ج/ 20 ص -210-
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله:
عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها: فهل يجوز له العمل بذلك المذهب ؟ أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه ؟
فأجاب: الحمد لله. قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله ﷺ ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله ﷺ حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى
ج/ 20 ص -211-عنه إلا رسول الله ﷺ ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ.
وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم، فقال أبو حنيفة: هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضراوات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت.
ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه.
والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي
ج/ 20 ص -212-ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا. والتفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية.
فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل: يجوز مطلقا وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال.
والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين:
ج/ 20 ص -213-إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذهب إمام آخر.
وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح.
وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة، لضعف آلة الاجتهاد في حقه.
أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]، وقال النبي ﷺ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده وانتقال الإنسان من قول إلى
ج/ 20 ص -214-قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم.
وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه - لا سيما إذا كان قد رواه أيضا - فمثل هذا وحده لا يكون عذرا في ترك النص فقد بينا فيما كتبناه في [رفع الملام عن الأئمة الأعلام] نحو عشرين عذرا للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار وأما نحن فمعذورون في تركها لهذا القول.
فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح، أو أن راويه مجهول ونحو ذلك، ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه: فقد زال عذر ذلك في حق هذا ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس، أو عمل لبعض الأمصار، وقد تبين للآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل: لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا في حقه، فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية وغيرها الذين يقال: إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح وقد بلغ من بعده أن المهاجرين
ج/ 20 ص -215-والأنصار لم يتركوه بل عمل به طائفة منهم، أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص.
وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ولست أعلم من هذا ولا هذا ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة [ كنسبة ] أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر: فكذلك موارد النزاع بين الأئمة وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة وتركوا قول عمر في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي ﷺ قال: "هذه وهذه سواء".
وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له: قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر ؟.
ج/ 20 ص -216-وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر فتبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم: أمر رسول الله ﷺ أحق أن يتبع أم أمر عمر ؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس.
ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي ﷺ في أمته وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة: 31]، والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده.
ج/ 20 ص -217-وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه
هل لازم المذهب مذهب أم لا؟.
فأجاب: وأما قول السائل: هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب ؟ فالصواب: أن مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا عليه بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو أكثر فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها لكن لم يعلم أنها تلزمه ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة وكل من لم يثبت بين الاسمين قدرا مشتركا لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيمانا، فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى
ج/ 20 ص -218-لكن نعلم أن كثيرا ممن ينفي ذلك لا يعلم لوازم قوله بل كثير منهم يتوهم أن الحقيقة ليست إلا محض حقائق المخلوقين وهؤلاء جهال بمسمى الحقيقة والمجاز وقولهم افتراء على اللغة والشرع وإلا فقد يكون المعنى الذي يقصد به نفي الحقيقة نفي مماثلة صفات الرب سبحانه لصفات المخلوقين قيل له: أحسنت في نفي هذا المعنى الفاسد ولكن أخطأت في ظنك أن هذا هو حقيقة ما وصف الله به نفسه فصار هذا بمنزلة من قال: إن الله ليس بسميع حقيقة، ولا بصير حقيقة، ولا متكلم حقيقة، لأن الحقيقة في ذلك هو ما يعهده من سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم والله تعالى منزه عن ذلك.
فيقال له: أصبت في تنزيه الله عن مماثلته خلقه، لكن أخطأت في ظنك أنه إذا كان الله سميعا حقيقة بصيرا حقيقة متكلما حقيقة كان هذا متضمنا لمماثلته خلقه. فكذلك لو قال القائل: إذا قلنا: إنه مستو على عرشه حقيقة لزم التجسيم والله منزه عنه فيقال له: هذا المعنى الذي سميته تجسيما ونفيته هو لازم لك إذا قلت: إن له علما حقيقة، وقدرة حقيقة وسمعا حقيقة: وبصرا حقيقة، وكلاما حقيقة، وكذلك سائر ما أثبته من الصفات، فإن هذه الصفات هي في حقنا أعراض قائمة بجسم فإذا كنت تثبتها لله تعالى مع تنزيهك له عن مماثلة المخلوقات وما يدخل في ذلك من التجسيم: فكذلك القول في الاستواء، ولا فرق.
ج/ 20 ص -219-فإن قلت: أهل اللغة إنما وضعوا هذه الألفاظ لما يختص به المخلوق فلا يكون حقيقة في غير ذلك.
قلت: ولكن هذا خطأ بإجماع الأمم: مسلمهم وكافرهم وبإجماع أهل اللغات فضلا عن أهل الشرائع والديانات وهذا نظير قول من يقول: إن لفظ الوجه إنما يستعمل حقيقة في وجه الإنسان دون وجه الحيوان والملك والجني أو لفظ العلم إنما استعمل حقيقة في علم الإنسان دون علم الملك والجني ونحو ذلك بل قد بينا أن أسماء الصفات عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه، فالقدر المشترك أن نسبة كل صفة إلى موصوفها كنسبة تلك الصفة إلى موصوفها فالقدر المشترك هو النسبة فنسبة علم الملك والجني ووجوههما إليه كنسبة علم الإنسان ووجهه إليه وهكذا في سائر الصفات والله أعلم .
ج/ 20 ص -220-وسئل شيخ الإسلام
أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان: من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد أو عذر آخر؟.
فأجاب: هذا يراد به شيئان:
أحدهما: أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي فهذا منكر. وهذا المعنى هو الذي أورده الشيخ نجم الدين وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه مثل أن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد فإذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه ولعب الشطرنج
ج/ 20 ص -221-وحضور السماع أن هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر فمثل هذا ممكن في اعتقاده حل الشيء وحرمته ووجوبه وسقوطه بحسب هواه هو مذموم بخروجه خارج عن العدالة وقد نص أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز. وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك.
وما ذكره ابن حمدان: المراد به القسم الأول، ولهذا قال: من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر شرعي فدل على أنه إذا خالفه لدليل فتبين له بالقول الراجح أو تقليد يسوغ له أن يقلد في خلافه، أو عذر شرعي أباح المحظور الذي يباح بمثل ذلك العذر لم ينكر عليه.
وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها لكنا نتكلم على تقدير إرادتها وهو أن من التزم مذهبا لم يكن له أن ينتقل عنه
ج/ 20 ص -222-قاله بعض أصحاب أحمد وكذلك غير هذا ما يذكره ابن حمدان أو غيره، يكون مما قاله بعض أصحابه وإن لم يكن منصوصا عنه وكذلك ما يوجد في كتب أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة كثير منه يكون مما ذكره بعض أصحابهم وليس منصوصا عنهم، بل قد يكون المنصوص عنهم خلاف ذلك. وأصل هذه المسألة أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه ؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه.
ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل: أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك: فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من لا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها وقد كان في زمن النبي ﷺ رجل هاجر لامرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس فقال النبي ﷺ على المنبر في الحديث الصحيح: "إنما الأعمال
ج/ 20 ص -223-بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني مثل أن يتبين رجحان قول على قول فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله: فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر ألا يعدل عنه ولا يتبع أحدا في مخالفة الله ورسوله فإن الله فرض طاعة رسوله ﷺ على كل أحد في كل حال وقال تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء: 65]، وقال تعالى: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ" [آل عمران: 31]، وقال تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" [الأحزاب: 36].
وقد صنف الإمام أحمد كتابا في طاعة الرسول ﷺ وهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين فطاعة الله ورسوله وتحليل ما حلله الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله: واجب على جميع الثقلين: الإنس والجن واجب على
ج/ 20 ص -224-كل أحد في كل حال: سرا وعلانية لكن لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس رجع الناس في ذلك إلى من يعلمهم ذلك، لأنه أعلم بما قاله الرسول وأعلم بمراده فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم وقد يخص الله هذا العالم من العلم والفهم ما ليس عند الآخر وقد يكون عند ذلك في مسألة أخرى من العلم ما ليس عند هذا.
وقد قال تعالى: "وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء: 78، 79]، فهذان نبيان كريمان حكما في قضية واحدة، فخص الله أحدهما بالفهم، وأثنى على كل منهما.
والعلماء ورثة الأنبياء واجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة، فإذا صلى أربعة أنفس كل واحد منهم بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن القبلة هناك: فإن صلاة الأربعة صحيحة والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر". وأكثر الناس إنما التزموا المذاهب بل الأديان بحكم ما تبين لهم
ج/ 20 ص -225-فإن الإنسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده كما يتبع الطفل في الدين أبويه وسابيه وأهل بلده ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يقصد طاعة الله ورسوله حيث كانت ولا يكون ممن إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسول إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد.
وكذلك من تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلى عادته فهو من أهل الذم والعقاب.
وأما من كان عاجزا عن معرفة حكم الله ورسوله وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود يثاب لا يذم على ذلك ولا يعاقب وإن كان قادرا على الاستدلال ومعرفة ما هو الراجح، وتوقى بعض المسائل فعدل عن ذلك إلى التقليد فهو قد اختلف في مذهب أحمد المنصوص عنه. والذي عليه أصحابه أن هذا آثم أيضا وهو مذهب الشافعي وأصحابه وحكي عن محمد بن الحسن وغيره أنه يجوز له التقليد مطلقا وقيل: يجوز تقليد الأعلم. وحكى بعضهم هذا عن أحمد كما ذكره أبو إسحاق في اللمع وهو غلط على أحمد، فإن أحمد إنما يقول: هذا في أصحابه فقط
ج/ 20 ص -226-على اختلاف عنه في ذلك وأما مثل مالك والشافعي وسفيان، ومثل إسحاق بن راهويه وأبي عبيد فقد نص في غير موضع على أنه لا يجوز للعالم القادر على الاستدلال أن يقلدهم وقال: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري. وكان يحب الشافعي ويثني عليه ويحب إسحاق ويثني عليه ويثني على مالك والثوري وغيرهما من الأئمة ويأمر العامي أن يستفتي إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب؛ وينهى العلماء من أصحابه كأبي داود وعثمان بن سعيد وإبراهيم الحربي، وأبي بكر الأثرم وأبي زرعة، وأبي حاتم السجستاني ومسلم وغيرهم: أن يقلدوا أحدا من العلماء. ويقول: عليكم بالأصل بالكتاب والسنة .
ج/ 20 ص -227-وسئل أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان في آخر [كتاب الرعاية] وهو قوله: [من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر ويبين لنا ما أشكل علينا من كون بعض المسائل يذكر فيها في [الكافي] و [المحرر] و [المقنع] و [الرعاية] و [الخلاصة] و [الهداية] روايتان أو وجهان، ولم يذكر الأصح والأرجح فلا ندري بأيهما نأخذ ؟ وإن سألونا عنه أشكل علينا؟.
فأجاب: الحمد لله. أما هذه الكتب التي يذكر فيها روايتان أو وجهان ولا يذكر فيها الصحيح: فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى، مثل كتاب [التعليق] للقاضي أبي يعلى و [الانتصار] لأبي الخطاب و [عمد الأدلة] لابن عقيل. وتعليق القاضي يعقوب البرزيني وأبي الحسن ابن الزاغوني وغير ذلك من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف ويذكر فيها الراجح. وقد اختصرت رءوس مسائل هذه الكتب في كتب مختصرة
ج/ 20 ص -228-مثل [رءوس المسائل] للقاضي أبي الحسين وقد نقل عن الشيخ أبي البركات صاحب [المحرر] أنه كان يقول لمن يسأله عن ظاهر مذهب أحمد: أنه ما رجحه أبو الخطاب في رءوس مسائله. ومما يعرف منه ذلك كتاب [المغني] للشيخ أبي محمد وكتاب [شرح الهداية] لجدنا أبي البركات وقد شرح [الهداية] غير واحد كأبي حليم النهرواني وأبي عبد الله بن تيمية صاحب [التفسير] الخطيب عم أبي البركات وأبي المعالي ابن المنجا وأبي البقاء النحوي لكن لم يكمل ذلك.
وقد اختلف الأصحاب فيما يصححونه فمنهم من يصحح رواية ويصحح آخر رواية فمن عرف ذلك نقله ومن ترجح عنده قول واحد على قول آخر اتبع القول الراجح ومن كان مقصوده نقل مذهب أحمد نقل ما ذكروه من اختلاف الروايات والوجوه والطرق كما ينقل أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ومالك مذاهب الأئمة، فإنه في كل مذهب من اختلاف الأقوال عن الأئمة واختلاف أصحابهم في معرفة مذهبهم ومعرفة الراجح شرعا: ما هو معروف.
ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح
ج/ 20 ص -229-في الشرع، وأحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحا كقوله بجواز فسخ الإفراد والقران إلى التمتع وقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة كالوصية في السفر وقوله بتحريم نكاح الزانية حتى تتوب وقوله بجواز شهادة العبد وقوله بأن السنة للمتيمم أن يمسح الكوعين بضربة واحدة. وقوله في المستحاضة بأنها تارة ترجع إلى العادة وتارة ترجع إلى التمييز، وتارة ترجع إلى غالب عادات النساء، فإنه روي عن النبي ﷺ فيها ثلاث سنن، عمل بالثلاثة أحمد دون غيره.
وقوله بجواز المساقاة والمزارعة على الأرض البيضاء والتي فيها شجر وسواء كان البذر منهما أو من أحدهما وجواز ما يشبه ذلك وإن كان من باب المشاركة ليس من باب الإجارة ولا هو على خلاف القياس ونظير هذا كثير. وأما ما يسميه بعض الناس مفردة لكونه انفرد بها عن أبي حنيفة والشافعي مع أن قول مالك فيها موافق لقول أحمد أو قريب منه
ج/ 20 ص -230-وهي التي صنف لها الهراسي ردا عليها وانتصر لها جماعة كابن عقيل والقاضي أبي يعلى الصغير وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي محمد بن المثنى: فهذه غالبها يكون قول مالك وأحمد أرجح من القول الآخر وما يترجح فيها القول الآخر يكون مما اختلف فيه قول أحمد وهذا: كإبطال الحيل المسقطة للزكاة والشفعة ونحو ذلك الحيل المبيحة للربا والفواحش ونحو ذلك وكاعتبار المقاصد والنيات في العقود والرجوع في الأيمان إلى سبب اليمين وما هيجها مع نية الحالف، وكإقامة الحدود على أهل الجنايات كما كان النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون يقيمونها كما كانوا يقيمون الحد على الشارب بالرائحة والقيء ونحو ذلك وكاعتبار العرف في الشروط وجعل الشرط العرفي كالشرط اللفظي والاكتفاء في العقود المطلقة بما يعرفه الناس وأن ما عده الناس بيعا فهو بيع وما عدوه إجارة فهو إجارة وما عدوه هبة فهو هبة وما عدوه وقفا فهو وقف لا يعتبر في ذلك لفظ معين ومثل هذا كثير .