أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب التيمم

    ج/ 21 ص -346-باب التيمم
    قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله ‏:‏
    الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليمًا‏.‏
    قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

    ج/ 21 ص -347-والتيمم في اللغة‏:‏ هو القصد، ومنه قوله تعالى‏:‏‏"وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ"‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، ومنه قول امرئ القيس‏:‏
    تيممت الماء الذي دون ضارج
    يميل عليها الظل عرمضها طامي
    العرماض‏:‏ الطحلب‏.‏ لكن لما قال الله تعالى‏:‏
    ‏"فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ"‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، كان التيمم المأمور به هو تيمم الصعيد الطيب، للتمسح به، فصار لفظ التيمم إذا أطلق في عرف الفقهاء انصرف إلى هذا التيمم الخاص، وقد يراد بلفظ التيمم نفس مسح اليدين والوجه، فسمي المقصود بالتيمم تيممًا‏.‏
    وهذا التيمم المأمور به في الآية هو من خصائص المسلمين، ومما فضلهم الله به على غيرهم من الأمم، ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏.‏ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏"‏، وهذا لفظ البخاري‏.‏

    ج/ 21 ص -348-وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال‏:‏‏"‏فضلت على الأنبياء بست‏:‏ أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون‏"‏‏.‏
    ولمسلم أيضًا عن حذيفة بن اليمان أن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏فضلت على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء‏"‏‏.‏ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت‏.‏ وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم‏"‏‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏
    ‏"فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا"‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ نكرة في سياق الإثبات كقوله‏:‏ ‏"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً"‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ"‏[‏النساء‏:‏92‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وهذه تسمي مطلقة، وهي تفيد العموم على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، فيدل ذلك على أنه يتيمم أي صعيد طيب، اتفق‏.‏ والطيب هو الطاهر، والتراب الذي ينبعث مراد من النص بالإجماع، وفيما سواه نزاع سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

    ج/ 21 ص -349-وقوله‏:‏‏"فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ"[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ قد اتفق القراء السبعة على قراءة أيديكم بالإسكان؛ بخلاف قوله في الوضوء‏:‏ ‏"وَأَرْجُلَكُمْ"‏ فإن بعض السبعة قرأوا‏:‏ ‏"وأرجلَكم"‏ بالنصب، قالوا‏:‏ إنها معطوفة على المغسول، تقديره‏:‏ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وأرجلكم إلى الكعبين كذلك‏.‏ قال علي بن أبي طالب وغيره من السلف‏:‏ قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ قرأ على الحسن والحسين‏:‏ ‏"وأرجلكم إلى الكعبين"‏ بالخفض فسمع ذلك علي بن أبي طالب، وكان يقضي بين الناس فقال‏:‏ وأرجلكم يعني بالنصب، وقال‏:‏هذا من المقدم المؤخر في الكلام‏.‏ وكذلك ابن عباس قرأها بالنصب، وقال‏:‏ عاد الأمر إلى الغسل، ولا يجوز أن يكون ذلك عطفًا على المحل، كما يظنه بعض الناس كقول بعض الشعراء‏:‏

    معاوي‏:‏ إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا

    فإنما يسوغ في حرف التأكيد مثل المباني، وأما حروف المعاني فلا يجوز ذلك فيها‏.‏ والباء هنا للإلصاق، ليست للتوكيد، ولهذا لم يقرأ القراء هنا وأيديكم، كما قرأوا هناك وأرجلكم؛ لأنه لو قال‏:‏ فامسحوا وجوهكم وأيديكم، أو امسحوا بها، لكان يكتفي بمجرد المسح من غير إيصال للطهور إلى الرأس، وهو خلاف الإجماع، فلما كانت الباء للالصاق دل على أنه لابد من إلصاق الممسوح به، فدل ذلك على

    ج/ 21 ص -350-استعمال الطهور، ولهذا كانت هذه الباء لا تدل على التبعيض عند أحد من السلف، وأئمة العربية‏.‏
    ولا قال الشافعي‏:‏ إن التبعيض يستفاد من الباء،بل أنكر إمام الحرمين وغيره من أصحابه ذلك، وحكوا كلام أئمة العربية في إنكار ذلك، ولكن من قال بذلك استند إلى دلالة أخرى‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏ ‏
    "مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ دلت هذه الآية على أن التراب طهور كما صرحت بذلك السنة الصحيحة في قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏"‏ وعن أبي ذر أن رسول الله ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير‏"‏‏.‏ رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي والترمذي وهذا لفظه‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏
    وقد اتفق المسلمون على أنه إذا لم يجد الماء في السفر تيمم وصلى، إلى أن يجد الماء، فإذا وجد الماء فعليه استعماله‏.‏
    وكذلك تيمم الجنب‏:‏ ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف

    ج/ 21 ص -351-إلى أنه يتيمم إذا عدم الماء في السفر، إلى أن يجد الماء، فإذا وجده كان عليه استعماله، وقد روي عن عمر وابن مسعود إنكار تيمم الجنب، وروي عنهما الرجوع عن ذلك، وهو قول أكثر الصحابة‏:‏ كعلى، وعمار، وابن عباس، وأبي ذر، وغيرهم‏.‏ وقد دل عليه آيات من كتاب الله وخمسة أحاديث عن النبي ﷺ‏.‏
    منها‏:‏ حديث عمار بن ياسر، وعمران بن حصين، كلاهما في الصحيحين، ومنها‏:‏ حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي، ومنها‏:‏ حديث عمرو بن العاص، وحديث الذي شج فأفتوه، فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"
    ‏قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العِي السؤال‏"‏ ففي الصحيح عن عمر أنه قال‏:‏ كنا مع النبي ﷺ فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال‏:‏ ‏"‏ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ أصابتني جنابة ولا ماء، قال‏:‏ ‏"‏عليك بالصعيد، فإنه يكفيك‏"‏‏.‏ رواه البخاري ومسلم‏.‏
    وفي الصحيحين عن عمار بن ياسر قال‏:‏ بعثني النبي ﷺ في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد، كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي ﷺ فذكرت ذلك له، فقال‏:‏
    ‏"‏إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا‏"‏، ثم ضرب بيديه الأرض

    ج/ 21 ص -352-ضربة واحدة،ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه‏.‏ وهذا لفظ مسلم‏.‏
    فَصْل
    وقد تنازع العلماء في التيمم‏:‏ هل يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، أم الحدث قائم ولكنه تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع‏؟‏ وهذه مسألة نظرية‏.‏
    وتنازعوا هل يقوم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء، ولا يبطل بخروج الوقت، كما لا يبطل الوضوء‏؟‏ على قولين مشهورين وهو نزاع عملي‏.‏
    فمذهب أبي حنيفة أنه يتيمم قبل الوقت، ويبقي بعد الوقت، ويصلي به ما شاء كالماء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، والثوري، وغيرهم‏.‏ وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أنه لا يتيمم قبل الوقت، ولا يبقى بعد خروجه‏.‏

    ج/ 21 ص -353-ثم من هؤلاء من يقول‏:‏ يتيمم لوقت كل صلاة، ومنهم من يقول‏:‏ يتيمم لفعل كل فريضة، ولا يجمع به فرضين‏.‏ وغلا بعضهم فقال‏:‏ ويتيمم لكل نافلة، وهذا القول في الجملة هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه طهارة ضرورية، والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها، فإذا تيمم في وقت يستغني عن التيمم فيه لم يصح تيممه، كما لو تيمم مع وجود الماء‏.‏
    قالوا‏:‏ ولأن الله أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، فإن لم يجد الماء تيمم، وكان ظاهر الخطاب يوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء والتيمم لكن لما ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي ﷺ صلى الصلوات كلها بوضوء واحد‏.‏ رواه مسلم في صحيحه، دلت السنة على جواز تقديم الوضوء قبل وقت وجوبه، وبقي التيمم على ظاهر الخطاب، وعلل ذلك بعضهم بأنه مأمور بطلب الماء عند كل صلاة، وذلك يبطل تيممه‏.‏
    وورد عن علي، وعمرو بن العاص، وابن عمر، مثل قولهم‏.‏ ولنا أنه قد ثبت بالكتاب والسنة‏:‏ أن التراب طهور، كما أن الماء طهور‏.‏ وقد قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك خير‏"‏ فجعله مطهرًا عند عدم الماء مطلقًا‏.‏ فدل على أنه مطهر

    ج/ 21 ص -354-للمتيمم‏.‏ وإذا كان قد جعل المتيمم مطهرًا كما أن المتوضئ مطهر، ولم يقيد ذلك بوقت، ولم يقل أن خروج الوقت يبطل، كما ذكر أنه يبطله القدرة على استعمال الماء، دل ذلك على أنه بمنزلة الماء عند عدم الماء، وهو موجب الأصول‏.‏
    فإن التيمم بدل عن الماء، والبدل يقوم مقام المبدل في أحكامه، وإن لم يكن مماثلاً له في صفته، كصيام الشهرين، فإنه بدل عن الاعتاق وصيام الثلاث والسبع فإنه بدل عن الهدي في التمتع، وكصيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين فإنه بدل عن التكفير بالمال، والبدل يقوم مقام المبدل، وهذا لازم لمن يقيس التيمم على الماء في صفته، فيوجب المسح على المرفقين، وإن كانت آية التيمم مطلقة، كما قاس عمار لما تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة، فمسح جميع بدنه كما يغسل جميع بدنه، وقد بين النبي ﷺ فساد هذا القياس، وأنه يجزئك من الجنابة التيمم الذي يجزئك في الوضوء، وهو مسح الوجه واليدين؛ لأن البدل لا تكون صفته كصفة المبدل، بل حكمه حكمه، فإن التيمم مسح عضوين، وهما العضوان المغسولان في الوضوء، وسقط العضوان الممسوحان، والتيمم عن الجنابة يكون في هذين العضوين بخلاف الغسل‏.‏
    والتيمم ليس فيه مضمضة ولا استنشاق، بخلاف الوضوء، والتيمم

    ج/ 21 ص -355-لا يستحب فيه تثنية ولا تثليث، بخلاف الوضوء، والتيمم يفارق صفة الوضوء من وجوه، ولكن حكمه حكم الوضوء؛ لأنه بدل منه، فيجب أن يقوم مقامه كسائر الأبدال، فهذا مقتضي النص والقياس‏.‏
    فإن قيل‏:‏ الوضوء يرفع الحدث، والتيمم لا يرفعه‏.‏
    قيل‏:‏ عن هذا جوابان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه سواء كان يرفع الحدث أو لا يرفعه؛ فإن الشارع جعله طهورًا عند عدم الماء يقوم مقامه، فالواجب أن يثبت له من أحكام الطهارة ما يثبت للماء، ما لم يقم دليل شرعي على خلاف ذلك‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏قول القائل‏:‏ يرفع الحدث أو لا يرفعه ليس تحته نزاع عملي، وإنما هو نزاع اعتباري لفظي، وذلك أن الذين قالوا‏:‏ لا يرفع الحدث، قالوا‏:‏ لو رفعه لم يعد إذا قدر على استعمال الماء، وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يبطل بالقدرة على استعمال الماء‏.‏
    والذين قالوا‏:‏ يرفع الحدث، إنما قالوا برفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، فلم يتنازعوا في حكم عملي شرعي، ولكن تنازعهم ينزع إلى قاعدة أصولية تتعلق بمسألة تخصيص العلة، وأن

    ج/ 21 ص -356-المناسبة هل تنخرم بالمعارضة، وأن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا يرفعه اقتضاؤه مع بقاء ذاته ‏؟‏
    وكشف الغطاء عن هيئة النزاع، أن لفظ العلة يراد به العلة التامة وهو مجموع ما يستلزم الحكم، بحيث إذا وجد وجد الحكم، ولا يتخلف عنه، فيدخل في لفظ العلة على هذا الاصطلاح جبر العلة وشروطها، وعدم المانع؛ إما لكون عدم المانع يستلزم وصفًا ثبوتيا على رأي، وإما لكون العدم قد يكون جبرًا من المقتضي على رأي، وهذه العلة متي تخصصت وانتقضت فوجد الحكم بدونها دل على فسادها، كما لو علل معلل قصر الصلاة بمطلق العذر‏.‏ قيل له‏:‏ هذا باطل، فإن المريض ونحوه من أهل الأعذار لا يقصرون، وإنما يقصر المسافر خاصة، فالقصر دائر مع السفر وجودًا وعدمًا، ودوران الحكم مع الوصف وجودًا وعدمًا دليل على المدار عليه للدائر، وكما لو علل وجوب الزكاة بمجرد ملك النصاب، قيل له‏:‏ هذا ينتقض بالملك قبل الحول‏.‏
    وقد يراد بلفظ العلة ما يقتضي الحكم، وإن توقف على ثبوت شروط وانتفاء موانع‏.‏
    وقد يعبر عن ذلك بلفظ السبب، فيقال‏:‏ الأسباب المثبتة للإرث

    ج/ 21 ص -357-ثلاثة‏:‏ رحم، ونكاح، وولاء‏.‏ وعند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين يثبت بعقد الموالاة وغيرها، فالعلة هنا قد يتخلف عنها الحكم المانع‏:‏ كالرق، والقتل، واختلاف الدين‏.‏
    فإذا أريد بالعلة هذا المعنى جاز تخصيصها لفوات شرط ووجود مانع‏.‏ فأما إن لم يبين المعلل بين صورة النقض وبين غيرها فرقًا مؤثرًا بطل تعلىله، فإن الحكم اقترن بالوصف تارة كما في الأصل، وتخلف عنه تارة كما في الأصل، ويختلف عنه تارة كما في صورة النقض‏.‏
    والمستدل إن لم ييبن أن الفرع مثل الأصل دون صورة النقض، فلم يكن إلحاقه بالأصل في ثبوت الحكم أولى من إلحاقه بصورة النقض في انتفائه؛ لأن الوصف موجود في الصور الثلاث، وقد اقترن به الحكم في الواحدة دون الأخرى، وشككنا في الصورة الثالثة‏.‏
    وهذا كما لو اشترك ثلاثة في القتل‏:‏ فقتل الأولىاء واحدًا، ولم يقتلوا آخر إما لبذل الدية، وإما لإحسان كان له عندهم، والثالث لم يعرف أهو كالمقتول أو كالمعفو عنه، فإنا لا نلحقه بأحدهما إلا بدليل يبين مساواته له دون مساواته للآخر‏.‏
    إذا عرف هذا فالأصوليون والفقهاء متنازعون في استحلال الميتة

    ج/ 21 ص -358-عند الضرورة، فمنهم من يقول‏:‏ قد استحل المحظور مع قيام السبب الحاظر، وهو ما فيها من حيث التغذية‏.‏
    ومنهم من يقول‏:‏ الضرورة ما أزالت حكم السبب وهو التحريم إزالة اقتضاء للحظر، فلم يبق في هذه الحال حاظر؛ إذ يمتنع زوال الحظر مع وجود مقتضيه التام‏.‏
    وفصل النزاع‏:‏ أنه إن أريد بالسبب الحاظر السبب التام، وهو ما يستلزم الحظر، فهذا يرتفع عند المخمصة، فإن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والحل ثابت في هذه الحال، فيمتنع وجود السبب المستلزم له‏.‏ وإن أريد بالسبب المقتضي للحظر لولا المعارض الراجح، فلا ريب أن هذا موجود حال الحظر، لكن المعارض الراجح أزال اقتضاءه للحظر، فلم يبق في هذه الحال مقتضيا، فإذا قدر زوال المخمصة عمل السبب عمله لزوال المعارض له‏.‏
    وهكذا القول في كون التيمم يرفع الحدث أو لا يرفعه، فإنه فرع على قول من يقول‏:‏ إنه يرفع الحدث، فصاحب هذا القول إذا تبين له أنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود هذا المعنى ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، والماء يكون طهورًا إذا أزال الحدث،وإلا مع وجود الجنابة

    ج/ 21 ص -359-يمتنع حصول الطهارة، فصاحب هذا القول إنما قال‏:‏ إنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود، وهذا ممكن ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، وإنما يكون طهورًا إذا أزال الحدث، وإلا فمع بقاء الحدث لا يكون طهورًا‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه ليس برافع ولكنه مبيح، والحدث هو المانع للصلاة، وأراد بذلك أنه مانع تام، كما يكون مع وجود الماء، فهذا غالط، فإن المانع التام مستلزم للمنع، والمتيمم يجوز له الصلاة ليس بممنوع منها، ووجود الملزوم بدون اللازم ممتنع‏.‏ وإن أريد أن سبب المنع قائم ولكن لم يعمل عمله لوجود الطهارة الشرعية الرافعة لمنعه، فإذا حصلت القدرة على استعمال الماء حصل منعه في هذه الحال، فهذا صحيح‏.‏
    وكذلك من قال‏:‏ هو رافع للحدث‏.‏إن أراد بذلك أنه يرفعه كما يرفعه الماء، فلا يعود إلا بوجود سبب آخر كان غالطًا، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع‏:‏ أنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله، وإن لم يتجدد بعد الجنابة الأولى جنابة ثانية، بخلاف الماء‏.‏
    وإن قال‏:‏ أريد برفعه أنه رفع منع المانع فلم يبق مانعًا إلى حين وجود الماء، فقد أصاب، وليس بين القولين نزاع شرعي عملي‏.‏

    ج/ 21 ص -360-وعلى هذا فيقال‏:‏ على كل من القولين لم يبق الحدث مانعًا مع وجود طهارة التيمم، والنبي ﷺ قد جعل التراب طهورًا كما جعل الماء طهورًا، لكن جعل طهارته مقيدة إلى أن يجد الماء، ولم يشترط في كونه مطهرًا شرطًا آخر، فالمتيمم قد صار طاهرًا وارتفع منع المانع للصلاة إلى أن يجد الماء، فما لم يجد الماء فالمنع زائل، إذا لم يتجدد سبب آخر يوجب الطهارة، كما يوجب طهارة الماء، وحينئذ فيكون طهورًا قبل الوقت وبعد الوقت وفي الوقت، كما كان الماء طهورًا في هذه الأحوال الثلاثة، وليس بين هذا فرق مؤثرًا إلا إذا قدر على استعمال الماء، فمن أبطله بخروج الوقت فقد خالف موجب الدليل‏.‏
    وأيضًا، فالنبي ﷺ جعل ذلك رخصة عامة لأمته، ولم يفصل بين أن يقصد التيمم بفرض أو نفل، أو تلك الصلاة أو غيرها كما لو يفصل في ذلك في الوضوء، فيجب التسوية بينهما، والوضوء قبل الوقت فيه نزاع، لكن النزاع في التيمم أشهر‏.‏
    وإذا دلت السنة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت، فكذلك الآخر، كلاهما متطهر فعل ما أمر الله به؛ ولهذا جاز عند عامة العلماء اقتداء المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، كما فعل عمرو بن العاص وأقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما فعل ابن عباس حيث وطئ جارية له ثم صلى بأصحابه بالتيمم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، ومذهب أبي

    ج/ 21 ص -361-يوسف، وغيره‏.‏ لكن محمد بن الحسن لم يجوز ذلك؛ لنقص حال المتيمم‏.‏
    وأيضًا، كان دخول الوقت وخروجه من غير تجدد سببا حادثا لا تأثير له في بطلان الطهارة الواجبة؛ إذ كان حال المتطهر قبل دخول الوقت وبعده سواء‏.‏ والشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها، فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة، لا يبطل بالأزمنة، وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع‏.‏
    فإن قيل‏:‏ هذا ينتقض بطهارة الماسح على الخفين، وطهارة المستحاضة، وذوي الأحداث الدائمة‏.‏
    قيل‏:‏ أما طهارة المسح على الخفين فليست واجبة، بل هو مخير بين المسح وبين الخلع والغسل؛ ولهذا وقتها الشارع، ولم يوقتها بدخول وقت صلاة، ولا خروجها، ولكن لما كانت رخصة ليست بعزيمة حد لها وقتًا محدودًا في الزمن، ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم؛ ولهذا لم يجز المسح في الطهارة الكبرى، ولهذا لما كانت طهارة المسح على الجبيرة عزيمة لم تتوقت بل يمسح عليها، إلى أن يحلها، ويمسح في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما يتيمم عن الحدثين الأصغر والأكبر، فإلحاق التيمم بالمسح على الجبيرة أولى من إلحاقه بالمسح على الخفين‏.‏

    ج/ 21 ص -362-وأما ذوو الأحداث الدائمة‏:‏ كالمستحاضة، فأولئك وجد في حقهم السبب الموجب للحدث، وهو خروج الخارج النجس من السبيلين، ولكن لأجل الضرورة رخص لهم الشارع في الصلاة معه، فجاز أن تكون الرخصة مؤقتة؛ ولهذا لو تطهرت المستحاضة ولم يخرج منها شيء لم تنتقض طهارتها بخروج الوقت، وإنما تنتقض إذا خرج الخارج في الوقت فإنها تصلي به إلى أن يخرج الوقت، ثم لا تصلي لوجود الناقض للطهارة بخلاف المتيمم، فإنه لم يوجد بعد تيممه ما ينقض طهارته‏.‏
    والتيمم كالوضوء فلا يبطل تيممه إلا مايبطل الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء، وهذا بناء على قولنا، وقول من وافقنا على التوقيت في مسح الخفين، وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة، فإن هذا مذهب الثلاثة‏:‏ أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏
    وأما من لم ينقض الطهارة بهذا، أو لم يوقت هذا كمالك، فإنه لا يصلح لمن قال بهذا القول المعارضة بهذا وهذا؛ فإنه لا يتوقت عنده لا هذا ولا هذا، فالتيمم أولى أن لا يتوقت‏.‏
    وقول القائل‏:‏ إن القائم إلى الصلاة مأمور بإحدى الطهارتين‏.‏
    قيل‏:‏ نعم، يجب عليه، لكن إذا كان قد تطهر قبل ذلك فقد

    ج/ 21 ص -363-أحسن، وأتي بالواجب قبل هذا، كما لو توضأ قبل هذا، فإن كونه على طهارة قبل الوقت إلى حين الوقت أحسن من أن يبقي محدثًا، وكذلك المتيمم إذا كان قد أحسن بتقديم طهارته لكونه على طهارة قبل الوقت أحسن من كونه على غير طهارة، وقد ثبت بالكتاب والسنة أنها طهارة، حتى ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى تيمم ورد عليه السلام، وقال‏:‏ ‏"‏كرهت أن أذكر الله إلا على طهر‏"‏‏.‏
    وإذا كان تطهر قبل الوقت كان قد أحسن، وأتي بأفضل مما وجب عليه، وكان كالمتطهر للصلاة قبل وقتها، وكمن أدي أكثر من الواجب في الزكاة، وغيرها، وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود، وهذا كله حسن، إذا لم يكن محظورًا، كزيادة ركعة خامسة في الصلاة‏.‏ والتيمم مع عدم الماء حسن ليس بمحرم، ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة، ولمس المصحف، وقراءة القرآن، وما ذكر من الأثر عن بعض الصحابة فبعضه ضعيف، وبعضه معارض بقول غيره، ولا إجماع في المسألة‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

    ج/ 21 ص -364-

    فَصْل
    وأما الصعيد‏:‏ ففيه أقوال، فقيل‏:‏ يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض، وإن لم يعلق بيده؛ كالزَّرْنيخ، الزرنيخ‏:‏ حجر منه أبيض وأحمر وأصفر‏.‏ والنَّوْرة، النورة‏:‏ الزهر الأبيض، والجَصّ، الجَصّ‏:‏ هو ما يطلي به، وهو معرب، وكالصخرة الملساء، فأما ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمم به‏.‏ وهو قول أبي حنيفة‏.‏ ومحمد يوافقه، لكن بشرط أن يكون مغبرًا لقوله‏:‏ ‏"منه"‏‏.‏
    وقيل‏:‏ يجوز بالأرض، وبما اتصل بها حتى بالشجر، كما يجوز عنده وعند أبي حنيفة بالحجر، والمدر، وهو قول مالك، وله في الثلج روايتان‏:‏
    إحداهما‏:‏ يجوز التيمم به، وهو قول الأوزاعي والثوري‏.‏ وقيل يجوز بالتراب والرمل، وهو أحد قولي أبي يوسف، وأحمد في إحدى الروايتين، وروي عنه أنه يجوز بالرمل عند عدم التراب‏.‏
    وقيل‏:‏ لا يجوز إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد، وهو قول أبي يوسف، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏

    ج/ 21 ص -365-واحتج هؤلاء بقوله‏:‏ ‏"فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ"‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وهذا لا يكون إلا فيما يعلق بالوجه وإلىد، والصخر لا يعلق لا بالوجه ولا باليد واحتجوا بأن ابن عباس قال‏:‏ الصعيد الطيب تراب الحرث، واحتجوا بقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏جعلت لي الأرض مسجدًا وجعلت تربتها طهورًا‏"‏ قالوا‏:‏ فعم الأرض بحكم المسجد، وخص تربتها وهو ترابها بحكم الطهارة‏.‏
    قالوا‏:‏ ولأن الطهارة بالماء اختصت من بين سائر المائعات بما هو ماء في الأصل، فكذلك طهارة التراب تختص بما هو تراب في الأصل، وهما الأصلان اللذان خلق منهما آدم‏:‏ الماء، والتراب‏.‏ وهما العنصران البسيطان، بخلاف بقية المائعات والجامدات، فإنها مركبة‏.‏
    واحتج الأولون بقوله تعالى‏:‏
    ‏"صَعِيدًا"‏ قالوا‏:‏ والصعيد هو الصاعد على وجه الأرض، وهذا يعم كل صاعد، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏"وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا"‏ ‏[‏الكهف‏:‏8‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا"‏[‏الكهف‏:‏ 40‏]‏‏.‏ واحتج من لم يخص الحكم بالتراب بأن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏فعنده مسجده وطهوره‏"‏، فهذا يبين أن المسلم في أي موضع كان عنده مسجده وطهوره‏.‏

    ج/ 21 ص -366-ومعلوم أن كثيرًا من الأرض ليس فيها تراب حرث، فإن لم يجز التيمم بالرمل كان مخالفًا لهذا الحديث، وهذه حجة من جوز التيمم بالرمل دون غيره، أو قرن بذلك السبخة؛ فإن من الأرض ما يكون سبخة‏.‏ واختلاف التراب بذلك كاختلافه بالألوان، بدليل قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوره على قدر تلك القبضة‏:‏ جاء منهم الأسود، والأبيض وبين ذلك، وجاء منهم السهل والحزن وبين ذلك، ومنهم الخبيث والطيب، وبين ذلك‏"‏‏.‏
    وآدم إنما خلق من تراب، والتراب الطيب والخبيث‏:‏ الذي يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا، يجوز التيمم به فعلم أن المراد بالطيب الطاهر، وهذا بخلاف الأحجار والأشجار، فإنها ليست من جنس التراب، ولا تعلق باليد، بخلاف الزرنيخ والنورة فإنها معادن في الأرض، لكنها لا تنطبع كما ينطبع الذهب والفضة والرصاص والنحاس‏.‏

    ج/ 21 ص -367-قال الشيخ الإمام العالم مفتي الأنام، المجتهد الفقيه الإمام‏:‏ أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه‏:‏
    قول الله عز وجل‏:‏
    ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ‏.‏
    هذا الخطاب يقتضي‏:‏ أن كل قائم إلى الصلاة فإنه مأمور بما ذكر من الغسل‏.‏ والمسح‏.‏ وهو الوضوء‏.‏
    وذهبت طائفة‏:‏ إلى أن هذا عام مخصوص‏.‏

    ج/ 21 ص -368-

    وذهبت طائفة‏:‏ إلى أنه يوجب الوضوء على كل من كان متوضئًا وكلا القولين ضعيف‏.‏
    فأما الأولون‏:‏ فإن منهم من قال‏:‏ المراد بهذا‏:‏ القائم من النوم وهذا معروف عن زيد بن أسلم، ومن وافقه من أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم‏.‏
    قالوا‏:‏ الآية أوجبت الوضوء على النائم بهذا، وعلى المتغوط بقوله‏:‏
    ‏"أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ"‏ وعلى لامس النساء بقوله‏:‏ ‏"أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء"‏ وهذا هو الحدث المعتاد‏.‏ وهو الموجب للوضوء عندهم‏.‏
    ومن هؤلاء من قال‏:‏ فيها تقديم وتأخير‏.‏ تقديره‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
    فيقال‏:‏ أما تناولها للقائم من النوم المعتاد، فظاهر لفظها يتناوله‏.‏ وأما كونها مختصة به، بحيث لا تتناول من كان مستيقظًا وقام إلى الصلاة، فهذا ضعيف‏.‏ بل هي متناولة لهذا لفظًا ومعنى‏.‏
    وغالب الصلوات يقوم الناس إليها من يقظة، لا من نوم‏:‏

    ج/ 21 ص -369-كالعصر والمغرب والعشاء‏.‏ وكذلك الظهر في الشتاء، لكن الفجر يقومون إلىها من نوم‏.‏ وكذلك الظهرفي القائلة‏.‏ والآية تعم هذا كله‏.‏
    لكن قد يقال‏:‏ إذا أمرت الآية القائم من النوم؛ لأجل الريح التي خرجت منه بغير اختياره، فأمرها للقائم الذي خرج منه الريح في اليقظة أولى وأحرى، فتكون على هذا دلالة الآية على اليقظان بطريق تنبيه الخطاب وفحواه‏.‏ وإن قيل‏:‏ إن اللفظ عام، يتناول هذا بطريق العموم اللفظي‏.‏
    فهذان قولان متوجهان‏.‏ والآية على القولين عامة‏.‏ وتعم أيضًا القيام إلى النافلة بالليل والنهار، والقيام إلى صلاة الجنازة، كما سنبينه إن شاء الله‏.‏
    فمتي كانت عامة لهذا كله‏:‏ فلا وجه لتخصيصها‏.‏
    وقالت طائفة‏:‏ تقدير الكلام‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو قد أحدثتم‏.‏ فإن المتوضئ ليس عليه وضوء‏.‏ وكل هذا عن الشافعي رحمه الله ويوجبه الشافعي في التيمم‏.‏ فإن ظاهر القرآن يقتضي وجوب الوضوء والتيمم على كل قائم يخالف هذا‏.‏

    ج/ 21 ص -370-فإن كان قد قال هذا‏:‏ كان له قولان‏.‏
    ومن المفسرين من يجعل هذا قول عامة الفقهاء من السلف والخلف؛ لاتفاقهم على الحكم‏.‏ فيجعل اتفاقهم على هذا الحكم اتفاقًا على الإضمار، كما ذكر أبو الفرج بن الجوزي‏.‏ قال‏:‏ وللعلماء في المراد بالآية قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏
    ‏"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فصار الحدث مضمرًا في وجوب الوضوء‏.‏ وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى، وابن عباس رضي الله عنهم والفقهاء‏.‏
    قال‏:‏ والثاني، أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثًا كان أو غير محدث‏.‏
    وهذا مروي عن عكرمة وابن سيرين‏.‏
    ونقل عنهم‏:‏ أن هذا الحكم غير منسوخ‏.‏ ونقل عن جماعة من العلماء‏:‏ أن ذلك كان واجبًا بالسنة‏.‏ وهو ما روي بريدة رضي الله عنه أن النبي ﷺ، صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد‏.‏ وقال‏
    :‏ ‏"‏عمدًا فعلته يا عمر‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ أما الحكم وهو أن من توضأ لصلاة صلى بذلك

    ج/ 21 ص -371-الوضوء صلاة أخرى فهذا قول عامة السلف والخلف‏:‏ والخلاف في ذلك شاذ‏.‏ وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي ﷺ‏:‏ أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى، فإنه قد ثبت بالتواتر أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعًا، جمع بهم بين الصلاتين وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله‏.‏ ولما سلم من الظهر، صلى بهم العصر، ولم يحدث وضوءًا لا هو ولا أحد، ولا أمر الناس بإحداث وضوء، ولا نقل ذلك أحد، وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقًا‏.‏
    وهل يستحب التجديد لكل صلاة من الخمس‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ وفيه عن أحمد رحمه الله روايتان‏.‏
    وكذلك أيضًا لما قدم مزدلفة‏:‏ صلى بهم المغرب والعشاء جمعًا من غير تجديد وضوء العشاء‏.‏ وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة‏.‏ وأقام لكل صلاة إقامة‏.‏ وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم‏.‏ كلها تقتضي‏:‏ أنه هو ﷺ والمسلمون خلفه صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى، لم يحدثوا لها وضوءًا‏.‏

    ج/ 21 ص -372-وكذلك هو ﷺ قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم أنه كان يتوضأ لصلاة الليل‏.‏ فيصلي به الفجر مع أنه كان ينام حتى يغط‏.‏ ويقول‏:‏ ‏"‏تنام عيناي ولا ينام قلبي‏"‏، فهذا أمر من أصح ما يكون أنه‏:‏ كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأه للنافلة، يصلي به الفريضة‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إنه كان يتوضأ لكل صلاة‏؟‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه ﷺ صلى الظهر، ثم قدم عليه وفد عبد القيس‏.‏ فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر، ولم يحدث وضوءًا‏.‏
    وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة‏.‏ وتارة النافلة ثم الفريضة‏.‏ وتارة فريضة ثم فريضة‏.‏ كل ذلك بوضوء واحد‏.‏
    وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة‏.‏
    وكان المسلمون على عهده يتوضؤون ثم يصلون ما لم يحدثوا، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة‏.‏ ولم ينقل عنه لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ‏:‏ أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة‏.‏

    ج/ 21 ص -373-فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل‏.‏
    وأما القول بوجوبه‏:‏ فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول ﷺ، ولإجماع الصحابة‏.‏ والنقل عن على رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت؛ بل الثابت عنه خلافه‏.‏ وعلى رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا، والكذب على علي كثير مشهور، أكثر منه على غيره‏.‏
    وأحمد بن حنبل رحمه الله مع سعة علمه بآثار الصحابة والتابعين أنكر أن يكون في هذا نزاع‏.‏ وقال أحمد بن القاسم‏:‏ سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد، فقال‏:‏ لا بأس بذلك، إذا لم ينتقض وضوؤه‏.‏ ما ظننت أن أحدًا أنكر هذا‏.‏
    وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة‏.‏ قالت‏:‏ وكيف كنتم تصنعون‏؟‏ قال‏:‏ يجزئ أحدنا الوضوء، ما لم يحدث‏.‏ وهذا هو في الصلوات الخمس المفرقة‏.‏ ولهذا استحب أحمد ذلك في أحد القولين، مع أنه كان أحيانًا يصلى صلوات بوضوء واحد‏.‏ كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال‏:‏ صلى النبي ﷺ يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد، ومسح علي خفيه‏.‏ فقال له عمر‏:‏ إني

    ج/ 21 ص -374-رأيتك صنعت شيئًا لم تكن صنعته‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏عمدًا صنعته يا عمر‏"‏‏.‏
    والقرآن أيضًا يدل علي أنه لا يجب علي المتوضئ أن يتوضأ مرة ثانية من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه سبحانه قال‏:‏ ‏
    "وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًاطَيِّبًا"‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فقد أمر من جاء من الغائط، ولم يجد الماء، أن يتيمم الصعيد الطيب، فدل علي أن المجيء من الغائط يوجب التيمم‏.‏ فلو كان الوضوء واجبًا علي من جاء من الغائط ومن لم يجئ، فإن التيمم أولي بالوجوب‏.‏ فإن كثيرًا من الفقهاء يوجبون التيمم لكل صلاة‏.‏ وعلي هذا، فلا تأثير للمجيء من الغائط‏.‏ فإنه إذا قام إلى الصلاة وجب الوضوء أو التيمم، وإن لم يجئ من الغائط‏.‏ ولو جاء من الغائط، ولم يقم إلى الصلاة، لا يجب عليه وضوء ولا تيمم، فيكون ذكر المجيء من الغائط عبثًا علي قول هؤلاء‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أنه سبحانه خاطب المؤمنين‏.‏ لأن الناس كلهم يكونون محدثين فإن البول والغائط أمر معتاد لهم، وكل بني آدم محدث‏.‏ والأصل فيهم‏:‏ الحدث الأصغر‏.‏ فإن أحدهم من حين كان طفلاً قد اعتاد ذلك، فلايزال محدثًا، بخلاف الجنابة‏.‏ فإنها إنما تعرض لهم

    ج/ 21 ص -375-عند البلوغ‏.‏ والأصل فيهم‏:‏ عدم الجنابة‏.‏ كما أن الأصل فيهم‏:‏ عدم الطهارة الصغري؛ فلهذا قال‏:‏ ‏"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ"‏ثم قال‏:‏ ‏"وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"‏ فأمرهم بالطهارة الصغري مطلقًا؛ لأن الأصل‏:‏ أنهم كلهم محدثون قبل أن يتوضؤوا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وليس منهم جنب إلا من أجنب؛ فلهذا فرق سبحانه بين هذا وهذا‏.‏
    الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ الآية اقتضت وجوب الوضوء إذا قام المؤمن إلى الصلاة، فدل علي أن القيام هو السبب الموجب للوضوء‏.‏ وأنه إذا قام إلى الصلاة صار واجبًا حينئذ وجوبًا مضيقًا‏.‏ فإذا كان العبد قد توضأ قبل ذلك، فقد أدي هذا الواجب قبل تضيقه‏.‏ كما قال‏:‏ ‏
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ"‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة، وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره‏.‏ فإذا سعى إليها قبل النداء، فقد سابق إلى الخيرات، وسعى قبل تضيق الوقت‏.‏ فهل يقول عاقل‏:‏ إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء‏؟‏
    وكذلك الوضوء‏:‏ إذا كان المسلم قد توضأ للظهر قبل الزوال، أو للمغرب قبل غروب الشمس، أو للفجر قبل طلوعه، وهو إنما يقوم إلى الصلاة بعد الوقت، فمن قال‏:‏ إن عليه أن يعيد الوضوء، فهو

    ج/ 21 ص -376-بمنزلة من يقول‏:‏ إن عليه أن يعيد السعي إذا أتي الجمعة قبل النداء‏.‏
    والمسلمون علي عهد نبيهم كانوا يتوضؤون للفجر وغيرها قبل الوقت وكذلك المغرب‏.‏ فإن النبي ﷺ كان يعجلها، ويصليها إذا توارت الشمس بالحجاب‏.‏ وكثير من أصحابه كانت بيوتهم بعيدة من المسجد‏.‏ فهؤلاء لو لم يتوضؤوا قبل المغرب‏:‏ لما أدركوا معه أول الصلاة بل قد تفوتهم جميعًا لبعد المواضع‏.‏ وهو نفسه ﷺ لم يكن يتوضأ بعد الغروب، ولا من حضر عنده في المسجد، ولا كان يأمر أحدًا بتجديد الوضوء بعد المغرب‏.‏ وهذا كله معلوم مقطوع به‏.‏ وما أعرف في هذا خلافًا ثابتا عن الصحابة‏:‏ أن من توضأ قبل الوقت، عليه أن يعيد الوضوء بعد دخول الوقت‏.‏ ولا يستحب أيضًا لمثل هذا تجديد وضوء‏.‏
    وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول‏:‏ هل يستحب له التجديد‏؟‏ وأما من لم يصل به، فلا يستحب له إعادة الوضوء، بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله ﷺ، ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت‏.‏
    فقد تبين أن هذا قبل القيام قد أدى هذا الواجب قبل تضييقه، كالساعي إلى الجمعة قبل النداء، وكمن قضى الدين قبل حلوله؛ ولهذا

    ج/ 21 ص -377-قال الشافعي وغيره‏:‏ إن الصبي إذا صلى ثم بلغ لم يعد الصلاة؛ لأنها تلك الصلاة بعينها، سابق إليها قبل وقتها‏.‏ وهو قول في مذهب أحمد وهذا القول أقوى من إيجاب الإعادة‏.‏ ومن أوجبها قاسه على الحج، وبينهما فرق‏.‏ كما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
    وهذا الذي ذكرناه في الوضوء هو بعينه في التيمم؛ ولهذا كان قول العلماء‏:‏ إن التيمم كالوضوء،فهو طهور المسلم ما لم يجد الماء‏.‏ وإن تيمم قبل الوقت وتيمم للنافلة، فيصلى به الفريضة وغيرها، كما هو قول ابن عباس‏.‏ وهو مذهب كثير من العلماء أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين عن أحمد‏.‏
    والقول الآخر وهو التيمم لكل صلاة هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد، وهو قول لم يثبت عن غيره من الصحابة كما قد بسط في موضعه‏.‏
    فالآية محكمة ولله الحمد‏.‏ وهي على ما دلت عليه، من أن كل قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء‏.‏ فإن كان قد توضأ قبل ذلك فقد أحسن وفعل الواجب قبل تضييقه، وسارع إلى الخيرات، كمن سعى إلى الجمعة قبل النداء‏.‏
    فقد تبين أن الآية ليس فيها إضمار ولا تخصيص، ولا تدل على

    ج/ 21 ص -378-وجوب الوضوء مرتين‏.‏ بل دلت على الحكم الثابت بالسنن المتواترة، وهو الذي عليه جماعة المسلمين، وهو وجوب الوضوء على المصلى، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ‏"‏ فقال رجل من حضرموت‏:‏ ما الحدث يا أبا هريرة‏؟‏ قال‏:‏ فساء أو ضراط‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول‏"‏‏.‏
    وهذا يوافق الآية الكريمة‏.‏ فإنه يدل على أنه لابد من الطهور، ومن كان علي وضوء فهو علي طهور، وإنما يحتاج إلى الوضوء من كان محدثًا، كما قال‏:‏ ‏
    "‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتي يتوضأ‏"‏، وهو إذا توضأ ثم أحدث، فقد دلت الآية علي أمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة، وإذا كان قد توضأ، فقد فعل ما أمر به‏.‏ كقوله‏:‏ لا تصلى إلا بوضوء‏.‏ أو لا تصلى حتى تتوضأ ونحو ذلك‏.‏ مما بين أنه مأمور بالوضوء لجنس الصلاة، الشامل لأنواعها وأعيانها‏.‏ ليس مأمورًا لكل نوع أو عين بوضوء غير وضوء الآخر‏.‏ ولا في اللفظ ما يدل على ذلك‏.‏
    لكن هذا الوجه لا يدل على تقدم الوضوء على الجنس، كمن أسلم

    ج/ 21 ص -379-فتوضأ قبل الزوال أو الغروب، أو كمن أحدث فتوضأ قبل دخول الوقت، بخلاف الوجه الذي قبله، فإنه يتناول هذا كله‏.
    فَصْل
    وقوله تعالى‏:‏ ‏
    "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، يقتضي وجوب الوضوء علي كل مصل مرة بعد مرة، فهو يقتضي التكرار، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الطهارة‏.‏ وقد دلت عليه السنة المتواترة، بل هو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين عن الرسول ﷺ‏:‏ أنه لم يأمرنا بالوضوء لصلاة واحدة، بل أمر بأن يتوضأ كلما صلى‏.‏ ولو صلى صلاة بوضوء، وأراد أن يصلي سائر الصلوات بغير وضوء‏:‏ استتيب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏
    لكن المقصود هنا‏:‏ دلالة الآية عليه، وذلك من لفظ ‏[‏الصلاة‏]‏ فإن ‏[‏الصلاة‏]‏ هنا اسم جنس‏.‏ ليس المراد صلاة واحدة‏.‏ فقد أمر إذا قام إلى جنس الصلاة أن يتوضأ‏.‏ والجنس يتناول جميع ما يصليه من الصلوات في جميع عمره‏.‏
    فإن قيل‏:‏ هذا يقتضي عموم الجنس، فمن أين التكرار‏؟‏ فإذا

    ج/ 21 ص -380-قام إلى أي صلاة توضأ، لكن من أين أنه إذا قام إليها يومًا آخر يتوضأ‏؟‏
    قيل‏:‏ لأنه في هذا اليوم الثاني قائم إلى الصلاة، فهو مأمور بالوضوء إذا قام إلى مسمي الصلاة، فحيث وجد قيام إلى مسمي الصلاة فهو مأمور بالوضوء متي وجد ذلك‏.‏ فعليه الوضوء‏.‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏
    "أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏، فالمراد‏:‏ جنس الدلوك، فهو مأمور بإقامة الصلاة له‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏"وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا"‏ ‏[‏طه‏:‏ 130‏]‏، فهو متناول لكل طلوع وغروب، وليس المراد طلوعًا واحدًا، فكأنه قال‏:‏ قبل كل طلوع لها، وقبل كل غروب‏.‏ وأقم الصلاة عند كل دلوك، وكل صلاة يقوم إليها متوضئًا لها‏.‏
    وقد تنازع الناس في الأمر المطلق‏:‏ هل يقتضي التكرار‏؟‏ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره‏.‏
    قيل‏:‏ يقتضيه، كقول طائفة منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل‏.‏
    وقيل‏:‏ لا يقتضيه، كقول كثير منهم أبو الخطاب‏.‏
    وقيل‏:‏ إن كان معلقًا بسبب اقتضي التكرار، وهذا هو المنصوص عن أحمد كآية الطهارة والصلاة‏.‏

    ج/ 21 ص -381-فإن قيل‏:‏ فهذا لا يتكرر في الطلاق والعتق المعلق‏.‏
    قيل‏:‏ لأن عتق الشخص الواحد لا يتكرر‏.‏ وكذلك الطلاق المعلق نفسه لا يتكرر، بل الطلقة الثانية حكمها غير حكم الأولي‏.‏ وهو محدود بثلاث‏.‏ ولكن إذا قال الناذر‏:‏لله علي إن رزقني الله ولدًا أن أعتق عنه‏.‏ وإذا أعطاني مالاً أن أزكيه، أو أتصدق بعشرة‏:‏ تكرر، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    فَصْل
    قوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء"‏الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ هذا مما أشكل على بعض الناس‏.‏
    فقال طائفة من الناس‏:‏ ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو، وجعلوا التقدير‏:‏ وجاء أحد منكم من الغائط، ولامستم النساء‏.‏
    قالوا‏:‏ لأن من مقتضي ‏[‏أو‏]‏ أن يكون كل من المرض والسفر موجبًا للتيمم؛ كالغائط والملامسة‏.‏ وهذا مخالف لمعني الآية،

    ج/ 21 ص -382-فإن ‏[‏أو‏]‏ ضد الواو، والواو‏:‏ للجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه‏.‏
    وأما معني‏:‏ ‏[‏أو‏]‏ فلا يوجب الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، بل يقتضي إثبات أحدهما‏.‏ لكن قد يكون ذلك مع إباحة الآخر كقوله‏:‏ جالس الحسن أو ابن سيرين؛ وتعلم الفقه أو النحو، ومنه خصال الكفارة يخير بينها، ولو فعل الجميع جاز‏.‏ وقد يكون مع الحصر، يقال للمريض‏:‏ كلُ ْهذا، أو هذا‏.‏ وكذلك في الخبر‏:‏ هي لإثبات أحدهما، إما مع عدم علم المخاطب وهو الشك أو مع علمه وهو الإيهام، كقوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ"‏[‏الصافات‏:‏ 147‏]‏، لكن المعني الذي أراده‏:‏ هو الأصح، وهو أن خطابه بالتيمم للمريض والمسافر، وإن كان قد جاء من الغائط، أو جامع‏.‏
    ولا ينبغي علي قولهم أن يكون المراد‏:‏ ألا يباح التيمم إلا مع هذين، بل التقدير‏:‏ بالاحتلام، أو حدث بلا غائط، فالتيمم هنا أولي، وهو سبحانه لما أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، أمرهم إذا كانوا جنبًا‏:‏ أن يطهروا، وفيهم المحدث بغير الغائط، كالقائم من النوم، والذي خرجت منه الريح‏.‏ ومنهم الجنب بغير جماع، بل باحتلام، فالآية عمت كل محدث وكل جنب‏.‏ فقال تعالى‏:‏
    ‏"وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فأباح التيمم للمحدث والجنب إذا

    ج/ 21 ص -383-كان مريضًا أو علي سفر، ولم يجد ماء‏.‏ والتيمم رخصة‏.‏
    فقد يظن الظان‏:‏ أنها لا تباح إلا مع خفيف الحدث والجنابة كالريح والاحتلام بخلاف الغائط والجماع، فإن التيمم مع ذلك، والصلاة معه، مما تستعظمه النفوس وتهابه‏.‏ فقد أنكر بعض كبار الصحابة تيمم الجنب مطلقًا‏.‏ وكثيرًا من الناس يهاب الصلاة مع الحدث بالتيمم، إذا كان جعل التراب طهورًا كالماء، هو مما فضل الله به محمدًا ﷺ وأمته‏.‏ ومن لم يستحكم إيمانه، لا يستجيز ذلك‏.‏
    فبين الله سبحانه أن التيمم مأمور به مع تغليظ الحدث بالغائط، وتغليظ الجنابة بالجماع‏.‏ والتقدير‏:‏ وإن كنتم مرضي أو مسافرين، أو كان مع ذلك جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
    ليس المقصود‏:‏ أن يجعل الغائط والجماع فيما ليس معه مرض أو سفر، فإنه إذا جاء أحد منكم من الغائط، أو لامس النساء، وليسوا مرضي ولا مسافرين‏.‏ فقد بين ذلك بقوله
    ‏"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ"‏ وبقوله‏:‏ ‏"وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"‏، فدلت الآية على وجوب الوضوء والغسل على الصحيح والمقيم‏.‏
    وأيضًا، فتخصيصه المجيء من الغائط والجماع، يجوز أن يكون لا يتيمم في هذه الحالة، دون ما هو أخف من ذلك، من خروج الريح ومن

    ج/ 21 ص -384-الاحتلام‏.‏ فإن الريح كالنوم، والاحتلام يكون في المنام‏.‏ فهناك يحصل الحدث والجنابة والإنسان نائم‏.‏ فإذا كان في تلك الحال يؤمر بالوضوء والغسل، فإذا حصل ذلك وهو يقظان، فهو أولى بالوجوب؛ لأن النائم رفع عنه القلم، بخلاف اليقظان‏.‏
    ولكن دلت الآية علي أن الطهارة تجب، وإن حصل الحدث والجنابة بغير اختياره، كحدث النائم واحتلامه‏.‏ وإذا دلت علي وجوب طهارة الماء في الحال، فوجوبها مع الحدث الذي حصل باختياره أو يقظته أولى، وهذا بخلاف التيمم؛ فإنه لا يلزم إذا أباح التيمم للمعذور الذي أحدث في النوم باحتلام أو ريح أن يبيحه لمن أحدث باختياره‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏
    "أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء"‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ليبين جواز التيمم لهذين‏.‏ وإن حصل حدثهما في اليقظة، وبفعلهما وإن كان غليظًا‏.‏
    ولو كانت ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو، كان تقدير الكلام‏:‏ أن التيمم لا يباح إلا بوجود الشرطين‏:‏ المرض، والسفر، مع المجيء من الغائط والاحتلام‏.‏ فيلزم من هذا ألا يباح مع الاحتلام ولا مع الحدث بلا غائط، كحدث النائم، ومن خرجت منه الريح‏.‏ فإن الحكم إذا علق بشرطين لم يثبت مع أحدهما، وهذا ليس مرادًا قطعًا، بل هو ضد

    ج/ 21 ص -385-الحق؛ لأنه إذا أبيح مع الغائط الذي يحصل بالاختيار، فمع الخفيف وعدم الاختيار أولى‏.‏
    فتبين أن معنى الآية‏:‏ وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا‏.‏ وإن كان مع ذلك قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء‏.‏ كما يقال‏:‏ وإن كنت مريضًا أو مسافرًا‏.‏ والتقدير‏:‏ وإن كنتم أيها القائمون إلى الصلاة وأنتم مرضي أو مسافرون قد جئتم من الغائط أو لامستم النساء؛ ولهذا قال من قال‏:‏ إنها خطاب للقائمين من النوم‏:‏ إن التقدير إذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
    فإنه سبحانه ذكر أولاً فعلهم بقوله‏:‏
    ‏"إِذَا قُمْتُمْ"‏ ‏"أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الثلاثة أفعال‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، حال لهم‏.‏ أي كنتم على هذه الحال، كقوله‏:‏ وإن كنتم على حال العجز عن استعمال الماء إما لعدمه، أو لخوف الضرر باستعماله فتيمموا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم‏.‏ أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
    ولكن الذي رجحناه‏:‏ أن قوله‏:‏
    ‏"إِذَا قُمْتُمْ"‏ عام‏:‏ إما لفظًا ومعنى، وإما معنى‏.‏

    ج/ 21 ص -386-وعلى هذا، فالمعنى‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة فتوضؤوا، أو اغتسلوا إن كنتم جنبًا‏.‏ وإن كنتم مرضى أو مسافرين، أو فعلتم ما هو أبلغ في الحدث جئتم من الغائط أو لامستم النساء إذ التقدير‏:‏ وإن كنتم مرضى أو مسافرين، وقد قمتم إلى الصلاة أو فعلتم مع القيام إلى الصلاة، والمرض أو السفر هذين الأمرين‏:‏ المجيء من الغائط، والجماع، فيكون قد اجتمع قيامكم إلى الصلاة والمرض والسفر وأحد هذين، فالقيام موجب للطهارة، والعذر مبيح، وهذا القيام‏.‏ فإذا قمتم وجب التيمم إن كان قيامًا مجردًا، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء‏.‏
    ولكن من الناس من يعطف قوله‏:‏
    ‏"أَوْ جَاء"‏، ‏"أَوْ لاَمَسْتُمُ"‏على قوله‏:‏ ‏"إِذَا قُمْتُمْ"‏والتقدير‏:‏ وإذا قمتم أو جاء أو لامستم‏.‏ وهذا مخالف لنظم الآية، فإن نظمها يقتضي أن هذا داخل في جزاء الشرط‏.‏ وقوله ‏:‏‏"وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ"‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فإن الذي قاله قريب من جهة المعني‏.‏ ولكن التقدير‏:‏ وإن كنتم إذا قمتم إلى الصلاة مرضي أو علي سفر، أو كان مع ذلك‏:‏ جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فهو تقسيم من مفرد ومركب‏.‏
    يقول‏:‏ إن كنتم مرضي أو علي سفر قائمين إلى الصلاة فقط بالقيام

    ج/ 21 ص -387-من النوم أو القعود المعتاد، أو كنتم مع هذا قد جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
    فقوله تعالى‏:‏
    ‏"وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ"‏خطاب لمن قيل لهم‏:‏ ‏"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ"‏، ‏"وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"‏، فالمعني‏:‏ يأيها القائم إلى الصلاة توضأ‏.‏ وإن كنت جنبًا فاغتسل‏.‏ وإن كنت مريضًا أو مسافرًا تيمم‏.‏ أو كنت مع هذا وهذا، مع قيامك إلى الصلاة وأنت محدث، أو جنب‏.‏ ومع مرضك وسفرك قد جئت من الغائط، أو لامست النساء، فتيمم إن كنت معذورًا‏.‏
    وإيضاح هذا‏:‏ أنه من باب عطف الخاص علي العام الذي يخص بالذكر لامتيازه‏.‏ وتخصيصه يقتضي ذلك‏.‏ ومثل هذا يقال‏:‏ إنه داخل في العام، ثم ذكر بخصوصه‏.‏ ويقال‏:‏ بل ذكره خاصًا يمنع دخوله في العام‏.‏ وهذا يجيء في العطف بأو، وأما بالواو‏:‏ فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ"‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ"‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، ومن هذا قوله‏:‏ ‏"إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ"‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
    وأما في ‏[‏أو‏]‏ ففي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏135‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا"‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏،

    ج/ 21 ص -388-وقوله‏:‏ ‏"وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا"‏[‏النساء‏:‏ 112‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏، فإن الجنف هو الميل عن الحق‏.‏ وإن كان عامدًا‏.‏
    قال عامة المفسرين‏:‏ ‏[‏الجنف‏]‏‏:‏ الخطأ و ‏[‏الإثم‏]‏‏:‏ العمد‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ الجنف‏:‏ الخروج عن الحق‏.‏ وقد يسمي المخطئ‏:‏ العامد‏.‏ إلا أن المفسرين علقوا ‏[‏الجنف‏]‏ على المخطئ، و ‏[‏الإثم‏]‏ علي العامد‏.‏ ومثله قوله‏:‏
    ‏"وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا"[‏الإنسان‏:‏ 42‏]‏، فإن ‏[‏الكفور‏]‏ هو الآثم أيضًا ‏.‏ لكنه عطف خاص علي عام‏.‏ وقد قيل‏:‏ هما وصفان لموصوف واحد، وهو أبلغ‏.‏ فإن عطف الصفة علي الصفة والموصوف واحد، كقوله‏:‏ ‏"الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ"‏[‏المؤمنون‏:‏ 1 - 5‏]‏، ونظائر هذا كثيرة‏.‏
    قال ابن زيد‏:‏ الآثم‏:‏ المذنب الظالم والكفور، هذا كله واحد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هو مخير في أنه يعرف الذي ينبغي ألا يطيعه بأي وصف كان من هذين؛ لأن كل واحد منهم فهو آثم، وهو كفور‏.‏

    ج/ 21 ص -389-ولم يكن للأمة من الكثرة بحيث يغلب الإثم على المعاصي‏.‏ قال‏:‏ واللفظ إنما يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة، أو كفور من المشركين‏.‏وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ ليس فيها تخيير ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو‏.‏ وكذلك قال طائفة‏:‏ منهم البغوي، وابن الجوزي‏.‏
    وقال المهدي‏:‏ أي لا تطع من أثم أو كفر‏.‏ ودخول ‏[‏أو‏]‏ يوجب ألا تطيع كل واحد منهما على انفراده‏.‏ ولو قال‏:‏ ولا تطع منهما آثمًا أو كفورًا، لم يلزم النهي إلا في حال اجتماع الوصفين‏.‏
    وقد يقال‏:‏ إن ‏[‏الكفور‏]‏ هو الجاحد للحق، وإن كان مجتهدًا مخطئًا‏.‏ فيكون هذا أعم من وجه، وهذا أعم من وجه التمسك‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ من هذا الباب‏.‏ فإنه خاطب المؤمنين‏.‏ فقال‏:‏ ‏"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ"‏ وهذا يتناول المحدثين كما تقدم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"‏، ثم قال‏:‏ وإن كنتم مع الحدث والجنابة مرضى أو على سفر، ولم تجدوا ماء فتيمموا‏.

    ج/ 21 ص -390-وهذا يتناول كل محدث، سواء كان قد جاء من الغائط أو لم يجئ، كالمستيقظ من نومه، والمستيقظ إذا خرجت منه الريح‏.‏ ويتناول كل جنب، سواء كانت جنابته باحتلام أو جماع‏.‏ فقال‏:‏ وإن كنتم محدثون جنب مرضي أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ‏.‏وهذا نوع خاص من الحدث أو لامستم النساء وهذا نوع خاص من الجنابة‏.‏
    ثم قد يقال‏:‏ لفظ ‏[‏الجنب‏]‏ يتناول النوعين، وخص المجامع بالذكر، وكذلك ‏[‏القائم إلى الصلاة‏]‏ يتناول من جاء من الغائط ومن أحدث بدون ذلك، لكن خص الجائي بالذكر، كما في قوله‏:‏
    ‏"فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا"‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏، فالآثم هو المتعمد، وتخصيصه بالذكر وإن كان دخل ليبين حكمه بخصوصه، ولئلا يظن خروجه عن اللفظ العام‏.‏ وإن كان لم يدخل فهو نوع آخر‏.‏ والتقدير‏:‏ إن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا‏.‏ وهذا معنى الآية‏.
    فصل
    وقوله‏:‏
    "أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ"[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ذكر الحدث الأصغر‏.‏ فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضى فيه الحاجة ‏.‏ وكانوا

    ج/ 21 ص -391-ينتابون الأماكن المنخفضة، وهي الغائط‏.‏ وهو كقولك‏:‏ جاء من المرحاض‏.‏ وجاء من الكنيف ونحو ذلك‏.‏ هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط‏.‏ والريح يخرج معهما‏.‏
    وقد تنازع الفقهاء‏:‏ هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءًا من الغائط‏.‏ فلا يكون على هذا نوعًا آخر‏؟‏ أو هي لا تستصحب جزءًا من الغائط، بل هي نفسها تنقض‏.‏ ونقضها متفق عليه بين المسلمين‏.‏ وقد دل عليه القرآن في قوله‏:‏ ‏
    "إِذَا قُمْتُمْ"‏ سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقًا، فإن القيام من النوم مراد على كل تقدير‏.‏ وهو إنما نقض بخروج الريح‏.‏ هذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف‏:‏ أن النوم نفسه ليس بناقض، ولكنه مظنة خروج الريح‏.‏
    وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره‏.‏ وهو قول ضعيف‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه كان ينام حتى يغط، ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ، ويقول‏:‏
    ‏"‏تنام عيناي ولا ينام قلبي‏"‏‏.‏
    فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث، ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح، لنقض كسائر النواقض‏.‏
    وأيضًا، قد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى

    ج/ 21 ص -392-تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون، وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي ﷺ‏.‏
    وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما ‏:‏أن رسول الله ﷺ شغل عن العشاء ليلة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا‏.‏ ثم رقدنا ثم استيقظنا‏.‏ ثم خرج علينا رسول الله ﷺ‏.‏ ثم قال‏:‏
    ‏"‏ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم‏"‏‏.‏
    ولمسلم عنه قال‏:‏ مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله ﷺ لصلاة العشاء الآخرة‏.‏ فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو بعضه ولا ندري أي شيء شغله، من أهله أو غير ذلك فقال حين خرج‏:‏
    ‏"‏إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة‏"‏ ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى‏.‏
    ولمسلم أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ أعتم رسول الله ﷺ ذات ليلة، حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال‏:
    ‏ إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي‏"‏‏.‏
    ففي هذه الأحاديث الصحيحة‏:‏ أنهم ناموا، وقال في بعضها‏:‏ إنهم

    ج/ 21 ص -393-رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا‏.‏ وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة، وقد طال انتظارهم وناموا‏.‏ ولم يستفصل أحدًا، لا سئل ولا سأل الناس‏:‏ هل رأيتم رؤيا‏؟‏ أو هل مكن أحدكم مقعدته‏؟‏ أو هل كان أحدكم مستندًا‏؟‏ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض‏؟‏ فلو كان الحكم يختلف لسألهم‏.‏
    وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل مع كثرة الجمع يقع هذا كله‏.‏ وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان‏.‏
    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ أعتم رسول الله ﷺ ليلة من الليالي بصلاة العشاء، فلم يخرج رسول الله ﷺ حتى قال عمر بن الخطاب‏:‏ نام النساء والصبيان‏.‏ فخرج رسول الله ﷺ، فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم‏:‏ ‏
    "‏ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم‏"‏ وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس‏.‏
    وقد خرج البخاري هذا الحديث في باب ‏"‏خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس‏"‏ وفي باب ‏
    "‏النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم‏"‏، وخرجه في باب ‏"‏وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة‏"‏ وقال فيه‏:‏ ‏"‏إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم‏"‏‏.‏

    ج/ 21 ص -394-وهذا يبين أن قول عمر‏:‏ نام النساء والصبيان، يعني والناس في المسجد ينتظرون الصلاة‏.‏
    وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة، كالذي ينتظر الجمعة إذا نام أي نوم كان لم ينتقض وضؤوه‏.‏ فإن النوم ليس بناقض‏.‏ وإنما الناقض الحدث، فإذا نام النوم المعتاد، الذي يختاره الناس في العادة كنوم الليل والقائلة فهذا يخرج منه الريح في العادة، وهو لا يدري إذا خرجت، فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها، قام دليلها مقامها‏.‏ وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة‏.‏
    وأما النوم الذي يشك فيه‏:‏ هل حصل معه ريح أم لا‏؟‏ فلا ينقض الوضوء؛ لأن الطهارة ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك‏.‏
    وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة، ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل‏.‏
    وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم‏.‏
    فإن قوله‏:‏
    ‏"‏العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء‏"‏، قد روي في السنن من حديث على بن أبي طالب ومعاوية

    ج/ 21 ص -395-رضي الله عنهما‏.‏ وقد ضعفه غير واحد‏.‏ وبتقدير صحته، فإنما فيه‏:‏ ‏"‏إذا نامت العينان استطلق الوكاء‏"‏ وهذا يفهم منه‏:‏ أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء‏.‏ ثم نفس الاستطلاق لا ينقض‏.‏ وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق‏.‏ وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضؤوه‏.‏
    وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال‏:‏ أمرنا ألا ننزع خفافنا، إذا كنا سفرًا أو مسافرين ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة‏.‏ لكن من غائط أو بول أو نوم، فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم‏.‏ ولكن فيه‏:‏ أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم، فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور‏.‏ وهو يتناول النوم الذي ينقض، ليس فيه‏:‏ أن كل نوم ينقض الوضوء‏.‏
    هذا إذا كان لفظ ‏[‏النوم‏]‏ من كلام النبي ﷺ‏.‏ فكيف إذا كان من كلام الراوي‏؟‏ وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودًا أو قيامًا في الصلاة أو غيرها، فينعس أحدهم وينام، ولم يأمر أحدًا بالوضوء في مثل هذا‏.‏ أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس، فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح، وقد لا يخرج‏:‏ فلا ينقض على أصل الجمهور، الذين يقولون‏:‏ إذا شك هل ينقض أو لا ينقض‏؟‏ أنه لا ينقض، بناء على يقين الطهارة‏.‏

    ج/ 21 ص -396-فصل
    وهو سبحانه أمرنا بالطهارتين الصغرى والكبرى، وبالتيمم على كل منهما، فقال‏
    :‏ ‏"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ"‏ فأمر بالوضوء‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"‏، فأمر بالتطهر من الجنابة، كما قال في المحيض‏:‏ ‏"وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ"‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، وقال في سورة النساء‏:‏ ‏"وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، وهذا يبين أن التطهر هو الاغتسال‏.‏
    والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا الاغتسال، وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة‏.‏ والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر، كما قال جمهور العلماء‏.‏ والمشهور في مذهب أحمد‏:‏ أن عليه نية رفع الحدث الأصغر، وكذلك ليس عليه فعل الوضوء، ولا ترتيب ولا موالاة عند الجمهور‏.‏ وهو ظاهر مذهب أحمد‏.‏
    وقيل‏:‏ لا يرتفع الحدث الأصغر إلا بهما‏.‏
    وقيل‏:‏ لا يرتفع حتى يتوضأ‏.‏ روي ذلك عن أحمد‏.‏

    ج/ 21 ص -397-والقرآن يقتضي أن الاغتسال كاف‏.‏ وأنه ليس عليه بعد الغسل من الجنابة حدث آخر‏.‏ بل صار الأصغر جزءًا من الأكبر‏.‏ كما أن الواجب في الأصغر جزء من الواجب في الأكبر فإن الأكبر يتضمن غسل الأعضاء الأربعة‏.‏
    ويدل على ذلك قول النبي ﷺ لأم عطية واللواتي غَسَّلْن ابنته‏:‏
    ‏"‏اغسلنها ثلاثا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر‏.‏ وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها‏"‏‏.‏
    فجعل غسل مواضع الوضوء جزءًا من الغسل، لكنه يقدم كما تقدم الميامن‏.‏
    وكذلك الذين نقلوا صفة غسله، كعائشة رضي الله عنها ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه‏.‏ ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل‏.‏
    فقد دل الكتاب والسنة على أن الجنب والحائض لا يغسلان أعضاء الوضوء، ولا ينويان وضوءًا، بل يتطهران ويغتسلان كما أمر الله تعالى‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"فَاطَّهَّرُواْ"‏ أراد به الاغتسال‏.‏ فدل على أن قوله في الحيض‏:‏ ‏"حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ"‏ أراد به الاغتسال، كما قاله الجمهور

    ج/ 21 ص -398-مالك والشافعي وأحمد وأن من قال‏:‏ هو غسل الفرج، كما قاله داود، فهو ضعيف‏.‏
    فصل
    قال الله عز وجل ‏:‏
    ‏"وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏
    "فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء"‏ يتعلق بقوله‏:‏ ‏"عَلَى سَفَرٍ"‏ لا بالمرض‏.‏ والمريض يتيمم وإن وجد الماء‏.‏ والمسافر إنما يتيمم إذا لم يجد الماء‏.‏ ذكر سبحانه وتعالى النوعين الغالبين‏:‏ الذي يتضرر باستعمال الماء، والذي لا يجده‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"عَلَى سَفَرٍ"‏ يعم السفر الطويل والقصير، كما قاله الجمهور‏.‏
    وقوله‏:‏‏
    "وَإِن كُنتُم مَّرْضَى"‏ كقوله في آية الخوف‏:‏‏"وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، وقوله في الإحرام‏:‏ ‏"فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ"‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏،

    ج/ 21 ص -399-وفي الصيام‏:‏ ‏"فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، ولم يوقت الله تعالى وقتًا في المرض‏.‏
    والذي عليه الجمهور‏:‏ أنه لا يشترط فيه خوف الهلاك، بل من كان الوضوء يزيد مرضه، أو يؤخر برأه، يتيمم‏.‏ وكذلك في الصيام والإحرام‏.‏ ومن يتضرر بالماء لبرد، فهو كالمريض عند الجمهور‏.‏ لكن الله ذكر الضرر العام‏.‏ وهو المرض‏.‏ بخلاف البرد‏.‏ فإنه إنما يكون في بعض البلاد لبعبض الناس الذين لا يقدرون على الماء الحار‏.‏
    وكذلك ذكر المسافر الذي لا يجد الماء، ولم يذكر الحاضر، فإن عدمه في الحضر نادر‏.‏ لكن قد يحبس الرجل وليس عنده إلا ما يكفيه لشربه كما أن المسافر قد لا يكون معه إلا ما يكفيه لشربه وشرب دوابه، فهذا عند الجمهور عادم للماء فيتيمم‏.‏
    فَصل
    وقوله‏:
    ‏ ‏"أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء"‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏‏.‏
    ذكر أعظم ما يوجب الوضوء‏.‏ وهو قضاء الحاجة‏.‏ وأغلظ ما يوجب الغسل، وهو ملامسة النساء‏.‏ وأمر كلا منهما، إذا كان

    ج/ 21 ص -400-مريضًا أو مسافرًا لا يجد الماء، أن يتيمم‏.‏ وهذا هو مذهب جمهور الخلف والسلف‏.‏
    وقد ثبت تيمم الجنب في أحاديث صحاح وحِسان، كحديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما وهو في الصحيحين‏.‏ وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه وهو في البخاري‏.‏ وحديث أبي ذر، وعمرو بن العاص، وصاحب الشجة رضي الله عنهم وهو في السنن‏.‏
    فهاتان آيتان من كتاب الله، وخمسة أحاديث عن رسول الله ﷺ‏.‏ وقد عرفت مناظرة ابن مسعود في ذلك لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما‏.‏
    ولهذا نظائر كثيرة عن الصحابة‏.‏ إذا عرفتها تعرف دلالة الكتاب والسنة عن الرجل العظيم القدر‏.‏ تحقيقا لقوله‏:‏
    ‏"فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، ولا يرد هذا النزاع إلا إلى الله والرسول المعصوم المبلغ عن الله، الذي لا ينطق عن الهوي، إن هو إلا وحي يوحي‏.‏ الذي هو الواسطة بين الله وبين عباده‏.‏

    ج/ 21 ص -401-فَصل
    ونذكر هذا على قوله‏:‏ ‏
    "أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء"‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏‏.‏
    المراد به‏:‏ الجماع‏.‏ كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من العرب‏.‏ وهو يروى عن علي رضي الله عنه وغيره‏.‏ وهو الصحيح في معنى الآية‏.‏ وليس في نقض الوضوء من مس النساء، لا كتاب ولا سنة‏.‏ وقد كان المسلمون دائمًا يمسون نساءهم‏.‏ وما نقل مسلم واحد عن النبي ﷺ‏:‏ أنه أمر أحدًا بالوضوء من مس النساء‏.‏
    وقول من قال‏:‏ إنه أراد ما دون الجماع، وإنه ينقض الوضوء، فقد روي عن ابن عمر والحسن ‏[‏باليد‏]‏ وهو قول جماعة من السلف في المس بشهوة، والوضوء منه حسن مستحب لإطفاء الشهوة، كما يستحب الوضوء من الغضب لإطفائه‏.‏ وأما وجوبه، فلا‏.‏
    وأما المس المجرد عن الشهوة، فما أعلم للنقض به أصلاً عن السلف‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏ ‏
    "أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء"‏ ‏[‏المائدة‏]‏‏.‏ لم يذكر في القرآن الوضوء

    ج/ 21 ص -402-منه، بل إنما ذكر التيمم، بعد أن أمر المحدث القائم للصلاة بالوضوء‏.‏ وأمر الجنب بالاغتسال فذكر الطهارة بالصعيد الطيب، ولابد أن يبين النوعين‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏
    "أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ"‏ بيان لتيمم هذا‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"أَوْ لاَمَسْتُمُ"‏ لم يذكر واحدًا منهما لبيان طهارة الماء‏.‏
    إذا كان قد عرف أصل هذا، فقوله‏:‏ ‏
    "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ"‏ وقوله‏:‏ ‏"وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فالآية ليس فيها إلا أن اللامس إذا لم يجد الماء يتيمم، فكيف يكون هذا من الحدث الأصغر‏؟‏ يأمر من مس المرأة أن يتيمم، وهو لم يأمره أن يتوضأ‏.‏ فكيف يأمر بالتيمم من لم يأمره بالوضوء‏؟‏ وهو إنما أمر بالتيمم من أمره بالوضوء والاغتسال‏.‏ ونظير هذا يطول، ومن تدبر الآية قطع بأن هذا هو المراد‏.‏
    فَصْل
    ودلت الآية على أن المسافر يجامع أهله، وإن لم يجد الماء، ولا يكره له ذلك كما قاله الله في الآية‏.‏ وكما دلت عليه الأحاديث؛ حديث أبي ذر وغيره‏.‏

    ج/ 21 ص -403-فَصْل
    وقوله‏:‏ ‏"فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ دليل على أن التيمم مطهر كالماء سواء‏.‏
    وكذلك ثبت في صحيح السنة أن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وصححه ورواه أبو داود والنسائي‏.‏
    وفي الصحيح عنه‏:‏ قال‏:‏
    ‏"‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏"‏‏.‏
    وهو ﷺ جعل التراب طهورًا في طهارة الحدث وطهارة الجنب‏.‏ كما قال في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏"‏إذا أتي أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما، فإن كان بهما أذي أو خبث فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور‏"‏، وقال في حديث أم سلمة‏:‏

    ج/ 21 ص -404-‏"‏ذيل المرأة يطهره ما بعده‏"‏‏.‏
    فدل على أن التيمم مطهر، يجعل صاحبه طاهرًا، كما يجعل الماء مستعمله في الطهارة طاهرًا، إن لم يكن جنبًا ولا محدثًا‏.‏ فمن قال‏:‏ إن المتيمم جنب أو محدث، فقد خالف الكتاب والسنة‏.‏ بل هو متطهر‏.‏
    وقوله في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ‏:‏ ‏"‏أصليت بأصحابك وأنت جنب‏؟‏‏"‏ استفهام‏.‏ أي هل فعلت ذلك‏؟‏ فأخبره عمرو رضي الله عنه أنه لم يفعله بل تيمم لخوفه أن يقتله البرد‏.‏ فسكت ﷺ عنه، وضحك‏.‏ ولم يقل شيئًا ‏.‏
    فإن قيل‏:‏ إن هذا إنكار عليه أنه صلى مع الجنابة، فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز‏.‏ فإنه ﷺ لم ينكر ما هو منكر، فلما أخبره أنه صلى بالتيمم‏.‏ دل على أنه لم يصل وهو جنب‏.‏
    فالحديث حجة على من احتج به، وجعل المتيمم جنبًا،ومحدثا، والله يقول‏:‏ ‏
    "وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"‏، فلم يجز الله له الصلاة حتى يتطهر‏.‏ والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة‏.‏ فكيف يكون جنبًا

    ج/ 21 ص -405-غير متطهر‏؟‏ لكنها طهارة بدل‏.‏ فإذا قدر على الماء بطلت هذه الطهارة وتطهر بالماء حينئذ؛ لأن البول المتقدم جعله محدثا‏.‏ والصعيد جعله مطهرًا، إلى أن يجد الماء‏.‏ فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم لا أن الحدث كان مستمرًا‏.‏ ثم من قال‏:‏ التيمم مبيح لا رافع، فإن نزاعه لفظي‏.‏ فإنه إن قال‏:‏ إنه يبيح الصلاة مع الجنابة والحدث، وإنه ليس بطهور، فهو يخالف النصوص‏.‏ والجنابة محرمة للصلاة‏.‏ فيمتنع أن يجتمع المبيح والمحرم على سبيل التمام‏.‏ فإن ذلك يقتضي اجتماع الضدين‏.‏ والمتيمم غير ممنوع من الصلاة‏.‏ فالمنع ارتفع بالاتفاق، وحكم الجنابة المنع‏.‏ فإذا قيل بوجوده، بدون مقتضاها وهو المنع فهذا نزاع لفظي‏.‏
    فَصْل
    وفي الآية دلالة على أن المتخلي لا يجب عليه غسل فرجه بالماء، إنما يجب الماء في طهارة الحدث بسبيله‏.‏ على أن إزالة النجو والخبث لا يتعين لها الماء، فإنه على ذلك تدل النصوص؛ إذ كان النبي ﷺ أمر فيها تارة بالماء، وتارة بغير الماء، كما قد بسط في مواضع‏.‏

    ج/ 21 ص -406-إذ المقصود هنا‏:‏ التنبيه على ما دلت عليه الآية‏.‏ فإن قوله‏:‏ "أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ"‏ نص في أنه عند عدم الماء يصلي وإن تغوط، بلا غسل‏.‏
    وقد ثبت في السنة أنه يكفيه ثلاثة أحجار وأما مع العذر فإنه قال‏:‏ ‏
    "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ"‏، وهذا يتناول كل قائم، وهو يتناول من جاء من الغائط، كما يتناول من خرجت منه الريح، فلو كان غسل الفرجين بالماء واجبًا على القائم إلى الصلاة، لكان واجبًا كوجوب غسل الأعضاء الأربعة‏.‏
    والقرآن يدل على أنه لا يجب عليه إلا ما ذكره من الغسل والمسح، وهو يدل على أن المتوضئ والمتيمم متطهر‏.‏ والفرجان جاءت السنة بالاكتفاء فيهما بالاستجمار‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏
    ‏"فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ"‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، يدل على أن الاستنجاء مستحب، يحبه الله، لا أنه واجب‏.‏ بل لما كان غير هؤلاء من المسلمين لا يستنجون بالماء ولم يذمهم على ذلك بل أقرهم‏.‏ ولكن خص هؤلاء بالمدح دل على جواز ما فعله غير هؤلاء‏.‏ وأن فعل هؤلاء أفضل، وأنه مما فضل الله به الناس بعضهم على بعض‏.‏

    ج/ 21 ص -407-فَصْل
    الترتيب في الوضوء وغيره من العبادات والعقود، النزاع فيه مشهور‏.‏
    فمذهب الشافعي وأحمد‏:‏ يجب‏.‏ ومذهب مالك وأبي حنيفة‏:‏ لا يجب‏.‏ وأحمد قد نص على وجوبه نصوصًا متعددة‏.‏ ولم يذكر المتقدمون كالقاضي، ومن قبله عنه نزاعًا‏.‏
    قال أبو محمد‏:‏ لم أر عنه فيه خلافًا‏.‏
    قال‏:‏ وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد‏:‏ أنه غير واجب‏.‏
    قلت‏:‏ هذه أخذت من نصه في القبضة للاستنشاق‏.‏ فلو أخر غسلها إلى ما بعد غسل الرجلين‏:‏ ففيه عن أحمد روايتان منصوصتان‏.‏ فإنه قال في إحدى الروايتين‏:‏ إنه لو نسيهما حتى صلى، تمضمض واستنشق، وأعاد الصلاة، ولم يعد الوضوء؛ لما في السنن عن المقدام ابن معدي كرب ؛ أنه أتي بوضوء، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا ثم تمضمض واستنشق‏.‏

    ج/ 21 ص -408-فغير أبي الخطاب فرق بينهما وبين غيرهما، بأن الترتيب إنما يجب فيما ذكر في القرآن‏.‏ وهما ليسا في القرآن‏.‏
    وأبو الخطاب ومن تبعه رأوا هذا فرقًا ضعيفًا‏.‏
    فإن الأنف والفم لو لم يكونا من الوجه لما وجب غسلهما‏.‏ ولهذا خرج الأصحاب‏:‏ أنهما من الوجه‏.‏ كما قال الخرقي وغيره‏:‏ والفم والأنف من الوجه ولأن النبي ﷺ كان يستفتح بهما غسل الوجه‏.‏ يبدأ بغسل ما بطن منه‏.‏ وقدم المضمضة؛ لأن الفم أقرب إلى الظاهر من الأنف‏.‏ ولهذا كان الأمر به أوكد‏.‏ وجاءت الأحاديث الصحيحة بالأمر به‏.‏ ثم كان النبي ﷺ يغسل سائر الوجه‏.‏
    فإذا قيل بوجوبهما مع النزاع، فهما كسائر ما نوزع فيه‏.‏ مثل البياض الذي بين العذار والأذن، فمالك وغيره يقول‏:‏ ليس من الوجه وفي النزعتين والتحذيف ثلاثة أوجه‏:‏
    قيل‏:‏ هما من الرأس ‏.‏ وقيل‏:‏ من الوجه‏.‏
    والصحيح ‏:‏ أن النزعتين من الرأس، والتحذيف من الوجه فلو نسي ذلك فهو كما لو نسي المضمضة والاستنشاق‏.‏
    فتسوية أبي الخطاب أقوى‏.‏

    ج/ 21 ص -409-وعلى هذا‏:‏ فأحمد إنما نص على من ترك ذلك ناسيًا‏.‏ ولهذا قيل له‏:‏ نسي المضمضة وحدها‏؟‏ فقال‏:‏ الاستنشاق عندي أوكد‏.‏ يعني إذا نسي ذلك وصلى‏.‏ قال‏:‏ يغسلهما، ويعيد الصلاة‏.‏ والإعادة إذا ترك الاستنشاق عنده أوكد، للأمر به في الأحاديث الصحيحة‏.‏ وكذلك الحديث المرفوع،فإن جميع من نقل وضوء النبي ﷺ أخبروا‏:‏ أنه بدأ بهما‏.‏
    وهذا حكى فعلاً واحدًا، فلا يمكن الجزم بأنه كان متعمدًا‏.‏
    وحينئذ، فليس في تأخيرهما عمدًا سنة، بل السنة في النسيان، فإن النسيان متيقن‏.‏ فإن الظاهر أنه كان ناسيًا إذا قدر الشك‏.‏ فإذا جاز مع التعمد، فمع النسيان أولى‏.‏ فالناسي معذور بكل حال، بخلاف المتعمد‏.‏ وهو القول الثالث‏.‏ وهو الفرق بين المتعمد لتنكيس الوضوء وبين المعذور بنسيان أو جهل‏.‏ وهو أرجح الأقوال‏.‏ وعليه يدل كلام الصحابة، وجمهور العلماء‏.‏
    وهو الموافق لأصول المذهب في غير هذا الموضع‏.‏ وهو المنصوص عن أحمد في الصورة التي خرج منها أبو الخطاب‏.‏
    فمن ذلك‏:‏ إذا أخل بالترتيب بين الذبح والحلق، فإن الجاهل يعذر بلا خلاف في المذهب‏.‏ وأما العالم المتعمد، فعنه روايتان‏.‏

    ج/ 21 ص -410-والسنة إنما جاءت عن النبي ﷺ ‏[‏أنه‏]‏ كان يسأل عن ذلك فيقول‏:‏‏"‏افعل، ولا حرج‏"‏؛ لأنهم قدموا وأخروا بلا علم‏.‏ لم يتعمدوا المخالفة للسنة‏.‏ وإلا فالقرآن قد جاء بالترتيب لقوله‏:‏ ‏"وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل وأحلق حتى أنحر‏"‏‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ"‏[‏الحج‏:‏ 92‏]‏، أدل على الترتيب من قوله‏:‏ ‏"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ"‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏
    لكن يقال‏:‏ قد فرقوا بأن هذه عبادة واحدة مرتبط بعضها ببعض وتلك عبادات، كالحج والعمرة والصلاة والزكاة‏.‏
    وهكذا فرق أبو بكر عبد العزيز بين الوضوء وغيره‏.‏ فقال‏:‏ ذاك كله من الحج‏:‏ الدماء والذبح والحلق والطواف‏.‏ والحج عبادة واحدة‏.‏ ولهذا متي وطئ قبل التحلل الأول فسد الحج عند الجمهور‏.‏ وهل يحصل كالدم وحده، أو كالدم والحلق‏؟‏ على روايتين‏.‏
    ومنها‏:‏ إذا نسي بعض آيات السورة في قيام رمضان، فإنه لا يعيدها، ولا يعيد ما بعدها، مع أنه لو تعمد تنكيس آيات السورة

    ج/ 21 ص -411-في الإضافة، بل دلالة الإضافة على معناه كدلالة سائر الألفاظ المضافة فكل لفظ أضيف إلى لفظ دل على معنى يختص ذلك المضاف إليه، فكما إذا قيل: يد زيد ورأسه؛ وعلمه ودينه؛ وقوله وحكمه وخبره: دل على ما يختص به وإن لم يكن دين زيد مثل دين عمرو؛ بل دين هذا الكفر ودين هذا الإسلام، ولا حكمه مثل حكمه؛ بل هذا الحكم بالجور وهذا الحكم بالعدل، ولا خبره مثل خبره؛ بل خبر هذا صدق وخبر هذا كذب، وكذلك إذا قيل: لون هذا ولن هذا كان لون كل منهما يختص به، وإن كان هذا أسود وهذا أبيض. فقد يكون اللفظ المضاف واحدا مع اختلاف الحقائق في الموضعين؛ كالسواد والبياض، وإنما يميز اللون أحدهما عن الآخر بإضافته إلى ما يميزه.
    فإن قيل: لفظ الكون والدين والخبر ونحو ذلك عند الإطلاق يعم هذه الأنواع؛ فكانت عامة؛ وتسمى متواطئة؛ بخلاف لفظ الرأس والظهر والجناح فإنها عند الإطلاق إنما تنصرف إلى أعضاء الحيوان.
    قيل فهب أن الأمر كذلك؛ ألسيت بالإضافة اختصت؟ فكانت عامة مطلقة ثم تخصصت بالإضافة أو التعريف، فهي من باب اللفظ العام إذا خص بإضافة أو تعريف. وتخصيصه بذلك كتخصيصه بالصفة والاستثناء؛ والبدل والغاية، كما يقال: اللون الأحمر والخبر الصادق

    ج/ 21 ص -412-والزهري والأوزاعي‏.‏ فيمن نسي مسح رأسه، فرأى في لحيته بللا فمسح به رأسه‏.‏ فلم يأمروه بإعادة غسل رجليه، واختاره ابن المنذر‏.‏
    وقد نقل عن علي وابن مسعود‏:‏ ما أبالي بأي أعضائي بدأت‏.‏ قال أحمد‏:‏ إنما عني به اليسرى على اليمنى؛ لأن مخرجهما من الكتاب واحد‏.‏
    ثم قال أحمد‏:‏ حدثني جرير عن قابوس عن أبيه‏:‏ أن عليًّا سئل فقيل له‏:‏ أحدنا يستعجل، فيغسل شيئًا قبل شيء‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ حتى يكون كما أمره الله تعالى‏.‏ فهذا الذي ذكره أحمد عن على يدل على وجوب الترتيب‏.‏
    وما نقله ابن المنذر في صورة النسيان‏:‏ يدل على أن الترتيب يسقط مع النسيان، ويعيد المنسي فقط‏.‏
    فدل على أن التفصيل قول على رضي الله عنه‏.‏
    وقد ذكر من أسقطه مطلقًا‏:‏ ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك‏.‏
    لكن قال أحمد وغيره‏:‏ لا نعرف لهذا أصلاً، ونقلوا في الوجوب

    ج/ 21 ص -413-عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن‏.‏ وهؤلاء أئمة التابعين‏.‏
    وصورة النسيان مرادة قطعًا‏.‏ فتبين أنها قول جمهور السلف أو جميعهم‏.‏
    والأمر المنكر‏:‏ أن تتعمد تنكيس الوضوء‏.‏ فلا ريب أن هذا مخالف لظاهر الكتاب، مخالف للسنة المتواترة‏.‏ فإن هذا لو كان جائزًا لكان قد وقع أحيانًا، أو تبين جوازه كما في ترتيب التسبيح لما قال النبي ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن‏:‏ سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله والله أكبر‏.‏ لا يضرك بأيتهن بدأت‏.‏
    ومما يدل على ذلك شرعًا ومذهبًا‏:‏ أن من نسي صلاة صلاها إذا ذكرها بالنص‏.‏
    وقد سقط الترتيب هنا في مذهب أحمد بلا خلاف‏.‏ ومذهب أبي حنيفة وغيره‏.‏
    ولكن حكي عن مالك‏:‏ أنه لا يسقط، وقاسوا ذلك على ترتيب الطهارة‏.‏

    ج/ 21 ص -414-وقول النبي ﷺ‏:‏‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها‏"‏ نص في أنه يصليها في أي وقت ذكر‏.‏ وليس عليه غير ذلك‏.‏
    وقد سلم الأصحاب‏:‏ أن ترتيب الجمع لا يسقط بالنسيان‏.‏
    وعموم الحديث يدل على سقوطه، فلو كانت المنسية هي الأولي من صلاتي الجمع، أعادها وحدها بموجب النص‏.‏ ومن أوجب إعادة الثانية فقد خالف‏.‏
    وكذلك يقال في سائر أهل الأعذار، كالمسبوق إذا أدركهم في الثانية، صلاها معهم، ثم صلى الأولى‏.‏ كما لو أدرك بعض الصلاة‏.‏ وليس ترتيب صلاته على أول الصلاة بأعظم من ترتب آخر الصلاة على أولها‏.‏
    وإذا كان هكذا سقط ما أدرك، ويقضى ما سقط، فهذا في الصلاتين أولي لاسيما وهو إذا لم يدرك من المغرب إلا تشهدا تشهد ثلاث تشهدات، كما في حديث ابن مسعود المشهور في قصة مسروق وحديثه ‏
    وهذا أصل ثابت بالنص والإجماع، يعتبر به نظائره، وهو سقوط الترتيب عن المسبوق‏.‏

    ج/ 21 ص -415-وكانوا في أول الإسلام لا يرتبون‏.‏ فيصلون ما فاتهم‏.‏ ثم يصلون مع الإمام، لكن نسخ ذلك‏.‏ وقد روي أن أول من فعله معاذ‏.‏ فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏قد سن لكم معاذ فاتبعوه‏"‏‏.‏
    والأئمة الأربعة‏:‏ على أنه يقرأ في ركعتي القضاء بالحمد وسورة‏.‏
    وكذلك لو أدرك الإمام ساجدًا سجد معه بالنص واتفاق الأئمة‏.‏
    فقد سجد قبل القيام لمتابعة الإمام وإن لم يعتد به‏.‏ لكنه لو فعل هذا عمدًا لم يجز‏.‏ فلو كبر وسجد ثم قام، لم تصح صلاته‏.‏
    لكن هذا يستدل به على أن الركعة الواحدة يجب فيها الترتيب‏.‏ فإن هذا السجود ولو ضم إليه بعد السلام ركوعًا مجردًا لم يصر ذلك ركعة، بل عليه أن يأتي بركعة بعدها سجدتان؛ لأنه أخل بالترتيب والموالاة‏.‏
    فكذلك إذا نسي الركوع حتى تشهد وسلم، ففيه قولان في المذهب‏:‏ هل تبطل صلاته‏؟‏ والمنصوص‏:‏ إن لم يطل الفصل بني على ما مضي، وهو قول الشافعي رحمه الله وغيره‏.‏
    وذهب طائفة من العلماء إلى سقوط الموالاة والترتيب في الصلاة

    ج/ 21 ص -416-مع النسيان‏.‏ فقال مكحول، ومحمد بن أسلم في المصلي ينسي سجدة أو ركعة ‏:‏يصليها متي ما ذكرها‏.‏ ويسجد للسهو‏.‏ وقال الأوزاعي لرجل نسي سجدة من صلاة الظهر، فذكرها في صلاة العصر ‏:‏ يمضي في صلاته، فإذا فرغ سجد‏.‏
    ويدل على هذا القول‏:‏ أحاديث سجود السهو، فإنها تدل على أنه يتم الصلاة، ثم يسجد للسهو، ولو مع طول الفصل‏.‏
    وأما المسبوق‏:‏ فالسجود الذي فعله مع الإمام كان لمتابعة الإمام‏.‏ ولهذا قال النبي ﷺ لأبي بكرة‏:‏
    ‏"‏زادك الله حرصًا، ولا تعد‏"‏ وهو متمكن من أن يأتي بالركعة بعد السلام فلا عذر له حتى‏.‏‏.‏‏.‏ وإذا نسي ركنًا من الأولى حتى شرع في الثانية‏.‏ ففيها قولان‏.‏
    مالك وأحمد لا يقولان بالتلفيق‏.‏ بل تلغو المنسي ركنها‏.‏ وتقوم هذه مقامها‏.‏ ولكن هل يكون ذلك بالقراءة أو بالركوع‏؟‏ فيه نزاع‏.‏
    والشافعي يقول‏:‏ ما فعله بعد الركوع المنسي، فهو لغو؛ لأن فعله في غير محله لا أن يفعل نظيره في الثانية‏.‏ فيكون هو تمام الأول،

    ج/ 21 ص -417-كما لو سلم من الصلاة، ثم ذكر‏.‏ فإن السلام يقع لغوًا‏.‏
    فأحمد ومالك يقولان‏:‏ هو إنما يقصد بما فعله أن يكون من الركعة الثانية‏.‏ لم يقصد أن يكون من الأولي، وهو إذا قرأ وركع في الركعة الثانية‏:‏ أمكن أن يجعلها هي الأولي‏.‏ فإن الترتيب بين الركعات يسقط بالعذر، فلا وجه لإبطال هذه، ولا يكون فاعلا له في غير محله، إلا إذا جعلت هذه ثانية‏.‏ فإذا جعلت الأولى، كان قد فعله في محله‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ هو قصد الثانية قبل، وقصد بالسجود فيها السجود في الثانية لرعاية ترتيبه في أبعاض الركعة بألا يجعل بعضها في ركعة غيرها، أولي من رعايتها في الركعتين‏.‏ فإن جعل الأولي ثانية يجوز للعذر، كما في المسبوق‏.‏ وأما جعل سجود الثانية تمامًا للأولى، فلا نظير له في الشرع‏.‏ وبسط هذا له مكان آخر‏.‏
    والمقصود هنا سقوط الترتيب في الوضوء بالنسيان، وكذلك سقوط الموالاة كما هو قول مالك‏.‏ وكذلك بغير النسيان من الأعذار، مثل بعد الماء‏.‏ كما نقل عن ابن عمر‏.‏ فإن الصلاة نفسها إذا جاز فيها عدم الموالاة للعذر، فالوضوء أولي‏:‏ بدليل صلاة الخوف في حديث ابن عمر، وأحاديث سجود السهو ‏.‏

    ج/ 21 ص -418-وأما حديث صاحب اللمعة، التي كانت في ظهر قدمه‏:‏ فمثل هذا لا ينسى، فدل أنه تركها تفريطًا‏.‏
    والموالاة في غسل الجنابة‏:‏ لا تجب، للحديث الذي فيه أنه‏:‏ رأى في بدنه موضعًا لم يصبه الماء‏.‏ فعصر عليه شعره‏.‏
    والأصحاب فرقوا بينه وبين الوضوء‏.‏ فإنه لا يجب ترتيبه، فكذلك الموالاة‏.‏ ومالك يوجب الموالاة، وإن لم يوجب الترتيب في الوضوء‏.‏
    وأما في الغسل، فالبدن كعضو واحد‏.‏ والعضو الواحد لا ترتيب فيه بالاتفاق‏.‏ وأما تعمد تفريق الغسل، فهو كتعمد تفريق غسل العضو الواحد‏.‏ لكن فرق بينهما، فإن غسل الجنابة كإزالة النجاسة، لا يتعدى حكم الماء محله، بخلاف الوضوء‏.‏ فإن حكمه طهارة جميع البدن، والمغسول أربعة أعضاء‏.‏ وهذا محل نظر‏.‏ والجنب إذا وجد بعض ما يكفيه استعمله‏.‏ وأما المتوضئ، ففيه قولان للأصحاب‏.‏ ومن جوز ذلك جعل الوضوء يتفرق للعذر، وجعل ما غسل يحصل به بعض الطهارة‏.‏ وكذلك الماسح على الخفين إذا خلعهما‏.‏ هل يقتصر على مسح الرجلين أو يعيد الوضوء‏؟‏ فيه قولان، هما روايتان‏.‏
    وقد قيل‏:‏ إن المأخذ هو الموالاة‏.‏ وقيل‏:‏ إن المأخذ أن

    ج/ 21 ص -419-الوضوء لا ينتقض، فإذا عاد الحدث إلى الرجل عاد إلى جميع الأعضاء، وهذا عند العذر‏:‏ فيه نزاع كما تقدم‏.‏
    وقد يكون الترتيب شرطًا لا يسقط بجهل ولا نسيان، كما في الحديث الصحيح‏:‏
    ‏"‏من ذبح قبل الصلاة فإنما هو شاة لحم‏"‏، فالذبح للأضحية‏:‏ مشروط بالصلاة قبله‏.‏ وأبو بُردة ابن نيار رضي الله عنه كان جاهلاً‏.‏ فلم يعذره بالجهل، بل أمره بإعادة الذبح‏.‏ بخلاف الذين قدموا في الحج‏:‏ الذبح على الرمي، أو الحلق على ما قبله‏.‏ فإنه قال‏:‏ ‏"‏افعل ولا حرج‏"‏ فهاتان سنتان‏:‏ سنة في الأضحية، إذا ذبحت قبل الصلاة‏:‏ أنها لا تجزئ‏.‏ وسنة في الهدي، إذا ذبح قبل الرمي جهلا‏:‏ أجزأ‏.‏
    والفرق بينهما والله أعلم أن الهدي صار نسكًا بسوقه إلى الحرم وتقليده وإشعاره‏.‏ فقد بلغ محله في المكان والزمان‏.‏ فإذا قدم جهلاً، لم يخرج عن كونه هديًا‏.‏ وأما الأضحية‏:‏ فإنها قبل الصلاة لا تتميز عن شاة اللحم‏.‏ كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من ذبح قبل الصلاة، فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله، وإنما هي نسك بعد الصلاة، كما قال تعالى‏:‏ ‏"فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ"‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏"قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي"[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏، فصار فعله قبل هذا الوقت‏:‏ كالصلاة قبل وقتها‏.‏

    ج/ 21 ص -420-فهذا وقت الأضحية وقته بعد فعل الصلاة، كما بين الرسول ﷺ ذلك في الأحاديث الصحيحة، وهو قول الجمهور من العلماء مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وغيرهم وإنما قدر وقتها بمقدار الصلاة‏:‏ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، كالخرقي‏.‏
    وفي الأضحية‏:‏ يشترط في أحد القولين أن يذبح بعد الإمام‏.‏ وهو قول مالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، ذكره أبو بكر، والحجة فيه حديث جابر في الصحيح‏.‏
    وقد قيل‏:‏ إن قوله‏:‏
    ‏"لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏1‏]‏ نزلت في ذلك وكذلك في الإفاضة من عرفة قبل الإمام قولان في مذهب أحمد‏:‏ يجب فيه دم، فهذا عند من يوجبه بمنزلة اتباع المأموم الإمام في الصلاة‏.‏
    فَصْل
    وما ذكره من نصه على قراءة ما نسي، يدل على أن الترتيب يسقط بالنسيان في القراءة‏.‏ وقد ذكر أحمد وأصحابه أن موالاة الفاتحة واجبة، وإذا تركها لعذر نسيان، قالوا واللفظ لأبي محمد ‏:‏ وإن كثر ذلك أي الفصل استأنف قراءتها إلا أن يكون المسكوت

    ج/ 21 ص -421-مأمورًا به، كالمأموم يشرع في قراءة الفاتحة ثم يسمع قراءة الإمام فينصت له‏.‏ ثم إذا سكت الإمام، أتم قراءتها وأجزأته، أومأ إليه أحمد‏.‏ وكذلك إن كان السكوت نسيانًا أو نوبا، أو لانتقاله إلى غيرها غلطًا، لم تبطل‏.‏ فإذا ذكر، أتى بما بقي منها‏.‏ فإن تمادى فيما هو فيه بعد ذكرها أبطلها‏.‏ ولزمه استئنافها‏.‏ قال‏:‏ وإن قدم آية منها في غير موضعها، أبطلها‏.‏ وإن كان غلطًا، رجع إلى موضع الغلط فأتمها‏.‏
    فلم يسقطوا الترتيب بالعذر، كما أسقطوا الموالاة، فإن الموالاة أخف‏.‏ فإنه لو قرأ بعض سورة اليوم وبعضها غدًا، جاز‏.‏ ولو نكسها، لم يجز‏.‏
    ويفرق في الترتيب بين الكلام المستقل الذي إذا أتي به وحده كان مما يسوغ تلاوته، وبين ما هو مرتبط بغيره‏.‏ فلو قال‏:
    ‏‏"صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ"‏ لم يكن هذا كلامًا مفيدًا حتى يقول‏:‏ ‏"اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"‏
    ولو قال‏:‏
    ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"‏ ثم قال‏:‏ ‏"الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2 7‏]‏، كان مفيدًا‏.‏ لكن مثل هذا لا يقع فيه أحد‏.‏ ولا يبتدئ أحد الفاتحة بمثل ذلك، لا عمدًا ولا غلطًا‏.‏ وإنما يقع الغلط فيما يحتاج فيه إلى الترتيب‏.‏ فهذا فرق بين ما ذكروه فيما ينسي من الفاتحة وما ينسي من الختمة‏.‏

    ج/ 21 ص -422-فَصْل
    ومما يبين أن الترتيب يسقط إذا احتاج إلى التكرار بلا تفريط من الإنسان، أن التيمم يجزئ بضربة واحدة، كما دل عليه الحديث الصحيح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما وهو مذهب أحمد بلا خلاف‏.‏ وهو في الصحيحين من حديث أبي موسى‏.‏ ومن حديث ابن أبزي ‏.‏
    ففي حديث ابن أبزي‏:‏ ‏"‏إنما كان يكفيك هكذا‏.‏ فضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما‏.‏ ثم مسح بهما وجهه وكفيه‏"‏ وكذلك لمسلم في حديث أبي موسى‏:‏ ‏"‏إنما كان يكفيك أن تقول هكذا‏.‏ وضرب بيديه إلى الأرض، فنفض يديه‏.‏ فمسح وجهه وكفيه‏"‏ وللبخاري‏:‏ ‏"‏ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة‏"‏‏.‏
    وقد اختلف الأصحاب في هذه الصفة‏.‏
    فقيل‏:‏ يرتب، فيمسح وجهه ببطون أصابعه، وظاهر يديه براحته‏.‏
    وقيل‏:‏ لا يجب ذلك، بل يمسح بهما وجهه وظاهر كفيه‏.‏

    ج/ 21 ص -423-وعلى الوجهين‏:‏ لا يؤخر مسح الراحتين إلى ما بعد الوجه‏.‏ بل يمسحهما‏:‏ إما قبل الوجه، وإما مع الوجه، وظهور الكفين، ولهذا قال ابن عقيل‏:‏ رأيت التيمم بضربة واحدة‏.‏
    قد أسقط ترتيبًا مستحقًا في الوضوء، وهو أنه بعد أن مسح باطن يديه مسح وجهه‏.‏
    وفي الصحيحين من حديث عمار بن ياسر من طريق أبي موسى رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏"‏إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا‏"‏ ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه‏.‏ لفظ البخاري‏:‏ وضرب بكفيه ضربة على الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بهما وجهه‏.‏
    وهذا صريح في أنه لم يمسح الراحتين بعد الوجه، ولا يختلف مذهب أحمد أن ذلك لا يجب‏.‏ وأما ظهور الكفين، فرواية البخاري صريحة في أنه مر على ظهر الكف قبل الوجه وقوله في الرواية الأخرى‏:‏ وظاهر كفيه يدل على أنه مسح ظاهر كل منهما براحة اليد الأخرى‏.‏ وقال فيها‏:‏ ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه قبل الوجه‏.‏
    وقال أبو محمد‏:‏ فرض الراحتين سقط بإمرار كل واحدة على ظهر

    ج/ 21 ص -424-الكف، وهذا إنما يوجب سقوط فرض باطن الراحة‏.‏ وأما باطن الأصابع، فعلى ما ذكره سقط مع الوجه‏.‏
    وعلى كل حال، فباطن اليدين يصيبهما التراب حين يضرب بهما الأرض، وحين يمسح بهما الوجه، وظهر الكفين‏.‏ وإن مسح إحداهما بالأخرى، فهو ثلاث مرات‏.‏
    ولو كان الترتيب واجبًا، لوجب أن يمسح باطنهما بعد الوجه‏.‏ وهذا لا يمكن مع القول بضربة واحدة‏.‏ ولو فعل ذلك للزم تكرار مسحهما مرة بعد مرة، فسقط لذلك‏.‏ فإن التيمم لا يشرع فيه التكرار، بخلاف الوضوء؛ فإنه وإن غسل يديه ابتداء، وأخذ بهما الماء لوجهه فهو بعد الوجه يغسلهما إلى المرفقين‏.‏ وهو يأخذ الماء بهما‏.‏ فيتكرر غسلهما؛ لأن الوضوء يستحب فيه التكرار في الجملة؛ لأنه طهارة بالماء‏.‏ ولكن لو لم يغسل كفيه بعد غسل الوجه، فهو محل نظر، فإنه يغرف بهما الماء، وقد قالوا‏:‏ إذا نوى الاغتراف لم يصر الماء مستعملاً‏.‏ وإن نوى غسلهما فيه، صار مستعملاً‏.‏ وإن لم ينو شيئًا ففيه وجهان‏.‏
    والصحيح‏:‏ أنه لا يصير مستعملاً، وإن نوى غسلهما فيه؛ لمجيء السنة بذلك، وهذا يقتضي أن غسلهما بنية الاغتراف لا تحصل به طهارتهما بل لابد من غسل آخر‏.‏

    ج/ 21 ص -425-والأقوى‏:‏ أن هذا لا يجب، بل غسلهما بنية الاغتراف يجزئ عن تكرار غسلهما، كما في التيمم‏.‏
    وأيضًا، فإنه يغسل ذراعيه بيديه، فيكون هذا غسلاً لباطن اليد‏.‏
    ولو قيل‏:‏ بل بقي غسلهما ابتداء، ومع الوجه يسقط فرضهما كما قيل مثل ذلك في التيمم لكان متوجهًا‏.‏ فإنه قال في الوضوء‏:‏‏
    "فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ"‏ كما قال في التيمم‏:‏ ‏"فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، ففي الوضوء أخر ذكر اليد‏.‏
    لكن الرواية التي انفرد بها البخاري، تبين أنه مسح ظهر الكفين قبل الوجه‏.‏ وسائر الروايات مجملة، تقتضي أنه لما مسح لم يمسح الراحتين بعد الوجه، فكذلك ظهر الكفين، بل مسح ظهرهما مع بطنهما؛ لأن مسحهما جملة أقرب إلى الترتيب‏.‏ فإن مسح العضو الواحد بعضه مع بعض أولى من تفريق ذلك‏.‏
    وأيضًا، فتكون الراحتان ممسوحتين مع ظهر الكف، والاعتداد بذلك أولى من الاعتداد بمسحهما مع الوجه‏.‏
    وما ذكره بعض الأصحاب من أنه يجعل الأصابع للوجه، وبطون الراحتين لظهور الكفين خلاف ما جاءت به الأحاديث‏.‏

    ج/ 21 ص -426-وليس في كلام أحمد ما يدل عليه‏.‏ وهو متعسر، أو متعذر‏.‏ وهو بدعة لا أصل لها في الشرع‏.‏ وبطون الأصابع لا تكاد تستوعب الوجه‏.‏
    وإنما احتاجوا إلى هذا ليجعلوا بعض التراب لظاهر الكفين بعد الوجه‏.‏
    فيقال لهم‏:‏ كما أن الراحتين لا يمسحان بعد الوجه بلا نزاع، فكذلك ظهر الكفين‏.‏ فإنهم وإن مسحوا ظهر الكفين بالراحتين ببطون الأصابع مسحوا مع الوجه، مسح باليدين قبل الوجه، كما قال ابن عقيل؛ ولهذا اختار المجد‏:‏ أنه لا يجب الترتيب فيه، بل يجوز مسح ظهر الكفين قبل الوجه، كما دل عليه الحديث الصحيح، والحديث الصحيح يدل على أنه يمسح الوجه وظاهر الكفين بذلك التراب، وأن مسح ظهر الكفين بما بقي في اليدين من التراب يكفي لظهر الكفين‏.‏ فإن ألفاظ الحديث كلها تتعلق بأنه يمسح وجهه بيديه، ومسح اليدين إحداهما بالأخرى، لم يجعل بعض باطن اليد للوجه وبعضه للكفين، بل بباطن اليدين مسح وجهه ومسح كفيه، ومسح إحداهما بالأخرى‏.‏
    وأجاب القاضي ومن وافقه متابعة لأصحاب الشافعي بأنه إذا تيمم لجرح في عضو، يكون التيمم فيه عند وجوب غسله، فيفصل بالتيمم بين أبعاض الوضوء، هذا فعل مبتدع، وفيه ضرر عظيم، ومشقة لا

    ج/ 21 ص -427-

    تأتي بها الشريعة‏.‏ وهذا ونحوه إسراف في وجوب الترتيب، حيث لم يوجبه الله ورسوله‏.‏ والنفاة يجوزون التنكيس لغير عذر، وخيار الأمور أوساطها، ودين الله بين الغالي والجافي‏.‏ والله أعلم‏.
    وَسُئِلَ‏:‏هل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يقوم التيمم مقام الطهارة بالماء‏.‏ فما يبيحه الاغتسال والوضوء من الممنوعات يبيحه التيمم‏.‏
    وَسُئِلَ أيضًا رَحمه الله عن رجل قد أصابته جنابة وهو في بستان، ولم يكن عنده إلا ماء بارد، ويخاف الضرر على نفسه باستعماله، والحمام بعيد منه؛ بحيث إذا وصل إلى الحمام واغتسل خرج الوقت‏.‏ فهل إذا تيمم للجنابة وتوضأ وصلى في الوقت يلزمه إعادة‏؟‏ وهل يأثم بذلك أو يأثم إذا تيمم‏؟‏ وهل التيمم يقوم مقام الماء؛ فيجوز له التيمم لنافلة ويصلي بها فريضة، أو يصلي فريضتين في وقتين بتيمم واحد‏؟‏

    ج/ 21 ص -428-فأجاب‏:‏
    الحمد للَّه رب العالمين، يجب على كل مسلم أن يصلي الصلوات الخمس في مواقيتها، وليس لأحد قط أن يؤخر الصلاة عن وقتها، لا لعذر، ولا لغير عذر‏.‏ لكن العذر يبيح له شيئين‏:‏ يبيح له ترك ما يعجز عنه، ويبيح له الجمع بين الصلاتين‏.‏
    فما عجز عنه العبد من واجبات الصلاة سقط عنه‏.‏ قال
    الله تعالى‏:‏ ‏
    "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، ‏"لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏‏.‏ وقال لما ذكر آية الطهارة ‏:‏ ‏"مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ"‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقد روي في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه‏.‏ وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏.‏
    فالمريض يصلى على حسب حاله‏.‏ كما قال النبي ﷺ لعمران بن حصين‏:‏
    ‏"‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا‏.‏ فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏‏.‏ وسقط عنه ما يعجز عنه من قيام، وقعود، أو تكميل الركوع والسجود، ويفعل ما يقدر عليه‏.‏ فإن قدر على الطهارة بالماء تطهر، وإذا عجز عن ذلك؛ لعدم الماء، أو خوف الضرر باستعماله تيمم وصلى ولا إعادة عليه؛ لما يتركه من القيام والقعود باتفاق العلماء، وكذلك لا إعادة إذا صلى بالتيمم باتفاقهم، ولو كان في بدنه نجاس

    ج/ 21 ص -429-لا يمكنه إزالتها صلى بها ولا إعادة عليه أيضًا عند عامة العلماء‏.‏
    ولو لم يجد إلا ثوبًا نجسًا فقيل‏:‏ يصلى عريانًا‏.‏ وقيل‏:‏ يصلى ويعيد‏.‏ وقيل‏:‏ يصلى في الثوب النجس ولا يعيد‏.‏ وهو أصح أقوال العلماء‏.‏
    وكذلك المسافر إذا لم يقدر على استعمال الماء صلى بالتيمم‏.‏ وقيل‏:‏ يعيد في الحضر‏.‏ وقيل‏:‏ يعيد في السفر‏.‏ وقيل‏:‏ لا إعادة عليه لا في الحضر ولا في السفر‏.‏ وهو أصح أقوال العلماء‏.‏ فالصحيح من أقوالهم أنه لا إعادة على أحد فعل ما أمر به بحسب الاستطاعة، وإنما يعيد من ترك واجبًا يقدر عليه‏.‏ مثل من تركه لنسيانه، أو نومه‏.‏ كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك‏"‏ وقد أمر النبي ﷺ من توضأ وترك لمعة لم يصبها الماء من قدمه يعيد الوضوء والصلاة ‏.‏
    وما ترك لجهله بالواجب، مثل من كان يصلى بلا طمأنينة، ولا يعلم أنها واجبة، فهذا قد اختلفوا فيه‏:‏ هل عليه الإعادة بعد خروج الوقت أو لا‏؟‏ على قولين معروفين‏.‏ وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، والصحيح أن مثل هذا لا إعادة عليه‏:‏ فإن النبي ﷺ قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال للأعرابى المسىء في

    ج/ 21 ص -430-صلاته‏:‏ ‏"‏اذهب فصل فإنك لم تصل مرتين أو ثلاثًا فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني ما يجزيني في صلاتي‏"‏‏.‏ فعلمه النبي ﷺ الصلاة بالطمأنينة، ولم يأمره بإعادة ما مضى قبل ذلك الوقت، مع قوله‏:‏ والذى بعثك بالحق لا أحسن غير هذا‏.‏ ولكن أمره أن يعيد تلك الصلاة؛ لأن وقتها باق‏.‏ فهو مأمور بها أن يصليها في وقتها‏.‏ وأما ما خرج وقته من الصلاة فلم يأمره بإعادته مع كونه قد ترك بعض واجباته؛ لأنه لم يكن يعرف وجوب ذلك عليه‏.‏
    وكذلك لم يأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقضي ما تركه من الصلاة؛ لأجل الجنابة؛ لأنه لم يكن يعرف أنه يجوز الصلاة بالتيمم‏.‏
    وكذلك المستحاضة قالت له‏:‏ إني أُسْتَحَاض حيضة شديدة منكرة تمنعني الصوم والصلاة فأمرها أن تتوضأ لكل صلاة، ولم يأمرها بقضاء ما تركته‏.‏
    وكذلك الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لأحدهم الحبال البيض من الحبال السود، أكلوا بعد طلوع الفجر ولم يأمرهم بالإعادة، فهؤلاء كانوا جهالاً بالوجوب، فلم يأمرهم بقضاء ما تركوه في حال الجهل، كما لا يؤمر الكافر بقضاء ما تركه في حال

    ج/ 21 ص -431-كفره وجاهليته، بخلاف من كان قد علم الوجوب، وترك الواجب نسيانًا، فهذا أمره به إذا ذكره‏.‏
    وأمر النائم من حين يستيقظ، فإنه حين النوم لم يكن مأمورًا بالصلاة، فلهذا كان النائم إذا استيقظ قرب طلوع الشمس يتوضأ ويغتسل، وإن طلعت الشمس عند جمهور العلماء كالشافعى وأحمد وأبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك بخلاف من كان مستيقظًا والوقت واسع، مثل الذى يكون نائمًا في بستان أو قرية والماء بارد يضره، والحمام بعيد منه إن خرج إليه ذهب الوقت، فإنه يتيمم ويصلى في الوقت، ولا يؤخر الصلاة بعد خروج الوقت‏.‏
    وكذلك لو كان في المصر وقد تعذر عليه دخول الحمام؛ إما لكونه لم يفتح، أو لبعدها عنه، أو لكونه ليس معه ما يعطى الحمامى أجرته ونحو ذلك، فإنه يصلى بالتيمم؛ لأن الصلاة بالتيمم فرض إذا عجز عن الماء لعدم، أو لخوف الضرر باستعماله، ولا إعادة على أحد من هؤلاء، ففي كثير من الضرر لا إعادة عليه باتفاق المسلمين‏:‏ كالمريض والمسافر‏.‏ وبعض الضرر تنازع فيه العلماء‏.‏ والصحيح أنه لا إعادة على أحد صلى بحسب استطاعته كما أم

    ج/ 21 ص -432-فمن صور النزاع من عدم الماء في الحضر، ومن تيمم لخشية البرد‏.‏ وكذلك سائر من ترك واجبًا لعذر نادر غير متصل، فإنه تجب عليه الإعادة عند الشافعى وأحمد في إحدى الروايتين، ولا تجب عليه الإعادة عند مالك، وأكثر العلماء، وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏
    وإذا فوت الصلاة حتى خرج الوقت بأن يؤخر صلاة الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، فإنه يأثم بذلك‏.‏ كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏
    ‏"‏من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله‏"‏ وقد جوز بعض العلماء تأخير الصلاة في بعض الأوقات كحال المسايفة‏.‏ كقول أبى حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏
    والذى عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز تأخير الصلاة بحال، وهو قول مالك والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، لكن يجوز الجمع بين الصلاتين لعذر عند أكثر العلماء، كما جمع النبي ﷺ بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، والجمع في هذين الموضعين ثابت بالسنة المتواترة، واتفاق العلماء‏.‏ وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يجمع في السفر إذا جد به السير، وأنه صلى بالمدينة ثمانيًا جمعًا الظهر والعصر، وسبعًا المغرب والعشاء، أراد بذلك ألا يحرج أمته‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"‏[‏الحج‏:‏ 78‏]

    ج/ 21 ص -433-فلهذا كان مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء كطائفة من أصحاب مالك وغيره‏:‏ أنه يجوز الجمع بين الصلاتين إذا كان عليه حرج في التفريق، فيجمع بينهما المريض، وهو مذهب مالك وطائفة من أصحاب الشافعي، ويجوز الجمع بين المغرب والعشاء في المطر عند الجمهور كمالك، والشافعي، وأحمد وقال أحمد‏:‏ يجمع إذا كان له شغل‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ إذا كان له عذر يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز الجمع‏.‏
    فمذهب فقهاء الحجاز، وفقهاء الحديث كمالك، والشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وأبي ثور، وابن المنذر، وغيرهم يجوز الجمع بين الصلاتين في الجملة، ولا يجوز التفويت بأن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، وصلاة الليل إلى النهار‏.‏
    ومذهب طائفة من فقهاء الكوفة كأبي حنيفة وغيره، أنه لا يجوز الجمع إلا بعرفة، ومزدلفة، وكذلك إذا تعذر فعلها في الوقت أخرها عن الوقت، وقول من أمر بالجمع بين الصلاتين من غير تفويت أرجح من قول من أمر بالتفويت، ولم يأمر بالجمع فإن الكتاب والسنة يدلان على أن اللّه أمر بفعل الصلاة في وقتها، وأمر بالمحافظة عليها‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ هذه نزلت

    ج/ 21 ص -434-ناسخة لتأخير الصلاة يوم الخندق‏.‏ وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏صلوا الصلاة لوقتها‏"‏‏.
    وقد دل الكتاب والسنة على أن المواقيت ‏[‏خمسة‏]‏ في حال الاختيار، وهي‏:‏ ‏[‏ثلاثة‏]‏ في حال العذر، ففي حال العذر إذا جمع بين الصلاتين‏:‏ بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فإنما صلى الصلاة في وقتها، لم يصل واحدة بعد وقتها، ولهذا لم يجب عليه عند أكثر العلماء أن ينوي الجمع، ولا ينوي القصر‏.‏ وهذا قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في نصوصه المعروفة، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز‏.‏
    ولهذا كان عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد إذا طهرت الحائض في آخر النهار صلت الظهر والعصر جميعًا، وإذا طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء جميعًا، كما نقل ذلك عن عبد الرحمن ابن عوف، وأبي هريرة، وابن عباس؛ لأن الوقت مشترك بين الصلاتين في حال العذر، فإذا طهرت في آخر النهار فوقت الظهر باق، فتصليها قبل العصر‏.‏ وإذا طهرت في آخر الليل فوقت المغرب باق في حال العذر، فتصليها قبل العشاء‏.‏
    ولهذا ذكر اللّه المواقيت تارة خمسًا، ويذكرها ثلاثًا تارة،

    ج/ 21 ص -435-كقوله‏:‏ ‏"وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ"‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏‏.‏ وهو وقت المغرب والعشاء‏.‏ وكذلك قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ والدلوك هو الزوال، وغسق الليل هو اجتماع ظلمة الليل، وهذا يكون بعد مغيب الشفق‏.‏ فأمر اللّه بالصلاة من الدلوك إلى الغسق، فرض في ذلك الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ودل ذلك على أن هذا كله وقت الصلاة‏.‏ فمن الدلوك إلى المغرب وقت الصلاة، ومن المغرب إلى غسق الليل وقت الصلاة‏.‏ وقال‏:‏ ‏"وَقُرْآنَ الْفَجْرِ"‏؛ لأن الفجر خصت بطول القراءة فيها، ولهذا جعلت ركعتين في الحضر والسفر، فلا تقصر ولا تجمع إلى غيرها، فإنه عوض بطول القراءة فيها عن كثرة العدد ‏.
    فصل
    وأما التيمم لكل صلاة، ولوقت كل صلاة، ولا يصلي الفرض بالتيمم للنافلة؛ لأن التيمم طهارة ضرورية، والحكم المقدر بالضرورة مقدر بقدرها، فلا يتيمم قبل الوقت، ولا يبقى بعده‏.‏ وهو مبيح للصلاة لا رافع للحدث؛ لأنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله من غير تجدد حدث، فعلم أن الحدث كان باقيًا، وإنما أبيح للضرورة،

    ج/ 21 ص -436-فلا يستبيح إلا ما نواه‏.‏ فهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد‏.‏
    وقيل‏:‏ بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقًا، يستبيح به كما يستباح بالماء، ويتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده‏.‏ وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة، كما أنه إذا توضأ لنافلة صلى به الفريضة‏.‏ وهذا قول كثير من أهل العلم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية‏.‏ وقال أحمد‏:‏ هذا هو القياس‏.‏
    وهذا القول هو الصحيح، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار؛ فإن اللّه جعل التيمم مطهرًا كما جعل الماء مطهرًا‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏
    "فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ"‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ فأخبر تعالى أنه يريد أن يطهرنا بالتراب، كما يطهرنا بالماء‏.‏
    وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏فضلنا على الناس بخمس‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأحلت لنا الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي‏.‏ وجعلت لي الأرض مسجدًا، وطهورًا‏"‏ وفي لفظ‏:‏ "فأيما رجل أدركته الصلاة من أمتي فعنده مسجده وطهوره"،

    ج/ 21 ص -437-وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة‏.‏ وبعثت إلى الناس عامة‏"‏ وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه ﷺ قال‏:‏ ‏"‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدًا، وتربتها لنا طهورًا‏"‏‏.‏
    فقد بين ﷺ ‏:‏ أن اللّه جعل الأرض لأمته طهورًا، كما جعل الماء طهورًا‏.‏
    وعن أبي ذر قال‏:‏ قال النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير‏"‏ قال الترمذى ‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ فأخبر أن اللّه جعل الصعيد الطيب طَهُور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏
    فمن قال‏:‏ أن التراب لا يطهر من الحدث، فقد خالف الكتاب والسنة‏.‏ وإذا كان مطهرًا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيًا، مع أن اللّه طهر المسلمين بالتيمم من الحدث، فالتيمم رافع للحدث، مطهر لصاحبه، لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء، فإنه بدل عن الماء، فهو مطهر ما دام الماء متعذرًا، كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها، وكان ملك صاحبها ملكا مؤقتا إلى ظهور المالك، فإنه

    ج/ 21 ص -438-كان بدلاً عن المالك، فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها‏.‏ وما ثبت بنص أو إجماع لا يطلب له نظير يقاس به، وإنما يطلب النظير لما لا نعلمه إلا بالقياس والاعتبار‏.‏ فيحتاج أن نعتبره بنظير‏.‏ وأما ما شرعه اللّه ورسوله، فعلينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا، ولا نطلب لذلك نظيرًا، مع أن الاعتبار يوافق النص‏.‏ كما قال أحمد ‏:‏ القياس أن تجعل التراب كالماء‏.‏
    وعلى هذا القول الصحيح، يتيمم قبل الوقت إن شاء ويصلي ما لم يحدث، أو يقدر على استعمال الماء‏.‏ وإذا تيمم لنفل صلى به فريضة، ويجمع بالتيمم الواحد بين فرضين، ويقضى به الفائت‏.‏
    وأصحاب القول الآخر احتجوا بآثار منقولة عن بعض الصحابة وهي ضعيفة لا تثبت، ولا حجة في شيء منها ولو ثبتت‏.‏ وقول القائل‏:‏ إنها طهارة ضرورية فتقدر بقدر الحاجة، قيل له‏:‏ نعم، والإنسان محتاج ألا يزال على طهارة، فيتطهر قبل الوقت؛ فإنه محتاج إلى زيادة الثواب، ولهذا يصلي النافلة بالتيمم باتفاق المسلمين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه تيمم لرد السلام في الحضر، وقال‏:‏
    ‏"‏إني كرهت أن أذكر اللّه إلا على طهر‏"‏، فدل على أن التيمم يكون مستحبًا تارة، وواجبًا أخرى‏.‏ أي يتيمم في وقت لا يكون التيمم واجبًا عليه أن يتيمم، وإن كان شرطًا للصلاة، والتيمم

    ج/ 21 ص -439-قبل الوقت مستحب، كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب‏.‏
    وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته، كالجنازة وصلاة العيد، وغيرهما مما يخاف فوته، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة، كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته، ولهذا يتيمم للتطوع من كان له ورد في الليل يصليه، وقد أصابته جنابة، والماء بارد يضره، فإذا تيمم وصلى التطوع، وقرأ القرآن بالتيمم كان خيرًا من تفويت ذلك‏.‏
    فقول القائل‏:‏ إنه حكم مقيد بالضرورة، فيقدر بقدرها إن أراد به ألا يفعل إلا عند تعذر الماء، فهو مسلم‏.‏ وإن أراد به أنه لا يجوز التيمم إلا إذا كان التيمم واجبًا، فقد غلط‏.‏ فإن هذا خلاف السنة، وخلاف إجماع المسلمين، بل يتيمم للواجب، ويتيمم للمستحب كصلاة التطوع، وقراءة القرآن المستحبة، ومس المصحف المستحب‏.‏
    واللّه قد جعله طهورًا للمسلمين عند عدم الماء، فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع اللّه عليهم، وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجا‏.‏ كما فعله طائفة من الناس‏.‏ أثبتوا فيه من الحرج ما هو معلوم‏.‏
    ولهذا كان الصواب أنه يجوز التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين

    ج/ 21 ص -440-ولا يجب فيه ترتيب، بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين، ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك فلا يحتاج أن يمسح راحتيه مرتين، وعلى هذا دلت السنة‏.‏ وبسط هذه المسائل في موضع آخر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل شَيْخ الإسْلام رحمه اللّه عن الرجل إذا لم يجد ماء، أو تعذر عليه استعماله لمرض، أو يخاف من الضرر من شدة البرد، وأمثال ذلك‏.‏ فهل يتيمم أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    التيمم جائز إذا عدم الماء، وخاف المرض باستعماله، كما نبه اللّه تعالى على ذلك بذكر المريض، وذكر من لم يجد الماء‏.‏ فمن كان الماء يضره بزيادة في مرضه؛ لأجل جرح به، أو مرض، أو لخشية البرد ونحو ذلك، فإنه يتيمم سواء كان جنبًا أو محدثا، ويصلي‏.‏
    وإذا جاز له الصلاة جاز له الطواف، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد‏.‏ ولا إعادة عليه إذا صلى، سواء كان في الحضر أو في السفر، في أصح قولي العلماء‏.‏
    فإن الصحيح‏:‏ أن كل من فعل ما أمر به بحسب قدرته من غير

    ج/ 21 ص -441-تفريط منه، ولا عدوان، فلا إعادة عليه، لا في الصلاة، ولا في الصيام، ولا الحج‏.‏ ولم يوجب اللّه على العبد أن يصلي الصلاة الواحدة مرتين، ولا يصوم شهرين في عام، ولا يحج حجين‏.‏ إلا أن يكون منه تفريط، أو عدوان‏.‏ فإن نسي الصلاة كان عليه أن يصليها إذا ذكرها، وكذلك إذا نسي بعض فرائضها‏:‏ كالطهارة، والركوع، والسجود‏.‏ وأما إذا كان عاجزًا عن المفروض‏:‏ كمن صلى عريانًا لعدم السترة، أو صلى بلا قراءة لانعقاد لسانه، أو لم يتم الركوع والسجود لمرضه ونحوذ لك، فلا إعادة عليه‏.‏ ولا فرق بين العذر النادر، والمعتاد، وما يدوم وما لا يدوم‏.‏
    وقد اتفق المسلمون على أن المسافر إذا عدم الماء صلى بالتيمم، ولا إعادة عليه، وعلى أن العريان إذا لم يجد سترة صلى، ولا إعادة عليه‏.‏ وعلى أن المريض يصلي بحسب حاله، كما قال النبي ﷺ لعمران بن حصين‏:‏
    "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏ ولا إعادة عليه‏.‏
    وَسُئِلَ رَحمه اللّه عن رجل يصبح جنبًا، وليس عنده ما يدخل به الحمام، ولا يمكنه أن يغتسل في بيته من أجل البرد، فهل له أن يتيمم ويصلي،

    ج/ 21 ص -442-ويقرأ القرآن أم لا‏؟‏ وهل إذا فعل ذلك تجب عليه الإعادة أم لا‏؟‏ وإذا كان عنده ما يرهنه على أجرة الحمام فهل يجب عليه ذلك أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، يجوز للرجل إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، وإن كان جنبًا‏.‏ فإذا خشي إذا اغتسل بالماء البارد أن يضره، ولا يمكنه الاغتسال بالماء الحار في بيت ولا حمام، ولا غيرهما، جاز له التيمم، ولا إعادة على الصحيح وإن أمكنه دخول الحمام بجعل، وجب عليه ذلك، إذا كان واجدًا لأجرة الحمام من غير إجحاف في ماله، كما يجب شراء الماء للطهارة‏.‏ وإذا كان ممن يمكنه أن يرهن عند الحمامي الطابية والميزب، ويوفيه في أثناء يوم، ونحو ذلك، فعله‏.‏ وإن كان في أداء أجرة الحمام ضرر كنقص نفقة عياله، وقضاء دينه، صلى بالتيمم ‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ ‏:‏ عن رجل وقع عليه غسل، ولم يكن معه في ذلك الوقت ما يدخل به الحمام، ويتعذر عليه الماء البارد لشدة برده، ثم إنه تيمم وصلى الفريضة، وله في الجامع وظيفة فقرأ فيها، ثم بعد ذلك دخل الحمام، هل يأثم أم لا ‏؟‏

    ج/ 21 ص -443-فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، لا يأثم بذلك، بل فعل ما أمر به؛ فإن من خاف إذا استعمل الماء البارد أن يحصل له صداع أو نزلة أو غير ذلك من الأمراض، ولم يمكن الاغتسال بالماء الحار، فإنه يتيمم وإن كان جنبًا ويصلي عند جماهير علماء الإسلام كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم حتى لو كان له ورد بالليل، وأصابته جنابة، والماء بارد يضره، فإنه يتيمم، ويصلي ورده التطوع، ويقرأ القرآن في الصلاة، وخارج الصلاة، ولا يفوت ورده لتعذر الاغتسال بالماء‏.‏
    وهل عليه إعادة الفريضة‏؟‏ على قولين‏:‏
    أحدهما ‏:‏ لا إعادة عليه‏.‏ وهو قول مالك، وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏
    والثاني‏:‏ عليه الإعادة، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏ هذا إذا كان في الحضر‏.‏ وأما المسافر فهو أولى ألا يعيد وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه، وكل من جازت له الصلاة بالتيمم جازت له القراءة واللبث في المسجد بطريق الأولى‏.‏
    والصحيح‏:‏ أنه لا إعادة عليه، ولا على أحد صلى على حسب

    ج/ 21 ص -444-استطاعته، وسواء كانت الجنابة من حلال أو حرام، لكن فاعل الحرام عليه جنابة، ونجاسة الذنب‏.‏ فإن تاب وتطهر بالماء، أحبه اللّه‏.‏ فإن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين‏.‏ وإن تطهر ولم يتب، تطهر من الجنابة، ولم يتطهر من نجاسة الذنب فإن تلك لا يزيلها إلا التوبة‏.‏
    وإذا لم يكن معه ما يعطى الحمامي جاز له التيمم، ويصلي بلا ريب‏.‏ وإذا لم يكن ممن ينظره الحمامي، ولم يجد ما يرهنه عنده، ولم يقبل منه فهل عليه أن يدخل بالأجرة المؤجلة‏؟‏ فيه قولان‏:‏ هما وجهان في مذهب أحمد‏.‏
    والأظهر‏:‏ أنه إذا كان عادة إظهار الحمامي له أن يغتسل في الحمام كالعادة، وإن منعه الحمامي من الدخول من غير ضرر من أن يوفيه حقه لبعض الحمامي، ونحو ذلك، دخل بغير اختيار الحمامي وأعطاه أجرته‏.‏ وإن لم يكن معه أجرة فمنعه لكونه لم يوفه حقه في الحال، ولا هو ممن يعرفه الحمامي لينظره، فهذا ليس له أن يدخل إلا برضا الحمامي، وإن طابت نفس الحمامي بأخذ ماء في الإناء، ولم تطب نفسه بأن يتطهر في دهاليز أبواب الحمام، جاز له أن يفعل ما تطيب به نفس الحمامي، دون ما لا تطيب إلا بعوض المثل‏.‏
    وإنما يجب عليه أن يشتري الماء البارد والحار، ويعطي الحمامي

    ج/ 21 ص -445-أجرة الدخول إذا كان الماء يبذل بثمن المثل، أو بزيادة لا يتغابن الناس بمثلها، مع قدرته على ذلك‏.‏
    فإن كان محتاجًا إلى ذلك لنفقته أو نفقة عياله، أو وفاء دينه الذي يطالب به، كان صرف ذلك إلى ما يحتاج إليه من نفقة، أو قضاء دين مقدمًا على صرف ذلك في عوض الماء‏.‏ كما لو احتاج إلى الماء لشرب نفسه، أو دوابه، فإنه يصرفه في ذلك، ويتيمم‏.‏ وإن كانت الزيادة على ثمن المثل لا تجحف بماله، ففي وجوب بذل العوض في ذلك قولان في مذهب أحمد بن حنبل، وغيره‏.‏ وأكثر العلماء على أنه لا يجب‏.‏ واللّه سبحانه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ ‏:‏ عن المرأة يجامعها بعلها، ولا تتمكن من دخول الحمام لعدم الأجرة وغيرها‏.‏ فهل لها أن تتيمم‏؟‏ وهل يكره لبعلها مجامعتها والحالة هذه‏؟‏ وكذلك المرأة يدخل عليها وقت الصلاة ولم تغتسل، وتخاف إن دخلت الحمام أن يفوتها الوقت، فهل لها أن تصلي بالتيمم‏؟‏ أو تصلي في الحمام‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، الجنب سواء كان رجلاً أو امرأة، فإنه إذا

    ج/ 21 ص -446-عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله‏.‏ فإن كان لا يمكنه دخول الحمام لعدم الأجرة أو لغير ذلك، فإنه يصلي بالتيمم، ولا يكره للرجل وطء امرأته كذلك، بل له أن يطأها، كما له أن يطأها في السفر، ويصليا بالتيمم‏.‏
    وإذا أمكن الرجل أو المرأة أن يغتسل ويصلي خارج الحمام فعلاً ذلك، فإن لم يمكن ذلك مثل ألا يستيقظ أول الفجر، وإن اشتغل بطلب الماء خرج الوقت، وإن طلب حطبًا يسخن به الماء، أو ذهب إلى الحمام فات الوقت فإنه يصلي هنا بالتيمم عند جمهور العلماء، إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد قالوا‏:‏ يشتغل بتحصيل الطهارة وإن فات الوقت‏.‏ وهكذا قالوا في اشتغاله بخياطة اللباس، وتعلم دلائل القبلة، ونحو ذلك‏.‏
    وهذا القول خطأ‏.‏ فإن قياس هذا القول‏:‏ أن المسافر يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت بالوضوء، وأن العريان يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باللباس‏.‏ وهذا خلاف إجماع المسلمين، بل على العبد أن يصلي في الوقت بحسب الإمكان، وما عجز عنه من واجبات الصلاة سقط عنه‏.‏
    وأما إذا استيقظ آخر الوقت، أو إن اشتغل باستقاء الماء من

    ج/ 21 ص -447-البئر، خرج الوقت، أو إن ذهب إلى الحمام للغسل خرج الوقت، فهذا يغتسل عند جمهور العلماء‏.‏ ومالك رحمه الله يقول‏:‏ بل يصلي بالتيمم محافظة على الوقت‏.‏ والجمهور يقولون‏:‏ إذا استيقظ آخر الوقت فهو حينئذ مأمور بالصلاة، فالطهارة والوقت في حقه من حين استيقظ، وهو ما يمكنه فعل الصلاة فيه‏.‏ وقد قال النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها‏"‏‏.‏ فالوقت المأمور بالصلاة فيه في حق النائم هو إذا استيقظ، لا ما قبل ذلك، وفي حق الناسي إذا ذكر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وأما إذا كانت المرأة أو الرجل يمكنه الذهاب إلى الحمام، لكن إن دخل لا يمكنه الخروج حتى يفوت الوقت، إما لكونه مقهورًا، مثل الغلام الذي لا يخليه سيده يخرج حتى يصلي‏.‏ ومثل المرأة التي معها أولادها فلا يمكنها الخروج حتى تغسلهم، ونحو ذلك‏.‏ فهؤلاء لابد لهم من أحد أمور‏:‏
    إما أن يغتسلوا ويصلوا في الحمام في الوقت، وإما أن يصلوا خارج الحمام بعد خروج الوقت، وإما أن يصلوا بالتيمم خارج الحمام‏.‏ وبكل قول من هذه الأقوال يفتي طائفة، لكن الأظهر أنهم يصلون بالتيمم خارج الحمام؛ لأن الصلاة في الحمام منهي عنها، وتفويت الصلاة حتى يخرج الوقت أعظم من ذلك‏.‏ ولا يمكنه الخروج من هذين النهيين إلا بالصلاة

    ج/ 21 ص -448-بالتيمم في الوقت خارج الحمام‏.‏
    وصار هذا كما لو لم يمكنه الصلاة إلا في موضع نجس في الوقت، أو في موضع طاهر بعد الوقت إذا اغتسل، أو يصلي بالتيمم في مكان طاهر في الوقت، فهذا أولى؛ لأن كلا من ذينك منهي عنه‏.‏
    وتنازع الفقهاء فيمن حبس في موضع نجس وصلى فيه‏:‏ هل يعيد‏؟‏ على قولين‏:‏
    أصحهما‏:‏ أنه لا إعادة عليه، بل الصحيح الذي عليه أكثر العلماء أنه إن كان قد صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان، فلا إعادة عليه، سواء كان العذر نادرًا أو معتادًا، فإن الله لم يوجب على العبد الصلاة المعينة مرتين، إلا إذا كان قد حصل منه إخلال بواجب، أو فعل محرم‏.‏ فأما إذا فعل الواجب بحسب الإمكان، فلم يأمره مرتين، ولا أمر اللّه أحدًا أن يصلي الصلاة ويعيدها، بل حيث أمره بالإعادة لم يأمره بذلك ابتداء، كمن صلى بلا وضوء ناسيًا، فإن هذا لم يكن مأمورًا بتلك الصلاة، بل اعتقاد أنه مأمور خطأ منه، وإنما أمره اللّه أن يصلي بالطهارة، فإذا صلى بغير طهارة كان عليه الإعادة، كما أمر النبي ﷺ الذي توضأ وترك موضع ظفر من قدمه لم يصبه الماء أن يعيد الوضوء والصلاة‏.‏ وكما أمر المسيء في صلاته أن يعيد الصلاة‏.‏ وكما أمر

    ج/ 21 ص -449-المصلي خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة ‏.‏
    فأما العاجز عن الطهارة، أو الستارة، أو استقبال القبلة، أو عن اجتناب النجاسة، أو عن إكمال الركوع، والسجود، أو عن قراءة الفاتحة، ونحو هؤلاء ممن يكون عاجزًا عن بعض واجباتها، فإن هذا يفعل ما قدر عليه، ولا إعادة عليه؛ كما قال تعالى ‏:‏
    ‏"فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ وكما قال النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏.‏
    وَسُئِلَ ‏:‏ عن المرأة إذا كانت بعيدة عن الحمام وحصل لها جنابة، وتخشى من الغسل في البيت من البرد، هل لها أن تتيمم وتصلي‏؟‏ وإذا أراد زوجها الجماع، وتخاف من البرد عليه وعليها‏.‏ هل له أن يتيمم‏؟‏ أو يغتسل مع القدرة وتتيمم هي‏؟‏ أم يترك الجماع‏؟‏ فإذا جامعها وأرادت الدخول إلى الحمام للتطهر، هل تتيمم وتجمع بين الصلاتين‏؟‏ أو تصلي في الحمام بالغسل‏؟‏ وهل لها إذا طهرت من الحيض ولم تغتسل أن تتيمم ويجامعها زوجها أم لا‏؟‏ وهل يحتاج التيمم للجنابة إلى وضوء

    ج/ 21 ص -450-أم لا‏؟‏ وإذا احتاج هل يقدم الوضوء، أم التيمم‏؟‏ وهل يحتاج التيمم لكل صلاة‏؟‏ أم يصلي الصلوات بتيمم واحد‏؟‏ وإذا طهرت المرأة آخر النهار أو آخر الليل وعجزت عن الغسل للبرد وغيره، هل تتيمم وتصلي‏؟‏ وهل تقضي صلاة اليوم الذي طهرت فيه‏؟‏ أو الليلة‏؟‏
    ومن أصابه جرح أو كسر وعَصَبَه هل يمسح على العصابة، أم يتيمم عن الوضوء للمجروح‏؟‏ وبعض الأعضاء يعجز عن إمرار الماء عليه بسبب الجرح أو الكسر، وهل يترك الجماع في هذه الحالة، أو يفعله ويتيمم ولو علم أن مدة المداواة تطول فيطول تيممه‏؟‏ وهل للمرأة أيضا منع الزوج من الجماع إذا كانت لا تقدر على الغسل‏؟‏ أم تطيعه وتتيمم‏؟‏ ومن وجد الحمام بعيدًا متى وصل إليه خرج الوقت هل يتيمم أم يذهب إليه ولو خرج الوقت‏؟‏ ومن خاف فوات الجماعة إذا تطهر بالماء هل يتيمم ليحصل على الجماعة، أم لا‏؟‏ ومن معه رفقة يريدون الجمع فهل الأفضل له الجمع معهم لتحصيل الجماعة‏؟‏ أم يصلي وحده في الوقت‏؟‏ وقد يكون هو إمامهم، فأيما أفضل في حقه جمعا، أم الصلاة وحده في وقت كل صلاة‏؟‏ ومن كان له صناعة يعملها هو وصناع آخر، ويشق عليه الصلاة في وقتها، ويبطل الصناع هل يجمع بين الصلاتين‏؟‏ وكذلك إذا كان في حراثة وزراعة ويشق عليه طلب الماء هل يتيمم ويصلي‏؟‏ ومن يتيمم

    ج/ 21 ص -451-هل يقرأ القرآن في غير الصلاة‏؟‏ ويصلي ورده بالليل‏؟‏ وهل للمرأة الجنب أو الحائض أن تقرأ على ولدها الصغير‏؟‏ ومن لم يجد ترابا هل يتيمم على البساط أو الحصير إذا كان فيهما غبار‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، من أصابته جنابة من احتلام أو جماع حلال أو حرام فعليه أن يغتسل ويصلي، فإن تعذر عليه الاغتسال لعدم الماء أو لتضرره باستعماله مثل أن يكون مريضًا يزيد الاغتسال في مرضه، أو يكون الهواء باردًا، وإن اغتسل خاف أن يمرض بصداع أو زكام أو نزلة فإنه يتيمم ويصلي، سواء كان رجلاً أو امرأة، وليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها، وليس للمرأة أن تمنع زوجها من الجماع، بل له أن يجامعها، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت‏.‏
    وكذلك الرجل إن قدر على الاغتسال وإلا تيمم، وله أن يجامعها قبل دخول الحمام، فإن قدرت على أن تغتسل وتصلي خارج الحمام فعلت، وإن خافت أن تفوتها الصلاة استترت في الحمام وصلت، ولا تفوت الصلاة، والجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة بالماء خير من أن يفرق بين الصلاتين بالتيمم، كما أمر النبي ﷺ المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، وجعل ذلك خيرًا من التفريق بوضوء‏.‏

    ج/ 21 ص -452-وأيضًا، فالجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية، فلأن يكون مشروعًا لتكميل الصلاة أولى، والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت‏.‏ والنبي ﷺ جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر؛ لأجل تكميل الوقوف واتصاله، وإلا فقد كان يمكنه أن ينزل فيصلي، فجمع بين الصلاتين لتكميل الوقوف، فالجمع لتكميل الصلاة أولى‏.‏
    وأيضًا، فإنه جمع بالمدينة للمطر، وهو نفسه ﷺ لم يكن يتضرر بالمطر، بل جمع لتحصيل الصلاة في الجماعة، والجمع لتحصيل الجماعة خير من التفريق والانفرد، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في الحمام، فإن أعطان الإبل والحمام نهي النبي ﷺ عن الصلاة فيهما، والجمع مشروع‏.‏ بل قد قال النبي ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها‏"‏ ثم إنه لما نام عن الصلاة انتقل، وقال‏:‏ ‏"‏هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان‏"‏ فأخر الصلاة عن الوقت المأمور به لكون البقعة حضر فيها الشيطان، وتلك البقعة تكره الصلاة فيها وتجوز، لكن يستحب الانتقال عنها، وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل وغيره‏.‏
    والحمام وأعطان الإبل مسكن الشياطين؛ ولهذا حرم الصلاة فيها، والجمع مشروع للمصلحة الراجحة‏.‏ فإذا جمع لئلا يصلي في أماكن

    ج/ 21 ص -453-الشياطين، كان قد أحسن، والمرأة إذا لم يكن يمكنها الجمع بطهارة الماء جمعت بطهارة التيمم، فإن الصلاة بالتيمم في الوقت المشروع خير من التفريق ومن الصلاة في الأماكن المنهي عنها، وإذا أمكن الرجل والمرأة أن يتوضأ ويتيمما فعلاً، فإن اقتصرا على التيمم أجزأهما في إحدى الروايتين للعلماء‏.‏
    ومذهب أبي حنيفة ومالك لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم بين الأصل والبدل بل إما هذا وإما هذا‏.‏ ومذهب الشافعي وأحمد ‏:‏ بل يغتسل بالماء ما أمكنه، ويتيمم للباقى‏.‏ وإذا توضأ وتيمم فسواء قدم هذا أو هذا، لكن تقديم الوضوء أحسن‏.‏ ويجوز أن يصلي الصلوات بتيمم واحد، كما يجوز بوضوء واحد، وغسل واحد، في أظهر قولى العلماء‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين لقول النبي ﷺ ‏:‏
    ‏"‏الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير‏"‏‏.‏
    والمرأة إذا طهرت من الحيض، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت وصلت‏.‏ فإن طهرت في آخر النهار صلت الظهر والعصر‏.‏ وإن طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء، ولا يقضي أحد ما صلاه بالتيمم‏.‏ وإذا كان الجرح مكشوفا وأمكن مسحه بالماء، فهو خير من التيمم‏.‏

    ج/ 21 ص -454-وكذلك إذا كان معصوبًا أو كسر عظمه فوضع عليه جبيرة فمسح ذلك الماء خير من التيمم، والمريض والجريح والمسكور إذا أصابته جنابة بجماع وغيره والماء يضره يتيمم ويصلي، أو يمسح على الجبيرة ويغسل سائر بدنه إن أمكنه ويصلي‏.‏
    وليس للمرأة أن تمنع زوجها الجماع، بل يجامعها، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت وصلت‏.‏ وإذا طهرت من الحيض لم يجامعها إلا بعد الاغتسال، وإلا تيممت ووطئها زوجها‏.‏ ويتيمم الواطئ حيث يتيمم للصلاة‏.‏
    وإذا دخل وقت الصلاة كطلوع الفجر، ولم يمكنه إذا اغتسل أن يصلي حتى تطلع الشمس، لكون الماء بعيدًا، أو الحمام مغلوقا، أو لكونه فقيرًا وليس معه أجرة الحمام، فإنه يتيمم ويصلي في الوقت، ولا يؤخر الصلاة حتى يفوت الوقت‏.‏ وأما إذا استيقظ وقد ضاق الوقت عن الاغتسال فإن كان الماء موجودًا، فهذا يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس عند أكثر العلماء فإن الوقت في حقه من حين استيقظ بخلاف اليقظان فإن الوقت في حقه من حين طلوع الفجر‏.‏
    ولا بد من الصلاة في وقتها، ولا يجوز تأخيرها عن الوقت لأحد أصلاً، لا بعذر، ولا بغير عذر، لكن يصلي في الوقت بحسب الإمكان

    ج/ 21 ص -455-فيصلي المريض بحسب حاله في الوقت‏.‏ كما قال النبي ﷺ لعمران بن حصين‏:‏ ‏"‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏ فيصلي في الوقت قاعدًا، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائمًا، وكذلك العراة، كالذين انكسرت بهم السفينة يصلون في الوقت عراة، ولا يؤخرونها ليصلوا في الثياب بعد الوقت‏.‏
    وكذلك من اشتبهت عليه القبلة، فيصلي في الوقت بالاجتهاد، والتقليد، ولا يؤخرها ليصلي بعد الوقت باليقين‏.‏
    وكذلك من كان عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه، لا يمكنه إزالتها حتى تفوت الصلاة، فيصلي بها في الوقت، ولا يفوت الصلاة ليصلي طاهرًا‏.‏
    وكذلك من حبس في مكان نجس، أو كان في حمام، أو غير ذلك مما نهي عن الصلاة فيه، ولا يمكنه الخروج منه حتى تفوت الصلاة، فإنه يصلي في الوقت، ولا يفوت الصلاة ليصلي في غيره‏.‏ فالصلاة في الوقت فرض بحسب الإمكان، والاستطاعة‏.‏ وإن كانت صلاة ناقصة حتى الخائف يصلي صلاة الخوف في الوقت بحسب الإمكان، ولا يفوتها ليصلي صلاة أمن بعد خروج الوقت، حتى في حال المقاتلة يصلي ويقاتل ولا يفوت الصلاة ليصلي بلا قتال، فالصلاة المفروضة في الوقت وإن كانت ناقصة خير من تفويت الصلاة بعد الوقت وإن كانت كاملة

    ج/ 21 ص -456-بل الصلاة بعد تفويت الوقت عمدًا لا تقبل من صاحبها، ولا يسقط عنه إثم التفويت المحرم، ولو قضاها باتفاق المسلمين‏.‏
    فصل
    وأما إذا خاف فوات الجنازة أو العيد، أو الجمعة، ففي التيمم نزاع‏.‏ والأظهر‏:‏ أنه يصليها بالتيمم، ولا يفوتها، وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجماعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم‏.‏
    ومذهب أحمد في إحدى الروايتين أنه يجوز التيمم للجنازة مع أنه لا يختلف قوله في أنه يجوز أن يعيدها بوضوء فليست العلة على مذهبه تعذر الإعادة، بخلاف أبي حنيفة فإنه إنما علل ذلك بتعذر الإعادة، وفرق بين الجنازة، وبين العيد والجمعة،وأحمد لا يعلل بذلك فكيف والجمعة لا تعاد‏؟‏‏!‏ وإنما تصلي ظهرا‏.‏ وليست صلاة الظهر كالجمعة‏.‏
    وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجمعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم، والجمع بين الصلاتين حيث يشرع في الصلاة في وقتها ليس بمفوت، ولا يشترط للقصر ولا للجمع نية عند أكثر العلماء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو إحدى القولين في مذهب أحمد، بل عليه يدل كلامه، وهو المنصوص عليه‏.‏

    ج/ 21 ص -457-والقول الآخر‏:‏ اختيار بعض أصحابه، وهو قول الشافعي‏.‏
    والجمع بين الصلاتين يجوز لعذر؛ فالمسافر إذا جد به السير جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء‏.‏ والمسافرون إذا غلب عليهم النعاس وشق عليهم انتظار العشاء جمعوا بينها وبين المغرب، ولو كان الإمام لا ينام، فصلاته بهم إمامًا جامعًا بين الصلاتين خير من صلاته وحده غير جامع‏.‏
    والحراث إذا خاف إن طلب الماء يسرق ماله، أو يتعطل عمله الذي يحتاج إليه صلى بالتيمم‏.‏ وإن أمكنه أن يجمع بين الصلاتين بوضوء فهو خير من أن يفرق بينهما‏.‏ وكذلك سائر الأعذار الذين يباح لهم التيمم إذا أمكنهم الجمع بينهما بطهارة الماء فهو خير من التفريق بينهما بطهارة التيمم، والجمع بين الصلاتين لمن له عذر كالمطر والريح الشديدة الباردة؛ ولمن به سلس البول، والمستحاضة‏:‏ فصلاتهم بطهارة كاملة جمعًا بين الصلاتين، خير من صلاتهم بطهارة ناقصة مفرقًا بينهما‏.‏
    والمريض أيضًا له أن يجمع بين الصلاتين، لاسيما إذا كان مع الجمع صلاته أكمل‏.‏ إما لكمال طهارته، وإما لإمكان القيام، ولو كانت الصلاتان سواء‏.‏ لكن إذا فرق بينهما زاد مرضه، فله الجمع بينهما‏.‏

    ج/ 21 ص -458-وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يجوز الجمع إذا كان لشغل‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ الشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة‏.‏ وقال الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي مبينًا عن هؤلاء وهو المريض، ومن له قريب يخاف موته، ومن يدافع أحدًا من الأخبثين، ومن يحضره طعام وبه حاجة إليه، من يخاف من سلطان يأخذه، أو غريم يلازمه ولا شيء معه يعطيه، والمسافر إذا خاف فوات القافلة، ومن يخاف ضررًا في ماله، ومن يرجو وجوده، ومن يخاف من غلبة النعاس حتى يفوته الوقت، ومن يخاف من شدة البرد، وكذلك في الليلة المظلمة إذا كان فيها وحل فهؤلاء يعذروا وإن تركوا الجمعة والجماعة‏.‏ كذا حكاه ابن قدامة في ‏"‏مختصر الهداية‏"‏‏.‏ فإنه يبيح لهم الجمع بين الصلاتين على ما قاله الإمام أحمد بن حنبل، والقاضي أبو يعلى‏.‏
    والصناع والفلاحون إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم مثل أن يكون الماء بعيدًا في فعل صلاة، وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطل بعض العمل الذي يحتاجون إليه فلهم أن يصلوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين‏.‏ وأحسن من ذلك أن يؤخروا الظهر إلى قُرَيْب العصر فيجمعوها ويصلوها مع العصر، وإن كان ذلك جمعًا في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر‏.‏ ويجوز مع بعد الماء أن يتيمم ويصلي في الوقت الخاص‏.‏ والجمع بطهارة الماء أفضل‏.‏ والحمد للّه وحده‏.‏

    ج/ 21 ص -459-فصل
    كل من جاز له الصلاة بالتيمم من جنب، أو محدث جاز له أن يقرأ القرآن خارج الصلاة، ويمس المصحف، ويصلي بالتيمم النافلة، والفريضة، ويرقى بالقرآن وغير ذلك‏.‏ فإن الصلاة أعظم من القراءة، فمن صلى بالتيمم كانت قراءته بالتيمم أولى، والقراءة خارج الصلاة أوسع منها في الصلاة، فإن المحدث يقرؤه خارج الصلاة، وكل ما يفعله بطهارة الماء في الوضوء والغسل، يفعله بطهارة التيمم إذا عدم الماء، أو خاف الضرر باستعماله‏.‏
    وإذا أمكن الجنب الوضوء دون الغسل، فتوضأ وتيمم عن الغسل، جاز‏.‏ وإن تيمم ولم يتوضأ، ففيه قولان‏:‏ قيل‏:‏ يجزيه عن الغسل، وهو قول مالك وأبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجزيه، وهو قول الشافعي، وأحمد بن حنبل‏.‏
    وإذا تيمم بالتراب الذي تحت حصير بيته، جاز، وكذلك إذا كان هناك غبار لاصق ببعض الأشياء وتيمم بذلك التراب اللاصق جاز‏.‏ وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال‏:‏

    ج/ 21 ص -460-قيل‏:‏ يجوز لهذا ولهذا، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد‏.‏
    وقيل‏:‏ لا يجوز للجنب، ويجوز للحائض، إما مطلقا، أو إذا خافت النسيان، وهو مذهب مالك‏.‏ وقول في مذهب أحمد وغيره‏.‏ فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي ﷺ فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏
    "‏لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث‏.‏
    وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين، أحاديث ضعيفة، بخلاف روايته عن الشاميين، ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات‏.‏ ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله ﷺ ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن‏.‏ كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء بل أمر الحِيَّض أن يخرجن يوم العيد، فيكبرن بتكبير المسلمين‏.‏ وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت‏:‏ تلبي وهي حائض، وكذلك بمزدلفة ومنى، وغير ذلك من المشاعر‏.‏ وأما الجنب، فلم يأمره أن يشهد العيد، ولا يصلي، ولا أن يقضي شيئًا من المناسك؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في

    ج/ 21 ص -461-ترك الطهارة، بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر‏.‏ ولهذا ذكر العلماء‏:‏ ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر وإن كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر اللّه ودعائه مع كراهة ذلك للجنب‏.‏
    فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه؛ لأجل العذر‏.‏ وإن كانت عدتها أغلظ، فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك‏.‏
    وإن قيل‏:‏ إنه نهي الجنب؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر، ويقرأ، بخلاف الحائض، تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن، تفويت عبادة تحتاج إليها مع عجزها عن الطهارة وليست القراءة كالصلاة، فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر، والأصغر، والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص، واتفاق الأئمة‏.‏
    والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس، واجتناب النجاسة، والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك، بل كان النبي ﷺ يضع رأسه في حجر عائشة رضي اللّه عنها وهي حائض، وهو حديث صحيح‏.‏ وفي صحيح مسلم أيضًا‏:‏ يقول اللّه عز وجل للنبي صلى الله

    ج/ 21 ص -462-عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏إني منزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا، ويقظانًا‏"‏ فتجوز القراءة قائمًا، وقاعدًا وماشيًا، ومضطجعًا‏.‏ وراكبًا‏.‏
    وَسُئِلَ عن رجل أرمد فلحقته جنابة، ولا يقدر أن يتطهر بماء مسخن، ولا بارد، ويقدر على الوضوء، فما يصنع ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    الحمد للّه، إذا كان به رمد، فإنه يغسل ما استطاع من بدنه‏.‏ وما يضره الماء كالعين وما يقاربها ففيه قولان للعلماء ‏:‏
    أحدهما ‏:‏ يتيمم، وهو مذهب الشافعي وأحمد‏.‏
    والثاني‏:‏ ليس عليه تيمم، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، لكن غسل أكثر البدن الذي يمكن غسله واجب باتفاقهم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِل‏:‏َ عن رجل باشر امرأته وهو في عافية، فهل له أن يصبر بالتطهر إلى أن يتضاحى النهار‏؟‏ أم يتيمم ويصلي‏؟‏ أفتونا مأجورين ‏؟‏ ‏.

    ج/ 21 ص -463-فأجاب ‏:‏
    الحمد للّه، لا يجوز له تأخير الصلاة حتى يخرج الوقت، بل عليه إن قدر على الاغتسال بماء بارد أو حار أن يغتسل ويصلي في الوقت، وإلا تيمم‏.‏ فإن التيمم لخشية البرد جائز باتفاق الأئمة، وإذا صلى بالتيمم فلا إعادة عليه، لكن إذا تمكن من الاغتسال اغتسل‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسُئِلَ‏:‏ عن امرأة بها مرض في عينيها، وثقل في جسمها من الشحم، وليس لها قدرة على الحمام؛ لأجل الضرورة، وزوجها لم يدعها تطهر، وهي تطلب الصلاة، فهل يجوز لها أن تغسل جسمها الصحيح‏؟‏ وتتيمم عن رأسها ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    نعم، إذا لم تقدر على الاغتسال في الماء البارد، ولا الحار فعليها أن تصلي في الوقت
    بالتيمم، عند جماهير العلماء، لكن مذهب الشافعي وأحمد أنها تغسل ما يمكن، وتتيمم للباقي‏.‏ ومذهب أبي حنيفة ومالك‏:‏ إن غسلت الأكثر، لم تتيمم‏.‏ وإن لم يمكن إلا غسل الأقل، تيممت، ولا غسل عليها‏.‏

    ج/ 21 ص -464-وَسُئِلَ عن رجل سافر مع رفقة وهو إمامهم‏.‏ ثم احتلم في يوم شديد البرد، وخاف على نفسه أن يقتله البرد فتيمم، وصلى بهم، فهل يجب عليه إعادة‏؟‏ وعلى من صلى خلفه أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذه المسألة هي ثلاث مسائل‏:‏
    الأولى‏:‏ أن تيممه جائز، وصلاته جائزة، ولا غسل عليه، والحالة هذه‏.‏ وهذا متفق عليه بين الأئمة، وقد جاء في ذلك حديث في السنن، عن عمرو بن العاص أنه فعل ذلك على عهد رسول اللّه ﷺ فصلى بأصحابه بالتيمم في السفر، وإن ذلك ذكر للنبي وكذلك هذا معروف عن ابن عباس‏.‏
    الثانية‏:‏ أنه هل يؤم المتوضئين‏؟‏ فالجمهور على أنه يؤمهم، كما أمهم عمرو بن العاص، وابن عباس، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأصح القولين في مذهب أبي حنيفة‏.‏ ومذهب أبي محمد أنه لا يؤمهم‏.‏

    ج/ 21 ص -465-الثالثة‏:‏ في الإعادة، فالمأموم لا إعادة عليه‏.‏ بالاتفاق، مع صحة صلاته، وأما الإمام أو غيره إذا صلى بالتيمم لخشية البرد، فقيل‏:‏ يعيد مطلقًا، كقول الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ يعيد في الحضر فقط، دون السفر‏.‏ كقول له، ورواية عن أحمد، وقيل‏:‏ لا يعيد مطلقًا كقول مالك، وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏ وهذا هو الصحيح؛ لأنه فعل ما قدر عليه، فلا إعادة عليه؛ ولهذا لم يأمر النبي ﷺ عمرو بن العاص بإعادة، ولم يثبت فيه دليل شرعي يفرق بين الأعذار المعتادة، وغير المعتادة‏.‏ واللّه أعلم‏.
    وَسُئِلَ عن رجل أصابته جنابة، ولم يقدر على استعمال الماء من شدة البرد، أو الخوف والإنكار عليه، فهل إذا تيمم وصلى وقرأ ومس المصحف وتهجد بالليل إمامًا يجوز له ذلك أم لا‏؟‏ وهل يعيد الصلاة أم لا‏؟‏ وإلى كم يجوز له التيمم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان خائفًا من البرد - إن اغتسل بالماء يمرض، أو كان خائفًا إن اغتسل أن يرمى بما هو برىء منه، ويتضرر بذلك أو كان خائفًا بينه وبين الماء عدو أو سبع يخاف ضرره إن قصد الماء فإنه يتيمم ويصلي من الجنابة والحدث الأصغر‏.‏

    ج/ 21 ص -466-وأما الإعادة‏:‏ فقد تنازع العلماء في التيمم لخشية البرد، هل يعيد في السفر والحضر‏؟‏ أو لا يعيد فيهما‏؟‏ أو يعيد في الحضر فقط‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏ والأشبه بالكتاب والسنة أنه لا إعادة عليه بحال‏.‏ ومن جازت له الصلاة جازت له القراءة، ومس المصحف‏.‏ والمتيمم يؤم المغتسل عند جمهور العلماء، وهو مذهب الأئمة الأربعة إلا محمد بن الحسن‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل رَحمه اللّه عن التيمم إذا كان في يده جراحة، وتوضأ وغسل وجهه، فهل يلزمه أن يتيمم عند غسل اليدين‏؟‏ أم يكمل وضوءه إلى آخره‏؟‏ ثم بعد ذلك يتيمم‏؟‏ وإن كانت الجراحة مشدودة‏:‏ فهل يلزمه أن يحل الجراح‏.‏ ويغسل جميع الصحيح‏؟‏ أم يغسل ما ظهر منها، ويترك الشد على حاله‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، هذه المسألة فيها نزاع، هما قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏ والصحيح أن له أن يؤخر التيمم حتى يفرغ من وضوئه، بل هذا الذي ينبغى أن يفعله إذا قيل‏:‏ إنه يجمع بين الوضوء والتيمم، فإن مذهب أبي حنيفة ومالك‏:‏ أنه لا يحتاج إلى تيمم‏.‏ ولكن مذهب

    ج/ 21 ص -467-الشافعي وأحمد‏:‏ أن يجمع بينهما - وإذا جبرها مسح عليها، سواء كان جبرها على وضوء أو غير وضوء‏.‏
    وكذلك إذا شد عليها عصابة، ولا يحتاج إلى تيمم في ذلك، هذا أصح أقوال العلماء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل عن رجل جنب، وهو في بيت مبلط عادم فيه التراب، مغلوق عليه الباب، ولم يعلم متى يكون الخروج منه، فهل يترك الصلاة إلى وجود الماء والتراب أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا لم يقدر على استعمال الماء، ولا على المسح بالصعيد، فإنه يصلي بلا ماء، ولا تيمم عند الجمهور‏.‏ وهذا أصح القولين‏.‏ وهل عليه الإعادة‏؟‏ على قولين‏:‏
    أظهرهما‏:‏ أنه لا إعادة عليه، فإن اللّه يقول‏:‏ ‏
    "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏ ولم يأمر العبد بصلاتين، وإذا صلى قرأ القراءة الواجبة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 21 ص -468-وَسئل عن رجل نام وهو جنب فلم يستيقظ إلا قُرَيْبَ طلوع الشمس، وخشى من الغسل بالماء البارد في وقت البرد، وإن سخن الماء خرج الوقت، فهل يجوز له أن يُفَوِّت الصلاة إلى حيث يغتسل، أو يتيمم ويصلي‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذه المسألة فيها قولان للعلماء، فالأكثر‏:‏ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد يأمرونه بطلب الماء، وإن صلى بعد طلوع الشمس‏.‏ ومالك يأمره أن يصلي للوقت بالتيمم؛ لأن الوقت مقدم على غيره من واجبات الصلاة، بدليل أنه إن استيقظ في الوقت وعلم أنه لا يجد الماء إلا بعد الوقت، فإنه يصلي بالتيمم في الوقت بإجماع المسلمين، ولا يصلي بعد خروج الوقت بالغسل‏.‏
    وأما الأولون، فيفرقون بين هذه الصورة ونظائرها، وبين صورة السؤال، بأنه قال‏:‏ إنما خوطب بالصلاة عند استيقاظه، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها‏"‏ وإذا كان إنما أمر بها بعد الانتباه فعليه فِعْلها بحسب ما يمكن

    ج/ 21 ص -469-من الاغتسال المعتاد، فيكون فعلها بعد طلوع الشمس فعلا في الوقت الذي أمر اللّه بالصلاة فيه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل عن رجل أجنب واستيقظ، وقد طلع الفجر، ثم أراد أن يغتسل فخاف أن تطلع الشمس فتوضأ وصلى، وبعد الصلاة اغتسل، فهل تجزئ الصلاة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا أدركته الجنابة فعليه أن يغتسل ويصلي في الوقت، وليس له أن يؤخر الغسل، فإن كان لم يستيقظ إلا وقت طلوع الشمس، فأكثر العلماء يقولون‏:‏ يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس ولا يصلي جنبًا، وبعضهم قال‏:‏ يصلي في الوقت بالوضوء، والتيمم‏.‏ لكن الأول أصح‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل عن الجنب إذا انتبه من نومه وهو في الحضر قبل خروج الوقت بقليل، هل يتيمم ويصلي في الوقت‏؟‏ أو يغتسل ويصلي بعد خروج الوقت‏؟

    ج/ 21 ص -470-فأجاب رحمه اللّه‏:‏
    يغتسل ولا يصلي بالتيمم في مثل هذه الصورة، عند أكثر العلماء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل شيخ الإسلام إذا دخل وقت الصلاة وهو جنب ويخشى إن اشتغل بفعل الطهارة يفوته الوقت، فهل يباح له التيمم، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا دخل وقت الصلاة وهو مستيقظ والماء بعيد منه يخاف إن طلبه أن تفوته الصلاة، أو كان الوقت باردًا يخاف إن سخنه أو ذهب إلى الحمام فاتت الصلاة، فإنه يصلي بالتيمم في مذهب أحمد، وجمهور العلماء‏.‏
    وإن استيقظ آخر الوقت وخاف إن تطهر طلعت الشمس، فإنه يصلي هنا بالوضوء بعد طلوع الشمس، فإن عند جمهور العلماء اختلافًا‏.‏ كإحدى الروايتين عن مالك، فإنه هنا إنما خوطب بالصلاة بعد استيقاظه‏.‏ ومن نام عن صلاة صلاها إذا استيقظ، وكان ذلك وقتها في حقه‏.‏

    ج/ 21 ص -471-وَسئل عن أقوام خرجوا من قرية إلى قرية ليصلوا الجمعة فيها، فوجدوا الصلاة قد أقيمت، وبعضهم على غير وضوء، لو ذهب ليتوضأ فاتته الصلاة، فهل يتيمم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذه المسألة فيها نزاع، والأظهر‏:‏ أنهم إذا لم تمكنهم صلاة الجمعة إلا بالتيمم صلوا بالتيمم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل عن المسافر يصل إلى ماء، وقد ضاق الوقت، فإن تشاغل بتحصيله خرج الوقت، فهل له أن يصلي بالتيمم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما المسافر إذا وصل إلى ماء وقد ضاق الوقت، فإنه يصلي بالتيمم على قول جمهور العلماء، وكذلك لو كان هناك بئر لكن لا يمكن أن يصنع له حبلاً حتى يخرج الوقت، أو يمكن حفر الماء، ولا يحفر حتى يخرج الوقت، فإنه يصلي بالتيمم‏.‏

    ج/ 21 ص -472-وقد قال بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ أنه يغتسل ويصلي بعد خروج الوقت، لاشتغاله بتحصيل الشرط، وهذا ضعيف لأن المسلم أمر أن يصلي في الوقت بحسب الإماكن، فالمسافر إذا علم أنه لا يجد الماء حتى يفوت الوقت كان فرضًا عليه أن يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق الأئمة، وليس له أن يؤخر الصلاة حتى يصل إلى الماء، وقد ضاق الوقت بحيث لا يمكنه الاغتسال والصلاة حتى يخرج الوقت‏.‏
    بل إذا فعل ذلك كان عاصيًا بالاتفاق، وحينئذ، فإذا وصل إلى الماء وقد ضاق الوقت، فغرضه إنما هو الصلاة بالتيمم في الوقت، وليس هو مأمورًا بهذا الاستعمال الذي يفوته معه الوقت، بخلاف المستيقظ آخر الوقت، والماء حاضر فإن هذا مأمور أن يغتسل ويصلي، ووقته من حين يستيقظ، لا من حين طلوع الفجر، بخلاف من كان يقظانا عند طلوع الفجر، أو عند زوالها، إما مقيما وإما مسافرًا، فإن الوقت في حقه من حينئذ‏.‏
    وَسئل عن التيمم‏:‏ هل يجوز لأحد أن يصلي به السنن الراتبة والفريضة وأن يقتصر عليه إلى أن يحدث أم لا‏؟‏

    ج/ 21 ص -473-فأجاب‏:‏
    نعم يجوز له في أظهر قولى العلماء أن يصلي بالتيمم، كما يصلي بالوضوء، فيصلي به الفرض والنفل، ويتيمم قبل الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا ينقض التيمم إلا ما ينقض الوضوء، والقدرة على استعمال الماء، واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل رَحمه اللّه‏:‏ عن الحاقن‏:‏ أيما أفضل‏:‏ يصلي بوضوء محتقنًا، أو أن يحدث، ثم يتيمم لعدم الماء‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان، فإن هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة، منهى عنها‏.‏ وفي صحتها روايتان‏.‏ وأما صلاته بالتيمم، فصحيحة، لا كراهة فيها بالاتفاق‏.‏ واللّه أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML