ج/ 20 ص -196-وقال:
فصل
قاعدة شرعية: شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعا بوصف الخصوص والتقييد، فإن العام والمطلق لا يدل على ما يختص بعض أفراده ويقيد بعضها فلا يقتضي أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعا، ولا مأمورا به فإن كان في الأدلة ما يكره ذلك الخصوص والتقييد كره وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استحب وإلا بقي غير مستحب ولا مكروه.
مثال ذلك: أن الله شرع دعاءه وذكره شرعا مطلقا عاما. فقال: "اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً" [الأحزاب: 41]، وقال: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً" [الأعراف: 55]، ونحو ذلك من النصوص فالاجتماع للدعاء والذكر في مكان معين، أو زمان معين، أو الاجتماع لذلك: تقييد للذكر والدعاء لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه وتقييده لكن تتناوله، لما فيه من القدر المشترك فإن دلت أدلة الشرع على استحباب ذلك كالذكر
ج/ 20 ص -197-والدعاء يوم عرفة بعرفة، أو الذكر والدعاء المشروعين في الصلوات الخمس، والأعياد والجمع وطرفي النهار، وعند الطعام والمنام واللباس، ودخول المسجد والخروج منه، والأذان والتلبية وعلى الصفا والمروة ونحو ذلك صار ذلك الوصف الخاص مستحبا مشروعا استحبابا زائدا على الاستحباب العام المطلق. وفي مثل هذا يعطف الخاص على العام، فإنه مشروع بالعموم والخصوص كصوم يوم الاثنين والخميس بالنسبة إلى عموم الصوم وإن دلت أدلة الشرع على كراهة ذلك كان مكروها مثل اتخاذ ما ليس بمسنون سنة دائمة، فإن المداومة في الجماعات على غير السنن المشروعة بدعة كالأذان في العيدين والقنوت في الصلوات الخمس والدعاء المجتمع عليه أدبار الصلوات الخمس أو البردين منها والتعريف المداوم عليه في الأمصار والمداومة على الاجتماع لصلاة تطوع، أو قراءة أو ذكر كل ليلة، ونحو ذلك، فإن مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة مكروهة كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار والقياس. وإن لم يكن في الخصوص أمر ولا نهي بقي على وصف الإطلاق كفعلها أحيانا على غير وجه المداومة مثل التعريف أحيانا كما فعلت الصحابة والاجتماع أحيانا لمن يقرأ لهم أو على ذكر أو دعاء،
ج/ 20 ص -198-والجهر ببعض الأذكار في الصلاة كما جهر عمر بالاستفتاح وابن عباس بقراءة الفاتحة. وكذلك الجهر بالبسملة أحيانا. وبعض هذا القسم ملحق بالأول فيكون الخصوص مأمورا به كالقنوت في النوازل وبعضها ينفى مطلقا ففعل الطاعة المأمور بها مطلقا حسن وإيجاب ما ليس فيه سنة مكروه. وهذه القاعدة إذا جمعت نظائرها نفعت وتميز بها ما هو البدع من العبادات التي يشرع جنسها من الصلاة والذكر والقراءة وأنها قد تميز بوصف اختصاص تبقى مكروهة لأجله أو محرمة كصوم يومي العيدين والصلاة في أوقات النهي كما قد تتميز بوصف اختصاص تكون واجبة لأجله أو مستحبة كالصلوات الخمس والسنن الرواتب. ولهذا قد يقع من خلقه العبادة المطلقة والترغيب فيها في أن شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما قد يقع من خلقه العلم المجرد في النهي عن بعض المستحب أو ترك الترغيب. ولهذا لما عاب الله على المشركين أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله.
وهذا كثير في المتصوفة من يصل ببدع الأمر لشرع الدين وفي المتفقهة من يصل ببدع التحريم إلى الكفر.
ج/ 20 ص -199-وقال :
فصل [الإيجاب والتحريم] قد يكون نعمة، وقد يكون عقوبة، وقد يكون محنة. فالأول كإيجاب الإيمان والمعروف، وتحريم الكفر والمنكر وهو الذي أثبته القائلون بالحسن والقبح العقليين والعقوبة كقوله: "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ" [النساء: 160]، وقوله: "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا" [الأنعام: 146]، إلى قوله: "ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ" [الأنعام: 146]، وقوله: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ" [الأعراف: 157]، فسماها آصارا وأغلالا والآصار في الإيجاب والأغلال في التحريم. وقوله: "وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" [البقرة: 286]، ويشهد له قوله: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الحج: 78]، وقوله:"مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ" [المائدة: 6]، فإن هذا النفي العام ينفي كل ما يسمى حرجا
ج/ 20 ص -200-والحرج: الضيق فما أوجب الله ما يضيق، ولا حرم ما يضيق وضده السعة والحرج مثل الغل وهو: الذي لا يمكنه الخروج منه مع حاجته إلى الخروج وأما المحنة فمثل قوله: "إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ" [البقرة: 249] الآية. ثم ذلك قد يكون بإنزال الخطاب وهذا لا يكون إلا في زمن الأنبياء وقد انقطع. وقد يكون بإظهار الخطاب لمن لم يكن سمعه، ثم سمعه وقد يكون باعتقاد نزول الخطاب أو معناه وإن كان اعتقادا مخطئا لأن الحكم الظاهر تابع لاعتقاد المكلف.
فالتكليف الشرعي إما أن يكون باطنا وظاهرا، مثل الذي تيقن أنه منزل من عند الله. وإما أن يكون ظاهرا، مثل الذي يعتقد أن حكم الله هو الإيجاب أو التحريم، إما اجتهادا وإما تقليدا وإما جهلا مركبا بأن نصب سبب يدل على ذلك ظاهرا دون ما يعارضه تكليف ظاهر، إذ المجتهد المخطئ مصيب في الظاهر لما أمر به، وهو مطيع في ذلك هذا من جهة الشرع وقد يكون من جهة الكون بأن يخلق سبحانه ما يقتضي وجود التحريم الثابت بالخطاب والوجوب الثابت بالخطاب كقوله: "واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" [الأعراف: 163]، فأخبر أنه
ج/ 20 ص -201-بلاهم بفسقهم حيث أتى بالحيتان يوم التحريم ومنعها يوم الإباحة. كما يؤتى المحرم المبتلى بالصيد يوم إحرامه. ولا يؤتى به يوم حله، أو يؤتى بمن يعامله ربا ولا يؤتى بمن يعامله بيعا. ومن ذلك مجيء الإباحة والإسقاط نعمة وهذا كثير كقوله: "الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ" [الأنفال: 66]، وقد تقدم نظائرها.