أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه ...

    ج/ 20 ص -85-وقال الشيخ الإمام العالم شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه -‏:‏
    قاعدة
    في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات‏.‏ وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذه القاعدة فيما تقدم لما ذكرت أن العلم والقصد يتعلق بالموجود بطريق الأصل ويتعلق بالمعدوم بطريق التبع‏.‏ وبيان هذه القاعدة من وجوه‏.‏

    ج/ 20 ص -86-أحدها
    أن أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله، وأعظم السيئات الكفر والإيمان أمر وجودي فلا يكون الرجل مؤمنا ظاهرا حتى يظهر أصل الإيمان وهو‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ولا يكون مؤمنا باطنا حتى يقر بقلبه بذلك، فينتفي عنه الشك ظاهرا وباطنا، مع وجود العمل الصالح وإلا كان كمن قال الله فيه‏:‏ ‏
    "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏"‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ وكمن قال تعالى فيه‏:‏ ‏"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ وكمن قال فيه‏:‏ ‏"إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ‏"‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ الآية ‏.‏
    والكفر‏:‏ عدم الإيمان، باتفاق المسلمين سواء اعتقد نقيضه وتكلم به أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم ولا فرق في ذلك بين مذهب أهل السنة والجماعة الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا بالباطن والظاهر، وقول من يجعله نفس اعتقاد القلب كقول الجهمية وأكثر الأشعرية أو إقرار اللسان كقول الكرامية، أو جميعها كقول فقهاء المرجئة وبعض الأشعرية فإن هؤلاء مع أهل الحديث وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية، وعامة الصوفية، وطوائف من أهل الكلام من متكلمي السنة، وغير متكلمي السنة من المعتزلة والخوارج،

    ج/ 20 ص -87-وغيرهم‏:‏ متفقون على أن من لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة فهو كافر سواء كان مكذبا، أو مرتابا، أو معرضا، أو مستكبرا، أو مترددا، أو غير ذلك‏.‏ وإذا كان أصل الإيمان الذي هو أعظم القرب والحسنات والطاعات فهو مأمور به والكفر الذي هو أعظم الذنوب والسيئات والمعاصي ترك هذا المأمور به سواء اقترن به فعل منهي عنه من التكذيب أو لم يقترن به شيء بل كان تركا للإيمان فقط‏:‏ علم أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه‏.‏ واعلم أن الكفر بعضه أغلظ من بعض فالكافر المكذب أعظم جرما من الكافر غير المكذب فإنه جمع بين ترك الإيمان المأمور به وبين التكذيب المنهي عنه ومن كفر وكذب وحارب الله ورسوله والمؤمنين بيده أو لسانه أعظم جرما ممن اقتصر على مجرد الكفر والتكذيب ومن كفر وقتل وزنى وسرق وصد وحارب كان أعظم جرما‏.‏ كما أن الإيمان بعضه أفضل من بعض والمؤمنون فيه متفاضلون تفاضلا عظيما وهم عند الله درجات كما أن أولئك دركات فالمقتصدون في الإيمان أفضل من ظالمي أنفسهم والسابقون بالخيرات أفضل من

    ج/ 20 ص -88-المقتصدين ‏"لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ الآيات ‏"أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وإنما ذكرنا أن أصل الإيمان مأمور به وأصل الكفر نقيضه وهو ترك هذا الإيمان المأمور به وهذا الوجه قاطع بين ‏.‏
    الوجه الثاني
    أن أول ذنب عصي الله به كان من أبي الجن وأبي الإنس أبوي الثقلين المأمورين وكان ذنب أبي الجن أكبر وأسبق وهو ترك المأمور به وهو السجود إباء واستكبارا وذنب أبي الإنس كان ذنبا صغيرا
    ‏"فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏ وهو إنما فعل المنهي عنه وهو الأكل من الشجرة، وإن كان كثير من الناس المتكلمين في العلم يزعم أن هذا ليس بذنب، وأن آدم تأول حيث نهي عن الجنس بقوله‏:‏ ‏"وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 35‏]‏ فظن أنه الشخص فأخطأ، أو نسي والمخطئ والناسي ليسا مذنبين‏.‏ وهذا القول يقوله طوائف من أهل البدع والكلام والشيعة وكثير من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم ممن يوجب عصمة الأنبياء من الصغائر وهؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو أعظم منه في

    ج/ 20 ص -89-تحريف كلام الله عن مواضعه‏.‏ وأما السلف قاطبة من القرون الثلاثة الذين هم خير قرون الأمة، وأهل الحديث والتفسير، وأهل كتب قصص الأنبياء والمبتدأ وجمهور الفقهاء والصوفية، وكثير من أهل الكلام كجمهور الأشعرية وغيرهم وعموم المؤمنين، فعلى ما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏"‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ بعد أن قال لهما‏:‏ ‏"أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏ مع أنه عوقب بإخراجه من الجنة‏.‏ وهذه نصوص لا ترد إلا بنوع من تحريف الكلام عن مواضعه، والمخطئ والناسي إذا كانا مكلفين في تلك الشريعة فلا فرق وإن لم يكونا مكلفين امتنعت العقوبة ووصف العصيان والإخبار بظلم النفس وطلب المغفرة والرحمة وقوله تعالى‏:‏ ‏"أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ وإنما ابتلى الله الأنبياء بالذنوب رفعا لدرجاتهم بالتوبة وتبليغا لهم إلى محبته وفرحه بهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة التائب أشد فرح فالمقصود كمال الغاية لا نقص البداية، فإن العبد يكون له الدرجة لا ينالها إلا بما قدره الله له من العمل أو البلاء‏.‏

    ج/ 20 ص -90-وليس المقصود هنا هذه المسألة وإنما الغرض أن ينظر تفاوت ما بين الذنبين اللذين أحدهما ترك المأمور به فإنه كبير وكفر ولم يتب منه والآخر صغير تيب منه ‏.‏
    الوجه الثالث
    أنه قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل إذا كان فعلا منهيا عنه، مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان وأما إن تضمن ترك ما أمر الله بالإيمان به مثل‏:‏ الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، فإنه يكفر به وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وعدم تحريم الحرمات الظاهرة المتواترة‏.‏ فإن قلت فالذنوب تنقسم إلى ترك مأمور به وفعل منهي عنه‏.‏ قلت‏:‏ لكن المأمور به إذا تركه العبد‏:‏ فإما أن يكون مؤمنا بوجوبه، أو لا يكون فإن كان مؤمنا بوجوبه تاركا لأدائه فلم يترك الواجب كله بل أدى بعضه وهو الإيمان به وترك بعضه وهو العمل

    ج/ 20 ص -91-به‏.‏ وكذلك المحرم إذا فعله، فإما أن يكون مؤمنا بتحريمه أو لا يكون فإن كان مؤمنا بتحريمه فاعلا له فقد جمع بين أداء واجب وفعل محرم فصار له حسنة وسيئة والكلام إنما هو فيما لا يعذر بترك الإيمان بوجوبه وتحريمه من الأمور المتواترة وأما من لم يعتقد ذلك فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به، فالكلام في تركه هذا الاعتقاد كالكلام فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به‏.‏ وأما كون ترك الإيمان بهذه الشرائع كفرا، وفعل المحرم المجرد ليس كفرا‏:‏ فهذا مقرر في موضعه وقد دل على ذلك كتاب الله في قوله‏:‏ ‏"فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ إذ الإقرار بها مراد بالاتفاق، وفي ترك الفعل نزاع‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏"وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏;‏ فإن عدم الإيمان بوجوبه وتركه كفر والإيمان بوجوبه وفعله يجب أن يكون مرادا من هذا النص كما قال من قال من السلف‏:‏ هو من لا يرى حجه برا ولا تركه إثما وأما الترك المجرد ففيه نزاع‏.‏ وأيضا ‏"‏حديث أبي بردة بن نيار لما بعثه النبي ﷺ إلى من تزوج امرأة أبيه فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله‏"‏، فإن

    ج/ 20 ص -92-تخميس المال دل على أنه كان كافرا لا فاسقا وكفره بأنه لم يحرم ما حرم الله ورسوله‏.‏ وكذلك الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما لما شرب الخمر قدامة بن عبد الله وكان بدريا، وتأول أنها تباح للمؤمنين المصلحين وأنه منهم بقوله‏:‏ ‏"لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏ الآية فاتفق الصحابة على أنه إن أصر قتل وإن تاب جلد فتاب فجلد‏.‏ وأما الذنوب ففي القرآن قطع السارق وجلد الزاني، ولم يحكم بكفرهم وكذلك فيه اقتتال الطائفتين مع بغي إحداهما على الأخرى، والشهادة لهما بالإيمان والأخوة وكذلك فيه قاتل النفس الذي يجب عليه القصاص جعله أخا، وقد قال الله فيه‏:‏ ‏"فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ فسماه أخا وهو قاتل‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين حديث أبي ذر لما قال له النبي ﷺ عن جبريل‏:‏"‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر‏"‏ وثبت في الصحاح حديث أبي سعيد وغيره في الشفاعة في أهل الكبائر وقوله‏:‏ ‏"‏أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال برة من إيمان، مثقال حبة من

    ج/ 20 ص -93-إيمان مثقال ذرة من إيمان‏"‏ فهذه النصوص كما دلت على أن ذا الكبيرة لا يكفر مع الإيمان وأنه يخرج من النار بالشفاعة خلافا للمبتدعة من الخوارج في الأولى ولهم وللمعتزلة في الثانية نزاع‏:‏ فقد دلت على أن الإيمان الذي خرجوا به من النار هو حسنة مأمور بها وأنه لا يقاومها شيء من الذنوب وهذا هو ‏.‏
    الوجه الرابع
    وهو‏:‏ أن الحسنات التي هي فعل المأمور به تذهب بعقوبة الذنوب والسيئات التي هي فعل المنهي عنه فإن فاعل المنهي يذهب إثمه بالتوبة وهي حسنة مأمور بها وبالأعمال الصالحة المقاومة وهي حسنات مأمور بها وبدعاء النبي ﷺ وشفاعته ودعاء المؤمنين وشفاعتهم وبالأعمال الصالحة التي تهدي إليه وكل ذلك من الحسنات المأمور بها‏.‏ فما من سيئة هي فعل منهي عنه إلا لها حسنة تذهبها هي فعل مأمور به حتى الكفر سواء كان وجوديا أو عدميا فإن حسنة الإيمان تذهبه كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏الإسلام يجب ما كان قبله وفي رواية يهدم ما كان قبله‏"‏ رواه مسلم‏.‏ وأما الحسنات فلا تذهب ثوابها السيئات مطلقا فإن حسنة الإيمان

    ج/ 20 ص -94-لا تذهب إلا بنقيضها وهو الكفر، لأن الكفر ينافي الإيمان فلا يصير الكافر مؤمنا فلو زال الإيمان زال ثوابه لا لوجود سيئة ولهذا كان كل سيئة لا تذهب بعمل لا يزول ثوابه وهذا متفق عليه بين المسلمين حتى المبتدعة من الخوارج والمعتزلة فإن الخوارج يرون الكبيرة موجبة للكفر المنافي للإيمان والمعتزلة يرونها مخرجة له من الإيمان وإن لم يدخل بها في الكفر وأهل السنة والجماعة يرون أصل إيمانه باقيا فقد اتفقت الطوائف على أنه مع وجود إيمانه لا يزول ثوابه بشيء من السيئات والكفر وإن كانوا متفقين على أن مع وجوده لا يزول عقابه بشيء من الحسنات فذلك لأن الكفر يكفي فيه عدم الإيمان ولا يجب أن يكون أمرا موجودا كما تقدم فعقوبة الكفر هي ترك الإيمان وإن انضم إليها عقوبات على ما فعله من الكفر الوجودي أيضا‏.‏ وكذلك قد روي في بعض ثواب الطاعات المأمور بها ما يدفع ويرفع عقوبة المعاصي المنهي عنها فإذا كان جنس ثواب الحسنات المأمور بها يدفع عقوبة كل معصية وليس جنس عقوبات السيئات المنهي عنها يدفع ثواب كل حسنة‏:‏ ثبت رجحان الحسنات المأمور بها على ترك السيئات المنهي عنها‏.‏ وفي هذا المعنى ما ورد في فضل لا إله إلا الله وأنها تطفئ نار السيئات، مثل حديث البطاقة وغيره ‏.

    ج/ 20 ص -95-الوجه الخامس
    أن تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر مثل ترك الصوم لمرض أو لسفر ومثل النوم عن الصلاة أو نسيانها ومثل من ترك شيئا من نسكه الواجب فعليه دم أو عليه فعل ما ترك إن أمكن وأما فاعل المنهي عنه إذا كان نائما أو ناسيا أو مخطئا فهو معفو عنه ليس عليه جبران إلا إذا اقترن به إتلاف كقتل النفس والمال‏.‏ والكفارة فيه هل وجبت جبرا أو زجرا أو محوا ‏؟‏ فيه نزاع بين الفقهاء‏.‏ فحاصله أن تارك المأمور به وإن عذر في الترك لخطأ أو نسيان فلا بد له من الإتيان بالمثل أو بالجبران من غير الجنس بخلاف فاعل المنهي عنه فإنه تكفي فيه التوبة إلا في مواضع لمعنى آخر فعلم أن اقتضاء الشارع لفعل المأمور به أعظم من اقتضائه لترك المنهي عنه‏.
    الوجه السادس
    أن مباني الإسلام الخمس المأمور بها وإن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها فإنه يقتل بتركها في الجملة عند جماهير العلماء ويكفر أيضا

    ج/ 20 ص -96-عند كثير منهم أو أكثر السلف وأما فعل المنهي عنه الذي لا يتعدى ضرره صاحبه فإنه لا يقتل به عند أحد من الأئمة ولا يكفر به إلا إذا ناقض الإيمان لفوات الإيمان وكونه مرتدا أو زنديقا‏.‏ وذلك أن من الأئمة من يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس لأن الإسلام بني عليها وهو قول طائفة من السلف ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه‏.‏ ومنهم من لا يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة وهي رواية أخرى عن أحمد كما دل عليه ظاهر القرآن في براءة وحديث ابن عمر وغيره ولأنهما منتظمان لحق الحق وحق الخلق كانتظام الشهادتين للربوبية والرسالة ولا بدل لهما من غير جنسهما بخلاف الصيام والحج‏.‏ ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة وبالزكاة إذا قاتل الإمام عليها كرواية عن أحمد‏.‏ ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة كرواية عن أحمد‏.‏ ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره كرواية عن أحمد‏.‏ ومنهم من

    ج/ 20 ص -97-لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره كالمشهور من مذهب الشافعي لإمكان الاستيفاء منه‏.‏ وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين‏.‏ ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم وليس الأمر كما يفهم من إطلاق بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ أنه إن جحد وجوبها كفر وإن لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة أقسام‏:‏
    أحدها‏:‏ إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق‏.‏
    والثاني‏:‏ أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول‏:‏ اعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبارا أو حسدا للرسول أو عصبية لدينه أو بغضا لما جاء به الرسول فهذا أيضا كافر بالاتفاق فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدا للإيجاب فإن الله تعالى باشره بالخطاب وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين‏.‏ وكذلك أبو طالب كان

    ج/ 20 ص -98-مصدقا للرسول فيما بلغه لكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفا من عار الانقياد واستكبارا عن أن تعلو أسته رأسه فهذا ينبغي أن يتفطن له ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالإيجاب ومتناولا للامتناع عن الإقرار والالتزام كما قال تعالى‏:‏ ‏"فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏ وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق‏.‏
    والثالث‏:‏ أن يكون مقرا ملتزما، لكن تركها كسلا وتهاونا، أو اشتغالا بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلا أو تهاونا‏.‏ وهنا قسم رابع وهو‏:‏ أن يتركها ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع ‏؟‏ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا وهو المعرض عنها لا مقرا ولا منكرا‏.‏
    وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر فإن قلنا‏.‏ يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في

    ج/ 20 ص -99-الخبريات من أحوال الجنة والنار والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام بل لا بد من اعتقاد خاص، بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه ما لم ينقض الجملة بالتفصيل ولهذا اكتفوا في هذه العقائد بالجمل وكرهوا فيها التفصيل المفضي إلى القتال والفتنة بخلاف الشرائع المأمور بها، فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لا بد من تفصيلها علما وعملا‏.‏ وأما القاتل والزاني والمحارب فهؤلاء إنما يقتلون لعدوانهم على الخلق لما في ذلك من الفساد المتعدي ومن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حد الله ولا يكفر أحد منهم‏.‏ وأيضا فالمرتد يقتل لكفره بعد إيمانه‏:‏ وإن لم يكن محاربا‏.‏ فثبت أن الكفر والقتل لترك المأمور به أعظم منه لفعل المنهي عنه‏.‏ وهذا الوجه قوي على مذهب الثلاثة‏:‏ مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور السلف ودلائله من الكتاب والسنة متنوعة وأما على مذهب أبي حنيفة فقد يعارض بما قد يقال‏:‏ إنه لا يوجب قتل

    ج/ 20 ص -100-أحد على ترك واجب أصلا حتى الإيمان، فإنه لا يقتل إلا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه ويسوي بين الكفر الأصلي والطارئ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة إلا إذا كان في طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة وأما المنهي عنه فيقتل القاتل والزاني المحصن والمحارب إذا قتل فيكون الجواب من ثلاثة أوجه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله وإلى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من أن المرتد يقتل بالاتفاق وإن لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا والأسير يجوز قتله بعد أسره وإن كان حرابه قد انقضى‏.‏
    الثاني‏:‏ أن ما وجب فيه القتل إنما وجب على سبيل القصاص الذي يعتبر فيه المماثلة، فإن النفس بالنفس، كما تجب المقاصة في الأموال، فجزاء سيئة سيئة مثلها في النفوس والأموال والأعراض والأبشار، لكن إن لم يضر إلا المقتول كان قتله صائرا إلى أولياء المقتول، لأن الحق لهم كحق المظلوم في المال وإن قتله لأخذ المال كان قتله واجبا، لأجل المصلحة العامة التي هي حد الله كما يجب قطع يد السارق لأجل حفظ الأموال، ورد المال المسروق حق لصاحبه إن شاء أخذه وإن شاء تركه فخرجت هذه الصور عن

    ج/ 20 ص -101-النقض لم يبق ما يوجب القتل عنده بلا مماثلة إلا الزنا وهو من نوع العدوان أيضا ووقوع القتل به نادر، لخفائه وصعوبة الحجة عليه‏.‏
    الثالث‏:‏ أن العقوبة في الدنيا لا تدل على كبر الذنب وصغره، فإن الدنيا ليست دار الجزاء وإنما دار الجزاء هي الآخرة ولكن شرع من العقوبات في الدنيا ما يمنع الفساد والعدوان كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ وقالت الملائكة‏:‏ ‏"أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ فهذان السببان اللذان ذكرتهما الملائكة هما اللذان كتب الله على بني إسرائيل القتل بهما، ولهذا يقر كفار أهل الذمة بالجزية مع أن ذنبهم في ترك الإيمان أعظم باتفاق المسلمين من ذنب من نقتله من زان وقاتل‏.‏ فأبو حنيفة رأى أن الكفر مطلقا إنما يقاتل صاحبه لمحاربته فمن لا حراب فيه لا يقاتل ولهذا يأخذ الجزية من غير أهل الكتاب العرب وإن كانوا وثنيين‏.‏ وقد وافقه على ذلك مالك وأحمد في أحد قوليه ومع هذا يجوز القتل تعزيرا وسياسة في مواضع‏.‏

    ج/ 20 ص -102-وأما الشافعي فعنده نفس الكفر هو المبيح للدم إلا أن النساء والصبيان تركوا لكونهم مالا للمسلمين فيقتل المرتد لوجود الكفر وامتناع سببها عنده من الكفر بلا منفعة‏.‏ وأما أحمد فالمبيح عنده أنواع أما الكافر الأصلي فالمبيح عنده هو وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه أما الأول فالمحاربة بيد أو لسان فلا يقتل من لا محاربة فيه بحال من النساء والصبيان، والرهبان والعميان، والزمنى ونحوهم كما هو مذهب الجمهور‏.‏
    وأما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين وللدين فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه بخلاف من لم يدخل فيه، فإنه إن كان كتابيا أو مشبها له فقد وجد إحدى غايتي القتال في حقه وإن كان وثنيا‏:‏ فإن أخذت منه الجزية فهو كذلك وإن لم تؤخذ منه ففي جواز استرقاقه نزاع فمتى جاز استرقاقه كان ذلك كأخذ الجزية منه ومتى لم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرا لا منفعة في حياته لنفسه - لأنه يزداد إثما - ولا للمؤمنين، فيكون قتله خيرا من إبقائه‏.‏ وأما تارك الصلاة والزكاة‏:‏ فإذا قتل كان عنده من قسم المرتدين لأنه بالإسلام ملتزم لهذه الأفعال فإذا لم يفعلها فقد ترك ما التزمه

    ج/ 20 ص -103-أو لأنها عنده من الغاية التي يمتد القتال إليها كالشهادتين فإنه لو تكلم بإحداهما وترك الأخرى لقتل لكن قد يفرق بينهما وأما إذا لم ويفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة‏.‏ فهذه مآخذ فقهية نبهنا بها على بعض أسباب القتل وقد تبين أنهم لا يتنازعون أن ترك المأمور به في الآخرة أعظم وأما في الدنيا فقد ذكرنا ما تقدم ‏.‏
    الوجه السابع
    إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع فإن النبي ﷺ أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم وقال في الذي يشرب الخمر‏:‏
    ‏"‏لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله‏"‏ وقال في ذي الخويصرة‏:‏ ‏"‏يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين - وفي رواية من الإسلام - كما يمرق السهم من الرمية يحقر أحدكم صلاته مع

    ج/ 20 ص -104-صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏"‏‏.‏ وقد قررت هذه القاعدة بالدلائل الكثيرة مما تقدم من القواعد ثم إن أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه‏:‏ من سرقة أو زنا أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل‏.‏ وأهل البدع ذنوبهم ترك ما أمروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين فإن الخوارج أصل بدعتهم أنهم لا يرون طاعة الرسول واتباعه فيما خالف ظاهر القرآن عندهم وهذا ترك واجب‏.‏ وكذلك الرافضة لا يرون عدالة الصحابة ومحبتهم والاستغفار لهم وهذا ترك واجب‏.‏ وكذلك القدرية لا يؤمنون بعلم الله تعالى القديم ومشيئته الشاملة وقدرته الكاملة وهذا ترك واجب‏.‏ وكذلك الجبرية لا تثبت قدرة العبد ومشيئته وقد يدفعون الأمر بالقدر وهذا ترك واجب‏.‏ وكذلك مقتصدة المرجئة مع أن بدعتهم من بدع الفقهاء ليس فيها كفر بلا خلاف عند أحد من الأئمة ومن أدخلهم من أصحابنا في البدع التي حكى فيها التكفير ونصره فقد غلط في ذلك وإنما كان لأنهم لا يرون إدخال الأعمال أو الأقوال في الإيمان وهذا ترك واجب وأما غالية المرجئة الذين يكفرون بالعقاب ويزعمون أن النصوص خوفت بما لا حقيقة له فهذا القول عظيم وهو ترك واجب

    ج/ 20 ص -105-وكذلك الوعيدية لا يرون اعتقاد خروج أهل الكبائر من النار ولا قبول الشفاعة فيهم وهذا ترك واجب فإن قيل‏:‏ قد يضمون إلى ذلك اعتقادا محرما‏:‏ من تكفير وتفسيق وتخليد‏.‏ قيل‏:‏ هم في ذلك مع أهل السنة بمنزلة الكفار مع المؤمنين فنفس ترك الإيمان بما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع ضلالة وإن لم يكن معه اعتقاد وجودي فإذا انضم إليه اجتمع الأمران ولو كان معهم أصل من السنة لما وقعوا في البدعة‏.‏
    الوجه الثامن
    أن ضلال بني آدم وخطأهم في أصول دينهم وفروعه إذا تأملته تجد أكثره من عدم التصديق بالحق، لا من التصديق بالباطل‏.‏ فما من مسألة تنازع الناس فيها في الغالب إلا وتجد ما أثبته الفريقان صحيحا وإنما تجد الضلال وقع من جهة النفي والتكذيب‏.‏ مثال ذلك أن الكفار لم يضلوا من جهة ما أثبتوه من وجود الحق وإنما أتوا من جهة ما نفوه من كتابه وسنة رسوله وغير ذلك وحينئذ وقعوا في الشرك وكل أمة مشركة أصل شركها عدم كتاب منزل من السماء وكل أمة مخلصة أصل إخلاصها كتاب منزل من السماء فإن بني آدم

    ج/ 20 ص -106-محتاجون إلى شرع يكمل فطرهم فافتتح الله الجنس بنبوة آدم كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 31‏]‏ وهلم جرا‏.‏ فمن خرج عن النبوات وقع في الشرك وغيره وهذا عام في كل كافر غير كتابي فإنه مشرك وشركه لعدم إيمانه بالرسل الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏ ولم يكن الشرك أصلا في الآدميين بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله لاتباعهم النبوة قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 19‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام فبتركهم اتباع شريعة الأنبياء وقعوا في الشرك لا بوقوعهم في الشرك خرجوا عن شريعة الإسلام فإن آدم أمرهم بما أمره الله به حيث قال له‏:‏ ‏"فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 38، 39‏]‏ وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏"فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 123‏:‏ 126‏]‏‏.‏

    ج/ 20 ص -107-فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزل وهو الوحي الوارد على أنبيائه وتضمن أن من أعرض عنه وإن لم يكذب به فإنه يكون يوم القيامة في العذاب المهين وإن معيشته تكون ضنكا في هذه الحياة وفي البرزخ والآخرة وهي المضنوكة النكدة المحشوة بأنواع الهموم والغموم والأحزان كما أن الحياة الطيبة هي لمن آمن وعمل صالحا‏.‏ فمن تمسك به فإنه لا يشرك بربه فإن الرسل جميعهم أمروا بالتوحيد وأمروا به قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ فبين أنه لا بد أن يوحي بالتوحيد إلى كل رسول وقال تعالى‏:‏ ‏"وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏ فبين أنه لم يشرع الشرك قط فهذان النصان قد دلا على أنه أمر بالتوحيد لكل رسول ولم يأمر بالإشراك قط وقد أمر آدم وبنيه من حين أهبط باتباع هداه الذي يوحيه إلى الأنبياء فثبت أن علة الشرك كان من ترك اتباع الأنبياء والمرسلين فيما أمروا به من التوحيد والدين لا أن الشرك كان علة للكفر بالرسل فإن الإشراك والكفر بالرسل متلازمان في الواقع فهذا في الكفار بالنبوات المشركين‏.‏ وأما أهل الكتاب فإن اليهود لم يؤتوا من جهة ما أقروا به

    ج/ 20 ص -108-من نبوة موسى والإيمان بالتوراة بل هم في ذلك مهتدون وهو رأس هداهم وإنما أتوا من جهة ما لم يقروا به من رسالة المسيح ومحمد ﷺ كما قال تعالى فيهم‏:‏ ‏"فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 90‏]‏ غضب بكفرهم بالمسيح وغضب بكفرهم بمحمد ﷺ وهذا من باب ترك المأمور به‏.‏ وكذلك النصارى لم يؤتوا من جهة ما أقروا به من الإيمان بأنبياء بني إسرائيل والمسيح وإنما أتوا من جهة كفرهم بمحمد ﷺ وأما ما وقعوا فيه من التثليث والاتحاد الذي كفروا فيه بالتوحيد والرسالة فهو من جهة عدم اتباعهم لنصوص التوراة والإنجيل المحكمة التي تأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وتبين عبودية المسيح وأنه عبد لله كما أخبر الله عنه بقوله‏:‏ ‏"مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏ فلما تركوا اتباع هذه النصوص إيمانا وعملا وعندهم رغبة في العبادة والتأله ابتدعوا الرهبانية وغلوا في المسيح هوى من عند أنفسهم وتمسكوا بمتشابه من الكلمات لظن ظنوه فيها وهوى اتبعوه خرج بهم عن الحق فهم ‏"إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏ ولهذا كان سيماهم الضلال كما قال تعالى‏:‏

    ج/ 20 ص -109-‏"وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 77‏]‏‏.‏ والضال ضد المهتدي وهو العادل عن طريق الحق بلا علم وعدم العلم المأمور به والهدى بالمأمور ترك واجب فأصل كفرهم ترك الواجب وحينئذ تفرقوا في التثليث والاتحاد ووقعت بينهم العداوة والبغضاء وصاروا ملكية، ويعقوبية، ونسطورية، وغيرهم وهذا المعنى قد بينه القرآن مع أن هذا يصلح أن يكون دليلا مستقلا، لما فيه من بيان أن ترك الواجب سبب لفعل المحرم قال تعالى‏:‏ ‏"وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏ فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء والسبب أقوى من المسبب‏.‏ وكذلك قال في اليهود‏:‏ ‏"فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ فنقض الميثاق ترك ما أمروا به، فإن الميثاق يتضمن واجبات وهي قوله‏:‏ ‏"وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12، 13‏]‏ الآيات‏.‏

    ج/ 20 ص -110-فقد أخبر تعالى أنه بترك ما أوجبه عليهم من الميثاق وإن كان واجبا بالأمر حصلت لهم هذه العقوبات التي منها فعل هذه المحرمات من قسوة القلوب، وتحريف الكلم عن مواضعه، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به‏.‏ وأخبر في أثناء السورة أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء في قوله‏:‏ ‏"وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء‏"‏ [‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ الآية وقد قال المفسرون من السلف مثل قتادة وغيره في فرق النصارى ما أشرنا إليه‏.‏ وهكذا إذا تأملت أهل الضلال والخطأ من هذه الأمة تجد الأصل ترك الحسنات لا فعل السيئات وأنهم فيما يثبتونه أصل أمرهم صحيح وإنما أتوا من جهة ما نفوه والإثبات فعل حسنة والنفي ترك سيئة فعلم أن ترك الحسنات أضر من فعل السيئات وهو أصله‏.‏ مثال ذلك‏:‏ أن الوعيدية من الخوارج وغيرهم فيما يعظمونه من

    ج/ 20 ص -111-أمر المعاصي والنهي عنها واتباع القرآن وتعظيمه أحسنوا لكن إنما أتوا من جهة عدم اتباعهم للسنة وإيمانهم بما دلت عليه من الرحمة للمؤمن وإن كان ذا كبيرة‏.‏ وكذلك المرجئة فيما أثبتوه من إيمان أهل الذنوب والرحمة لهم أحسنوا لكن إنما أصل إساءتهم من جهة ما نفوه من دخول الأعمال في الإيمان وعقوبات أهل الكبائر‏.‏ فالأولون بالغوا في النهي عن المنكر، وقصروا في الأمر بالمعروف‏.‏ وهؤلاء قصروا في النهي عن المنكر وفي الأمر بكثير من المعروف‏.‏ وكذلك القدرية هم في تعظيم المعاصي وذم فاعلها وتنزيه الله تعالى عن الظلم وفعل القبيح محسنون وإنما أساءوا في نفيهم مشيئة الله الشاملة وقدرته الكاملة وعلمه القديم أيضا‏.‏ وكذلك الجهمية، فإن أصل ضلالهم إنما هو التعطيل وجحد ما جاءت به الرسل عن الله عز وجل من أسمائه وصفاته‏.‏ والأمر فيهم ظاهر جدا‏.‏ ولهذا قلنا غير مرة أن الرسل جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل والكفار من المتفلسفة الصابئين والمشركين

    ج/ 20 ص -112-جاءوا بالنفي المفصل والإثبات المجمل والإثبات فعل حسنات مأمور بها إيجابا واستحبابا والنفي ترك سيئات أو حسنات مأمور بها فعلم أن ضلالهم من باب ترك الواجب وترك الإثبات‏.‏ وبالجملة فالأمور نوعان‏:‏ إخبار، وإنشاء‏.‏ فالإخبار ينقسم إلى إثبات ونفي‏:‏ إيجاب وسلب كما يقال في تقسيم القضايا إلى إيجاب وسلب‏.‏ والإنشاء فيه الأمر والنهي‏.‏ فأصل الهدى ودين الحق هو‏:‏ إثبات الحق الموجود، وفعل الحق المقصود، وترك المحرم، ونفي الباطل تبع‏.‏ وأصل الضلال ودين الباطل‏:‏ التكذيب بالحق الموجود وترك الحق المقصود ثم فعل المحرم وإثبات الباطل تبع لذلك‏.‏ فتدبر هذا فإنه أمر عظيم تنفتح لك به أبواب من الهدى ‏.‏
    الوجه التاسع
    أن الكلمات الجوامع التي في القرآن تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه‏:‏ مثل قوله تعالى لنبيه ‏
    "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]

    ج/ 20 ص -113-وقال‏:‏ ‏"فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 15‏]‏ وقال‏:‏ ‏"قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ وقال ‏"قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 11، 12‏]‏ وقال‏:‏ ‏"قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏ وقال‏:‏ ‏"وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 109‏]‏ وقال‏:‏ ‏"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ إلى أمثال هذه النصوص التي يوصي فيها باتباع ما أمر ويبين أن الاستقامة في ذلك وأنه لم يأمر إلا بذلك وأنه إن ترك ذلك كان عليه العذاب ونحو ذلك مما يبين أن اتباع الأمر أصل عام وأن اجتناب المنهي عنه فرع خاص ‏.‏
    الوجه العاشر
    أن عامة ما ذم الله به المشركين في القرآن من الدين المنهي عنه إنما هو الشرك والتحريم وكذلك حكي عنهم في قوله‏:‏ ‏
    "وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]

    ج/ 20 ص -114-وذلك في النحل وفي الزخرف ‏"وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ وقال‏:‏ ‏"أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏ وقال‏:‏ ‏"قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ‏"‏ [‏يونس‏:‏ 59‏]‏ وقال‏:‏ ‏"مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 103‏]‏ وقال‏:‏"قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وأما من ترك المأمور به فقد ذمهم الله كما ذمهم على ترك الإيمان به وبأسمائه وآياته وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وترك الصلاة والزكاة والجهاد وغير ذلك من الأعمال‏.‏ والشرك قد تقدم أن أصله ترك المأمور به من عبادة الله واتباع رسله‏.‏ وتحريم الحلال فيه ترك ما أمروا به من الاستعانة به على عبادته‏.‏ ولما كان أصل المنهي عنه الذي فعلوه الشرك والتحريم روي في الحديث‏:‏ ‏"‏بعثت بالحنيفية السمحة‏"‏ فالحنيفية ضد الشرك‏.‏ والسماحة ضد الحجر والتضييق وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه‏:‏ ‏"‏إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا‏"‏‏.‏

    ج/ 20 ص -115-وظهر أثر هذين الذنبين في المنحرفة من العلماء والعباد والملوك والعامة بتحريم ما أحله الله تعالى والتدين بنوع شرك لم يشرعه الله تعالى والأول يكثر في المتفقهة والمتورعة والثاني يكثر في المتصوفة والمتفقرة‏.‏ فتبين بذلك أن ما ذمه الله تعالى وعاقب عليه من ترك الواجبات أكثر مما ذمه الله وعاقب عليه من فعل المحرمات‏.‏
    الوجه الحادي عشر
    أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى‏:‏
    ‏"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ وذلك هو أصل ما أمرهم به على ألسن الرسل كما قال نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب‏:‏ ‏"اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏"‏[‏هود‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏"‏ إلى قوله‏:‏ "إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 130‏:‏ 133‏]‏ وقال لموسى‏:‏ ‏"إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ وقال المسيح‏:‏ ‏"مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏‏.‏ والإسلام‏:‏ هو الاستسلام لله وحده وهو أصل عبادته وحده وذلك يجمع معرفته ومحبته والخضوع له وهذا المعنى الذي

    ج/ 20 ص -116-خلق الله له الخلق هو‏:‏ أمر وجودي من باب المأمور به ثم الأمر بعد ذلك بما هو كمال ما خلق له‏.‏ وأما المنهي عنه‏:‏ فإما مانع من أصل ما خلق له وإما من كمال ما خلق له نهوا عن الإشراك لأنه مانع من الأصل وهو ظلم في الربوبية كما قال تعالى‏:‏ "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏"‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ ومنعوا عن ظلم بعضهم بعضا في النفوس والأموال والأبضاع والأعراض لأنه مانع من كمال ما خلق له‏.‏ فظهر أن فعل المأمور به أصل وهو المقصود وأن ترك المنهي عنه فرع وهو التابع‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏"‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ لأن الشرك منع الأصل فلم يك في النفس استعداد للفلاح في الآخرة بخلاف ما دونه فإن مع المغفور له أصل الإيمان الذي هو سبب السعادة‏.‏
    الوجه الثاني عشر
    أن مقصود النهي ترك المنهي عنه والمقصود منه عدم المنهي عنه والعدم لا خير فيه إلا إذا تضمن حفظ موجود وإلا فلا خير في لا شيء وهذا معلوم بالعقل والحس لكن من الأشياء ما يكون وجوده مضرا بغيره فيطلب عدمه لصلاح الغير كما يطلب عدم القتل لبقاء النفس

    ج/ 20 ص -117-وعدم الزنا لصلاح النسل وعدم الردة لصلاح الإيمان فكل ما نهي عنه إنما طلب عدمه لصلاح أمر موجود‏.‏ وأما المأمور به فهو أمر موجود والموجود يكون خيرا ونافعا ومطلوبا لنفسه بل لا بد في كل موجود من منفعة ما أو خير ما فلا يكون الموجود شرا محضا فإن الموجود خلقه الله تعالى والله لم يخلق شيئا إلا لحكمة وتلك الحكمة وجه خير بخلاف المعدوم فإنه لا شيء، ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏"الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏‏;‏ وقال‏:‏ ‏"صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏"‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ فالموجود‏:‏ إما خير محض أو فيه خير والمعدوم‏:‏ إما أنه لا خير فيه بحال أو خيره حفظ الموجود وسلامته‏.‏ والمأمور به قد طلب وجوده والمنهي عنه قد طلب عدمه فعلم أن المطلوب بالأمر أكمل وأشرف من المطلوب بالنهي وأنه هو الأصل المقصود المراد لذاته وأنه هو الذي يكون عدمه شرا محضا‏.‏
    الوجه الثالث عشر
    أن المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل والمنهي عنه هو ما يفسد به وينقص، فإن المأمور به من العلم والإيمان، وإرادة

    ج/ 20 ص -118-وجه الله تعالى وحده، ومحبته والإنابة إليه، ورحمة الخلق والإحسان إليهم، والشجاعة التي هي القوة والقدرة والصبر الذي يعود إلى القوة والإمساك والحبس إلى غير ذلك كل هذه من الصفات والأخلاق والأعمال التي يصلح بها العبد ويكمل ولا يكون صلاح الشيء وكماله إلا في أمور وجودية قائمة به لكن قد يحتاج إلى عدم ما ينافيها فيحتاج إلى العدم بالعرض فعلم أن المأمور به أصل والمنهي عنه تبع فرع‏.‏
    الوجه الرابع عشر
    أن الناس اتفقوا على أن المطلوب بالأمر وجود المأمور به وإن لزم من ذلك عدم ضده ويقول الفقهاء‏:‏ الأمر بالشيء نهي عن ضده فإن ذلك متنازع فيه‏.‏ والتحقيق أنه منهي عنه بطريق اللازم وقد يقصده الآمر وقد لا يقصده وأما المطلوب بالنهي فقد قيل‏:‏ إنه نفس عدم المنهي عنه‏.‏ وقيل‏:‏ ليس كذلك، لأن العدم ليس مقدورا ولا مقصودا بل المطلوب فعل ضد المنهي عنه وهو الامتناع وهو أمر وجودي‏.‏ والتحقيق‏:‏ أن مقصود الناهي قد يكون نفس عدم المنهي عنه، وقد يكون فعل ضده، وذلك العدم عدم خاص مقيد يمكن أن يكون

    ج/ 20 ص -119-مقدورا بفعل ضده فيكون فعل الضد طريقا إلى مطلوب الناهي وإن لم يكن نفس المقصود وذلك أن الناهي إنما نهى عن الشيء لما فيه من الفساد فالمقصود عدمه كما ينهى عن قتل النفس وشرب الخمر وإنما نهى لابتلاء المكلف وامتحانه كما نهى قوم طالوت عن الشرب إلا بملء الكف فالمقصود هنا طاعتهم وانقيادهم وهو أمر وجودي وإذا كان وجوديا فهو الطاعة التي هي من جنس فعل المأمور به فصار المنهي عنه إنما هو تابع للمأمور به، فإن مقصوده إما عدم ما يضر المأمور به أو جزء من أجزاء المأمور به وإذا كان إما حاويا للمأمور به، أو فرعا منه‏:‏ ثبت أن المأمور به أكمل وأشرف وهو المقصود الأول‏.‏
    الوجه الخامس عشر
    أن الأمر أصل والنهي فرع، فإن النهي نوع من الأمر، إذ الأمر هو الطلب والاستدعاء والاقتضاء وهذا يدخل فيه طلب الفعل وطلب الترك لكن خص النهي باسم خاص كما جرت عادة العرب أن الجنس إذا كان له نوعان أحدهما يتميز بصفة كمال أو نقص أفردوه باسم وأبقوا الاسم العام على النوع الآخر كما يقال‏:‏ مسلم، ومنافق‏.‏ ويقال نبي ورسول‏.‏

    ج/ 20 ص -120-ولهذا تنازع الفقهاء‏:‏ لو قال لها‏:‏ إذا خالفت أمري فأنت طالق فعصت نهيه هل يحنث‏؟‏ على ثلاثة أوجه لأصحابنا وغيرهم‏:‏ أحدها‏:‏ يحنث لأن ذلك مخالفة لأمره في العرف ولأن النهي نوع من الأمر‏.‏
    والثاني‏:‏ لا يحنث لعدم الدخول فيه في اللغة كما زعموا‏.‏ والثالث‏:‏ يفرق بين العالم بحقيقة الأمر والنهي وغير العالم‏.‏ والأول هو الصواب‏.‏ فكل من عصى النهي فقد عصى الأمر لأن الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء والناهي مستدع من النهي فعلا‏:‏ إما بطريق القصد أو بطريق اللزوم فإن كان نوعا منه فالأمر أعم والأعم أفضل وإن لم يكن نوعا منه فهو أشرف القسمين، ولهذا اتفق العلماء على تقديمه على النهي وبذلك جاء الكتاب والسنة قال تعالى‏:‏
    ‏"يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ وقال‏:‏ ‏"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ‏"‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏‏.‏

    ج/ 20 ص -121-الوجه السادس عشر
    أن الله لم يأمر بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد وجعله محتاجا إليه وفيه صلاحه وكماله، فإنه أمر بالإيمان به وكل مولود يولد على الفطرة فالقلوب فيها أقوى الأسباب لمعرفة باريها والإقرار به وأمر بالعلم والصدق والعدل، وصلة الأرحام وأداء الأمانة وغير ذلك من الأمور التي في القلوب معرفتها ومحبتها، ولهذا سميت معروفا ونهى عن الكفر الذي هو أصل الجهل والظلم وعن الكذب والظلم والبخل والجبن وغير ذلك من الأمور التي تنكرها القلوب وإن ما يفعل الآدمي الشر المنهي عنه لجهله به أو لحاجته إليه بمعنى أنه يشتهيه ويلتذ بوجوده أو يستضر بعدمه والجهل عدم العلم فما كان من المنهي عنه سببه الجهل فلعدم فعل المأمور به من العلم وما كان سببه الحاجة من شهوة أو نفرة فلعدم المأمور به الذي يقتضي حاجته مثل أن يزني لعدم استعفافه بالنكاح المباح أو يأكل الطعام الحرام لعدم استعفافه بما أمر به من المباح وإلا فإذا فعل المأمور به الذي يغنيه عن الحرام لم يقع فيه‏.‏ فثبت أن المأمور به خلق الله في العبد سببه ومقتضيه وأن المنهي

    ج/ 20 ص -122-عنه إنما يقع لعدم الفعل المأمور به المانع عنه فثبت بذلك أن المأمور به في خلقته ما يقتضيه وما يحتاج إليه وبه صلاحه بمنزلة الأكل للجسد بل هو من جهة المأمور به وبمنزلة النكاح للنوع، وهو من المأمور به‏.‏ والمنهي عنه ليس فيه سببه إلا لعدم المأمور به فكان وجوده لعدم المأمور به فكان عدم المأمور به أضر عليه من وجود المنهي عنه، لتضرره به من وجهين وفي تركه أشد استحقاقا للذم والعقاب، لوجود مقتضيه فيه المعين له عليه‏.‏ والمنهي عنه ليس فيه مقتضيه في الأصل إلا مع عدم المأمور به وأما عدمه فلا يقتضيه إلا بفعل المأمور به فهذا هذا‏.‏
    الوجه السابع عشر
    أن فعل الحسنات يوجب ترك السيئات وليس مجرد ترك السيئات يوجب فعل الحسنات، لأن ترك السيئات مع مقتضيها لا يكون إلا بحسنة وفعل الحسنات عند عدم مقتضيها لا يقف على ترك السيئة وذلك يؤجر لأنه ترك السيئات مع مقتضيها وذلك لأن الله خلق ابن آدم هماما حارثا كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"
    ‏أصدق الأسماء حارث وهمام‏"‏ والحارث‏:‏

    ج/ 20 ص -123-العامل الكاسب والهمام‏:‏ الكثير الهم‏.‏
    وهذا معنى قولهم‏:‏ متحرك بالإرادة والهم والإرادة لا تكون إلا بشعور وإحساس فهو حساس متحرك بالإرادة دائما‏.‏ ولهذا جاء في الحديث‏:‏
    ‏"‏للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا‏"‏ و ‏"‏مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة ‏"‏ و ‏"‏ما من قلب من قلوب العباد إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن‏"‏ وإذا كان كذلك فعدم إحساسه وحركته ممتنع فإن لم يكن إحساسه وحركته من الحسنات المأمور بها أو المباحات وإلا كان من السيئات المنهي عنها فصار فعل الحسنات يتضمن الأمرين فهو أشرف وأفضل‏.‏ وذلك لأن من فعل ما أمر به من الإيمان والعمل الصالح‏:‏ قد يمتنع بذلك عما نهي عنه من أحد وجهين‏:‏ إما من جهة اجتماعهما فإن الإيمان ضد الكفر، والعمل الصالح ضد السيئ فلا يكون مصدقا مكذبا محبا مبغضا‏.‏
    وإما من جهة اقتضاء الحسنة ترك السيئة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ‏"‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ وهذا محسوس، فإن الإنسان إذا قرأ القرآن وتدبره كان ذلك من أقوى الأسباب المانعة له من المعاصي أو بعضها وكذلك الصوم جنة وكذلك نفس الإيمان بتحريم المحرمات وبعذاب الله عليها بصد القلب عن إرادتها‏.‏

    ج/ 20 ص -124-فالحسنات إما ضد السيئات، وإما مانعة منها فهي إما ضد وإما صد‏.‏ وإنما تكون السيئات عند ضعف الحسنات المانعة منها كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن‏"‏ فإن كمال الإيمان وحقيقته يمنع ذلك فلا يقع إلا عند نوع ضعف في الإيمان يزيل كماله‏.‏ وأما ترك السيئات‏:‏ فإما أن يراد به مجرد عدمها فالعدم المحض لا ينافي شيئا ولا يقتضيه بل الخالي القلب متعرض للسيئات أكثر من تعرضه للحسنات‏.‏ وإما أن يراد به الامتناع من فعلها، فهذا الامتناع لا يكون إلا مع اعتقاد قبحها وقصد تركها وهذا الاعتقاد والاقتصاد حسنتان مأمور بهما وهما من أعظم الحسنات‏.‏ فثبت بذلك أن وجود الحسنات يمنع السيئات وأن عدم السيئات لا يوجب الحسنات فصار في وجود الحسنات الأمران بخلاف مجرد عدم السيئات فليس فيه إلا أمر واحد وهذا هو المقصود‏.‏

    ج/ 20 ص -125-الوجه الثامن عشر
    أن فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا، فإن الإيمان يقتضي الأعمال الصالحة والعمل الصالح يدعو إلى نظيره وغير نظيره، كما قيل‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها‏.‏ وأما عدم السيئة فلا يقتضي عدم سيئة إلا إذا كان امتناعا فيكون من باب الحسنات كما تقدم وما اقتضى فرعا أفضل مما لا يقتضي فرعا له وهذا من نمط الذي قبله‏.‏
    الوجه التاسع عشر
    ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة وأما المختلط والمشتبه عليه فقد يكون الإمساك خيرا ‏[‏له‏]‏ ليبقى مع الفطرة فهذا حال المهتدي والضال وحال فإذا قام المقتضي للكفر والفسوق والعصيان في قلبه من الشبهات والشهوات لم يزل هذا الحس والحركة إلا بما يزيله أو يشتغل عنه من إيمان وصلاح كالعلم الذي يزيل الشبهة، والقصد الذي يمنع الشهوة وهذا أمر يجده المرء في نفسه وهو في كل شيء، فإن ما وجد مقتضيه فلا يزول إلا بوجود منافيه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد يزول ذلك بمباح‏.‏

    ج/ 20 ص -126-الوجه العشرون
    أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب في العلوم والأعمال بالكلم الطيب والعمل الصالح بالهدى ودين الحق وذلك بالأمور الموجودة في العقائد والأعمال فأمرهم في الاعتقادات بالاعتقادات المفصلة في أسماء الله وصفاته‏:‏ وسائر ما يحتاج إليه من الوعد والوعيد وفي الأعمال بالعبادات المتنوعة من أصناف العبادات الباطنة والظاهرة‏.‏ وأما في النفي فجاءت بالنفي المجمل والنهي عما يضر المأمور به فالكتب الإلهية وشرائع الرسل ممتلئة من الإثبات فيما يعلم ويعمل‏.‏ وأما المعطلة من المتفلسفة ونحوهم‏:‏ فيغلب عليهم النفي والنهي، فإنهم في عقائدهم الغالب عليهم السلب‏:‏ ليس بكذا ليس بكذا ليس بكذا؛ وفي الأفعال الغالب عليهم الذم والترك‏:‏ من الزهد الفاسد والورع الفاسد‏:‏ لا يفعل لا يفعل لا يفعل من غير أن يأتوا بأعمال صالحة يعملها الرجل تنفعه وتمنع ما يضره من الأعمال الفاسدة، ولهذا كان غالب من سلك طرائقهم بطالا متعطلا معطلا في عقائده وأعماله‏.‏

    ج/ 20 ص -127-واتباع الرسل في العلم والهدى والصلاح والخير في عقائدهم وأعمالهم وهذا بين في أن الذي جاءت به الرسل يغلب عليه الأمر والإثبات وطريق الكافرين من المعطلة ونحوهم يغلب عليه النهي والنفي وهذا من أوضح الأدلة على ترجيح الأمر والإثبات على النهي والنفي‏.
    الوجه الحادي والعشرون
    أن النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت وأمر بخلاف الأمر والإثبات فإنه يستقل بنفسه وهذا لأن الإنسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم ابتداء ولا يقصد المعدوم ابتداء وقد قررت هذا فيما تقدم وبينت أن الإنسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم إلا بتوسط تصور الموجود فإذا لم يمكنه تصوره لم يمكنه قصده بطريق الأولى، فإن القصد والإرادة مسبوق بالشعور والتصور والأمر في القصد والإرادة أوكد منه في الشعور والعلم فإن الإنسان يتصور الموجود والمعدوم ويخبر عنهما وأما إرادة المعدوم فلا يتصور من كل وجه وإنما إرادة عدم الشيء هي بغضه وكراهته فإن الإنسان إما أن يريد وجود الشيء أو عدمه أو لا يريد وجوده ولا عدمه فالأول هو أصل الإرادة والمحبة‏.‏ وأما الثاني وهو إرادة عدمه فهو بغضه وكراهته وذلك مسبوق بتصور المبغض المكروه فصار البغض والكراهة للشيء المقتضي لتركه الذي هو مقصود الناهي وهو المطلوب من المنهي فرعا من جهتين‏:‏

    ج/ 20 ص -128-من جهة أن تصوره فرع على تصور المحبوب المراد المأمور به وأن قصد عدمه الذي هو بغضه وكراهته فرع على إرادة وجود المأمور به الذي هو حبه وإرادته وذلك لأن الإنسان إذا علم عدم شيء وأخبر عن عدمه مثل قولنا‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وقولنا‏:‏ لا نبي بعد محمد وقولنا‏:‏ ليس المسيح بإله ولا رب وقولنا‏:‏ ذلك الكتاب لا ريب فيه إلى أمثال ذلك حتى ينتهي التمثيل إلى قول القائل‏:‏ ليس الجبل ياقوتا ولا البحر زئبقا ونحو ذلك فإن هذه الجمل الخبرية النافية التي هي قضايا سلبية لولا تصور النفي والمنفي عنه لما أمكنه الإخبار بالنفي والحكم فلا بد أن يتصور النفي والمنفي عنه مثل تصور الجبل والياقوت‏.‏ والمنفي هو عدم محض ونفس الإنسان التي هي الشاعرة العالمة المدركة بقواها وآلاتها لم تجد العدم ولم تفقهه ولم تصادفه ولم تحسه بشيء من حواسها الباطنة ولا الظاهرة ولا شعرت إلا بموجود لكن لما شعرت بموجود أخذ العقل والخيال يقدر في النفس أمورا تابعة لتلك الأمور الموجودة إما أمور مركبة وإما مشابهة لها فإنه أدرك الياقوت وأدرك الجبل ثم ركب في خياله جبل ياقوت وعرف جنس النبوة وعرف الزمان المتأخر عن مبعث محمد ﷺ ثم قدر نبيا في هذا الزمان المتأخر وعرف الإله والألوهية الثابتة لله رب

    ج/ 20 ص -129-العالمين ثم قدر وجودها بغيره من الموجودات‏.‏ ثم المؤمن ينفي هذا المقدر من ألوهية غير الله تعالى ونبوة أحد بعد محمد ﷺ والكافر قد يعتقد ثبوت هذا القدر فيرى ثبوت الألوهية للشمس، أو القمر، أو الكواكب أو الملائكة أو النبيين أو بعضهم، أو الصالحين أو بعضهم، أو غيرهم من البشر أو الأوثان المصنوعة مثلا لبعض هذه الآلهة المتخذة من دون الله سبحانه فالمقصود أن الإنسان لم يمكنه تصور عدم شيء ولا الإخبار به إلا بعد أن يتصور وجودا قاس به عليه، وقدر به شيئا آخر، ثم نفى ذلك المقيس المقدر به، ثم أثبته والفرع المقيس المقدر تبع للأصل المقيس عليه المقدر به فلا يتصور العدم إلا بطريق القياس والتمثيل والتفريع لا بطريق الاستقلال والحقيقة والتأصيل وإن كان بعض الموجودات لا يمكن الناس أو بعضهم أن يتصوره في الدنيا إلا بطريق القياس أو التمثيل لكن من الموجودات ما يدركه الإنسان حقيقة وتأويلا، ومنها ما يدركه قياسا أو تمثيلا، كمدركات المنام‏.‏ وأما المعدوم فلا يدركه إلا قياسا أو تمثيلا، إذ ليس له حقيقة ينالها الحي المدرك وتباشرها الذوات الشاعرة، إذ حقيقة كل شيء في الخارج عين ماهيته‏.‏ وأما ما يقدر في العقل من الماهيات والحقائق فقد يكون له حقيقة في الوجود الخارجي العيني الكوني، وقد لا يكون

    ج/ 20 ص -130-وهكذا الأمر في القصد والحب والإرادة من جهتين‏:‏ من جهة أن المقصود المحبوب أو المكروه المبغض لا يتصور حبه ولا بغضه إلا بعد نوع من الشعور به والشعور في الموجود أصل، وفي المعدوم فرع فالحب والبغض الذي يتبعه أولى بذلك‏.‏ ومن جهة أن الإنسان إنما يحب ما يلائمه ويناسبه وله به لذة ونعيم ونفسه لا تلائم العدم المحض والنفي الصرف، ولا تناسبه، ولا له في العدم المحض لذة ولا سرور ولا نعمة ولا نعيم ولا خير أصلا، ولا فائدة قطعا، بل محبة العدم المحض كعدم المحبة واللذة بالعدم المحض كعدم اللذة وما ليس شيء أصلا كيف يكون فيه منفعة أو لذة أو خير‏؟‏ ولكن نفسه تحب ما لها فيه منفعة ولذة مثل محبة اللبن عند ولادته، ولغير ذلك من الأغذية ثم لما يلتذ به من منكوح ونحوه ثم ما يلتذ به من شرف ورياسة ونحو ذلك ثم ما يلتذ به من العقل والعلم والإيمان ويحب ما يدفع عنه المضرة من اللباس والمساكن والخير الذي يقيه عدوه من الحر والبرد والآدميين المؤذين، والدواب المؤذية وغير ذلك فيحب وجود ما ينفعه وعدم ما يضره‏.‏ والنافع له إنما هو أمر موجود كما تقدم وأما الضار له فتارة

    ج/ 20 ص -131-يراد به عدم النافع فإن أكثر ما يضره عدم النافع‏.‏ وعدم النافع إنما يقصد بوجود النافع‏.‏ وتارة يضره أمر موجود فذلك الذي يضره لم يبغض منه إلا مضرته له ومضرته له إزالة نعيمه أو تحصيل عذابه‏.‏ فإن قيل‏:‏ ما ذكرته معارض، فإن القرآن من أوله إلى آخره يأمر بالتقوى ويحض عليها حتى لم يذكر في القرآن شيء أكثر منها وهي وصية الله إلى الأولين والآخرين وهي شعار الأولياء وأول دعوة الأنبياء وأهل أصحاب العاقبة، وأهل المقعد الصدق إلى غير ذلك من صفاتها‏.‏ والتقوى هي ترك المنهي عنه وقد قال سهل بن عبد الله‏:‏ أعمال البر يعملها البر والفاجر ولن يصبر عن الآثام إلا صديق‏.‏
    وفي تعظيم الورع وأهله، والزهد وذويه، ما يضيق هذا الموضع عن ذكره؛ وانما ذلك عائد إلى ترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات، وهي بقسم المنهي عنه أشبه منها بقسم المأمور به، والناس يذكرون من فضائل أهل هذا الورع ومناقبهم ما لا يذكرون عن غيرهم‏.‏

    ج/ 20 ص -132-فنقول‏:‏ هذا السؤال مؤلف من شيئين‏:‏ جهل بحقيقة التقوى والورع والزهد‏.‏ وجهل بجهة حمد ذلك‏.‏
    فنقول أولا‏:‏ ومن الذى قال إن التقوى مجرد ترك السيئات؛ بل التقوى كما فسرها الأولون والآخرون فعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه‏.‏ كما قال طلق بن حبيب‏:‏ لما وقعت الفتنة اتقوها بالتقوى‏.‏ قالوا‏:‏ وما التقوى‏.‏ قال إن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله ؛ وان تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عذاب الله‏.‏ وقد قال تعإلى في أكبر سورة في القرآن‏:‏
    ‏"الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏ إلى آخرها‏.‏ فوصف المتقين بفعل المأمور به من الإ يمان، والعمل الصالح من إقام الصلاة وايتاء الزكاة وقال‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏‏.‏وقال‏:‏ ‏"لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏"[‏البقرة‏:‏ 177‏]

    ج/ 20 ص -133-وهذه الاية عظيمة جليله القدر من أعظم آى القرآن واجمعه لامر الدين؛ وقد ‏"‏روي أن النبي ﷺ ‏:‏ سئل عن خصال الايمان فنزلت‏"‏ وفي الترمذي، عن فاطمة بنت قيس عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن في المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية‏"‏‏.‏
    وقد دلت على أمور‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون، وعامة هذه الأمور فعل مأمور به‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه أخبر أن هذه الأ مور هي البر، وأهلها هم الصادقون يعنى في قوله آمنا وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها، فعلم أن المأمور به أدخل في البر والتقوى والايمان من عدم المنهي عنه وبهذه الاسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعإلى‏:‏
    ‏"إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏"‏[‏الإنفطار‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏ ‏"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ‏"‏[‏القمر‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها، لأنه

    ج/ 20 ص -134-أخبر أن أهلها هم الذين صدقوا في قولهم، وهم المتقون، والصدق واجب والإيمان واجب إيجاب حقوق سوى الزكاة؛ وقوله‏:‏ ‏"فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا‏"‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ وقوله لبنى اسرائيل‏:‏ ‏"لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ وقوله ‏:‏ ‏"وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏ في سبحان والروم فاتيان ذى القربى حقه صله الرحم والمسكين اطعام الجائع وابن السبيل قرى الضيف وفي الرقاب فكاك العانى واليتيم نوع من اطعام الفقير‏.‏
    وفي البخارى عن النبي ﷺ ‏:‏ ‏
    "‏عودوا المريض واطعموا الجائع وفكوا العاني‏"‏؛ وفي الحديث الذى أفتى به أحمد ‏"‏لو صدق السائل ما أفلح من رده‏"‏؛ وأيضا فالرسول مثل نوح، وهود، وصالح، وشعيب، فاتحة دعواهم في هود أن ‏"اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏"‏[‏هود‏:‏ 50‏]‏، وفي الشعراء

    ج/ 20 ص -135-"ألا تتقون" ‏"فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏"‏[‏الشعراء‏:‏ 126‏]‏، وقال تعإلى‏:‏ ‏"وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى‏"‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏، وقال تعإلى‏:‏ ‏"بَلَى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 76‏]‏، وقال تعإلى‏:‏ ‏"فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فقد بين أن الوفاء بالعهود من التقوى التى يحبها الله، والوفاء بالعهود هو جملة المأمور به، فان الواجب إما بالشرع أو بالشرط، وكل ذلك فعل مأمور به، وذلك وفاء بعهد الله وعهد العبيد، وذلك أن التقوى إما تقوى الله وإما تقوى عذابه، كما قال‏:‏ ‏"فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ ‏"وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 131‏]‏؛ فالتقوى اتقاء المحذور بفعل المأمور به وبترك المنهي عنه وهو بالأول أكثر وإنما سمى ذلك تقوى لأن ترك المأمور به وفعل المنهي عنه سبب الأمن من ذم الله وسخط الله وعذاب الله، فالباعث عليه خوف الإثم، بخلاف ما فيه منفعة وليس في تركه مضرة، فإن هذا هو المستحب الذى له أن يفعله، وله أن لا يفعله فذكر ذلك باسم التقوى ليبين وجوب ذلك، وأن صاحبه متعرض للعذاب بترك التقوى‏.‏
    ونقول ثانيا إنه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهي إن قيل ذلك كما في قوله‏:‏ ‏
    "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى‏"‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ قال بعض السلف ‏:‏ البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه فلا يكون ذلك إلا مقرونا

    ج/ 20 ص -136-بفعل المأمور به كما ذكر معها البر وكما في قول نوح‏:‏ ‏"أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ‏"‏[‏نوح‏:‏ 3‏]‏ وذلك لأن هذه التقوى مستلزمة لفعل المأمور به‏.‏
    ونقول ثالثا‏:‏ إن أكثر بنى آدم قد يفعل بعض المأمور به ولا يترك المنهي عنه إلا الصديقون، كما قال سهل؛ لأن المأمور به له مقتضى في النفس وأما ترك المنهي عنه إلى خلاف الهوى ومجاهدة النفس فهو أصعب وأشق، فقل أهله ولا يمكن أحدا أن يفعله إلا مع فعل المأمور به، لا تتصور تقوى وهي فعل ترك قط؛ فان من ترك الشرك واتباع الهوى المضل واتباع الشهوات المحرمات فلابد أن يفعل من المأمور به أمورا كثيرة تصده عن ذلك فتقواهم تحفظ لهم حسناتهم التى أمروا بها وتمنعهم من السيئات التى تضرهم بخلاف من فعل ما أمر به وما نهي عنه مثلا؛ فان وجود المنهي عنه يفسد عليه من المأمور به ما يفسد، فلا يسلم له، ولهذا كانت العاقبة للتقوى، كما قال تعإلى‏:‏
    ‏"وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏، ‏"وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏"‏‏[‏الأعراف‏:‏ 128، والقصص‏:‏ 83‏]‏‏,‏ ‏"وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏‏.‏ وذلك لأن المتقين بمنزلة من أكل الطعام النافع واتقى الأطعمة المؤذية فصح جسمه، وكانت عاقبته سليمة‏.‏ وغير المتقى بمنزلة من خلط من الأطعمة فإنه وإن إغتذى بها لكن تلك التخاليط قد تورثه

    ج/ 20 ص -137-أمراضا، إما مؤذية وإما مهلكة ومع هذا فلا يقول عاقل إن حاجته وانتفاعه بترك المضر من الاغذية أكثر من حاجته وانتفاعه بالأغذية النافعة بل حاجته وانتفاعه بالأغذية التى تناولها أعظم من انتفاعه بما تركه منها، بحيث لو لم يتناول غذاء قط لهلك قطعا، وأما إذا تناول النافع والضار فقد يرجى له السلامة وقد يخاف عليه العطب، وإذا تناول النافع دون الضار حصلت له الصحة والسلامة‏.‏
    فالأول‏:‏ نظير من ترك المأمور به، والثاني‏:‏ نظير من فعل المأمور به والمنهي عنه وهو المخلط الذى خلط عملا صالحا وآخر سيئا، والثالث‏:‏ نظير المتقى الذى فعل ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فعظم أمر التقوى لتضمنها السلامة مع الكرامة لا لأجل السلامة فقط فإنه ليس في الآخرة دارا إلا الجنة أو النار، فمن سلم من النار دخل الجنة، ومن لم ينعم عذب فليس في الآدميين من يسلم من العذاب، والنعيم جميعا‏.‏ فتدبر هذا فكل خصلة قد أمر الله بها أو أثنى عليها ففيها فعل المأمور به ولابد تضمنا او استلزاما، وحمدها لنيل الخير عن الشر والثواب عن العقاب‏.‏
    وكذلك الورع المشروع والزهد المشروع من نوع التقوى الشرعية، ولكن قد غلط بعض الناس في ذلك فأما الورع المشروع المستحب الذى بعث الله به محمدا ﷺ فهو اتقاء من يخاف

    ج/ 20 ص -138-أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التى تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التى تشبه الحرام وإن ادخلت فيها المكروهات قلت نخاف أن تكون سبب للنقص والعذاب‏.‏ وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم والفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه؛ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع‏.‏ وقولي عند عدم المعارض‏:‏ الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أوالمشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج و الغزو وكذلك قد لا يؤدى الواجب البين، أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم اثما من تركه مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه‏.‏
    والأصل في الورع المشتبه قول النبي ﷺ ‏:‏
    ‏"‏الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في

    ج/ 20 ص -139-الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه‏"‏، في الصحيحين وفي السنن قوله‏:‏ ‏"‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏البر ما اطمأنت اليه النفس وسكن اليه القلب‏"‏، وقوله في صحيح مسلم في رواية‏:‏ ‏"‏البر حسن الخلق والاثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس‏"‏ وأنه رأى على فراشه تمرة فقال‏:‏ ‏"‏لو لا انى اخاف ان تكون من تمر الصدقة لأكلتها‏"‏‏.‏
    وأما في الواجبات لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات‏:‏ أحدها‏:‏ اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب وهذ يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكإذبة، وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم ومعاملة فاسدة ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية، وقد تعينت عليه، من صلة رحم؛ وحق جار؛ ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل؛ وحق مسلم وذى سلطان وذى علم وعن أمر بمعروف

    ج/ 20 ص -140-ونهي عن منكر وعن الجهاد في سبيل الله؛ إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعإلى بل من جهة التكليف ونحو ذلك‏.‏
    وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار، من الجمعة والجماعة، والحج والجهاد ونصيحة المسلمين والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاده أهل السنة والجماعة‏.‏
    الجهة الثانية‏:‏ من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغى أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن اشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوى تحريمها واشتباهها عنده ويكون بعضهم في أوهام وظنون كإذبة فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد فيكون صاحبه ممن قال الله تعإلى فيه‏:‏
    ‏"إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ‏"‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏، وهذ حال أهل الوسوسة في النجاسات فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم‏.‏ وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة

    ج/ 20 ص -141-أو مشتبهه أو كلها وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذى سلطان لأنه مستحق لها وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة ‏.‏
    وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وذم المتنطعين في الورع‏.‏ وقد روي مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود قال ‏:‏ قال رسول الله ﷺ ‏:
    ‏ ‏"‏هلك المتنطعون‏"‏ قالها ثلاثا‏.‏
    وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الاسلام من هذا الباب وكذلك ما ذمه الله تعإلى في القرآن من ورعهم عما حرمو ولم يحرمه الله تعإلى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام‏.‏
    ومن هذا الباب الورع الذى ذمه الرسول ﷺ في الحديث الذى في الصحيح، لما ترخص في اشياء فبلغه ان اقواما تنزهوا عنها فقال‏:‏
    ‏"‏ما بال رجال يتنزهون عن اشياء اترخص فيها والله انى لأرجو أن اكون اعلمهم بالله واخشاهم‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏اخشاهم وأعلمهم بحدوده له‏"‏ وكذلك حديث صاحب القبلة‏.‏
    ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه

    ج/ 20 ص -142-في الدين وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم‏.‏
    الثالثة‏:‏ جهة المعارض الراجح‏.‏ هذا أصعب من الذى قبله؛ فإن الشىء قد يكون جهة فساده يقتضى تركه فيلحظه المتورع؛ ولا لحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح؛ وبالعكس فهذا هذا‏.‏ وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذى فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقوامًا هم إلى النجاة والسعادة أقرب‏.‏
    وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وأمثاله كثيرة، فإنه ينتفع بها أهل الورع الناقص أو الفاسد؛ وكذلك أهل الزهد الناقص أوالفاسد فإن الزهد المشروع الذي به أمر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح، فترك فضول المباح الذى لا ينفع في الدين زهد وليس بورع، ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر كما روي الترمذي عن كعب بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ ‏:‏
    ‏"‏ما ذئبان جائعان ارسلا في زريبة غنم بافسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه‏"‏ قال الترمذي حديث حسن صحيح فذم النبي ﷺ الحرص

    ج/ 20 ص -143-على المال والشرف وهو الرياسة والسلطان وأخبر ان ذلك يفسد الدين مثل أو فوق افساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم‏.‏
    وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم لأنه يفسد الدين الذى هو الإيمان والعمل والصالح فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل وهذان هما المذكوران في قوله تعإلى‏:‏ ‏
    "مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ‏"‏[‏الحاقة‏:‏ 28، 29‏]‏ ، وهما اللذان ذكرهما الله في سورة القصص حيث افتتحها بأمر فرعون وذكر علوه في الارض وهو الرياسة والشرف والسلطان ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا ثم قال‏:‏ ‏"تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا‏"‏ [‏القصص‏:‏ 83‏]‏ كحال فرعون وقارون؛ فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد وكذلك الإنسان إذا اختار السلطان لنفسه بغير العدل والحق لا يحصل الإ بفساد وظلم وأما نفس وجود السلطان والمال الذى يبتغى به وجه الله والقيام بالحق والدار الآخرة ويستعان به على طاعة الله، ولا يفتر القلب عن محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله كما كان النبي ﷺ وأبو بكر وعمر ولا يصده عن ذكر الله فهذا من أكبر نعم الله تعإلى على عبده إذا كان كذلك‏.‏ ولكن قل أن

    ج/ 20 ص -144-تجد ذا سلطان أو مال الا وهو مبطأ مثبط عن طاعة الله ومحبته متبع هواه فيما آتاه الله وفيه نكول حال الحرب والقتال في سبيل الله والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهذه الخصال يكتسب المهانة والذم دنيا واخرى‏.‏
    وقد قال تعإلى لنبيه وأصحابه‏:‏ ‏
    "وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏ فأخبر أنهم هم الأعلون وهم مع ذلك لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا وقال تعإلى‏:‏ ‏"فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ‏"‏[‏محمد‏:‏ 35‏]‏؛ ‏"إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ‏"‏ [‏التوبة‏:‏ 111‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً‏"‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏؛ فالشرف والمال لا يحمد مطلقا ولا يذم مطلقا بل يحمد منه ما أعان على طاعة الله؛ وقد يكون ذلك واجبا وهو ما لابد منه في فعل الواجبات، وقد يكون مستحبا؛ وإنما يحمد إذا كان بهذه النية ويذم ما استعين به على معصية الله أو صد عن الواجبات فهذا محرم ‏.‏
    وينتقص منه ما شغل عن المستحبات وأوقع في المكروهات والله أعلم كما جاء في الحديث‏:‏
    ‏"‏من طلب هذا المال استغناء عن الناس واستعفافا عن المسالة وعودا على جاره الضعيف والأرملة والمسكين لقى الله تعإلى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبه مرائيا مفاخرا

    ج/ 20 ص -145-مكاثرا لقى الله وهو عليه غضبان‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏التاجر الامين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏نعم المال الصالح للرجل الصالح‏"‏‏.
    واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص أما في الورع بفعل المأمور به فظاهر فإن الله تعإلى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه؛ وإما بترك المنهي عنه الذى يسميه بعض الناس ورعا فإنه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها وإن لم يعاقب عليها، وإن تركها لوجه الله اثيب عليها؛ ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله أو خشية عذابه، ورجاء رحمته وخشية عذابه من الأمور الوجودية المأمور بها فتبين أن الورع لا يكون عملا صالحا الإ بفعل المأمور به من الرجاء والخشية والإ فمجرد الترك العدمى لا ثواب فيه‏.‏ وأما الزهد الذى هو ضد الرغبة فإنما يحمد حمدا مطلقا وتذم الرغبة لترك العمل للآخرة قال تعإلى‏
    :‏ ‏"مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النَّارُ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏20‏]‏، وقال‏:‏ ‏"مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏،

    ج/ 20 ص -146-فمن لم يرد الدار الآخرة قولا وعملا وإيثارا ومحبة ورغبة وإنابة فلا خلاق له في الآخرة ولا فائدة له في الدار الدنيا بل هو كافر ملعون مشتت معذب لكن قد ينتفع بزهده في الدنيا بنوع من الراحة العاجلة وهو زهد غير مشروع وقد يستضر بما يفوته من لذات الدنيا وإن كان غير زاهد فلا راحة له في هذا‏.‏
    فمن زهد لطلب راحة الدنيا أو رغب لطلب لذاتها لم يكن واحد منهما في عمل صالح ولا هو محمود في الشرع على ذلك ولكن قد يترجح هذا تارة وهذا تارة في مصلحة الدنيا كما تترجح صناعة على صناعة وتجارة على تجارة وذلك أن لذات الدنيا لا تنال غالبا إلا بنوع من التعب فقد تترجح تارة لذة الترك على تعب الطلب وقد يترجح تعب الطلب على لذة الترك فلا حمد على ترك الدنيا لغير عمل الآخرة كما لا حمد لطلبها لغير عمل الآخرة‏.‏
    فثبت أن مجرد الزهد في الدنيا لا حمد فيه كما لا حمد على الرغبة فيها وإنما الحمد على إرادة الله والدار الآخرة والذم على إرادة الدنيا المانعة من إرادة ذلك كما تقدم؛ وكما في قوله تعإلى‏:
    ‏ ‏"إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرة فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 28، 29‏]‏، ولهذا جرت عادة أهل المعرفة بتسمية هذا الطالب المريد

    ج/ 20 ص -147-فان أول الخير إرادة الله ورسوله والدار الآخرة؛ ولهذا قال النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏إنما الاعمال بالنيات‏"‏، فثبت أن الزهد الواجب هو ترك ما يمنع عن الواجب من إرادة الله والدار الآخرة والزهد المستحب هو ما يشغل عن المستحب من أعمال المقربين والصديقين، فظهر بذلك أن المطلوب بالزهد فعل المأمور به من ثلاثة أوجه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه لولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها بل كان يكون فعله وتركه سواء أو يرجح هذا أو يرجح هذا ترجيحا دنيويا‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه إذا قدر أن شخصين أحدهما يريد الآخرة ويريد الدنيا والآخر زاهد في الدنيا والآخرة لكان الأول منهما مؤمنا محمودا والثاني كافرا ملعونا مع أن الثاني زاهد في الدنيا والأول طالب لها لكن امتاز الأول بفعل مأمور مع أرتكاب محظور والثاني لم يكن معه ذلك المأمور به فثبت أن فعل المأمور به من إرادة الآخرة ينفع والزهد بدون فعل هذا المأمور لا ينفع‏.‏
    الثالث‏:‏ المحمود في الكتاب والسنة إنما هو إرادة الدار الآخرة والمذموم إنما هو من ترك إرادة الدار الآخرة واشتغل بإرادة الدنيا

    ج/ 20 ص -148-عنها، فاما مجرد مدح ترك الدنيا فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تنظر إلى كثرة ذم الناس الدنيا ذما غير دينى فإن أكثر العامة إنما يذمونها لعدم حصول أغراضهم منها فإنها لم تصف لاحد قط ولو نال منها ما عساه أن ينال وما امتلأت دار حبرة الا امتلات عبرة فالعقلاء يذمون الجهال الذين يركنون اليها ويظنون بقاء الرياسة والمال وتناول الشهوات فيها وهم مع هذا يحتاجون إلى ما لابد لهم منه منها وأكثرهم طالب لما يذمه منها، وهؤلاء حقيقة ذمهم لها ذم دنيوى لما فيها من الضرر الدنيوي، كما يذم العقلاء التجارة والصناعة التى لا ربح فيها بل فيها تعب وكما تذم معاشرة من يضرك ولا ينفعك في التزويج بسيئة الخلق ونحو ذلك من الأمور التى لا تعود مضرتها ومنفعتها إلا إلى الدنيا أيضا ولا ريب أن ما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعا في الآخرة كإضاعة المال والعبادات الشاقة التى لم يأمر الله بها ولا رسوله وما فيه منفعة في الدنيا مذموم إذا كان ضارا في الآخرة كنيل اللذات وإدراك الشهوات المحرمة وكذلك اللذات والشهوات المباحات إذا حصل للعبد بها وهنا وتأخيرا في أمر الآخرة وطلبها وما كان مضرا في الدنيا والآخرة فهو شر وشدة ، وما كان نافعا في الآخرة فهو محمود وإن كان ضارا في الدنيا كإذهاب النفوس والأموال

    ج/ 20 ص -149-في الجهاد في سبيل الله؛ وكذلك ما لم يكن ضارا في الدنيا مثل كثير من العبادات، وما كان نافعا في الدنيا والآخرة فهو محمود أيضا فالأقسام سبعة‏.‏
    فما كان نافعا في الآخرة فهو محمود سواء ضر في الدنيا أو نفع، أو لم ينفع ولم يضر؛ وما كان ضارا في الآخرة فهو مذموم وإن كان نافعا في الدنيا أو ضارا أو لا نافعا ولا ضارا، وبقى ثلاثة أقسام ما كان نافعا في الدنيا غير ضار في الآخرة وضارا في الدنيا غير نافع في الآخرة والنافع محمود والضار مذموم؛ والقسم الثالث فيه قولان قيل لا حمد فيه ولا ذم وقيل بل هو مذموم فأكثر ذم الناس للدنيا ليس من جهة شغلها لهم عن الآخرة وإنما هو من جهة ما يلحقهم من الضرر فيها وهي مذمومة من ذلك الوجه، وأعلى وجوه الذم هو ما شغل عن الآخرة ولكن الإنسان قد يعدد المصائب وينسى النعم فقد يذم أمورا كثيرة لمضرة تلحه ويكون فيها منافع كثيرة لا يذكرها وهذا الذم من نوع الهلع والجزع كما

    ج/ 20 ص -150-قال تعإلى‏:‏ ‏"إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ‏"‏[‏المعارج‏:‏ 19‏:‏ 22‏]‏، وانما الذم المحقق هو ما يشغل عن مصلحة الآخرة من الواجب، والنقص هو ما يشغل عن مصلحتها المستحبة ويذم ما ترجحت مضرته على منفعته فيها فهذه ثلاثة أمور هي فصل الخطاب فقد تبين أن المحمود فيها وجودى أو عدمى وقد يقع الغلط في الزهد من وجوه كما وقع في الورع‏:‏
    أحدها‏:‏ أن قوما زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبات كمن ترك النساء واللحم ونحو ذلك، وقد قال ﷺ ‏:‏
    ‏"‏لكنى أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى‏"‏‏.‏
    والثاني‏:‏ أن زهد هذا أوقعه في فعل محظورات كمن ترك تناول ما أبيح له من المال والمنفعة واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام أو سأل الناس المسألة المحرمة أو استشرف إليهم والاستشراف مكروه‏.‏
    والثالث‏:‏ من زهد زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع، فإن العبد إذا كان زاهدا بطالا فسد أعظم فساد، فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة كما قا

    ج/ 20 ص -151-عبدالله بن مسعود‏:‏ إنى لأكره أن أرى الرجل بطالا ليس في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة وهؤلاء من أهل النار، وكما قال النبي ﷺ في الحديث الذى رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏اهل النار خمسة‏"‏، فذكر منهم ‏"‏الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا‏"‏‏.‏
    فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها كان ما تركه خيرا من زهده أو فعل سيئات منهيا عنها أو دخل في الكسل والبطالات فهو من الاخسرين أعمالا
    ‏"الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏ ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرمات فهو من المقتصدين أصحاب اليمين‏.‏
    ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقدمين السابقين‏.‏
    فهذه جملة مختصرة في الزهد، وقد تبين المطلوب الأول إنما هو فعل المأمور به لأنه يعين عليه وهذا هو المقصود هنا والله أعلم‏.

    ج/ 20 ص -152-واحذر ان تغتر بزهد الكافرين والمبتدعين فإن الفاسق المؤمن الذى يريد الآخرة ويريد الدنيا خير من زهاد أهل البدع وزهاد الكفار إما لفساد عقدهم، وإما لفساد قصدهم وإما لفسادهما جميعا‏.‏
    الوجه الثاني والعشرون
    أن الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا والسيئات سبب للتحريم دينا وكونا، فإن التحريم قد يكون حمية، وقد يكون عقوبة والإحلال قد يكون سعة، وقد يكون عقوبة وفتنة قال تعالى‏:‏ ‏
    "أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ فأباح بهيمة الأنعام في حال كونهم غير محلي الصيد وهو اعتقاد تحريم ذلك واجتنابه‏.‏ وقال‏:‏"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏"[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وقد ثبت أنها نزلت عشية عرفة في حجة الوداع فأكمل الله الدين بإيجابه لما أوجبه من الواجبات التي آخرها الحج وتحريمه للمحرمات المذكورة في هذه الآية هذا من جهة شرعه ومن جهة الفعل الذي هو تقويته وإعانته ونصره يئس الذين كفروا من ديننا وحج النبي ﷺ حجة الإسلام فلما أكملوا الدين قال عقب ذلك‏:‏

    ج/ 20 ص -153-‏"يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏"الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ فكان إحلاله الطيبات يوم أكمل الدين فأكمله تحريما وتحليلا لما أكملوه امتثالا‏.‏
    وقال‏:‏
    ‏"لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏ الآية وهي بينة في الإصلاح والتقوى والإحسان موجبة لرفع الحرج وإن المؤمن العامل الصالحات المحسن لا حرج عليه ولا جناح فيما طعم فإن فيه عونا له وقوة على الإيمان والعمل الصالح والإحسان‏:‏ ومن سواهم على الحرج والجناح، لأن النعم إنما خلقها الله ليستعان بها على الطاعة والآية مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن وقال تعالى عن إبراهيم‏:‏ "وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏، وقال‏:‏ ‏"قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏،
    وقال‏:‏
    ‏"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وقال‏.‏ ‏"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 65‏:‏ 66‏]‏‏.‏

    ج/ 20 ص -154-وأما الطرف الآخر فقال تعالى‏:‏ ‏"فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّه ِكَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 160،161‏]‏‏,‏ وقال‏:‏ عَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏، إلى آخر الآيات‏.‏ وأما كون الإحلال والإعطاء فتنة فقوله‏:‏ ‏"وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏"‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16، 17‏]‏، ‏"وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 75، 76‏]‏ الآيات، ‏"إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏"‏ [‏الكهف‏:‏ 7‏]‏، ‏"وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏"[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، ‏"يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ‏"‏[‏طه‏:‏ 80‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏"كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى‏"‏[‏طه‏:‏ 81‏]‏‏.‏
    ويختلف التحليل والتحريم باعتبار النية كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، وقال‏:‏"مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏‏.‏

    ج/ 20 ص -155-وقد كتبت في قاعدة ‏[‏العهود والعقود‏]‏- القاعدة في العهود الدينية في القواعد المطلقة والقاعدة في العقود الدنيوية في القواعد الفقهية، وفي كتاب النذر أيضا - أن ما وجب بالشرع إن نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبا ثانيا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فتكون واجبة من وجهين بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهد والميثاق وما يستحقه عاصي الله ورسوله‏.‏ هذا هو التحقيق‏.‏ ومن قال من أصحاب أحمد‏:‏ إنه إذا نذر واجبا فهو بعد النذر كما كان قبل النذر بخلاف نذر المستحب فليس كما قال بل النذر إذا كان يوجب فعل المستحب فإيجابه لفعل الواجب أولى وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل هما وجوبان من نوعين لكل نوع حكم غير حكم الآخر مثل الجدة إذا كانت أم أم أم وأم أب أب فإن فيها شيئين كل منهما تستحق به السدس‏.‏
    وكذلك من قال من أصحاب أحمد‏:‏ إن الشروط التي هي من مقتضى العقد لا يصح اشتراطها أو قد تفسده حتى قال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ إذا قال‏:‏ زوجتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان كان النكاح فاسدا، لأنه شرط فيه الطلاق‏.‏ فهذا

    ج/ 20 ص -156-كلام فاسد جدا، فإن العقود إنما وجبت موجباتها لإيجاب المتعاقدين لها على أنفسهما ومطلق العقد له معنى مفهوم فإذا أطلق كانا قد أوجبا ما هو المفهوم منه، فإن موجب العقد هو واجب بالعقد كموجب النذر لم يوجبه الشارع ابتداء وإنما أوجب الوفاء بالعقود كما أوجب الوفاء بالنذر فإذا كان له موجب معلوم بلفظ مطلق أو يعرف المتعاقدان إيجابه بلفظ خاص‏:‏ كان هذا من باب عطف الخاص على العام فيكون قد أوجبه مرتين أو جعل له إيجابا خاصا يستغنى به عن الإيجاب العام‏.‏
    وفي القرآن من هذا نظائر مثل قوله‏:‏
    ‏"مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏"حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ‏"‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏، فإن الله أعلن عهده الذي أمرهم به من بعد ما أخذ عليهم الميثاق بالوفاء به فاجتمع فيه الوجهان‏:‏ العهدي، والميثاقي‏.‏

    ج/ 20 ص -157-وفي القرآن من العهود والمواثيق على ما وجب بأمر الله شيء كثير فمن ذلك قوله تعالى‏:‏"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏"[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏ الآية وقوله‏:‏‏"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً‏"[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏، إلى آخر الكلام وقوله‏:‏ ‏"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ الآية إلى قوله‏:‏ ‏"بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 76، 77‏]‏ فإن قوله‏:‏ ‏"بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 76‏]‏، بعد ذكره للإيمان يقتضي أنه الوفاء بموجب العقود في المعاملات ونحوها كما قال في آية البيع‏:‏ ‏"فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏، فأداء الأمانة هو الوفاء بموجب العقود في المعاملات من القبض والتسليم، فإن ذلك واجب بعقده فقط ثم قال بعده‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏، فعهد الله ما عهده إليهم وأيمانهم ما عقدوه من الأيمان‏.‏
    وسبب نزولها قصة الأشعث بن قيس التي في الصحيحين في محاكمته مع اليهودي حين قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان‏"‏ وأنزل الله هذه الآية فإن ذلك المال كان يجب تسليمه إلى مستحقه

    ج/ 20 ص -158-بموجب عهده فإذا حلف بعد هذا على استحقاقه دون مستحقه فقد صار عاصيا من وجهين نظير قوله‏:‏ ‏"الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏، وضدهم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وقوله‏:‏ ‏"وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ الآية قال ابن عباس‏:‏ ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق‏:‏ لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمر أن يأخذ الميثاق على أمته‏:‏ إن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه‏.‏
    ومعلوم أن محمدا إذا بعثه الله برسالة عامة وجب الإيمان به ونصرته على كل من بلغته دعوته وإن لم يكن قد أخذ عليه ميثاق بذلك وقد أخذ عليهم الميثاق بما هو واجب بأمر الله بلا ميثاق وقوله تعالى‏:‏ ‏
    "فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ‏"‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏"‏[‏النساء‏:‏ 154، 155‏]‏ الآيات فهذا ميثاق أخذه الله ‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML