ج/ 22 ص -5-"الفقه"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
كتاب الفقه
الجزء الثاني
الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل رحمه الله:
هل كانت الصلاة على من قبلنا من الأمم مثل ما هي علينا من الوجوب والأوقات والأفعال والهيئات. أم لا؟
فأجاب رضي الله عنه :
كانت لهم صلاة في هذه الأوقات، لكن ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات، وغيرهما، والله أعلم.
وسئل عن رجل يفسق ويشرب الخمر ويصلي الصلوات الخمس، وقد قال ﷺ: "كل صلاة لم تنه عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد صاحبها من الله إلا بعدًا".
فأجاب:
هذا الحديث ليس بثابت عن النبي ﷺ، لكن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه. وبكل
ج/ 22 ص -6- حال، فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدا. بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي، وأقرب إلي الله منه، وإن كان فاسقًا.
لكن قال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. وقد قال النبي ﷺ: "إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها"، حتى قال: "إلا عشرها". فإن الصلاة إذا أتي بها كما أمر نهته عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم تنهه دل على تضييعه لحقوقها، وإن كان مطيعًا. وقد قال تعالي: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ" الآية [مريم: 59]. وإضاعتها التفريط في واجباتها وإن كان يصليها. والله أعلم.
وسئل عن قوله تعالي: "لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَي" [النساء: 43] والرجل إذا شرب الخمر وصلي وهو سكران، هل تجوز صلاته أم لا؟
فأجاب:
صلاة السكران الذي لا يعلم ما يقول لا تجوز باتفاق، بل ولا يجوز أن يُمَكَّن من دخول المسجد لهذه الآية وغيرها، فإن النهي عن قربان الصلاة، وقربان مواضع الصلاة. والله أعلم.
ج/ 22 ص -7- وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
فصل
في قاعدة ما ترك من واجب وفعل من محرم قبل الإسلام والتوبة
قاعدة ما تركه الكافر الأصلي من واجب كالصلاة والزكاة والصيام فإنه لا يجب عليه قضاؤه بعد الإسلام بالإجماع؛ لأنه لم يعتقد وجوبه، سواء كانت الرسالة قد بلغته أو لم تكن بلغته، وسواء كان كفره جحودًا، أو عنادًا، أو جهلاً.
ولا فرق في هذا بين الذمي والحربي، بخلاف ما على الذمي من الحقوق التي أوجبت الذمة أداءها كقضاء الدين، ورد الأمانات والغصوب فإن هذه لا تسقط بالإسلام؛ لالتزامه وجوبها قبل الإسلام.
وأما الحربي المحض، فلم يلتزم وجوب شيء للمسلمين، لا من العبادات ولا من الحقوق، فليس عليه قضاء شيء لا من حقوق الله ، ولا من حقوق المسلمين، وإن كان يعاقب على تركها لو لم يسلم، فإن الإسلام يهدم ما كان قبله.
ج/ 22 ص -8- وكذلك ما فعله الكافر من المحرمات في دين الإسلام التي يستحلها في دينه كالعقود والقبوض الفاسدة، كعقد الربا، والميسر، وبيع الخمر والخنزير، والنكاح بلا ولي ولا شهود، وقبض مال المسلمين بالقهر، والاستيلاء، ونحو ذلك فإن ذلك المحرم يسقط حكمه بالإسلام، ويبقي في حقه بمنزلة ما لم يحرم، فإن الإسلام يغفر له به تحريم ذلك العقد والقبض، فيصير الفعل في حقه عفوًا بمنزلة من عقد عقدًا أو قبض قبضًا غير محرم، فيجري في حقه مجري الصحيح في حق المسلمين؛ ولهذا ما تقابضوا فيه من العقود الفاسدة أقروا على ملكه إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا.
وكذلك عقود النكاح التي انقضي سبب فسادها قبل الحكم، والإسلام، بخلاف ما لم يتقابضوه، فإنه لا يجوز لهم بعد الإسلام أن يقبضوا قبضًا محرمًا، كما لا يعقدون عقدًا محرمًا، وهذا مقرر في موضعه. لقوله تعالي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" [البقرة:278]، فأمرهم بترك ما بقي في الذمم من الربا، ولم يأمرهم برد المقبوض.
وقال النبي ﷺ: "من أسلم على شيء فهو له"، وقال: "وأيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام"، وأقر أهل الجاهلية على مناكحهم التي كانت في الجاهلية، مع أن كثيرًا منها كان غير مباح في الإسلام.
ج/ 22 ص -9- وهذا كالمتفق عليه بين الأئمة المشهورين. لكن ثَم خلاف شاذ في بعض صوره.
وأما ما استولي عليه أهل الحرب من أموال المسلمين ثم أسلموا، فإنه لهم بسنة رسول الله ﷺ، واتفاق السلف، وجماهير الأئمة، وهو منصوص أحمد، وظاهر مذهبه.
وأما التحاكم إلينا في مثل هذه الصورة، فإنها تكون إذا كانوا ذوي عهد بأمان أو ذمة أو صلح فنقرهم عليه في هذه الصورة أيضًا فهذا في الحقوق التي وجبت له باعتقاده في كفره، وإن كان سببها محرمًا في دين الإسلام.
وأما العقوبات، فإنه لا يعاقب على ما فعله قبل الإسلام من محرم، سواء كان يعتقد تحريمه أو لم يعتقده، فلا يعاقب على قتل نفس، ولا ربًا، ولا سرقة، ولا غير ذلك. سواء فعل ذلك بالمسلمين، أو بأهل دينه. فإنه إن كان بالمسلمين، فهو يعتقد إباحة ذلك منهم، وأما أهل دينه، فهم مباحون في دين الإسلام، وإن اعتقد هو الحظر؛ ولهذا نقول: إن ما سباه وغنمه الكفار بعضهم من نفوس بعض وأموالهم، فإنهم لا يعاقبون عليها بعد الإسلام، وإن اعتقدوا التحريم. فمتي كان مباحًا في دينه أو في دين الإسلام زالت العقوبة.
ج/ 22 ص -10- لكن إن كان محرمًا في الدينين مثل أن يكون بينه وبين قوم عهد فإن كان عهده مع المسلمين، فهذا هو المستأمن والذمي والمصالح، فهؤلاء يضمنون ما أتلفوه للمسلمين من النفوس والأموال، ويعاقبون على ما تعدوا به على المسلمين، ويعاقبون على الزنا، وفي شرب الخمر خلاف معروف. وأما إن كان عهدهم مع غير المسلمين مثل قضية المغيرة بن شعبة.
فصل
فأما المرتد، فلا يجب عليه قضاء ما تركه في الردة من صلاة وزكاة وصيام في المشهور، ولزمه ما تركه قبل الردة في المشهور. وقيل: يجب عليه القضاء، وقيل: لا يجب في الصورتين. ويحكي ثلاث روايات عن أحمد. وأما ما فعله من المحرمات: فإن كان في قبضة المسلمين، ضَمِنَ ما أتلفه من نفس ومال، وإن كان في طائفة ممتنعة ففيه روايات.
فصل
وأما المسلم، إذا ترك الواجب قبل بلوغ الحجة، أو متأولًا، مثل من ترك الوضوء من لحوم الإبل، أو مس الذكر، أو صلي في أعطان
ج/ 22 ص -11- الإبل، أو ترك الصلاة جهلًا بوجوبها عليه بعد إسلامه، ونحو ذلك، فهل يجب عليه قضاء هذه الواجبات؟ على قولين في المذهب: تارة تكون رواية منصوصة، وتارة تكون وجها.
وأصلها أن حكم الخطاب بفروع الشريعة هل يثبت حكمه في حق المسلم قبل بلوغه؟ على وجهين ذكرهما القاضي أبو يعلي في مصنف مفرد. وفيها وجه ثالث اختاره طائفة من الأصحاب، وهو الفرق بين الخطاب الناسخ، والخطاب المبتدأ. فلا يثبت النسخ إلا بعد بلوغ الناسخ، بخلاف الخطاب المبتدأ. وقد قرروه بالدلائل الكثيرة أنه لا يجب القضاء في هذه الصور كلها، وأنه لا يثبت حكم الخطاب إلا بعد البلاغ جملة، وتفصيلاً.
ولهذا لم يأمر النبي ﷺ بالقضاء لأبي ذر لما مكث مدة لا يصلي مع الجنابة بالتيمم، ولا أمر عمر بن الخطاب في قضية عمار بن ياسر، ولا أمر بإعادة الصوم من أكل حتى يتبين له العقال الأبيض من الأسود، ونظائره متعددة في الشريعة.
بل إذا عفي للكافر بعد الإسلام عما تركه من الواجبات لعدم الاعتقاد وإن كان الله قد فرضها عليه، وهو معذب على تركها فلأن يعفو للمسلم عما تركه من الواجبات لعدم اعتقاد الوجوب، وهو غير معذبه
ج/ 22 ص -12- على الترك لاجتهاده، أو تقليده، أو جهله الذي يعذر به أولى وأحرى. وكما أن الإسلام يجب ما كان قبله، فالتوبة تجب ما كان قبلها، لا سيما توبة المعذور الذي بلغه النص، أو فهمه بعد أن لم يكن تمكن من سمعه وفهمه،وهذا ظاهر جدًا إلى الغاية.
وكذلك ما فعله من العقود والقبوض التي لم يبلغه تحريمها لجهل يعذر به، أو تأويل. فعلى إحدى القولين حكمه فيها هذا الحكم وأولى. فإذا عامل معاملة يعتقد جوازها بتأويل: من ربا، أو ميسر، أو ثمن خمر، أو نكاح فاسد، أو غير ذلك، ثم تبين له الحق وتاب، أو تحاكم إلينا، أو استفتانا، فإنه يقر على ما قبضه بهذه العقود، ويقر على النكاح الذي مضى مفسده، مثل أن يكون قد تزوج بلا ولي أو بلا شهود معتقدًا جواز ذلك، أو نكح الخامسة في عدة الرابعة، أو نكاح تحليل مختلف فيه، أو غير ذلك، فإنه وإن تبين له فيما بعد فساد النكاح، فإنه يقر عليه.
أما إذا كان نكح باجتهاد وتبين له الفساد باجتهاد، فهذا مبني على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، لا في الحكم ولا في الفتيا أيضًا فهذا مأخذ آخر.
وإنما الغرض هنا أنه لو تيقن التحريم بالنص القاطع كتيقن من
ج/ 22 ص -13- كان كافرًا صحة الإسلام فإنا نقره على ما مضى من عقد النكاح، ومن المقبوض في العقد الفاسد، إذا لم يكن المفسد قائمًا. كما يقر الكفار بعد الإسلام على مناكحتهم التي كانت محرمة في الإسلام وأولى.
فإن فعل الواجبات وترك المحرمات باب واحد، كما تقدم في الكافر. وهذا بَين؛ فإن العفو والإقرار للمسلم المتأول بعد الرجوع عن تأويله أولى من العفو والإقرار عن الكافر المتأول، لكن في هذا خلاف في المذهب وغيره.
وشبهة المخالف نظره إلى أن هذا منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد وجعل المسلمين جنسًا واحدًا، ولم يفرق بين المتأول وغيره. ونظير هذه المسألة: ما أتلفه أهل البغي المتأولون على أهل العدل من النفوس والأموال، هل يضمنون؟ على روايتين:
إحداهما: يضمنونه، جعلاً لهم كالمحاربين، وكقتال العصبية الذي لا تأويل فيه، وهذا نظير من يجعل العقود والقبوض المتأول فيها بمنزلة ما لا تأويل فيه.
والثانية: لا يضمنونه، وعلى هذا اتفق السلف، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون فأجمعوا
ج/ 22 ص -14- أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فلا ضمان فيه وفي لفظ : ألحقوهم في ذلك بأهل الجاهلية.
ولهذ لم يضمن النبي ﷺ أسامة دم الذي قتله بعد ما قال: لا إله إلا الله ؛ لأنه قتله متأولاً: أي أنهم وإن استحلوا المحرم لكن لما كانوا جاهلين متأولىن، كانوا بمنزلة أهل الجاهلية في عدم الضمان، وإن فارقوهم في عفو الله ورحمته؛ لأن هذه الأمة عفي لها عن الخطأ والنسيان، بخلاف الكافر؛ فإنه لا يغفر له الكفر الذي أخطأ فيه.
فَصْل
وهذا الذي ذكرته فيما تركه المسلم من واجب، أو فعله من محرم بتأويل اجتهاد أو تقليد، واضح عندي، وحاله فيه أحسن من حال الكافر المتأول.
وهذا لا يمنع أن أقاتل الباغي المتأول، وأجلد الشارب المتأول، ونحو ذلك. فإن التأويل لا يرفع عقوبة الدنيا مطلقًا؛ إذ الغرض بالعقوبة دفع فساد الاعتداء، كما لا يرفع عقوبة الكافر، وإنما الكلام في قضاء ما تركه من واجب، وفي العقود والقبوض التي فعلها بتأويل،
ج/ 22 ص -15- وفي ضمان النفوس والأموال التي استحلها بتأويل، كما استحل أسامة قتل الذي قتله بعد ما قال: لا إله إلا الله ، وكذلك لا يعاقب على ما مضي إذا لم يكن فيه زجر عن المستقبل.
وأما العقوبة للدفع عن المستقبل، كقتال الباغي، وجلد الشارب، فهذه مقصودها أداء الواجب في المستقبل، ودفع المحرم في المستقبل، وهذا لا كلام فيه، فإنه يشرع في مثل هذا عقوبة المتأول في بعض المواضع.
وإنما الغرض بما يتعلق بالماضي من قضاء واجبه، وترك الحقوق التي حصلت فيه، والعقوبة على ما فعله، فهذه الأمور المتعلقة به من الحدود والحقوق، والعبادات هي التي يجب أن يكون المسلم المتأول أحسن حالاً فيها من الكافر المتأول وأولى.
فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، والمسلم المتأول معذور، ومعه الإسلام الذي تغفر معه الخطايا، والتوبة التي تَجُبّ ما كان قبلها، وفي إيجاب القضاء وإسقاط الحقوق وإقامة العقوبات تنفير عن التوبة، والرجوع إلي الحق أكثر من التنفير بذلك للكافر، فإن أعلام الإسلام ودلالته أعظم من أعلام هذه الفروع، وأدلتها، والداعي إلي الإسلام من سلطان الحجة والقدرة قد يكون أعظم من الداعي إلى هذه الفروع.
ج/ 22 ص -16- وهذا لا شبهة فيه عندي، وإن كان فه نزاع؛ فإني أعلم أنه لولا مضي السُّنة بمثل ذلك في حق الكفار، لكان مقتضى هذا القياس عند أصحابه طرده في حق الكافر أيضًا. وقد راعى أصحاب أبي حنيفة ذلك في النكاح، فلم يمنعوا منه إلا ما له مساغ في الإسلام، والنزاع لا يهتك حرمة العلم والفقه بعد ظهور حجته.
فَصْل
ولكن النظر في فصلين:
أحدهما: من ترك الواجب، أو فعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه، ولكن جهلاً وإعراضًا عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه أو أنه سمع إيجاب هذا، وتحريم هذا، ولم يلتزمه إعراضًا لا كفرًا بالرسالة، فهذان نوعان يقعان كثيرًا من ترك طلب العلم الواجب عليه، حتى ترك الواجب وفعل المحرم، غير عالم بوجوبه وتحريمه أو بلغه الخطاب في ذلك، ولم يلتزم اتباعه، تعصبًا لمذهبه. أو اتباعًا لهواه، فإن هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي. كما ترك الكافر الإسلام.
فإن الاعتقاد هو الإقرار بالتصديق، والالتزام.فقد يترك التصديق
ج/ 22 ص -17- والالتزام جميعًا؛ لعدم النظر الموجب للتصديق، وقد يكون مصدقًا بقلبه لكنه غير مقر ولا ملتزم، اتباعًا لهواه، فهل يكون حال هذا إذا تاب وأقر بالوجوب والتحريم تصديقًا والتزامًا، بمنزلة الكافر إذا أسلم لأن التوبة تجب ما قبلها، كما أن الإسلام يجب ما قبله؟ فهذه الصورة أبعد من التي قبلها، فإن من أوجب القضاء على التارك المتأول، وفسخ العقد والقبض على المتأول المعذور، فعلي هذا المذنب بترك الاعتقاد الواجب أولى.
وأما على القول الذي قررناه وجزمنا بصحته، فهذا فيه نظر. قد يقال: هذا عاص ظالم بترك التعلم، والالتزام، فلا يلزم من العفو عن المخطئين في تأويله العفو عن هذا.
وقد يقال وهو أظهر في الدليل والقياس: ليس هذا بأسوأ حال من الكافر المعاند الذي ترك استماع القرآن كبرًا وحسدًا وهوي، أو سمعه وتدبره واستيقنت نفسه أنه حق من عند الله ، ولكن جحد ذلك ظلمًا وعلوًا: كحال فرعون، وأكثر أهل الكتاب، والمشركين، الذين لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
والتوبة كالإسلام، فإن الذي قال: "الإسلام يهدم ما كان قبله" هو الذي قال: "التوبة تهدم ما كان قبلها" وذلك في حديث واحد
ج/ 22 ص -18- من رواية عمرو بن العاص رواه أحمد ومسلم.
فإذا كان العفو عن الكافر لأجل ما وجد من الإسلام الماحي، والحسنات يذهبن السيئات، ولأن في عدم العفو تنفير عن الدخول، لما يلزم الداخل فيه من الآصار، والأغلال الموضوعة على لسان هذا النبي ﷺ، فهذا المعني موجود في التوبة عن الجهل والظلم، فإن الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يمحو الله بها السيئات، وفي عدم العفو تنفير عظيم عن التوبة، وآصار ثقيلة وأغلال عظيمة على التائبين.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي ﷺ: "إن الله يبدل لعبده التائب بدل كل سيئة حسنة"، على ظاهر قوله: "يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ" [الفرقان: 70]. فإذا كانت تلك التي تاب منها صارت حسنات، لم يبق في حقه بعد التوبة سيئة أصلاً، فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفو عنه، ويصير ذلك الترك من باب المعفو عنه، فلا يجعل تاركًا لواجب، ولا فاعلاً لمحرم، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة الشرعية. فإن النبي ﷺ قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها".
واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامدًا: هل يقضيه؟
ج/ 22 ص -19- فقال الأكثرون: يقضيه، وقال بعضهم: لا يقضيه، ولا يصح فعله بعد وقته كالحج. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها: "فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة".
ودل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها. ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال، لكان الجميع سواء، لكن المضيع لوقتها كان ملتزمًا لوجوبها، وإنما ضيع بعض حقوقها وهو الوقت، وأتي بالفعل. فأما من لم يعلم وجوبها عليه جهلاً وضلالاً، أو علم الإيجاب ولم يلتزمه، فهذا إن كان كافرًا، فهو مرتد، وفي وجوب القضاء عليه الخلاف المتقدم لكن هذا شبيه بكفر النفاق.
فالكلام في هذا متصل بالكلام فيمن أقام الصلاة وآتي الزكاة نفاقًا أو رياءً، فإن هذا يجزئه في الظاهر، ولا يقبل منه في الباطن، قال الله تعالي: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" [محمد: 9]، وقال: "وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ" [التوبة: 54]، وقال تعالي: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ" [الماعون: 4 7] ، وقال تعالى:
ج/ 22 ص -20-"وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً" [النساء: 142].
وقد اختلف أصحابنا في الإمام إذا أخذ الزكاة قهرًا: هل تجزئه في الباطن؟ على وجهين مع أنها لا تستعاد منه :
أحدهما: لا تجزيه لعدم النية مع القدرة عليها.
والثاني: أن نية الإمام تقوم مقام نية الممتنع؛ لأن الإمام نائب المسلمين في أداء الحقوق الواجبة عليهم. والأول أصح، فإن النبي ﷺ كان يأخذها منهم بإعطائهم إياها، وقد صرح القرآن بنفي قبولها؛ لأنهم ينفقون وهم كارهون. فعلم أنه إن أنفق مع كراهة الإنفاق، لم تقبل منه، كمن صلي رياء.
لكن لو تاب المنافق والمرائي: فهل تجب عليه في الباطن الإعادة؟ أو تنعطف توبته على ما عمله قبل ذلك فيثاب عليه، أو لا يعيد ولا يثاب.
أما الإعادة فلا تجب على المنافق قطعًا؛ لأنه قد تاب من المنافقين جماعة عن النفاق على عهد رسول الله ﷺ ولم يأمر أحدًا منهم بالإعادة. وقد قال تعالي: "وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" [التوبة: 74].
ج/ 22 ص -21-وأيضًا، فالمنافق كافر في الباطن، فإذا آمن فقد غفر له ما قد سلف، فلا يجب عليه القضاء، كما لا يجب على الكافر المعلن إذا أسلم.
وأما ثوابه على ما تقدم مع التوبة: فيشبه الكافر إذا عمل صالحًا في كفره، ثم أسلم هل يثاب عليه؟ ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما سلف لك من خير".
وأما المرائي إذا تاب من الرياء مع كونه كان يعتقد الوجوب، فهو شبيه بالمسألة التي نتكلم فيها، وهي مسألة من لم يلتزم أداء الواجب وإن لم يكن كافرًا في الباطن ففي إيجاب القضاء عليه تنفير عظيم عن التوبة.
فإن الرجل قد يعيش مدة طويلة لا يصلي ولا يزكي، وقد لا يصوم أيضًا ولا يبالي من أين كسب المال: أمن حلال؟ أم من حرام؟ ولا يضبط حدود النكاح والطلاق، وغير ذلك. فهو في جاهلية، إلا أنه منتسب إلي الإسلام، فإذا هداه الله وتاب عليه، فإن أوجب عليه قضاء جميع ما تركه من الواجبات، وأمر برد جميع ما
ج/ 22 ص -22- اكتسبه من الأموال، والخروج عما يحبه من الإبضاع إلي غير ذلك صارت التوبة في حقه عذابًا، وكان الكفر حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام، الذي كان عليه، فإن توبته من الكفر رحمة، وتوبته وهو مسلم عذاب.
وأعرف طائفة من الصالحين من يتمني أن يكون كافرًا ليسلم فيغفر له ما قد سلف؛ لأن التوبة عنده متعذرة عليه، أو متعسرة على ما قد قيل له واعتقده من التوبة، ثم هذا منفر لأكثر أهل الفسوق عن التوبة، وهو شبيه بالمؤيس للناس من رحمة الله .
ووضع الآصار ثقيلة، والأغلال عظيمة على التائبين الذين هم أحباب الله ، فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين. والله أفرح بتوبة عبده من الواجد لماله بعد قوامه، بعد اليأس منه.
فينبغي لهذا المقام أن يحرر، فإن كفر الكافر لم يسقط عنه ما تركه من الواجبات، وما فعله من المحرمات، لكون الكافر كان معذورًا، بمنزلة المجتهد فإنه لا يعذر بلا خلاف، وإنما غفر له لأن الإسلام توبة، والتوبة تجب ما قبلها، والتوبة توبة من ترك تصديق وإقرار، وترك عمل وفعل. فيشبه والله أْعلم أن يجعل حال هؤلاء في جاهليتهم كحال غيرهم.
ج/ 22 ص -23-فَصْل
فالأحوال المانعة من وجوب القضاء للواجب والترك للمحرم: الكفر الظاهر، والكفر الباطن، والكفر الأصلي، وكفر الردة، والجهل الذي يعذر به لعدم بلوغ الخطاب، أو لمعارضة تأويل باجتهاد أو تقليد.
وَسُئِلَ عن قوم منتسبين إلي المشائخ يتوبونهم عن قطع الطريق، وقتل النفس، والسرقة، وألزموهم بالصلاة لكونهم يصلون صلاة عادة البادية، فهل تجب إقامة حدود الصلاة أم لا؟
فأجاب:
أما الصلاة فقد قال الله تعالي: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ" [الماعون: 4 7]، وقال تعالي: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" [مريم: 59]،
ج/ 22 ص -24-فقد ذم الله تعالي في كتابه الذين يصلون إذا سهوا عن الصلاة، وذلك على وجهين:
أحدهما: أن يؤخرها عن وقتها.
الثاني: ألا يكمل واجباتها: من الطهارة، والطمأنينة، والخشوع، وغير ذلك. كما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق ثلاث مرار يترقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً".
فجعل النبي ﷺ صلاة المنافقين التأخير، وقلة ذكر اسم الله سبحانه وقد قال تعالي: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً" [النساء: 142]، وقال: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 145، 146].
وأما قوله سبحانه وتعالي :"فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا"[مريم:59]،
ج/ 22 ص -25-فقد قال بعض السلف: إضاعتها: تأخيرها عن وقتها، وإضاعة حقوقها، قالوا: وكانوا يصلون، ولو تركوها لكانوا كفارًا؛ فإنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: "ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة"، وقال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"، وفي الحديث: "إن العبد إذا كمل الصلاة، صعدت ولها برهان كبرهان الشمس. وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإن لم يكملها، فإنها تلف كما يلف الثوب، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول ضيعك الله كما ضيعتني".
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها" حتى قال: "إلا عشرها"، وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.
وقوله: "وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ" الذي يشتغل به عن إقامة الصلاة كما أمر الله تعالي رسوله ﷺ بنوع من أنواع الشهوات: كالرقص، والغناء وأمثال ذلك.
وفي الصحيحين: أن رجلاً دخل المسجد فصلي ركعتين، ثم أتي النبي ﷺ فسلم عليه، فقال: "وعليك السلام، ارجع
ج/ 22 ص -26- فصل فإنك لم تصل" فرجع فصلي ثم أتاه فسلم عليه، فقال: "وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل" مرتين أو ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيرها، فعلمني ما يجزئني في الصلاة، فقال: "إذا قمت إلي الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمأن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها".
وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: "لا تقبل صلاة من لم يقم صلبه في الركوع والسجود"، "ونهي عن نقر كنقر الغراب". ورأى حذيفة رجلاً يصلي لا يتم الركوع والسجود فقال: لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا ﷺ، أو قال: لو مات هذا. رواه ابن خزيمة في صحيحه.
وَسُئِلَ عمن قال: إن الصبيان مأمورون بالصلاة قبل البلوغ، وقال آخر: لا نسلم، فقال له: ورد عن النبي ﷺ أنه قال: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر"، فقال هذا ما هو أمر من الله، ولم يفهم منه تنقيص، فهل يجب في ذلك شيء؟ أفتونا مأجورين.
ج/ 22 ص -27-فأجاب:
إن كان المتكلم أراد أن الله أمرهم بالصلاة، بمعني أنه أوجبها عليهم، فالصواب مع الثاني، وأما إن أراد أنهم مأمورون: أي أن الرجال يأمرونهم بها لأمر الله إياهم بالأمر، أو أنها مستحبة في حق الصبيان، فالصواب مع المتكلم.
وقول القائل: ما هو أمر من الله ، إذا أراد به أنه ليس أمرًا من الله للصبيان، بل هو أمر لمن يأمر الصبيان، فقد أصاب. وإن أراد أن هذا ليس أمرًا من الله لأحد، فهذا خطأ يجب عليه أن يرجع عنه، ويستغفر الله . والله أعلم.
وَسُئِلَ عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلي النهار؛ لأشغال لهم من زرع أو حرث أو جنابة أو خدمة أستاذ، أو غير ذلك. فهل يجوز لهم ذلك أم لا؟
فأجاب:
لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلي الليل، ولا يؤخر صلاة الليل إلي النهار لشغل من الأشغال، لا لحصد ولا لحرث ولا لصناعة ولا لجنابة، ولا نجاسة ولا صيد ولا لهو ولا لعب ولا لخدمة أستاذ، ولا غير ذلك، بل المسلمون كلهم متفقون على أن عليه أن
ج/ 22 ص -28- يصلي الظهر والعصر بالنهار، ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يترك ذلك لصناعة من الصناعات، ولا للهو ولا لغير ذلك من الأشغال. وليس للمالك أن يمنع مملوكه، ولا للمستأجر أن يمنع الأجير من الصلاة في وقتها.
ومن أخرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس، وجبت عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب فإن تاب والتزم أن يصلي في الوقت، ألزم بذلك، وإن قال: لا أصلي إلا بعد غروب الشمس لاشتغاله بالصناعة والصيد أو غير ذلك، فإنه يقتل.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله". وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله". وفي وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب أنه قال: إن لله حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل.
والنبي ﷺ كان أخر صلاة العصر يوم الخندق لاشتغاله بجهاد الكفار، ثم صلاها بعد المغرب، فأنزل الله تعالي: "حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى" [البقرة:238].
ج/ 22 ص -29- وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ: "أن الصلاة الوسطى صلاة العصر"؛ فلهذا قال جمهور العلماء: إن ذلك التأخير منسوخ بهذه الآية، فلم يجوزوا تأخير الصلاة حال القتال، بل أوجبوا عليه الصلاة في الوقت حال القتال، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وعن أحمد رواية أخري أنه يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير، ومذهب أبي حنيفة يشتغل بالقتال ويصلي بعد الوقت، وأما تأخير الصلاة لغير الجهاد كصناعة أو زراعة أو صيد أو عمل من الأعمال ونحو ذلك فلا يُجَوِّزه أحد من العلماء، بل قد قال تعالى: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ" [الماعون: 4، 5]، قال طائفة من السلف هم الذين يؤخرونها عن وقتها. وقال بعضهم: هم الذين لا يؤدونها على الوجه المأمور به، وإن صلاها في الوقت فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء، فإن العلماء متفقون على أن تأخير صلاة الليل إلى النهار وتأخير صلاة النهار إلى الليل بمنزلة تأخير صيام شهر رمضان إلى شوال.
فمن قال: أصلى الظهر والعصر بالليل، فهو باتفاق العلماء بمنزلة من قال: أفطر شهر رمضان وأصوم شوال، وإنما يعذر بالتأخير النائم والناسي. كما قال النبي ﷺ: "من نام عن صلاة
ج/ 22 ص -30-أو نسيها،فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك".
فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابة ولا حدث ولا نجاسة ولا غير ذلك، بل يصلي في الوقت بحسب حاله، فإن كان محدثًا وقد عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، تيمم وصلى. وكذلك الجنب يتيمم ويصلي إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله لمرض أو لبرد. وكذلك العريان يصلي في الوقت عريانًا، ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت في ثيابه. وكذلك إذا كان عليه نجاسة لا يقدر أن يزيلها فيصلي في الوقت بحسب حاله. وهكذا المريض يصلي على حسب حاله في الوقت، كما قال النبي ﷺ لعمران بن حصين: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"، فالمريض باتفاق العلماء يصلي في الوقت قاعدًا أو على جنب، إذا كان القيام يزيد في مرضه، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائمًا.
وهذا كله لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، كما أن صيام شهر رمضان واجب في وقته، ليس لأحد أن يؤخره عن وقته، ولكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، باتفاق المسلمين.
وكذلك يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر
ج/ 22 ص -31- عند كثير من العلماء للسفر والمرض، ونحو ذلك من الأعذار.
وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل، وتأخير صلاة الليل إلى النهار، فلا يجوز لمرض ولا لسفر، ولا لشغل من الأشغال، ولا لصناعة باتفاق العلماء. بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الجمع بين صلاتين من غير عذر من الكبائر. لكن المسافر يصلي ركعتين ليس عليه أن يصلي أربعًا. بل الركعتان تجزئ المسافر في سفر القصر، باتفاق العلماء.
ومن قال: إنه يجب على كل مسافر أن يصلي أربعًا، فهو بمنزلة من قال: إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان، وكلاهما ضلال، مخالف لإجماع المسلمين، يستتاب قائله. فإن تاب، وإلا قتل. والمسلمون متفقون على أن المسافر إذا صلى الرباعية ركعتين، والفجر ركعتين والمغرب ثلاثًا، وأفطر شهر رمضان وقضاه أجزأه ذلك.
وأما من صام في السفر شهر رمضان، أو صلى أربعًا، ففيه نزاع مشهور بين العلماء: منهم من قال لا يجزئه ذلك، فالمريض له أن يؤخر الصوم باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين، والمسافر له أن يؤخر الصيام باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين.
ج/ 22 ص -32- وهذا مما يبين أن المحافظة على الصلاة في وقتها أوكد من الصوم في وقته قال تعالى: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ" [مريم: 59]، قال طائفة من السلف: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارًا.
وقال النبي ﷺ: "سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة"، رواه مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: "كيف بك إذا كان عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، وينسؤون الصلاة عن وقتها؟" قلت: فماذا تأمرني؟ قال: "صَلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة". وعن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال: "سيكون عليكم أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها"، وقال رجل: أصلى معهم؟ قال: "نعم إن شئت واجعلوها تطوعًا" رواه أحمد وأبو داود، ورواه عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: "كيف بكم إذا كان عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يارسول الله؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، واجعل صلاتك معهم نافلة".
ولهذا اتفق العلماء على أن الرجل إذا كان عريانًا مثل أن تنكسر
ج/ 22 ص -33- بهم السفينة أو تسلبه القطاع ثيابه فإنه يصلي في الوقت عريانًا، والمسافر إذا عدم الماء يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق العلماء، وإن كان يجد الماء بعد الوقت، وكذلك الجنب المسافر إذا عدم الماء تيمم وصلى، ولا إعادة عليه باتفاق الأئمة الأربعة، وغيرهم. وكذلك إذا كان البرد شديدًا فخاف إن اغتسل أن يمرض فإنه يتيمم ويصلي في الوقت، ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باغتسال. وقد قال النبي ﷺ: "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير".
وكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم، فإذا تيمم لصلاة فريضة قرأ القرآن داخل الصلاة وخارجها، وإن كان جنبًا. ومن امتنع عن الصلاة بالتيمم، فإنه من جنس اليهود والنصاري، فإن التيمم لأمة محمد ﷺ خاصة، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي". وفي لفظ: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره".
وقد تنازع العلماء هل يتيمم قبل الوقت؟ وهل يتيمم لكل صلاة أو يبطل بخروج الوقت؟ أو يصلي ما شاء كما يصلي بالماء ولا ينقضه
ج/ 22 ص -34- إلا ما ينقض الوضوء أو القدرة على استعمال الماء؟ وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره، فإن النبي ﷺ قال: "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك، فإن ذلك خير" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وإذا كان عليه نجاسة وليس عنده ما يزيلها به، صلى في الوقت وعليه النجاسة، كما صلى عمر بن الخطاب وجرحه يثعب دما، ولم يؤخر الصلاة حتى خرج الوقت.
ومن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا، فقيل: يصلي عريانًا. وقيل: يصلي فيه ويعيد. وقيل: يصلي فيه ولا يعيد، وهذا أصح أقوال العلماء، فإن الله لم يأمر العبد أن يصلي الفرض مرتين، إلا إذا لم يفعل الواجب الذي يقدر عليه في المرة الأولي، مثل أن يصلي بلا طمأنينة، فعليه أن يعيد الصلاة، كما أمر النبي ﷺ من صلى ولم يطمئن أن يعيد الصلاة. وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل".
وكذلك من نسي الطهارة وصلى بلا وضوء فعليه أن يعيد، كما أمر النبي ﷺ من توضأ وترك لمعة في قدمه لم يمسها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة.
ج/ 22 ص -35- فأما من فعل ما أمر به بحسب قدرته فقد قال تعالى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]، وقال النبي ﷺ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". ومن كان مستيقظًا في الوقت والماء بعيد منه لا يدركه إلا بعد الوقت، فإنه يصلي في الوقت بالتيمم باتفاق العلماء.
وكذلك إذا كان البرد شديدًا، ويضره الماء البارد، ولا يمكنه الذهاب إلى الحمام، أو تسخين الماء حتى يخرج الوقت، فإنه يصلي في الوقت بالتيمم. والمرأة والرجل في ذلك سواء، فإذا كانا جنبين ولم يمكنهما الاغتسال حتى يخرج الوقت، فإنهما يصليان في الوقت بالتيمم.
والمرأة الحائض إذا انقطع دمها في الوقت، ولم يمكنها الاغتسال إلا بعد خروج الوقت، تيممت وصلت في الوقت. ومن ظن أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء خير من الصلاة في الوقت بالتيمم فهو ضال جاهل.
وإذا استيقظ آخر وقت الفجر، فإذا اغتسل طلعت الشمس، فجمهور العلماء هنا يقولون: يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وأحد القولين في مذهب مالك. وقال في القول الآخر: بل يتيمم أيضًا هنا ويصلي قبل طلوع الشمس
ج/ 22 ص -36- كما تقدم في تلك المسائل؛ لأن الصلاة في الوقت بالتيمم خير من الصلاة بعده بالغسل. والصحيح قول الجمهور؛ لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، كما قال النبي ﷺ: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها"، فالوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، وما قبل ذلك لم يكن وقتًا في حقه.
وإذا كان كذلك، فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها، فقد صلى الصلاة في وقتها ولم يفوتها، بخلاف من استيقظ في أول الوقت فإن الوقت في حقه قبل طلوع الشمس، فليس له أن يفوت الصلاة. وكذلك من نسي صلاة وذكرها فإنه حينئذ يغتسل ويصلي في أي وقت كان، وهذا هو الوقت في حقه، فإذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، كما استيقظ أصحاب النبي ﷺ لما ناموا عن الصلاة عام خيبر، فإنه يصلي بالطهارة الكاملة. وإن أخرها إلى حين الزوال، فإذا قدر أنه كان جنبًا، فإنه يدخل الحمام ويغتسل وإن أخرها إلى قريب الزوال، ولا يصلي هنا بالتيمم، ويستحب له أن ينتقل عن المكان الذي نام فيه، كما انتقل النبي ﷺ وأصحابه عن المكان الذي ناموا فيه، وقال: "هذا مكان حضرنا فيه الشيطان". وقد نص على ذلك أحمد وغيره،وإن صلى فيه جازت صلاته.
ج/ 22 ص -37- فإن قيل: هذا يسمي قضاء أو أداء؟
قيل: الفرق بين اللفظين هو فرق اصطلاحي؛ لا أصل له في كلام الله ورسوله، فإن الله تعالى سمي فعل العبادة في وقتها قضاء، كما قال في الجمعة: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ" [الجمعة: 10]، وقال تعالى: "فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ" [البقرة:200] مع أن هذين يفعلان في الوقت. و[القضاء] في لغة العرب: هو إكمال الشيء وإتمامه، كما قال تعالى: "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ" [فصلت: 12]، أي أكملهن وأتمهن. فمن فعل العبادة كاملة، فقد قضاها، وإن فعلها في وقتها.
وقد اتفق العلماء فيما أعلم على أنه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء. ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت صلاته، ولو اعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته.
وكل من فعل العبادة في الوقت الذي أمر به أجزأته صلاته، سواء نواها أداء أو قضاء، والجمعة تصح سواء نواها أداء أو قضاء إذا أراد القضاء المذكور في القرآن، والنائم والناسي إذا صليا وقت الذكر والانتباه فقد صليا في الوقت الذي أمرا بالصلاة فيه، وإن كانا قد صليا بعد خروج الوقت المشروع لغيرهما. فمن سمي ذلك قضاء باعتبار هذا المعني، وكان في لغته أن القضاء فعل العبادة بعد خروج الوقت المقدر شرعًا
ج/ 22 ص -38- للعموم، فهذه التسمية لا تضر ولا تنفع.
وبالجملة، فليس لأحد قط شغل يسقط عنه فعل الصلاة في وقتها، بحيث يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار، بل لابد من فعلها في الوقت، لكن يصلي بحسب حاله فما قدر عليه من فرائضها فعله، وما عجز عنه سقط عنه، ولكن يجوز الجمع للعذر بين صلاتي النهار وبين صلاتي الليل، عند أكثر العلماء: فيجوز الجمع للمسافر إذا جد به السير عند مالك والشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه، ولا يجوز في الرواية الأخري عنه وهو قول أبي حنيفة.
وفعل الصلاة في وقتها أولي من الجمع إذا لم يكن عليه حرج، بخلاف القصر فإن صلاة ركعتين أفضل من صلاة أربع، عند جماهير العلماء. فلو صلى المسافر أربعًا فهل تجزئه صلاته؟ على قولين. والنبي ﷺ كان في جميع أسفاره يصلي ركعتين، ولم يصل في السفر أربعًا قط، ولا أبو بكر، ولا عمر.
وسئل عن العمل الذي لله بالنهار لا يقبله بالليل، والعمل الذي بالليل لا يقبله بالنهار.
ج/ 22 ص -39-فأجاب:
وأما عمل النهار الذي لا يقبله الله بالليل، وعمل الليل الذي لا يقبله الله بالنهار: فهما صلاة الظهر والعصر، لا يحل للإنسان أن يؤخرهما إلى الليل؛ بل قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله". وفي صحيح البخاري عنه أنه قال: "من فاتته صلاة العصر حبط عمله".
فأما من نام عن صلاة أو نسيها، فقد قال ﷺ: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها".
وأما من فوتها متعمدًا فقد أتي كبيرة من أعظم الكبائر، وعليه القضاء عند جمهور العلماء، وعند بعضهم لا يصح فعلها قضاء أصلا، ومع القضاء عليه لا تبرأ ذمته من جميع الواجب، ولا يقبلها الله منه بحيث يرتفع عنه العقاب، ويستوجب الثواب، بل يخفف عنه العذاب بما فعله من القضاء، ويبقي عليه إثم التفويت، وهو من الذنوب التي تحتاج إلى مسقط آخر، بمنزلة من عليه حقان: فعل أحدهما، وترك الآخر. قال تعالى: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ" [الماعون: 4، 5]، وتأخيرها عن وقتها من السهو عنها باتفاق العلماء.
وقال تعالى: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" [مريم: 59]، قال غير واحد من السلف: إضاعتها تأخيرها
ج/ 22 ص -40- عن وقتها، فقد أخبر الله سبحانه أن الويل لمن أضاعها وإن صلاها، ومن كان له الويل لم يكن قد يقبل عمله، وإن كان له ذنوب أخر. فإذا لم يكن ممتثلاً للأمر في نفس العمل لم يتقبل ذلك العمل. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لعمر: واعلم أن لله حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة، والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن تارك الصلاة من غير عذر، هل هو مسلم في تلك الحال؟
فأجاب:
أما تارك الصلاة: فهذا إن لم يكن معتقدًا لوجوبها، فهو كافر بالنص والإجماع، لكن إذا أسلم ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة، أو وجوب بعض أركانها: مثل أن يصلي بلا وضوء، فلا يعلم أن الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلي مع الجنابة، فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة، فهذا ليس بكافر، إذا لم يعلم.
لكن إذا علم الوجوب: هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد ومالك وغيرهما. قيل: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد. وقيل: لا يجب عليه
ج/ 22 ص -41- القضاء، وهذا هو الظاهر.
وعن أحمد في هذا الأصل روايتان منصوصتان فيمن صلى في معاطن الإبل، ولم يكن علم بالنهي، ثم علم، هل يعيد؟ على روايتين. ومن صلى ولم يتوضأ من لحوم الإبل، ولم يكن علم بالنهي، ثم علم. هل يعيد؟ على روايتين منصوصتين.
وقيل: عليه الإعادة إذا ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها في دار الإسلام دون دار الحرب، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة. والصائم إذا فعل ما يفطر به جاهلاً بتحريم ذلك: فهل عليه الإعادة؟ على قولين في مذهب أحمد. وكذلك من فعل محظورًا في الحج جاهلاً.
وأصل هذا: أن حكم الخطاب، هل يثبت في حق المكلف قبل أن يبلغه؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يثبت. وقيل: لا يثبت. وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ. والأظهر أنه لا يجب قضاء شيء من ذلك، ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلاغ، لقوله تعالى: "لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ" [الأنعام: 19]، وقوله: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" [الإسراء: 15]، ولقوله: "لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" [النساء:165]، ومثل هذا في القرآن متعدد، بَيَّن سبحانه أنه لا يعاقب أحدًا حتى يبلغه ما جاء به الرسول.
ومن علم أن محمدًا رسول الله فآمن بذلك، ولم يعلم كثيرًا مما
ج/ 22 ص -42- جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ، فإنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلاغ أولى وأحرى. وهذه سنة رسول الله ﷺ المستفيضة عنه في أمثال ذلك.
فإنه قد ثبت في الصحاح أن طائفة من أصحابه ظنوا أن قوله تعالى: "الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ" [البقرة:187] هو الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فكان أحدهم يربط في رجله حبلاً، ثم يأكل حتى يتبين هذا من هذا فبين النبي ﷺ: أن المراد بياض النهار، وسواد الليل، ولم يأمرهم بالإعادة.
وكذلك عمر بن الخطاب وعمار أجنبا، فلم يصل عمر حتى أدرك الماء، وظن عمار أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء فتمرغ كما تمرغ الدابة ولم يأمر واحدًا منهم بالقضاء، وكذلك أبو ذر بقي مدة جنبًا لم يصل، ولم يأمره بالقضاء، بل أمره بالتيمم في المستقبل.
وكذلك المستحاضة قالت: إني أُسْتَحَاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصوم، فأمرها بالصلاة زمن دم الاستحاضة، ولم يأمرها بالقضاء.
ولما حرم الكلام في الصلاة تكلم معاوية بن الحكم السلمي في
ج/ 22 ص -43- الصلاة بعد التحريم جاهلاً بالتحريم، فقال له: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين"، ولم يأمره بإعادة الصلاة.
ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر إلى المدينة، كان من كان بعيدًا عنه مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي بإعادة الصلاة.
ولما فرض شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ولم يبلغ الخبر إلى من كان بأرض الحبشة من المسلمين، حتى فات ذلك الشهر، لم يأمرهم بإعادة الصيام.
وكان بعض الأنصار لما ذهبوا إلى النبي ﷺ من المدينة إلى مكة قبل الهجرة قد صلى إلى الكعبة معتقدًا جواز ذلك قبل أن يؤمر باستقبال الكعبة، وكانوا حينئذ يستقبلون الشام، فلما ذكر ذلك للنبي ﷺ، أمره باستقبال الشام، ولم يأمره بإعادة ما كان صلي.
وثبت عنه في الصحيحين أنه سئل وهو بالجِعْرَانة عن رجل أحرم بالعمرة، وعليه جبة، وهو متضمخ بالخلوق، فلما نزل عليه الوحي قال له: "انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في
ج/ 22 ص -44- عمرتك ما كنت صانعًا في حجك". وهذا قد فعل محظورًا في الحج، وهو لبس الجبة، ولم يأمره النبي ﷺ على ذلك بدم ولو فعل ذلك مع العلم للزمه دم.
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: "صل فإنك لم تصل" مرتين أو ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا، فعلمني ما يجزيني في الصلاة، فعلمه الصلاة المجزية. ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك. مع قوله ما أحسن غير هذا، وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة؛ لأن وقتها باق، فهو مخاطب بها، والتي صلاها لم تبرأ بها الذمة، ووقت الصلاة باق.
ومعلوم أنه لو بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض، أو أفاق مجنون، والوقت باق لزمتهم الصلاة أداء لا قضاء. وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم. فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوب الطمأنينة في أثناء الوقت فوجبت عليه الطمأنينة حينئذ ولم تجب عليه قبل ذلك؛ فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة تلك الوقت، دون ما قبلها.
وكذلك أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد، ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء والصلاة. وقوله أولاً: "صل فإنك لم تصل"
ج/ 22 ص -45- تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلاً بوجوب الطمأنينة، فلهذا أمره بالإعادة ابتداء، ثم علمه إياها، لما قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا.
فهذه نصوصه ﷺ في محظورات الصلاة والصيام والحج مع الجهل فيمن ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد، فذلك أنه لم يأت بالواجب مع بقاء الوقت. فثبت الوجوب في حقه حين أمره النبي ﷺ لبقاء وقت الوجوب، لم يأمره بذلك مع مضي الوقت.
وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها بالماء بالإعادة، فلأنه كان ناسيًا، فلم يفعل الواجب، كمن نسي الصلاة، وكان الوقت باقيًا، فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده. أعني أنه رأي في رِجْل رَجُل لمعة لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، رواه أبو داود. وقال أحمد بن حنبل: حديث جيد.
وأما قوله: "ويل للأعقاب من النار" ونحوه. فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء ليس في ذلك أمر بإعادة شيء، ومن كان أيضًا يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن المشائخ الواصلين، أو عن بعض أتباعهم، أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عبادًا أسقط
ج/ 22 ص -46- عنهم الصلاة، كما يوجد كثير من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد، وأتباع بعض المشائخ والمعرفة، فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة، فإن أقروا بالوجوب، وإلا قوتلوا،وإذا أصروا على جحد الوجوب حتى قتلوا، كانوا من المرتدين، ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء، فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب.
فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام، فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء، كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والأخري يقضي المرتد، كقول الشافعي والأول أظهر.
فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله ﷺ كالحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم: "كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ" الآية [آل عمران: 86]، والتي بعدها. وكعبد الله بن أبي سرح، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر، وأنزل فيهم: "ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" [النحل:110]. فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح، وبايعه النبي ﷺ ولم يأمر
ج/ 22 ص -47- أحدًا منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا.
وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بصنعاء اليمن، ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام، ولم يؤمرا بالإعادة.
وتنبأ مسيلمة الكذاب، واتبعه خلق كثير، قاتلهم الصديق والصحابة بعد موته حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحدًا منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته.
وكان أكثر البوادي قد ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما ترك من الصلاة. وقوله تعالى: "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ" [الأنفال:38]، يتناول كل كافر.
وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور، ولا قضاء عليهم. فهذا حكم من تركها غير معتقد لوجوبها.
وأما من اعتقد وجوبها مع إصراره على الترك، فقد ذكر عليه المفرِّعون من الفقهاء فروعًا:
ج/ 22 ص -48- أحدها هذا، فقيل عند جمهورهم مالك والشافعي وأحمد. وإذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين. حكيا روايتين عن أحمد، وهذه الفروع لم تنقل عن الصحابة، وهي فروع فاسدة، فإن كان مقرًا بالصلاة في الباطن، معتقدًا لوجوبها، يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل، وهو لا يصلي هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم؛ ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحدًا يعتقد وجوبها، ويقال له إن لم تصل وإلا قتلناك، وهو يصر على تركها، مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام.
ومتي امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطن مقرًا بوجوبها، ولا ملتزمًا بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة. كقوله ﷺ: "ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة"، رواه مسلم. وقوله: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".
وقول عبد الله بن شَقِيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فمن كان مصرًا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قط مسلمًا مقرًا بوجوبها، فإن اعتقاد
ج/ 22 ص -49- الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادرًا ولم يفعل قط، علم أن الداعي في حقه لم يوجد. والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحيانًا أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها، وتفويتها أحيانًا.
فأما من كان مصرًا على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك، فهذا لا يكون مسلمًا، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة عن النبي ﷺ أنه قال: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في إلىوم والليلة من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له".
فالمحافظ عليها الذي يصليها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى والذي ليس يؤخرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه، كما جاء في الحديث.
ج/ 22 ص -50-وسئل عمن يؤمر بالصلاة فيمتنع، وماذا يجب عليه؟ ومن اعتذر بقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" هل يكون له عذر في أنه لا يعاقب على ترك الصلاة، أم لا؟ وماذا يجب على الأمراء وولاة الأمور في حق من تحت أيديهم إذا تركوا الصلاة؟ وهل قيامهم في ذلك من أعظم الجهاد وأكبر أبواب البر؟
فأجاب:
الحمد لله، من يمتنع عن الصلاة المفروضة، فإنه يستحق العقوبة الغليظة باتفاق أئمة المسلمين، بل يجب عند جمهور الأمة كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
بل تارك الصلاة شر من السارق والزاني، وشارب الخمر وآكل الحشيشة.
ويجب على كل مطاع أن يأمر من يطيعه بالصلاة، حتى الصغار الذين لم يبلغوا، قال النبي ﷺ: "مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
ج/ 22 ص -51- ومن كان عنده صغير مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره بالصلاة، فإنه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير، ويعزر الكبير على ذلك تعزيرًا بليغًا؛ لأنه عصي الله ورسوله، وكذلك من عنده ممإلىك كبار، أو غلمان الخيل والجمال والبُزَاة، أو فرَّاشون أو بابية يغسلون الأبدان والثياب، أو خدم، أو زوجة، أو سرية، أو إماء، فعليه أن يأمر جميع هؤلاء بالصلاة، فإن لم يفعل، كان عاصيًا لله ورسوله، ولم يستحق هذا أن يكون من جند المسلمين، بل من جند التتار. فإن التتار يتكلمون بالشهادتين، ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين.
وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة، أو الباطنة المعلومة، فإنه يجب قتالها، فلو قالوا: نشهد ولا نصلى قوتلوا حتى يصلوا، ولو قالوا: نصلى ولا نزكي، قوتلوا حتى يزكوا، ولو قالوا: نزكي ولا نصوم ولا نحج، قوتلوا حتى يصوموا رمضان، ويحجوا البيت. ولو قالوا: نفعل هذا لكن لا ندع الربا، ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصاري، ونحو ذلك. قوتلوا حتى يفعلوا ذلك. كما قال تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ" [الأنفال:39].
وقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ" [البقرة: 278، 279]
ج/ 22 ص -52- والربا آخر ما حرم الله، وكان أهل الطائف قد أسلموا وصلوا وجاهدوا، فبين الله أنهم إذا لم ينتهوا عن الربا، كانوا ممن حارب الله ورسوله.
وفي الصحيحين أنه لما توفي رسول الله ﷺ وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال النبي ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فقال أبو بكر: ألم يقل: "إلا بحقها؟" والله، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق.
وفي الصحيح أن النبي ﷺ ذكر الخوارج فقال: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة".
فإذا كان الذين يقومون الليل، ويصومون النهار، ويقرؤون
ج/ 22 ص -53- القرآن، أمر النبي ﷺ بقتالهم؛ لأنهم فارقوا السنة والجماعة، فكيف بالطوائف الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام، وإنما يعملون بباساق ملوكهم، وأمثال ذلك. والله أعلم.
وسئل عن رجل يأمره الناس بالصلاة، ولم يصل، فما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
إذا لم يصل فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل. والله أعلم.
وسئل عمن ترك صلاة واحدة عمدًا بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاء، فهل يكون فعله كبيرة من الكبائر؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم تأخير الصلاة عن غير وقتها الذي يجب فعلها فيه عمدًا من الكبائر، بل قد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. وقد رواه الترمذي مرفوعًا عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه
ج/ 22 ص -54- قال: [من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر].
ورفع هذا إلى النبي ﷺ وإن كان فيه نظر. فإن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم، والأثر معروف، وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له، لا منكرين له.
وفى الصحيح عن النبي ﷺ قال: [من فاتته صلاة العصر، فقد حبط عمله]، وحبوط العمل لا يتوعد به إلا على ما هو من أعظم الكبائر، وكذلك تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها، فإنها الصلاة الوسطى المخصوصة بالأمر بالمحافظة عليها، وهى التي فرضت على من كان قبلنا فضيعوها، فمن حافظ عليها، فله الأجر مرتين، وهى التي لما فاتت سليمان فعل بالخيل ما فعل.
وفى الصحيح عن النبي ﷺ أيضًا أنه قال: [من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله]. والموتور أهله وماله يبقى مسلوبًا ليس له ما ينتفع به من الأهل والمال، وهو بمنزلة الذي حبط عمله.
وأيضًا، فإن الله تعالى يقول : "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ"[الماعون:4، 5]،
ج/ 22 ص -55-فتوعد بالويل لمن يسهو عن الصلاة حتى يخرج وقتها وإن صلاها بعد ذلك، وكذلك قوله تعالى: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا"[مريم:59]، وقد سألوا ابن مسعود عن إضاعتها فقال: هو تأخيرها حتى يخرج وقتها، فقالوا: ما كنا نرى ذلك إلا تركها، فقال: لو تركوها لكانوا كفارًا، وقد كان ابن مسعود يقول عن بعض أمراء الكوفة في زمانه: ما فعل خلفكم؟ لكونهم كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وقوله: "وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ" يتناول كل من استعمل ما يشتهيه عن المحافظة عليها في وقتها، سواء كان المشتهى من جنس المحرمات، كالمأكول المحرم، والمشروب المحرم، والمنكوح المحرم، والمسموع المحرم أو كان من جنس المباحات لكن الإسراف فيه ينهى عنه، أو غير ذلك، فمن اشتغل عن فعلها في الوقت بلعب أو لهو أو حديث مع أصحابه، أو تنزه في بستانه، أو عمارة عقاره، أو سعى في تجارته، أو غير ذلك، فقد أضاع تلك الصلاة، واتبع ما يشتهيه.
وقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[المنافقون: 9]، ومن ألهاه ماله وولده عن فعل المكتوبة في وقتها، دخل في ذلك، فيكون خاسرًا. وقال تعالى في ضد هؤلاء:
ج/ 22 ص -56-"يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ"[النور:36،37].
فإذا كان سبحانه قد توعد بلقى الغى من يضيع الصلاة عن وقتها ويتبع الشهوات، والمؤخر لها عن وقتها مشتغلاً بما يشتهيه هو مضيع لها متبع لشهوته. فدل ذلك على أنه من الكبائر، إذ هذا الوعيد لا يكون إلا على كبيرة، ويؤيد ذلك جعله خاسرًا، والخسران لا يكون بمجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر.
وأيضًا، فلا... أحدًا من صلى بلا طهارة، أو إلى غير القبلة عمدًا، وترك الركوع والسجود أو القراءة أو غير ذلك متعمدًا، أنه قد فعل بذلك كبيرة، بل قد يتورع في كفره إن لم يستحل ذلك، وأما إذا استحله فهو كافر بلا ريب.
ومعلوم أن الوقت للصلاة مقدم على هذه الفروض وغيرها، فإنه لا نزاع بين المسلمين أنه إذا علم المسافر العادم للماء أنه يجده بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة ليصليها بعد الوقت بوضوء، أو غسل؛ بل ذلك هو الفرض وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا استحله فهو كافر بلا ريب.
ج/ 22 ص -57- ومعلوم أنه إن علم أنه بعد الوقت يمكنه أن يصلى بإتمام الركوع والسجود والقراءة، كان الواجب عليه أن يصلى في الوقت لإمكانه.
وأما قول بعض أصحابنا: إنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناوٍ لجمعها أو مشتغل بشرطها، فهذا لم يقله قبله أحد من الأصحاب، بل ولا أحد من سائر طوائف المسلمين، إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي، فهذا أشك فيه. ولا ريب أنه ليس على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين، وإنما فيه صورة معروفة، كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلاً يستقى، ولا يفرغ إلا بعد الوقت، وإذا أمكن العريان أن يخيط له ثوبًا ولا يفرغ إلا بعد الوقت، ونحو هذه الصور. ومع هذا، فالذي قاله في ذلك خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وخلاف قول جماعة علماء المسلمين من الحنفية والمالكية وغيرهم.
وما أعلم من يوافقه على ذلك إلا بعض أصحاب الشافعي، ومن قال ذلك فهو محجوج بإجماع المسلمين على أن مجرد الاشتغال بالشرط لا يبيح تأخير الصلاة عن وقتها المحدود شرعًا، فإنه لو دخل الوقت وأمكنه أن يطلب الماء وهو لا يجده إلا بعد الوقت، لم يجز له التأخير باتفاق المسلمين، وإن كان مشتغلاً بالشرط. وكذلك العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية ليشترى له منها ثوبًا، وهو لا يصل إلا بعد خروج الوقت،لم يجز له التأخير بلا نزاع.
ج/ 22 ص -58- والأمي كذلك إذا أمكنه تعلم الفاتحة وهو لا يتعلمها حتى يخرج الوقت، كان عليه أن يصلى في الوقت، وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد إذا ضاق الوقت صلى بحسب الإمكان، ولم ينتظر وكذلك المستحاضة لو كان دمها ينقطع بعد الوقت ، لم يجز لها أن تؤخر الصلاة لتصلي بطهارة بعد الوقت ، بل تصلي في الوقت بحسب الإمكان.
وأما حيث جاز الجمع فالوقت واحد، والمؤخرليس بمؤخر عن الوقت الذي يجوز فعلها فيه، بل في أحد القولين أنه لا يحتاج الجمع إلى النية، كما قال أبو بكر. وكذلك القصر، وهو مذهب الجمهور: كأبى حنيفة ومالك.
وكذلك صلاة الخوف تجب في الوقت، مع إمكان أن يؤخرها فلا يستدبر القبلة، ولا يعمل عملاً كثيرًا في الصلاة، ولا يتخلف عن الإمام بركعة، ولا يفارق الإمام قبل السلام، ولا يقضى ما سبق به قبل السلام، ونحو ذلك مما يفعل في صلاة الخوف، وليس ذلك إلا لأجل الوقت، وإلا ففعلها بعد الوقت ولو بالليل ممكن على الإكمال.
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة، وأمكنه تأخير الصلاة إلى أن يأتى مصرًا، يعلم فيه القبلة لم يجز له ذلك، وإنما نازع من نازع إذا أمكنه تعلم دلائل القبلة، ولا يتعلمها حتى يخرج الوقت. وهذا النزاع
ج/ 22 ص -59- هو القول المحدث الشاذ الذي تقدم ذكره.وأما النزاع المعروف بين الأئمة في مثل ما إذا استيقظ النائم في آخر الوقت، ولم يمكنه أن يصلى قبل الطلوع بوضوء: هل يصلى بتيمم؟ أو يتوضأ ويصلى بعد الطلوع؟ على قولين مشهورين:
الأول: قول مالك، مراعاة للوقت.
الثانى: قول الأكثرين كأحمد والشافعي وأبى حنيفة.
وهذه المسألة هي التي توهم من توهم أن الشرط مقدم على الوقت، وليس كذلك، فإن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ. كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها". فجعل الوقت الذي أوجب الله على العبد فيه هو وقت الذكر والانتباه، وحينئذ، فمن فعلها في هذا الوقت بحسب ما يمكنه من الطهارة الواجبة فقد فعلها في الوقت، وهذا ليس بمفرط ولا مضيع لها. قال النبي ﷺ: "ليس في النوم تفريط؛ إنما التفريط في اليقظة".
بخلاف المتنبه من أول الوقت فإنه مأمور أن يفعلها في ذلك الوقت، بحيث لو أخرها عنه عمدًا كان مضيعًا مفرطًا، فإذا اشتغل عنها بشرطها
ج/ 22 ص -60- وكان قد أخرها عن الوقت الذي أمر أن يفعلها فيه، ولولا أنه مأمور بفعلها في ذلك الوقت، لجاز تأخيرها عن الوقت، إذا كان مشتغلاً بتحصيل ماء الطهارة، أو ثوب الاستعارة، بالذهاب إلى مكانه ونحو ذلك، وهذا خلاف إجماع المسلمين. بل المستيقظ في آخر الوقت إنما عليه أن يتوضأ كما يتوضأ المستيقظ في الوقت، فلو أخرها لأنه يجد الماء عند الزوال ونحو ذلك، لم يجز له ذلك.
وأيضًا، فقد نص العلماء على أنه إذا جاء وقت الصلاة ولم يصل، فإنه يقتل، وإن قال: أنا أصليها قضاء. كما يقتل إذا قال: أصلى بغير وضوء، أو إلى غير القبلة، وكل فرض من فرائض الصلاة المجمع عليها إذا تركه عمدًا، فإنه يقتل بتركه. كما أنه يقتل بترك الصلاة.
فإن قلنا: يقتل بضيق الثانية والرابعة، فالأمر كذلك، وكذلك إذا قلنا: يقتل بضيق الأولى وهو الصحيح أو الثالثة، فإن ذلك مبنى على أنه: هل يقتل بترك صلاة، أو بثلاث؟ على روايتين.
وإذا قيل بترك صلاة: فهل يشترط وقت التي بعدها، أو يكفى ضيق وقتها؟ على وجهين. وفيها وجه ثالث: وهو الفرق بين صلاتى الجمع وغيرها. ولا يعارض ما ذكرناه أنه يصح بعد الوقت؛ بخلاف بقية الفرائض؛ لأن الوقت إذا فات لم يمكن استدراكه، فلا يمكنه أن
ج/ 22 ص -61- يفعلها إلا فائتة، ويبقى إثم التأخير من باب الكبائر التي تمحوها التوبة ونحوها، وأما بقية الفرائض، فيمكن استدراكها بالقضاء.
وأما الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، ونهى النبي ﷺ عن قتالهم، فإن قيل: إنهم كانوا يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت، فلا كلام، وإن قيل وهو الصحيح : إنهم كانوا يفوتونها، فقد أمر النبي ﷺ الأمة بالصلاة في الوقت. وقال: "اجعلوا صلاتكم معهم نافلة". ونهى عن قتالهم، كما نهى عن قتال الأئمة إذا استأثرو وظلموا الناس حقوقهم، واعتدوا عليهم، وإن كان يقع من الكبائر في أثناء ذلك ما يقع.
ومؤخرها عن وقتها فاسق، والأئمة لا يقاتلون بمجرد الفسق، وإن كان الواحد المقدور قد يقتل لبعض أنواع الفسق كالزنا، وغيره فليس كلما جاز فيه القتل، جاز أن يقاتل الأئمة لفعلهم إياه؛ إذ فساد القتال أعظم من فساد كبيرة يرتكبها ولى الأمر.
ولهذا نص من نص من أصحاب أحمد وغيره على أن النافلة تصلي خلف الفساق؛ لأن النبي ﷺ أمر بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها، وهؤلاء الأئمة فساق، وقد أمر بفعلها خَلْفَهم نافلة.
ج/ 22 ص -62- والمقصود أن الفسق بتفويت الصلاة أمر معروف عند الفقهاء.
لكن لو قال قائل: الكبيرة تفويتها دائمًا، فإن ذلك إصرار على الصغيرة.
قيل له: قد تقدم ما يبين أن الوعيد يلحق بتفويت صلاة واحدة.
وأيضًا، فإن الإصرار هو العزم على العود، ومن أتى صغيرة وتاب منها ثم عاد إليها، لم يكن قد أتى كبيرة.
وأيضًا، فمن اشترط المداومة على التفويت، محتاج إلى ضابط، فإن أراد بذلك المداومة على طول عمره، لم يكن المذكورون من هذا الباب، وإن أراد مقدارًا محدودًا طولب بدليل عليه.
وأيضًا، فالقتل بترك واحدة أبلغ من جعل ذلك كبيرة. والله سبحانه أعلم.
ج/ 22 ص -63-وسئل عن مسلم تارك للصلاة، ويصلى الجمعة. فهل تجب عليه اللعنة؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا استوجب العقوبة باتفاق المسلمين، والواجب عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولعن تارك الصلاة على وجه العموم، وأما لعنة المعين فالأولى تركها، لأنه يمكن أن يتوب. والله أعلم.