنساء، يعود إلى ما يصلح للرجال، وما يصلح للنساء‏.‏ وهو ما يناسب ما يؤمر به الرجال، وما تؤمر به النساء‏.‏ فالنساء مأمورات

    ج/ 22 ص -149- بالاستتار والاحتجاب، دون التبرج والظهور؛ ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت في الأذان ولا التلبية، ولا الصعود إلى الصفا والمروة، ولا التجرد في الإحرام، كما يتجرد الرجل‏.‏
    فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه، وألا يلبس الثياب المعتادة وهي التي تصنع على قدر أعضائه فلا يلبس القميص، ولا السراويل ولا البرنس، ولا الخف، لكن لما كان محتاجًا إلى ما يستر العورة، ويمشي فيه، رخص له في آخر الأمر إذا لم يجد إزارًا أن يلبس سراويل، وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين‏.‏ وجعل ذلك بدلا للحاجة العامة، بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد، فإن عليه الفدية إذا لبسه؛ ولهذا طرد أبو حنيفة هذا القياس، وخالفه الأكثرون؛ للحديث الصحيح، ولأجل الفرق بين هذا وهذا‏.‏
    وأما المرأة، فإنها لم تنه عن شيء من اللباس؛ لأنها مأمورة بالاستتار والاحتجاب، فلا يشرع لها ضد ذلك، لكن منعت أن تنتقب، وأن تلبس القفازين؛ لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو، ولا حاجة بها إليه‏.‏
    وقد تنازع الفقهاء هل وجهها كرأس الرجل، أو كيديه، على قولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏ فمن جعل وجهها كرأسه، أمرها إذا

    ج/ 22 ص -150- سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه‏.‏ كما يجافي عن الرأس ما يظلل به‏.‏
    ومن جعله كاليدين وهو الصحيح قال‏:‏ هي لم تنه عن ستر الوجه، وإنما نهيت عن الانتقاب‏.‏ كما نهيت عن القفازين، وذلك كما نهي الرجل عن القميص، والسراويل، ونحو ذلك‏.‏ ففي معناه البرقع وما صنع لستر الوجه‏.‏ فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس، فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة، ونحوها‏.‏ ومثل تغطية اليدين بالكمين، وهي لم تنه عن ذلك‏.‏
    فلو أراد الرجال أن ينتقبوا ويتبرقعوا ويدعوا النساء باديات الوجوه، لمنعوا من ذلك‏.‏
    وكذلك المرأة أمرت أن تجتمع في الصلاة، ولا تجافي بين أعضائها، وأمرت أن تغطي رأسها، فلا يقبل اللّه صلاة حائض إلا بخمار، ولو كانت في جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب، فدل ذلك على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر لا يؤمر به الرجل حقًا للّه عليها، وإن لم يرها بشر‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏
    ‏"‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه، وبيوتهن خير لهن‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏صلاة إحداكن في

    ج/ 22 ص -151- مخدعها، أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي‏"‏‏.‏ وهذا كله لما في ذلك من الاستتار والاحتجاب‏.‏
    ومعلوم أن المساكن من جنس الملابس، كلاهما جعل في الأصل للوقاية، ودفع الضرر‏.‏ كما جعل الأكل والشرب لجلب المنفعة، فاللباس يتقي الإنسان به الحر والبرد، ويتقي به سلاح العدو، وكذلك المساكن يتقي بها الحر والبرد، ويتقي بها العدو‏.‏ وقال تعالي‏:‏ ‏
    "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏"‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، فذكر في هذا الموضع ما يحتاجون إليه لدفع ما قد يؤذيهم‏.‏
    وذكر في أول السورة ما يضطرون إليه لدفع ما يضرهم، فقال‏:‏ ‏
    "وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 5‏]‏، فذكر ما يستدفئون به، ويدفعون به البرد؛ لأن البرد يهلكهم، والحر يؤذيهم؛ ولهذا قال بعض العرب‏:‏ البرد بؤس، والحر أذي؛ ولهذا السبب لم يذكر في الآية الأخري وقاية البرد، فإن ذلك تقدم في أول السورة، وهو ذكر في أثناء السورة ما أتم به النعمة، وذكر

    ج/ 22 ص -152- في أول السورة أصول النعم ؛ولهذا قال‏:‏ ‏"كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏"‏‏.‏ والمقصود هنا أن مقصود الثياب تشبه مقصود المساكن، والنساء مأمورات في هذا بما يسترهن ويحجبهن‏.‏ فإذا اختلف لباس الرجال والنساء مما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب، كان للنساء، وكان ضده للرجال‏.‏
    وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان‏:‏
    أحدهما‏:‏ الفرق بين الرجال والنساء‏.‏
    والثاني‏:‏ احتجاب النساء‏.‏ فلو كان مقصوده مجرد الفرق، لحصل ذلك بأي وجه حصل به الاختلاف‏.‏ وقد تقدم فساد ذلك، بل أبلغ من ذلك أن المقصود باللباس إظهار الفرق بين المسلم والذمي، ليترتب على كل منهما من الأحكام الظاهرة ما يناسبه‏.‏
    ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس، اصطلحت الطائفتان على التميز به‏.‏ ومع هذا، فقد روعي في ذلك ما هو أخص من الفرق، فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره كما قال ﷺ‏:‏
    ‏"‏عليكم بالبياض فليلبسه أحياؤكم‏.‏ وكفنوا فيه موتاكم‏"‏ لم يكن من

    ج/ 22 ص -153- السنة أن يجعل لباس أهل الذمة الأبيض، ولباس أهل الإسلام المصبوغ كالعسلي والأدكن، ونحو ذلك، بل الأمر بالعكس‏.‏
    وكذلك في الشعور وغيرها‏:‏ فكيف الأمر في لباس الرجال والنساء وليس المقصود به مجرد الفرق، بل لابد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار ‏؟‏‏!‏
    وكذلك أيضًا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن، دون الفرق بينهن وبين الرجال، بل الفرق أيضًا مقصود، حتى لو قدر أن الصنفين اشتركوا فيما يستر ويحجب، بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهوا عن ذلك‏.‏
    واللّه تعالي قد بين هذا المقصود أيضًا بقوله تعالي‏:‏
    ‏"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏، فجعل كونهن يعرفن باللباس الفارق أمر مقصود‏.‏
    ولهذا جاءت صيغة النهي بلفظ التشبه، بقوله ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏لعن اللّه المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏لعن اللّه المخنثين من الرجال، والمترجلات من

    ج/ 22 ص -154- النساء‏"‏‏.‏ فعلق الحكم باسم التشبه‏.‏ ويكون كل صنف يتصف بصفة الآخر‏.‏
    وقد بسطنا هذه القاعدة في اقتضاء الصراط المستقيم، لمخالفة أصحاب الجحيم وبينا أن المشابهة في الأمور الظاهرة تورث تناسبًا وتشابهًا في الأخلاق، والأعمال، ولهذا نهينا عن مشابهة الكفار، ومشابهة الأعاجم، ومشابهة الأعراب، ونهي كل من الرجال والنساء عن مشابهة الصنف الآخر، كما في الحديث المرفوع‏:‏ ‏"‏من تشبه بقوم فهو منهم‏"‏، ‏"‏وليس منا من تشبه بغيرنا‏"‏‏.‏ والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى يفضي الأمر به إلى التخنث المحض، والتمكين من نفسه كأنه امرأة‏.‏
    ولما كان الغناء مقدمة ذلك، وكان من عمل النساء، كانوا يسمون الرجال المغنين مخانيث‏.‏ والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم، حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشاركة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجل، وتطلب أن تعلو على الرجال، كما تعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفر المشروع للنساء وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة‏.‏
    وإذا تبين أنه لابد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يتميز به الرجال عن النساء، وأن يكون لباس النساء فيه من

    ج/ 22 ص -155- الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك ظهر أصل هذا الباب وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال، نهيت عنه المرأة، وإذا كان ساترًا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء، والنهي عن مثل هذا بتغير العادات‏.‏ وأما ما كان الفرق عائدًا إلى نفس الستر، فهذا يؤمر به النساء بما كان أستر، ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك، فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر، والمشابهة، نهي عنه من الوجهين‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن لبس النساء هذه العمائم التي على رؤوسهن‏.‏ هل هي حرام أو مكروه‏؟‏ وما العمائم التي تستحب للنساء ‏؟‏ وهل يجوز لهن لبس الخف ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه وحده، هذه العمائم التي تلبسها النساء حرام، بلا ريب، ففي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد‏:‏ نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها‏.‏ ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد اللّه‏"‏‏.‏

    ج/ 22 ص -156- وأيضا، فقد صح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لعن اللّه المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏لعن اللّه المتخنثين من الرجال والمترجلات من النساء‏"‏‏.‏ وفي سنن أبي داود أنه ﷺ رأي أم سلمة تعتصب فقال‏:‏ ‏"‏يا أم سلمة، لَيَّةً، لا لَيتين‏"‏‏.‏
    وما كان من لباس الرجال مثل العمامة والخف والقباء الذي للرجال، والثياب التي تبدي مقاطع خلقها، والثوب الرقيق الذي لا يستر البشرة، وغير ذلك، فإن المرأة تنهي عنه، وعلي وليها كأبيها وزوجها أن ينهاها عن ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ‏:‏ هل يجوز للنساء لبس العصائب الكبار التي يتشبهن بلبسها بالرجال أم لا ‏؟‏ وهل ورد في تحريم ذلك نص خاص، أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، أما لبس النساء العصائب الكبار، فهو حرام‏.‏ فقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏صنفان من أمتي لم أرهما بعد‏:‏ نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن كأمثال أسنمة البخت، لا يدخلن

    ج/ 22 ص -157- الجنة، ولا يجدن ريحها‏.‏ ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد اللّه‏"‏‏.‏ وفي السنن أن النبي ﷺ قال لأم سلمة وهي تعتصب‏:‏ ‏"‏يا أم سلمة، لية لا ليتين‏"‏‏.‏ وفي الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏لعن اللّه المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء‏"‏‏.‏
    والنصوص عامة وخاصة بتحريم ذلك، وقد أخبر النبي ﷺ بأن هؤلاء من أهل النار‏.‏ وأخبر بهم قبل أن يكونوا‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِل‏:‏َ عما إذا صلى في موضع نجس ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا صلى وبعض بدنه في موضع نجس، لم يمكنه الصلاة إلا فيه، فهو معذور، وتصح صلاته‏.‏
    وأما إن أمكنه الصلاة في موضع طاهر، فليس له أن يصلي في الموضع النجس‏.‏

    ج/ 22 ص -158-وَسُئِلَ‏:‏ هل تكره الصلاة في أي موضع من الأرض ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم، ينهى عن الصلاة في مواطن، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سئل عن الصلاة في أعطان الإبل، فقال‏:
    ‏ ‏"‏لا تصلوا فيها‏"‏‏.‏ وسئل عن الصلاة في مبارك الغنم فقال‏:‏ ‏"‏صلوا فيها‏"‏‏.‏ وفي السنن أنه قال‏:‏ ‏"‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لعن اللّه اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏ يحذر ما صنعوا‏.‏
    وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏ وفي السنن‏:‏ أنه نهي عن الصلاة بأرض الخسف‏.‏ وفي سنن ابن ماجه وغيره‏:‏ أنه نهي عن الصلاة في سبع مواطن‏:‏ المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، وقارعة الطريق، والحمام، وظهر البيت الحرام‏.‏ وهذه المواضع غير ظهر بيت اللّه الحرام قد يعللها بعض الفقهاء بأنه مظنة النجاسة‏.‏ وبعضهم يجعل النهي تعبدًا‏.‏

    ج/ 22 ص -159- والصحيح أن عللها مختلفة‏.‏ تارة تكون العلة مشابهة أهل الشرك كالصلاة عند القبور، وتارة لكونها مأوي للشياطين كأعطان الإبل، وتارة لغير ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن الحمام إذا اضطر المسلم للصلاة فيها، وخاف فوات الوقت هل يجوز ذلك أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا لم يمكنه أن يغتسل ويخرج ويصلي حتى يخرج الوقت، فإنه يغتسل، ويصلي بالحمام، فإن الصلاة في الأماكن المنهي عنها في الوقت أولي من الصلاة بعد الوقت في غيرها؛ ولهذا لو حبس في الحش صلى فيه، وفي الإعادة نزاع‏.‏ والصحيح أنه لا إعادة عليه؛ ولهذا يصلي في الوقت عريانا، إذا لم يمكنه إلا كذلك‏.‏ وأما إن أمكنه الاغتسال والخروج للصلاة خارج الحمام في الوقت، لم يجز له الصلاة في الحمام، وكذلك لو أمكنه الاغتسال في بيته، فإنه لا يصلي في الحمام إلا لحاجة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -160-وَسئل رَحمه اللّه عن الصلاة في الحمام ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    في سنن أبي داود وغيره عن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام‏"‏‏.‏ وقد صححه الحفاظ‏.‏ وأما إن ضاق الوقت، فهل يصلي في الحمام أو يفوت الصلاة حتى يخرج فيصلي خارجها ‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد، وغيره‏.‏ فلا يصلح أن يصلي في الحمام‏.‏
    وينبغي لمن أصابته جنابة، إن احتاج إلى الحمام أن يغتسل في أول الوقت، ويخرج يصلي، ثم إن أحب أن يتم اغتساله بالسدر ونحوه، عاد إلى الحمام، وجمهور العلماء على أن الصلاة فيها منهي عنها؛ إما نهي تحريم، أو لا تصح كالمشهور من مذهب أحمد، وغيره‏.‏ وإما نهي تنزيه كمذهب الشافعي، وغيره‏.‏

    ج/ 22 ص -161-وَسُئِلَ‏:‏ هل له أن يصلي في الحمام‏.‏ إذا خاف خروج الوقت أم لا ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    أما إذا ذهب إلى الحمام ليغتسل ويخرج ويصلي خارج الحمام في الوقت، فلم يمكنه إلا أن يصلي في الحمام، أو تفوت الصلاة، فالصلاة في الحمام خير من تفويت الصلاة، فإن الصلاة في الحمام كالصلاة في الحش، والمواضع النجسة، ونحو ذلك‏.‏
    ومن كان في موضع نجس، ولم يمكنه أن يخرج منه حتى يفوت الوقت، فإنه يصلي فيه، ولا يفوت الوقت؛ لأن مراعاة الوقت مقدمة على مراعاة جميع الواجبات‏.‏ وأما إن كان يعلم أنه إذا ذهب إلى الحمام لم يمكنه الخروج حتى يخرج الوقت، فقد تقدمت هذه المسألة، والأظهر أنه يصلي بالتيمم، فإن الصلاة بالتيمم خير من الصلاة في الأماكن التي نهي عنها، وعن الصلاة بعد خروج الوقت‏.‏

    ج/ 22 ص -162-وَسئل رَحمه اللّه‏:‏ هل الصلاة في البِيَع والكنائس جائزة مع وجود الصور أم لا ‏؟‏ وهل يقال‏:‏ إنها بيوت اللّه أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليست بيوت اللّه، وإنما بيوت اللّه المساجد، بل هي بيوت يكفر فيها باللّه، وإن كان قد يذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار‏.‏
    وأما الصلاة فيها، ففيها ثلاثة أقوال للعلماء في مذهب أحمد وغيره‏:‏ المنع مطلقًا، وهو قول مالك‏.‏ والإذن مطلقًا وهو قول بعض أصحاب أحمد‏.‏ والثالث‏:‏ وهو الصحيح المأثور عن عمر بن الخطاب وغيره، وهو منصوص عن أحمد وغيره أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها، لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة؛ ولأن النبي ﷺ لم يدخل الكعبة حتى مُحِي ما فيها من الصور، وكذلك قال عمر‏:‏ إنا كنا لا ندخل كنائسهم والصور فيها‏.‏
    وهي بمنزلة المسجد المبني على القبر، ففي الصحيحين أنه ذكر

    ج/ 22 ص -163- للنبي ﷺ كنيسة بأرض الحبشة‏.‏ وما فيها من الحسن والتصاوير، فقال‏:‏ ‏"‏أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة‏"‏‏.‏ وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة في الكنيسة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل‏:‏ عمن يبسط سجادة في الجامع، ويصلي عليها‏:‏ هل ما فعله بدعة أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، أما الصلاة على السجادة بحيث يتحري المصلي ذلك، فلم تكن هذه سنة السلف من المهاجرين والأنصار، ومَنْ بعدهم من التابعين لهم بإحسان على عهد رسول اللّه ﷺ، بل كانوا يصلون في مسجده على الأرض، لا يتخذ أحدهم سجادة يختص بالصلاة عليها‏.‏ وقد روي أن عبد الرحمن بن مهدي لما قدم المدينة بسط سجادة فأمر مالك بحبسه، فقيل له‏:‏ إنه عبد الرحمن بن مهدي فقال‏:‏ أما علمت أن بسط السجادة في مسجدنا بدعة‏.‏
    وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري في حديث اعتكاف النبي

    ج/ 22 ص -164- ﷺ قال‏:‏ اعتكفنا مع رسول اللّه ﷺ‏.‏ ‏.‏ فذكر الحديث، وفيه قال‏:‏ ‏"‏من اعتكف فليرجع إلى معتكفه فإني رأيت هذه الليلة ورأيتني أسجد في ماء وطين‏"‏‏.‏ وفي آخره‏:‏ فلقد رأيت يعني صبيحة إحدي وعشرين على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين‏.‏ فهذا بين أن سجوده كان على الطين‏.‏ وكان مسجده مسقوفا بجريد النخل ينزل منه المطر، فكان مسجده من جنس الأرض‏.‏
    وربما وضعوا فيه الحصي كما في سنن أبي داود عن عبد اللّه بن الحارث قال‏:‏ سألت ابن عمر رضي اللّه عنهما عن الحصي الذي كان في المسجد، فقال‏:‏ مطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصي في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضي رسول اللّه ﷺ‏.‏ قال‏:‏
    ‏"‏ما أحسن هذا ‏؟‏‏"‏‏.‏
    وفي سنن أبي داود أيضًا عن أبي بدر شجاع بن الوليد عن شريك عن أبي حُصَين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال أبو بدر‏:‏ أراه قد رفعه إلى النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إن الحصاة تناشد الذي يخرجها من المسجد‏"‏، ولهذا في السنن والمسند عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصي فإن الرحمة تواجهه‏"‏‏.‏ وفي لفظ في مسند أحمد قال‏:‏ سألت النبي ﷺ عن كل شيء حتى سألته عن مسح

    ج/ 22 ص -165- الحصي، فقال‏:‏ ‏"‏واحدة أو دع‏"‏‏.‏ وفي المسند أيضًا عن جابر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لأن يمسك أحدكم يده عن الحصي خير له من مائة ناقة كلها سود الحدق، فإن غلب أحدكم الشيطان فليمسح واحدة‏"‏‏.‏ وهذا كما في الصحيحين عن مُعَيْقِيب أن النبي ﷺ قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال‏:‏ ‏"‏إن كنت فاعلا، فواحدة‏"‏‏.‏
    فهذا بَيَّن أنهم كانوا يسجدون على التراب والحصي، فكان أحدهم يسوي بيده موضع سجوده، فكره لهم النبيﷺ ذلك العبث، ورخص في المرة الواحدة للحاجة، وإن تركها كان أحسن‏.‏
    وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنا نصلي مع رسول اللّه ﷺ في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه‏.‏ أخرجه أصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم‏.‏ وفي هذا الحديث بيان أن أحدهم إنما كان يتقي شدة الحر بأن يبسط ثوبه المتصل، كإزاره وردائه وقميصه، فيسجد عليه‏.‏
    وهذا بَيَّن أنهم لم يكونوا يصلون على سجادات، بل ولا على حائل؛ ولهذا كان النبي ﷺ وأصحابه‏.‏ يصلون تارة في نعالهم،

    ج/ 22 ص -166- وتارة حفاة، كما في سنن أبي داود والمسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ‏:‏ أنه صلى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لم خلعتم‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ رأيناك خلعت فخلعنا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا أتي أحدكم المسجد فليقلب نعليه، فإن رأي خبثا، فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما‏"‏‏.‏
    ففي هذا بيان أن صلاتهم في نعالهم، وأن ذلك كان يفعل في المسجد إذ لم يكن يوطأ بهما على مفارش، وأنه إذا رأي بنعليه أذي، فإنه يمسحهما بالأرض، ويصلي فيهما، ولا يحتاج إلى غسلهما، ولا إلى نزعهما وقت الصلاة، ووضع قدميه عليهما، كما يفعله كثير من الناس‏.‏
    وبهذا كله جاءت السنة، ففي الصحيحين والمسند عن أبي سلمة سعيد بن يزيد قال‏:‏ سألت أنسا‏:‏ أكان النبي ﷺ يصلي في نعليه ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏
    وفي سنن أبي داود عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏
    ‏"‏خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم‏"‏‏.‏ فقد أمرنا بمخالفة ذلك، إذ هم ينزعون الخفاف والنعال عند الصلاة، ويأتمون فيما يذكر عنهم بموسي عليه السلام حيث قيل له وقت المناجاة‏:‏ ‏"‏فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏"‏[‏طه‏:‏ 12‏]‏‏.‏ فنهينا عن التشبه بهم،

    ج/ 22 ص -167- وأمرنا أن نصلي في خفافنا ونعالنا، وإن كان بهما أذي، مسحناهما بالأرض؛ لما تقدم‏.‏
    ولما روي أبو داود أيضًا عن أبي هريرة، أن رسول اللّه ﷺ قال‏
    :‏ ‏"‏إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذي، فإن التراب لهما طهور‏"‏‏.‏ وفي لفظ قال‏:‏ ‏"‏إذا وطئ الأذي بخفيه، فطهورهما التراب‏"‏‏.‏ وعن عائشة رضي اللّه عنها عن رسول اللّه ﷺ بمعناه، وقد قيل‏:‏ حديث عائشة حديث حسن‏.‏
    وأما حديث أبي هريرة، فلفظه الثاني من رواية محمد بن عَجْلان، وقد خرج له البخاري في الشواهد، ومسلم في المتابعات، ووثقه غير واحد‏.‏ واللفظ الأول لم يسم راويه، لكن تعدده مع عدم التهمة، وعدم الشذوذ يقتضي أنه حسن أيضًا وهذا أصح قولي العلماء، ومع دلالة السنة عليه هو مقتضي الاعتبار‏.‏ فإن هذا محل تتكرر ملاقاته للنجاسة، فأجزأ الإزالة عنه بالجامد كالمخرجين، فإنه يجزئ فيهما الاستجمار بالأحجار كما تواترت به السنة مع القدرة على الماء، وقد أجمع المسلمون على جواز الاستجمار‏.‏
    يبين ذلك أن النبي ﷺ وأصحابه كانوا يصلون

    ج/ 22 ص -168- تارة في نعالهم، وتارة حفاة، كما في السنن لأبي داود وابن ماجه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ رأيت رسول اللّه ﷺ حافيًا، ومنتعلا‏.‏ والحجة في الانتعال ظاهرة‏.‏
    وأما في الاحتفاء، ففي سنن أبي داود والنسائي عن عبد اللّه بن السائب قال‏:‏ رأيت رسول اللّه ﷺ يصلي يوم الفتح، ووضع نعليه عن يساره‏.‏ وكذلك في سنن أبي داود حديث أبي سعيد المتقدم قال‏:‏ بينما رسول اللّه ﷺ يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه، ووضعهما عن يساره‏.‏ وتمام الحديث يدل على أنه كان في المسجد كما تقدم‏.‏ وكذلك حديث ابن السائب، فإن أصله قد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عبد اللّه بن السائب قال‏:‏ صلى بنا رسول اللّه ﷺ الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسي وهارون، أو ذكر موسي وعيسي، أخذت رسول اللّه سعلة فركع وعبد اللّه بن السائب حاضر لذلك، فهذا كان في المسجد الحرام، وقد وضع نعليه في المسجد مع العلم بأن الناس يصلون ويطوفون بذلك الموضع، فلو كان الاحتراز من نجاسة أسفل النعل مستحبًا، لكان النبي ﷺ أحق الناس بفعل المستحب الذي فيه صيانة المسجد‏.‏
    وأيضًا، ففي سنن أبي داود عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة

    ج/ 22 ص -169- عن رسول اللّه ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إذا صلى أحدكم فخلع نعليه، فلا يؤذ بهما أحدًا، وليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما‏"‏، وفيه أيضًا عن يوسف بن ماهك، عن أبي هريرة أن رسول اللّه ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إذا صلى أحدكم، فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره، تكون عن يمين غيره إلا ألا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه‏"‏‏.‏ وهذا الحديث قد قيل‏:‏ في إسناده لين، لكنه هو والحديث الأول قد اتفقا على أن يجعلهما بين رجليه‏.‏ ولو كان الاحتراز من ظن نجاستهما مشروعا، لم يكن كذلك‏.‏
    وأيضًا، ففي الأول‏:‏ الصلاة فيهما‏.‏ وفي الثاني‏:‏ وضعهما عن يساره إذا لم يكن هناك مصل‏.‏ وما ذكر من كراهة وضعهما عن يمينه أو عن يمين غيره، لم يكن للاحتراز من النجاسة، لكن من جهة الأدب‏.‏ كما كره البصاق عن يمينه‏.‏
    وفي صحيح مسلم عن خباب بن الأرت قال‏:‏ شكونا إلى رسول اللّه ﷺ شدة حر الرمضاء في جباهنا‏.‏ وأكفنا فلم يشكنا‏.‏ وقد ظن طائفة أن هذه الزيادة في مسلم، وليس كذلك‏.‏ وسبب هذه الشكوي أنهم كانوا يسجدون على الأرض فتسخن جباههم وأكفهم، وطلبوا منه أن يؤخر الصلاة زيادة على ما كان يؤخرها، ويبرد بها فلم يفعل، وقد ظن بعض الفقهاء أنهم طلبوا منه

    ج/ 22 ص -170- أن يسجدوا على ما يقيهم من الحر من عمامة ونحوها فلم يفعل‏.‏ وجعلوا ذلك حجة في وجوب مباشرة المصلي بالجبهة‏.‏ وهذه حجة ضعيفة لوجهين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه تقدم حديث أنس المتفق على صحته‏:‏ ‏"‏وأنهم كانوا إذا لم يستطع أحدهم أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه وسجد عليه‏"‏ والسجود على ما يتصل بالإنسان من كمه وذيله وطرف إزاره وردائه، فيه النزاع المشهور‏.‏ وقال هشام عن الحسن البصري‏:‏ كان أصحاب رسول اللّه ﷺ يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على عمامته، رواه البيهقي‏.‏ وقد استشهد بذلك البخاري في باب السجود على الثوب من شدة الحر، فقال‏:‏ وقال الحسن‏:‏ كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة، ويداه في كمه‏.‏ وروي حديث أنس المتقدم قال‏:‏ كنا نصلي مع النبي ﷺ فيضع أحدنا الثوب من شدة الحر في مكان السجود‏.‏
    وأما ما يروي عن عبادة بن الصامت أنه كان إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته‏.‏ وعن نافع‏:‏ أن ابن عمر كان إذا سجد وعليه العمامة يرفعها حتى يضع جبهته بالأرض رواه البيهقي‏.‏ وروي أيضًا عن على رضي اللّه عنه قال‏:‏ إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته، فلا ريب أن هذا هو السنة عند الاختيار‏.‏ وقد تقدم

    ج/ 22 ص -171-حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين‏:‏ وأنه رأي أثر الماء والطين على أنف النبي ﷺ وأرنبته‏.‏
    وفي لفظ قال‏:‏ فصلي بنا رسول اللّه ﷺ حتى رأيت أثر الماء والطين على جبهة رسول اللّه ﷺ وأرنبته تصديق رؤياه‏.‏ وقد رواه البخاري بهذا اللفظ‏.‏ وقال الحميدي‏:‏ يحتج بهذا الحديث ألا تمسح الجبهة في الصلاة، بل تمسح بعد الصلاة؛ لأن النبي ﷺ رؤي الماء في أرنبته وجبهته بعد ما صلي‏.‏
    قلت‏:‏ كره العلماء كأحمد وغيره مسح الجبهة في الصلاة من التراب‏.‏ ونحوه الذي يعلق بها في السجود، وتنازعوا في مسحه بعد الصلاة على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏ كالقولين اللذين هما روايتان عن أحمد في مسح ماء الوضوء بالمنديل، وفي إزالة خلوف فم الصائم بعد الزوال بالسواك، ونحو ذلك مما هو من أثر العبادة‏.‏ وعن أبي حُمَيْد السَّاعِدي‏:‏ أن النبي ﷺ كان إذا سجد مكن جبهته بالأرض، ويجافي يديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وعن وائل بن حَجَر قال‏:‏ رأيت رسول اللّه ﷺ يسجد على الأرض واضعًا جبهته وأنفه في سجوده، رواه أحمد‏.‏

    ج/ 22 ص -172- فالأحاديث والآثار تدل على أنهم في حال الاختيار كانوا يباشرون الأرض بالجباه، وعند الحاجة كالحر ونحوه يتقون بما يتصل بهم من طرف ثوب وعمامة وقلنسوة؛ ولهذا كان أعدل الأقوال في هذه المسألة أنه يرخص في ذلك عند الحاجة، ويكره السجود على العمامة ونحوها عند عدم الحاجة، وفي المسألة نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أنه لو كان مطلوبهم منه السجود على الحائل، لأذن لهم في اتخاذ ما يسجدون عليه منفصلا عنهم، فقد ثبت عنه أنه كان يصلي على الخمرة، فقالت ميمونة‏:‏ كان رسول اللّه يصلي على الخُمرَة أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم، وأهل السنن الثلاثة‏:‏ أبو داود والنسائي وابن ماجه، ورواه أحمد في المسند، ورواه الترمذي من حديث ابن عباس‏.‏ ولفظ أبي داود‏:‏ كان يصلي وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، وكان يصلي على الخُمْرة‏.‏ وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة والمسند عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏
    ‏"‏ناوليني الخمرة من المسجد‏"‏، فقلت‏:‏ يارسول اللّه، إني حائض، فقال‏:‏ ‏"‏إن حيضتك ليست في يدك‏"‏‏.‏
    وعن ميمونة قالت‏:‏ كان رسول اللّه ﷺ يتكئ على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي

    ج/ 22 ص -173- حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض‏.‏ رواه أحمد، والنسائي ولفظه‏:‏ ‏"‏فتبسطها وهي حائض‏"‏‏.‏ فهذا صلاته على الخمرة وهي نسج ينسج من خوص، كان يسجد عليه‏.‏
    وأيضًا، في الصحيحين عن أنس بن مالك‏:‏ أن جدته مليكة دعت رسول اللّه ﷺ لطعام صنعته فأكل منه ثم قال‏:‏ ‏"‏قوموا فلأصل لكم‏"‏، قال أنس‏:‏ فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول اللّه ﷺ، فصففت أنا واليتيم من ورائه، والعجوز من ورائنا، فصلي لنا رسول اللّه ﷺ ركعتين، ثم انصرف‏.‏
    وفي البخاري وسنن أبي داود عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رجل من الأنصار‏:‏ يارسول اللّه، إني رجل ضخم وكان ضخما لا أستطيع أن أصلي معك، وصنع له طعامًا ودعاه إلى بيته، وقال‏:‏ صل حتى أراك كيف تصلي فأقتدي بك، فنضحوا له طرف حصير لهم، فقام فصلي ركعتين، قيل لأنس‏:‏ أكان يصلي ‏[‏الضحي‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ لم أره صلى إلا يومئذ‏.‏ وفي سنن أبي داود عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول اللّه ﷺ كان يزور أم سليم، فتدركه الصلاة أحيانًا، فيصلي على بساط لها، وهو حصير تنضحه بالماء‏.‏ ولمسلم عن أبي سعيد الخدري‏:‏ أنه دخل على رسول اللّه ﷺ قال‏:‏

    ج/ 22 ص -174- فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي سلمة عن عائشة قالت‏:‏ كنت أنام بين يدي رسول اللّه ﷺ ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما قالت‏:‏ والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح‏.‏
    وعن عروة عن عائشة‏:‏ أن رسول اللّه ﷺ كان يصلي وهي معترضة فيما بينه وبين القبلة، على فراش أهله، اعتراض الجنازة‏.‏ وفي لفظ عن عراك عن عروة أن النبي ﷺ كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه‏.‏ وهذه الألفاظ كلها للبخاري، استدلوا بها في باب الصلاة على الفرش، وذكر اللفظ الأخير مرسلا؛ لأنه في معني التفسير للمسند أن عروة إنما سمع من عائشة، وهو أعلم بما سمع منها‏.‏
    ولا نزاع بين أهل العلم في جواز الصلاة والسجود على المفارش إذا كانت من جنس الأرض، كالخُمْرَة والحصير ونحوه، وإنما تنازعوا في كراهة ذلك على ما ليس من جنس الأرض، كالأنطاع المبسوطة من جلود الأنعام، وكالبسط والزرابي المصبوغة من الصوف، وأكثر أهل العلم يرخصون في ذلك أيضًا وهو مذهب أهل الحديث كالشافعي وأحمد، ومذهب أهل الكوفة كأبي حنيفة وغيرهم‏.‏ وقد استدلوا على جواز ذلك أيضًا بحديث عائشة، فإن الفراش لم يكن من جنس

    ج/ 22 ص -175- الأرض، وإنما كان من أدم أو صوف‏.‏
    وعن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ كان النبي ﷺ يصلي على الحصير، وعلي الفروة المدبوغة‏.‏ رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي عون محمد بن عبد اللّه بن سعيد الثقفي عن أبيه عن المغيرة‏.‏ قال أبو حاتم الرازي‏:‏ عبد اللّه بن سعيد مجهول‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أن النبي ﷺ صلى على بساط‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه‏.‏ وفي تاريخ البخاري عن أبي الدرداء قال‏:‏ ما أبالي لو صليت على خمر‏.‏
    وإذا ثبت جواز الصلاة على ما يفرش بالسنة والإجماع علم أن النبي ﷺ لم يمنعهم أن يتخذوا شيئًا يسجدون عليه يتقون به الحر، ولكن طلبوا منه تأخير الصلاة زيادة على ما كان يؤخرها فلم يجبهم، وكان منهم من يتقي الحر إما بشيء منفصل عنه، وإما بما يتصل به من طرف ثوبه‏.‏
    فإن قيل‏:‏ ففي حديث الخُمْرَة حجة لمن يتخذ السجادة، كما قد احتج بذلك بعضهم‏.‏
    قيل‏:‏ الجواب عن ذلك من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن النبي ﷺ لم يكن يصلي على الخُمْرَة

    ج/ 22 ص -176- دائمًا، بل أحيانًا، كأنه كان إذا اشتد الحر يتقي بها الحر، ونحو ذلك‏.‏ بدليل ما قد تقدم من حديث أبي سعيد أنه رأي أثر الماء والطين في جبهته وأنفه، فلم يكن في هذا حجة لمن يتخذ السجادة يصلي عليها دائمًا‏.‏
    والثاني‏:‏ قد ذكروا أنها كانت لموضع سجوده، لم تكن بمنزلة السجادة التي تسع جميع بدنه، كأنه كان يتقي بها الحر، هكذا قال أهل الغريب‏.‏ قالوا‏:‏ ‏[‏الخمرة‏]‏ كالحصير الصغير، تعمل من سعف النخل، وتنسج بالسيور والخيوط، وهي قدر ما يوضع عليه الوجه والأنف، فإذا كبرت عن ذلك، فهي حصير؛ سميت بذلك لسترها الوجه والكعبين من حر الأرض وبردها‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها تخمر وجه المصلي، أي‏:‏ تستره‏.‏ وقيل‏:‏ لأن خيوطها مستورة بسعفها‏.‏ وقد قال بعضهم في حديث ابن عباس‏:‏ جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة بين يدي رسول اللّه ﷺ على الخمرة التي كان قاعدًا عليها فاحترقت منها مثل موضع درهم‏.‏ قال‏:‏ وهذا ظاهر في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها‏.‏ لكن هذا الحديث لا تعلم صحته، والقعود عليها لا يدل على أنها طويلة بقدر ما يصلي عليها، فلا يعارض ذلك ما ذكروه‏.‏
    الثالث‏:‏ أن الخمرة لم تكن لأجل اتقاء النجاسة، أو الاحتراز منها

    ج/ 22 ص -177- كما يعلل بذلك من يصلي على السجادة، ويقول‏:‏ إنه انما يفعل ذلك للاحتراز من نجاسة المسجد، أو نجاسة حصر المسجد وفرشه؛ لكثرة دوس العامة عليه، فإنه قد ثبت أنه كان يصلي في نعليه، وأنه صلى بأصحابه في نعليه، وهم في نعالهم، وأنه أمر بالصلاة في النعال لمخالفة اليهود، وأنه أمر إذا كان بها أذي أن تدلك بالتراب، ويصلي بها‏.‏ ومعلوم أن النعال تصيب الأرض، وقد صرح في الحديث بأنه يصلي فيها بعد ذلك الدلك، وإن أصابها أذي‏.‏
    فمن تكون هذه شريعته وسنته، كيف يستحب أن يجعل بينه وبين الأرض حائلا لأجل النجاسة‏؟‏ فإن المراتب أربع‏:‏
    أما الغلاة من الموسوسين، فإنهم لا يصلون على الأرض، ولا على ما يفرش للعامة على الأرض، لكن على سجادة ونحوها‏.‏ وهؤلاء كيف يصلون في نعالهم، وذلك أبعد من الصلاة على الأرض‏؟‏ فإن النعال قد لاقت الطريق التي مشوا فيها، واحتمل أن تلقي النجاسة، بل قد يقوي ذلك في بعض المواضع، فإذا كانوا لا يصلون على الأرض مباشرين لها بأقدامهم، مع أن ذلك الموقف الأصل فيه الطهارة، ولا يلاقونه إلا وقت الصلاة، فكيف بالنعال التي تكررت ملاقاتها للطرقات، التي تمشي فيها البهائم والآدميون، وهي مظنة النجاسة‏؟‏ ولهذا هؤلاء إذا صلوا على جنازة وضعوا أقدامهم

    ج/ 22 ص -178- على ظاهر النعال؛ لئلا يكونوا حاملين للنجاسة، ولا مباشرين لها‏.‏ ومنهم من يتورع عن ذلك، فإن في الصلاة على ما في أسفله نجاسة خلافا معروفا، فيفرش لأحدهم مفروش على الأرض‏.‏ وهذه المرتبة أبعد المراتب عن السنة‏.‏
    الثانية‏:‏ أن يصلي على الحصير ونحوها دون الأرض وما يلاقيها‏.‏
    الثالثة‏:‏ أن يصلي على الأرض، ولا يصلي في النعل الذي تكرر ملاقاتها للطرقات، فإن طهارة ما يتحري الأرض قد يكون طاهرًا، واحتمال تنجيسه بعيد، بخلاف أسفل النعل‏.‏
    الرابعة‏:‏ أن يصلي في النعلين، وإذا وجد فيهما أذي دلكهما بالتراب كما أمر بذلك النبي ﷺ، فهذه المرتبة هي التي جاءت بها السنة‏.‏ فعلم أن من كانت سنته هي هذه المرتبة الرابعة، امتنع أن يستحب أن يجعل بينه وبين الأرض حائلًا من سجادة وغيرها؛ لأجل الاحتراز من النجاسة‏.‏ فلا يجوز حمل حديث الخمرة على أنه وضعها لاتقاء النجاسة فبطل استدلالهم بها على ذلك‏.‏ وأما إذا كانت لاتقاء الحر، فهذا يستعمل إذا احتيج إليه لذلك، وإذا استغني عنه لم يفعل‏.‏
    الرابع‏:‏ أن الخُمْرَة لم يأمر النبي ﷺ بها الصحابة،

    ج/ 22 ص -179- ولم يكن كل منهم يتخذ له خُمْرَة، بل كانوا يسجدون على التراب والحصى كما تقدم‏.‏ ولو كان ذلك مستحبا أو سنة، لفعلوه، ولأمرهم به، فعلم أنه كان رخصة لأجل الحاجة إلى ما يدفع الأذى عن المصلى‏.‏ وهم كانوا يدفعون الأذى بثيابهم ونحوها‏.‏ ومن المعلوم أن الصحابة في عهده وبعده أفضل منا‏.‏ وأتبع للسنة، وأطوع لأمره‏.‏ فلو كان المقصود بذلك ما يقصده متخذو السجادات، لكان الصحابة يفعلون ذلك‏.‏
    الوجه الخامس‏:‏ أن المسجد لم يكن مفروشًا، بل كان ترابًا، وحصى‏.‏ وقد صلى النبي ﷺ على الحصير، وفراش امرأته، ونحو ذلك، ولم يصل هناك لا على خُمْرَة، ولا سجادة ولا غيرها‏.‏
    فإن قيل‏:‏ ففي حديث ميمونة وعائشة ما يقتضى أنه كان يصلي على الخمرة في بيته، فإنه قال‏:‏ ‏"‏ ناوليني الخمرة من المسجد‏"‏ ‏.‏ وأيضًا، ففي حديث ميمونة المتقدم ما يشعر بذلك‏.‏
    قيل‏:‏ من اتخذ السجادة ليفرشها على حصر المسجد، لم يكن له في هذا الفعل حجة في السنة، بل كانت البدعة في ذلك منكرة من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن هؤلاء يتقى أحدهم أن يصلي على الأرض حذرًا أن

    ج/ 22 ص -180- تكون نجسة، مع أن الصلاة على الأرض سنة ثابتة بالنقل المتواتر، فقد قال ﷺ‏:‏ ‏"‏جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا‏.‏ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره‏"‏‏.‏ ولا يشرع اتقاء الصلاة عليها لأجل هذا‏.‏ بل قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله ﷺ ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏.‏ أو كما قال‏.‏ وفي سنن أبي داود‏:‏ تبول، وتقبل، وتدبر، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏.‏ وهذا الحديث احتج به من رأى أن النجاسة إذا أصابت الأرض فإنها تطهر بالشمس والريح، ونحو ذلك، كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏
    واحتجوا أيضًا بأن النبي ﷺ أمر بدلك النعل النجس بالأرض وجعل التراب لها طهورًا، فإذا كان طهورًا في إزالة النجاسة عن غيره، فلأن يكون طهورًا في إزالة النجاسة عن نفسه بطريق الأولى‏.‏ وهذا القول قد يقول به من لا يقول‏:‏ إن النجاسة تطهر بالاستحالة‏.‏ فإن أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد تطهر بذلك، مع قول هؤلاء إن النجاسة لا تطهر بالاستحالة‏.‏
    وأما من قال‏:‏ إن النجاسة تطهر بالاستحالة كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد القولين في مذهب مالك، وهو مذهب

    ج/ 22 ص -181- أبي حنيفة، وأهل الظاهر، وغيرهم فالأمر على قول هؤلاء أظهر‏.‏ فإنهم يقولون‏:‏ إن الروث النجس إذا صار رمادًا ونحوه، فهو طاهر، وما يقع في الملاحة من دم وميتة ونحوهما إذا صار ملحًا، فهو طاهر‏.‏
    وقد اتفقوا جميعهم أن الخمر إذا استحالت بفعل الله سبحانه فصارت خلا طهرت‏.‏ وثبت ذلك عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، فسائر الأعيان إذا انقلبت، يقيسونها على الخمر المنقلبة‏.‏ ومن فرق بينهما يعتذر بأن الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة؛ لأن العصير كان طاهرًا‏.‏ فلما استحال خمرًا نجس، فإذا استحال خلا طهر‏.‏
    وهذا قول ضعيف‏.‏ فإن جميع النجاسات إنما نجست أيضًا بالاستحالة‏.‏ فإن الطعام والشراب يتناوله الحيوان طاهرًا في حال الحياة ثم يموت فينجس، وكذلك الخنزير والكلب والسباع أيضًا عند من يقول بنجاستها إنما خلقت من الماء والتراب الطاهرين‏.‏
    وأيضًا، فإن هذا الخل والملح ونحوهما أعيان طيبة طاهرة، داخلة في قوله تعالى‏:‏
    ‏"‏وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏‏.‏ فللمحرم المنجس لها أن يقول‏:‏ إنه حرمها، لكونها داخلة في المنصوص، أو لكونها في معنى الداخلة فيه، فكلا الأمرين منتف، فإن النص لا يتناولها،

    ج/ 22 ص -182- ومعنى النص الذي هو الخبث منتف فيها، ولكن كان أصلها نجسًا، وهذا لا يضر، فإن الله يخرج الطيب من الخبيث، ويخرج الخبيث من الطيب‏.‏ ولا ريب أن هذا القول أقوى في الحجة نصًا وقياسًا‏.‏
    وعلى ما تقدم ذكره ينبنى طهارة المقابر‏.‏ فإن القائلين بنجاسة المقبرة العتيقة‏.‏ يقولون‏:‏ إنه خالط التراب صديد الموتى ونحوه، واستحال عن ذلك، فينجسونه‏.‏ وأما على قول الاستحالة وغيره من الأقوال، فلا يكون التراب نجسًا،وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من أن مسجد رسول الله ﷺ كان حائطًا لبنى النجار، وكان فيه قبور المشركين، وخرب، ونخل، فأمر النبي ﷺ بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطعت، وبالخرب فسويت، وجعل قبلة للمسجد‏.‏‏.‏ فهذا كان مقبرة للمشركين‏.‏ ثم إن النبي ﷺ لما أمر بنبشهم، لم يأمر بنقل التراب، الذي لاقاهم، وغيره من تراب المقبرة، ولا أمر بالاحتراز من العذرة‏.‏ وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، لكن الغرض التنبيه على أن ما عليه أكثر أهل الوسواس من توقى الأرض وتنجيسها باطل بالنص‏.‏ وإن كان بعضه فيه نزاع، وبعضه باطل بالإجماع، أو غيره من الأدلة الشرعية‏.‏

    ج/ 22 ص -183- الوجه الثانى‏:‏ أن هؤلاء يفترش أحدهم السجادة على مصليات المسلمين من الحصر والبسط، ونحو ذلك، مما يفرش في المساجد، فيزدادون بدعة على بدعتهم‏.‏ وهذا الأمر لم يفعله أحد من السلف، ولم ينقل عن النبي ﷺ ما يكون شبهة لهم، فضلاً عن أن يكون دليلا، بل يعللون أن هذه الحصر يطؤها عامة الناس، ولعل أحدهم أن يكون قد رأى أو سمع أنه في بعض الأوقات بال صبي، أو غيره على بعض حصر المسجد، أو رأى عليه شيئًا من ذرق الحمام، أو غيره، فيصير ذلك حجة في الوسواس‏.‏
    وقد علم بالتواتر أن المسجد الحرام مازال يطأ عليه المسلمون على عهد رسول الله ﷺ وعهد خلفائه، وهناك من الحمام ما ليس بغيره، ويمر بالمطاف من الخلق ما لا يمر بمسجد من المساجد، فتكون هذه الشبهة التي ذكرتموها أقوى‏.‏ ثم إنه لم يكن النبي ﷺ وخلفاؤه وأصحابه يصلي هناك على حائل، ولا يستحب ذلك، فلو كان هذا مستحبًا كما زعمه هؤلاء، لم يكن النبي ﷺ وخلفاؤه وأصحابه متفقين على ترك المستحب الأفضل‏.‏ ويكون هؤلاء أطوع لله وأحسن عملاً من النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه، فإن هذا خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع‏.‏
    وأيضًا، فقد كانوا يطؤون مسجد رسول الله ﷺ

    ج/ 22 ص -184- بنعالهم وخفافهم، ويصلون فيه مع قيام هذا الاحتمال، ولم يستحب لهم هذا الاحتراز الذي ابتدعه هؤلاء، فعلم خطؤهم في ذلك‏.‏ وقد يفرقون بينهما بأن يقولوا‏:‏ الأرض تطهر بالشمس والريح والاستحالة‏.‏ دون الحصير‏.‏ فيقال‏:‏ هذا إذا كان حقًا فإنما هو من النجاسة المخففة‏.‏ وذلك يظهر بالوجه الثالث‏:‏
    وهو أن النجاسة لا يستحب البحث عما لم يظهر منها، ولا الاحتراز عما ليس عليه دليل ظاهر؛ لاحتمال وجوده‏.‏ فإن كان قد قال طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ إنه يستحب الاحتراز عن المشكوك فيه مطلقًا، فهو قول ضعيف‏.‏ وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر هو وصاحب له بمكان، فسقط على صاحبه ماء من ميزاب، فنادى صاحبه‏:‏ يا صاحب الميزاب أماؤك طاهر أم نجس‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ ياصاحب الميزاب، لا تخبره، فإن هذا ليس عليه فنهى عمر عن إخباره؛ لأنه تكلف من السؤال ما لم يؤمر به‏.‏ وهذا قد ينبني على أصل‏:‏
    وهو أن النجاسة إنما يثبت حكمها مع العلم، فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره، وأحمد في أقوى الروايتين، وسواء كان علمها ثم نسيها، أو جهلها ابتداء، لما تقدم من

    ج/ 22 ص -185- أن النبي ﷺ صلى في نعليه ثم خلعهما في أثناء الصلاة، لما أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته، ولم يستأنفها، مع كون ذلك موجودًا في أول الصلاة، لكن لم يعلم به، فتكلفه للخلع في أثنائها، مع أنه لولا الحاجة، لكان عبثًا أو مكروهًا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ يدل على أنه مأمور به من اجتناب النجاسة مع العلم، ومظنة تدل على العفو عنها في حال عدم العلم بها‏.‏
    وقد روى أبو داود أيضًا عن أم جَحْدَر العامرية، أنها سألت عائشة عن دم الحيض يصيب الثوب، فقالت‏:‏ كنت مع رسول الله ﷺ وعلينا شعارنا، وقد ألقينا فوقه كساء، فلما أصبح رسول الله ﷺ، أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة ثم جلس، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، هذه لمعة من دم، فقبض رسول الله ﷺ ما يليها، فبعث بها إليَّ مَصْرُورَة في يد غلام، فقال‏:‏ ‏"‏اغسلي هذا، وأجفيها، وأرسلي بها إليَّ‏"‏، فدعوت بقصعتي فغسلتها، ثم أجففتها فأعدتها إليه، فجاء رسول الله ﷺ نصف النهار وهي عليه‏.‏
    وفي هذا الحديث لم يأمر المأمومين بالإعادة، ولا ذكر لهم أنه يعيد، وأن عليه الإعادة، ولا ذكرت ذلك عائشة، وظاهر هذا أنه لم يعد‏.‏ ولأن النجاسة من باب المنهي عنه في الصلاة، وباب المنهي عنه

    ج/ 22 ص -186- معفو فيه عن المخطئ والناسي‏.‏ كما قال في دعاء الرسول والمؤمنين‏:‏ ‏"‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة‏:‏ أن الله استجاب هذا الدعاء‏.‏
    ولأن الأدلة الشرعية دلت على أن الكلام ونحوه من مبطلات الصلاة يعفى فيها عن الناسي والجاهل، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏ وقد دل على ذلك حديث ذى اليدين ونحوه، وحديث معاوية بن الحكم السلمي لما شمت العاطس في الصلاة، وحديث ابن مسعود المتفق عليه في التشهد لما كانوا يقولون أولاً‏:‏ السلام على الله قبل عباده، فنهاهم عن ذلك، وقال‏:‏ إن الله هو السلام، وأمرهم بالتشهد المشهور، ولم يأمرهم بالإعادة، وكذلك حديث الأعرابى الذي قال في دعائه‏:‏ اللهم ارحمني وارحم محمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، وأمثال ذلك‏.‏
    فهذا ونحوه مما يبين أن الأمور المنهي عنها في الصلاة وغيرها يعفى فيها عن الناسي والمخطئ، ونحوهما من هذا الباب‏.‏
    وإذا كان كذلك، فإذا لم يكن عالمًا بالنجاسة صحت صلاته باطنا وظاهرًا، فلا حاجة به حينئذ عن السؤال عن أشياء إن أبديت ساءته، قد عفا الله عنها‏.‏ وهؤلاء قد يبلغ الحال بأحدهم إلى أن يكره الصلاة

    ج/ 22 ص -187- إلا على سجادة، بل قد جعل الصلاة على غيرها محرمًا، فيمتنع منه امتناعه من المحرم‏.‏ وهذا فيه مشابهة لأهل الكتاب الذين كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم، فإن الذي لا يصلي إلا على ما يصنع للصلاة من المفارش، شبيه بالذي لا يصلي إلا فيما يصنع للصلاة من الأماكن‏.‏
    وأيضًا، فقد يجعلون ذلك من شعائر أهل الدين، فيعدون ترك ذلك في قلة الدين، ومن قلة الاعتناء بأمر الصلاة، فيجعلون ما ابتدعوه من الهدي الذي ما أنزل به من سلطان أكمل من هدى محمد ﷺ، وأصحابه‏.‏ وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه، وإظهار المسابح في يده، وجعله من شعار الدين والصلاة‏.‏ وقد علم بالنقل المتواتر، أن النبي ﷺ وأصحابه لم يكن هذا شعارهم، وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏اعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات، مستنطقات‏"‏ وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى‏.‏ والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه، ومنهم من رخص فيه، لكن لم يقل أحد‏:‏ إن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع، وغيرها، وإذا كان هذا مستحبًا يظهر فقصد إظهار ذلك والتميز به على الناس مذموم، فإنه إن لم يكن رياء فهو تشبه بأهل الرياء، إذ كثير ممن يصنع هذا يظهر منه الرياء ولو كان رياء بأمر مشروع لكانت إحدى المصيبتين، لكنه رياء ليس

    ج/ 22 ص -188- مشروعًا‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏"‏[‏الملك‏:‏2‏]‏‏.‏ قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه ‏:‏ أخلصه وأصوبه‏.‏ قالوا‏:‏ يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا‏.‏ والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة‏.‏
    وهذا الذي قاله الفضيل متفق عليه بين المسلمين، فإنه لابد له في العمل أن يكون مشروعًا مأمورًا به، وهو العمل الصالح‏.‏ ولابد أن يقصد به وجه الله‏.‏ كما قال تعالى‏:‏
    ‏"‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول‏:‏ اللهم اجعل عملى كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا‏.‏ ومنه قوله تعالى ‏:‏ ‏"‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏
    وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏يقول الله تعالى ‏:‏ أنا أغنى الشركاء عن الشرك‏.‏ من عمل عملاً أشرك فيه غيري، فإني منه بريء، وهو كله للذي أشرك به‏"‏‏.‏ وفي السنن عن العرباض بن سارية قال‏:‏ وعظنا رسول الله

    ج/ 22 ص -189- ﷺ موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب فقال قائل‏:‏ يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ‏.‏ وإياكم ومحدثات الأمور‏.‏ فإن كل بدعة ضلالة‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر، أن رسول الله ﷺ كان يقول في خطبته‏:‏ ‏"‏إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏"‏‏.‏
    وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة، أو غيرها، قبل ذهابهم إلى المسجد، فهذا منهى عنه باتفاق المسلمين، بل محرم‏.‏ وهل تصح صلاته على ذلك المفروش‏؟‏ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان‏.‏ ومن صلى في بقعة من المسجد مع منع غيره أن يصلي فيها، فهل هو كالصلاة في الأرض المغصوبة‏؟‏ على وجهين‏.‏ وفي الصلاة في الأرض

    ج/ 22 ص -190- المغصوبة قولان للعلماء‏.‏ وهذا مستند من كره الصلاة في المقاصير التي يمنع الصلاة فيها عموم الناس‏.‏
    والمشروع في المسجد أن الناس يتمون الصف الأول، كما قال النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ وكيف تصف الملائكة عند ربها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يتمون الصف الأول، فالأول، ويتراصون في الصف‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه‏"‏‏.‏
    والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر هو، فقد خالف الشريعة من وجهين‏:‏ من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم‏.‏ ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد، ومنعه السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيه، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى الناس إذا حضروا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏الذي يتخطى رقاب الناس، يتخذ جسرًا إلى جهنم‏"‏ وقال النبي ﷺ للرجل‏:‏ ‏"‏اجلس فقد آذيت‏"‏‏.‏
    ثم إذا فرش هذا فهل لمن سبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه‏؟‏ فيه قولان‏:‏

    ج/ 22 ص -191-أحدهما‏:‏ ليس له ذلك؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه‏.‏
    والثاني‏:‏ وهو الصحيح أن لغيره رفعه، والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم، وهو مأمور بذلك أيضًا‏.‏ وهو لا يتمكن من فعل هذا المأمور واستيفاء هذا الحق إلا برفع ذلك المفروش‏.‏ وما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به‏.‏
    وأيضًا، فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب، وذلك منكر، وقد قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه‏.‏ فإن لم يستطع، فبقلبه‏.‏ وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏ لكن ينبغي أن يراعى في ذلك ألا يؤول إلى منكر أعظم منه‏.‏ والله تعالى أعلم، والحمد لله وحده‏.
    وسئل رحمه الله عن الحديث‏:‏ ‏"‏أن النبي ﷺ صلى على سجادة‏"‏، فقد أورد شخص عن عبد الله بن عمر عن عائشة عن النبي ﷺ‏:‏ أنه توضأ وقال‏:‏ ‏
    "‏يا عائشة، ائتيني بالخمرة فأتت به‏.‏ فصلى عليه‏"‏‏.‏
    فأجاب‏:‏
    لفظ الحديث‏:‏ ‏"‏أنه طلب الخمرة‏"‏ والخمرة‏:‏ شيء يصنع من الخوص،

    ج/ 22 ص -192- فسجد عليه يتقي به حر الأرض، وأذاها‏.‏ فإن حديث الخمرة صحيح‏.‏ وأما اتخاذها كبيرة يصلي عليها يتقي بها النجاسة ونحوها، فلم يكن النبي ﷺ يتخذ سجادة يصلي عليها، ولا الصحابة، بل كانوا يصلون حفاة ومنتعلين، ويصلون على التراب والحصير، وغير ذلك، من غير حائل‏.‏
    وقد ثبت عنه في الصحيحين‏:‏ أنه كان يصلي في نعليه، وقال‏:‏ ‏"‏إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم‏"‏ وصلى مرة في نعليه وأصحابه في نعالهم فخلعهما في الصلاة، فخلعوا، فقال‏:‏ ‏"‏ما لكم خلعتم نعالكم‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ رأيناك خلعت فخلعنا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذى، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور‏"‏‏.‏
    فإذا كان النبي ﷺ وأصحابه يصلون في نعالهم، ولا يخلعونها، بل يطؤون بها على الأرض، ويصلون فيها، فكيف يظن أنه كان يتخذ سجادة يفرشها على حصير، أو غيره، ثم يصلي عليها‏؟‏ فهذا لم يكن أحد يفعله من الصحابة‏.‏ وينقل عن مالك أنه لما قدم بعض العلماء، وفرش في مسجد النبي ﷺ شيئًا من ذلك أمر بحبسه‏.‏ وقال‏:‏ أما علمت أن هذا في مسجدنا بدعة‏؟‏‏!‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -193-وسئل أيضًا رحمه الله
    عمن تَحَجَّر موضعًا من المسجد، بسجادة أو بساط أو غير ذلك‏.‏ هل هو حرام‏؟‏ وإذا صلى إنسان على شيء من ذلك بغير إذن مالكه هل يكره أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس لأحد أن يتَحَجَّر من المسجد شيئًا لا سجادة يفرشها قبل حضوره، ولا بساطا، ولا غير ذلك‏.‏ وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها‏.‏ في أصح قولي العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن دخول النصراني أو اليهودي في المسجد بإذن المسلم، أو بغير إذنه أو يتخذه طريقًا‏.‏ فهل يجوز‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقًا، فكيف إذا اتخذه الكافر طريقًا‏؟‏ فإن هذا يمنع بلا ريب‏.‏

    ج/ 22 ص -194- وأما إذا كان دخله ذمي لمصلحة، فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا يجوز‏.‏ وهو مذهب مالك؛ لأن ذلك هو الذي استقر عليه عمل الصحابة‏.‏
    والثاني‏:‏ يجوز‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وفي اشتراط إذن المسلم وجهان، في مذهب أحمد، وغيره‏.‏
    وسئل‏:‏هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر، والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا‏؟‏ وهل يمهد القبر، أو يعمل عليه حاجز أو حائط‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر؛ لأن النبي ﷺ قال‏
    :‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏

    ج/ 22 ص -195- وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد‏.‏ فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر‏:‏ إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديدًا‏.‏
    وإن كان المسجد بني بعد القبر‏:‏ فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلي فيه فرض، ولا نفل، فإنه منهي عنه‏.‏
    وسئل عن جماعة نازلين في الجامع مقيمين ليلاً ونهارًا وأكلهم وشربهم ونومهم وقماشهم وأثاثهم، الجميع في الجامع، ويمنعون من ينزل عندهم من غير جنسهم، وحكروا الجامع، ثم إن جماعة دخلوا بعض المقاصير يقرؤون القرآن احتسابًا، فمنعهم بعض المجاورين وقال هذا موضعنا‏.‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، ليس لأحد من الناس أن يختص بشيء من المسجد بحيث يمنع غيره منه دائمًا، بل قد نهى النبي ﷺ عن إيطان كإيطان البعير‏.‏
    قال العلماء‏:‏ معناه أن يتخذ الرجل مكانًا من المسجد لا يصلي

    ج/ 22 ص -196- إلا فيه، فإذا كان ليس له ملازمة مكان بعينه للصلاة، كيف بمن يتحجر بقعة دائمًا‏.‏ هذا لو كان إنما يفعل فيها ما يبنى له المسجد من الصلاة والذكر ونحو ذلك، فكيف إذا اتخذ المسجد بمنزلة البيوت فيه أكله وشربه ونومه وسائر أحواله التي تشتمل على ما لم تبن المساجد له دائمًا‏؟‏ فإن هذا يمنع باتفاق المسلمين، فإنما وقعت الرخصة في بعض ذلك لذوى الحاجة، مثل ما كان أهل الصفة؛ كان الرجل يأتى مهاجرًا إلى المدينة، وليس له مكان يأوى إليه، فيقيم بالصفة إلى أن يتيسر له أهل أو مكان يأوى إليه‏.‏ ثم ينتقل‏.‏ ومثل المسكينة التي كانت تأوى إلى المسجد، وكانت تَقَمُّه‏.‏ ومثل ما كان ابن عمر يبيت في المسجد، وهو عزب؛ لأنه لم يكن له بيت يأوي إليه حتى تزوج‏.‏
    ومن هذا الباب علي بن أبي طالب، لما تقاول هو وفاطمة ذهب إلى المسجد فنام فيه‏.‏ فيجب الفرق بين الأمر اليسير، وذوى الحاجات، وبين ما يصير عادة ويكثر، وما يكون لغير ذوي الحاجات؛ ولهذا قال ابن عباس‏:‏ لا تتخذوا المسجد مبيتًا ومقيلاً‏.‏ هذا، ولم يفعل فيه إلا النوم، فكيف ما ذكر من الأمور‏؟‏‏!‏ والعلماء قد تنازعوا في المعتكف هل ينبغي له أن يأكل في المسجد، أو في بيته، مع أنه مأمور بملازمة المسجد، وألا يخرج منه إلا لحاجة‏؟‏ والأئمة كرهوا اتخاذ المقاصير في المسجد، لما أحدثها بعض الملوك؛ لأجل الصلاة خاصة، وأولئك إنما

    ج/ 22 ص -197- كانوا يصلون فيها خاصة‏.‏
    فأما اتخاذها للسكنى والمبيت وحفظ القماش والمتاع فيها، فما علمت مسلمًا ترخص في ذلك‏.‏ فإن هذا يجعل المسجد بمنزلة الفنادق التي فيها مساكن مُتَحَجَّرة، والمسجد لابد أن يكون مشتركًا بين المسلمين، لا يختص أحد بشيء منه، إلا بمقدار لبثه للعمل المشروع فيه، فمن سبق إلى بقعة من المسجد لصلاة أو قراءة أو ذكر أو تعلم عِلْم أو اعتكاف ونحو ذلك، فهو أحق به حتى يقضى ذلك العمل، ليس لأحد إقامته منه، فإن النبي ﷺ نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ولكن يوسع ويفسح‏.‏ وإذا انتقض وضوؤه ثم عاد فهو أحق بمكانه، فإن النبي ﷺ سَنَّ ذلك، قال‏:‏
    ‏"‏إذا قام الرجل عن مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به‏"‏‏.‏
    وأما أن يختص بالمقام والسكنى فيه، كما يختص الناس بمساكنهم، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين‏.‏ وأبلغ ما يكون من المقام في المسجد مقام المعتكف، كما كان النبي ﷺ يعتكف في المسجد، وكان يحتجر له حصيرًا فيعتكف فيه، وكان يعتكف في قبة، وكذلك كان الناس يعتكفون في المساجد، ويضربون لهم فيه القباب فهذا مدة الاعتكاف خاصة‏.‏ والاعتكاف عبادة شرعية، وليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لابد منه، والمشروع له

    ج/ 22 ص -198- ألا يشتغل إلا بقربة إلى الله، والذي يتخذه سكنًا ليس معتكفًا بل يشتمل على فعل المحظور، وعلى المنع من المشروع، فإن من كان بهذه الحال، منع الناس من أن يفعلوا في تلك البقعة ما بنى له المسجد من صلاة وقراءة وذكر، كما في الاستفتاء أن بعضهم يمنع من يقرأ القرآن في تلك البقعة، كغيره من القراء، والذي فعله هذا الظالم منكر من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ اتخاذ المسجد مبيتًا ومقيلاً وسكنًا، كبيوت الخانات، والفنادق‏.‏
    والثانى‏:‏ منعه من يقرأ القرآن حيث يشرع‏.‏
    والثالث‏:‏ منع بعض الناس دون بعض، فإن احتج بأن أولئك يقرؤون لأجل الوقف الموقوف عليهم، وهذا ليس من أهل الوقف، كان هذا العذر أقبح من المنع؛ لأن من يقرأ القرآن محتسبًا، أولى بالمعاونة ممن يقرأه لأجل الوقف، وليس للواقف أن يغير دين الله، وليس بمجرد وقفه يصير لأهل الوقف في المسجد حق لم يكن لهم قبل ذلك؛ ولهذا لو أراد الواقف أن يحتجر بقعة من المسجد لأجل وقفه بحيث يمنع غيره منها، لم يكن له ذلك‏.‏ ولو عين بقعة من المسجد لما أمر به من قراءة أو تعليم ونحو ذلك لم تتعين تلك البقعة، كما لا تتعين فى

    ج/ 22 ص -199- النذر‏.‏ فإن الإنسان لو نذر أن يصلي ويعتكف في بقعة من المسجد لم تتعين تلك البقعة، وكان له أن يصلي ويعتكف في سائر بقاع المسجد عند عامة أهل العلم، لكن هل عليه كفارة يمين‏؟‏ على وجهين في مذهب أحمد‏.‏
    وأما الأئمة الثلاثة، فلا يوجبون عليه كفارة وهذا لأنه لا يجب بالنذر إلا ما كان طاعة بدون النذر، وإلا فالنذر لا يجعل ما ليس بعبادة عبادة، والناذر ليس عليه أن يوقف إلا ما كان طاعة لله، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏"‏‏.‏
    ولهذا لو نذر حرامًا أو مكروهًا أو مباحًا مستوى الطرفين، لم يكن عليه الوفاء به‏.‏
    وفى الكفارة قولان أوجبها في المشهور أحمد، ولم يوجبها الثلاثة‏.‏
    وكذلك شرط الواقف والبائع وغيرهما‏.‏
    كما قال النبي صلى الله عليه
    وسلم‏:‏ ‏"‏ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله‏؟‏ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق‏"‏‏.‏ وهذا كله

    ج/ 22 ص -200- لأنه ليس لأحد أن يغير شريعته التي بعث بها رسوله، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا يغير أحكام المساجد عن حكمها الذي شرع الله ورسوله‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن النوم في المسجد، والكلام والمشي بالنعال في أماكن الصلاة، هل يجوز ذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما النوم أحيانًا للمحتاج مثل الغريب والفقير الذي لا مسكن له فجائز‏.‏ وأما اتخاذه مبيتًا ومقيلاً فينهون عنه‏.‏
    وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريمًا‏.‏ وكذلك المكروه‏.‏ ويكره فيه فضول المباح‏.‏
    وأما المشي بالنعال فجائز، كما كان الصحابة يمشون بنعالهم في مسجد النبي ﷺ‏.‏ لكن ينبغى للرجل إذا أتى المسجد أن يفعل ما أمره به رسول الله ﷺ فينظر في نعليه، فإن كان بهما أذى، فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -201-وسئل عن السواك وتسريح اللحية في المسجد‏:‏ هل هو جائز أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما السواك في المسجد فما علمت أحدًا من العلماء كرهه، بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد، ويجوز أن يبصق الرجل في ثيابه في المسجد، ويمتخط في ثيابه، باتفاق الأئمة وبسنة رسول الله ﷺ الثابتة عنه، بل يجوز التوضؤ في المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء‏.‏ فإذا جاز الوضوء فيه مع أن الوضوء يكون فيه السواك، وتجوز الصلاة فيه، والصلاة يستاك عندها فكيف يكره السواك‏؟‏‏!‏ وإذا جاز البصاق والامتخاط فيه، فكيف يكره السواك‏.‏
    وأما التسريح‏:‏ فإنما كرهه بعض الناس بناء على أن شَعْر الإنسان المنفصل نجس، ويمنع أن يكون في المسجد شيء نجس، أو بناء على أنه كالقذاة‏.‏ وجمهور العلماء على أن شَعْر الإنسان المنفصل عنه طاهر‏.‏ كمذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وهو الصحيح‏.‏ فإن النبي

    ج/ 22 ص -202- ﷺ حلق رأسه، وأعطى نصفه لأبى طلحة، ونصفه قَسَمَه بين الناس‏.‏
    و‏[‏باب الطهارة والنجاسة‏]‏ يشارك النبي ﷺ فيه أمته، بل الأصل أنه أسوة لهم في جميع الأحكام، إلا ما قام فيه دليل يوجب اختصاصه به‏.‏
    وأيضًا، الصحيح الذي عليه الجمهور أن شعور الميتة طاهرة، بل في أحد قولي العلماء وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين أن جميع الشعور طاهرة حتى شعر الخنزير، وعلى القولين إذا سرح شعره وجمع الشعر فلم يترك في المسجد فلا بأس بذلك‏.‏
    وأما ترك شعره في المسجد، فهذا يكره، وإن لم يكن نجسًا، فإن المسجد يصان حتى عن القذاة، التي تقع في العين‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن الضحايا‏:‏ هل يجوز ذبحها في المسجد‏؟‏ وهل تغسل الموتى، وتدفن الأجنة فيها‏؟‏ وهل يجوز تغيير وقفها من غير منفعة تعود عليها‏؟‏ وهل يجوز الاستنجاء في المسجد، والغسل‏؟‏ وإذا لم يجز، فما جزاء

    ج/ 22 ص -203- من يفعله، ولا يأتمر بأمر الله ولا ينتهى عما نهى عنه وإن أفتاه عالم سبه‏؟‏ وهل يجب على ولى الأمر زجره ومنعه، وإعادة الوقف إلى ما كان عليه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يجوز أن يذبح في المسجد‏:‏ لا ضحايا ولا غيرها، كيف والمجزرة المعدة للذبح قد كره الصلاة فيها، إما كراهية تحريم، وإما كراهية تنزيه‏؟‏‏!‏ فكيف يجعل المسجد مشابهًا للمجزرة، وفي ذلك من تلويث الدم للمسجد ما يجب تنزيهه‏؟‏‏!‏
    وكذلك لا يجوز أن يدفن في المسجد ميت‏:‏ لا صغير، ولا كبير ولا جنين، ولا غيره‏.‏ فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر‏.‏
    وأما تغيير الوقف لغير مصلحة، فلا يجوز، ولا يجوز الاستنجاء فيها‏.‏
    وأما الوضوء ففي كراهته في المسجد نزاع بين العلماء، والأرجح أنه لا يكره‏.‏ إلا أن يحصل معه امتخاط أو بصاق في المسجد، فإن البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها، فكيف بالمخاط‏.‏
    ومن لم يأتمر بما أمره الله به، وينته عما نهى الله عنه بل يرد على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإنه يعاقب العقوبة الشرعية التي توجب له ولأمثاله أداء الواجبات، وترك المحرمات‏.‏

    ج/ 22 ص -204- ولا تغسل الموتى في المسجد، وإذا أحدث في المسجد ما يضر بالمصلين أزيل ما يضرهم، وعمل بما يصلحهم، إما إعادته إلى الصفة الأولى، أو أصلح‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عمن يعلم الصبيان في المسجد‏:‏ هل يجوز له البيات في المسجد‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، يصان المسجد عما يؤذيه، ويؤذي المصلين فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره، ونحو ذلك‏.‏ لا سيما إن كان وقت الصلاة، فإن ذلك من عظيم المنكرات‏.‏
    وأما المبيت فيه‏:‏ فإن كان لحاجة كالغريب الذي لا أهل له، والغريب الفقير الذي لا بيت له، ونحو ذلك، إذا كان يبيت فيه بقدر الحاجة، ثم ينتقل فلا بأس، وأما من اتخذه مبيتًا ومقيلاً، فلا يجوز ذلك‏.‏

    ج/ 22 ص -205-وسئل رحمه الله عن مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية، ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام، ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، ليس لأحد أن يؤذى أهل المسجد‏:‏ أهل الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء، ونحو ذلك مما بنيت المساجد له، فليس لأحد أن يفعل في المسجد، ولا على بابه أو قريبًا منه ما يشوش على هؤلاء‏.‏ بل قد خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يصلون، ويجهرون بالقراءة‏.‏ فقال‏
    :‏ ‏"‏أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة‏"‏‏.‏ فإذا كان قد نهى المصلى أن يجهر على المصلى، فكيف بغيره‏؟‏‏!‏ ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد، أو فعل ما يفضى إلى ذلك، منع من ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -206-وسئل عن السؤال في الجامع‏:‏ هل هو حلال أم حرام‏؟‏ أو مكروه‏؟‏ وأن تركه أوجب من فعله‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد، إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحدًا بتخطيه رقاب الناس، ولا غير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر من حاله، ولم يجهر جهرًا يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون عِلْمًا يشغلهم به، ونحو ذلك جاز‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
    فصل
    فى ‏[‏استقبال القبلة‏]‏ وأنه لا نزاع بين العلماء في الواجب من ذلك وأن النزاع بين القائلين بالجهة والعين لا حقيقة له، قال الله تعالى ‏:‏

    ج/ 22 ص -207- ‏"‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 144 150‏]‏ وشطره‏:‏ نحوه، وتلقاؤه، كما قال‏:‏

    أقيمي أم زنباع أقيمي صدور العيش شَطْر بني تميم

    وقال‏:‏ ‏"‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏ و ‏[‏الوجهة‏]‏ هي الجهة، كما في عدة، وزنة‏.‏ أصلها‏:‏ وعْدَة، ووزْنَة‏.‏ فالقبلة هي التي تستقبل، والوجهة هي التي يوليها‏.‏
    وهو سبحانه أمره بأن يولى وجهه شطر المسجد الحرام، و‏[‏المسجد الحرام‏]‏ هو الحرم كله، كما في قوله‏:‏
    ‏"‏فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ وليس ذلك مختصًا بالكعبة، وهذا يحقق الأثر المروي‏:‏ ‏"‏الكعبة قبلة المسجد، والمسجد قبلة مكة، ومكة قبلة الحرم، والحرم قبلة الأرض‏"‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه صلى في قبلى الكعبة ركعتين، وقال‏:‏ ‏"‏هذه القبلة‏"‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا، أو غربوا‏"‏‏.‏ فنهى عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمر باستقبالها في الصلاة، فالقبلة التي نهى عن استقبالها

    ج/ 22 ص -208- واستدبارها بالغائط والبول هي القبلة التي أمر المصلى باستقبالها في الصلاة‏.‏
    وقال ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏ما بين المشرق والمغرب قبلة‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ وهكذا قال غير واحد من الصحابة مثل‏:‏ عمر، وعثمان، وعلى بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم‏.‏ ولا يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك نزاع، وهكذا نص عليه أئمة المذاهب المتبوعة، وكلامهم في ذلك معروف‏.‏ وقد حكى متأخرو الفقهاء في ذلك قولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏
    وقد تأملت نصوص أحمد في هذا الباب فوجدتها متفقة لا اختلاف فيها، وكذلك يذكر الاختلاف في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وهو عند التحقيق ليس بخلاف، بل من قال‏:‏ يجتهد أن يصلي إلى عين الكعبة، أو فرضه استقبال عين الكعبة بحسب اجتهاده فقد أصاب‏.‏ ومن قال‏:‏ يجتهد أن يصلي إلى جهة الكعبة أو فرضه استقبال القبلة فقد أصاب‏.‏ وذلك أنهم متفقون على أن من شاهد الكعبة فإنه يصلي إليها‏.‏ ومتفقون على أنه كلما قرب المصلون إليها كان صفهم أقصر من البعيدين عنها‏.‏ وهذا شأن كل ما يستقبل‏.‏
    فالصف القريب منها لا يزيد طوله على قدر الكعبة، ولو زاد

    ج/ 22 ص -209- لكان الزائد مصليًا إلى غير الكعبة‏.‏ والصف الذي خلفه يكون أطول منه وهلم جرا‏.‏ فإذا كانت الصفوف تحت سقائف المسجد، كانت منحنية بقدر ما يستقبلون الكعبة وهم يصلون إليها، وإلى جهتها أيضًا‏.‏ فإذا بعد الناس عنها كانوا مصلين إلى جهتها، وهم مصلون إليها أيضًا‏.‏ ولو كان الصف طويلاً يزيد طوله على قدر الكعبة، صحت صلاتهم باتفاق المسلمين، وإن كان الصف مستقيمًا حيث لم يشاهدوها‏.‏ ومن المعلوم أنه لو سار من الصفوف على خط مستقيم إليها، لكان ما يزيد على قدرها خارجًا عن مسافتها‏.‏
    فمن توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة فقد أخطأ‏.‏ ومن فسر وجوب الصلاة إلى العين بهذا وأوجب هذا فقد أخطأ، وإن كان هذا قد قاله قائل من المجتهدين فهذا القول خطأ خالف نص الكتاب والسنة وإجماع السلف، بل وإجماع الأمة‏.‏ فإن الأمة متفقة على صحة صلاة الصف المستطيل الذي يزيد طوله على سمت الكعبة بأضعاف مضاعفة وإن كان الصف مستقيمًا لا انحناء فيه ولا تقوس‏.‏
    فإن قيل‏:‏ مع البعد لا يحتاج إلى الانحناء والتقوس كما يحتاج إليه في القرب، كما أن الناس إذا استقبلوا الهلال أو الشمس أو جبلاً من الجبال فإنهم يستقبلونه مع كثرتهم وتفرقهم، ولو كان قريبًا لم يستقبلوه

    ج/ 22 ص -210- إلا مع القلة والاجتماع، قيل‏:‏ لا ريب أنه ليس الانحناء والتقوس في البعد بقدر الانحناء والتقوس في القرب، بل كلما زاد البعد قل الانحناء، وكلما قرب كثر الانحناء، حتى يكون أعظم الناس انحناء وتقوسًا الصف الذي يلى الكعبة، ولكن مع هذا فلابد من التقوس والانحناء في البعد إذا كان المقصود أن يكون بينه وبينها خط مستقيم، بحيث لو مشى إليه لوصل إليها؛ لكن يكون التقوس شيئًا يسيرًا جدًا، كما قيل‏:‏ إنه إذا قدر الصف ميلا وهو مثلاً في الشام كان الانحناء من كل واحد بقدر شعيرة، فإن هذا ذكره بعض من نص وجوب استقبال العين، وقال‏:‏ إن مثل هذا التقوس اليسير يعفى عنه‏.‏
    فيقال له‏:‏ فهذا معنى قولنا‏:‏ إن الواجب استقبال الجهة، وهو العفو عن وجوب تحري مثل هذا التقوس والانحناء، فصار النزاع لفظيًا لا حقيقة له‏.‏ فالمقصود أن من صلى إلى جهتها فهو مصَلٍّ إلى عينها، وإن كان ليس عليه أن يتحرى مثل هذا‏.‏ ولا يقال لمن صلى كذلك‏:‏ إنه مخطئ في الباطن معفو عنه، بل هذا مستقبل القبلة باطنًا وظاهرًا وهذا هو الذي أمر به؛ ولهذا لما بنى أصحاب رسول الله ﷺ مساجد الأمصار كان في بعضها ما لو خرج منه خط مستقيم إلى الكعبة لكان منحرفًا، وكانت صلاة المسلمين فيه جائزة باتفاق المسلمين‏.‏

    ج/ 22 ص -211- وبهذا يظهر حقيقة قول من قال‏:‏ إن من قرب منها أو من مسجد النبي ﷺ لا تكون إلا على خط مستقيم؛ لأنه لا يقر على خطأ‏.‏ فيقال‏:‏ هؤلاء اعتقدوا أن مثل هذه القبلة تكون خطأ وإنما تكون خطأ لو كان الفرض أن يتحرى استقبال خط مستقيم بين وسط أنفه وبينها، وليس الأمر كذلك، بل قد تقدم نصوص الكتاب والسنة بخلاف ذلك‏.‏ ونظير هذا قول بعضهم‏:‏ إذا وقف الناس يوم العاشر خطأ، أجزأهم‏.‏ فالصواب أن ذلك هو يوم عرفة باطنا وظاهراً، ولا خطأ في ذلك، بل يوم عرفة هو اليوم الذي يعرف فيه الناس، والهلال إنما يكون هلالا إذا استهله الناس، وإذا طلع ولم يستهلوه فليس بهلال، مع أن النزاع في الهلال مشهور‏:‏ هل هو اسم لما يطلع وإن لم يستهل به، أو لما يستهل به‏؟‏ وفيه قولان معروفان في مذهب أحمد وغيره، بخلاف النزاع في استقبال الكعبة‏.‏
    ويدل على ذلك أنه لو قيل بأن على الإنسان أن يتحرى أن يكون بين وسط أنفه وجبهته وبينها خط مستقيم، قيل فلابد من طريق يعلم بها ذلك فإن اللّه لم يوجب شيئا إلا وقد نصب على العلم به دليلا، ومعلوم أن طريق العلم بذلك لا يعرفه إلا خاصة الناس مع اختلافهم فيه، ومع كثرة الخطأ في ذلك‏.‏ ووجوب استقبال القبلة عام

    ج/ 22 ص -212- لجميع المسلمين، فلا يكون العلم الواجب خفياً لا يعلم إلا بطريق طويلة صعبة مخوفة، مع تعذر العلم بذلك أو تعسره في أغلب الأحوال‏.‏
    ولهذا، كان الذين سلكوا هذه الطريق يتكلمون بلا علم مع اختلافهم في ذلك، والدليل المشهور لهم الجدي والقطب، فمنهم من يقول‏:‏ القطب هو الجدي، وهو كوكب خفى‏.‏ وهذا خطأ من ثلاثة أوجه‏:‏ فإن القطب ليس هو الجدي، والجدي ليس بكوكب خفى؛ بل كوكب نيِّر، والقطب ليس أيضًا كوكبًا‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ الجدي هو كوكب خفى، وهو خطأ‏.‏ وجمهورهم يقولون‏:‏ القطب كوكب خفى، ويحكون قولين في القطب هل يدور أو لا يدور‏؟‏ وهذا تخليط‏.‏ فإن القطب الذي هو مركز الحركة لا يتغير عن موضعه، كما أن قطب الرحى لا يتغير عن موضعه‏.‏ ولكن هناك كوكب صغير خفى قريب منه‏.‏
    وهذا إذا سمي قطبًا كان تسميته باعتبار كونه أقرب الكواكب إلى القطب، وهذا يدور، فالكواكب تدور بلا ريب، ومدار الحركة الذي هو قطبها لا يدور بلا ريب، فحكاية قولين في ذلك، كلام من لم يميز بين هذا وهذا، والدليل الظاهر هو الجدي‏.‏ والاستدلال به على العين إنما يكون في بعض الأوقات، لا في جميعها، فإن القطب إذا كانت الشمس في وسط السماء عند تناهي قصر الظلال، يكون القطب محاذيًا للركن الشامي من البيت الذي يكون عن

    ج/ 22 ص -213- يمين المستقبل للباب، فمن كان بلده محاذيًا لهذا القطب كأهل حران ونحوهم كانت صلاتهم إلى الركن؛ ولهذا يقال أعدل القبل قبلتهم‏.‏
    ومن كان بلده غربي هؤلاء كأهل الشام فإنهم يميلون إلى جهة المشرق قليلا بقدر بعدهم عن هذا الخط، فكلما بعدوا ازدادوا في الانحراف، ومن كان شرقي هؤلاء كأهل العراق كانت قبلته بالعكس؛ ولهذا كان أهل تلك البلاد يجعلون القطب وما قرب منه خلف أقفائهم، وأهل الشام يميلون قليلا، فيجعلون ما بين الأذن اليسرى ونقرة القفا أو خلف الأذن اليسرى بحسب قرب البلد وبعده عن هؤلاء، وأهل العراق يجعلون ذلك خلف الأذن اليمنى، ومعلوم أن النبي ﷺ والصحابة لم يأمروا أحدًا بمراعاة القطب، ولا ما قرب منه، ولا الجدي، ولا بنات نعش، ولا غير ذلك‏.‏
    ولهذا أنكر الإمام أحمد على من أمر بمراعاة ذلك وأمر ألا تعتبر القبلة بالجدي، وقال‏:‏ ليس في الحديث ذكر الجدي، ولكن ما بين المشرق والمغرب قبلة، وهو كما قال‏.‏ فإنه لو كان تحديد القبلة بذلك واجبًا أو مستحبًا، لكان الصحابة أعلم بذلك، وإليه أسبق، ولكان النبي ﷺ بَيَّن ذلك‏.‏ فإنه لم يدع من الدين شيئًا إلا بينه، فكيف وقد صرح بأن ما بين المشرق والمغرب قبلة، ونهى عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول‏؟‏ ومعلوم باتفاق

    ج/ 22 ص -214- المسلمين أن المنهى عنه من ذلك ليس هو أن يكون بين المتخلى وبين الكعبة خط مستقيم، بل المنهى عنه أعم من ذلك، وهو أمر باستقبال القبلة في حال، كما نهى عن استقبالها في حال‏.‏ وإن كان النهى قد يتناول ما لا يتناوله الأمر‏.‏ لكن هذا يوافق قوله‏:‏ ‏"‏ما بين المشرق والمغرب قبلة‏"‏‏.‏
    وأيضًا، فإن تعليق الدين بذلك يفضى إلى تنازع الأمة واختلافها في دينها، واللّه قد نهى عن التفرق والاختلاف‏.‏ فإن جماهير الناس لا يعلمون ذلك تحديدًا‏.‏ وإنما هم فيه مقلدون لمن قرب ذلك‏.‏ فالتحديد في هذا متعذر أو متعسر‏.‏ ومثل هذا لا ترد به الشريعة، والذين يَدَّعُون الحساب ومعرفة ذلك تجد أكثرهم يتكلمون في ذلك بما هو خطأ، وبما إذا طولبوا بدليله رجعوا إلى مقدمات غير معلومة، وأخبار من لا يوثق بخبره‏.‏ والذين ذكروا بعض ذلك من الفقهاء هم تلقوه عن هؤلاء، ولم يحكموه، فصار مرجع أتباع هؤلاء وهؤلاء إلى تقليد يتضمن خطأ في كثير من المواضيع، ثم يدعى هذا أن هذه القبلة التي عينها هي الصواب دون ما عينه الآخر، ويدعى الآخر ضد ذلك، حتى يصير الناس أحزابًا وفرقًا، وكل ذلك مما نهى اللّه عنه ورسوله‏.‏
    وسبب ذلك أنهم أدخلوا في دينهم ما ليس منه، وشرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه، فاختلفوا في تلك البداعة التي شرعوها؛ لأنها

    ج/ 22 ص -215- لا ضابط لها، كما يختلف الذين يريدون أن يعلموا طلوع الهلال بالحساب، أو طلوع الفجر بالحساب، وهو أمر لا يقوم عليه دليل حسابى مطرد، بل ذلك متناقض مختلف، فهؤلاء أعرضوا عن الدين الواسع والأدلة الشرعية فدخلوا في أنواع من الجهل والبدع، مع دعواهم العلم والحذق، كذلك يفعل اللّه بمن خرج عن المشروع إلى البدع، وتنطع في الدين‏.‏
    وقد ثبت في الصحيح صحيح مسلم عن الأحنف بن قيس، عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏هلك المتنطعون‏"‏ قالها ثلاثًا، ورواه أيضا أحمد وأبو داود وأيضا، فإن اللّه قال‏:‏ ‏"‏فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 149‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 148‏]‏، أي‏:‏ مستقبلها‏.‏ وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏هذه القبلة‏"‏‏.‏ والقبلة ما يستقبل‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، ذلك المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا ‏"‏‏.‏
    وأجمع المسلمون على أنه يجب على المصلى استقبال القبلة في الجملة‏.‏ فالمأمور به الاستقبال للقبلة، وتولية الوجه شطر المسجد الحرام، فينظر هل الاستقبال وتولية الوجه من شرطه أن يكون وسط وجهه مستقبلا

    ج/ 22 ص -216- لها كوسط الأنف وما يحاذيه من الجبهة والذقن ونحو ذلك‏؟‏ أو يكون الشخص مستقبلا لما يستقبله إذا وجه إليه وجهه وإن لم يحاذه بوسط وجهه‏؟‏ فهذا أصل المسألة‏.‏
    ومعلوم أن الناس قد سن لهم أن يستقبلوا الخطيب بوجوههم ونهوا عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمثال ذلك مما لم يشترط فيه أن يكون الاستقبال بوسط الوجه والبدن، بل لو كان منحرفا انحرافا يسيرًا لم يقدح ذلك في الاستقبال‏.‏
    والاسم إن كان له حد في الشرع رجع إليه، وإلا رجع إلى حده في اللغة والعرف، والاستقبال هنا دل عليه الشرع واللغة والعرف‏.‏ وأما الشارع فقال‏:‏ ‏"‏ما بين المشرق والمغرب قبلة‏"‏ ومعلوم أن من كان بالمدينة والشام ونحوهما إذا جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه فهو مستقبل للكعبة ببدنه، بحيث يمكن أن يخرج من وجهه خط مستقيم إلى الكعبة، ومن صدره وبطنه، لكن قد لا يكون ذلك الخط من وسط وجهه وصدره‏.‏ فعلم أن الاستقبال بالوجه أعم من أن يختص بوسطه فقط‏.‏ واللّه أعلم‏.

    ج/ 22 ص -217-وَسُئِلَ عن النية في الطهارة والصلاة والصيام والحج وغير ذلك، فهل محل ذلك القلب أم اللسان‏؟‏ وهل يجب أن نجهر بالنية أو يستحب ذلك‏؟‏ أو قال أحد من المسلمين‏:‏ إن لم يفعل ذلك بطلت صلاته، أو غيرها ‏؟‏ أو قال‏:‏ إن صلاة الجاهر أفضل من صلاة الخافت‏.‏ إمامًا كان أو مأمومًا أو منفردًا‏؟‏ وهل التلفظ بها واجب أم لا ‏؟‏ أو قال أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم من أئمة المسلمين‏:‏ إن لم يتلفظ بالنية بطلت صلاته ‏؟‏ وإذا كانت غير واجبة، فهل يستحب التلفظ بها ‏؟‏ وما السنة التي كان عليها رسول اللّه ﷺ والخلفاء الراشدون‏؟‏ وإذا أصر على الجهر بها معتقدًا أن ذلك مشروع، فهل هو مبتدع مخالف لشريعة الإسلام أم لا ‏؟‏ وهل يستحق التعزير على ذلك إذا لم ينته ‏؟‏ وابسطوا لنا الجواب‏.‏
    فأجاب ‏:‏
    الحمد للّه، محل النية القلب دون اللسان، باتفاق أئمة

    ج/ 22 ص -218- المسلمين في جميع العبادات‏:‏ الصلاة والطهارة والزكاة والحج والصيام والعتق والجهاد، وغير ذلك‏.‏ ولو تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه كان الاعتبار بما نوى بقلبه، لا باللفظ، ولو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه لم يجزئ ذلك باتفاق أئمة المسلمين‏.‏
    فإن النية هي من جنس القصد؛ ولهذا تقول العرب‏:‏ نواك اللّه بخير، أى‏:‏ قصدك بخير‏.‏ وقول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله، فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه‏"‏ مراده ﷺ بالنية‏:‏ النية التي في القلب؛ دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين‏:‏ الأئمة الأربعة، وغيرهم‏.‏
    وسبب الحديث يدل على ذلك، فإن سببه أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة؛ ليتزوج امرأة يقال لها‏:‏ أم قيس، فسمى مهاجر أم قيس‏.‏ فخطب النبي ﷺ على المنبر، وذكر هذا الحديث‏.‏ وهذا كان نيته في قلبه‏.‏
    والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين، بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة، إذا فعل ذلك معتقدًا أنه من الشرع فهو جاهل ضال، يستحق التعزير، وإلا العقوبة على ذلك، إذا أصر

    ج/ 22 ص -219- على ذلك بعد تعريفه والبيان له، لا سيما إذا آذى من إلى جانبه برفع صوته، أو كرر ذلك مرة بعد مرة، فإنه يستحق التعزير البليغ على ذلك، ولم يقل أحد من المسلمين‏:‏ إن صلاة الجاهر بالنية أفضل من صلاة الخافت بها، سواء كان إماما أو مأمومًا، أو منفردًا‏.‏
    وأما التلفظ بها سرًا فلا يجب أيضًا عند الأئمة الأربعة، وسائر أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة‏:‏ إن التلفظ بالنية واجب، لا في طهارة ولا في صلاة، ولا صيام، ولا حج‏.‏
    ولا يجب على المصلى أن يقول بلسانه‏:‏ أصلي الصبح، ولا أصلي الظهر، ولا العصر، ولا إماما ولا مأمومًا، ولا يقول بلسانه‏:‏ فرضًا ولا نفلا، ولا غير ذلك، بل يكفي أن تكون نيته في قلبه، واللّه يعلم ما في القلوب‏.‏
    وكذلك نية الغسل من الجنابة والوضوء، يكفي فيه نية القلب‏.‏
    وكذلك نية الصيام في رمضان، لا يجب على أحد أن يقول‏:‏ أنا صائم غدًا، باتفاق الأئمة، بل يكفيه نية قلبه‏.‏
    والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد أن يفعله فلابد أن ينويه، فإذا علم المسلم أن غدًا من رمضان وهو ممن يصوم رمضان فلابد

    ج/ 22 ص -220- أن ينوي الصيام، فإذا علم أن غدًا العيد لم ينو الصيام تلك الليلة‏.‏
    وكذلك الصلاة‏:‏ فإذا علم أن الصلاة القائمة صلاة الفجر، أو الظهر وهو يعلم أنه يريد أن يصلي صلاة الفجر، أو الظهر فإنه إنما ينوي تلك الصلاة، لا يمكنه أن يعلم أنها الفجر، وينوي الظهر‏.‏
    وكذلك إذا علم أنه يصلي إماما أو مأمومًا، فإنه لابد أن ينوي ذلك، والنية تتبع العلم والاعتقاد اتباعا ضروريًا، إذا كان يعلم ما يريد أن يفعله، فلابد أن ينويه‏.‏ فإذا كان يعلم أنه يريد أن يصلي الظهر وقد علم أن تلك الصلاة صلاة الظهر امتنع أن يقصد غيرها، ولو اعتقد أن الوقت قد خرج أجزأته صلاته، باتفاق الأئمة‏.‏
    ولو اعتقد أنه خرج فنوى الصلاة بعد الوقت، فتبين أنها في الوقت، أجزأته الصلاة باتفاق الأئمة‏.‏
    وإذا كان قصده أن يصلي على الجنازة أي جنازة كانت فظنها رجلا، وكانت امرأة، صحت صلاته بخلاف ما نوى‏.‏ وإذا كان مقصوده ألا يصلي إلا على ما يعتقده فلانًا، وصلى على من يعتقد أنه فلان، فتبين غيره، فإنه هنا لم يقصد الصلاة على ذلك الحاضر‏.‏

    ج/ 22 ص -221- والمقصود هنا أن التلفظ بالنية لا يجب عند أحد من الأئمة، ولكن بعض المتأخرين خرج وجهًا في مذهب الشافعي بوجوب ذلك، وغلطه جماهير أصحاب الشافعي، وكان غلطه أن الشافعي قال‏:‏ لابد من النطق في أولها، فظن هذا الغالط أن الشافعي أراد النطق بالنية، فغلطه أصحاب الشافعي جميعهم، وقالوا‏:‏ إنما أراد النطق بالتكبير، لا بالنية‏.‏ ولكن التلفظ بها هل هو مستحب، أم لا ‏؟‏ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء‏.‏
    منهم من استحب التلفظ بها، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبى حنيفة والشافعي وأحمد، وقالوا‏:‏ التلفظ بها أوكد، واستحبوا التلفظ بها في الصلاة والصيام والحج، وغير ذلك‏.‏
    ومنهم من لم يستحب التلفظ بها، كما قال ذلك من قاله من أصحاب مالك، وأحمد، وغيرهما وهذا هو المنصوص عن مالك، وأحمد، سئل‏:‏ تقول قبل التكبير شيئًا ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏
    وهذا هو الصواب فإن النبي ﷺ لم يكن يقول قبل التكبير شيئًا، ولم يكن يتلفظ بالنية، لا في الطهارة، ولا في الصلاة، ولا في الصيام، ولا في الحج، ولا غيرها من العبادات، ولا خلفاؤه، ولا أمر أحدًا أن يتلفظ بالنية، بل قال لمن علمه الصلاة‏:‏ ‏"‏ كبر‏"‏ كما في

    ج/ 22 ص -222- الصحيح عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ كان رسول الله ﷺ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد للّه رب العالمين ولم يتلفظ قبل التكبير بنية، ولا غيرها، ولا علم ذلك أحدًا من المسلمين‏.‏ ولو كان ذلك مستحبًا، لفعله النبي ﷺ ولعظمه المسلمون‏.‏
    وكذلك في الحج إنما كان يستفتح الإحرام بالتلبية، وشرع للمسلمين أن يلبوا في أول الحج، وقال ﷺ لضُبَاعَة بنت الزبير‏:‏ ‏"
    ‏حجي واشترطي، فقولي‏:‏ لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني‏"‏ فأمرها أن تشترط بعد التلبية‏.‏
    ولم يشرع لأحد أن يقول قبل التلبية شيئًا‏.‏ لا يقول‏:‏ اللهم إني أريد العمرة والحج، ولا الحج والعمرة، ولا يقول‏:‏ فيسره لي وتقبله مني، ولا يقول‏:‏ نويتهما جميعًا، ولا يقول‏:‏ أحرمت للّّه، ولا غير ذلك من العبادات كلها‏.‏ ولا يقول قبل التلبية شيئًا، بل جعل التلبية في الحج كالتكبير في الصلاة‏.‏
    وكان هو وأصحابه يقولون‏:‏ فلان أهل بالحج، أهل بالعمرة، أو أهل بهما جميعًا‏.‏ كما يقال‏:‏ كبر للصلاة، والإهلال رفع الصوت بالتلبية، وكان يقول في تلبيته‏:‏ ‏"‏لبيك حجًا وعمرة‏"‏ ينوي ما يريد أن

    ج/ 22 ص -223- يفعله بعد التلبية؛ لا قبلها‏.‏
    وجميع ما أحدثه الناس من التلفظ بالنية قبل التكبير، وقبل التلبية، وفي الطهارة، وسائر العبادات فهي من البدع التي لم يشرعها رسول اللّه ﷺ‏.‏ وكل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول اللّه ﷺ فهي بدعة، بل كان ﷺ يداوم في العبادات على تركها، ففعلها والمداومة عليها بدعة وضلالة من وجهين‏:‏
    من حيث اعتقاد المعتقد أن ذلك مشروع مستحب، أي يكون فعله خير من تركه، مع أن النبي ﷺ لم يكن يفعله البتة، فيبقى حقيقة هذا القول، إنما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله رسول اللّه ﷺ‏.‏
    وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإحرام قبل الميقات، فقال‏:‏ أخاف عليك الفتنة، فقال له السائل‏:‏ أي فتنة في ذلك‏؟‏ وإنما زيادة أميال في طاعة اللّه - عز وجل‏.‏ قال‏:‏ وأي فتنة أعظم من أن تظن في نفسك أنك خصصت بفضل لم يفعله رسول اللّه ﷺ ‏.‏
    وقد ثبت في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏"‏من رغب عن سنتي فليس مني‏"‏ فأي من ظن أن سنة أفضل من سنتي، فرغب عما سنيته معتقدًا

    ج/ 22 ص -224- أن ما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس مني؛ لأن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يخطب بذلك يوم الجمعة‏.‏
    فمن قال‏:‏ إن هدي غير محمد ﷺ أفضل من هدي محمد، فهو مفتون، بل ضال‏.‏ قال اللّه تعالى إجلالًا له وتثبيت حجته على الناس كافة ‏:‏
    ‏"‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏ أي‏:‏ وجيع‏.‏
    وهو ﷺ قد أمر المسلمين باتباعه، وأن يعتقدوا وجوب ما أوجبه، واستحباب ما أحبه‏.‏ وأنه لا أفضل من ذلك‏.‏ فمن لم يعتقد هذا، فقد عصى أمره، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏هلك المتنطعون‏"‏، قالها ثلاثًا‏.‏ أي المشددون في غير موضع التشديد، وقال أبى بن كعب، وابن مسعود‏:‏ اقتصاد في سنةٍ خير من اجتهاد في بدعة‏.‏
    ولا يحتج محتج بجمع التراويح، ويقول‏:‏ ‏"‏نعمت البدعة هذه‏"‏ فإنها بدعة في اللغة؛ لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول اللّه ﷺ مثل هذه، وهي سنة من الشريعة‏.‏ وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ومصر الأمصار كالكوفة

    ج/ 22 ص -225- والبصرة، وجمع القرآن في مصحف واحد، وفرض الديوان، وغير ذلك‏.‏ فقيام رمضان سنه رسول اللّه ﷺ لأمته، وصلى بهم جماعة عدة ليال، وكانوا على عهد رسول اللّه ﷺ يصلون جماعة وفرادى، لكن لم يداوم على جماعة واحدة لئلا يفترض عليهم، فلما مات ﷺ استقرت الشريعة‏.‏
    فلما كان عمر رضي اللّه عنه جمعهم على إمام واحد، والذي جمعهم أبي بن كعب، جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر هو من الخلفاء الراشدين حيث يقول ﷺ‏:‏
    ‏"‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ‏"‏ يعني الأضراس؛ لأنه أعظم في القوة‏.‏
    وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أنه قال‏:‏ ‏"‏صلاة السفر ركعتان، فمن خالف السنة كفر‏"‏ فأي من اعتقد أن الركعتين في السفر لا تجزئ المسافر كفر‏.‏
    والوجه الثاني‏:‏ من حيث المداومة على خلاف ما داوم عليه رسول اللّه ﷺ في العبادات، فإن هذا بدعة باتفاق الأئمة، وإن ظن الظان أن في زيادته خيرًا كما أحدثه بعض المتقدمين من الأذان والإقامة في العيدين، فنهوا عن ذلك، وكرهه أئمة المسلمين، كما

    ج/ 22 ص -226- لو صلى عقيب السعي ركعتين قياسًا على ركعتي الطواف‏.‏ وقد استحب ذلك بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي‏.‏ واستحب بعض المتأخرين من أصحاب أحمد في الحاج إذا دخل المسجد الحرام أن يستفتح بتحية المسجد، فخالفوا الأئمة والسنة، وإنما السنة أن يستفتح المحرم بالطواف، كما فعل النبي ﷺ لما دخل المسجد ؛ بخلاف المقيم الذي يريد الصلاة فيه دون الطواف، فهذا إذا صلى تحية المسجد فحسن‏.‏
    وفي الجملة، فإن النبي ﷺ قد أكمل اللّه له ولأمته الدين، وأتم به ﷺ عليهم النعمة، فمن جعل عملا واجبًا مما لم يوجبه اللّه ورسوله، أو لم يكرهه اللّه ورسوله، فهو غالط‏.‏
    فجماع أئمة الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه اللّه ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه اللّه ورسوله، ومن خرج عن هذا وهذا فقد دخل في حرب من اللّه، فمن شرع من الدين ما لم يأذن به اللّه، وحرم ما لم يحرم اللّه ورسوله، فهو من دين أهل الجاهلية، المخالفين لرسوله، الذين ذمهم اللّه في سورة الأنعام، والأعراف وغيرهما من السور، حيث شرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه‏.‏ فحرموا ما لم يحرمه اللّه، وأحلوا ما حرمه اللّه، فذمهم اللّه وعابهم على ذلك‏.‏
    فلهذا كان دين المؤمنين باللّه ورسوله، أن الأحكام الخمسة‏:‏ الإيجاب،

    ج/ 22 ص -227- والاستحباب، والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا يؤخذ إلا عن رسول اللّه ﷺ؛ فلا واجب إلا ما أوجبه اللّه ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله اللّه ورسوله‏.‏
    فمن ذلك ما اتفق عليه أئمة الدين، ومنه ما تنازعوا فيه، فردوه إلى اللّه ورسوله، كما قال تعالي‏:‏
    ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]
    فمن تكلم بجهل، وبما يخالف الأئمة، فإنه ينهي عن ذلك، ويؤدب على الإصرار، كما يفعل بأمثاله من الجهال، ولا يقتدي في خلاف الشريعة بأحد من أئمة الضلالة، وإن كان مشهورًا عنه العلم‏.‏ كما قال بعض السلف‏:‏ لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏ والحمد للّه‏.‏
    وَسُئِلَ عمن يخرج من بيته ناويًا الطهارة، أو الصلاة‏.‏ هل يحتاج إلى تجديد نية غير هذه عند فعل الطهارة أو الصلاة أو لا ‏؟‏ وهل التلفظ

    ج/ 22 ص -228- بالنية سنة أم لا ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، سئل الإمام أحمد عن رجل يخرج من بيته للصلاة، هل ينوي حين الصلاة‏؟‏ فقال‏:‏ قد نوى حين خرج؛ ولهذا قال أكابر أصحابه كالخرقي وغيره يجزئه تقديم النية على التكبير من حين يدخل وقت الصلاة، وإذا كان مستحضرًا للنية إلى حين الصلاة أجزأ ذلك، باتفاق العلماء‏.‏ فإن النية لا يجب التلفظ بها باتفاق العلماء‏.‏
    ومعلوم في العادة أن من كبر في الصلاة لابد أن يقصد الصلاة، وإذا علم أنه يصلي الظهر نوى الظهر، فمتى علم ما يريد فعله نواه بالضرورة، ولكن إذا لم يعلم أو نسي شذت عنه النية، وهذا نادر‏.‏ والتلفظ بالنية، في استحبابه قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏ والمنصوص عنه أنه لا يستحب التلفظ بالنية‏.‏ قال أبو داود‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ يقول المصلي قبل التكبير شيئًا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏
    وَسُئِلَ‏:‏ هل يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير ‏؟‏ والمسؤول أن يوضح لنا كيفية مقارنتها للتكبير، كما ذكر الشافعي أنه لا تصح الصلاة إلا

    ج/ 22 ص -229- بمقارنتها التكبير‏.‏ وهذا يعسر‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    أما مقارنتها التكبير، فللعلماء فيه قولان مشهوران‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا يجب ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏
    والمقارنة المشروطة‏:‏ قد تفسر بوقوع التكبير عقيب النية، وهذا ممكن لا صعوبة فيه، بل عامة الناس إنما يصلون هكذا، وهذا أمر ضروري، لو كلفوا تركه لعجزوا عنه‏.‏
    وقد تفسر بانبساط آخر النية على آخر التكبير، بحيث يكون أولها مع أوله، وآخرها مع آخره‏.‏ وهذا لا يصح؛ لأنه يقتضي عزوب كمال النية في أول الصلاة، وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة‏.‏
    وقد تفسر بحضور جميع النية مع جميع آخر التكبير، وهذا تنازعوا في إمكانه‏.‏
    فمن العلماء من قال‏:‏ إن هذا غير ممكن، ولا مقدور للبشر عليه، فضلا عن وجوبه، ولو قيل بإمكانه، فهو متعسر، في سقط بالحرج‏.‏

    ج/ 22 ص -230- وأيضًا، فمما يبطل هذا والذي قبله، أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره، في كون قلبه مشغولا بمعنى التكبير، لا بما يشغله عن ذلك من استحضار النية؛ ولأن النية من الشروط، والشروط تتقدم العبادات، ويستمر حكمها إلى آخرها، كالطهارة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن ‏[‏النية‏]‏ في الدخول في العبادات من الصلاة، وغيرها‏.‏ هل تفتقر إلى نطق اللسان، مثل قول القائل‏:‏ نويت أصوم، نويت أصلي، هل هو واجب أم لا ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    الحمد للّه، نية الطهارة من وضوء أو غسل أو تيمم، والصلاة والصيام والحج والزكاة والكفارات، وغير ذلك من العبادات لا تفتقر إلى نطق اللسان، باتفاق أئمة الإسلام‏.‏ بل النية محلها القلب دون اللسان باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غلطًا بخلاف ما نوى في قلبه، كان الاعتبار بما نوي، لا بما لفظ، ولم يذكر أحد في ذلك خلافا، إلا أن بعض متأخري أصحاب الشافعي رحمه اللّه خرج وجهًا في ذلك، وغَلَّطه فيه أئمة أصحابه‏.‏
    وكان سبب غلطه أن الشافعي قال‏:‏ إن الصلاة لابد من النطق

    ج/ 22 ص -231- في أولها‏.‏ وأراد الشافعي بذلك‏:‏ التكبير الواجب في أولها، فظن هذا الغالط أن الشافعي أراد النطق بالنية، فغلطه أصحاب الشافعي جميعهم‏.‏
    ولكن تنازع العلماء‏:‏ هل يستحب التلفظ بالنية سرًا أم لا ‏؟‏ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء‏.‏
    فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد‏:‏ يستحب التلفظ بها؛ لكونه أوكد‏.‏ وقالت طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما‏:‏ لا يستحب التلفظ بها؛ لأن ذلك بدعة لم تنقل عن رسول اللّه ﷺ، ولا عن أصحابه، ولا أمر النبي ﷺ أحدًا من أمته أن يتلفظ بالنية، ولا عَلَّم ذلك أحدًا من المسلمين، ولو كان هذا مشهورًا مشروعا، لم يهمله النبي ﷺ وأصحابه، مع أن الأمة مبتلاة به كل يوم وليلة‏.‏
    وهذا القول أصح الأقوال، بل التلفظ بالنية نقص في العقل والدين؛ أما في الدين؛ فلأنه بدعة‏.‏ وأما في العقل؛ فلأنه بمنزلة من يريد يأكل طعامًا في قول‏:‏ نويت بوضع يدي في هذا الإناء أني أريد آخذ منه لقمة فأضعها في فمي فأمضغها ثم أبلعها لأشبع، مثل القائل الذي يقول‏:‏ نويت أصلي فريضة هذه الصلاة المفروضة علي

    ج/ 22 ص -232- حاضر الوقت، أربع ركعات في جماعة، أداء للّه تعالي‏.‏ فهذا كله حمق وجهل؛ وذلك أن النية بليغ العلم، فمتي علم العبد ما يفعله كان قد نواه ضرورة، فلا يتصور مع وجود العلم بالعقل أن يفعل بلا نية؛ ولا يمكن مع عدم العلم أن تحصل نية‏.‏
    وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع، بل من اعتاد ذلك، فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديبًا بمنعه عن ذلك التعبد بالبدع، وإيذاء الناس برفع صوته؛ لأنه قد جاء الحديث‏:‏ ‏"‏أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهرن بعضكم على بعض بالقراءة‏"‏ فكيف حال من يشوش على الناس بكلامه بغير قراءة‏؟‏ بل يقول‏:‏ نويت أصلي، أصلي فريضة كذا وكذا، في وقت كذا وكذا، من الأفعال التي لم يشرعها رسول اللّه ﷺ‏.‏
    وَسئل رَحمه اللّه عن رجل قيل له‏:‏ لا يجوز الجهر بالنية في الصلاة ولا أمر به النبي ﷺ‏.‏ فقال‏:‏ صحيح أنه ما فعله النبي ﷺ، ولا أمر به، لكن ما نهي عنه، ولا تبطل صلاة من جهر بها‏.‏ ثم إنه قال‏:‏ لنا بدعة حسنة، وبدعة سيئة، واحتج بالتراويح

    ج/ 22 ص -233- أن رسول اللّه ﷺ ما جمعها، ولا نهي عنها‏.‏ وأن عمر الذي جمع الناس عليها، وأمر بها‏.‏ فهل هو كما قال‏؟‏ وهل تسمي سنن الخلفاء الراشدين بدعة‏؟‏ وهل يقاس على سننهم ما سنه غيرهم فهل لها أصل في ما يقوله، ويفعله ‏؟‏ وقوله‏:‏ ولا تبطل صلاة من جهر بالنية في الصلاة، وغيرها‏.‏ فهل يأثم المنكر عليه أم لا ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    الحمد للّه، الجهر بالنية في الصلاة من البدع السيئة، ليس من البدع الحسنة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لم يقل أحد منهم‏:‏ إن الجهر بالنية مستحب، ولا هو بدعة حسنة، فمن قال ذلك، فقد خالف سنة الرسول ﷺ، وإجماع الأئمة الأربعة، وغيرهم‏.‏ وقائل هذا يستتاب، فإن تاب، وإلا عوقب بما يستحقه‏.‏
    وإنما تنازع الناس في نفس التلفظ بها سرًا‏.‏ هل يستحب أم لا ‏؟‏ على قولين‏.‏ والصواب أنه لا يستحب التلفظ بها، فإن النبي ﷺ وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بها لا سرًا ولا جهرًا، والعبادات التي شرعها النبي ﷺ لأمته ليس لأحد تغييرها، ولا إحداث بدعة في ها‏.‏
    وليس لأحد أن يقول‏:‏ إن مثل هذا من البدع الحسنة، مثل ما أحدث بعض الناس الأذان في العيدين، والذي أحدثه مروان بن

    ج/ 22 ص -234- الحكم، فأنكر الصحابة والتابعون لهم بإحسان ذلك‏.‏ هذا، وإن كان الأذان ذكر اللّه؛ لأنه ليس من السنة‏.‏ وكذلك لما أحدث الناس اجتماعا راتبًا غير الشرعي‏:‏ مثل الاجتماع على صلاة معينة، أول رجب أو أول ليلة جمعة فيه ، وليلة النصف من شعبان، فأنكر ذلك علماء المسلمين‏.‏
    ولو أحدث ناس صلاة سادسة يجتمعون عليها غير الصلوات الخمس، لأنكر ذلك عليهم المسلمون، وأخذوا على أيديهم‏.‏ وأما ‏[‏قيام رمضان‏]‏، فإن رسول اللّه ﷺ سنه لأمته، وصلى بهم جماعة عدة ليال، وكانوا على عهده يصلون جماعة، وفرادي، لكن لم يداوموا على جماعة واحدة؛ لئلا تفرض عليهم‏.‏ فلما مات النبي ﷺ استقرت الشريعة، فلما كان عمر رضي اللّه عنه جمعهم على إمام واحد، وهو أبي بن كعب، الذي جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ‏.‏
    وعمر رضي اللّه عنه هو من الخلفاء الراشدين حيث يقول ﷺ‏:‏ ‏"‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‏.‏ عضوا عليها بالنواجذ‏"‏ يعني الأضراس؛ لأنها أعظم في القوة‏.‏
    وهذا الذي فعله هو سنة، لكنه قال‏:‏ نعمت البدعة هذه، فإنها

    ج/ 22 ص -235- بدعة في اللغة؛ لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول اللّه ﷺ، يعني من الاجتماع على مثل هذه، وهي سنة من الشريعة‏.‏
    وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وهي الحجاز واليمن واليمامة، وكل البلاد الذي لم يبلغه ملك فارس والروم من جزيرة العرب، ومصر الأمصار‏:‏ كالكوفة والبصرة، وجمع القرآن في مصحف واحد، وفرض الديوان، والأذان الأول يوم الجمعة، واستنابة من يصلي بالناس يوم العيد خارج المصر، ونحو ذلك مما سنه الخلفاء الراشدون؛ لأنهم سنوه بأمر اللّه ورسوله، فهو سنة‏.‏ وإن كان في اللغة يسمي بدعة‏.‏
    وأما الجهر بالنية، وتكريرها، فبدعة سيئة ليست مستحبة باتفاق المسلمين؛ لأنها لم يكن يفعلها رسول اللّه ﷺ ولا خلفاؤه الراشدون‏.‏
    وَسُئِلَ عن رجل إذا صلى يشوش على الصفوف التي حواليه بالجهر بالنية وأنكروا عليه مرة ولم يرجع، وقال له إنسان‏:‏ هذا الذي تفعله ما هو

    ج/ 22 ص -236- من دين اللّه، وأنت مخالف فيه السنة‏.‏ فقال‏:‏ هذا دين اللّه الذي بعث به رسله، ويجب على كل مسلم أن يفعل هذا، وكذلك تلاوة القرآن يجهر بها خلف الإمام‏.‏ فهل هكذا كان يفعل رسول اللّه ﷺ، أو أحد من الصحابة، أو أحد من الأئمة الأربعة، أو من علماء المسلمين‏؟‏ فإذا كان لم يكن رسول اللّه ﷺ وأصحابه والعلماء يعملون هذا في الصلاة، فماذا يجب على من ينسب هذا إليهم وهو يعمله ‏؟‏ فهل يحل للمسلم أن يعينه بكلمة واحدة إذا عمل هذا ونسبه إلى أنه من الدين، ويقول للمنكرين عليه‏:‏ كل يعمل في دينه ما يشتهي وإنكاركم على جهل ‏؟‏ وهل هم مصيبون في ذلك أم لا ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    الحمد للّه، الجهر بلفظ النية ليس مشروعا عند أحد من علماء المسلمين، ولا فعله رسول اللّه ﷺ، ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، ومن ادعي أن ذلك دين اللّه، وأنه واجب، فإنه يجب تعريفه الشريعة، واستتابته من هذا القول، فإن أصر على ذلك قتل، بل النية الواجبة في العبادات كالوضوء والغسل والصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين‏.‏
    و‏[‏النية‏]‏ هي القصد والإرادة، والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان باتفاق العقلاء‏.‏ فلو نوى بقلبه صحت نيته عند الأئمة الأربعة،

    ج/ 22 ص -237- وسائر أئمة المسلمين من الأولين والآخرين، وليس في ذلك خلاف عند من يقتدي به، ويفتي بقوله، ولكن بعض المتأخرين من أتباع الأئمة زعم أن اللفظ بالنية واجب، ولم يقل‏:‏ إن الجهر بها واجب‏.‏ ومع هذا، فهذا القول خطأ صريح مخالف لإجماع المسلمين، ولِمَا عُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام عند من يعلم سنة رسول اللّه ﷺ، وسنة خلفائه، وكيف كان يصلي الصحابة والتابعون‏.‏ فإن كل من يعلم ذلك يعلم أنهم لم يكونوا يتلفظون بالنية، ولا أمرهم النبي ﷺ بذلك، ولا علمه لأحد من الصحابة، بل قد ثبت في الصحيحين وغيرهما، أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته‏:‏ ‏"‏إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن‏"‏‏.‏ وفي السنن عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها ‏:‏ أن النبي ﷺ كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد للّه رب العالمين‏.‏ وقد ثبت بالنقل المتواتر وإجماع المسلمين أن النبي ﷺ والصحابة كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير‏.‏
    ولم ينقل مسلم لا عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من الصحابة أنه قد تلفظ قبل التكبير بلفظ النية، لا سرًا ولا جهرًا، ولا أنه أمر بذلك‏.‏ ومن المعلوم أن الهمم والدواعي متوفرة على نقل

    ج/ 22 ص -238- ذلك، لو كان ذلك، وأنه يمتنع على أهل التواتر عادة وشرعا كتمان نقل ذلك، فإذا لم ينقله أحد علم قطعًا أنه لم يكن‏.‏
    ولهذا يتنازع الفقهاء المتأخرون في اللفظ بالنية‏:‏ هل هو مستحب مع النية التي في القلب‏؟‏ فاستحبه طائفة من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه أوكد، وأتم تحقيقًا للنية، ولم يستحبه طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما، وهو المنصوص عن أحمد وغيره، بل رأوا أنه بدعة مكروهة‏.‏
    قالوا‏:‏ لو أنه كان مستحبًا لفعله رسول اللّه ﷺ، أو لأمر به، فإنه ﷺ قد بين كل ما يقرب إلى اللّه، لا سيما الصلاة التي لا تؤخذ صفتها إلا عنه، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏"‏‏.‏
    قال هؤلاء‏:‏ فزيادة هذا وأمثاله في صفة الصلاة بمنزلة سائر الزيادات المحدثة في العبادات، كمن زاد في العيدين الأذان والإقامة، ومن زاد في السعي صلاة ركعتين على المروة، وأمثال ذلك‏.‏
    قالوا‏:‏ وأيضًا، فإن التلفظ بالنية فاسد في العقل‏.‏ فإن قول القائل‏:‏ أنوي أن أفعل كذا وكذا، بمنزلة قوله‏:‏ أنوي آكل هذا الطعام

    ج/ 22 ص -239- لأشبع، وأنوي ألبس هذا الثوب لأستتر، وأمثال ذلك من النيات الموجودة في القلب التي يستقبح النطق بها، وقد قال اللّه تعالي‏:‏ ‏"‏أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏"‏[‏الحجرات‏:‏ 16‏]‏ وقال طائفة من السلف في قوله‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ‏"‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏، قالوا‏:‏ لم يقولوه بألسنتهم، وإنما علمه اللّه من قلوبهم، فأخبر به عنهم‏.‏
    وبالجملة، فلابد من النية في القلب بلا نزاع‏.‏ وأما التلفظ بها سرًا فهل يكره أو يستحب‏؟‏ فيه نزاع بين المتأخرين‏.‏
    وأما الجهر بها، فهو مكروه منهي عنه، غير مشروع باتفاق المسلمين، وكذلك تكريرها أشد وأشد‏.‏
    وسواء في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد، فكل هؤلاء لا يشرع لأحد منهم أن يجهر بلفظ النية، ولا يكررها باتفاق المسلمين، بل ينهون عن ذلك، بل جهر المنفرد بالقراءة إذا كان فيه أذي لغيره لم يشرع، كما خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يصلون فقال‏:‏ ‏"‏أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة‏"‏‏.‏
    وأما المأموم، فالسنة له المخافتة باتفاق المسلمين، لكن إذا جهر أحيانًا

    ج/ 22 ص -240- بشيء من الذكر، فلا بأس، كالإمام إذا أسمعهم أحيانًا الآية في صلاة السر، فقد ثبت في الصحيح عن أبي قتادة‏:‏ أنه أخبر عن النبي ﷺ أنه كان في صلاة الظهر والعصر يسمعهم الآية أحيانًا‏.‏ وثبت في الصحيح أن من الصحابة المأمومين، من جهر بدعاء حين افتتاح الصلاة، وعند رفع رأسه من الركوع، ولم ينكر النبي ﷺ ذلك‏.‏ ومن أصر على فعل شيء من البدع وتحسينها، فإنه ينبغي أن يعزر تعزيرًا يردعه، وأمثاله عن مثل ذلك‏.‏
    ومن نسب إلى رسول اللّه ﷺ الباطل خطأ، فإنه يعَرَّف، فإن لم ينته، عوقب‏.‏ ولا يحل لأحد أن يتكلم في الدين بلا علم ولا يعين من تكلم في الدين بلا علم، أو أدخل في الدين ما ليس منه‏.‏
    وأما قول القائل‏:‏ كل يعمل في دينه الذي يشتهي، فهي كلمة عظيمة يجب أن يستتاب منها، وإلا عوقب، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه اللّه ورسوله، دون ما يشتهيه ويهواه، قال اللّه تعالي‏:
    ‏ ‏"‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ‏"‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏، "‏وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏"[‏ص‏:‏ 26‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 77‏]‏، وقال تعالى‏:‏

    ج/ 22 ص -241-"‏أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا‏"‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43، 44‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏
    وقد روي عنه ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به‏"‏‏.‏ قال تعالي‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 60، 61‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 21‏]‏وقال تعالي‏:‏ ‏"‏المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 1 3‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 71‏]‏، وأمثال هذا في القرآن كثير‏.‏
    فتبين أن على العبد أن يتبع الحق الذي بعث اللّه به رسوله، ولا يجعل دينه تبعًا لهواه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -242-وَسُئِلَ عن رجلين تنازعا في ‏[‏النية‏]‏ فقال أحدهما‏:‏ لا تدخل الصلاة إلا بالنية، واستدل على ذلك بقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏لكل امرئ ما نوي‏"‏ وقال الآخر‏:‏ تجوز بلا نية، أفتونا مأجورين‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، الصلاة لا تجوز إلا بنية، لكن محل النية القلب باتفاق المسلمين‏.‏ وهي القصد والإرادة‏.‏ فإن نوى بقلبه خلاف ما نطق بلسانه، كان الاعتبار بما قصد بقلبه‏.‏ وتنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بما نواه ‏؟‏ على قولين‏.‏ واتفقوا على أنه لا يستحب الجهر بالنية، ولا تكرير التكلم بها، بل ذلك منهي عنه باتفاق الأئمة، ولو لم يتكلم بالنية، صحت صلاته عند الأئمة الأربعة، وغيرهم‏.‏ ولم يخالف إلا بعض شذوذ المتأخرين‏.‏

    ج/ 22 ص -243-وسئل رحمه اللّه عن قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏ نية المرء أبلغ من عمله ‏"‏ ‏.‏
    فأجاب‏:‏
    هذا الكلام قاله غير واحد، وبعضهم يذكره مرفوعا، وبيانه من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن النية المجردة من العمل، يثاب عليها، والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه‏.‏ فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص للّه، لم يقبل منه ذلك‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين
    من غير وجه عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة‏"‏‏.‏
    الثاني‏:‏ أن من نوى الخير، وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله، كان له أجر عامل‏.‏ كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وهم بالمدينة، حبسهم العذر‏"‏‏.‏ وقد صحح الترمذي حديث أبي كَبْشَة الأنماري، عن النبي

    ج/ 22 ص -244- ﷺ‏:‏ أنه ذكر أربعة رجال‏:‏ ‏"‏رجل آتاه اللّه مالًا وعلمًا، فهو يعمل فيه بطاعة اللّه‏.‏ ورجل آتاه اللّه علمًا ولم يؤته مالًا، فقال‏:‏ لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان‏.‏ قال‏:‏ فهما في الأجر سواء‏.‏ ورجل آتاه اللّه مالًا ولم يؤته علمًا، فهو يعمل فيه بمعصية اللّه‏.‏ ورجل لم يؤته اللّه مالًا ولا علمًا، فقال‏:‏ لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان‏.‏ قال‏:‏ فهما في الوزر سواء‏"‏‏.‏
    وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم‏"‏، وشواهد هذا كثيرة‏.‏
    الثالث‏:‏ أن القلب ملك البدن، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك، بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود‏.‏
    الرابع‏:‏ أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة،

    ج/ 22 ص -245- كتوبة المجبوب عن الزنا، وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف، وغيره‏.‏ وأصل التوبة عزم القلب، وهذا حاصل مع العجز‏.‏
    الخامس‏:‏ أن النية لا يدخلها فساد، بخلاف الأعمال الظاهرة‏.‏ فإن النية أصلها حب اللّه ورسوله، وإرادة وجهه، وهذا هو بنفسه محبوب للّه ورسوله، مرضي للّه ورسوله‏.‏ والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها، لم تكن مقبولة؛ ولهذا كانت أعمال القلب المجردة أفضل من أعمال البدن المجردة‏.‏ كما قال بعض السلف‏:‏ قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه، وتفصيل هذا يطول‏.‏
    واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل رَحمه اللّه عن رجل حنفي صلى في جماعة، وأسر نيته، ثم رفع يديه في كل تكبيرة، فأنكر عليه فقيه الجماعة، وقال له‏:‏ هذا لا يجوز في مذهبك وأنت مبتدع فيه، وأنت مذبذب، لا بإمامك اقتديت، ولا بمذهبك اهتديت‏.‏ فهل ما فعله نقص في صلاته ومخالفة للسنة ولإمامه أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، أما الذي أنكر عليه إسراره بالنية، فهو جاهل؛ فإن الجهر بالنية لا يجب ولا يستحب، لا في مذهب أبي حنيفة، ولا

    ج/ 22 ص -246- فإن الطهارة شرط في الصلاة، ولا يشترط له الطهارة، ولكل مكان عبادة تشرع، وكذلك ترك الصلاة وقت النهي مشروع في كل زمان‏.‏ وأما الطواف فهل تكره فيه القراءة‏؟‏ فيه قولان مشهوران للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، والرخصة مذهب الشافعي، بل هو يستحب فيه القراءة، ولا يستحب الجهر بها، وللأخري مصنف‏.‏
    وإذا كان هذا من أجناس العبادات التي ثبت فضل بعضها على بعض بالنص والإجماع، فكيف في أنواع الذكر لاسيما فيما فيه نزاع‏؟‏‏!‏ فالأصل بلا ريب هدي النبي ﷺ، وقد ثبت أنه كان يستفتح بهذا الاستفتاح الذي في حديث أبي هريرة، فالأفضل أن يستفتح به أحيانا، ويستفتح بغيره أحيانا‏.‏
    وأيضًا، فلكل استفتاح حاجة ليست لغيره، فيأخذ المؤمن بحظه من كل ذكر‏.‏
    وأيضًا، فقد يحتاج الإنسان إلى المفضول، ولا يكفيه الفاضل‏.‏ كما في‏:‏ ‏"
    ‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏، فإنها تعدل ثلث القرآن، أي يحصل لصاحبها من الأجر ما يعدل ثواب ثلث القرآن في القدر، لا في الصفة‏.‏ فإن ما في القرآن من الأمر والنهي والقصص والوعد والوعيد لا يغني عنه

    ج/ 22 ص -247- وأما رفع اليدين في كل تكبيرة حتى في السجود، فليست هي السنة التي كان النبي ﷺ يفعلها، ولكن الأمة متفقة على أنه يرفع اليدين مع تكبيرة الافتتاح‏.‏
    وأما رفعهما عند الركوع، والاعتدال من الركوع، فلم يعرفه أكثر فقهاء الكوفة‏.‏ كإبراهيم النَّخَعي، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم‏.‏ وأما أكثر فقهاء الأمصار، وعلماء الآثار، فإنهم عرفوا ذلك لما إنه استفاضت به السنة عن النبي ﷺ كالأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، وهو إحدى الروايتين عن مالك‏.‏
    فإنه قد ثبت في الصحيحين، من حديث ابن عمر وغيره‏:‏ أن النبي ﷺ كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود، ولا كذلك بين السجدتين، وثبت هذا عن النبي ﷺ في الصحيح من حديث مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، وأبي حُمَيْد السَّاعدي‏:‏ في عشرة من أصحاب النبي ﷺ أحدهم أبو قتادة وهو معروف من حديث علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وعدد كثير من الصحابة عن النبي ﷺ‏.‏ وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه في الصلاة، حصبه‏.‏ وقال عقبة بن عامر‏:‏ له بكل إشارة عشر حسنات‏.‏

    ج/ 22 ص -248- والكوفيون حجتهم أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم يكن يرفع يديه‏.‏ وهم معذورون قبل أن تبلغهم السنة الصحيحة‏.‏ فإن عبد الله بن مسعود هو الفقيه الذي بعثه عمر ابن الخطاب ليعلم أهل الكوفة السنة‏.‏ لكن قد حفظ الرفع عن النبي ﷺ كثير من الصحابة رضوان الله تعالي عليهم‏.‏ وابن مسعود لم يصرح بأن النبي ﷺ لم يرفع إلا أول مرة، لكنهم رأوه يصلي ولا يرفع، إلا أول مرة‏.‏ والإنسان قد ينسي، وقد يذهل، وقد خفي على ابن مسعود التطبيق في الصلاة، فكان يصلي، وإذا ركع طبق بين يديه، كما كانوا يفعلون أول الإسلام‏.‏ ثم إن التطبيق نسخ بعد ذلك، وأمروا بالركب، وهذا لم يحفظه ابن مسعود‏.‏ فإن الرفع المتنازع فيه ليس من نواقض الصلاة، بل يجوز أن يصلي بلا رفع وإذا رفع كان أفضل وأحسن‏.‏
    وإذا كان الرجل متبعًا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأي في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوي فاتبعه، كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه، ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولي بالحق، وأحب إلى الله ورسوله ﷺ ممن يتعصب لواحد معين، غير النبي ﷺ، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويري أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه، دون قول الإمام الذي خالفه‏.‏

    ج/ 22 ص -249- فمن فعل هذا، كان جاهلًا ضالًا، بل قد يكون كافرًا‏.‏ فإنه متي اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر، فإنه يجب أن يستتاب‏.‏ فإن تاب، وإلا قتل‏.‏ بل غاية ما يقال‏:‏ إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدًا لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو‏.‏
    وأما أن يقول قائل‏:‏ إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان، فهذا لا يقوله مسلم‏.‏
    ومن كان مواليًا للأئمة، محبًا لهم، يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة، فهو محسن في ذلك‏.‏ بل هذا أحسن حالا من غيره‏.‏ ولا يقال لمثل هذا‏:‏ مذبذب على وجه الذم‏.‏ وإنما المذبذب المذموم الذي لا يكون مع المؤمنين، ولا مع الكفار، بل يأتي المؤمنين بوجه، ويأتي الكافرين بوجه، كما قال تعالي في حق المنافقين‏:‏
    ‏"‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ‏"‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142، 143‏]‏، وقال النبي ﷺ‏:‏‏"‏مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين‏:‏ تعير إلى هؤلاء مرة، وإلي هؤلاء مرة‏"‏‏.‏
    فهؤلاء المنافقون المذبذبون، هم الذين ذمهم الله ورسوله ﷺ، وقال في

    ج/ 22 ص -250- حقهم‏:‏ ‏"‏إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏"‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى في حقهم‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏المجادلة‏:‏14‏]‏، فهؤلاء المنافقون الذين يتولون اليهود الذين غضب الله عليهم، ما هم من اليهود، ولا هم منا، مثل من أظهر الإسلام من اليهود والنصاري والتتر، وغيرهم، وقلبه مع طائفته‏.‏ فلا هو مؤمن محض، ولا هو كافر ظاهرا وباطنًا، فهؤلاء هم المذبذبون الذين ذمهم الله ورسوله، وأوجب على عباده أن يكونوا مؤمنين، لا كفارًا، ولا منافقين، بل يحبون للَّه، ويبغضون للَّه، ويعطون للَّه، ويمنعون للَّه‏.‏
    قال الله تعالي ‏:‏ ‏"
    ‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 51 56‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ‏"‏ الآية، ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏"‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏"‏[‏الحجرات‏:‏10‏]‏‏.‏

    ج/ 22 ص -251-وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا‏"‏ وشيك بين أصابعه‏.‏ وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا‏.‏ ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم‏؟‏ أفشوا السلام بينكم‏"‏‏.‏
    وقد أمر الله تعالي المؤمنين بالاجتماع والائتلاف، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف فقال تعالي‏:‏ ‏
    "‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 102 106‏]‏، قال ابن عباس رضي الله عنهما ‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة‏.‏

    ج/ 22 ص -252- فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة‏.‏
    ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين، فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة‏.‏ وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما‏.‏ فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله ﷺ‏.‏ فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه، ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم‏.‏
    ثم غاية المتعصب لواحد منهم، أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالمًا، و الله يأمر بالعلم والعدل، وينهي عن الجهل والظلم‏.‏ قال تعالي‏:
    ‏ ‏"‏وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏"‏ إلى آخر السورة ‏[‏الأحزاب‏:‏72، 73‏]‏‏.‏
    وهذا أبو يوسف ومحمد، أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله،

    ج/ 22 ص -253- وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما‏.‏ لا يقال فيهما مذبذبان، بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب‏.‏ فإن الإنسان لايزال يطلب العلم والإيمان‏.‏ فإذا تبين له من العلم ما كان خافيًا عليه، اتبعه‏.‏ وليس هذا مذبذبا، بل هذا مهتد زاده الله هدي‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏"‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏‏.‏
    فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ، فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له‏.‏ وعلي المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ‏.‏ فإن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏"‏ وسواء رفع يديه أو لم يرفع يديه، لا يقدح ذلك في صلاتهم، ولا يبطلها، لا عند أبي حنيفة ولا الشافعي ولا مالك ولا أحمد‏.‏ ولو رفع الإمام دون المأموم، أو المأموم دون الإمام، لم يقدح ذلك في صلاة واحد منهما‏.‏ ولو رفع الرجل في بعض الأوقات دون بعض لم يقدح ذلك في صلاته‏.‏ وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب اتباعه، وينهي عن غيره مما جاءت به السنة، بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع مثل الأذان والإقامة‏.‏ فقد

    ج/ 22 ص -254- ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه أمر بلالا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة‏.‏ وثبت عنه في الصحيحين‏:‏ أنه علم أبا محذورة الإقامة شفعًا شفعًا، كالأذان‏.‏ فمن شفع الإقامة فقد أحسن ومن أفردها، فقد أحسن‏.‏ ومن أوجب هذا دون هذا، فهو مخطئ ضال‏.‏ ومن والي من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطئ ضال‏.‏
    وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين‏.‏ والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين‏.‏ والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا‏.‏ وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا‏.‏ وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهي الله ورسوله عنه‏.‏
    وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل، المتبعين الظن، وما تهوي الأنفس، المتبعين لأهوائهم بغير هدي من الله، مستحقون للذم والعقاب‏.‏ وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه‏.‏ فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع‏.‏ وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب

    ج/ 22 ص -255- والسنة إلا ما شاء الله، بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبا‏.‏ وإن كانت صدقًا، فليس صاحبها معصومًا يتمسكون بنقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، ويدعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح، عن النبي ﷺ‏.‏
    فإن الناقلين لذلك، مصدقون باتفاق أئمة الدين، والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوي، إن هو إلا وحي يوحي، قد أوجب الله تعالي على جميع الخلق طاعته واتباعه‏.‏ قال تعالي‏:‏ ‏
    "‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏65‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏"‏[‏النور‏:‏63‏]‏‏.‏
    و الله تعالي يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، والهدي والنية‏.‏ و الله أعلم‏.‏ والحمد للَّه وحده‏.

    ج/ 22 ص -256-وَسُئِلَ عن إمام شافعي يقول‏:‏ الله أكبر، يكرر التكبير مرات عديدة والناس وقوف خلفه‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه، تكرير اللفظ بالنية، والتكبير، والجهر بلفظ النية أيضًا منهي عنه عند الشافعي، وسائر أئمة الإسلام، وفاعل ذلك مسيء‏.‏ وإن اعتقد ذلك دينًا، فقد خرج عن إجماع المسلمين، ويجب نهيه عن ذلك‏.‏ وإن عزل عن الإمامة إذا لم ينته، كان له وجه‏.‏ فإن في سنن أبي داود‏:‏ أن النبي ﷺ أمر بعزل إمام لأجل بزاقه في القبلة‏.‏ فإن الإمام عليه أن يصلي، كما كان النبي ﷺ يصلي، ليس له أن يقتصر على ما يقتصر عليه المنفرد بل ينهي عن التطويل والتقصير، فكيف إذا أصر على ما ينهي عنه الإمام والمأموم والمنفرد‏.‏ و الله أعلم‏.‏

    ج/ 22 ص -257-وَسُئِلَ عن رجل إذا صلى بالليل ينوي، ويقول أصلي نصيب الليل‏.‏
    فأجاب‏:‏
    هذه العبارة أصلي نصيب الليل لم تنقل عن سلف الأمة، وأئمتها‏.‏ والمشروع أن ينوي الصلاة للَّه، سواء كانت بالليل أو النهار، وليس عليه أن يتلفظ بالنية‏.‏ فإن تلفظ بها، وقال‏:‏ أصلي للَّه صلاة الليل، أو أصلي قيام الليل، ونحو ذلك، جاز‏.‏ ولم يستحب ذلك، بل الاقتداء بالسنة أولى‏.‏ و الله أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ عن رجل أدرك مع الجماعة ركعة، فلما سلم الإمام قام ليتم صلاته فجاء آخر فصلي معه، فهل يجوز الاقتداء بهذا المأموم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما الأول، ففي صلاته قولان في مذهب أحمد وغيره، لكن الصحيح أن مثل هذا جائز، وهو قول أكثر العلماء، إذا كان الإمام قد نوي الإمامة، والمؤتم قد نوي الائتمام‏.‏ فإن نوى المأموم

    ج/ 22 ص -258- الائتمام ولم ينو الإمام الإمامة، ففيه قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ تصح كقول الشافعي، ومالك وغيرهما، وهو رواية عن أحمد‏.‏
    والثاني‏:‏ لا تصح، وهو المشهور عن أحمد‏.‏ وذلك أن ذلك الرجل كان مؤتمًا في أول الصلاة، وصار منفردًا بعد سلام الإمام‏.‏ فإذا ائتم به ذلك الرجل، صار المنفرد إمامًا، كما صار النبي ﷺ إمامًا بابن عباس، بعد أن كان منفردًا‏.‏ وهذا يصح في النفل كما جاء في هذا الحديث، كما هو منصوص عن أحمد وغيره من الأئمة‏.‏ وإن كان قد ذُكِرَ في مذهبه قول بأنه لا يجوز‏.‏ وأما في الفرض، فنزاع مشهور، والصحيح جواز ذلك في الفرض والنفل‏.‏ فإن الإمام التزم بالإمامة أكثر مما كان يلزمه في حال الانفراد، فليس بمصير المنفرد إمامًا محذورًا أصلا، بخلاف الأول‏.‏ و الله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML