ج/ 21 ص -474-بَاب إزالة النجاسَة
قال شيخ الإسلام قدسَ اللّه روحه:
فصل
وأما إزالة النجاسة بغير الماء، ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد:
أحدها: المنع، كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد.
والثاني: الجواز، كقول أبي حنيفة، وهو القول الثاني في مذهب مالك، وأحمد.
والقول الثالث: في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة، كما في طهارة فم الهرة بريقها، وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم، ونحو ذلك.
والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله لأسماء: حتيه، ثم اقرصيه
ج/ 21 ص -475-ثم اغسليه بالماء". وقوله في آنية المجوس: "ارحضوها ثم اغسلوها بالماء". وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: "صبوا على بوله ذنبوًا من ماء" فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال كل نجاسة بالماء.
وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع:
منها: الاستجمار بالحجارة. ومنها قوله في النعلين: "ثم ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور". ومنها قوله في الذيل: "يطهره مابعده". ومنها: أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول اللّه ﷺ. ثم لم يكونوا يغسلون ذلك. ومنها قوله في الهر: "إنها من الطوافين علكيم والطوافات" مع أن الهر - في العادة - يأكل الفأر، ولم يكن هناك قناة ترد عليها تطهر بها أفواهها بالماء بل طهورها ريقها. ومنها: أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين.
وإذا كان كذلك، فالراجع في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان، زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها. لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال، كما لا يجوز الاستنجاء بها.
ج/ 21 ص -476-والذين قالوا لا تزول إلا بالماء، منهم من قال: إن هذا تَعَبُّد وليس الأمر كذلك. فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة لتعينه؛ لأن إزالتها بالأشربة التى ينتفع بها المسلمون إفساد لها. وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة، كغسل الثوب، والإناء، والأرض بالماء، فإنه من المعلوم أنه لو كان عندهم ماء ورد وخل وغير ذلك، لم يأمرهم بإفساده فكيف إذا لم يكن عندهم.
ومنهم من قال: إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره من المائعات فلا يلحق غيره به، وليس الأمر كذلك. بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة، كالماء وأبلغ، والاستحالة له أبلغ في الإزالة من الغسل بالماء، فإن الإزالة بالماء قد يبقي معها لون النجاسة فيعفي عنه، كما قال النبي ﷺ: "يكفيك الماء ولا يضرك أثره" وغير الماء يزيد الطعم واللون والريح.
ومنهم من قال: كان القياس ألا يزول بالماء لتنجيسه بالملاقاة، لكن رخص في الماء للحاجة، فجعل الإزالة بالماء صورة استحسان، فلا يقاس عليها. وكلا المقدمتين باطلة. فليست إزالتها على خلاف القياس بل القياس أن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها.
وقولهم: إنه ينجس بالملاقاة ممنوع، ومن سلمه فرق بين الوارد
ج/ 21 ص -477-والمورود عليه، أو بين الجارى والواقف. ولو قيل: إنها على خلاف القياس فالصواب أن ما خالف القياس يقاس عليه إذا عرفت علته؛ إذ الاعتبار في القياس بالجامع والفارق.
واعتبار طهارة الخبث بطهارة الحدث ضعيف؛ فإن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها؛ ولهذا لم تسقط بالنسيان والجهل، واشترط فيها النية عند الجمهور. وأما طهارة الخبث، فإنها من باب التروك فمقصودها اجتناب الخبث؛ ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده، بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود، كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم.
ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: أنه يعتبر فيها النية، فهو قول شاذ مخالف للإجماع السابق، مع مخالفته لأئمة المذاهب. وإنما قيل مثل هذا من ضيق المجال في المناظرة، فإن المنازع لهم في مسألة النية قاس طهارة الحدث على طهارة الخبث، فمنعوا الحكم في الأصل، وهذا ليس بشيء.
ولهذا كان أصح قولي العلماء أنه إذا صلى بالنجاسة جاهلاً أو ناسيًا، فلا إعادة عليه، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه؛ لأن النبي ﷺ خلع نعليه في الصلاة للأذى الذي كان
ج/ 21 ص -478-فيهما، ولم يستأنف الصلاة. وكذلك في الحديث الآخر لما وجد في ثوبه نجاسة أمرهم بغسله ولم يعد الصلاة؛ وذلك لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا، فلا إثم عليه، كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ" [الأحزاب: 5]، وقال تعالى: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" [البقرة: 286]، قال اللّه تعالى:"قد فعلت". رواه مسلم في صحيحه.
ولهذا كان أقوى الأقوال: أن ما فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يبطل العبادة، كالكلام ناسيًا، والأكل ناسيًا، والطيب ناسيًا، وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا وفي هذه المسائل نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن النجاسة من باب ترك المنهى عنه فحينئذ، إذا زال الخبث بأى طريق كان، حصل المقصود. ولكن إن زال بفعل العبد ونيته، أثيب على ذلك، وإلا إذا عدمت بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة، ولم يكن له ثواب، ولم يكن عليه عقاب.
وَسئل رَحمه اللّه: عن استحالة النجاسة، كرماد السرجين النجس، والزِّبْل النجس
ج/ 21 ص -479-تصيبه الريح والشمس، فيستحيل ترابًا. فهل تجوز الصلاة عليه أم لا؟
فأجاب:
وأما استحالة النجاسة: كرماد السرجين النجس، والزبل النجس يستحيل ترابًا، فقد تقدمت هذه المسألة. وقد ذكرنا أن فيها قولين في مذهب مالك وأحمد:
أحدهما: أن ذلك طاهر، وهو قول أبي حنيفة، وأهل الظاهر وغيرهم. وذكرنا أن هذا القول هو الراجح.
فأما الأرض إذا أصابتها نجاسة، فمن أصحاب الشافعي وأحمد من يقول: إنها تطهر، وإن لم يقل بالاستحالة. ففي هذه المسألة مع [مسألة الاستحالة] ثلاثة أقوال، والصواب الطهارة في الجميع، كما تقدم.
وَقَالَ رحِمهُ اللّه:
فصل
وأما طين الشوارع فمبني على أصل: وهو أن الأرض إذا أصابتها نجاسة ثم ذهبت بالريح أو الشمس أو نحو ذلك، هل تطهر الأرض؟
ج/ 21 ص -480-على قولين للفقهاء، وهما قولان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما:
أحدهما: أنها تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وغيره؛ ولكن عند أبي حنيفة: يصلي عليها ولا يتيمم بها. والصحيح أنه يصلي عليها ويتيمم بها، وهذا هو الصواب؛ لأنه قد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر: "أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول اللّه ﷺ ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك" ومن المعلوم أن النجاسة لو كانت باقية لوجب غسل ذلك. وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح من أنه أمرهم أن يصبوا على بول الأعرابي الذي بال في المسجد ذنوبًا من ماء، فإن هذا يحصل به تعجيل تطهير الأرض، وهذا مقصود؛ بخلاف ما إذا لم يصب الماء فإن النجاسة تبقى إلى أن تستحيل.
وأيضًا، ففي السنن أن النبي ﷺ قال: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور" وفي السنن - أيضًا-: أنه سُئِل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر ثم على المكان الطاهر فقال: "يطهره ما بعده". وقد نص أحمد على الأخذ بهذا الحديث الثاني ونص في إحدى الروايتين عنه على الأخذ بالحديث الأول، وهو قول من يقول به من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما. فإذا كان النبي ﷺ
ج/ 21 ص -481-قد جعل التراب يطهر أسفل النعل، وأسفل الذيل،وسماه طهورًا، فلأن يطهر نفسه بطريق الأولى، والأحرى. فالنجاسة إذا استحالت في التراب فصارت ترابًا لم يبق نجاسة.
وأيضًا، فقد تنازع العلماء فيما إذا استحالت حقيقة النجاسة، واتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل اللّه بدون قصد صاحبها، وصارت خلاً، أنها تطهر. ولهم فيها إذا قصد التخليل نزاع وتفصيل والصحيح أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال، كما ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه - لما صح من نهى النبي ﷺ عن تخليلها، ولأن حبسها معصية، والطهارة نعمة، والمعصية لا تكون سببًا للنعمة.
وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحًا في الملاحة، أو صارت رمادًا، أو صارت الميتة والدم والصديد ترابًا - كتراب المقبرة - فهذا فيه قولان في مذهب مالك، وأحمد:
أحدهما: أن ذلك طاهر كمذهب أبي حنيفة، وأهل الظاهر.
والثاني: أنه نجس، كمذهب الشافعي. والصواب أن ذلك كله طاهر، إذا لم يبق شيء من أثر النجاسة، لا طعمها ولا لونها ولا ريحها؛ لأن اللّه أباح الطيبات، وحرم الخبائث، وذلك يتبع صفات الأعيان وحقائقها.
ج/ 21 ص -482-فإذا كانت العين ملحًا أو خلا دخلت في الطيبات، التى أباحها اللّه، ولم تدخل في الخبائث التى حرمها اللّه، وكذلك التراب والرماد وغير ذلك لا يدخل في نصوص التحريم. وإذا لم تتناولها أدلة التحريم لا لفظًا ولا معنى لم يجز القول بتنجيسه وتحريمه، فيكون طاهرًا. وإذا كان هذا في غير التراب، فالتراب أولى بذلك.
وحينئذ، فطين الشوارع إذا قدر أنه لم يظهر به أثر النجاسة فهو طاهر، وإن تيقن أن النجاسة فيه، فهذا يعفي عن يسيره. فإن الصحابة - رضوان اللّه عليهم - كان أحدهم يخوض في الوحل، ثم يدخل المسجد، فيصلي ولا يغسل رجليه، وهذا معروف عن على ابن أبي طالب - رضى اللّه عنه - وغيره من الصحابة كما تقدم. وقد حكاه مالك عنهم مطلقًا، وذكر أنه لو كان في الطين عذرة منبثة لعفي عن ذلك، وهكذا قال غيره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه يعفي عن يسير طين الشوارع، مع تيقن نجاسته. واللّه أعلم.
ج/ 21 ص -483-وسئل رحمه الله عن الخمرة إذا انقلبت خَّلاً ولم يعلم بقلبها، هل له أن يأكلها أو يبيعها؟ أو إذا علم أنها انقلبت، هل يأكل منها أو يبيعها؟
فأجاب:
أما التخليل ففيه نزاع. قيل: يجوز تخليلها كما يحكى عن أبي حنيفة. وقيل: لا يجوز، لكن إذا خللت طهرت. كما يحكى عن مالك. وقيل: يجوز بنقلها من الشمس إلى الظل، وكشف الغطاء عنها، ونحو ذلك، دون أن يلقى فيها شيء. كما هو وجه في مذهب الشافعي وأحمد.
وقيل: لا يجوز بحال. كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وهذا هو الصحيح، فإنه قد ثبت عن النبي ﷺ: أنه سئل عن خمر ليتامى فأمر بإراقتها. فقيل له: إنهم فقراء، فقال: "سيغنيهم الله من فضله" فلما أمر بإراقتها، ونهي عن تخليلها، وجبت طاعته فيما أمر به، ونهي عنه. فيجب أن تراق الخمرة ولا تخلل. هذا مع كونهم كانوا يتامى، ومع كون تلك الخمرة كانت متخذة قبل التحريم، فلم يكونوا عصاة.
ج/ 21 ص -484-فإن قيل: هذا منسوخ؛ لأنه كان في أول الإسلام، فأمروا بذلك كما أمروا بكسر الآنية وشق الظروف ليمتنعوا عنها، قيل: هذا غلط من وجوه:
أحدها: أن أمر الله ورسوله، لا ينسخ إلا بأمر الله ورسوله، ولم يرد بعد هذا نص ينسخه.
الثاني: أن الخلفاء الراشدين بعد موته ﷺ عملوا بهذا. كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال:لا تأكلوا خل خمر، إلا خمرًا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري من خل أهل الذمة. فهذا عمر ينهى عن خل الخمر التي قصد إفسادها، ويأذن فيما بدأ الله بإفسادها، ويرخص في اشتراء خل الخمر. من أهل الكتاب؛ لأنهم لا يفسدون خمرهم، وإنما يتخلل بغير اختيارهم. وفي قول عمر حجة على جميع الأقوال.
الوجه الثالث: أن يقال: الصحابة كانوا أطوع الناس لله ورسوله، ولهذا لما حرم عليهم الخمر أراقوها، فإذا كانوا مع هذا قد نهوا عن تخليلها وأمروا بإراقتها، فمن بعدهم من القرون أولى منهم بذلك، فإنهم أقل طاعة لله ورسوله منهم.
يبين ذلك أن عمر بن الخطاب غلظ على الناس العقوبة في شرب
ج/ 21 ص -485-الخمر، حتى كان ينفي فيها؛ لأن أهل زمانه كانوا أقل اجتنابًا لها من الصحابة على عهد رسول الله ﷺ، فكيف يكون زمان ليس فيه رسول الله ﷺ ولا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟! لا ريب أن أهله أقل اجتنابًا للمحارم، فكيف تسد الذريعة عن أولئك المتقين، وتفتح لغيرهم، وهم أقل تقوى منهم.
وأما ما يروى: خير خلكم خل خمركم، فهذا الكلام لم يقله النبي ﷺ، ومن نقله عنه فقد أخطأ، ولكن هو كلام صحيح، فإن خل الخمر لا يكون فيها ماء، ولكن المراد به الذي بدأ الله بقلبه. وأيضًا، فكل خمر يعمل من العنب بلا ماء فهو مثل خل الخمر.
وقد وصف العلماء عمل الخل: أنه يوضع أولاً في العنب شيء يحمضه حتى لا يستحيل أولاً خمرًا. ولهذا تنازعوا في خمرة الخلال: هل يجب إراقتها؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره: أظهرهما وجوب إراقتها، كغيرها؛ فإنه ليس في الشريعة خمرة محترمة، ولو كان لشيء من الخمر حرمة، لكانت لخمر اليتامى، التي اشتريت لهم قبل التحريم، وذلك أن الله أمر باجتناب الخمر، فلا يجوز اقتناؤها، ولا يكون في بيت مسلم خمر أصلاً. وإنما وقعت الشبهة في التخليل؛ لأن بعض العلماء اعتقد أن التخليل إصلاح لها، كدباغ الجلد النجس.
وبعضهم قال: اقتناؤها لا يجوز؛ لا لتخليل، ولا غيره. لكن
ج/ 21 ص -486-إذا صارت خلا فكيف تكون نجسة؟! وبعضهم قال: إذا ألقى فيها شيء تنجس أولاً، ثم تنجست به ثانيًا، بخلاف ما إذا لم يلق فيها شيء فإنه لا يوجب التنجيس.
وأما أهل القول الراجح فقالوا: قصد المخلل لتخليلها هو الموجب لتنجيسها، فإنه قد نهي عن اقتنائها، وأمر بإراقتها، فإذا قصد التخليل، كان قد فعل محرمًا. وغاية ما يكون تخليلها كتذكية الحيوان، والعين إذا كانت محرمة، لم تصر محللة بالفعل المنهي عنه؛ لأن المعصية لا تكون سببًا للنعمة والرحمة.
ولهذا لما كان الحيوان محرمًا قبل التذكية، ولا يباح إلا بالتذكية فلو ذكاه تذكية محرمة مثل أن يذكيه في غير الحلق واللبة مع قدرته عليه. أو لا يقصد ذكاته، أو يأمر وثنيًا أو مجوسيًا بتذكيته، ونحو ذلك لم يبح. وكذلك الصيد إذا قتله المحِرْم لم يصر ذكيًا، فالعين الواحدة تكون طاهرة حلالاً في حال، وتكون حرامًا نجسة في حال. تارة باعتبار الفاعل: كالفرق بين الكتابي والوثني، وتارة باعتبار الفعل كالفرق بين الذبيحة بالمحدد وغيره. وتارة باعتبار المحل وغيره كالفرق بين العنق وغيره. وتارة باعتبار قصد الفاعل كالفرق بين ما قصد تذكيته وما قصد قتله. حتى إنه عند مالك والشافعي وأحمد إذا ذكى الحلال صيدًا أبيح للحلال دون المحرم، فيكون حلالاً طاهرًا في حق هذا
ج/ 21 ص -487-حرامًا نجسًا في حق هذا، وانقلاب الخمر إلى الخل من هذا النوع مثل ما كان ذلك محظورًا، فإذا قصده الإنسان لم يصر الخل به حلالاً، ولا طاهرًا، كما لم يصر لحم الحيوان حلالاً طاهرًا بتذكية غير شرعية.
وما ذكرناه عن عمر بن الخطاب هو الذي يعتمد عليه في هذه المسألة، أنه متى علم أن صاحبها قد قصد تخليلها لم تشتر منه، وإذا لم يعلم ذلك، جاز اشتراؤها منه؛ لأن العادة أن صاحب الخمر لا يرضى أن يخللها. والله أعلم.
ج/ 21 ص -488-وسئل عن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة مثل الفأرة ونحوها، وماتت فيه. هل ينجس أم لا؟ وإذا قيل ينجس: فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتى يبلغ قلتين أم لا؟ وإذا قيل تجوز المكاثرة: هل يجوز القاء الطاهر على النجس، أو بالعكس، أو لا فرق؟ وإذا لم تجز المكاثرة وقيل بنجاسته هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به أو غسله إذا قيل يطهر بالغسل أم لا؟ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمكاثرة هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله. أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة: فهل تنجس وإن كانت كثيرة فوق القلتين؟ أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقًا إلا بالتغير؟ أو لا ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين. فيه عن أحمد ثلاث روايات:
إحداهن: أنها تنجس ولو مع الكثرة. وهو قول الشافعي وغيره.
والثانية: أنها كالماء. سواء كانت مائية أو غير مائية،
ج/ 21 ص -489-وهو قول طائفة من السلف والخلف كابن مسعود، وابن عباس والزهري، وأبي ثور، وغيرهم. وهو قول أبي ثور نقله المروذي عن أبي ثور، ويحكى ذلك لأحمد فقال: إن أبا ثور شبهه بالماء، ذكر ذلك الخَّلال في جامعه عن المروذي. وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة أن حكم المائعات عندهم حكم الماء، ومذهبهم في المائعات معروف فيه. فإذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر، لم تنجس، كالماء عندهم. وأما أبوثور فإنه يقول: بالعكس. بالقلتين كالشافعي. والقول أنها كالماء: يذْكر قولاً في مذهب مالك، وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين. وروى عن أبي نافع من المالكية في الحباب التي بالشام للزيت تموت فيه الفأرة: إن ذلك لا يضر الزيت، قال: وليس الزيت كالماء. وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة، ولم تغير أوصافه، وكان كثيرًا لم ينجس، بخلاف موتها فيه، ففرق بين موتها فيه، ووقوعها فيه. ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلا السمن، إذا وقعت فيه فأرة، كما يقولون: إن الماء لا ينجس إلا إذا بال فيه بائل.
والثالثة: يفرق بين المائع المائي. كخل الخمر، وغير المائى كخل العنب، فيلحق الأول بالماء دون الثاني.
ج/ 21 ص -490-وفي الجملة، للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها كالماء.
والثاني: أنها أولى بعدم التنجس من الماء؛ لأنها طعام وإدام، فإتلافها فيه فساد، ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء، أو مباينة لها من الماء.
والثالث: أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور. وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرنا حجة من قال: بالتنجيس، وأنهم احتجوا بقول النبي ﷺ: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم. وإن كان مائعًا فلا تقربوه". رواه أبو داود وغيره، وبينَّا ضعف هذا الحديث. وطعن البخاري والترمذي وأبو حاتم الرازي والدارقطني وغيرهم فيه، وأنهم بينوا أنه غلط فيه معمر على الزهري.
قال أبو داود: [باب في الفأرة تقع في السمن] حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فأخبر النبي ﷺ فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه". وقال: ثنا أحمد بن صالح والحسين بن على واللفظ للحسين
ج/ 21 ص -491-قالا: ثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:"إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها. وإن كان مائعًا فلا تقربوه" قال الحسن: قال عبد الرزاق: ربما حدَّث به معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي ﷺ.
قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قال عبد الرزاق: قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مردويه، عن معمر، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي ﷺ بمثل حديث الزهري عن سعيد بن المسيب. وقال أبو عيسى الترمذي في جامعة:
[باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن]
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل عنها النبي ﷺ فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد روى هذا الحديث عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي ﷺ سئل ولم يذكروا فيه عن ميمونة. وحديث ابن عباس عن ميمونة أصح.
ج/ 21 ص -492-روى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ نحوه وهو حديث غير محفوظ. قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول:حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في هذا خطأ. قال: والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة.
قلت: وحديث معمر هذا الذي خطأه البخاري، وقال الترمذي إنه غير محفوظ، هو الذي قال فيه: إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه. كما رواه أبو داود وغيره. وكذلك الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده وغيره، وقد ذكر عبد الرزاق أن معمرًا كان يرويه أحيانًا من الوجه الآخر، فكان يضطرب في إسناده. كما اضطرب في متنه، وخالف فيه الحفاظ الثقات الذين رووه بغير اللفظ الذي رواه معمر. ومعمر كان معروفًا بالغلط، وأما الزهري فلا يعرف منه غلط، فلهذا بين البخاري من كلام الزهري ما دل على خطأ معمر في هذا الحديث. قال البخاري في صحيحه:
[باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب]
ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن
ج/ 21 ص -493-فماتت فَسُئل النبي ﷺ عنها فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه" قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: ما سمعت الزهري يقوله إلا عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي ﷺ، ولقد سمعته منه مرارًا.
ثنا عبدان، ثنا عبد الله يعني ابن المبارك عن يونس، عن الزهري أنه سئل عن الدابة تموت في الزيت أو السمن وهو جامدًا أو غير جامد الفأرة أو غيرها قال: بلغنا أن رسول الله ﷺ أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل من حديث عبيد الله بن عبد الله ثم رواه من طريق مالك، كما رواه من طريق ابن عيينة.
وهذا الحديث رواه الناس عن الزهري، كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه. وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارة عن ابن المسيب عن أبي هريرة. وقال فيه: وإن كان جامدًا فألقوها وما حولها وإن كان مائعًا فلا تقربوه. وقيل عنه: وإن كان مائعًا فاستصبحوا به، واضطرب على معمر فيه، وظن طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ فعملوا به، وممن يثبته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري. وكذلك احتج به أحمد لما افتى بالفرق بين الجامد
ج/ 21 ص -494-والمائع، وكان أحمد يحتج أحيانًا بأحاديث ثم يتبين له أنها معلولة، كاحتجاجه بقوله: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" ثم تبين له بعد ذلك أنه معلول فاستدل بغيره.
وأما البخاري والترمذي وغيرهما، فعللوا حديث معمر وبينوا غلطه، والصواب معهم. فذكر البخاري هنا عن عبد الله بن عتبة: أنه قال: سمعته من الزهري مرارًا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله: "ألقوها وما حولها وكلوه" وكذلك رواه مالك وغيره وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغيره، فأفتى بأن النبي ﷺ أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح، فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث الفرق بينهما، وهو يحتج على استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى؟!
والزهري أحفظ أهل زمانه حتى يقال: إنه لا يعرف له غلط في حديث، ولا نسيان، مع أنه لم يكن في زمانه أكثر حديثًا منه. ويقال: إنه حفظ على الأمة تسعين سنة لم يأت بها غيره، وقد كتب عنه سليمان بن عبد الملك كتابًا من حفظه، ثم استعاده منه بعد عام، فلم يخطئ منه حرفًا. فلو لم يكن في الحديث إلا نسيان الزهري أو معمر، لكان نسبة النسيان إلى معمر أولى باتفاق أهل العلم
ج/ 21 ص -495-بالرجال مع كثرة الدلائل على نسيان معمر. وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن معمرًا كثير الغلط على الزهري. قال الإمام أحمد رضي الله عنه فيما حدثه به محمد بن جعفر غندر عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته ثماني نسوة. فقال أحمد: هكذا حدث به معمر بالبصرة، وحدثهم بالبصرة من حفظه، وحدث به باليمن عن الزهري بالاستقامة.
وقال أبو حاتم الرازي: ما حدث به معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط، وهو صالح الحديث، وأكثر الرواة الذين رووا هذا الحديث عن معمر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة هم البصريون. كعبد الواحد بن زياد، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى الشامي، والاضطراب في المتن ظاهر.
فإن هذا يقول: إن كان ذائبًا أو مائعًا لم يؤكل. وهذا يقول: وإن كان مائعًا فلا تنتفعوا به، واستصبحوا به. وهذا يقول: "فلا تقربوه" وهذا يقول: فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح، فأطلق الجواب، ولم يذكر التفصيل.
وهذا يبين أنه لم يروه من كتاب بلفظ مضبوط، وإنما رواه بحسب ما ظنه من المعنى فغلط، وبتقدير صحة هذا اللفظ وهو قوله: "وإن
ج/ 21 ص -496-كان مائعًا فلا تقربوه" فإنما يدل على نجاسة القليل الذي وقعت فيه النجاسة كالسمن المسؤول عنه، فإنه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق قلتين يقع فيه فأرة، حتى يقال فيه: ترك الاستفصال، في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، بل السمن الذي يكون عند أهل المدينة في أوعيتهم يكون في الغالب قليلاً فلو صح الحديث لم يدل إلا على نجاسة القليل. فإن المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها لا نص صحيح، ولا ضعيف، ولا إجماع، ولا قياس صحيح.
وعمدة من ينجسه يظن أن النجاسة إذا وقعت في ماء أو مائع، سَرَت فيه كله فنجسته. وقد عرف فساد هذا، وأنه لم يقل أحد من المسلمين بطرده، فإن طرده يوجب نجاسة البحر، بل الذين قالوا هذا الأصل الفاسد؛ منهم من استثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر، ومنهم من استثنى في بعض النجاسات ما لا يمكن نزحه، ومنهم من استثنى ما فوق القلتين، وعلل بعضهم المستثنى بمشقة التنجيس وبعضهم بعدم وصول النجاسة إلى الكثير، وبعضهم بتعذر التطهير، وهذه العلل موجودة في الكثير من الأدهان؛ فإنه قد يكون في الجب العظيم قناطير مقنطرة من الزيت، ولا يمكنهم صيانته عن الواقع، والدور والحوانيت مملوءة مما لا يمكن صيانته كالسكر وغيره، فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جدًا.
ج/ 21 ص -497-ولهذا لم يرد بتنجيس الكثير أثر عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه. واختلف كلام أحمد رحمه الله في تنجيس الكثير. وأما القليل فإنه ظن صحة حديث معمر فأخذ به. وقد اطلع غيره على العلة القادحة فيه ولو اطلع عليها لم يقل به ولهذا نظائر: كان يأخذ بحديث ثم يتبين له ضعفه فيترك الأخذ به، وقد يترك الأخذ به قبل أن تتبين صحته، فإذا تبين له صحته أخذ به، وهذه طريقة أهل العلم والدين رضي الله عنهم.
ولظنه صحته، عَدَل إليه عما رآه من آثار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فروى صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه أحمد بن حنبل: ثنا أبي، ثنا إسماعيل، ثنا عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة: أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن قال: تؤخذ الفأرة وما حولها. قلت: يا مولانا فإن أثرها كان في السمن كله، قال: عضضت بهن أبيك، إنما كان أثرها بالسمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. ثنا أبي، ثنا وكيع، ثنا النضر بن عربى، عن عكرمة، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فسأله عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ فقال ابن عباس: خذه وما حوله فألقه، وله: قلت: أليس جال في الجر كله؟ قال: إنه جال وفيه الروح، فاستقر حيث مات. وروى الخلال عن صالح قال: ثنا أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن حمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي
ج/ 21 ص -498-الأسود الدؤلي، قال: سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: إنما حرم من الميتة لحمها ودمها.
قلت: فهذه فتاوى ابن عباس وابن مسعود والزهري، مع أن ابن عباس هو راوي حديث ميمونة، ثم إن قول معمر في الحديث الضعيف فلا تقربوه متروك عند عامة السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة، فإن جمهورهم يجوزون الاستصباح به، وكثير منهم يجوز بيعه، أو تطهيره، وهذا مخالف لقوله: "فلا تقربوه".
ومن نصر هذا القول، يقول قول النبي ﷺ: "الماء طَهور لا ينجسه شيء" احتراز عن الثوب والبدن والإناء، ونحو ذلك مما يتنجس، والمفهوم لا عموم له، وذلك لا يقتضي أن كل ما ليس بماء يتنجس، فإن الهواء ونحوه لا يتنجس، وليس بماء، كما أن قوله: "إن الماء لا يجنب" احتراز عن البدن فإنه يجنب، ولا يقتضي ذلك أن كل ما ليس بماء يجنب؛ ولكن خص الماء بالذكر في الموضعين للحاجة إلى بيان حكمه، فإن بعض أزواجه اغتسلت فجاء النبي ﷺ ليتوضأ بسؤرها فأخبرته أنها كانت جنبًا، فقال: "إن الماء لا يجنب" مع أن الثوب لا يجنب والأرض لا تجنب، وتخصيص الماء بالذكر لمفارقة البدن، لا لمفارقة كل شيء، وكذلك قالوا له: أنتوضأ من بئر بُضَاعَة وهي بئر يلقى
ج/ 21 ص -499-فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، فنفي عنه النجاسة للحاجة إلى بيان ذلك، كما نفي عنه الجنابة للحاجة إلى بيان ذلك. والله سبحانه قد أباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، والنجاسات من الخبائث، فالماء إذا تغير بالنجاسة، حرم استعماله؛ لأن ذلك استعمال للخبيث.
وهذا مبني على أصل: وهو أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة، فهل مقتضى القياس تنجسه لاختلاط الحلال بالحرام إلى حيث يقوم الدليل على تطهيره، أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر فيه النجاسة الخبيثة التي يحرم استعمالها للفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم في هذا الأصل قولان:
أحدهما: قول من يقول: الأصل النجاسة، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي، وأحمد، بناء على أن اختلاط الحلال بالحرام يوجب تحريمهما جميعًا.
ثم إن أصحاب أبي حنيفة طردوا ذلك فيما إذا كان الماء يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر. قالوا: لأن النجاسة تبلغه، إذا بلغته الحركة، ولم يمكنهم طرده فيما زاد على ذلك، وإلا لزم تنجيس البحر، والبحر لا ينجسه شيء بالنص والإجماع، ولم يطردوا ذلك فيما
ج/ 21 ص -500-إذا كان الماء عميقًا ومساحته قليلة، ثم إذا تنجس الماء: فالقياس عندهم يقتضى ألا يطهر بنزح، فيجب طم الآبار المتنجسة، وطرد هذا القياس بِشر المريسي.
وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: بالتطهير بالنزح استحسانًا، إما بنزح البئر كلها إذا كبر الحيوان، أو تفسخ، وإما بنزح بعضها إذا صغر بدلاء ذكروا عددها، فما أمكن طرد ذلك القياس.
وكذلك أصحاب الشافعي وأحمد قالوا: بطهارة ما فوق القلتين؛ لأن ذلك يكون في الفلوات والغدران التي لا يمكن صيانتها عن النجاسة فجعلوا طهارة ذلك رخصة لأجل الحاجة على خلاف القياس، وكذلك من قال من أصحاب أحمد: إن البول والعذرة الرطبة لا ينجس بهما إلا ما أمكن نزحه، ترك طرد القياس؛ لأن ما يتعذر نزحه يتعذر تطهيره، فجعل تعذر التطهير مانعًا من التنجس.
فهذه الأقوال وغيرها من مقالات القائلين بهذا الأصل، تبين أنه لم يطرده أحد من الفقهاء، وأن كلهم خالفوا فيه القياس رخصة، وأباحوا ما تخالطه النجاسات من المياه لأجل الحاجة الخاصة.
وأما القول الثاني: فهو قول من يقول: القياس ألا ينجس الماء حتى
ج/ 21 ص -501-يتغير، كما قاله من قاله من فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث، وغيرهم كمالك وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد، وهذه طريقة القاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم، مع قوله: إن القليل ينجس بالملاقاة، وأما ابن عقيل وابن المنى وابن المظفر وابن الجوزي وأبو نصر وغيرهم من أصحاب أحمد، فنصروا هذا أنه لا ينجس إلا بالتغير كالرواية الموافقة لأهل المدينة، وهو قول أبي المحاسن الروياني، وغيره من أصحاب الشافعي.
وقال الغزالي: وددت أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك، وكلام أحمد وغيره موافق لهذا القول، فإنه لما سئل عن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت طعمه أو لونه بأى شيء ينجس؟ والحديث المروي في ذلك وهو قوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه"، ضعيف؟ فأجاب: بأن الله حرم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، فإذا ظهر في الماء طعم الدم أو الميتة، أو لحم الخنزير، كان المستعمل لذلك مستعملاً لهذه الخبائث. ولو كان القياس عنده التحريم مطلقًا، لم يخص صورة التحريم باستعمال النجاسة.
وفي الجملة، فهذا القول هو الصواب، وذلك أن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير، ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره واستهلكت، لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير
ج/ 21 ص -502-أصلاً. كما أن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شاربًا للخمر، والخمرة إذا استحالت بنفسها وصارت خلا كانت طاهرة باتفاق العلماء. وهذا على قول من يقول: إن النجاسة إذا استحالت، طهرت أقوى. كما هو مذهب أبي حنيفة، وأهل الظاهر، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد. فإن انقلاب النجاسة ملحًا ورمادًا ونحو ذلك، هو كانقلابها ماء، فلا فرق بين أن تستحيل رمادًا أو ملحًا أو ترابًا أو ماء أو هواء، ونحو ذلك، والله تعالى قد أباح لنا الطيبات.
وهذه الأدهان والألبان والأشربة الحلوة والحامضة وغيرها من الطيبات والخبيثة، قد استهلكت واستحالت فيها، فكيف يحرم الطيب الذي أباحه الله تعالى، ومن الذي قال: إنه إذا خالطه الخبيث واستهلك فيه واستحال قد حرم، وليس على ذلك دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس؟ ولهذا قال ﷺ في حديث بئر بُضاعة لما ذكر له أنها يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال: "الماء طَهور لا ينجسه شيء" وقال في حديث القلتين: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث". وفي اللفظ الآخر: "لم ينجسه شيء". رواه أبو داود وغيره.
فقوله: "لم يحمل الخبث" بين أن تنجيسه بأن يحمل الخبث، أى بأن يكون الخبث فيه محمولاً، وذلك يبين أنه مع استحالة الخبث لا ينجس الماء.
ج/ 21 ص -503-فصل
وإذا عرف أصل هذه المسألة، فالحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة المطربة فإذا زالت بفعل الله طهرت، بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تأكلوا خل خمر إلا خمرًا بدأ الله بفسادها ولا جناح على مسلم أن يشترى خل خمر من أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها.
وذلك لأن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرمًا، والفعل المحرم لا يكون سببًا للحل، والإباحة. وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرًا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة.
وأما سائر النجاسات، فيجوز التعمد لإفسادها؛ لأن إفسادها ليس بمحرم. كما لا يحد شاربها؛ لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر؛ ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ
ج/ 21 ص -504-جلود الميتة، وجوزوا أيضًا إحالة النجاسة بالنار وغيرها، والماء لنجاسته سببان:
أحدهما: متفق عليه، والآخر: مختلف فيه.
فالمتفق عليه التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير كان طاهرًا، كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرًا.
والثاني: القلة: فإذا كان الماء قليلاً ووقعت فيه نجاسة ففي نجاسته قولان للعلماء: فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثنى البول والعذرة المائعة، فيجعل ما أمكن نزحه نجسًا بوقوع ذلك فيه. ومذهب أبي حنيفة ينجس ما وصلت إليه الحركة، ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة أنه لا ينجس، ولو لم يبلغ قلتين، واختار هذا القول بعض الشافعية كإحدى الروايات، وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي كما نصر الأولى طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول فهؤلاء لا ينجسون شيئًا إلا بالتغير. ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك، كما قاله الزهري وغيره. فهؤلاء لا ينجسون شيئًا من المائعات
ج/ 21 ص -505-إلا بالتغير كما ذكره البخاري في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء.
وكذلك في المائعات إذا سويت به، فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير فيكون الجميع طاهرًا، إذا لم يكن متغيرًا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين فصار الجميع كثيرًا فوق القلتين، ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد:
أحدهما: وهو مذهب الشافعي في الماء : أن الجميع طاهر.
والوجه الثاني: أنه لا يكون طاهرًا حتى يكون المضاف كثيرًا. والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضًا وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرًا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة وكان الجميع كثيرًا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل، وفي ذلك الوجهان المتقدمان.
وهذا القول الذي ذكرناه من أن المائعات كالماء أولى بعدم التنجيس من الماء هو الأظهر في الأدلة الشرعية، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة؛ ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه
ج/ 21 ص -506-الكلب من الماء القليل كما جاء في الحديث ولم يأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة، بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفي على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير رفعًا للحرج. فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة؟ والحرج في هذا أشق، ولعل أكثر المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة.
فإن قيل: الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى، بخلاف المائعات.
قيل: الجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها: أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل، وتنتقل معه فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا وقعت فيه، فإنما كان طاهرًا لاستحالتها فيه، لا لكونه أزالها عن نفسه؛ ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة: إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه. ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل،
ج/ 21 ص -507-وتلك نجسة قبل طهارة المحل. وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه: هل هي طاهرة، أو مطهرة، أو نجسة؟
وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال: الماء ينجس بوقوعها فيه، وإن كان يزيلها عن غيره لما ذكرنا. فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دل عليه قول النبي ﷺ: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، وقوله: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، فإنه إذا كان طهورًا يطهر به غيره علم أنه لا ينجس بالملاقاة؛ إذ لو نجس بها، لكان إذا صب عليه النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه: لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت، زالت.
فدل ذلك على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس، وإن لم تكن قد زالت كما زالت عن المحل. فإن من قال: إنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره، فقد خالف المشاهدة. وهذا المعنى يوجد في سائر المائعات من الأشربة وغيرها.
الوجه الثاني: أن يقال: غاية هذا أن يقتضى أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد ومالك، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره. وأحمد جعله لازمًا لمن قال: أن المائع لا ينجس
ج/ 21 ص -508-بملاقاة النجاسة، وقال: يلزم على هذا أن تزال به النجاسة، وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالته بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول وهذا هو القياس فنقول به على هذا التقدير. وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال: أنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير إما مطلقًا، وإما مع الكثرة فكذلك الصواب في المائعات.
وفي الجملة، التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات الماء وغير الماء.
ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعانى الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية، تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال. فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول، وموجب القياس.
ومن كان فقيهًا خبيرًا بمآخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى،
ج/ 21 ص -509-تبين له ذلك. ولكن إذا كان في استعمالها فساد، فإنه ينهى عن ذلك، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها. ونحوذلك؛ لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث. كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: "لما كان في بعض أسفاره مع أصحابه، فنفدت أزوادهم فاستأذنوه في نحر الظهر فأذن لهم، ثم أتى عمر فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها ويبقى الظهر، ففعل ذلك" فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب؛ لا لأن الإبل محرمة. فهكذا ينهى فيما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها. فالقول في المائعات كالقول في الجامدات.
الوجه الثالث: أن يقال: إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء. وتغير الماء بالنجاسات، أسرع من تغير المائعات. فإذا كان الماء لا ينجس بما وقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته، فالمائعات أولى وأحرى.
الوجه الرابع: أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا لون ولا ريح، فلا نسلم أن يقال بنجاسته أصلاً، كما في الخمر المنقلبة أو
ج/ 21 ص -510-أبلغ. وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة. فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر، كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، ووجه في مذهب الشافعي.
الوجه الخامس: أن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره؛ فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة هل تطهر الأرض؟ على قولين:
أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل، فإنه ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "كانت الكلاب تقبل وتدبر، وتبول في مسجد رسول الله ﷺ ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك". وفي السنن أنه قال: إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما في التراب فإن التراب لهما طهور". وكان الصحابة كعلى بن أبي طالب وغيره يخوضون في الوحل ثم يدخلون يصلون بالناس، ولا يغسلون أقدامهم.
وأوكد من هذا قوله ﷺ في ذيول النساء، إذا أصابت أرضاً طاهرة بعد أرض خبيثة: "تلك بتلك" وقوله: "يطهره
ج/ 21 ص -511-ما بعده" وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد غيره، وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وهي من أجل المسائل؛ وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف، ومحل الاستنجاء، فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها، لأجل الحاجة. كما في الاستنجاء بالأحجار، وجعل الجامد، علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء.
وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة، فالمائعات أولى وأحرى؛ لأن إحالتها أشد وأسرع. ولبسط هذه المسائل وما يتعلق بها مواضع غير هذا.
وأما من قال: إن الدهن ينجس بما يقع فيه، ففي جواز الاستصباح به قولان في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأظهرهما جواز الاستصباح به، كما نقل ذلك عن طائفة من الصحابة، وفي طهارته بالغسل وجهان في مذهب مالك والشافعي وأحمد.
أحدهما: يطهر بالغسل كما اختاره ابن شريح، وأبو الخطاب، وابن شعبان، وغيرهم. وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره.
والثاني: لا يطهر بالغسل وعليه أكثرهم وهذا النزاع يجرى في
ج/ 21 ص -512-الدهن المتغير بالنجاسة، فإنه نجس بلا ريب. ففي جواز الاستصباح به هذا النزاع. وكذلك في غسله هذا النزاع.
وأما بيعه، فالمشهور أنه لا يجوز بيعه، لا من مسلم ولا من كافر. وهو المشهور في مذهب الشافعي وغيره. وعن أحمد أنه يجوز بيعه من كافر، إذا أعلم بنجاسته. كما روى عن أبي موسى الأشعري، وقد خرج قول له بجواز بيعه منهم من خرجه على جواز الاستصباح به، كما فعل أبو الخطاب وغيره وهو ضعيف؛ لأن أحمد وغيره من الأئمة فرقوا بينهما.
ومنهم من خرَّج جواز بيعه على جواز تطهيره؛ لأنه إذا جاز تطهيره صار كالثوب النجس، والإناء النجس وذلك يجوز بيعه وفاقًا. وكذلك أصحاب الشافعي لهم في جواز بيعه إذا قالوا: بجواز تطهيره، وجهان، ومنهم من قال: يجوز بيعه مطلقًا. والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
وأما المائعات كالزيت والسمن، وغيرهما من الأدهان كالخل واللبن وغيرهما إذا وقعت فيه نجاسة مثل الفأرة الميتة، ونحوها من النجاسات، ففي ذلك قولان للعلماء:
ج/ 21 ص -513-أحدهما: أن حكم ذلك حكم الماء، وهذا قول الزهري وغيره من السلف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويذكر رواية عن مالك في بعض المواضع، وهذا هو أصل قول أبي حنيفة، حيث قاس الماء على المائعات.
والثاني: أن المائعات تنجس بوقوع النجاسة فيها، بخلاف الماء، فإنه يفرق بين قليله وكثيره. وهذا مذهب الشافعي، وهو الرواية الأخرى عن مالك وأحمد.
وفيها قول ثالث: هو رواية عن أحمد، وهو الفرق بين المائعات المائية وغيرها فخل التمر يلحق بالماء، وخل العنب لا يلحق به.
وعلى القول الأول، إذا كان الزيت كثيرًا مثل أن يكون قلتين، فإنه لا ينجس إلا بالتغير كما نص على ذلك أحمد في كلب ولغ في زيت كثير. فقال: لا ينجس. وإن كان المائع قليلاً، انبنى على النزاع المتقدم في الماء القليل. فمن قال: أن القليل لا ينجس إلا بالتغير، قال: ذلك في الزيت وغيره، وبذلك أفتى الزهري لما سئل عن الفأرة أو غيرها من الدواب. تموت في سمن أو غيره من الأدهان فقال: تلقى وما قرب منها ويؤكل، سواء كان قليلاً أو كثيرًا، وسواء كان جامدًا أو مائعًا. وقد ذكر ذلك البخاري عنه في صحيحه لمعنى سنذكره إن شاء الله.
ج/ 21 ص -514-ومن قال: أن المائع القليل ينجس بوقوع النجاسة، قال: إنه كالماء، فإنه يطهر بالمكاثرة كما يطهر الماء بالمكاثرة. فإذا صب عليه زيت كثير طهر الجميع. والقول بأن المائعات لا تنجس كما لا ينجس الماء هو القول الراجح، بل هي أولى بعدم التنجيس من الماء. وذلك لأن الله أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، والأطعمة والأشربة من الأدهان والألبان والزيت والخلول. والأطعمة المائعة هي من الطيبات التي أحلها الله لنا، فإذا لم يظهر فيها صفة الخبث لا طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، ولا شيء من أجزائه كانت على حالها في الطيب، فلا يجوز أن تجعل من الخبيث المحرمة مع أن صفاتها صفات الطيب لا صفات الخبائث، فإن الفرق بين الطيبات والخبائث بالصفات المميزة بينهما.
ولأجل تلك الصفات حرم هذا، وأحل هذا. وإذا كان هذا الجب وقع فيه قطرة دم أو قطرة خمر وقد استحالت واللبن باق على صفته، والزيت باق على صفته لم يكن لتحريم ذلك وجه. فإن تلك قد استهلكت واستحالت، ولم يبق لها حقيقة من الأحكام يترتب عليها شيء من أحكام الدم والخمر. وإنما كانت أولى بالطهارة من الماء لأن الشارع رخص في إراقة الماء وإتلافه حيث لم يرخص في إتلاف المائعات كالاستنجاء، فإنه يستنجي بالماء دون هذه، وكذلك إزالة سائر النجاسات بالماء.
ج/ 21 ص -515-وأما استعمال المائعات في ذلك فلا يصح سواء قيل: تزول النجاسة أو لا تزول ولهذا قال من قال من العلماء: إن الماء يراق إذا ولغ فيه الكلب، ولا تراق آنية الطعام والشراب.
وأيضًا، فإن الماء أسرع تغيرًا بالنجاسة من الملح، والنجاسة أشد استحالة في غير الماء منها في الماء، فالمائعات أبعد عن قبول التنجيس حسًا وشرعًا من الماء، فحيث لا ينجس الماء فالمائعات أولى ألا تنجس.
وأيضًا، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النبي ﷺ أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم". فأجابهم النبي ﷺ جوابًا عامًا مطلقًا بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعًا أو جامدًا. وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. مع أن الغالب على سمن الحجاز أن يكون ذائبًا. وقد قيل: إنه لا يكون إلا ذائبًا. والغالب على السمن أنه لا يبلغ القلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أو كثيرًا.
فإن قيل: فقد روى في الحديث.. "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا تقربوه".. رواه أبو داود وغيره.
ج/ 21 ص -516-قيل: هذه الزيادة هي التي اعتمد عليها من فرق بين المائع والجامد، واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النبي ﷺ، وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم. وقد ضعَّف محمد بن يحيى الذهلي حديث الزهري، وصحح هذه الزيادة، لكن قد تبين لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث، ليست من كلام النبي ﷺ.
وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي ﷺ، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولاً. فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. والبخاري والترمذي رحمة الله عليهما وغيرهما من أئمة الحديث، قد بينوا لنا أنها باطلة، وأن معمرًا غلط في روايته لها عن الزهري، وكان معمر كثير الغلط، والأثبات من أصحاب الزهري كمالك، ويونس، وابن عيينة خالفوه في ذلك، وهو نفسه اضطربت روايته في هذا الحديث إسنادًا ومتنًا، فجعله عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإنما هو عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة، وروي عنه في بعض طرقه أنه قال: "إن كان مائعًا فاستصبحوا به" "وفي بعضها فلا تقربوه".
والبخاري بين غلطه في هذا، بأن ذكر في صحيحه عن يونس عن الزهري نفسه أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: إن كان
ج/ 21 ص -517-جامدًا أو مائعًا قليلاً أو كثيرًا تلقى وما قرب منها ويؤكل؛ لأن النبي ﷺ سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم" فالزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة وما قرب منها، ويؤكل، واستدل بهذا الحديث كما رواه عنه جمهور أصحابه. فتبين أن من ذكر عنه الفرق بين النوعين فقد غلط.
وأيضًا، فالجمود والميعان، أمر لا ينضبط، بل يقع الاشتباه في كثير من الأطعمة، هل تلحق بالجامد أو المائع. والشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلا بفصل مبين لا اشتباه فيه. كما قال تعالى: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ" [التوبة:115]. والمحرمات مما يتقون، فلابد أن يبين لهم المحرمات بيانًا فاصلاً بينها وبين الحلال. وقد قال تعالى: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" [الأنعام: 119].
وأيضًا، فإذا كانت الخمر التي هي أم الخبائث إذا انقلبت بنفسها حلت باتفاق المسلمين، فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب. وإذا قدر أن قطرة خمر وقعت في خل مسلم بغير اختياره فاستحالت، كانت أولى بالطهارة.
فإن قيل: الخمر لما نجست بالاستحالة طهرت بالاستحالة، بخلاف غيرها، والخمر إذا قصد تخليلها لم تطهر.
ج/ 21 ص -518-قيل في الجواب عن الأول: إن جميع النجاسات نجست بالاستحالة، فإن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب وهي طاهرة، ثم تستحيل دمًا وبولاً وغائطًا فتنجس.
وكذلك الحيوان يكون طاهرًا، فإذا مات احتبست فيه الفضلات، وصار حاله بعد الموت خلاف حاله في الحياة فينجس؛ ولهذا يطهر الجلد بعد الدباغ عند الجمهور سواء قيل: إن الدباغ كالحياة، أو قيل إنه كالذكاة، فإن في ذلك قولين مشهورين للعلماء، والسنة تدل على أن الدباغ كالذكاة.
وأما ما قصد تخليله، فذلك لأن حبس الخمر حرام، سواء حبست لقصد التخليل أو لا. والطهارة نعمة فلا تثبت النعمة بالفعل المحرم.
وَسُئِلَ عن الرجل يسافر في الشتاء ويصيبه بلل المطر والنداوة ويمس مقادم الدواب ورحالها وغير ذلك مما يشق الاحتراز منه على المسافر وينزل منازل متنجسة يفرش عليها فرشه وغير ذلك، مما يعلم من أحوال المسافر. فهل يعفي عن ذلك؟ وإذا عفي عنه، فهل إذا حضر في بلدته
ج/ 21 ص -519-يجب عليه غسل ما لامس ثيابه وفرشه وفراءه؟ وهي مرتبطة بتلك المقاود. وآلة الدواب لا تخلو من النجاسات، وقد تكون في بعض الأوقات المقاود رطبة من بول أو بلل، ويمسكها بيده، ويلمس بيده ثيابه، وقد تكون في الصيف يده عرقانة. فهل يعفي عن جميع ذلك؟ وإن عفي عنه في السفر هل يكون عفوًا له في الحضر، أم يجب غسل ما ذكر؟ فإن الكثير من الناس لا يغسلون. والأقل من الناس يعتنون بالغسل؟ وهل كان الصحابة يغسلون من ذلك، أم يتجاوزون؟ وهل يكون الغسل من ذلك بخلاف السنة؟ والغرض متابعة الصحابة وما كانوا عليه.
وفي الرجل، إذا مس ثوبه القصَّاب أو يده وعليه شيء من الدسم غسل ما أصابه منه. فهل هو في ذلك مصيب؟ أو هذا وسواس؟ وفي الرجل أيضًا يصلي إلى جانبه قصَّاب في المسجد فيقول مكان هذا القصاب غير طاهر؛ لأن القصابين لا يتحرزون من النجاسة في أبدانهم وثيابهم، وإذا صافحه قصَّاب غسل يده؟ وكذلك إذا مسه الطواف باللحم غسل ما أصابه منه. فهل هو مخطئ؟ وما الحكم في ذلك؟ وما الذي كانت عليه الصحابة؟
وفي الرجل يأكل الشرائح وقد جرت العادة بأن عمالها لا يغسلون اللحم فهل يحرم أكلها أو يكره؟ لكون القصابين يذبحون بسكين
ج/ 21 ص -520-ويسلخون بها من غير غسل؟ وإذا عفي عنه في الأكل: فهل يعفي عن الرجل يأكل من ذلك ويصيب ثوبه وبدنه من ذلك ولا يغسله والمراد: ما لو جرى بحضرة الصحابة أو فعل؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
أما مقاود الخيل ورباطها فطاهر باتفاق الأئمة؛ لأن الخيل طاهرة بالاتفاق. ولكن الحمير فيها خلاف: هل هي طاهرة أو نجسة، أو مشكوك فيها؟ والصحيح الذي لا ريب فيه أن شعرها طاهر؛ إذ قد بينا أن شعر الكلب طاهر، فشعر الحمار أولى. وإنما الشبهة في ريق الحمار هل يلحق بريق الكلب أو بريق الخيل؟ وأما مقاودها وبراذعها فمحكوم بطهارتها، وغاية ما فيها أنه قد يصيبها بول الدواب وروثها.
وبول البغل والحمار فيه نزاع بين العلماء. منهم من يقول: هو طاهر ومنهم من ينجسه، وهم الجمهور وهو مذهب الأئمة الأربعة. لكن هل يعفي عن يسيره؟ على قولين. هما روايتان عن أحمد. فإذا عفي عن يسير بوله وروثه، كان ما يصيب المقاود وغيرها معفوًا عنه. وهذا مع تيقن النجاسة.
وأما مع الشك، فالأصل في ذلك الطهارة، والاحتياط في ذلك وسواس، فإن الرجل إذا أصابه ما يجوز أن يكون طاهرًا ويجوز أن
ج/ 21 ص -521-يكون نجسًا لم يستحب له التجنب على الصحيح، ولا الاحتياط، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر هو وصاحب له بميزاب فقطر على صاحبه منه ماء. فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره، فإن هذا ليس عليه.
وعلى القول بالعفو، فإذا فرش في الخانات وغيرها على روث الحمير ونحوها، فإنه يعفي عن يسير ذلك. وأما روث الخيل فالصحيح أنه طاهر، فلا يحتاج إلى عفو، ولا يجب عليه شيء من ذلك إذا دخل الحضر، وسواء كانت يده رطبة من ماء أو غير ذلك، فإنه لا يضره من المقاود. وغسل المقاود بدعة لم ينقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم بل كانوا يركبونها. وامتن الله عليهم بذلك في قوله تعالى : "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا" [النحل: 8]، وكان للنبي ﷺ بغلة يركبها، وروي عنه: أنه ركب الحمار، وما نقل أنه أمر خُدَّام الدواب أن يحترزوا من ذلك. فصل
وثوب القصَّاب وبدنه محكوم بطهارته، وإن كان عليه دسم، وغسل اليدين من ذلك وسوسة وبدعة، ومكانه من المسجد وغيره طاهر،
ج/ 21 ص -522-وغاية ما يصيب القصاب، أن الدم يصيبه أحيانًا، فالذي يماسه إذا لم يكن عليه دم لا يضره، ولو أصابه دم يسير لعفي عنه؛ لأن الدم اليسير معفو عنه، ونجاسة القصاب ليست من نجاسة الدسم، فإن الدسم طاهر لا نجاسة فيه، ويسير الدم معفو عنه، وغسل يده من مصافحة القصَّاب أو الطواف وسوسة وتنطع مخالف للسنة.
وقد ذكر البخاري أن عمر بن الخطاب توضأ من جرة امرأة نصرانية، وقد كان النبي ﷺ يقبل زبيبة الحسن، وقد صلى وهو حامل أمامة ابنة ابنته، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. ومثل هذا كثير في الآثار يبين سعة الأمر في ذلك.
فصل
أكل الشوى والشريح جائز سواء غسل اللحم أو لم يغسل، بل غسل لحم الذبيحة بدعة، فما زال الصحابة رضي الله عنهم على عهد النبي ﷺ يأخذون اللحم فيطبخونه ويأكلونه بغير غسله، وكانوا يرون الدم في القدر خطوطًا، وذلك أن الله إنما حرم عليهم الدم المسفوح أى المصبوب المهراق، فأما ما يبقى في العروق فلم يحرمه. ولكن حرم عليهم أن يتبعوا العروق كما تفعل اليهود الذين بظلم منهم
ج/ 21 ص -523-حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا.
وسكين القصَّاب يذبح بها ويسلخ، فلا تحتاج إلى غسل، فإن غسل السكاكين التي يذبح بها بدعة، وكذلك غسل السيوف. وإنما كان السلف يمسحون ذلك مسحًا؛ ولهذا جاز في أحد قولى العلماء في الأجسام الصقيلة كالسيف والمرآة إذا أصابها نجاسة أن تمسح ولا تغسل وهذا فيما لا يعفي عنه.
فأما ما تعين عدم نجسه، فلا يحتاج إلى غسل ولا مسح، واليسير يعفي عنه. وما عفي عنه، فالحمل والمشي بلا ريب، فإن كل ما جاز أكله، جاز مباشرته في الصلاة وغيرها، وليس كل ما جازت مباشرته في الصلاة وغيرها، جاز أكله، كالسموم المضرة، فإنه لا يجوز أكلها. ولو باشرها وإن كانت طاهرة تجوز مباشرتها في الصلاة.
وذلك لأن الله تعالى حرم علينا الخبائث، وأباح لنا الطيبات، والخبيث يضر، والطيب ينفع، وما ضر في مباشرة الظاهر كانت مضرته بممازجة الأبدان إذا أكل أقوى وأقوى، وليس كل ما ضر بالممازجة والمخالطة يضر بالمباشرة والملامسة؛ ولهذا كان ما عفي عنه في الحمل كدم الجرح والدماميل وما يعلق بالسكين من دم الشاة ونحو ذلك، فهذا إذا وقع في ماء أو مائع فقيل إنه ينجسه، وإنما يعفي عنه في المائعات. كما تقدم من أن الله إنما حرم الدم المسفوح، وقد كان
ج/ 21 ص -524-أصحاب رسول الله ﷺ يدخل أحدهم إصبعه في خيشومه فيلوث أصابعه بالدم فيمضى في صلاته. وكذلك كانت أيديهم تصيب الدماميل والجراح ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يتحرجون من مباشرة المائعات حتى يغسلوا أيديهم.
وقد ثبت أنهم كانوا يضعون اللحم بالقدر فيبقى الدم في الماء خطوطًا، وهذا لا أعلم بين العلماء خلافًا في العفو عنه، وأنه لا ينجس باتفاقهم وحينئذ، فأى فرق بين كون الدم في مرق القدر، أو مائع آخر، وكونه في السكين أو غيرها؟! والله أعلم.
وَسُئِلَ عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي وقعت فيه فأرة في بئر واحدة، فهل ينجس بذلك أم لا؟ وهل يجوز بيعه أو استعماله أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، لا ينجس بذلك، بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد، وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين، فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير، لكن تلقى النجاسة وما حولها، وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة
ج/ 21 ص -525-من العلماء: كالزهري، والبخاري صاحب الصحيح.
وقد ذكر ذلك رواية عن مالك، وهو أيضًا مذهب أبي حنيفة، فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة، وفي إزالة النجاسة، وهو رواية عن أحمد في الإزالة، لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسًا، وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك فلم يروا الوصول منجسًا، مع الكثرة.
وتنازعوا في القليل.
إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبث إذا وقع في الطيب أفسده، ومنهم من قال: إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره، فأما إذا استهلك فيه واستحال فلا وجه لإفساده، كما لو انقلبت الخمرة خلاً بغير قصد آدمى فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة، لكن مذهبه في الماء معروف، وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع، ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله.
وعمدة الذين نجسوه، احتجاجهم بحديث رواه أبو داود وغيره عن النبي ﷺ أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا
ج/ 21 ص -526-تقربوه"، وهذا الحديث إنما يدل لو دل على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة، فكيف والحديث ضعيف؟! بل باطل غلط فيه معمر على الزهري غلطًا معروفًا عند النقاد الجهابذة، كما ذكره الترمذي عن البخاري.
ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح، فلم يعلم العلة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه، فإن علم العلل من خواص علم أئمة الحديث. ولهذا بين البخاري في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية، وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة فقال:
[باب: إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب]
حدثنا عبدان، قال: حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك عن يونس، عن الزهري: أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامد. أو غير جامد الفأرة أو غيرها قال: بلغنا أن رسول الله ﷺ أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل. وفي حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة قال: سئل النبي ﷺ عن فأرة وقعت في سمن فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه" فذكر البخاري عن ابن شهاب الزهري أعلم الأمة بالسنة في زمانه أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة أنها تطرح وما قرب منها.
ج/ 21 ص -527-واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس: أن النبي ﷺ سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه" ولم يقل النبي ﷺ: إن كان مائعًا فلا تقربوه، بل هذا باطل. فذكر البخاري رضى الله عنه هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روي في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه، فإنه أجاب بالعموم، في الجامد والذائب، مستدلا بهذا الحديث بعينه، لاسيما والسمن بالحجاز يكون ذائبًا أكثر مما يكون جامدًا، بل قيل: إنه لا يكون بالحجاز جامدًا بحال.
فإطلاق النبي ﷺ الجواب من غير تفصيل يوجب العموم؛ إذ السؤال كالمعاد في الجواب، فكأنه قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال. هذا إذا كان السمن بالحجاز يكون جامدًا ويكون ذائبًا، فأما إن كان وجود الجامد نادرًا أو معدوما، كان الحديث نصًا في أن السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة فإنها تلقى وما حولها ويؤكل. ولذلك أجاب الزهري فإن مذهبه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثيره إلا بالتغير، وقد ذكر البخاري في أوائل الصحيح: التسوية بين الماء والمائعات.
وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة ودلائلها، وكلام العلماء فيها
ج/ 21 ص -528-في غير هذا الموضع. كيف وفي تنجيس مثل ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة، وإتلاف الأموال العظيمة القدر، ما لا تأتى بمثله الشريعة الجامعة للمحاسن كلها. والله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث تنزيهًا لنا عن المضار، وأباح لنا الطيبات كلها لم يحرم علينا شيئًا من الطيبات، كما حرم على أهل الكتاب بظلمهم طيبات أحلت لهم. ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد، تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه "وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" [النور: 40]، والله سبحانه أعلم. والحمد للَّه وحده وصلاته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.
وَسُئِلَ عن الزيت إذا كان في بئر، ووقعت فيه نجاسة: مثل الفأرة والحية، ونحوهما، وماتا فيه. فما الحكم إذا كان دون القلتين؟ وإذا ولغ الكلب في الزيت أو اللبن فما الحكم فيه؟
فأجاب رحمه الله:
إذا كان أكثر من القلتين فهو طاهر عند جمهور العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم. وإن كان دون القلتين، ففيه قولان في مذهب أحمد، وغيره. ومذهب المدنيين وكثير من أهل الحديث أنه طاهر، كإحدى الروايتين عن أحمد،
ج/ 21 ص -529-وهو اختيار طائفة من أصحابه: كابن عقيل، وغيره، وكذلك المائع إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فيه نزاع معروف، وقد بسط في موضع آخر.
والأظهر أنه إذا لم يكن للنجاسة فيه أثر، بل استهلكت فيه ولم تغير له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا، فإنه لا ينجس، والله سبحانه أعلم.
وَسُئِلَ عما إذا ولغ الكلب في اللبن، ومخض اللبن، وظهر فيه زبدة: فهل يحل تطهير الزبدة؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
اللبن وغيره من المائعات هل يتنجس بملاقاة النجاسة أو حكمه حكم الماء؟ هذا فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، وكذلك مالك له في النجاسة الواقعة في الطعام الكثير هل تنجسه؟ فيه قولان.
وأما ولوغ الكلب في الطعام، فلا ينجسه عند مالك، فهذا على أحد قولى العلماء لم ينجس، وعلى القول الآخر ينجس، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عن أصحابه، لكن عند هؤلاء هل يطهر
ج/ 21 ص -530-الدهن بالغسل؟ فيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد، وهما قولان في مذهب مالك أيضًا.
فمن قال إن الأدهان تطهر بالغسل، قال بطهارته بالغسل، وإلا فلا، والله أعلم.
وَسُئِلَ: عن الكلب إذا ولغ في اللبن أو غيره ما الذي يجب في ذلك؟
فأجاب:
وأما الكلب فقد تنازع العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه طاهر حتى ريقه، وهذا هو مذهب مالك.
والثاني: نجس حتى شعره، وهذا هو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثالث: شعره طاهر، وريقه نجس، وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهذا أصح الأقوال. فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك، وإذا ولغ في الماء أريق الماء.
ج/ 21 ص -531-وإن ولغ في اللبن ونحوه فمن العلماء من يقول: يؤكل ذلك الطعام، كقول مالك وغيره، ومنهم من يقول يراق كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فأما إن كان اللبن كثيرًا فالصحيح أنه لا ينجس كما تقدم.
وَسُئِلَ شَيْخ الإسْلاَم رَحمه الله: عن الجبن الإفرنجى، والجوخ: هل هما مكروهان، أو قال أحد من الأئمة ممن يعتمد قوله إنهما نجسان، وأن الجبن يدهن بدهن الخنزير، وكذلك الجوخ؟
فأجاب:
الحمد للَّه، أما الجبن المجلوب من بلاد الإفرنج، فالذين كرهوه ذكروا لذلك سببين:
أحدهما: أنه يوضع بينه شحم الخنزير إذا حمل في السفن.
والثاني: أنهم لا يذكون ما تصنع منه الأنفحة، بل يضربون رأس البقر ولا يذكونه.
فأما الوجه الأول: فغايته أن ينجس ظاهر الجبن، فمتى كشط الجبن، أو غسل طهر، فإن ذلك ثبت في الصحيح: أن النبي صلى
ج/ 21 ص -532-الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم"، فإذا كان ملاقاة الفأرة للسمن لا توجب نجاسة جميعه، فكيف تكون ملاقاة الشحم النجس للجبن توجب نجاسة باطنه؟! ومع هذا، فإنما يجب إزالة ظاهره إذا تيقن إصابة النجاسة له، وأما مع الشك، فلا يجب ذلك.
وأما الوجه الثاني: فقد علم أنه ليس كل ما يعقرونه من الأنعام يتركون ذكاته، بل قد قيل: أنهم إنما يفعلون هذا بالبقر. وقيل: إنهم يفعلون ذلك حتى يسقط، ثم يذكونه. ومثل هذا لا يوجب تحريم ذبائحهم، بل إذا اختلط الحرام بالحلال في عدد لا ينحصر كاختلاط أخته بأهل بلد، واختلاط الميتة والمغصوب بأهل بلدة لم يوجب ذلك تحريم ما في البلد، كما إذا اختلطت الأخت بالأجنبية، والمذكى بالميت، فهذا القدر المذكور لا يوجب تحريم ذبائحهم المجهولة الحال. وبتقدير أن يكون الجبن مصنوعًا من أنفحة ميتة، فهذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء:
أحدهما: أن ذلك مباح طاهر، كما هو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين.
والثاني: أنه حرام نجس: كقول مالك، والشافعي،وأحمد في
ج/ 21 ص -533-الرواية الأخرى، والخلاف مشهور في لبن الميتة وأنفحتها: هل هو طاهر أم نجس؟ والمطهرون احتجوا بأن الصحابة أكلوا جبن المجوس مع كون ذبائحهم ميتة، ومن خالفهم نازعهم كما هو مذكور في موضع آخر.
وأما الجوخ، فقد حكى بعض الناس أنهم يدهنونه بشحم الخنزير، وقال بعضهم: أنه ليس يفعل هذا به كله، فإذا وقع الشك في عموم نجاسة الجوخ لم يحكم بنجاسة عينه، لإمكان أن تكون النجاسة لم تصبها؛ إذ العين طاهرة، ومتى شك في نجاستها، فالأصل الطهارة. ولو تيقنا نجاسة بعض أشخاص نوع دون بعض، لم نحكم بنجاسة جميع أشخاصه ولا بنجاسة ما شككنا في تنجسه، ولكن إذا تيقن النجاسة، أو قصد قاصد إزالة الشك، فغسل الجوخة يطهرها، فإن ذلك صوف أصابه دهن نجس. وأصابة البول والدم لثوب القطن والكتان أشد وهو به ألصق.
وقد قال النبي ﷺ لمن أصاب دم الحيض ثوبها:"حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" وفي رواية: "ولا يضرك أثره". والله أعلم.
ج/ 21 ص -534-وَسُئِلَ: عن مريض طبخ له دواء، فوجد فيه ذبل الفأر؟
فأجاب:
هذه المسألة فيها نزاع معروف بين العلماء، هل يعفي عن يسير بعر الفأر، ففي أحد القولين في مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما، أنه يعفي عن يسيره، فيؤكل ما ذكر، وهذا أظهر القولين. والله أعلم.
وقَالَ رحمَهُ الله:
أما بعد، فقد كنا في مجلس التفقه في الدين، والنظر في مدارك الأحكام المشروعة تصويرًا وتقريرًا وتأصيلا وتفصيلا، فوقع الكلام في شرح القول في حكم منى الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة، وفي أرواث البهائم المباحة: أهى طاهرة أم نجسة؟ على وجه أحب أصحابنا تقييده، وما يقاربه من زيادة ونقصان، فكتبت لهم في ذلك، فأقول ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
هذا مبنى على أصل، وفصلين. أما الأصل:
ج/ 21 ص -535-فاعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها أن تكون حلالا مطلقًا للآدميين، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها، ومماستها، وهذه كلمة جامعة، ومقالة عامة، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة، واسعة البركة، يفزع إليها حملة الشريعة، فيما لا يحصى من الأعمال. وحوادث الناس، وقد دل عليها أدلة عشرة مما حضرنى ذكره من الشريعة وهى: كتاب الله، وسنة رسوله، واتباع سبيل المؤمنين المنظومة في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" [النساء:59]، وقوله: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ" [المائدة: 55]. ثم مسالك القياس، والاعتبار، ومناهج الرأي، والاستبصار.
الصنف الأول: الكتاب، وهو عدة آيات.
الآية الأولى قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً" [البقرة: 29]، والخطاب لجميع الناس. لافتتاح الكلام بقوله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ" [البقرة: 21]، ووجه الدلالة أنه أخبر، أنه خلق جميع ما في الأرض
ج/ 21 ص -536-للناس مضافًا إليهم باللام، واللام حرف الإضافة، وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه، واستحقاقه إياه من الوجه الذي يصلح له، وهذا المعنى يعم موارد استعمالها. كقولهم: المال لزيد، والسرج للدابة، وما أشبه ذلك فيجب إذًا أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض فضلاً من الله ونعمة، وخص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث؛ لما فيها من الإفساد لهم في معاشهم، أو معادهم، فيبقى الباقي مباحًا بموجب الآية.
الآية الثانية: قوله تعالى: "وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" [الأنعام: 119]، دلت الآية من وجهين:
أحدهما: أنه وبخهم وعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه قبل أن يحله باسمه الخاص، فلو لم تكن الأشياء مطلقة مباحة لم يلحقهم ذم ولا توبيخ؛ إذ لو كان حكمها مجهولا، أو كانت محظورة لم يكن ذلك.
الوجه الثاني: أنه قال: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" [الأنعام: 119]، والتفصيل التبيين، فبين أنه بين المحرمات، فما لم يبين تحريمه ليس بمحرم. وما ليس بمحرم فهو حلال؛ إذ ليس إلا حلال أو حرام.
الآية الثالثة: قوله تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" [الجاثية:13]، وإذا كان ما في الأرض مسخرًا لنا، جاز استمتاعنا به كما تقدم.
ج/ 21 ص -537-الآية الرابعة: قوله تعالى: "قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا" الآية [الأنعام: 145]، فما لم يجد تحريمه، ليس بمحرم. وما لم يحرم، فهو حل، ومثل هذه الآية قوله: "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ" الآية [البقرة: 173]؛ لأن حرف: [إنما] يوجب حصر الأول في الثاني، فيجب انحصار المحرمات فيما ذكر. وقد دل الكتاب على هذا الأصل المحيط في مواضع أخر.
الصنف الثاني: السنة والذي حضرني منها حديثان:
الحديث الأول: في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله ﷺ: "إن أعظم المسلمين جرمًا من يسأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". دل ذلك على أن الأشياء لا تحرم إلا بتحريم خاص، لقوله: لم يحرم، ودل أن التحريم قد يكون لأجل المسألة، فبين بذلك أنها بدون ذلك ليست محرمة، وهو المقصود.
الثاني: روى أبو داود في سننه عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله ﷺ عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه". فمنه دليلان:
ج/ 21 ص -538-أحدهما: أنه أفتى بالإطلاق فيه.
الثاني: قوله: "وما سكت عنه فهو مما عفا عنه"، نص في أن ما سكت عنه فلا إثم عليه فيه، وتسميته هذا عفوًا كأنه والله أعلم لأن التحليل هو الإذن في التناول بخطاب خاص، والتحريم المنع من التناول كذلك، والسكوت عنه لم يؤذن بخطاب يخصه، ولم يمنع منه، فيرجع إلى الأصل، وهو ألا عقاب إلا بعد الإرسال، وإذا لم يكن فيه عقاب، لم يكن محرما وفي السنة دلائل كثيرة على هذا الأصل.
الصنف الثالث: اتباع سبيل المؤمنين، وشهادة شهداء الله في أرضه الذين هم عدول الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، المعصومين من اجتماعهم على ضلالة، المفروض اتباعهم، وذلك أنى لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين: في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور. وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه، وأحسب بعضهم ذكر في ذلك الإجماع يقينا أو ظنا كاليقين.
فإن قيل: كيف يكون في ذلك إجماع، وقد علمت اختلاف الناس في الأعيان قبل مجيء الرسل، وإنزال الكتب، هل الأصل فيها الحظر أو الإباحة؟ أو لا يدرى ما الحكم فيها؟ أو أنه لا حكم لها أصلا؟ واستصحاب الحال دليل متبع، وأنه قد ذهب بعض من صنف في أصول
ج/ 21 ص -539-الفقه من أصحابنا وغيرهم على أن حكم الأعيان الثابت لها قبل الشرع مستصحب بعد الشرع، وأن من قال: بأن الأصل في الأعيان الحظر استصحب هذا الحكم حتى يقوم دليل الحل.
فأقول: هذا قول متأخر لم يؤثر أصله عن أحد من السابقين. ممن له قدم، وذلك أنه قد ثبت أنها بعد مجىء الرسل على الإطلاق، وقد زال حكم ذلك الأصل بالأدلة السمعية التي ذكرتها، ولست أنكر أن بعض من لم يحط علما بمدارك الأحكام، ولم يؤت تمييزًا في مظان الاشتباه، ربما سحب ذيل ما قبل الشرع على ما بعده. إلا أن هذا غلط قبيح لو نبه له لتنبه مثل الغلط في الحساب لا يهتك حريم الإجماع، ولا يثلم سنن الاتباع.
ولقد اختلف الناس في تلك المسألة: هل هي جائزة أم ممتنعة؟ لأن الأرض لم تخل من نبى مرسل؛ إذ كان آدم نبيًا مكلمًا حسب اختلافهم في جواز خلو الأقطار عن حكم مشروع، وإن كان الصواب عندنا جوازه.
ومنهم من فرضها فيمن ولد بجزيرة، إلى غير ذلك من الكلام الذي يبين لك ألا عمل بها، وأنها نظر محض ليس فيه عمل. كالكلام في مبدأ اللغات وشبه ذلك، على أن الحق الذي لا راد له
ج/ 21 ص -540-أن قبل الشرع لا تحليل ولا تحريم، فإذًا لا تحريم يستصحب ويستدام، فيبقى الآن كذلك، والمقصود خلوها عن المآثم والعقوبات.
وأما مسلك الاعتبار بالأشباه والنظائر واجتهاد الرأى في الأصول الجوامع، فمن وجوه كثيرة ننبه على بعضها.
أحدها: أن الله سبحانه خلق هذه الأشياء وجعل فيها للإنسان متاعا ومنفعة. ومنها ما قد يضطر إليه وهو سبحانه جواد ماجد كريم رحيم غنى صمد، والعلم بذلك يدل على العلم بأنه لا يعاقبه ولا يعذبه على مجرد استمتاعه بهذه الأشياء وهو المطلوب.
وثانيها: أنها منفعة خالية عن مضرة فكانت مباحة كسائر ما نص على تحليله، وهذا الوصف قد دل على تعلق الحكم به النص وهو قوله: "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ" [الأعراف: 157]، فكل ما نفع فهو طيب، وكل ما ضر فهو خبيث. والمناسبة الواضحة لكل ذي لب، أن النفع يناسب التحليل، والضرر يناسب التحريم والدوران، فإن التحريم يدور مع المضار وجودًا: في الميتة والدم ولحم الخنزير وذوات الأنياب والمخالب والخمر وغيرها مما يضر بأنفس الناس،وعدما:في الأنعام والألبان وغيرها.
وثالثها: أن هذه الأشياء إما أن يكون لها حكم أولا يكون،
ج/ 21 ص -541-والأول صواب، والثاني باطل بالاتفاق، وإذا كان لها حكم، فالوجوب والكراهة والاستحباب معلومة البطلان بالكلية؛ لم يبق إلا الحل. والحرمة باطلة لانتفاء دليلها نصًا واستنباطًا، لم يبق إلا الحل وهو المطلوب.
إذا ثبت هذا الأصل فنقول: الأصل في الأعيان الطهارة لثلاثة أوجه:
أحدها: أن الطاهر ما حل ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة. والنجس بخلافه، وأكثر الأدلة السالفة تجمع جميع وجوه الانتفاع بالأشياء: أكلا وشربًا ولبسًا ومسًا وغير ذلك، فثبت دخول الطهارة في الحل، وهو المطلوب، والوجهان الآخران نافلة.
الثاني: أنه إذا ثبت أن الأصل جوازا أكلها وشربها فلأن يكون الأصل ملابستها ومخالطتها الخلق أولى وأحرى، وذلك لأن الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصرًا له، فإذا كان خبيثًا صار البدن خبيثًا فيستوجب النار؛ ولهذا قال النبي ﷺ: "كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به". والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب. وأما ما يماس البدن ويباشره فيؤثر أىضًا في البدن من ظاهر كتأثير الأخباث في أبداننا وفي ثيابنا المتصلة بأبداننا، لكن تأثيرها دون تأثير المخالط الممازج. فإذا حل مخالطة الشيء وممازجته، فحل
ج/ 21 ص -542-ملابسته ومباشرته أولى. وهذا قاطع لا شبهة فيه. وطرد ذلك أن كل ما حرم مباشرته وملابسته، حرم مخالطته وممازجته، ولا ينعكس. فكل نجس محرم الأكل، وليس كل محرم الأكل نجسًا. وهذا في غاية التحقيق.
الوجه الثالث: أن الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك. فإنه غاية المتقابلات. تجد أحد الجانبين فيها محصورًا مضبوطًا والجانب الآخر مطلق مرسل والله تعالى الهادي للصواب.
الفصل الأول
القول في طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم وعلى ذلك عدة أدلة:
الدليل الأول: أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر، وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة. أما الركن الأول من الدليل، فقد ثبت بالبراهين الباهرة والحجج القاهرة. وأما الثاني فنقول: إن المنفي على
ج/ 21 ص -543-ضربين: نفي نحصره ونحيط به، كعلمنا بأن السماء ليس فيها شمسان ولا قمران طالعان، وأنه ليس لنا إلا قبلة واحدة، وأن محمدًا لا نبي بعده، بل علمنا أنه لا إله إلا الله، وأن ما ليس بين اللوحين ليس بقرآن، وأنه لم يفرض إلا صوم شهر رمضان، وعلم الإنسان أنه ليس في دراهم قبل ولا تغير، وأنه لم يطعم، وأنه البارحة لم ينم، وغير ذلك مما يطول عده، فهذا كله نفي مستيقن يبين خطأ من يطلق قوله: لا تقبل الشهادة على النفي.
الثاني: ما لا يستيقن نفيه وعدمه. ثم منه ما يغلب على القلب ويقوى في الرأى، ومنه ما لا يكون كذلك. فإذا رأينا حكمًا منوطًا بنفي من الصنف الثاني، فالمطلوب أن نرى النفي ويغلب على قلوبنا.
والاستدلال بالاستصحاب وبعدم المخصص وعدم الموجب لحمل الكلام على مجازه هو من هذا القسم. فإذا بحثنا وسبرنا عما يدل على نجاسة هذه الأعيان والناس يتكلمون فيها منذ مئات من السنين فلم نجد فيها إلا أدلة معروفة. شهدنا شهادة جازمة في هذا المقام بحسب علمنا ألا دليل إلا ذلك.
فنقول: الاستدلال بهذا الدليل إنما يتم بفسخ ما استدل به على النجاسة،
ج/ 21 ص -544-ونقض ذلك. وقد احتج لذلك بمسلكين: أثرى ونظرى:
أما الأثري: فحديث ابن عباس المخرج في الصحيحين: أن رسول الله ﷺ مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول" وروى: "لا يستنزه " والبول اسم جنس محلى باللام، فيوجب العموم. كالإنسان في قوله: "إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا"[العصر: 2، 3]، فإن المرتضى أن أسماء الأجناس تقتضي من العموم ما تقتضيه أسماء الجموع، لست أقول: الجنس الذي يفصل بين واحده وكثيره الهاء كالتمر، والبر، والشجر فإن حكم تلك حكم الجموع بلا ريب. وإنما أقول: اسم الجنس المفرد الدال على الشيء، وعلى ما أشبهه كإنسان ورجل، وفرس، وثوب، وشبه ذلك.
وإذا كان النبي ﷺ قد أخبر بالعذاب من جنس البول، وجب الاحتراز والتنزه من جنس البول، فيجمع ذلك أبوال جميع الدواب، والحيوان الناطق، والبهيم، ما يؤكل وما لا يؤكل، فيدخل بول الأنعام في هذا العموم، وهو المقصود.
وهذا قد اعتمد عليه بعض من يدعى الاستدلال بالسمع، وبعض الرأى، وارتضاه بعض من يتكايس، وجعله مفزعًا وموئلاً.
ج/ 21 ص -545-المسلك الثاني النظري: وهو من ثلاثة أوجه:
أحدها: القياس على البول المحرم فنقول: بول، وروث، فكان نجسًا كسائر الأبوال، فيحتاج هذا القياس أن يبين أن مناط الحكم في الأصل هو أنه بول وروث، وقد دل على ذلك تنبيهات النصوص مثل قوله: "اتقوا البول" وقوله: "كان بنو إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم البول قرضه بالمقراض".
والمناسبة أيضًا : فإن البول والروث مستخبث مستقذر، تعافه النفوس، على حد يوجب المباينة، وهذا يناسب التحريم، حملا للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأحوال، وقد شهد له بالاعتبار تنجس أرواث الخبائث.
الثاني: أن نقول: إذا فحصنا وبحثنا عن الحد الفاصل بين النجاسات والطهارات، وجدنا ما استحال في أبدان الحيوان عن أغذيتها، فما صار جزءًا فهو طيب الغذاء، وما فضل فهو خبيثه؛ ولهذا يسمى رجيعًا. كأنه أخذ ثم رجع أى رد. فما كان من الخبائث يخرج من الجانب الأسفل: كالغائط والبول والمني والوذي والودي، فهو نجس. وما خرج من الجانب الأعلى: كالدمع والريق والبصاق والمخاط ونخامة الرأس، فهو طاهر. وما تردد كبلغم المعدة ففيه تردد.
ج/ 21 ص -546-وهذا الفصل بين ما خرج من أعلى البدن، وأسفله، قد جاء عن سعيد بن المسيب ونحوه، وهو كلام حسن في هذا المقام الضيق. الذي لم يفقه كل الفقه، حتى زعم زاعمون أنه تعبد محض وابتلاء، وتمييز بين من يطيع وبين من يعصى. وعندنا أن هذا الكلام لا حقيقة له بمفرده، حتى يضم إليه أشياء أخر، فَرَّق من فَرَّق بين ما استحال في معدة الحيوان كالروث والقىء وما استحال من معدته كاللبن.
وإذا ثبت ذلك، فهذه الأبوال والأرواث مما يستحيل في بدن الحيوان، وينصع طيبه، ويخرج خبيثه من جهة دبره وأسفله، ويكون نجسا. فإن فرق بطيب لحم المأكول، وخبث لحم المحرم، فيقال: طيب الحيوان وشرفه وكرمه لا يوجب طهارة روثه، فإن الإنسان إنما حرم لحمه كرامة له وشرفا، ومع ذلك فبوله أخبث الأبوال.
ألا ترى أنكم تقولون: إن مفارقة الحياة لا تنجسه، وأن ما أبين منه وهو حى فهو طاهر أيضًا كما جاء في الأثر وإن لم يؤكل لحمه فلو كان إكرام الحيوان موجبًا لطهارة روثه، لكان الإنسان في ذلك القدح المعلى. وهذا سر المسألة ولبابها.
الوجه الثالث: أنه في الدرجة السفلى من الاستخباث، والطبقة
ج/ 21 ص -547-النازلة من الاستقذار. كما شهد به أنفس الناس، وتجده طبائعهم وأخلاقهم، حتى لا نكاد نجد أحدًا ينزله منزلة در الحيوان ونسله، وليس لنا إلا طاهر، أو نجس. وإذا فارق الطهارات، دخل في النجاسات، والغالب عليه أحكام النجاسات من مباعدته ومجانبته فلا يكون طاهرًا؛ لأن العين إذا تجاذبتها الأصول، لحقت بأكثرها شبهًا، وهو متردد بين اللبن وبين غيره من البول، وهو بهذا أشبه.
ويقوى هذا أنه قال تعالى: "مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ" [النحل: 66]، قد ثبت أن الدم نجس، فكذلك الفرث؛ لتظهر القدرة والرحمة في إخراج طيب من بين خبيثين. ويبين هذا جميعه أنه يوافق غيره من البول في خلقه ولونه وريحه وطعمه، فكيف يفرق بينهما مع هذه الجوامع التي تكاد تجعل حقيقة أحدهما حقيقة الآخر؟!
فالوجه الأول: قياس التمثيل وتعليق الحكم بالمشترك المدلول عليه.
والثاني: قياس التعليل بتنقيح مناط الحكم وضبط أصل كلي.
والثالث: التفريق بينه وبين جنس الطاهرات فلا يجوز إدخاله فيها، فهذه أنواع القياس: أصل ووصل وفصل.
فالوجه الأول: هو الأصل، والجمع بينه وبين غيره من الأخباث.
ج/ 21 ص -548-والثاني: هو الأصل والقاعدة، والضابط الذي يدخل فيه.
والثالث: الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات، وهو قياس العكس فالجواب عن هذه الحجج، والله المستعان.
أما المسلك الأول: فضعيف جدًا لوجهين:
أحدهما: أن اللام في البول للتعريف، فتفيد ما كان معروفًا عند المخاطبين، فإن كان المعروف واحدًا معهودًا فهو المراد. وما لم يكن ثم عهد بواحد، أفادت الجنس؛ إما جميعه على المرتضى، أو مطلقه على رأي بعض الناس، وربما كانت كذلك. وقد نص أهل المعرفة باللسان والنظر في دلالات الخطاب أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فأما إذا كان ثَمَّ شيء معهود مثل قوله تعالى: "كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ" [المزمل: 15، 16]، صار معهودًا بتقدم ذكره، وقوله: "لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ" [النور: 63]، هو معين؛ لأنه معهود بتقدم معرفته وعلمه، فإنه لا يكون لتعريف جنس ذلك الاسم حتى ينظر فيه، هل يفيد تعريف عموم الجنس، أو مطلق الجنس فافهم هذا، فإنه من محاسن المسالك.
فإن الحقائق ثلاثة: عامة، وخاصة، ومطلقة.
فإذا قلت: الإنسان، قد تريد جميع الجنس، وقد تريد مطلق
ج/ 21 ص -549-الجنس، وقد تريد شيئًا بعينه من الجنس.
فأما الجنس العام، فوجوده في القلوب والنفوس علمًا ومعرفة وتصورا.
وأما الخاص من الجنس: مثل زيد وعمرو، فوجوده هو حيث حل، وهو الذي يقال له وجود في الأعيان، وفي خارج الأذهان وقد يتصور هكذا في القلب خاصًا متميزا.
وأما الجنس المطلق مثل الإنسان المجرد عن عموم وخصوص، الذي يقال له نفس الحقيقة، ومطلق الجنس، فهذا كما لا يتقيد في نفسه، لا يتقيد بمحله، إلا أنه لا يدرك إلا بالقلوب، فتجعل محلا له بهذا الاعتبار، وربما جعل موجودا في الأعيان باعتبار أن في كل إنسان حظًا من مطلق الإنسانية فالموجود في العين المعينة من النوع حظها وقسطها.
فإذا تبين هذا، فقوله: فإنه كان لا يستنزه من البول، بيان للبول المعهود، وهو الذي كان يصيبه، وهو بول نفسه. يدل على هذا أيضًا سبعة أوجه:
أحدها: ما روى، "فإنه كان لا يستبرئ من البول" والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه؛ لأنه طلب براءة الذكر، كاستبراء الرحم من الولد.
ج/ 21 ص -550-الثاني: أن اللام تعاقب الإضافة، فقوله: "من البول" كقوله: من بوله، وهذا مثل قوله: "مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ" [ص: 50]، أي أبوابها.
الثالث: أنه قد روى هذا الحديث من وجوه صحيحة: "فكان لا يستتر من بوله" وهذا يفسر تلك الرواية.
ثم هذا الاختلاف في اللفظ متأخر: عن منصور، روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس. ومعلوم أن المحدث لا يجمع بين هذين اللفظين، والأصل والظاهر عدم تكرر قول النبي ﷺ فعلم أنهم رووه بالمعنى، ولم يبن أى اللفظين هو الأصل.
ثم إن كان النبي ﷺ قد قال اللفظين، مع أن معنى أحدهما يجوز أن يكون موافقًا لمعنى الآخر، ويجوز أن يكون مخالفًا، فالظاهر الموافقة. يبين هذا أن الحديث في حكاية حال لما مر النبي ﷺ بقبرين، ومعلوم أنها قضية واحدة.
الرابع: أنه إخبار عن شخص بعينه أن البول كان يصيبه، ولا يستتر منه. ومعلوم أن الذي جرت العادة به بول نفسه.
الخامس: أن الحسن قال: البول كله نجس، وقال أيضًا : لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أن البول المطلق عنده هو بول الإنسان.
ج/ 21 ص -551-السادس: أن هذا هو المفهوم للسامع عند تجرد قلبه عن الوسواس والتمريح، فإنه لا يفهم من قوله: فإنه كان لا يستتر من البول إلا بول نفسه. ولو قيل: إنه لم يخطر لأكثر الناس على بالهم جميع الأبوال: من بول بعير، وشاة وثور، لكان صدقًا.
السابع: أنه يكفي بأن يقال: إذا احتمل أن يريد بول نفسه؛ لأنه المعهود، وأن يريد جميع جنس البول، لم يجز حمله على أحدهما إلا بدليل، فيقف الاستدلال. وهذا لعمرى تنزل، وإلا فالذي قدمنا أصل مستقر، من أنه يجب حمله على البول المعهود، وهو نوع من أنواع البول، وهو بول نفسه الذي يصيبه غالبًا، ويترشرش على أفخاذه وسوقه، وربما استهان بإنقائه، ولم يحكم الاستنجاء منه. فأما بول غيره من الأدميين، فإن حكمه وإن ساوى حكم بول نفسه فليس ذلك من نفس هذه الكلمة، بل لاستوائهما في الحقيقة، والاستواء في الحقيقة يوجب الاستواء في الحكم. ألا ترى أن أحدا لا يكاد يصيبه بول غيره، ولو أصابه لساءه ذلك، والنبي ﷺ إنما أخبر عن أمر موجود غالب في هذا الحديث، وهو قوله: "اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه" فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحدًا من الناس، وهذا بين لا خفاء به.
ج/ 21 ص -552-الوجه الثاني: أنه لو كان عامًا في جميع الأبوال، فسوف نذكر من الأدلة الخاصة على طهارة هذا النوع ما يوجب اختصاصه من هذا الاسم العام. ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى؛ لأن ترك العمل به إبطال له وإهدار، والعمل به ترك لبعض معانى العام، وليس استعمال العام وإرادة الخاص ببدع في الكلام، بل هو غالب كثير.
ولو سلمنا التعارض على التساوي من هذا الوجه، فإن في أدلتنا من الوجوه الموجبة للتقديم والترجيح وجوها أخرى من الكثرة والعمل، وغير ذلك مما سنبينه إن شاء الله تعالى.ومن عجيب ما اعتمد عليه بعضهم، قوله ﷺ: "أكثر عذاب القبر من البول". والقول فيه كالقول فيما تقدم مع أنا نعلم إصابة الإنسان بول غيره قليل نادر، وإنما الكثير إصابته بول نفسه. ولو كان أراد أن يدرج بوله في الجنس الذي يكثر وقوع العذاب بنوع منه، لكان بمنزلة قوله أكثر عذاب القبر من النجاسات.
واعتمد أيضًا على قوله ﷺ: "لا يصلي أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان" يعنى البول والنجو. وزعم أن هذا يفيد تسمية كل بول ونجو أخبث،
ج/ 21 ص -553-والأخبث حرام نجس، وهذا في غاية السقوط؛ فإن اللفظ ليس فيه شمول لغير ما يدافع أصلا. وقوله: إن الاسم يشمل الجنس كله. فيقال له: وما الجنس العام؟ أكل بول ونجو؟ أم بول الإنسان ونجوه؟ وقد علم أن الذي يدافع كل شخص من جنس الذي يدافع غيره، فأما ما لا يدافع أصلا، فلا مدخل له في الحديث، فهذه عمدة المخالف.
وأما المسلك النظري: فالجواب عنه من طريقين: مجمل، ومفصل.
أما المفصل فالجواب عن الوجه الأول من وجهين:
أحدهما: لا نسلم أن العلة في الأصل أنه بول وروث، وما ذكروه من تنبيه النصوص، فقد سلف الجواب بأن المراد بها بول الإنسان. وما ذكروه من المناسبة فنقول: التعليل: إما أن يكون بجنس استخباث النفس واستقذارها، أو بقدر محدود من الاستخباث والاستقذار.
فإن كان الأول، وجب تنجيس كل مستخبث مستقذر، فيجب نجاسة المخاط والبصاق والنخامة، بل نجاسة المني الذي جاء الأثر بإماطته من الثياب، بل ربما نفرت النفوس عن بعض هذه الأشياء أشد من نفورها عن أرواث المأكول من البهائم، مثل مخطة المجذوم إذا اختلطت
ج/ 21 ص -554-بالطعام، ونخامة الشيخ الكبير إذا وضعت في الشراب، وربما كان ذلك مدعاة لبعض الأنفس إلى أن يذرعه القيء.
وإن كان التعليل بقدر موقت من الاستقذار، فهذا قد يكون حقًا لكن لابد من بيان الحد الفاصل بين القدر من الاستخباث الموجب للتنجيس، وبين ما لا يوجب، ولم يبين ذلك، ولعل هذه الأعيان مما ينقض بيان استقذارها الحد المعتبر.
ثم إن التقديرات في الأسباب والأحكام إنما تعلم من جهة استقذارها عن الشرع في الأمر الغالب، فنقول: متى حكم بنجاسة نوع علمنا أنه مما غلظ استخباثه، ومتى لم يحكم بنجاسة نوع، علمنا أنه لم يغلظ استخباثه فنعود مستدلين بالحكم على المعتبر من العلة، فمتى استربنا في الحكم فنحن في العلة أشد استرابة، فبطل هذا. وأما الشاهد بالاعتبار، فكما أنه شهد لجنس الاستخباث، شهد للاستخباث الشديد، والاستقذار الغليظ.
وثانيهما: أن نقول: لم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل أنه بول ما يؤكل لحمه؟ وهذه علة مطردة بالإجماع منا ومن المخالفين لنا في هذه المسألة والانعكاس إن لم يكن واجبًا فقد حصل الغرض. وإن كان شرطًا في العلل، فنقول فيه ما قالوا في اطراد العلة وأولى، حيث خولفوا فيه
ج/ 21 ص -555-وعدم الانعكاس أيسر من عدم الاطراد.
وإذا افترق الصنفان في اللحم والعظم واللبن والشعر، فلم لا يجوز افتراقهما في الروث الروث والبول، وهذه المناسبة أبين ؟ فإن كل واحد من هذه الأجزاء هو بعض من أبعاض
البهيمة، أو متولد منها، فيلحق سائرها قياسًا لبعض الشيء على جملته.
فإن قيل: هذا منقوض بالإنسان فإنه طاهر ولبنه طاهر، وكذلك سائر أمواهه وفضلاته، ومع هذا فروثه وبوله من أخبث الأخباث، فحصل الفرق فيه بين البول وغيره.
فنقول: اعلم أن الإنسان فارق غيره من الحيوان في هذا الباب طردًا وعكسًا، فقياس البهائم بعضها ببعض وجعلها في حيز يباين حيز الإنسان، وجعل الإنسان في حيز هو الواجب، ألا ترى أنه لا ينجس بالموت على المختار، وهي تنجس بالموت، ثم بوله أشد من بولها؟
ألا ترى أن تحريمه مفارق لتحريم غيره من الحيوان، لكرم نوعه وحرمته، حتى يحرم الكافر وغيره، وحتى لا يحل أن يدبغ جلده، مع أن بوله أشد وأغلظ، فهذا وغيره يدل على أن بول الإنسان فارق سائر فضلاته، أشد من مفارقة بول البهائم فضلاتها، إما لعموم
ج/ 21 ص -556-ملابسته حتى لا يستخف به، أو لغير ذلك مما الله أعلم به، على أنه يقال: في عذرة الإنسان وبوله من الخبث والنتن والقذر ما ليس في عامة الأبوال والأرواث. وفي الجملة، فإلحاق الأبوال باللحوم في الطهارة والنجاسة أحسن طردًا من غيره. والله أعلم.
وأما الوجه الثاني: فنقول: ذلك الأصل في الآدميين مسلم، والذي جاء عن السلف إنما جاء فيهم من الاستحالة في أبدانهم، وخروجه من الشق الأعلى أو الأسفل. فمن أين يقال: كذلك سائر الحيوان، وقد مضت الإشارة إلى الفرق؟! ثم مخالفوهم يمنعونهم أكثر الأحكام في البهائم، فيقولون: قد ثبت أن ما خبث لحمه، خبث لبنه ومنيه، بخلاف الآدمى، فبطلت هذه القاعدة في الاستحالة، بل قد يقولون: إن جميع الفضلات الرطبة من البهائم حكمها سواء، فما طاب لحمه طاب لبنه وبوله وروثه ومنيه وعرقه وريقه ودمعه. وما خبث لحمه، خبث لبنه وريقه وبوله وروثه ومنيه وعرقه ودمعه، وهذا قول يقوله أحمد في المشهور عنه، وقد قاله غيره.
وبالجملة، فاللبن والمني يشهد لهم بالفرق بين الإنسان والحيوان شهادة قاطعة، وباستواء الفضلات من الحيوان ضربا من الشهادة، فعلى هذا، يقال للإنسان: يفرق بين ما يخرج من أعلاه وأسفله لما الله أعلم به، فإنه منتصب القامة نجاسته كلها في أعاليه، ومعدته التي هي محل استحالة
ج/ 21 ص -557-الطعام والشراب في الشق الأسفل.وأما الثدى ونحوه فهو في الشق الأعلى، وليس كذلك البهيمة. فإن ضرعها في الجانب المؤخر منها، وفيه اللبن الطيب، ولا مطمع في إثبات الأحكام بمثل هذه الحزورات.
وأما الوجه الثالث: فمداره على الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات فإن فصل بنوع الاستقذار، بطل بجميع المستقذرات التي ربما كانت أشد استقذارا منه، وإن فصل بقدر خاص، فلابد من توقيته، وقد مضى تقرير هذا.
وأما الجواب العام، فمن أوجه ثلاثة:
أحدها: أن هذا قياس في مقابلة الآثار المنصوصة، وهو قياس فاسد الوضع، ومن جمع بين ما فرقت السنة بينه، فقد ضاهي قول الذين قالوا: "إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" [البقرة: 275]، ولذلك طهرت السنة هذا ونجست هذا.
الثاني: أن هذا قياس في باب لم تظهر أسبابه وأنواطه، ولم يتبين مأخذه وما...، بل الناس فيه على قسمين: إما قائل يقول هذا استبعاد محض، وابتلاء صرف، فلا قياس ولا إلحاق ولا اجتماع ولا افتراق.
ج/ 21 ص -558-وإما قائل يقول: دقت علينا علله وأسبابه، وخفيت علينا مسالكه ومذاهبه، وقد بعث الله إلينا رسولا يزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، بعثه إلينا ونحن لا نعلم شيئًا، فإنما نصنع ما رأيناه يصنع، والسنة لا تضرب لها الأمثال، ولا تعارض بآراء الرجال، والدين ليس بالرأى ويجب أن يتهم الرأى على الدين، والقياس في مثل هذا الباب ممتنع باتفاق أولى الألباب.
الثالث: أن يقال: هذا كله مداره على التسوية بين بول ما يؤكل لحمه، وبول ما لا يؤكل لحمه، وهو جمع بين شيئين مفترقين، فإن ريح المحرم خبيثة، وأما ريح المباح فمنه ما قد يستطاب: مثل أرواث الظباء، وغيرها. وما لم يستطب منه فليس ريحه كريح غيره، وكذلك خلقه غالبًا. فإنه يشتمل على أشياء من المباح، وهذا لأن الكلام في حقيقة المسألة، وسنعود إليه إن شاء الله في آخرها.
الدليل الثاني: الحديث المستفيض، أخرجه أصحاب الصحيح وغيرهم من حديث أنس ابن مالك: أن ناسًا من عُكْل أو عُرَينة قدموا المدينة فاجتووها فأمر لهم النبي ﷺ بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحُّوا قتلوا راعى رسول الله ﷺ واستاقوا الذود . وذكر الحديث. فوجه الحجة أنه أذن لهم في شرب الأبوال، ولابد أن يصيب أفواههم وأيديهم وثيابهم وآنيتهم، فإذا كانت
ج/ 21 ص -559-نجسة وجب تطهير أفواههم وأيديهم وثيابهم للصلاة، وتطهير آنيتهم، فيجب بيان ذلك لهم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الاحتياج إليه لا يجوز، ولم يبين لهم النبي ﷺ أنه يجب عليهم إماطة ما أصابهم منه، فدل على أنه غير نجس، ومن البين أن لو كانت أبوال الإبل كأبوال الناس، لأوشك أن يشتد تغليظه في ذلك.
ومن قال: إنهم كانوا يعلمون أنها نجسة، وأنهم كانوا يعلمون وجوب التطهير من النجاسات، فقد أبعد غاية الإبعاد، وأتى بشيء قد يستيقن بطلانه لوجوه:
أحدها: أن الشريعة أول ما شرعت كانت أخفي، وبعد انتشار الإسلام وتناقل العلم وإفشائه، صارت أبدى وأظهر، وإذا كنا إلى اليوم لم يستبن لنا نجاستها، بل أكثر الناس على طهارتها، وعامة التابعين عليه، بل قد قال أبو طالب وغيره: إن السلف ما كانوا ينجسونها. ولا يتقونها. وقال أبو بكر ابن المنذر: وعليه اعتماد أكثر المتأخرين في نقل الإجماع والخلاف، وقد ذكر طهارة الأبوال عن عامة السلف. ثم قال: قال الشافعي: الأبوال كلها نجس. قال: ولا نعلم أحدًا قال قبل الشافعي أن أبوال الأنعام وأبعارها نجس.
قلت: وقد نقل عن ابن عمر أنه سئل عن بول الناقة، فقال:
ج/ 21 ص -560-اغسل ما أصابك منه. وعن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال: ينضح. وعن حماد بن أبي سليمان في بول الشاه والبعير: يغسل. ومذهب أبي حنيفة نجاسة ذلك على تفصيل لهم فيه. فلعل الذي أراده ابن المنذر، القول بوجوب اجتناب قليل البول والروث وكثيره، فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف، ولعل ابن عمر أمر بغسله كما يغسل الثوب من المخاط والبصاق والمني ونحو ذلك. وقد ثبت عن أبي موسى الأشعري أنه صلى على مكان فيه روث الدواب والصحراء أمامه. وقال ههنا وههنا سواء. وعن أنس بن مالك لا بأس ببول كل ذي كرش.
ولست أعرف عن أحد من الصحابة القول بنجاستها، بل القول بطهارتها، إلا ما ذكر عن ابن عمر إن كان أراد النجاسة فمن أين يكون ذلك معلوم لأولئك؟!
وثانيها: أنه لو كان نجسًا فوجوب التطهر من النجاسة ليس من الأمور البينة، قد أنكره في الثياب طائفة من التابعين وغيرهم. فمن أين يعلمه أولئك؟
وثالثها: أن هذا لو كان مستفيضًا بين ظهرانى الصحابة، لم يجب أن يعلمه أولئك؛ لأنهم حديثو العهد بالجاهلية والكفر، فقد كانوا
ج/ 21 ص -561-يجهلون أصناف الصلوات وأعدادها وأوقاتها، وكذلك غيرها من الشرائع الظاهرة، فجهلهم بشرط خفي في أمر خفي أولى وأحرى، لاسيما والقوم لم يتفقهوا في الدين أدنى تفقه، ولذلك ارتدوا ولم يخالطوا أهل العلم والحكمة، بل حين أسلموا وأصابهم الاستيخام، أمرهم بالبداوة فيا ليت شعري، من أين لهم العلم بهذا الأمر الخفي؟!
ورابعها: أن النبي ﷺ لم يكن في تعليمه وإرشاده واكلاً للتعليم إلى غيره، بل يبين لكل واحد ما يحتاج إليه، وذلك معلوم لمن أحسن المعرفة بالسنن الماضية.
وخامسها: أنه ليس العلم بنجاسة هذه الأرواث أبين من العلم بنجاسة بول الإنسان الذي قد علمه العذارى في حجالهن وخدورهن، ثم قد حذر منه للمهاجرين والأنصار الذين أوتوا العلم والإيمان، فصار الأعراب الجفاة أعلم بالأمور الخفية من المهاجرين والأنصار بالأمور الظاهرة، فهذا كما ترى.
وسادسها: أنه فرق بين الأبوال والألبان وأخرجهما مخرجًا واحدًا. والقران بين الشيئين إن لم يوجب استواءهما فلابد أن يورث شبهة، فلو لم يكن البيان واجبًا، لكانت المقارنة بينه وبين الطاهر موجبة للتمييز بينهما إن كان التمييز حقًا.
ج/ 21 ص -562-وفي الحديث دلالة أخرى فيها تنازع، وهو أنه أباح لهم شربها، ولو كانت محرمة نجسة لم يبح لهم شربها، ولست أعلم مخالفًا في جواز التداوي بأبوال الإبل. كما جاءت السنة؛ لكن اختلفوا في تخريج مناطه فقيل: هو أنها مباحة على الإطلاق، للتداوى وغير التداوي. وقيل: بل هي محرمة، وإنما أباحها للتداوي. وقيل: هي مع ذلك نجسة، والاستدلال بهذا الوجه يحتاج إلى ركن آخر، وهو أن التداوي بالمحرمات النجسة محرم، والدليل عليه من وجوه:
أحدها: أن الأدلة الدالة على التحريم مثل قوله: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ" [المائدة: 3]، و"كل ذي ناب من السباع حرام". و"إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ" [المائدة: 90]، عامة في حال التداوي وغير التداوي، فمن فرق بينهما، فقد فرق بين ما جمع الله بينه وخص العموم، وذلك غير جائز.
فإن قيل: فقد أباحها للضرورة، والمتداوي مضطر فتباح له، أو أنا نقيس إباحتها للمريض على إباحتها للجائع بجامع الحاجة إليها.
يؤيد ذلك أن المرض يسقط الفرائض من القيام في الصلاة والصيام في شهر رمضان، والانتقال من الطهارة بالماء إلى الطهارة بالصعيد. فكذلك يبيح المحارم؛ لأن الفرائض والمحارم من واد واحد.
يؤيد ذلك أن المحرمات من الحلية واللباس مثل الذهب والحرير
ج/ 21 ص -563-قد جاءت السنة بإباحة اتخاذ الأنف من الذهب. وربط الأسنان به، ورخص للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير من حكة كانت بهما، فدلت هذه الأصول الكثيرة على إباحة المحظورات حين الاحتياج. والافتقار إليها.
قلت: أما إباحتها للضرورة فحق، وليس التداوي بضرورة لوجوه:
أحدها: أن كثيرًا من المرضى أو أكثر المرضى يشفون بلا تداوٍ، لاسيما في أهل الوبر والقرى. والساكنين في نواحي الأرض يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض وفيما ييسره لهم من نوع حركة وعمل، أو دعوة مستجابة، أو رقية نافعة، أو قوة للقلب، وحسن التوكل، إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء. وأما الأكل فهو ضروري، ولم يجعل الله أبدان الحيوان تقوم إلا بالغذاء، فلو لم يكن يأكل لمات. فثبت بهذا أن التداوي ليس من الضرورة في شيء.
وثانيها: أن الأكل عند الضرورة واجب. قال مسروق: من اضطر إلى الميتة، فلم يأكل فمات، دخل النار، والتداوي غير واجب ومن نازع فيه: خصمته السنة في المرأة السوداء التي خيرها النبي ﷺ بين الصبر على البلاء ودخول الجنة، وبين الدعاء
ج/ 21 ص -564-بالعافية. فاختارت البلاء والجنة. ولو كان رفع المرض واجبًا، لم يكن للتخيير موضع، كدفع الجوع، وفي دعائه لأبي بالحمى، وفي اختياره الحمى لأهل قباء، وفي دعائه بفناء أمته بالطعن والطاعون، وفي نهيه عن الفرار من الطاعون.
وخصمه حال أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء، حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له مثل أيوب عليه السلام وغيره.
وخصمه حال السلف الصالح، فإن أبا بكر الصديق رضى الله عنه حين قالوا له: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد رآني. قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد. ومثل هذا ونحوه يروي عن الربيع بن خيثم المخبت المنيب الذي هو أفضل الكوفيين، أو كأفضلهم وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الهادي المهدي، وخلق كثير لا يحصون عددًا.
ولست أعلم سالفًا أوجب التداوي، وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضلاً واختيارًا لما اختار الله ورضى به، وتسليمًا له. وهذا المنصوص عن أحمد وإن كان من أصحابه من يوجبه، ومنهم من يستحبه، ويرجحه. كطريقة كثير من السلف استمساكًا لما خلقه الله من الأسباب، وجعله من سنته في عباده.
ج/ 21 ص -565-وثالثها: أن الدواء لا يستيقن، بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض؛ إذ لو اطرد ذلك لم يمت أحد، بخلاف دفع الطعام للمسغبة والمجاعة، فإنه مستيقن بحكم سنة الله في عباده وخلقه.
ورابعها: أن المرض يكون له أدوية شتى، فإذا لم يندفع بالمحرم، انتقل إلى المحلل، ومحال ألا يكون له في الحلال شفاء أو دواء، والذي أنزل الداء، أنزل لكل داء دواء إلا الموت، ولا يجوز أن يكون أدوية الأدواء في القسم المحرم، وهو سبحانه الرؤوف الرحيم. وإلى هذا، الإشارة بالحديث المروي: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها"، بخلاف المسغبة فإنها وإن اندفعت بأي طعام اتفق، إلا أن الخبيث إنما يباح عند فقد غيره، فإن صورت مثل هذا في الدواء فتلك صورة نادرة؛ لأن المرض أندر من الجوع بكثير، وتعين الدواء المعين وعدم غيره نادر، فلا ينتقض هذا . على أن في الأوجه السالفة غنى.
وخامسها: وفيه فقه الباب : أن الله تعالى جعل خلقه مفتقرين إلى الطعام والغذاء، لا تندفع مجاعتهم ومسغبتهم إلا بنوع الطعام وصنفه فقد هدانا وعلمنا النوع الكاشف للمسغبة المزيل للمخمصة. وأما المرض، فإنه يزيله بأنواع كثيرة من الأسباب: ظاهرة وباطنة، روحانية وجسمانية، فلم يتعين الدواء مزيلاً، ثم الدواء بنوعه لم يتعين لنوع من
ج/ 21 ص -566-أنواع الأجسام في إزالة الداء المعين. ثم ذلك النوع المعين يخفي على أكثر الناس، بل على عامتهم دركه ومعرفته الخاصة، المزاولون منهم هذا الفن، أولو الأفهام والعقول، يكون الرجل منهم قد أفنى كثيرًا من عمره في معرفته ذلك، ثم يخفي عليه نوع المرض وحقيقته، ويخفي عليه دواؤه وشفاؤه، ففارقت الأسباب المزيلة للمرض، الأسباب المزيلة للمخمصة في هذه الحقائق البينة وغيرها. فكذلك افترقت أحكامها كما ذكرنا. وبهذا ظهر الجواب عن الأقيسة المذكورة، والقول الجامع فيما يسقط ويباح للحاجة والضرورة ما حضرني الآن.
أما سقوط ما يسقط من القيام والصيام، والاغتسال؛ فلأن منفعة ذلك مستيقنة بخلاف التداوي.
وأيضًا، فإن ترك المأمور به أيسر من فعل المنهي عنه، قال النبي ﷺ: "إذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" فانظر كيف أوجب الاجتناب عن كل منهي عنه، وفرق في المأمور به بين المستطاع وغيره، وهذا يكاد يكون دليلاً مستقلاً في المسألة.
وأيضًا، فإن الواجبات من القيام والجمعة والحج، تسقط بأنواع من المشقة التي لا تصلح لاستباحة شيء من المحظورات، وهذا بين بالتأمل
ج/ 21 ص -567-وأما الحلية، فإنما أبيح الذهب للأنف، وربط الأسنان؛ لأنه اضطرار، وهو يسد الحاجة يقينًا كالأكل في المخمصة.
وأما لبس الحرير للحكة والجرب إن سلم ذلك. فإن الحرير والذهب ليسا محرمين على الإطلاق، فإنهما قد أبيحا لأحد صنفي المكلفين، وأبيح للصنف الآخر بعضهما، وأبيح التجارة فيهما، وإهداؤهما للمشركين. فعُلم أنهما أبيحا لمطلق الحاجة، والحاجة إلى التداوي أقوى من الحاجة إلى تزين النساء، بخلاف المحرمات من النجاسات. وأبيح أيضا لحصول المصلحة في غالب الأمر.
ثم الفرق بين الحرير والطعام: أن باب الطعام يخالف باب اللباس؛ لأن تأثير الطعام في الأبدان، أشد من تأثير اللباس، على ما قد مضي. فالمحرم من الطعام لا يباح إلا للضرورة التي هي المسغبة والمخمصة والمحرم من اللباس، يباح للضرورة وللحاجة -أيضا. هكذا جاءت السنة، ولا جمع بين ما فرق الله بينه. والفرق بين الضرورات والحاجات معلوم في كثير من الشرعيات، وقد حصل الجواب عن كل ما يعارض به في هذه المسألة.
الوجه الثاني: أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله ﷺ سئل عن الخمر أيتداوي بها؟ فقال: "إنها داء، وليست بدواء".
ج/ 21 ص -568-فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر، ردًا على من أباحه، وسائر المحرمات مثلها قياسًا، خلافًا لمن فرق بينهما، فإن قياس المحرم من الطعام أشبه من الغراب بالغراب، بل الخمر قد كانت مباحة في بعض أيام الإسلام، وقد أباح بعض المسلمين من نوعها الشرب دون الإسكار والميتة والدم بخلاف ذلك.
فإن قيل: الخمر قد أخبر النبي ﷺ أنها داء وليست بدواء، فلا يجوز أن يقال: هي دواء بخلاف غيرها. وأيضا، ففي إباحة التداوي بها إجازة اصطناعها واعتصارها، وذلك داع إلى شربها. ولذلك اختصت بالحد بها دون غيرها من المطاعم الخبيثة لقوة محبة الأنفس لها.
فأقول: أما قولك: لا يجوز أن يقال: هي دواء، فهو حق، وكذلك القول في سائر المحرمات على ما دل عليه الحديث الصحيح "إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام" ثم ماذا تريد بهذا؟ أتريد أن الله لم يخلق فيها قوة طبيعية من السخونة وغيرها؟ جرت العادة في الكفار والفساق أنه يندفع بها بعض الأدواء الباردة، كسائر القوي والطبائع التي أودعها جميع الأدوية من الأجسام، أم تريد شيئًا آخر؟ فإن
ج/ 21 ص -569-أردت الأول، فهو باطل بالقضايا المجربة التي تواطأت عليها الأمم، وجرت عند كثير من الناس مجري الضروريات، بل هو رد لما يشاهد ويعاين. بل قد قيل: إنه رد للقرآن؛ لقوله تعالى: "قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" [البقرة:219]، ولعل هذا في الخمر أظهر من جميع المقالات المعلومة من طيب الأبدان.
وإن أردت أن النبي ﷺ أخبر أنها داء للنفوس والقلوب والعقول -وهي أم الخبائث- والنفس والقلب هو الملك المطلوب صلاحه وكماله، وإنما البدن آلة له، وهو تابع له مطيع له طاعة الملائكة ربها، فإذا صلح القلب صلح البدن كله، وإذا فسد القلب فسد البدن كله فالخمر هي داء ومرض للقلب مفسد له، مضعضع لأفضل خواصه الذي هو العقل والعلم، وإذا فسد القلب، فسد البدن كله، كما جاءت به السنة، فتصير داء للبدن من هذا الوجه بواسطة كونها داء للقلب. وكذلك جميع الأموال المغصوبة والمسروقة فإنه ربما صلح عليها البدن ونبت وسمن لكن يفسد عليها القلب فيفسد البدن بفساده.
وأما المصلحة التي فيها، فإنها منفعة للبدن فقط، ونفعها متاع قليل فهي وإن أصلحت شيئا يسيرًا فهي في جنب ما تفسده كَلاَ إصلاح وهذا بعينه معني قوله تعالى: "فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" [البقرة: 219]، فهذا لعمري شأن جميع المحرمات. فإن فيها من
ج/ 21 ص -570-القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب، ثم البدن في الدنيا والآخرة ما يربي على ما فيها من منفعة قليلة تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة.
على أنا وإن لم نعلم جهة المفسدة في المحرمات- فإنا نقطع أن فيها من المفاسد ما يربي على ما نظنه من المصالح. فافهم هذا فإن به يظهر فقه المسألة وسرها.
وأما إفضاؤه إلى اعتصارها، فليس بشيء؛ لأنه يمكن أخذها من أهل الكتاب على أنه يحرم اعتصارها، وإنما القول إذا كانت موجودة أن هذا منتقض بإطفاء الحرق بها، ودفع الغصة إذا لم يوجد غيرها.
وأما اختصاصها بالحد، فإن الحسن البصري يوجب الحد في الميتة أيضًا والدم ولحم الخنزير، لكن الفرق أن في النفوس داعيًا طبيعيًا وباعثًا إراديًا إلى الخمر، فنصب رادع شرعي وزاجر دنيوي أيضا ليتقابلا، ويكون مدعاة إلى قلة شربها، وليس كذلك غيرها مما ليس في النفوس إليه كثير ميل، ولا عظيم طلب.
الوجه الثالث: ما روي حسان بن مخارق قال: قالت أم سلمة: اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي ﷺ وهو يغلي، فقال: "ما هذا؟" فقلت: إن بنتي اشتكت فنبذنا لها هذا، فقال:
ج/ 21 ص -571-"إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام". رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وفي رواية: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وصححه بعض الحفاظ وهذا الحديث نص في المسألة.
الوجه الرابع: ما رواه أبو داود في السنن: أن رجلاً وصف له ضفدع يجعلها في دواء، فنهى النبي ﷺ عن قتل الضفدع وقال: "إن نقنقتها تسبيح"، فهذا حيوان محرم ولم يبح للتداوي.
وهو نص في المسألة. ولعل تحريم الضفدع أخف من تحريم الخبائث وغيرها، فإنه أكثر ما قيل فيها: أن نقنقتها تسبيح، فما ظنك بالخنزير والميتة وغير ذلك؟ وهذا كله بين لك استخفافه بطلب الطب واقتضائه وإجرائه مجري الرفق بالمريض وتطييب قلبه، ولهذا قال الصادق المصدوق لرجل: قال له: أنا طبيب، قال: "أنت رفيق والله الطبيب".
الوجه الخامس: ما روي أيضًا في سننه يعني: أبا داود : أن النبي ﷺ نهى عن الدواء الخبيث، وهو نص جامع مانع، وهو صورة الفتوي في المسألة.
الوجه السادس: الحديث المرفوع: "ما أبالى ما أتيت أو ما ركبت إذا شربت ترياقا، أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من نفسي"، مع
ج/ 21 ص -572-ما روي من كراهة من كره الترياق من السلف على أنه لم يقابل ذلك نص عام، ولا خاص يبلغ ذروة المطلب، وسنام المقصد في هذا الموضع ولولا أني كتبت هذا من حفظي لاستقصيت القول على وجه يحيط بما دق وجل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
الدليل الثالث- وهو في الحقيقة رابع: الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم وغيره من حديث جابر بن سمرة وغيره أن رسول الله ﷺ سئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: "صلوا فيها فإنها بركة". وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؛ فقال: "لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين". ووجه الحجة من وجهين:
أحدهما: أنه أطلق الإذن بالصلاة، ولم يشترط حائلاً يقي من ملامستها والموضع موضع حاجة إلى البيان، فلو احتاج لبينه، وقد مضي تقرير هذا. وهذا شبيه بقول الشافعي: ترك الاستفصال في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقام. فإنه ترك استفصال السائل: أهناك حائل يحول بينك وبين أبعارها؟ مع ظهور الاحتمال، ليس مع قيامه فقط، وأطلق الإذن، بل هذا أوكد من ذلك؛ لأن الحاجة هنا إلى البيان أمس وأوكد.
والوجه الثاني: أنها لو كانت نجسة كأرواث الآدميين لكانت
ج/ 21 ص -573-الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش، والكنف، أو مكروهة كراهية شديدة؛ لأنها مظنة الأخباث والأنجاس. فأما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبًا من ذلك فهو جمع بين المتنافيين المتضادين، وحاشًا الرسول ﷺ من ذلك.
ويؤيد هذا ما روي أن أبا موسي صلي في مبارك الغنم، وأشار إلى البرية وقال: ههنا وثَمَّ سواء. وهو الصاحب الفقيه العالم بالتنزيل، الفاهم للتأويل، سوي بين محل الأبعار وبين ما خلا عنها، فكيف يجامع هذا القول بنجاستها؟!
وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل، فليست اختصت به دون البقر والغنم والظباء والخيل، إذ لو كان السبب نجاسة البول، لكان تفريقًا بين المتماثلين، وهو ممتنع يقينا.
الدليل الرابع- وهو في الحقيقة سابع: ما ثبت واستفاض من أن رسول الله ﷺ طاف على راحلته، وأدخلها المسجد الحرام الذي فضله الله على جميع بقاع الأرض، وبركها حتي طاف أسبوعًا. وكذلك إذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة، ومعلوم أنه ليس مع الدواب من العقل ما تمتنع به من تلويث المسجد المأمور بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، فلو كانت أبوالها نجسة، لكان فيه تعريض
ج/ 21 ص -574-المسجد الحرام للتنجيس، مع أن الضرورة ما دعت إلى ذلك، وإنما الحاجة دعت إليه، ولهذا استنكر بعض من يري تنجيسها إدخال الدواب المسجد الحرام، وحسبك بقول بطلانًا، رده في وجه السنة التي لا ريب فيها.
الدليل الخامس- وهو الثامن: ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "فأما ما أكل لحمه، فلا بأس ببوله " وهذا ترجمة المسألة. إلا أن الحديث قد اختلف فيه قبولاً و ردًا، فقال أبو بكر عبد العزيز: ثبت عن النبي ﷺ، وقال غيره: هو موقوف على جابر.
فإن كان الأول، فلا ريب فيه، وإن كان الثاني، فهو قول صاحب، وقد جاء مثله عن غيره من الصحابة أبي موسي الأشعري وغيره فينبني على أن قول الصحابة أولي من قول من بعدهم، وأحق أن يتبع. وإن علم أنه انتشر في سائرهم، ولم ينكروه، فصار إجماعًا سكوتيًا.
الدليل السادس وهو التاسع: الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله ﷺ كان ساجدًا عند الكعبة، فأرسلت قريش عقبة بن أبي معيط إلى قوم قد نحروا جزورًا لهم، فجاء بفرثها وسلاها فوضعهما على ظهر رسول الله ﷺ وهو ساجد ولم ينصرف حتي قضي صلاته. فهذا أيضًا بين في أن
ج/ 21 ص -575-ذلك الفرث والسلي لم يقطع الصلاة، ولا يمكن حمله فيما أري إلا على أحد وجوه ثلاثة: إما أن يقال: هو منسوخ وأعني بالنسخ أن هذا الحكم مرتفع وإن لم يكن قد ثبت لأنه بخطاب كان بمكة. وهذا ضعيف جدًا؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا بيقين، وأما بالظن، فلا يثبت النسخ. وأيضًا فإنا ما علمنا أن اجتناب النجاسة كان غير واجب ثم صار واجبًا، لاسيما من يحتج على اجتناب النجاسة بقوله تعالى: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ"[المدثر: 4]، وسورة المدثر في أول المنزل، فيكون فرض التطهير من النجاسات على قول هؤلاء من أول الفرائض. فهذا هذا وإما أن يقال: هذا دليل على جواز حمل النجاسة في الصلاة وعامة من يخالف في هذه المسألة، لا يقول بهذا القول، فيلزمهم ترك الحديث. ثم هذا قول ضعيف لخلافه الأحاديث الصحاح في دم الحيض وغيره من الأحاديث. ثم إني لا أعلمهم يختلفون أنه مكروه، وإن إعادة الصلاة منه أولي، فهذا هذا. لم يبق إلا أن يقال: الفرث والسلي ليس بنجس وإنما هو طاهر؛ لأنه فرث ما يؤكل لحمه، وهذا هو الواجب إن شاء الله تعالى لكثرة القائلين به وظهور الدلائل عليه. وبطول الوجهين الأولين يوجب تعين هذا.
فإن قيل: ففيه السلي وقد يكون فيه دم قلنا: يجوز أن
ج/ 21 ص -576-يكون دمًا يسيرًا، بل الظاهر أنه يسير. والدم اليسير معفو عن حمله في الصلاة.
فإن قيل: فالسلي لحم من ذبيحة المشركين، وذلك نجس، وذلك باتفاق. قلنا: لا نسلم أنه قد كان حرم حينئذ ذبائح المشركين، بل المظنون أو المقطوع به أنها لم تكن حرمت حينئذ، فإن الصحابة الذين أسلموا لم ينقل أنهم كانوا ينجسون ذبائح قومهم. وكذلك النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذبح للأصنام. أما ما ذبحه قومه في دورهم لم يكن يتجنبه، ولو كان تحريم ذبائح المشركين قد وقع في صدر الإسلام، لكان في ذلك من المشقة على النفر القليل الذين أسلموا ما لا قبل لهم به، فإن عامة أهل البلد مشركون. وهم لا يمكنهم أن يأكلوا ويشربوا إلا من طعامهم وخبزهم. وفي أوانيهم، لقلتهم وضعفهم وفقرهم. ثم الأصل عدم التحريم حينئذ فمن ادعاه احتاج إلى دليل.
الدليل السابع وهو العاشر: ما صح عن النبي ﷺ أنه نهى عن الاستجمار بالعظم، والبعر، وقال: "إنه زاد إخوانكم من الجن". وفي لفظ قال: "فسألوني الطعام لهم ولدوابهم، فقلت: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم"، قال النبي ﷺ: "فلا تستنجوا
ج/ 21 ص -577-بهما، فإنهما زاد إخوانكم من الجن".
فوجه الدلالة أن النبي ﷺ نهى أن يستنج بالعظم والبعر الذي هو زاد إخواننا من الجن، وعلف دوابهم ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك؛ لئلا ننجسه عليهم، ولهذا استنبط الفقهاء من هذا أنه لا يجوز الاستنجاء بزاد الإنس. ثم إنه قد استفاض النهى في ذلك. والتغليظ حتي قال: "من تقلد وترًا، أو استنجي بعظم، أو رجيع، فإن محمدًا منه بريء".
ومعلوم أنه لو كان البعر في نفسه نجسًا، لم يكن الاستنجاء به ينجسه، ولم يكن فرق بين البعر المستنجي به والبعر الذي لا يستنجي به، وهذا جمع بين ما فرقت السنة بينه. ثم إن البعر لو كان نجسًا، لم يصلح أن يكون علفًا لقوم مؤمنين، فإنها تصير بذلك جلالة. ولو جاز أن تصير جلالة، لجاز أن تعلف رجيع الإنس، ورجيع الدواب، فلا فرق حينئذ. ولأنه لما جعل الزاد لهم ما فضل عن الإنس، ولدوابهم ما فضل عن دواب الإنس من البعر، شرط في طعامهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، فلابد أن يشرط في علف دوابهم نحو ذلك، وهو الطهارة.
وهذا يبين لك أن قوله في حديث ابن مسعود لما أتاه بحجرين
ج/ 21 ص -578-وروثة فقال: "إنها ركس"، إنما كان لكونها روثة آدمي، ونحوه، على أنها قضية عين، فيحتمل أن تكون روثة ما يؤكل لحمه، وروثة ما لا يؤكل لحمه، فلا يعم الصنفين، ولا يجوز القطع بأنها مما يؤكل لحمه، مع أن لفظ الركس لا يدل على النجاسة، لأن الركس هو المركوس أي المردود، وهو معني الرجيع، ومعلوم أن الاستنجاء بالرجيع لا يجوز بحال، إما لنجاسته وإما لكونه علف دواب إخواننا من الجن.
الوجه الثامن وهو الحادي عشر : أن هذه الأعيان، لو كانت نجسة، لبينه ﷺ. ولم يبينه، فليست نجسة؛ وذلك لأن هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها ومباشرتهم لكثير منها خصوصًا الأمة التي بعث فيها رسول الله ﷺ. فإن الإبل والغنم غالب أموالهم، ولا يزالون يباشرونها ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم مع كثرة الاحتفاء فيهم حتي أن عمر رضي الله عنه كان يأمر بذلك: تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وانتعلوا. ومحالب الألبان كثيرًا ما يقع فيها من أبوالها وليس ابتلاؤهم بها، بأقل من ولوغ الكلب في أوانيهم، فلو كانت نجسة يجب غسل الثياب والأبدان والأواني منها، وعدم مخالطته، ويمنع من الصلاة مع ذلك، ويجب تطهير الأرض مما فيه ذلك، إذا صلي فيها. والصلاة فيها تكثر في أسفارهم، وفي مراح أغنامهم، ويحرم شرب اللبن الذي يقع فيه بعرها
ج/ 21 ص -579-وتغسل اليد إذا أصابها البول، أو رطوبة البعر إلى غير ذلك من أحكام النجاسة لوجب أن يبين النبي ﷺ بيانًا تحصل به معرفة الحكم، ولو بين ذلك لنقل جميعه أو بعضه، فإن الشريعة وعادة القوم توجب مثل ذلك، فلما لم ينقل ذلك علم أنه لم يبين لهم نجاستها.
وعدم ذكر نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها، وعدم النهى عنه، والتقرير دليل الإباحة، ومن وجه أن مثل هذا يجب بيانه بالخطاب، ولا تحال الأمة فيه على الرأي؛ لأنه من الأصول لا من الفروع. ومن جهة أن ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه، لاسيما إذا وصل بهذا الوجه.
الوجه التاسع وهو الثاني عشر: وهو أن الصحابة والتابعين وعامة السلف قد ابتلي الناس في أزمانهم بأضعاف ما ابتلوا في زمن النبي ﷺ، ولا يشك عاقل في كثرة وقوع الحوادث المتعلقة بهذه المسألة. ثم المنقول عنهم أحد الشيئين: إما القول بالطهارة، أو عدم الحكم بالنجاسة، مثل ما ذكرناه عن أبي موسي وأنس وعبد الله بن مغفل أنه كان يصلي وعلى رجليه أثر السرقين. وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالعراق، وعن عبيد بن عمير قال: إن لي غنمًا تبعر في مسجدي،وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالحجاز،وعن إبراهيم
ج/ 21 ص -580-النخعي أنه سئل فيمن يصلي وقد أصابه السرقين، قال: لا بأس، وعن أبي جعفر الباقر ونافع مولي ابن عمر أنه أصابت عمامته بول بعير فقالا جميعًا: لا بأس. وسألهما جعفر الصادق وهو أشبه بالدليل على أن ما روي عن ابن عمر في ذلك من الغسل، إما ضعيف، أو على سبيل الاستحباب والتنظيف، فإن نافعًا لا يكاد يخفي عليه طريقة ابن عمر في ذلك، ولا يكاد يخالفه، والمأثور عن السلف في ذلك كثير.
وقد نقل عن بعضهم ألفاظ إن ثبتت فليست صريحة بنجاسة محل النزاع، مثل ما روي عن الحسن أنه قال: البول كله يغسل، وقد روي عنه أنه قال: لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أنه أراد بول الإنسان الذكر والأنثي، والكبير والصغير. وكذلك ما روي عن أبي الشعثاء أنه قال: الأبوال كلها أنجاس. فلعله أراد ذلك إن ثبت عنه. وقد ذكرنا عن ابن المنذر وغيره، أنه لم يعرف عن أحد من السلف القول بنجاستها ومن المعلوم الذي لا شك فيه أن هذا إجماع على عدم النجاسة، بل مقتضاه أن التنجيس من الأقوال المحدثة فيكون مردودًا بالأدلة الدالة على إبطال الحوادث، لاسيما مقالة محدثة مخالفة، لما عليه الصدر الأول. ومن المعلوم أن الأعيان الموجودة في زمانهم ومكانهم إذا أمسكوا عن تحريمها وتنجيسها مع الحاجة إلى بيان ذلك،كان تحريمها وتنجيسها ممن بعدهم بمنزلة أن يمسكوا عن بيان أفعال يحتاج إلى بيان وجوبها لو كان
ج/ 21 ص -581-ثابتًا،فيجيء من بعدهم فيوجبها.
ومتى قام المقتضي للتحريم أو الوجوب ولم يذكروا وجوبًا ولا تحريمًا، كان إجماعًا منهم على عدم اعتقاد الوجوب والتحريم وهو المطلوب وهذه الطريقة معتمدة في كثير من الأحكام، وهي أصل عظيم ينبغي للفقيه أن يتأملها، ولا يغفل عن غورها، لكن لا يسلم إلا بعدم ظهور الخلاف في الصدر الأول، فإن كان فيه خلاف محقق بطلت هذه الطريقة والحق أحق أن يتبع.
الوجه العاشر وهو الثالث عشر في الحقيقة: أنَّا نعلم يقينًا أن الحبوب من الشعير والبيضاء والذرة ونحوها، كانت تزرع في مزارع المدينة على عهد النبي ﷺ وأهل بيته، ونعلم أن الدواب إذا داست، فلابد أن تروث وتبول، ولو كان ذلك ينجس الحبوب، لحرمت مطلقًا، أو لوجب تنجيسها.
وقد أسلمت الحجاز واليمن ونجد وسائر جزائر العرب على عهد رسول الله ﷺ. وبعث إليهم سعاته وعماله يأخذون عشور حبوبهم من الحنطة وغيرها، وكانت سمراء الشام تجلب إلى المدينة، فيأكل منها رسول الله ﷺ والمؤمنون على عهده، وعامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع. وكان يعطي المرأة من نسائه ثمانين وسق شعير من غلة خيبر، وكل هذه
ج/ 21 ص -582-تداس بالدواب التي تروث وتبول عليها. فلو كانت تنجس بذلك لكان الواجب على أقل الأحوال تطهير الحب وغسله، ومعلوم أنه ﷺ لم يفعل ذلك، ولا فعل على عهده، فعلم أنه ﷺ لم يحكم بنجاستها.
ولا يقال: هو لم يتيقن أن ذلك الحب الذي أكله مما أصابه البول، والأصل الطهارة؛ لأنا نقول فصاحب الحب قد تيقن نجاسة بعض حبه واشتبه عليه الطاهر بالنجس، فلا يحل له استعمال الجميع، بل الواجب تطهير الجميع، كما إذا علم نجاسة بعض البدن أو الثوب أو الأرض وخفي عليه مكان النجاسة، غسل ما يتيقن به غسلها، وهو لم يأمر بذلك.
ثم اشتباه الطاهر بالنجس نوع من اشتباه الطعام الحلال بالحرام، فكيف يباح أحدهما من غير تحرٍ؟ فإن القائل إما أن يقول يحرم الجميع. وإما أن يقول بالتحري. فأما الأكل من أحدهما بلا تحرٍ، فلا أعرف أحدًا جوزه. وإنما يستمسك بالأصل مع تيقن النجاسة ولا محيص عن هذا الدليل، إلا إلى أحد الأمرين: إما أن يقال بطهارة هذه الأبوال والأرواث، أو أن يقال: عفي عنها في هذا الموضع للحاجة. كما يعفي عن ريق الكلب في بدن الصيد على أحد
ج/ 21 ص -583-الوجهين، وكما يطهر محل الاستنجاء بالحجر في أحد الوجهين إلى غير ذلك من مواضع الحاجات.
فيقال: الأصل فيها استحل جريانه على وفاق الأصل، فمن ادعي أن استحلال هذا مخالف للدليل لأجل الحاجة، فقد ادعي ما يخالف الأصل، فلا يقبل منه إلا بحجة قوية، وليس معه من الحجة ما يوجب أن يجعل هذا مخالفًا للأصل.
ولا شك أنه لو قام دليل يوجب الحظر، لأمكن أن يستثني هذا الموضع، فأما ما ذكر من العموم الضعيف والقياس الضعيف، فدلالة هذا الموضع على الطهارة المطلقة أقوي من دلالة تلك على النجاسة المطلقة، على ما تبين عند التأمل. على أن ثبوت طهارتها والعفو عنها في هذا الموضع أحد موارد الخلاف، فيبقي إلحاق الباقي به بعدم القائل بالفرق.
ومن جنس هذا: الوجه الحادي عشر وهو الرابع عشر: إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم في كل عصر ومصر على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها، مع القطع ببولها وروثها على الحنطة، ولم ينكر ذلك منكر، ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحد، ولا احترز عن شيء مما في البيادر لوصول البول إليه.
ج/ 21 ص -584-والعلم بهذا كله علم اضطراري ما أعلم عليه سؤالاً، ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة.
وهذا العمل إلى زماننا متصل في جميع البلاد، لكن لم نحتج بإجماع الأعصار التي ظهر فيها هذا الخلاف؛ لئلا يقول المخالف أنا أخالف في هذا. وإنما احتججنا بالإجماع قبل ظهور الخلاف.
وهذا الإجماع من جنس الإجماع على كونهم كانوا يأكلون الحنطة ويلبسون الثياب ويسكنون البناء، فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع ونتيقن أنهم كانوا يأكلون ذلك الحب ويقرون على أكله، ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب ونتيقن أن لابد أن تبول على البيدر الذي يبقي أيامًا ويطول دياسها له، وهذه كلها مقدمات يقينية.
الوجه الثاني عشر وهو الخامس عشر : أن الله تعالى قال: "وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"[الحج: 26]، فأمر بتطهير بيته الذي هو المسجد الحرام، وصح عنه ﷺ أنه أمر بتنظيف المساجد، وقال: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا"، وقال: "الطواف بالبيت صلاة". ومعلوم قطعًا أن الحمام لم يزل ملازمًا للمسجد الحرام لأمنه، وعبادة بيت الله، وأنه لا يزال ذرقه ينزل في المسجد، وفي المطاف والمصلي. فلو كان نجسًا لتنجس المسجد بذلك، ولوجب
ج/ 21 ص -585-تطهير المسجد منه: إما بإبعاد الحمام، أو بتطهير المسجد، أو بتسقيف المسجد، ولم تصح الصلاة في أفضل المساجد، وأمها وسيدها، لنجاسة أرضه، وهذا كله مما يعلم فساده يقينًا.
ولابد من أحد قولين: إما طهارته مطلقًا، أو العفو عنه. كما في الدليل قبله، وقد بينا رجحان القول بالطهارة المطلقة.
الدليل الثالث عشر وهو في الحقيقة السادس عشر: مسلك التشبيه والتوجيه فنقول والله الهادي : اعلم أن الفرق بين الحيوان المأكول وغير المأكول إنما فرق بينهما لافتراق حقيقتهما، وقد سمي الله هذا طيبًا، وهذا خبيثًا.
وأسباب التحريم: إما القوة السبعية التي تكون في نفس البهيمة، فأكلها يورث نبات أبداننا منها فتصير أخلاق الناس أخلاق السباع، أو لما الله أعلم به، وإما خبث مطعمها كما يأكل الجيف من الطير، أو لأنها في نفسها مستخبئة كالحشرات، فقد رأينا طيب المطعم يؤثر في الحل، وخبثه يؤثر في الحرمة، كما جاءت به السنة في لحوم الجلالة ولبنها وبيضها، فإنه حرم الطيب لاغتذائه بالخبيث، وكذلك النبات المسقي بالماء النجس، والمسمد بالسرقين عند من يقول به. وقد رأينا عدم الطعام يؤثر في طهارة البول، أو خفة نجاسته، مثل الصبي الذي لم يأكل
ج/ 21 ص -586-الطعام، فهذا كله يبين أشياء:
منها: أن الأبوال قد يخفف شأنها بحسب المطعم كالصبي، وقد ثبت أن المباحات لا تكون مطاعمها إلا طيبة، فغير مستنكر أن تكون أبوالها طاهرة لذلك.
ومنها: أن المطعم إذا خبث وفسد، حرم ما نبت منه من لحم ولبن وبيض، كالجلالة والزرع المسمد، وكالطير الذي يأكل الجيف. فإذا كان فساده يؤثر في تنجيس ما توجبه الطهارة والحل، فغير مستنكر أن يكون طيبه وحله يؤثر في تطهير ما يكون في محل آخر نجسًا محرمًا. فإن الأرواث والأبوال مستحيلة مخلوقة في باطن البهيمة، كغيرها من اللبن وغيره.
يبين هذا ما يوجد في هذه الأرواث من مخالفتها غيرها من الأرواث في الخلق والريح واللون، وغير ذلك من الصفات، فيكون فرق ما بينها فرق ما بين اللبنين والمنبتين، وبهذا يظهر خلافها للإنسان.
يؤكد ذلك ما قد بيناه من أن المسلمين من الزمن المتقدم وإلى اليوم في كل عصر ومصر مازالوا يدوسون الزروع المأكولة بالبقر، ويصيب الحب من أرواث البقر وأبوالها، وما سمعنا أحدًا من المسلمين
ج/ 21 ص -587-غسل حبًا،ولو كان ذلك منجسًا أو متقذرًا، لأوشك أن ينهوا عنها وأن تنفر عنه نفوسهم نفورها عن بول الإنسان.
ولو قيل: هذا إجماع عملي لكان حقًا، وكذلك مازال يسقط في المحالب من أبعار الأنعام، ولا يكاد أحد يحترز من ذلك؛ ولذلك عفا عن ذلك بعض من يقول بالتنجيس، على أن ضبط قانون كلي في الطاهر والنجس مطرد منعكس لم يتيسر، وليس ذلك بالواجب علينا بعد علمنا بالأنواع الطاهرة والأنواع النجسة، فهذه إشارة لطيفة إلى مسالك الرأي في هذه المسألة، وتمامه ما حضرني كتابه في هذا المجلس، "وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ" [الأحزاب: 4].
الفصل الثاني
في مني الآدمي
وفيه أقوال ثلاثة:
أحدها: أنه نجس كالبول فيجب غسله رطبًا ويابسًا من البدن والثوب، وهذا قول مالك والأوزاعي والثوري وطائفة.
وثانيها: أنه نجس يجزئ فرك يابسه، وهذا قول أبي حنيفة
ج/ 21 ص -588-وإسحاق. ورواية عن أحمد.
ثم هنا أوجه:
قيل: يجزئ فرك يابسه. ومسح رطبه من الرجل دون المرأة؛ لأنه يعفي عن يسيره. ومني الرجل يتأتي فركه ومسحه، بخلاف مني المرأة فإنه رقيق كالمذي، وهذا منصوص أحمد.
وقيل: يجزئ فركه فقط منهما لذهابه بالفرك، وبقاء أثره بالمسح.
وقيل: بل الجواز مختص بالفرك من الرجل دون المرأة، كما جاءت به السنة، كما سنذكره.
وثالثها: أنه مستقذر كالمخاط والبصاق، وهذا قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه، وهو الذي نصرناه والدليل عليه وجوه:
أحدها:ما أخرج مسلم وغيره عن عائشة قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله ﷺ ثم يذهب فيصلي فيه، وروي في لفظ الدارقطني: كنت أفركه إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا، فهذا نص في أنه ليس كالبول يكون نجسًا نجاسة غليظة.
فبقي أن يقال: يجوز أن يكون نجسًا كالدم، أو طاهرًا كالبصاق
ج/ 21 ص -589-لكن الثاني أرجح؛ لأن الأصل وجوب تطهير الثياب من الأنجاس قليلها وكثيرها. فإذا ثبت جواز حمل قليله في الصلاة، ثبت ذلك في كثيره، فإن القياس لا يفرق بينهما.
فإن قيل: فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة: أن رسول الله ﷺ كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه، فهذا يعارض حديث الفرك في مني رسول الله ﷺ والغسل دليل النجاسة، فإن الطاهر لا يطهر.
فيقال: هذا لا يخالفه؛ لأن الغسل للرطب، والفرك لليابس، كما جاء مفسرًا في رواية الدارقطني. أو هذا أحيانًا، وهذا أحيانًا. وأما الغسل فإن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق والنخامة استقذارًا لا تنجيسًا. ولهذا قال سعد بن أبي وقاص. وابن عباس: أمطه عنك ولو بإذخرة، فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق.
الدليل الثاني: ما روي الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته ثبوبه يابسًا ثم يصلي فيه. وهذا من خصائص المستقذرات، لا من أحكام النجاسات.
ج/ 21 ص -590-فإن عامة القائلين بنجاسته لا يجوزون مسح رطبه.
الدليل الثالث: ما احتج به بعض أولينا بما رواه إسحاق الأزرق عن شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس قال: سئل النبي ﷺ عن المني يصيب الثوب، فقال: "إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة". قال الدارقطني: لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك. قالوا: وهذا لا يقدح؛ لأن إسحاق بن يوسف الأزرق أحد الأئمة. وروي عن سفيان وشريك وغيرهما، وحدث عنه أحمد ومن في طبقته، وقد أخرج له صاحبا الصحيح فيقبل رفعه وما ينفرد به.
وأنا أقول: أما هذه الفتيا، فهي ثابتة عن ابن عباس، وقبله سعد بن أبي وقاص، ذكر ذلك عنهما الشافعي وغيره في كتبهم. وأما رفعه إلى النبي ﷺ فمنكر باطل لا أصل له؛ لأن الناس كلهم رووه عن شريك موقوفًا. ثم شريك ومحمد بن عبد الرحمن وهو ابن أبي ليلي ليسا في الحفظ بذاك، والذين هم أعلم منهم بعطاء مثل ابن جريج الذي هو أثبت فيه من القطب وغيره من المكيين لم يروه أحدٌ إلا موقوفًا، وهذا كله دليل على وهم تلك الرواة.
ج/ 21 ص -591-فإن قلت: أليس من الأصول المستقرة أن زيادة العدل مقبولة؟ وأن الحكم لمن رفع لا لمن وقف لأنه زائد؟
قلت: هذا عندنا حق مع تكافؤ المحدثين المخبرين وتعادلهم، وأما مع زيادة عدد من لم يزد فقد اختلف فيه أولونا. وفيه نظر.
وأيضًا، فإنما ذاك إذا لم تتصادم الروايتان وتتعارضا، وأما متى تعارضتا يسقط رواية الأقل بلا ريب. وههنا المروي ليس هو مقابل بكون النبي ﷺ قد قالها، ثم قالها صاحبه تارة؛ تارة ذاكرًا، وتارة آثرًا. وإنما هو حكاية حال وقضية عين في رجل استفتي على صورة، وحروف مأثورة، فالناس ذكروا أن المستفتي ابن عباس، وهذه الرواية ترفعه إلى النبي ﷺ وليست القضية إلا واحدة؛ إذ لو تعددت القضية لما أهمل الثقات الأثبات ذلك على ما يعرف من اهتمامهم بمثل ذلك.
وأيضًا، فأهل نقد الحديث والمعرفة به أقعد بذلك، وليسوا يشكون في أن هذه الرواية وهم.
الدليل الرابع: أن الأصل في الأعيان الطهارة فيجب القضاء بطهارته حتي يجيئنا ما يوجب القول بأنه نجس، وقد بحثنا وسبرنا فلم نجد لذلك
ج/ 21 ص -592-أصلاً،فعلم أن كل ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته معفو عنه. ومعلوم أن المني يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم، فهو طواف الفضلات، بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط المصيب ثيابه، ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع، وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته، ولو كان المقتضي للتنجيس قائمًا.
ألا تري أن الشارع خفف في النجاسة المعتادة فاجتزأ فيها بالجامد، مع أن إيجاب الاستنجاء عند وجود الماء أهون من إيجاب غسل الثياب من المني، لاسيما في الشتاء في حق الفقير، ومن ليس له إلا ثوب واحد.
فإن قيل: الذي يدل على نجاسة المني وجوه:
أحدها: ما روي عن عمار بن ياسر عن النبي ﷺ أنه قال: "إنما يغسل الثوب من البول والغائط والمني والقيء". رواه ابن عدي. وحديث عائشة قد مضي في أن النبي ﷺ كان يغسله.
الوجه الثاني: أنه خارج يوجب طهارتي الخبث والحدث، فكان نجسًا كالبول والحيض؛ وذلك لأن إيجاب نجاسة الطهارة دليل على أنه
ج/ 21 ص -593-نجس. فإن إماطته وتنحيته أخف من التطهير منه، فإذا وجب الأثقل فالأخف أولي. لاسيما عند من يقول بوجوب الاستنجاء منه. فإن الاستنجاء إماطة وتنحية، فإذا وجب تنحيته في مخرجه، ففي غير مخرجه أحق وأولي.
الوجه الثالث: أنه من جنس المذي فكان نجسًا كالمذي؛ وذاك لأن المذي يخرج عنه مقدمات الشهوة، والمني أصل المذي عند استكمالها وهو يجري في مجراه، ويخرج من مخرجه، فإذا نجس الفرع فلأن ينجس الأصل أولي.
الوجه الرابع: أنه خارج من الذكر، أو خارج من القبل، فكان نجًسا كجميع الخوارج: مثل البول، والمذي، والودي؛ وذلك لأن الحكم في النجاسة منوط بالمخرج.
ألا تري أن الفضلات الخارجة من أعالى البدن ليست نجسة، وفي أسافله تكون نجسة، وإن جمعها الاستحالة في البدن؟!
الوجه الخامس: أنه مستحيل عن الدم؛ لأنه دم قصرته الشهوة؛ ولهذا يخرج عند الإكثار من الجماع أحمر، والدم نجس، والنجاسة لا تطهر بالاستحالة عندكم.
ج/ 21 ص -594-الوجه السادس: أنه يجري في مجري البول فيتنجس بملاقاة البول، فيكون كاللبن في الظرف النجس، فهذه أدلة كلها تدل على نجاسته.
فنقول: الجواب وعلى الله قصد السبيل : أما حديث عمار بن ياسر، فلا أصل له. في إسناده ثابت بن حماد، قال الدارقطني: ضعيف جدًا، وقال ابن عدي: له مناكير، وحديث عائشة مضي القول فيه.
وأما الوجه الثاني فقولهم: يوجب طهارتي الخبث والحدث، أما الخبث فممنوع، بل الاستنجاء منه مستحب كما يستحب إماطته من الثوب والبدن، وقد قيل: هو واجب، كما قد قيل يجب غسل الأنثيين من المذي، وكما يجب غسل أعضاء الوضوء إذا خرج الخارج من الفرج، فهذا كله طهارة وجبت لخارج، وإن لم يكن المقصود بها إماطته وتنجيسه، بل سبب آخر كما يغسل منه سائر البدن.
فالحاصل أن سبب الاستنجاء منه ليس هو النجاسة، بل سبب آخر. فقولهم: يوجب طهارة الخبث وصف ممنوع في الفرع، فليس غسله عن الفرج للخبث، وليست الطهارات منحصرة في ذلك كغسل اليد عند القيام من نوم الليل، وغسل الميت، والأغسال المستحبة، وغسل الأنثيين وغير ذلك فهذه الطهارة إن قيل بوجوبها فهي من القسم الثالث، فيبطل قياسه على البول؛ لفساد الوصف الجامع.
ج/ 21 ص -595-وأما إيجابه طهارة الحدث فهو حق، لكن طهارة الحدث ليست أسبابها منحصرة في النجاسات. فإن الصغري تجب من الريح إجماعًا، وتجب بموجب الحجة من ملامسة الشهوة، ومن مس الفرج، ومن لحوم الإبل، ومن الردة، وغسل الميت، وقد كانت تجب في صدر الإسلام من كل ما غيرته النار، وكل هذه الأسباب غير نجسة.
وأما الكبري: فتجب بالإيلاج إذا التقي الختانان ولا نجاسة، وتجب بالولادة التي لا دم معها على رأي مختار والولد طاهر. وتجب بالموت ولا يقال هو نجس. وتجب بالإسلام عند طائفة.
فقولهم: إنما أوجب طهارة الحدث، أو أوجب الاغتسال نجس منتقض بهذه الصور الكثيرة، فبطل طرده، فإن ضموا إلى العلة كونه خارجا انتقض بالريح والولد نقضاً قادحا.
ثم يقال: قولكم خارج وصف طردي فلا يجوز الاحتراز به. ثم إن عكسه أيضاً باطل، والوصف عديم التأثير، فإن ما لا يوجب طهارة الحدث منه شيء كثير نجس: كالدم الذي لم يسل، وإليسير من القيء.
وأيضاً، فسيأتي الفرق إن شاء الله تعالى فهذه أوجه ثلاثة أو أربعة.
وأما قولهم: التطهير منه أبعد من تطهيره، فجمع ما بين متفاوتين
ج/ 21 ص -596-متباينين، فإن الطهارة منه طهارة عن حدث، وتطهيره إزالة خبث. وهما جنسان مختلفان في الحقيقة والأسباب والأحكام من وجوه كثيرة؛ فإن هذه تجب لها النية دون تلك.
وهذه من باب فعل المأمور به، وتلك من باب اجتناب المنهي عنه وهذه مخصوصة بالماء أو التراب، وقد تزال تلك بغير الماء في مواضع بالاتفاق، وفي مواضع على رأي، وهذه يتعدي حكمها محل سببها إلى جميع البدن، وتلك يختص حكمها بمحلها. وهذه تجب في غير محل السبب أو فيه وفي غيره، وتلك تجب في محل السبب فقط، وهذه حسية وتلك عقلية، وهذه جارية في أكثر أمورها على سنن مقايس البحاثين، وتلك مستصعبة على سبر القياس، وهذه واجبة بالاتفاق، وفي وجوب الأخري خلاف معلوم. وهذه لها بدل، وفي بدل تلك في البدن خاصة خلاف ظاهر.
وبالجملة، فقياس هذه الطهارة على تلك الطهارة كقياس الصلاة على الحج؛ لأن هذه عبادة، وتلك عبادة مع اختلاف الحقيقتين.
وأما الوجه الثالث: وهو إلحاقه بالمذي فقد منع الحكم في الأصل على قول بطهارة المذي، والأكثرون سلموه، وفرقوا بافتراق الحقيقتين: فإن هذا يخلق منه الولد الذي هو أصل الإنسان، وذلك بخلافه. ألا
ج/ 21 ص -597-تري أن عدم الإمناء عيب يبني عليه أحكام كثيرة؟ منشؤها على أنه نقص، وكثرة الإمذاء ربما كانت مرضاً، وهو فضلة محضة، لا منفعة فيه كالبول، وإن اشتركا في انبعاثهما عن شهوة النكاح، فليس الموجب لطهارة المني أنه عن شهوة الباءة فقط؛ بل شيء آخر. وإن أجريناه مجراه فنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.
وأما كونه فرعا فليس كذلك، بل هو بمنزلة الجنين الناقص: كالإنسان إذا أسقطته المرأة قبل كمال خلقه، فإنه وإن كان مبدأ خلق الإنسان فلا يناط به من أحكام الإنسان إلا ما قل، ولو كان فرعا؛ فإن النجاسة استخباث وليس استخباث الفرع بالموجب خبث أصله: كالفضول الخارجة من الإنسان.
وأما الوجه الرابع: فقياسه على جميع الخارجات بجامع اشتراكهن في المخرج منقوض بالفم، فإنه مخرج النخامة والبصاق الطاهرين، والقيء النجس. وكذلك الدبر مخرج الريح الطاهر، والغائط النجس. وكذلك الأنف مخرج المخاط الطاهر، والدم النجس.
وإن فصلوا بين ما يعتاد الناس من الأمور الطبيعية وبين ما يعرض لهم لأسباب حادثة.
ج/ 21 ص -598-قلنا: النخامة المعدية إذا قيل بنجاستها معتادة، وكذلك الريح.
وأيضاً، فإنا نقول: لم قلتم أن الاعتبار بالمخرج؟ ولم لا يقال الاعتبار بالمعدن والمستحال؟ فما خلق في أعلى البدن فطاهر، وما خلق في أسفله فنجس، والمني يخرج من بين الصلب والترائب، بخلاف البول والودي؟ وهذا أشد اطراداً؛ لأن القيء والنخامة المنجسة خارجان من الفم، لكن لما استحالا في المعدة كانا نجسين. وأيضاً، فسوف نفرق إن شاء الله تعالى.
وأما الوجه الخامس: فقولهم: مستحيل عن الدم، والاستحالة لا تطهر: عنه عدة أجوبة مستنيرة قاطعة.
أحدها: أنه منقوض بالآدمي وبمضغته، فإنهما مستحيلان عنه، وبعده عن العلقة، وهي دم ولم يقل أحد بنجاسته، وكذلك سائر البهائم المأكولة.
وثانيها: أنا لا نسلم أن الدم قبل ظهوره وبروزه يكون نجسًا، فلابد من الدليل على تنجيسه، ولا يغني القياس عليه إذا ظهر وبرز باتفاق الحقيقة؛ لأنا نقول الدليل على طهارته وجوه:
أحدها: أن النجس هو المستقذر المستخبث، وهذا الوصف لا يثبت
ج/ 21 ص -599-لهذه الأجناس إلا بعد مفارقتها مواضع خلقها، فوصفها بالنجاسة فيها وصف بما لا تتصف به.
وثانيها: أن خاصة النجس وجوب مجانبته في الصلاة، وهذا مفقود فيها في البدن من الدماء وغيرها. ألا تري أن من صلي حاملاً وعاءً مسدوداً قد أوعي دما لم تصح صلاته، فلئن قلت: عفي عنه لمشقة الاحتراز. قلت: بل جعل طاهراً لمشقة الاحتراز، فما المانع منه، والرسول ﷺ يعلل طهارة الهرة بمشقة الاحتراز، حيث يقول: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات".
بل أقول: قد رأينا جنس المشقة في الاحتراز مؤثراً في جنس التخفيف. فإن كان الاحتراز من جميع الجنس مشقاً عفي عن جميعه، فحكم بالطهارة. وإن كان من بعضه عفي عن القدر المشق، وهنا يشق الاحتراز من جميع ما في داخل الأبدان، فيحكم لنوعه بالطهارة كالهر وما دونها، وهذا وجه ثالث.
الوجه الرابع: أن الدماء المستخبثة في الأبدان وغيرها هي أحد أركان الحيوان التي لا تقوم حياته إلا بها حتي سميت نفساً، فالحكم
ج/ 21 ص -600-بأن الله يجعل أحد أركان عباده من الناس والدواب نوعا نجساً في غاية البعد.
الوجه الخامس: أن الأصل الطهارة، فلا تثبت النجاسة إلا بدليل وليس في هذه الدماء المستخبثة شيء من أدلة النجاسة، وخصائصها.
الوجه السادس: أنا قد رأينا الأعيان تفترق حالها: بين ما إذا كانت في موضع عملها ومنفعتها، وبين ما إذا فارقت ذلك. فالماء المستعمل ما دام جاريا في أعضاء المتطهر، فهو طهور. فإذا انفصل، تغيرت حاله. والماء في المحل النجس ما دام عليه، فعمله باق وتطهيره، ولا يكون ذلك إلا لأنه طاهر مطهر، فإذا فارق محل عمله، فهو إما نجس أو غير مطهر. وهذا مع تغير الأمواه في موارد التطهير تارة بالطاهرات وتارة بالنجاسات، فإذا كانت المخالطة التي هي أشد أسباب التغيير لا تؤثر في محل عملنا وانتفاعنا، فما ظنك بالجسم المفرد في محل عمله بخلق الله وتدبيره، فافهم هذا فإنه لباب الفقه.
الوجه الثالث: عن أصل الدليل: أنا لو سلمنا أن الدم نجس، فإنه قد استحال وتبدل. وقولهم: الاستحالة لا تطهر.
قلنا: من أفتى بهذه الفتوى الطويلة العريضة المخالفة للإجماع؟!
ج/ 21 ص -601-فإن المسلمين أجمعوا أن الخمر إذا بدأ الله بإفسادها وتحويلها خلا طهرت، وكذلك تحويل الدواب والشجر، بل أقول: الاستقراء دلنا أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس مثل جعل الخمر خلاً، والدم منيًا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيباً، وكذلك بيضها ولبنها والزرع المسقي بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر، وغير ذلك، فإنه يزول حكم التنجيس، ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه؛ فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض، فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقاً بعد خلق، ولا التفات إلى موادها وعناصرها.
وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان، كإحراق الروث حتي يصير رماداً، ووضع الخنزير في الملاحة حتي يصير ملحاً، ففيه خلاف مشهور. وللقول بالتطهير اتجاه وظهور، ومسألتنا من القسم الأول. وللَّه الحمد.
الدليل الخامس: أن المني مخالف لجميع ما يخرج من الذكر في خلقه، فإنه غليظ وتلك رقيقة. وفي لونه فإنه أبيض شديد البياض. وفي ريحه فإنه طيب كرائحه الطلع، وتلك خبيثة. ثم جعله الله أصلاً لجميع أنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين. والإنسان المكرم، فكيف يكون أصله نجساً؟!ولهذا قال ابن عقيل وقد ناظر بعض من يقول بنجاسته،
ج/ 21 ص -602-لرجل قال له: ما بالك وبال هذا؟ قال:أريد أن أجعل أصله طاهرا وهو يأبي إلا أن يكون نجساً!!
ثم ليس شأنه شأن الفضول، بل شأن ما هو غذاء ومادة في الأبدان؛ إذ هو قوام النسل، فهو بالأصول أشبه منه بالفضل.
الدليل السادس وفيه أجوبة : أحدها: لا نسلم أنه يجري في مجري البول، فقد قيل: إن بينهما جلدة رقيقة، وإن البول إنما يخرج رشحاً وهذا مشهور. وبالجملة، فلابد من بيان اتصالهما، وليس ذلك معلومًا إلا في ثقب الذكر، وهو طاهر أو معفو عن نجاسته.
الوجه الثاني: أنه لو جري في مجراه فلا نسلم أن البول قبل ظهوره نجس. كما مر تقريره في الدم، وهو في الدم أبين منه في البول؛ لأن ذلك ركن وبعض، وهذا فضل.
الوجه الثالث: أنه لو كان نجساً، فلا نسلم أن المماسة في باطن الحيوان موجبة للتنجيس. كما قد قيل في الاستحالة، وهو في المماسة أبين. يؤيد هذا قوله تعالى: "مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ" [النحل: 66]، ولو كانت المماسة في الباطن للفرث مثلاً موجبة للنجاسة، لنجس اللبن.
ج/ 21 ص -603-فإن قيل: فلعل بينهما حاجزاً.
قيل: الأصل عدمه، على أن ذكره هذا في معرض بيان ذكر الاقتدار بإخراج طيب من بين خبيثين في الاغتذاء، ولا يتم إلا مع عدم الحاجز، وإلا فهو مع الحاجز ظاهر في كمال خلقه سبحانه.
وكذلك قوله: "خَالِصًا" والخلوص لابد أن يكون مع قيام الموجب للشوب. وبالجملة، فخروج اللبن من بين الفرث والدم أشبه شيء بخروج المني من مخرج البول، وقد سلك هذا المسلك من رأي أنفحة الميتة ولبنها طاهراً؛ لأنه كان طاهراً، وإنما حدث نجاسة الوعاء فقال: الملاقاة في الباطن غير ظاهر.
ومن نجس هذا فرق بينه وبين المني، بأن المني ينفصل عن النجس في الباطن أيضاً بخلاف اللبن فإنه لا يمكن فصله من الميتة إلا بعد إبراز الضرع، وحينئذ يصير في حد ما يلحقه النجاسة. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد للَّه وسلام على عباده الذين اصطفي. وهذا الذي حضرني في هذا الوقت، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلى العظيم.
ج/ 21 ص -604-وَسُئِلَ عن المني هل هو طاهر أم لا؟ وإذا كان طاهراً فما حكم رطوبة فرج المرأة إذا خالطه؟
فأجاب:
وأما المني، فالصحيح أنه طاهر، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وقد قيل: إنه نجس يجزئ فركه كقول أبي حنيفة وأحمد في رواية أخري وهل يعفي عن يسيره كالدم، أو لا يعفي عنه كالبول؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.
وقيل: إنه يجب غسله كقول مالك، والأول هو الصواب. فإنه من المعلوم أن الصحابة كانوا يحتلمون على عهد النبي ﷺ، وأن المني يصيب بدن أحدهم وثيابه. وهذا مما تعم به البلوي، فلو كان ذلك نجساً لكان يجب على النبي ﷺ أمرهم بإزالة ذلك من أبدانهم وثيابهم، كما أمرهم بالاستنجاء، وكما أمر الحائض بأن تغسل دم الحيض من ثوبها، بل إصابة الناس المني أعظم بكثير من
ج/ 21 ص -605-إصابة دم الحيض لثوب الحيض.
ومن المعلوم أنه لم ينقل أحد أن النبي ﷺ أمر أحداً من الصحابة بغسل المني من بدنه ولا ثوبه، فَعُلِم يقيناً أن هذا لم يكن واجباً عليهم، وهذا قاطع لمن تدبره.
وأما كون عائشة رضي الله عنها كانت تغسله تارة من ثوب النبي ﷺ، وتفركه تارة، فهذا لا يقتضي تنجيسه؛ فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق، والوسخ، وهكذا قال غير واحد من الصحابة كسعد بن أبي وقاص،وابن عباس وغيرهما: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق أمطه عنك ولو بإذخرة.وسواء كان الرجل مستنجياً أو مستجمراً، فإن منيه طاهر.
ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن مني المستجمر نجس، لملاقاته رأس الذكر، فقوله ضعيف، فإن الصحابة كان عامتهم يستجمرون، ولم يكن يستنجي بالماء منهم إلا قليل جداً، بل كان كثير منهم كانوا لا يعرفون الاستنجاء، بل أنكروه، ومع هذا، فلم يأمر النبي أحداً منهم بغسل منيه، بل ولا فركه.
والاستجمار بالأحجار: هل هو مطهر أو مخفف؟ فيه قولان معروفان. فإن
ج/ 21 ص -606-قيل إنه مطهر، فلا كلام. وإن قيل إنه مخفف. وأنه يعفي عن أثره للحاجة، فإنه يعفي عنه في محله، وفيما يشق الاحتراز عنه، والمني يشق الاحتراز منه، فألحق بالمخرج.
وَسُئِلَ رَحمه الله عن المني ما حكمه؟
فأجاب:
الصحيح أن المني طاهر كما هو مذهب الشافعي، وأحمد في المشهور عنه وأما كون عائشة تغسله تارة من ثوب رسول الله ﷺ وتفركه تارة، فهذا لا يقتضي تنجيسه، فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ، وهذا قاله غير واحد من الصحابة كسعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وغيرهما : إنما هو بمنزلة البصاق والمخاط أمطه عنك ولو بإذخرة. وسواء كان الرجل مستنجياً، أو مستجمراً، فإن منيه طاهر.
ومن قال: إن مني المستجمر نجس لملاقاته رأس الذكر، فقوله ضعيف، فإن الصحابة كان عامتهم يستجمرون، ولم يكن يستنجي بالماء منهم إلا القليل جداً، بل الكثير منهم لا يعرف الاستنجاء، بل أنكروه والحق ما هم عليه ومع هذا فلم يأمر النبي ﷺ
ج/ 21 ص -607-أحداً منهم بغسل المني، ولا فركه.
والاستجمار بالحجارة. هل هو مخفف أو مطهر؟ فيه قولان معروفان، فإن قيل: هو مطهر، فلا كلام. وإن قيل هو مخفف، فإنه يعفي عن أثره للحاجة، ويعفي عنه في محله، وفيما يشق الاحتراز عنه، فألحق بالمخرج. والله أعلم.
وَسُئِلَ رَحمه الله عمن وقع على ثيابه ماء طاقة ما يدري ما هو: فهل يجب غسله أم لا؟
فأجاب:
لا يجب غسله، بل ولا يستحب على الصحيح. وكذلك لا يستحب السؤال عنه على الصحيح. فقد مر عمر بن الخطاب مع رفيق له فقطر على رفيقه ماء من ميزاب، فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر، أم نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه. والله أعلم.
ج/ 21 ص -608-وَسُئِلَ رَحمه الله عن الفخار فإنه يشوي بالنجاسة فما حكمه؟ والأفران التي تسخن بالزبل فما حكمها؟
فأجاب:
الحمد للَّه، هذه المسائل مبنية على أصلين:
أحدهما: السرقين النجس ونحوه في الوقود ليسخن الماء أو الطعام ونحو ذلك. فقال بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره: إن ذلك لا يجوز؛ لأنه يتضمن ملابسة النجاسة ومباشرتها. وقال بعضهم إن ذلك مكروه غير محرم؛ لأن إتلاف النجاسة لا يحرم، وإنما ذلك مظنة التلوث بها. ومما يشبه ذلك الاستصباح بالدهن النجس، فإنه استعمال له بالإتلاف. والمشهور عن أحمد وغيره من العلماء أن ذلك يجوز، وهو المأثور عن الصحاية، والقول الآخر عنه وعن غيره المنع؛ لأنه مظنة التلوث به، ولكراهة دخان النجاسة.
والصحيح أنه لا يحرم شيء من ذلك. فإن الله تعالى حرم الخبائث من الدم والميتة ولحم الخنزير وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى
ج/ 21 ص -609-الله عليه وسلم أنه قال: "إنما حرم من الميتة أكلها". ثم أنه حرم لبسها قبل الدباغ. وهذا وجه قوله في حديث عبد الله بن عكيم: "كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" فإن الرخصة المتقدمة كانت في الانتفاع بالجلود بلا دباغ كما ذهب إليه طائفة من السلف، فرفع النهى عما أرخص، فأما الانتفاع بها بعد الدباغ فلم ينه عنه قط؛ ولهذا كان آخر الروايتين عن أحمد: أن الدباغ مطهر لجلود الميتة، لكن هل يقوم مقام الذكاة أو مقام الحياة، فيطهر جلد المأكول أو جلد ما كان طاهراً في الحياة دون ما سوي ذلك؟ على وجهين: أصحهما الأول. فيطهر بالدباغ ما تطهره الذكاة لنهيه ﷺ في حديث عن جلود السباع.
وأيضاً، فإن استعمال الخمر في إطفاء الحريق ونحو ذلك سلمه المنازعون مع أن الأمر بمجانبة الخمر أعظم، فإذا جاز إتلاف الخمر بما فيه منفعة، فإتلاف النجاسات بما ليس فيه منفعة أولي. ولأنهم سلموا جواز طعام الميتة للبزاة والصقور فاستعمالها في النار أولى.
وأما قول القائل: هذا مظنة ملابستها، فيقال: ملابسة النجاسة للحاجة جائز، إذا طهر بدنه وثيابه عند الصلاة ونحوها. كما يجوز الاستنجاء بالماء مع مباشرة النجاسة، ولا يكره ذلك على أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول أكثر الفقهاء. والرواية الثانية: يكره ذلك،
ج/ 21 ص -610-بل يستعمل الحجر، أو يجمع بينهما. والمشهور أن الاقتصار على الماء أفضل، وإن كان فيه مباشرتها.
وفي استعمال جلود الميتة إذا لم يقل بطهارتها في اليابسات روايتان: أصحهما جواز ذلك. وإن قيل إنه يكره، فالكراهة تزول بالحاجة.
وأما قوله: هذا يفضي إلى التلوث بدخان النجاسة، فهذا مبني على الأصل الثاني، وهو أن النجاسة في الملاحة إذا صارت ملحاً ونحو ذلك، فهل هي نجسة أم لا؟ على قولين مشهورين للعلماء هما روايتان عن أحمد، نص عليهما في الخنزير المشوي في التنور، هل تطهر النار ما لصق به أم يحتاج إلى غسل ما أصابه منه؟ على روايتين منصوصتين:
أحدهما: هي نجسة وهذا مذهب الشافعي، وأكثر أصحاب أحمد، وأحد قولي أصحاب مالك. وهؤلاء يقولون: لا يطهر من النجاسة بالاستحالة إلا الخمرة المنتقلة بنفسها، والجلد المدبوغ إذا قيل أن الدبغ إحالة لا إزالة.
والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد قولي المالكية وغيرهم، أنها لا تبقي نجسة. وهذا هو الصواب، فإن هذه الأعيان لم يتناولها نص التحريم لا لفظاً ولا معنى، وليست في معنى النصوص،
ج/ 21 ص -611-بل هي أعيان طيبة فيتناولها نص التحليل، وهي أولي بذلك من الخمر المنقلبة بنفسها، وما ذكروه من الفرق بأن الخمر نجست بالاستحالة فتطهر بالاستحالة باطل، فإن جميع النجاسات إنما نجست بالاستحالة كالدم فإنه مستحيل عن الغذاء الطاهر، وكذلك البول والعذرة، حتي الحيوان النجس مستحيل عن الماء والتراب ونحوهما من الطاهرات.
ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر لكن استحال، وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس، وإن كان مستحيلا منه، والمادة واحدة، كما أن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب وتراب المقبرة ليس هو الميت، والإنسان ليس هو المني.
والله تعالى يخلق أجسام العالم بعضها من بعض، ويحيل بعضها إلى بعض، وهي تبدل مع الحقائق، ليس هذا هذا. فكيف يكون الرماد هو العظم الميت، واللحم والدم نفسه. بمعني أنه يتناوله اسم العظم؟ وأما كونه هو هو باعتبار الأصل والمادة، فهذا لا يضر، فإن التحريم يتبع الاسم والمعني الذي هو الخبث، وكلاهما منتف.
وعلى هذا، فدخان النار الموقدة بالنجاسة طاهر، وبخار الماء النجس الذي يجتمع في السقف طاهر، وأمثال ذلك من المسائل.
ج/ 21 ص -612-وإذا كان كذلك، فهذا الفخار طاهر؛ إذ ليس فيه من النجاسة شيء. وإن قيل: إنه خالطه من دخانها خرج على القولين، والصحيح أنه طاهر.
وأما نفس استعمال النجاسة فقد تقدم الكلام فيه، والنزاع في الماء المسخن بالنجاسة فإنه طاهر، لكن هل يكره على قولين: هما روايتان عن أحمد.
أحداهما: لا يكره، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي.
والثاني: يكره، وهو مذهب مالك.
وللكراهة مأخذان:
أحدهما: خشية أن يكون قد وصل إلى الماء شيء من النجاسة، فيكره لاحتمال تنجسه، فعلى هذا إذا كان بين الموقد وبين النار حاجز حصين لم يكره، وهذه طريقة الشريف أبي جعفر، وابن عقيل، وغيرهما.
والثاني: أن سبب الكراهة كون استعمال النجاسة مكروهاً وأن السخونة حصلت بفعل مكروه، وهذه طريقة القاضي أبي يعلى، ومثل هذا
ج/ 21 ص -613-طبخ الطعام بالوقود النجس، فإن نضج الطعام كسخونة الماء، والكراهة في طبخ الفخار بالوقود النجس تشبه تسخين الماء الذي ليس بينه وبين النار حاجز. والله أعلم.
وَسُئِلَ عن بول ما يؤكل لحمه: هل هو نجس؟
فأجاب:
أما بول ما يؤكل لحمه، وروث ذلك، فإن أكثر السلف على أن ذلك ليس بنجس، وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما، ويقال: إنه لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجيس ذلك، بل القول بنجاسة ذلك قول محدث لا سلف له من الصحابة. وقد بسطنا القول في هذه المسألة في كتاب مفرد، وبينا فيه بضعة عشر دليلا شرعياً، وأن ذلك ليس بنجس .
والقائل بتنجيس ذلك ليس معه دليل شرعي على نجاسته أصلا، فإن غاية ما اعتمدوا عليه قوله ﷺ: "تنزهوا من البول"، وظنوا أن هذا عام في جميع الأحوال، وليس كذلك، فإن اللام لتعريف العهد، والبول المعهود هو بول الآدمي، ودليله قوله: "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" ومعلوم أن عامة عذاب
ج/ 21 ص -614-القبر إنما هو من بول الآدمي نفسه الذي يصيبه كثيراً، لا من بول البهائم الذي لا يصيبه إلا نادراًَ.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ: أنه أمر العرنيين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام أن يلحقوا بإبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ولم يأمرهم مع ذلك بغسل ما يصيب أفواههم وأيديهم، ولا بغسل الأوعية التي فيها الأبوال، مع حدثان عهدهم بالإسلام، ولو كان بول الأنعام كبول الإنسان لكان بيان ذلك واجبًا، ولم يجز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لاسيما مع أنه قرنها بالألبان التي هي حلال طاهرة، مع أن التداوي بالخبائث قد ثبت فيه النهى عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة.
وأيضا، فقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يصلي في مرابض الغنم، وأنه أذن في الصلاة في مرابض الغنم من غير اشتراط حائل، ولو كانت أبعارها نجسة لكانت مرابضها كحشوش بني آدم، وكان ينهى عن الصلاة فيها مطلقًا، أو لا يصلي فيها إلا مع الحائل المانع، فلما جاءت السنة بالرخصة في ذلك، كان من سوي بين أبوال الآدميين وأبوال الغنم مخالفًا للسنة.
وأيضا، فقد طاف النبي ﷺ بالبيت على بعيره،
ج/ 21 ص -615-مع إمكان أن يبول البعير، وأيضا، فمازال المسلمون يدوسون حبوبهم بالبقر مع كثرة ما يقع في الحب من البول وأخباث البقر.
وأيضا،فإن الأصل في الأعيان الطهارة، فلا يجوز التنجيس إلا بدليل، ولا دليل على النجاسة؛ إذ ليس في ذلك نص ولا إجماع ولا قياس صحيح.
وَسُئِلَ عن فران يحمي بالزبل ويخبز؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كان الزبل طاهرًا مثل زبل البقر والغنم والإبل، وزبل الخيل، فهذا لا ينجس الخبز.
وإن كان نجسا كزبل البغال والحمر، وزبل سائر البهائم، فعند بعض العلماء: إن كان يابسًا، فقد يبس الفرن منه، ولم ينجس الخبز، وإن علق بعضه بالخبز قلع ذلك الموضع، ولم ينجس الباقي. والله أعلم.
ج/ 21 ص -616-وسُئِلَ عن الكلب هل هو طاهر، أم نجس؟ وما قول العلماء فيه؟
فأجاب:
أما الكلب، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال معروفة:
أحدها: أنه نجس كله حتي شعره، كقول الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه.
والثاني: أنه طاهر حتي ريقه، كقول مالك في المشهور عنه.
والثالث: أن ريقه نجس، وأن شعره طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة المشهور عنه، وهذه هي الرواية المنصورة عند أكثر أصحابه، وهو الرواية الأخري عن أحمد وهذا أرجح الأقوال. فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره، لم ينجس بذلك، وإذا ولغ في الماء أريق، وإذا ولغ في اللبن ونحوه، فمن العلماء من يقول: يؤكل ذلك الطعام كقول مالك وغيره. ومنهم من يقول: يراق، كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.فأما إن كان اللبن كثيرًا، فالصحيح أنه لا ينجس. وله في الشعور النابتة على محل نجس ثلاث روايات:
إحداها: أن جميعها طاهر حتي شعر الكلب والخنزير، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز.
والثانية: أن جميعها نجس، كقول الشافعي.
ج/ 21 ص -617-والثالثة : أن شعر الميتة إن كانت طاهرة في الحياة كان طاهرًا كالشاة والفأرة، وشعر ما هو نجس في حال الحياة نجس: كالكلب والخنزير، وهذه هي المنصوصة عند أكثر أصحابه.
والقول الراجح:هو طهارة الشعور كلها: شعر الكلب والخنزير وغيرهما،بخلاف الريق. وعلى هذا، فإذا كان شعر الكلب رطبا وأصاب ثوب الإنسان، فلا شيء عليه، كما هو مذهب جمهور الفقهاء: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدي الروايتين عنه، وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة، فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل. كما قال تعالى: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" [الأنعام: 119]، وقال تعالى: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ" [التوبة: 115]، وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "إن من أعظم المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته". وفي السنن عن سلمان الفارسي مرفوعًا ومنهم من يجعله موقوفًا أنه قال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه".
وإذا كان كذلك، فالنبي ﷺ قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعًا، أولاهن بالتراب"، وفي الحديث الآخر: "إذا ولغ الكلب". فأحاديثه كلها ليس فيها إلا ذكر الولوغ، لم يذكر سائر الأجزاء، فتنجيسها إنما هو بالقياس.
ج/ 21 ص -618-فإذا قيل: إن البول أعظم من الريق، كان هذا متوجها.
وأما إلحاق الشعر بالريق فلا يمكن؛ لأن الريق متحلل من باطن الكلب، بخلاف الشعر، فإنه نابت على ظهره.
والفقهاء كلهم يفرقون بين هذا، وهذا. فإن جمهورهم يقولون: إن شعر الميتة طاهر، بخلاف ريقها. والشافعي وأكثرهم يقولون: إن الزرع النابت في الأرض النجسة طاهر، فغاية شعر الكلب أن يكون نابتًا في منبت نجس، كالزرع النابت في الأرض النجسة، فإذا كان الزرع طاهراً فالشعر أولي بالطهارة؛ لأن الزرع فيه رطوبة ولين يظهر فيه أثر النجاسة، بخلاف الشعر فإن فيه من اليبوسة والجمود ما يمنع ظهور ذلك. فمن قال من أصحاب أحمد كابن عقيل وغيره: إن الزرع طاهر فالشعر أولي، ومن قال: إن الزرع نجس فإن الفرق بينهما ما ذكر، فإن الزرع يلحق بالجلالة التي تأكل النجاسة، وهذا أيضا حجة في المسألة، فإن الجلالة التي تأكل النجاسة، قد نهى النبي ﷺ عن لبنها فإذا حبست حتي تطيب كانت حلالا باتفاق المسلمين؛ لأنها قبل ذلك يظهر أثر النجاسة في لبنها وبيضها وعرقها، فيظهر نتن النجاسة وخبثها، فإذا زال ذلك عادت طاهرة، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها. والشعر لا يظهر فيه شيء من آثار النجاسة أصلا، فلم يكن لتنجيسه معنى
ج/ 21 ص -619-وهذا يتبين بالكلام في شعور الميتة كما سنذكره إن شاء اللّه تعالى.
وكل حيوان قيل بنجاسته، فالكلام في شعره وريشه كالكلام في شعر الكلب، فإذا قيل: بنجاسة كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير إلا الهرة، وما دونها في الخلقة، كما هو مذهب كثير من العلماء علماء أهل العراق وهو أشهر الروايتين عن أحمد فإن الكلام في ريش ذلك وشعره فيه هذا النزاع: هل هو نجس؟ على روايتين عن أحمد:
إحداهما : أنه طاهر، وهو مذهب الجمهور كأبي حنيفة والشافعي ومالك.
والرواية الثانية: أنه نجس، كما هو اختيار كثير من متأخري أصحاب أحمد، والقول بطهارة ذلك هو الصواب كما تقدم.
وأيضًا، فالنبي ﷺ رخص في اقتناء كلب الصيد، والماشية، والحرث، ولابد لمن اقتناه أن يصيبه رطوبة شعوره كما يصيبه رطوبة البغل والحمار وغير ذلك، فالقول بنجاسة شعورها
ج/ 21 ص -620-والحال هذه من الحرج المرفوع عن الأمة.
وأيضاً، فإن لعاب الكلب إذا أصاب الصيد لم يجب غسله في أظهر قولي العلماء، وهو إحدي الروايتين عن أحمد؛ لأن النبي ﷺ لم يأمر أحداً بغسل ذلك، فقد عفي عن لعاب الكلب في موضع الحاجة، وأمر بغسله في غير موضع الحاجة، فدل على أن الشارع راعي مصلحة الخلق، وحاجتهم. واللّه أعلم.
وَسُئِلَ عن كلب طلع من ماء فانتفض على شيء فهل يجب تسبيعه ؟
فأجاب :
مذهب الشافعي وأحمد رضي اللّه عنهما يجب تسبيعه، ومذهب أبي حنيفة ومالك رضي اللّه عنهما لا يجب تسبيعه. واللّه أعلم.
وَسُئِلَ عن سؤر البغل والحمار : هل هو طاهر؟
فأجاب :
أما سؤر البغل والحمار فأكثر العلماء يجوزون التوضؤ به. كمالك والشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه.
ج/ 21 ص -621-والرواية الأخري عنه مشكوك فيه. كقول أبي حنيفة، فيتوضأ به ويتيمم.
والثالثة: أنه نجس؛ لأنه متولد من باطن حيوان نجس، فيكون نجساً كلعاب الكلب؛ لكن النبي ﷺ قال في الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" فعلل طهارة سؤرها لكونها من الطوافين علينا والطوافات، وهذا يقتضي أن الحاجة مقتضية للطهارة، وهذا من حجة من يبيح سؤر البغل والحمار. فإن الحاجة داعية إلى ذلك، والمانع يقول ذلك مثل سؤر الكلب، فإنه مع إباحة قنيته لما يحتاج فيه إليه نهى عن سؤره.
والمرخص يقول: إن الكلب أباحه للحاجة، ولهذا حرم ثمنه، بخلاف البغل والحمار، فإن بيعهما جائز باتفاق المسلمين. والمسألة مبنية على أسآر السباع، وما لا يؤكل لحمه.
وَسُئِل:َ عن طين جُبِل بزبل حمار، وطين به سطح فوقع عليه قطر، فتعلق به: ما حكمه؟
فأجاب :
الحمد للّه، إن كان يسيراً عفي عنه، في أحد قولي العلماء.
ج/ 21 ص -622-وهو إحدى الروايات عن أحمد، لاسيما إذا كان الزبل قد خلط بالطين الذي طين به السطح، فقد يكون قد استحال، وإن لم يستحل، فالذي تعلق بالقطر شيء يسير.
وَسُئِل:َ عما إذا بال الفأر في الفراش، هل يصلي فيه ؟
فأجاب:
غسله أحوط، ويعفي عن يسيره في أحد قولي العلماء، وهو إحدي الروايتين عن أحمد.
وَسُئِلَ: عن ريش القنفذ، هل هو نجس؟
فأجاب:
الحمد للّه، هو طاهر، وإن وجد بعد موته عند جمهور العلماء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه.