ج/ 19 ص -235-وقال شيخ الإسلام:
فَصْل جامع نافع
الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة؛ منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله؛ كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان والإسلام، والكفر والنفاق.ومنه ما يعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر،والسماء والأرض،والبر والبحر. ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم فيتنوع بحسب عادتهم؛ كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يَحُدُّها الشارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس.
فما كان من النوع الأول فقد بينه الله ورسوله، وما كان من النوع الثاني والثالث فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة قد عرفوا المراد به؛ لمعرفتهم بمسماه المحدود في اللغة، أو المطلق في عرف الناس
ج/ 19 ص -236-وعادتهم من غير حد شرعي ولا لغوي، وبهذا يحصل التفقه في الكتاب والسنة.
والاسم إذا بين النبي ﷺ حَدَّ مسماه لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه، بل المقصود أنه عرف مراده بتعريفه هو ﷺ كيف ماكان الأمر؛ فإن هذا هو المقصود، وهذا كاسم الخمر؛ فإنه قد بين أن كل مُسْكر خمر، فعرف المراد بالقرآن. وسواء كانت العرب قبل ذلك تطلق لفظ الخمر على كل مسكر أو تخص به عصير العنب لا يحتاج إلى ذلك؛ إذ المطلوب معرفة ما أراد الله ورسوله بهذا الاسم، وهذا قد عرف ببيان الرسول ﷺ، وبأن الخمر في لغة المخاطبين بالقرآن كانت تتناول نَبِيذ التمر وغيره، ولم يكن عندهم بالمدينة خمر غيرها. وإذا كان الأمر كذلك، فما أطلقه الله من الأسماء وعَلَّق به الأحكام من الأمر والنهي والتحليل والتحريم لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله.
فمن ذلك اسم الماء مطلق في الكتاب والسنة، ولم يقسمه النبي ﷺ إلى قسمين: طهور، وغير طهور، فهذا التقسيم، مخالف للكتاب والسنة، وإنما قال الله: "فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء" [النساء: 43]، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، وبينا أن كل ما وقع عليه اسم الماء فهو طاهر طهور، سواء كان مستعملاً في طهر واجب، أو مستحب،
ج/ 19 ص -237-أو غير مستحب؛ وسواء وقعت فيه نجاسة، أو لم تقع إذا عرف أنها قد اسْتَجَالت فيه واستهلكت، وأما إن ظهر أثرها فيه فإنه يحرم استعماله؛ لأنه استعمال للمحرم.
فَصْل
ومن ذلك اسم الحَيض، علق الله به أحكامًا متعددة في الكتاب والسنة، ولم يُقَدِّر لا أقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوي الأمة بذلك، واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حدًا فقد خالف الكتاب والسنة، والعلماء منهم من يحد أكثره وأقله، ثم يختلفون في التحديد. ومنهم من يحد أكثره دون أقله، والقول الثالث أصح: أنه لا حد له لأقله ولا لأكثره، بل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض، وإن قدر أنه أقل من يوم استمر بها على ذلك فهو حيض، وإن قدر أن أكثره سبعة عشر استمر بها على ذلك فهو حيض. وأما إذا استمر الدم بها دائمًا فهذا قد علم أنه ليس بحيض؛ لأنه قد علم من الشرع واللغة أن المرأة تارة تكون طاهرًا، وتارة تكون حائضًا، ولطهرها أحكام، ولحيضها أحكام.
ج/ 19 ص -238-والعادة الغالبة أنها تحيض ربع الزمان ستة أو سبعة، وإلى ذلك رد النبي ﷺ المستحاضة التي ليس لها عادة ولا تمييز، والطهر بين الحيضتين لا حد لأكثره باتفاقهم؛ إذ من النسوة من لا تحيض بحال، وهذه إذا تباعد ما بين أَقْرَائِها فهل يعتد بثلث حيض أو تكون كالمرتابة تحيض سنة؟ فيه قولان للفقهاء. وكذلك أقله على الصحيح لا حد له، بل قد تحيض المرأة في الشهر ثلاث حِيَضٍ، وإن قدر أنها حاضت ثلاث حيض في أقل من ذلك أمكن، لكن إذا ادعت انقضاء عدتها فيما يخالف العادة المعروفة، فلابد أن يشهد لها بطانة من أهلها، كما روي عن على رضي الله عنه فيمن ادعت ثلاث حيض في شهر.
والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض، حتي يقوم دليل على أنه استحاضة؛ لأن ذلك هو الدم الأصلي الجِبِلِّي، وهو دم تَرْخِيه الرحم، ودم الفساد دم عرق ينفجر، وذلك كالمرض، والأصل الصحة لا المرض. فمتي رأت المرأة الدم جارٍ من رحمها فهو حيض تترك لأجله الصلاة. ومن قال: إنها تغتسل عقيب يوم وليلة فهو قول مخالف للمعلوم من السنة وإجماع السلف؛ فإنا نعلم أن النساء كن يحضن على عهد النبي ﷺ، وكل امرأة تكون في أول أمرها مبتدأة قد ابتدأها الحيض، ومع هذا فلم يأمر النبي ﷺ
ج/ 19 ص -239-واحدة منهن بالاغتسال عقب يوم وليلة. ولو كان ذلك منقولاً لكان ذلك حدًا لأقل الحيض، والنبي ﷺ لم يحد أقل الحيض باتفاق أهل الحديث. والمروي في ذلك ثلاث. وهي أحاديث مكذوبة عليه باتفاق أهل العلم بحديثه، وهذا قول جماهير العلماء، وهو أحد القولين في مذهب أحمد.
وكذلك المرأة المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض، حتي يعلم أنه استحاضة باستمرار الدم؛ فإنها كالمبتدأة.
والمستحاضة ترد إلى عادتها ثم إلى تمييزها، ثم إلى غالب عادات النساء، كما جاء في كل واحدة من هؤلاء سنة عن النبي ﷺ، وقد أخذ الإمام أحمد بالسنن الثلاث. ومن العلماء من أخذ بحديثين، ومنهم من لم يأخذ إلا بحديث، بحسب ما بلغه، وما أدي إليه اجتهاده رضي الله عنهم أجمعين.
والحامل إذا رأت الدم على الوجه المعروف لها فهو دم حيض بناء على الأصل.
والنفاس لا حد لأقله ولا لأكثره، فلو قدر أن امرأة رأت
ج/ 19 ص -240-الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس، لكن إن اتصل فهو دم فساد. وحينئذ فالحد أربعون؛ فإنه منتهي الغالب جاءت به الآثار.
ولا حد لسِنٍّ تحيض فيه المرأة، بل لو قدر أنها بعد ستين أو سبعين رأت الدم المعروف من الرحم لكان حيضًا. واليأس المذكور في قوله: "وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ" [الطلاق: 4]، ليس هو بلوغ سن، لو كان بلوغ سن لبينه الله ورسوله، وإنما هو أن تَيْأس المرأة نفسها من أن تحيض، فإذا انقطع دمها ويئست من أن يعود فقد يئست من المحيض ولو كانت بنت أربعين، ثم إذا تَرَبَّصَتْ وعاد الدم تبين أنها لم تكن آيسة، وإن عاودها بعد الأشهر الثلاثة فهو كما لو عاود غيرها من الآيسات والمستريبات. ومن لم يجعل هذا هو اليأس فقوله مضطرب إن جعله سنًا، وقوله مضطرب إن لم يحد اليأس لا بسن ولا بانقطاع طمع المرأة في المحيض، وبنفس الإنسان لا يعرف، وإذا لم يكن للنفاس قدر؛ فسواء ولدت المرأة تَوْأَمَين أو أكثر ما زالت تري الدم فهي نَفْسَاء، وما تراه من حين تشرع في الطَّلْقِ فهو نِفَاس، وحكم دم النفاس حكم دم الحيض.
ومن لم يأخذ بهذا، بل قَدَّر أقل الحيض بيوم، أو يوم وليلة، أو ثلاثة أيام، فليس معه في ذلك ما يعتمد عليه، فإن النقل في ذلك عن
ج/ 19 ص -241-النبي ﷺ وأصحابه باطل عند أهل العلم بالحديث. والواقع لا ضابط له، فمن لم يعلم حيضًا إلا ثلاثًا قال غيره: قد علم يومًا وليلة، ومن لم يعلم إلا يومًا وليلة قد علم غيره يومًا، ونحن لا يمكننا أن ننفي ما لا نعلم، وإذا جعلنا حد الشرع ما علمناه فقلنا: لا حيض دون ثلاث أو يوم وليلة أو يوم؛ لأنا لم نعلم إلا ذلك، كان هذا وضع شرع من جهتنا بعد العلم؛ فإن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، ولو كان هذا حدًا شرعيًا في نفس الأمر لكان الرسول ﷺ أولي بمعرفته وبيانه منا، كما حَدَّ للأمة ما حده الله لهم من أوقات الصلوات والحج والصيام، ومن أماكن الحج، ومن نُصُبِ الزكاة وفرائضها، وعدد الصلوات وركوعها وسجودها. فلو كان للحيض وغيره مما لم يقدره النبي ﷺ حد عند الله ورسوله لبينه الرسول ﷺ، فلما لم يحده دل على أنه رد ذلك إلى ما يعرفه النساء ويسمي في اللغة حيضًا؛ ولهذا كان كثير من السلف إذا سئلوا عن الحيض قالوا: سلوا النساء فإنهن أعلم بذلك، يعني: هن يعلمن ما يقع من الحيض وما لا يقع.
والحكم الشرعي تعلق بالاسم الدال على الواقع، فما وقع من دم فهو حيض إذا لم يعلم أنه دم عِرْق أو جرح؛ فإن الدم الخارج؛ إما أن ترخيه الرحم، أو ينفجر من عرق من العروق، أو من جلد المرأة، أو
ج/ 19 ص -242-لحمها، فيخرج منه. وذلك يخرج من عروق صِغَار، لكن دم الجرح الصغير لا يسيل سَيْلاً مستمرًا كدم العرق الكبير؛ ولهذا قال النبي ﷺ للمستحاضة: "إن هذا دم عرق وليست بالحيضة". وإنما يسيل الجرح إذا انفجر عرق كما ذكرنا فَصْدَ الإنسان؛ فإن الدم في العروق الصغار والكبار.
فَصْل
والنبي ﷺ قد أمر أمته بالمسح على الخفين، فقال صَفْوان بن عَسَّال: أمرنا رسول الله ﷺ إذا كنا سفرًا أو مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. ولم يقيد ذلك بكون الخف يثبت بنفسه أو لا يثبت بنفسه، وسليمًا من الخرق والفتق أو غير سليم، فما كان يسمي خفًا، ولبسه الناس ومشوا فيه مسحوا عليه المسح الذي أذن الله فيه ورسوله، وكلما كان بمعناه مسح عليه، فليس لكونه يسمي خفًا معني مؤثر بل الحكم يتعلق بما يلبس ويمشي فيه؛ ولهذا جاء في الحديث المسح على الجَوْرَبَين.
ج/ 19 ص -243-فَصْل
واللّه ورسوله عَلَّق القصر والفِطْرَ بمسمي السفر ولم يحده بمسافة، ولا فَرَّق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدودة لبينه اللّه ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكل ما يسميه أهل اللغة سفرًا، فإنه يجوز فيه القصر والفطر كما دل عليه الكتاب والسنة، وقد قصر أهل مكة مع النبي ﷺ إلى عرفات، وهي من مكة بَرِيد، فعلم أن التحديد بيوم أو يومين أو ثلاثة ليس حدًا شرعيًا عامًا. وما نقل في ذلك عن الصحابة قد يكون خاصًا، كان في بعض الأمور لا يكون السفر إلا كذلك؛ ولهذا اختلفت الرواية عن كل منهم كابن عمر وابن عباس، وغيرهما، فعلم أنهم لم يجعلوا للمسافر ولا الزمان حدًا شرعيًا عامًا، كمواقيت الصوم والصلاة، بل حدوه لبعض الناس بحسب ما رأوه سفرًا لمثله في تلك الحال، وكما يحد الحادُّ الغني والفقير في بعض الصور بحسب ما يراه، لا لأن الشرع جعل للغني والفقير مقدارًا من المال يستوي فيه الناس كلهم، بل قد يستغني الرجل بالقليل وغيره لا يغنيه أضعافه؛ لكثرة عياله وحاجاته، وبالعكس.
وبعض الناس قد يقطع المسافة العظيمة ولا يكون مسافرًا، كالبريد
ج/ 19 ص -244-إذا ذهب من البلد لتبليغ رسالة أو أخذ حاجة ثم كَرَّ راجعًا من غير نزول. فإن هذا لا يسمي مسافرًا، بخلاف ما إذا تزود زاد المسافر، وبات هناك، فإنه يسمي مسافرًا، وتلك المسافة يقطعها غيره، فيكون مسافرًا يحتاج أن يتزود لها، ويبيت بتلك القرية ولا يرجع إلا بعد يوم أو يومين، فهذا يسميه الناس مسافرًا، وذلك الذي ذهب إليها طَرْدًا وكر راجعًا على عَقِبِه لا يسمونه مسافرًا، والمسافة واحدة.
فالسفر حال من أحوال السير لا يحد بمسافة ولا زمان، وكان النبي ﷺ يذهب إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا ولم يكن مسافرًا، وكان الناس يأتون الجمعة من العَوَالى والعَقيقِ ثم يدركهم الليل في أهلهم ولا يكونون مسافرين، وأهل مكة لما خرجوا إلى منى وعرفة كانوا مسافرين، يتزودون لذلك، ويبيتون خارج البلد، ويَتَأَهَّبُون أُهْبَةَ السفر، بخلاف من خرج لصلاة الجمعة أو غيرها من الحاجات، ثم رجع من يومه ولو قطع بريدًا، فقد لا يسمى مسافرًا.
وما زال الناس يخرجون من مساكنهم إلى البساتين التي حول مدينتهم، ويعمل الواحد في بستانه أشغالًا من غَرْسٍ وسَقْىٍ، وغير ذلك، كما كانت الأنصار تعمل في حيطانهم ولا يسمون مسافرين، ولو أقام أحدهم طول النهار، ولو بات في بستانه وأقام فيه أيامًا، ولو كان البستان أبعد من بريد، فإن البستان من توابع البلد عندهم، والخروج
ج/ 19 ص -245-إليه كالخروج إلى بعض نواحى البلد، والبلد الكبير الذي يكون أكثر من بريد متى سار من أحد طرفيه إلى الآخر لم يكن مسافرًا؛ فالناس يفرقون بين المتنقل في المساكن وما يتبعها، وبين المسافر الراحل عن ذلك كله، كما كان أهل مدينة النبي ﷺ يذهبون إلى حوائطهم ولا يكونون مسافرين، والمدينة لم يكن لها سور بل كانت قبائل قبائل، ودورًا دورًا، وبين جانبيها مسافة كبيرة، فلم يكن الراحل من قبيلة إلى قبيلة مسافرًا، ولو كان كل قبيلة حولهم حيطانهم ومزارعهم فإن اسم المدينة كان يتناول هذا كله.
ولهذا قال تعالى: "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ" [التوبة: 101]، فجعل الناس قسمين: أهل بادية:هم الأعراب، وأهل المدينة، فكان الساكنون كلهم في المَدَرِ أهل المدينة، وهذا يتناول قباء وغيرها، ويدل على أن اسم المدينة كان يتناول ذلك كله، فإنه لم يكن لها سور كما هي اليوم. والأبواب تفتح وتغلق، وإنما كان لها أَنْقَاب، وتلك الأنقاب وإن كانت داخل قباء وغيرها، لكن لفظ المدينة قد يعم حاضر البلد، وهذا معروف في جميع المدائن. يقول القائل: ذهبت إلى دمشق أو مصر أو بغداد، أو غير ذلك، وسكنت فيها، وأقمت فيها مدة، ونحو ذلك، وهو إنما كان ساكنًا خارج السور. فاسم المدينة يعم تلك المساكن كلها، وإن كان الداخل
ج/ 19 ص -246-المُسَوَّر أخص بالاسم من الخارج.
وكذلك مدينة رسول اللّه ﷺ كان لها داخل وخارج، تفصل بينهما الأنقاب، واسم المدينة يتناول ذلك كله في كتاب اللّه تعالى؛ ولهذا كان هؤلاء كلهم يصلون الجمعة والعيدين خلف النبي ﷺ وخلفائه، لم تكن تقام جمعة ولا عيدان لا بقباء ولا غيرها، كما كانوا يصلون الصلوات الخمس في كل قبيلة من القبائل.
ومن هذا الباب قول النبي ﷺ: "إن بالمدينة لرجالا" هو يعم جميع المساكن.
وكذلك لفظ القرى الشامل للمدائن، كقوله: "وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ" [الأعراف: 4]، وقوله: "لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا" [الشورى: 7]، وقوله: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" [القصص: 59]، وقوله: "ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ" [هود: 100]، فإن هذا يتناول المساكن الداخلية والخارجية وإن فصل بينها سور، ونحوه؛ فإن البعث والإهلاك، وغير ذلك لم يخص بعضهم دون بعض، وعامة المدائن لها داخل وخارج.
ج/ 19 ص -247-ولفظ الكعبة هو في الأصل اسم لنفس البنْيَة، ثم في القرآن قد استعمل فيما حولها، كقوله: "هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ" [المائدة: 95]. وكذلك لفظ المسجد الحرام، يعبر به عن المسجد، وعما حوله من الحرم. وكذلك لفظ بَدْر، هو اسم للبئر، ويسمى به ما حولها. وكذلك أحد، اسم للجبل، ويتناول ما حوله، فيقال: كانت الوقعة بأحد؛ وإنما كانت تحت الجبل، وكذلك يقال لمكان العقبة ولمكان القصر، والعُقَيْبَة تصغير العقبة، والقُصَيْر تصغير قصر، ويكون قد كان هناك قصر صغير أو عقبة صغيرة، ثم صار الاسم شاملًا لما حول ذلك مع كِبَرِه، فهذا كثير غالب في أسماء البقاع.
والمقصود أن المتردد في المساكن لا يسمى مسافرًا، وإذا كان الناس يعتادون المبيت في بساتينهم ولهم فيها مساكن كان خروجهم إليها كخروجهم إلى بعض نواحي مساكنهم، فلا يكون المسافر مسافرًا، حتى يسفر فيكشف ويظهر للبرية الخارجة عن المساكن التي لا يسير السائر فيها، بل يظهر فيها وينكشف في العادة. والمقصود أن السفر يرجع فيه إلى مسماه لغة وعرفًا.
ج/ 19 ص -248-فصل
وكذلك النبي ﷺ قال: "ليس فيما دون خمسة أَوْسُق صدقة، وليس فيما" دون خمس أَوَاق صدقة؛ وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة"، وقال: "لا شيء في الرِّقَةِ حتى تبلغ مائتي درهم"، وقال في السارق: "يقطع إذا سرق ما يبلغ ثمن المجَنّ"، وقال: "تقطع اليد في ربع دينار"، والأوقية في لغته أربعون درهمًا، ولم يذكر للدرهم ولا للدينار حدًا، ولا ضرب هو درهمًا، ولا كانت الدراهم تُضْرَب في أرضه، بل تجلب مضروبة من ضرب الكفار، وفيها كبار وصغار، وكانوا يتعاملون بها تارة عددًا، وتارة وزنًا، كما قال: "زِنْ وأرجح، فإن خير الناس أحسنهم قضاء"، وكان هناك وَزَّان يزن بالأجر، ومعلوم أنهم إذا وزنوها فلابد لهم من صَنْجَةٍ يعرفون بها مقدار الدراهم، لكن هذا لم يحده النبي ﷺ ولم يقدره، وقد ذكروا أن الدراهم كانت ثلاثة أصناف: ثمانية دَوَانِقٍ، وستة، وأربعة، فلعل البائع قد يسمي أحد تلك الأصناف فيعطيه المشتري من وزنها، ثم هو مع هذا أطلق لفظ الدينار والدرهم ولم يحده، فدل على أنه يتناول هذا كله، وأن مَنْ ملك مِنَ
ج/ 19 ص -249-الدراهم الصغار خمس أواق مائتي درهم فعليه الزكاة، وكذلك من الوسطى وكذلك من الكبرى.
وعلى هذا، فالناس في مقادير الدراهم والدنانير على عاداتهم، فما اصطلحوا عليه وجعلوه درهمًا فهو درهم، وما جعلوه دينارًا فهو دينار، وخطاب الشارع يتناول ما اعتادوه سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، فإذا كانت الدراهم المعتادة بينهم كبارًا لا يعرفون غيرها لم تجب عليه الزكاة حتى يملك منها مائتي درهم، وإن كانت صغارًا لا يعرفون غيرها وجبت عليه إذا ملك منها مائتي درهم، وإن كانت مختلطة فملك من المجموع ذلك وجبت عليه، وسواء كانت بِضَرْب واحد، أو ضروب مختلفة، وسواء كانت خالصة أو مغشوشة، ما دام يسمى درهما مطلقًا. وهذا قول غير واحد من أهل العلم.
فأما إذا لم يسم إلا مقيدًا مثل: أن يكون أكثره نحاسًا، فيقال له: درهم أسود، لا يدخل في مطلق الدرهم، فهذا فيه نظر. وعلى هذا، فالصحيح قول من أوجب الزكاة في مائتي درهم مغشوشة، كما هو قول أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب أحمد، وإذا سرق السارق ثلاثة دراهم من الكبار أو الصغار أو المختلطة قطعت يده.
وأما الوَسَق فكان معروفًا عندهم أنه ستون صَاعًا، والصاع
ج/ 19 ص -250-معروف عندهم. وهو صاع واحد غير مختلف المقدار، وهم صنعوه، لم يُجْلَب إليهم. فلما علق الشارع الوجود بمقدار خمسة أوسق كان هذا تعليقًا بمقدار محدود يتساوى فيه الناس، بخلاف الأواقي الخمسة فإنه لم يكن مقدارًا محدودًا يتساوي فيه الناس، بل حده في عادة بعضهم أكثر من حده في عادة بعضهم، كلفظ المسجد، والبيت، والدار، والمدينة، والقرية، هو مما تختلف فيه عادات الناس في كِبَرِها وصغرها، ولفظ الشارع يتناولها كلها.
ولو قال قائل: إن الصَّاع والمُدَّ يرجع فيه إلى عادات الناس، واحتج بأن صاع عُمَرَ كان أكبر، وبه كان يأخذ الخَرَاج، وهو ثمانية أرطال كما يقوله أهل العراق؛ لكان هذا يمكن فيما يكون لأهل البلد فيه مِكْيَالان: كبير وصغير. وتكون صدقة الفطر مقدرة بالكبير، والوسق ستون مكيالًا من الكبير؛ فإن النبي ﷺ قدر نِصَاب الموسَقَات، ومقدار صدقة الفطر بصاع، ولم يقدر بالمد شيئًا من النُّصُب والواجبات، لكن لم أعلم بهذا قائلًا، ولا يمكن أن يقال إلا ما قاله السلف قبلنا؛ لأنهم علموا مراد الرسول قطعًا، فإن كان من الصحابة أو التابعين من جعل الصاع غير مقدر بالشرع صارت مسألة اجتهاد.
وأما الدرهم والدينار فقد عرفت تنازع الناس فيه، واضطراب
ج/ 19 ص -251-أكثرهم، حيث لم يعتمدوا على دليل شرعي، بل جعلوا مقدار ما أراده الرسول هو مقدار الدراهم التي ضربها عبدالملك؛ لكونه جمَع الدراهم الكبار والصغار والمتوسطة وجعل معدلها ستة دَوَانِيق، فيقال لهم: هَبْ أن الأمر كذلك، لكن الرسول ﷺ لما خاطب أصحابه وأمته بلفظ الدرهم والدينار وعندهم أوزان مختلفة المقادير كما ذكرتم لم يحد لهم الدرهم بالقدر الوسط، كما فعل عبد الملك، بل أطلق لفظ الدرهم والدينار، كما أطلق لفظ القميص والسَّرَاوِيل، والإزار والرداء، والدار والقرية، والمدينة والبيت، وغير ذلك من مصنوعات الآدميين، فلو كان للمسمى عنده حد لحده مع علمه باختلاف المقادير، فاصطلاح الناس على مقدار درهم ودينار أمر عادى.
ولفظ الذراع أقرب إلى الأمور الخِلْقية منه؛ فإن الذراع هو في الأصل ذراع الإنسان، والإنسان مخلوق، فلا يفضل ذراع على ذراع إلا بقدر مخلوق لا اختيار فيه للناس، بخلاف ما يفعله الناس باختيارهم من درهم ومدينة ودار؛ فإن هذا لا حد له، بل الثياب تتبع مقاديرهم والدور والمدن بحسب حاجتهم، وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طَبْعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل
ج/ 19 ص -252-بها؛ ولهذا كانت أثمانًا؛ بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها؛ فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت.
وأيضًا، فالتقدير إنما كان لخمسة أوسق وهي خمسة أَحْمَال، فلو لم يعتبر في ذلك حدًا مستويًا لوجب أن تعتبر خمسة أحمال من حمال كل قوم.
وأيضًا، فسائر الناس لا يسمون كلهم صاعًا، فلا يتناوله لفظ الشارع كما يتناول الدرهم والدينار، اللهم إلا أن يقال: إن الصاع اسم لكل ما يكال به، بدليل قوله: "صُوَاعَ الْمَلِكِ" [يوسف: 72] فيكون كلفظ الدرهم.
فَصْل
وكذلك لفظ الإطعام لعشرة مساكين لم يقدره الشرع، بل كما قال اللّه:"مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ" [المائدة: 89]، وكل بلد يطعمون من أوسط ما يأكلون كفاية غيره، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع.
ج/ 19 ص -253-وكذلك لفظ [الجِزْيَة] و [الدِّيَة] فإنها فِعْلَة من جَزَى يَجْزِى إذا قضى وأدى، ومنه قول النبي ﷺ: "تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك"، وهي في الأصل جَزَا جِزْيَة كما يقال: وَعَدَ عِدَةً ووزن زِنَةً. وكذلك لفظ [الدية] هو من وَدَىَ يَدي دِيَةً، كما يقال: وعد يَعِدُ عِدَةً، والمفعول يسمى باسم المصدر كثيرًا، فيسمى المودِى دِيَة والمجزي المقضي جزية، كما يسمى الموعود وعدًا في قوله: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً" [الملك: 25 - 27]. وإنما رأوا ما وعدوه من العذاب، وكما يسمى مثل ذلك الإتاوة؛ لأنه تؤتى، أي: تعطى. وكذلك لفظ الضَّرِيبة لما يضرب على الناس. فهذه الألفاظ كلها ليس لها حد في اللغة ولكن يرجع إلى عادات الناس، فإن كان الشرع قد حد لبعض حدًا كان اتباعه واجبًا.
ولهذا اختلف الفقهاء في الجزية: هل هي مقدرة بالشرع أو يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة؟
وكذلك الخَرَاج، والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع. وأمر النبي ﷺ لمعاذ: أن يأخذ من كل حَاِلمٍ دينارًا، أو عدله مَعَافِريا [والمَعافِرىّ: هي برود يمنية منسوبة إلى قبيلة مَعافِر ببلاد اليمن]. قضية في عين، لم يجعل ذلك شرعًا عاما لكل من تؤخذ منه الجزية إلى يوم القيامة، بدليل أنه صَالَحَ لأهل البحرين على
ج/ 19 ص -254-حالم ولم يقدره هذا التقدير، وكان ذلك جزية، وكذلك صَالَحَ أهل نجران على أموال غير ذلك ولا مقدرة بذلك، فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة وما يرضى به المعاهدون، فيصير ذلك عليهم حقا يجزونه، أي: يقصدونه ويؤدونه.
وأما الدية، ففي العَمْد يرجع فيها إلى رِضَا الخصمين، وأما في الخطأ فوجبت عَيْنًا بالشرع، فلا يمكن الرجوع فيها إلى تراضيهم، بل قد يقال: هي مقدرة بالشرع تقديرًا عامًا للأمة، كتقدير الصلاة والزكاة، وقد تختلف باختلاف أقوال الناس في جنسها وقدرها، وهذا أقرب القولين وعليه تدل الآثار، وأن النبي ﷺ إنما جعلها مائة لأقوام كانت أموالهم الإبل؛ ولهذا جعلها على أهل الذهب ذهبًا، وعلى أهل الفضة فضة، وعلى أهل الشاء شاءً، وعلى أهل الثياب ثيابًا، وبذلك مضت سيرة عمر بن الخطاب، وغيره.
فَصْل
وقال اللّه تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ" [المؤمنون: 5، 6]، وقال النبي ﷺ: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"، وقد دل القرآن على أن ما حَرُمَ وطؤه بالنكاح
ج/ 19 ص -255-حرم بملك اليمين، فلا يحل التَّسَرِّى بذوات محارمه ولا وَطْءِ السَّرِيَّة في الإحرام والصيام والحيض، وغير ذلك مما يحرم وطء الزوجة فيه بطريق الأولى.
وأما الاسْتِبْرَاء فلم تأتِ به السنة مطلقًا في كل مملوكة، بل قد نَهي ﷺ أن يسقى الرجل ماءَه زَرْعَ غيره. وقال في سبايا أَوْطَاس [أوطاس: واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين]: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ"، وهذا كان في رقيق سبىٍ، ولم يقل مثل ذلك فيما ملك بإرْثٍ أو شراء أو غيره. فالواجب أنه إن كانت توطأ المملوكة لا يحل وطؤها حتى تستبرأ؛ لئلا يسقى الرجل ماءه زرع غيره. وأما إذا علم أنها لم يكن سيدها يطؤها؛ إما لكونها بكرًا، أو لكون السيد امرأة أو صغيرًا، أو قال وهو صادق: إنى لم أكن أطأها، لم يكن لتحريم هذه حتى تستبرأ وجه، لا من نص ولا من قياس.
فصل
النبي ﷺ قضى بالدية على العَاقِلة [العاقلة: هي العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ، وهي صفة جماعة: عاقلة، وأصلها اسم، فاعلة من العقل، وهي من الصفات الغالبة]، وهم: الذين ينصرون الرجل ويعينونه، وكانت العاقلة على عهده هم عَصَبته. فلما كان في زمن عمر جعلها على أهل الديوان؛ ولهذا اختلف فيها الفقهاء،
ج/ 19 ص -256-فيقال: أصل ذلك أن العاقلة هم محدودون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين. فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب؛ فإنهم العاقلة على عهده.ومن قال بالثانى جعل العاقلة في كل زمان ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان. فلما كان في عهد النبي ﷺ إنما ينصره ويعينه أقاربه كانوا هم العاقلة؛ إذ لم يكن على عهد النبي ﷺ ديوان ولا عطاء، فلما وضع عمر الديوان كان معلومًا أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضًا، ويعين بعضه بعضًا، وإن لم يكونوا أقارب، فكانوا هم العاقلة، وهذا أصح القولين. وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل قد سكن بالمغرب، وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته مَنْ بالمشرق في مملكة أخرى، ولعل أخباره قد انقطعت عنهم؟ والميراث يمكن حفظه للغائب؛ فإن النبي ﷺ قضى في المرأة القاتلة أن عَقْلَها على عصبتها؛ وأن ميراثها لزوجها وبنيها، فالوارث غير العاقلة.
وكذلك تأجيلها ثلاث سنين؛ فإن النبي ﷺ لم يؤجلها، بل قضى بها حَالَّةً، وعمر أجلها ثلاث سنين. فكثير من الفقهاء يقولون: لا تكون إلا مؤجلة، كما قضى به عمر، ويجعل ذلك بعضهم إجماعًا، وبعضهم قال: لا تكون إلا حالة. والصحيح أن تعجيلها وتأجيلها بحسب الحال والمصلحة، فإن كانوا مَيَاسِير ولا ضرر عليهم في التعجيل أخذت
ج/ 19 ص -257-حالة، وإن كان في ذلك مشقة جعلت مؤجلة. وهذا هو المنصوص عن أحمد: أن التأجيل ليس بواجب، كما ذكر كثير من أصحابه أنه واجب، موافقة لمن ذكر ذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك، وغيرهم؛ فإن هذا القول في غاية الضعف، وهو يشبه قول من يجعل الأمة يجوز لها نسخ شريعة نبيها، كما يقوله بعض الناس من أن الإجماع ينسخ، وهذا من أنكر الأقوال عند أحمد. فلا تترك سنة ثابتة إلا بسنة ثابتة، ويمتنع انعقاد الإجماع على خلاف سنة إلا ومع الإجماع سنة معلومة نعلم أنها ناسخة للأولى.
فصل
وقد قال اللّه تعالى في آية الخمس: "فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ" [الأنفال: 41]؛ ومثل ذلك في آية الفيء. وقال في آية الصدقات: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا" الآية [التوبة: 60]، فأطلق اللّه ذكر الأصناف، وليس في اللفظ ما يدل على التسوية، بل على خلافها، فمن أوجب باللفظ التسوية فقد قال ما يخالف الكتاب والسنة، ألا ترى أن اللّه لما قال: "وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ" [البقرة: 177]، وقال تعالى: "َآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا" [الإسراء: 26]،
ج/ 19 ص -258-وقال تعالى: "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ" [النساء: 8]، وقال تعالى: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" [المعارج: 24، 25]، وقال تعالى: "فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ" [الحج: 36]، وأمثال ذلك، لم تكن التسوية في شيء من هذه المواضع واجبة، بل ولا مستحبة في أكثر هذه المواضع. سواء كان الإعطاء واجبًا أو مستحبًا، بل بحسب المصلحة.
ونحن إذا قلنا في الهَدْي والأُضْحية: يستحب أن يأكل ثلثًا ويتصدق بثلث، فإنما ذلك إذا لم يكن هناك سبب يوجب التفضيل، وإلا فلو قدر كثرة الفقراء لاستحببنا الصدقة بأكثر من الثلث، وكذلك إذا قدر كثرة من يهدى إليه على الفقراء، وكذلك الأكل، فحيث كان الأخذ بالحاجة أو المنفعة كان الاعتبار بالحاجة والمنفعة بحسب ما يقع، بخلاف المواريث فإنها قسمت بالأنساب التي لا يختلف فيها أهلها، فإن اسم الابن يتناول الكبير والصغير والقوى والضعيف، ولم يكن الأخذ لا لحاجته ولا لمنفعته، بل لمجرد نَسَبه؛ فلهذا سوى فيها بين الجنس الواحد.
وأما هذه المواضع، فالأخذ فيها بالحاجة والمنفعة، فلا يجوز أن تكون التسوية بين الأصناف لا واجبة ولا مستحبة، بل العطاء بحسب الحاجة والمنفعة، كما كان أصل الاستحقاق معلقًا بذلك، والواو تقتضى
ج/ 19 ص -259-التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم المذكور، والمذكور أنه لا يستحق الصدقة إلا هؤلاء، فيشتركون في أنها حلال لهم، وليس إذا اشتركوا في الحكم المذكور وهو مطلق الْحِل يشتركون في التسوية، فإن اللفظ لا يدل على هذا بحال.
ومثله يقال في كلام الوَاقِفِ والموصِي، وكان بعض الواقفين قد وقف على المدرس والمعيد والقَيِّم والفقهاء والمتفقهة، وجرى الكلام في ذلك فقلنا: يعطى بحسب المصلحة، فطلب المدرس الخمس بناء على هذا الظن؛ فقيل له: فأعطى القيم أيضًا الخمس؛ لأنه نظير المدرس، فظهر بطلان حجته.
آخره والحمد للّه رب العالمين.