ج/ 22 ص -64- باب الأذان والإقامة
وسئل عن الأذان. هل هو فرض أم سنة؟ وهل يستحب الترجيع أم لا؟ وهل التكبير أربع أو اثنتان كمالك؟ وهل الإقامة شفع أو فرد؟ وهل يقول قد قامت الصلاة مرة أو مرتين؟
فأجاب:
الصحيح أن الأذان فرض على الكفاية، فليس لأهل مدينة ولا قرية أن يدعوا الأذان والإقامة، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد وغيره.
وقد أطلق طوائف من العلماء أنه سنة. ثم من هؤلاء من يقول: إنه إذا اتفق أهل بلد على تركه قوتلوا، والنزاع مع هؤلاء قريب من النزاع اللفظي. فإن كثيرًا من العلماء يطلق القول بالسنة على ما يذم تاركه شرعًا، ويعاقب تاركه شرعًا، فالنزاع بين هذا وبين من يقول: إنه واجب، نزاع لفظي، ولهذا نظائر متعددة.
ج/ 22 ص -65- وأما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركيه ولا عقوبة، فهذا القول خطأ. فإن الأذان هو شعار دار الإسلام، الذي ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يعلق استحلال أهل الدار بتركه، فكان يصلى الصبح، ثم ينظر فإن سمع مؤذنًا لم يغر، وإلا أغار. وفى السنن لأبي داود والنسائي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن، ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل الشاة القاصية]. وقد قال تعالى: "اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[المجادلة: 19].
وأما الترجيع وتركه، وتثنية التكبير وتربيعه، وتثنية الإقامة وإفرادها، فقد ثبت في صحيح مسلم والسنن حديث أبي مَحْذُورة الذي علمه النبي ﷺ الأذان عام فتح مكة، وكان الأذان فيه وفى ولده بمكة، ثبت أنه علَّمَه الأذان والإقامة، وفيه [الترجيع]. وروى في حديثه [التكبير مرتين] كما في صحيح مسلم. وروى [أربعًا] كما في سنن أبي داود وغيره. وفى حديثه أنه علمه الإقامة شفعًا. وثبت في الصحيح عن أنس بن مالك قال: لما كثر الناس، قال: [تذاكروا إن يعلموا وقت الصلاة بشىء يعرفونه
ج/ 22 ص -66- فذكروا أن يوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، فأمر بلالاً أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة]. وفى رواية للبخارى: [إلا الإقامة]. وفى سنن أبي داود وغيره، أن عبد الله بن زيد لما أري الأذان، وأمره النبي ﷺ أن يلقيه على بلال، فألقاه عليه، وفيه التكبير أربعًا، بلا ترجيع.
وإذا كان كذلك، فالصواب مذهب أهل الحديث، ومن وافقهم، وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي ﷺ، لا يكرهون شيئًا من ذلك؛ إذ تنوع صفة الأذان والإقامة، كتنوع صفة القراءات والتشهدات، ونحو ذلك. وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله ﷺ لأمته.
وأما من بلغ به الحال إلى الاختلاف والتفرق حتى يوالي ويعادي ويقاتل على مثل هذا ونحوه مما سوغه الله تعالى، كما يفعله بعض أهل المشرق، فهؤلاء من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا. وكذلك ما يقوله بعض الأئمة ولا أحب تسميته من كراهة بعضهم للترجيع، وظنهم أن أبا مَحْذُورة غلط في نقله، وأنه كرره ليحفظه، ومن كراهة من خالفهم لشفع الإقامة، مع أنهم يختارون أذان أبي محذورة. هؤلاء يختارون إقامته، ويكرهون أذانه، وهؤلاء يختارون أذانه، ويكرهون
ج/ 22 ص -67- إقامته. فكلاهما قولان متقابلان. والوسط أنه لا يكره لا هذا ولا هذا.
وإن كان أحمد وغيره من أئمة الحديث يختارون أذان بلال وإقامته؛ لمداومته على ذلك بحضرته، فهذا كما يختار بعض القراءات والتشهدات ونحو ذلك. ومن تمام السنة في مثل هذا: أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا في مكان، وهذا في مكان؛ لأن هجر ما وردت به السنة، وملازمة غيره، قد يفضى إلى أن يجعل السنة بدعة، والمستحب واجبًا ويفضي ذلك إلى التفرق والاختلاف، إذا فعل آخرون الوجه الآخر.
فيجب على المسلم أن يراعي القواعد الكلية، التي فيها الاعتصام بالسنة والجماعة، لاسيما في مثل صلاة الجماعة. وأصح الناس طريقة في ذلك هم علماء الحديث، الذين عرفوا السنة واتبعوها؛ إذ من أئمة الفقه من اعتمد في ذلك على أحاديث ضعيفة، ومنهم من كان عمدته العمل الذي وجده ببلده، وجعل ذلك السنة دون ما خالفه، مع العلم بأن النبي ﷺ قد وسع في ذلك، وكل سنة.
وربما جعل بعضهم أذان بلال وإقامته ما وجده في بلده: إما بالكوفة، وإما بالشام، وإما بالمدينة. وبلال لم يؤذن بعد النبي ﷺ إلا قليلاً، وإنما أذن بالمدينة سعد القُرَظِى مؤذن أهل قباء.
ج/ 22 ص -68- والترجيع في الأذان اختيار مالك والشافعي؛ لكن مالك يرى التكبير مرتين، والشافعي يراه أربعا، وتركه اختيار أبي حنيفة. وأما أحمد، فعنده كلاهما سنة وتركه أحب إليه؛ لأنه أذان بلال.
والإقامة يختار إفرادها مالك والشافعي وأحمد، وهو مع ذلك يقول: إن تثنيتها سنة، والثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد يختارون تكرير لفظ الإقامة، دون مالك، والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام:
وأما الأذان الذي هو شعار الإسلام، فقد استعمل فقهاء الحديث كأحمد فيه جميع سنن رسول الله ﷺ، استحسن أذان بلال وإقامته، وأذان أبي مَحْذُورة، وإقامته.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي ﷺ علم أبا محذورة الأذان مرجعًا وفى الإقامة مشفوعة. وثبت في الصحيحين: أن بلالاً أمر أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة. وفى السنن أنه لم يكن يرجع، فرجح أحمد أذان بلال؛ لأنه الذي كان يفعل بحضرة رسول الله ﷺ دائمًا، قبل
ج/ 22 ص -69- أذان أبي مَحْذُورة، وبعده إلى أن مات. واستحسن أذان أبي مَحْذُورة ولم يكرهه.
وهذا أصل مستمر له في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها، يستحسن كلما ثبت عن النبي ﷺ من غير كراهة لشيء منه مع علمه بذلك، واختياره للبعض، أو تسويته بين الجميع. كما يجوز القراءة بكل قراءة ثابتة، وإن كان قد اختار بعض القراءة: مثل أنواع الأذان والإقامة، وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي ﷺ كتشهد ابن مسعود، وأبى موسى، وابن عباس، وغيرهم.
وأحبها إليه تشهد ابن مسعود؛ لأسباب متعددة: منها كونه أصحها، وأشهرها. ومنها: كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه. ومنها: كون غالبها يوافق ألفاظه، فيقتضي أنه الذي كان النبي ﷺ يأمر به غالبًا.
وكذلك أنواع الاستفتاح، والاستعاذة المأثورة، وأنه اختار بعضها.
وكذلك موضع رفع اليدين في الصلاة، ومحل وضعها بعد الرفع، وصفات التحميد المشروع بعد التسميع، ومنها صفات الصلاة على النبي ﷺ وإن اختار بعضها.
ج/ 22 ص -70-ومنها: أنواع صلاة الخوف، ويجوز كل ما فعله النبي ﷺ من غير كراهة.
ومنها: أنواع تكبيرات العيد، يجوز كل مأثور، وإن استحب بعضه.
ومنها: التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع، والتخميس، والتسبيع، وإن اختار التربيع. وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك، ويكرهون بعضه.
فمنهم من يكره [الترجيع] في الأذان: كأبي حنيفة، ومنهم من يكره تركه كالشافعي. ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعي. ومنهم من يكره إفرادها، حتى قد آل الأمر بالاتباع إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك، حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله ﷺ أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا مَحْذُورة بشفعها. وإن الضلالة حق الضلالة أن ينهى عما أمر به النبي ﷺ.
وسئل عن المؤذن إذا قال: [الصلاة خير من النوم] هل السنة أن يستدير ويلتفت، أم يستقبل القبلة، أم الشرق؟
ج/ 22 ص -71-فأجاب:
ليس هذا سنة عند أحد من العلماء، بل السنة أن يقولها وهو مستقبل القبلة، كغيرها من كلمات الأذان. وكقوله في الإقامة: قد قامت الصلاة، ولم يستثن من ذلك العلماء إلا الحيعلة، فإنه يلتفت بها يمينًا وشمالاً، ولا يختص المشرق بالكلمتين، وليس في الأذان والإقامة ما يختص المشرق والمغرب بجنسه. فمن قال: [الصلاة خير من النوم] كلاهما إلى المشرق أو المغرب، فهو مبتدع خارج عن السنة في الأذان، باتفاق العلماء.
وقد تنازع العلماء: هل يدور في المنارة؟ على قولين مشهورين. فمن دار فقد فعل ما يسوغ فيه الاجتهاد، ولكنه مع ذلك إن دار لقوله: [الصلاة خير من النوم] لزمه أن يدور مرتين. ولا قائل به، وإن خص المشرق بهما كان أبعد عن السنة، فتعين أن يقولهما مستقبل القبلة. والله أعلم.
وقال الشيخ رحمه الله :
لما ذهبت على البريد كنا نجمع بين الصلاتين، فكنت أولاً أؤذن عند الغروب وأنا راكب، ثم تأملت فوجدت النبي ﷺ لما جمع ليلة جمع لم يؤذنوا للمغرب في طريقهم، بل أخر التأذين
ج/ 22 ص -72- حتى نزل فصرت أفعل ذلك؛ لأنه في الجمع صار وقت الثانية وقتًا لهما، والأذان إعلام بوقت الصلاة.
ولهذا قلنا: يؤذن للفائتة، كما أذن بلال لما ناموا عن صلاة الفجر؛ لأنه وقتها، والأذان للوقت الذي تفعل فيه، لا الوقت الذي تجب فيه.
وسئل عمن أحرم ودخل في الصلاة وكانت نافلة، ثم سمع المؤذن فهل يقطع الصلاة ويقول مثل ما قال المؤذن؟ أو يتم صلاته ويقول مثل ما يقول المؤذن؟
فأجاب:
إذا سمع المؤذن يؤذن وهو في صلاة فإنه يتمها، ولا يقول مثل ما يقول عند جمهور العلماء، وأما إذا كان خارج الصلاة في قراءة أو ذكر أو دعاء، فإنه يقطع ذلك، ويقول مثل ما يقول المؤذن؛ لأن موافقة المؤذن عبادة مؤقتة يفوت وقتها، وهذه الأذكار لا تفوت.
وإذا قطع الموالاة فيها لسبب شرعي كان جائزًا، مثل ما يقطع
ج/ 22 ص -73- الموالاة فيها بكلام لما يحتاج إليه من خطاب آدمي، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وكذلك لو قطع الموالاة بسجود تلاوة، ونحو ذلك، بخلاف الصلاة، فإنه لا يقطع موالاتها بسبب آخر، كما لو سمع غيره يقرأ سجدة التلاوة لم يسجد في الصلاة عند جمهور العلماء، ومع هذا، ففى هذا نزاع معروف. والله أعلم.