ج/ 19 ص -106-وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
فَصْل
في تَوَحُّد الملة وتعدد الشرائع وتنوعها، وتوحد الدين المِلِّي دون الشرعي، وما في ذلك من إقرار ونسخ، وجريان ذلك في أهل الشريعة الواحدة بنوع من الاعتبار، قال الله تعالى: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا" [البقرة: 124]، فهذا نص في أنه إمام الناس كلهم، وقال: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً" [النحل: 120]، وهو القدوة الذي يؤتم به، وهو معلم الخير، وقال: "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [البقرة: 130 134].
ج/ 19 ص -107-فقد بين أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَنْ هو سفيه، وأنه أُمِرَ بالإسلام فقال: "قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"، وأن هذه وصية إلى بنيه، ووصية إسرائيل إلى بنيه، وقد اصطفي آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين.ثم قال: "وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [البقرة: 135]، فأمر باتباع ملة إبراهيم ونهى عن التهود والتنصر، وأمر بالإيمان الجامع كما أنزل على النبيين وما أوتوه والإسلام له، وأن نصبغ بصبغة الله، وأن نكون له عابدين، ورد على من زعم أن إبراهيم وبنيه وإسرائيل وبنيه كانوا هودًا أو نصاري، وقد قال قبل هذا: "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم" الآية [البقرة: 120]، والمعنى: ولن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتهم، ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
وقد يستدل بهذا على أن لكل طائفة ملة؛ لقوله تعالى:
ج/ 19 ص -108-"وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ" [البقرة: 113]، وقال تعالى في آخر السورة: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ" إلى آخر السورة [البقرة: 285، 286]، كما قال في أولها: "والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" [البقرة: 4]، ففتحها بالإيمان الجامع، وختمها بالإيمان الجامع، ووسَّطَها بالإيمان الجامع. ونبينا ﷺ أعطي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه.
وقال تعالى في آل عمران بعد أن قص أمر المسيح ويحيي : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران: 64]، وهي التي كتبها النبي ﷺ إلى هِرَقْل عظيم الروم لما دعاهم إلى الإسلام، وقال: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ"، إلى قوله: "وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ"،
ج/ 19 ص -109-إلى قوله: "وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا" [آل عمران:56 83] ، فأنكر على من يبغي غير دين الله. كما قال في أول السورة: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ" [آل عمران: 18، 19]، فأخبر أن الدين عند الله الإسلام، وأن الذين اختلفوا من أهل الكتاب، وصاروا على ملل شَتَّي ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، وفيه بيان أن الدين واحد لا اختلاف فيه.
وقال تعالى: "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام: 161، 162]، هذا بعد أن ذكر الأنبياء فقال: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" [الأنعام: 90].
وذكر في النحل دعوة المرسلين جميعهم، واتفاقهم على عبادة الله وحده لا شريك له، فقال: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ" الآية [النحل:36]، وقال: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [النحل: 120 123]،
ج/ 19 ص -110-وقال: "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ" إلى قوله: "مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ " [مريم: 34 37]
وقال في سورة الأنبياء: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 25]، وقال بعد أن قص قصصهم: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 29]، وقال في آخرها: "قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" [الأنبياء: 108]، وقال في سورة المؤمنين: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" [المؤمنون: 51 53].
وقال في آخر سورة الحج التي ذكر فيها الملل الست، وذكر ما جعل لهم من المناسك والمعابد، وذكر ملة إبراهيم خصوصًا : "َجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ" [الحج: 78]، وقال "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ" الآية [الشورى: 13]، وقال: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ" إلى قوله:"وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"[البينة: 1 5].
ج/ 19 ص -111-وهذا في القرآن مذكور في مواضع كثيرة.
وكذلك في الأحاديث الصحيحة، مثل ما ترجم عليه البخاري فقال: [باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد] وذكر الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "إنا معاشر الأنبياء إخوة لِعَلاَّت" ، ومثل صفته في التوراة: "لن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا"؛ ولهذا وَحَّد الصراط والسبيل في مثل قوله تعالى: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"[الفاتحة: 6، 7]، ومثل قوله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ" [الأنعام: 153]، ومثل قوله: "اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ" [البقرة: 257]، وقوله: "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" [البقرة: 261]، "وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" [البقرة: 218]، وقوله: "َقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه" [الأنفال: 39].
والإسلام دين جميع المرسلين، قال نوح عليه السلام : "فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [يونس: 72]، وقال الله عن إبراهيم وبنيه ما تقدم، وقال الله عن السحرة: "رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ" [الأعراف: 126]،
ج/ 19 ص -112-وعن فرعون: "قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [يونس: 90]، وقال الحواريون: "آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران: 25]، وفي السورة الأخري: "وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ" [المائدة: 111]، وقال يوسف الصديق: "تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" [يوسف: 101]، وقال موسي: "إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" [يونس: 84]، وقالت بلقيس: "رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [النمل: 44]، وقال في التوراة: "يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ" [المائدة: 44].
قال شيخ الإسلام: وقد قررت في غير هذا الموضع الإسلام العام والخاص، والإيمان العام والخاص، كقوله: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة: 62].
وأما تنوع الشرائع وتعددها فقال تعالى لما ذكر القِبلة بعد الملة بقوله: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" إلى قوله: "َلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ" [البقرة: 144 148]، فأخبر أن لكل أمة وِجْهَة، ولم يقل: جعلنا لكل أمة وجهة، بل قد يكون هم ابتدعوها كما ابتدعت النصارى وجهة المشرق، بخلاف ما ذكره في الشرع والمناهج؛ فإنه قال: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ" إلى قوله:
ج/ 19 ص -113-"وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة: 41 50]، وهذه الآيات نزلت بسبب الحكم في الحدود والقصاص والديات، أخبر أن التورة "يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ" [المائدة: 44]، وهذا عام في النبيين جميعهم والربانيين والأحبار.
ثم لما ذكر الإنجيل قال: "َلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ" [المائدة: 47]، فأمر هؤلاء بالحكم؛ لأن الإنجيل بعض ما في التوراة وأقر الأكثر، والحكم بما أنزل الله فيه حكم بما في التوراة أيضا ثم قال: "فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" [المائدة: 48]، فأمره أن يحكم بما أنزل الله على مَنْ قبله، لكلٍّ جعلنا من الرسولين والكتابين شِرْعَة ومنهاجًا، أي: سنة وسبيلاً، فالشِّرْعة الشريعة وهي السنة، والمنهاج الطريق والسبيل. وكان هذا بيان وجه تركه لما جعل لغيره من السنة والمنهاج إلى ما جعل له، ثم أمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه، فالأول نهى له أن يأخذ بمنهاج غيره وشرعته، والثاني وإن كان حكمًا غير الحكم الذي أنزل نهي له أن يترك شيئًا مما أنزل فيها اتباع محمد ﷺ، الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، فمن لم يتبعه لم يحكم بما أنزل الله، وإن لم يكن من أهل الكتاب، الذين أمروا أن يحكموا بما فيها مما يخالف حكمه.
ج/ 19 ص -114-وقال تعالى في الحج: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" [الحج: 34]، "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ" [الحج: 67]، وذكر في أثناء السورة: "بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" [الحج: 40]، فبين أنه هو جعل المناسك، وذكر مواضع العبادات، كما ذكر في البقرة الوجهة التي يتوجهون إليها، وقال في سورة الجاثية بعد أن ذكر بني إسرائيل :"ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" الآية [الجاثية: 18]، وقال في النسخ ووجوب اتباعهم للرسول: "وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ" إلى قوله: "وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ" [آل عمران: 81]، وقال: "فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ" الآية والتي بعدها [الأعراف: 156، 157]، وقد تقدم ما في البقرة وآل عمران من أمرهم بالإيمان بما أنزل الله على محمد ﷺ، وكذلك في سورة النساء، وهو كثير في القرآن.
فَصْل
قال الله تعالى لنا:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا"،
ج/ 19 ص -115-إلى قوله تعالى: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ"، إلى قوله: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل عمران: 102 110].
فأمرنا بملازمة الإسلام إلى الممات، كما أمر الأنبياء جميعهم بالإسلام، وأن نعتصم بحبله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وذكر أنه تَبْيَضُّ وجوه وتَسْوَدُّ وجوه، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرق، وذكر أنه يقال لهم: "أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" [آل عمران: 160]، وهذا عائد إلى قوله: "وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" فأمر بملازمة الإسلام، وبين أن المسودة وجوههم أهل التفرق والاختلاف، يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ وهذا دليل على كفرهم وارتدادهم، وقد تأولها الصحابة في الخوارج.
وهذا نظير قوله للرسل: "أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" [الشورى: 31]، وقد قال في البقرة: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ" الآية [البقرة: 213]، وقال أيضًا : "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ" [الأنعام: 159]، وقال تعالى: "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" [المؤمنون: 53]،
ج/ 19 ص -116-وقال تعالى: "وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يونس: 105]، "مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" [الروم: 32]، وقال تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ" الآية [آل عمران: 19]، "وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ" الآية [البينة: 4]، ونظيرها في الجاثية.
وقال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء: 59]، وقال تعالى:"وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْفِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" [الحشر: 10].
فَصْل
إذا كان الله تعالى قد أمرنا بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منا، وأمرنا عند التنازع في شيء أن نرده إلى الله وإلى رسوله، وأمرنا بالاجتماع والائتلاف، ونهانا عن التفرق والاختلاف، وأمرنا
ج/ 19 ص -117-أن نستغفر لمن سبقنا بالإيمان، وسمانا المسلمين، وأمرنا أن ندوم عليه إلى الممات. فهذه النصوص وما كان في معناها توجب علىنا الاجتماع في الدين؛ كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين، وولاة الأمور فينا هم خلفاء الرسول، قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "إن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم الأنبياء، كلما هلك نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون"، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "أوفوا بيعة الأول فالأول، وأدوا لهم الذي لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم"، وقال أيضًا : "العلماء ورثة الأنبياء"، ورُوِي عنه أنه قال: "وَدِدْت أني قد رأيت خلفائي" قالوا: ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يحيون سنتي يعلّمونها الناس"، فهؤلاء هم ولاة الأمر بعده وهم الأمراء والعلماء، وبذلك فسرها السلف ومن تبعهم من الأئمة؛ كالإمام أحمد وغيره، وهو ظاهر قد قررناه في غير هذا الموضع. فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء، ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء، قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" [العنكبوت:69]، وقال تعالى:
ج/ 19 ص -118-"قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ" [المائدة: 15، 16]، وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً" [البقرة: 208]، والتنوع قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخري.
فالأول مثل ما يجب على قَوْمٍ الجهاد، وعلى قوم الزكاة، وعلى قوم تعلىم العلم، وهذا يقع في فروض الأعيان، وفي فروض الكفايات. ففروض الأعيان مثل ما يجب على كل رجل إقامة الجماعة والجمعة في مكانه مع أهل بقعته، ويجب عليه زكاة نوع ماله بصرفه إلى مستحقه لجيران ماله، ويجب عليه استقبال الكعبة من ناحيته، والحج إلى بيت الله من طريقه، ويجب عليه بر والديه وصلته ذوي رحمه، والإحسان إلى جيرانه وأصحابه ومماليكه ورعيته، ونحو ذلك من الأمور التي تتنوع فيها أعيان الوجوب وإن اشتركت الأمة في جنس الوجوب، وتارة تتنوع بالقدرة والعجز، كتنوع صلاة المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، والآمن والخائف.
وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها؛ وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، فقد تتعين في وقت ومكان، وعلى شخص أو طائفة، وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخري، كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفُتْيَا والقضاء، وغير ذلك.
ج/ 19 ص -119-وأما في الاستحباب فهو أبلغ؛ فإن كل تنوع يقع في الوجوب فإنه يقع مثله في المستحب، ويزداد المستحب بأن كل شخص إنما يستحب له من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى التي يقول الله فيها: "وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه" ما يقدر عليه ويفعله وينتفع به، والأفضل له من الأعمال ما كان أنفع له، وهذا يتنوع تنوعًا عظيمًا، فأكثر الخلق يكون المستحب له ما ليس هو الأفضل مطلقًا؛ إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه، مثل من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك، فإنه قد يفسد عقله ودينه، أو من لا يمكنه الصبر على مرارة الفقر ولا يمكنه الصبر على حلاوة الغني، أو لا يقدر على دفع فتنة الولاية عن نفسه والصبر على حقوقها.
ولهذا قال النبي ﷺ فيما يروي عن ربه عز وجل : "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك"، وقال النبي ﷺ لأبي ذر لما سأله الإمارة : "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأَمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّينَّ مال يتيم". وروي عنه أنه قال للعباس عمه : "نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها"؛ ولهذا إذا قلنا: هذا العمل أفضل، فهذا قول مطلق.
ج/ 19 ص -120-ثم المفضول يكون أفضل في مكانه ويكون أفضل لمن لا يصلح له الأفضل، مثال ذلك: أن قراءة القرآن أفضل من الذكر بالنص والإجماع والاعتبار.
أما النص، فقوله ﷺ: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله، والحمد ﷺ، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وقوله ﷺ: "فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه"، وقوله عن الله: "من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، وقوله: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه"، وقول الأعرابي له: إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فقال: "قل: سبحان الله والحمد ﷺ ولا إله إلا الله والله أكبر".
وأما الإجماع على ذلك فقد حكاه طائفة، ولا عبرة بخلاف جهال المتعبدة.
وأما الاعتبار، فإن الصلاة تجب فيها القراءة، فإن عجز عنها انتقل إلى الذكر ولا يجزيه الذكر مع القدرة على القراءة، والمبدل منه أفضل من البدل الذي لا يجوز إلا عند العجز عن المبدل.
ج/ 19 ص -121-وأيضًا، فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبري كما تشترط للصلاة الطهارتان، والذكر لا يشترط له الكبري ولا الصغري، فعلم أن أعلى أنواع ذكر الله هو الصلاة، ثم القراءة، ثم الذكر المطلق، ثم الذكر في الركوع والسجود أفضل بالنص والإجماع من قراءة القرآن، وكذلك كثير من العباد قد ينتفع بالذكر في الابتداء ما لا ينتفع بالقراءة؛ إذ الذكر يعطيه إيمانًا والقرآن يعطيه العلم، وقد لا يفهمه، ويكون إلى الإيمان أحوج منه لكونه في الابتداء، والقرآن مع الفهم لأهل الإيمان أفضل بالاتفاق.
فهذا وأمثاله يشبه تنوع شرائع الأنبياء؛ فإنهم متفقون على أن الله أمر كلاً منهم بالدين الجامع، وأن نعبده بتلك الشرعة والمنهاج، كما أن الأمة الإسلامية متفقة على أن الله أمر كل مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به؛ إما إيجابًا، وإما استحبابًا، وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم، ولا أخطأ أحد منهم، بل كلهم متفقون على ذلك يصدق بعضهم بعضًا.
ج/ 19 ص -122-فَصْل
وأما ما يشبه ذلك من وجه دون وجه، فهو ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه، وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك؛ كاجتهاد الصحابة في قطع اللِّينَة وتركها، واجتهادهم في صلاة العصر، لما بعثهم النبي ﷺ إلى بني قريظة وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فصلى قوم في الطريق في الوقت، وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة. وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت تمسكًا بظاهر لفظ العموم، فلم يعنف النبي ﷺ واحدة من الطائفتين، وقال ﷺ: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر".
وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم؛ كمسائل في العبادات والمناكح، والمواريث والعطاء، والسياسة، وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولي، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.
ج/ 19 ص -123-وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم.
وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد ﷺ ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور اتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه، وهل يقال له: مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع. ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين، ولا حكم في نفس الأمر.
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد، وإن أخطأ، فهذا النوع يشبه النوع الأول من وجه دون وجه، أما وجه المخالفة؛ فلأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الإقرار على الخطأ، بخلاف الواحد من العلماء والأمراء؛ فإنه ليس معصومًا من ذلك؛ ولهذا يسوغ، بل يجب أن نبين الحق الذي يجب اتباعه، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء، وأما الأنبياء فلا يبين أحدهما ما يظهر به خطأ الآخر، وأما المشابهة فلأن كلا مأمور باتباع ما بَانَ له من الحق بالدليل الشرعي؛ كأمر النبي ﷺ باتباع ما أوحي إليه،
ج/ 19 ص -124-وليس لأحدهما أن يوجب على الآخر طاعته، كما ليس ذلك لأحد النبيين مع الآخر. وقد يظهر له من الدليل ما كان خافيًا عليه فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد، ويشبه النسخ في حق النبي، لكن هذا رَفْعٌ للاعتقاد، وذاك رفع للحكم حقيقة، وعلى الأَتْبَاع اتِّبَاع من وَلِي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتباعه وأمر فيه باتباع اجتهاده، كما على الأمة اتباع أي نبي بعث إليهم وإن خالف شرعه شرع الأول، لكن تنوع الشرع لهؤلاء وانتقاله لم يكن لتنوع نفس الأمر النازل على الرسول، ولكن تنوع أحوالهم، وهو إدراك هذا لما بلغه من الوحي سمعًا وعقلاً،وعجز الآخر عن إدراك ذلك البلاغ؛ إما سمعًا لعدم تمكنه من سماع ذلك النص، وإما عقلاً لعدم فهمه لما فهمه الأول من النص، وإذا كان عاجزًا سقط عنه الإثم فيما عجز عنه، وقد يتبين لأحدهما عجز الآخر وخطؤه وتعذره في ذلك، وقد لا يتبين له عجزه، وقد لا يتبين لكل منهما أيهما الذي أدرك الحق وأصابه.
ولهذا امتنع من امتنع من تسمية مثل هذا خطأ، قال: لأن التكليف مشروط بالقدرة، فما عجز عنه من العلم لم يكن حكم الله في حقه، فلا يقال: أخطأه.
وأما الجمهور فيقولون: أخطأه، كما دلت عليه السنة والإجماع، لَكِنْ خطؤه معذور فيه، وهو معني قوله: عجز عن إدراكه وعلمه، لكن
ج/ 19 ص -125-هذا لا يمنع أن يكون ذاك هو مراد الله ومأموره. فإن عجز الإنسان عن فهم كلام العالم لا يمنع أن يكون قد أراد بكلامه ذلك المعنى، وأن يكون الذي فهمه هو المصيب الذي له أجران.
ولهذا تنازع أصحابنا فيمن لم يُصِبِ الحكم الباطن، هل يقال: إنه مصيب في الظاهر؛ لكونه أدي الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاره؟ أو لا يطلق عليه اسم الإصابة بحال، وإن كان له أجر على اجتهاده وقصده الحق؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد؛ وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق، وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به؟ التحقيق أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه، فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور، وإن لم يكن مصيبًا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق.
يوضح ذلك أن السلطان نوعان: سلطان الحجة والعلم، وهو أكثر ما سمي في القرآن سلطانًا، حتى روي عن ابن عباس أن كل سلطان في القرآن فهو الحجة. والثاني: سلطان القدرة. والعمل الصالح لا يقوم إلا بالسلطانين؛ فإذا ضعف سلطان الحجة كان الأمر بقدره، وإذا ضعف سلطان القدرة كان الأمر بحسبه،والأمر مشروط بالقدرة على السلطانين، فالإثم ينتفي عن الأمر بالعجز عن كل منهما.وسلطان الله في العلم هو الرسالة، وهو حجة الله على خلقه، كما قال تعالى:
ج/ 19 ص -126-"لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء: 165]، وقال تعالى: "إِنْ هِيَ "أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ"إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ" [النجم: 23]، وقال: [الروم: 35]، ونظائره متعددة.
فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء؛ ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشِّرَع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له، وهو الدين الأصلى الجامع، كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له، ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به لا من شرعة رسوله ومنهاجه، كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه.
ويتنوع شرعهم ومناهجهم، مثل أن يبلغ أحدهم الأحاديث بألفاظ غير الألفاظ التي بلغت الآخر، وتفسر له بعض آيات القرآن بتفسير يخالف لفظه لفظ التفسير الآخر، ويتصرف في الجمع بين النصوص واستخراج الأحكام منها بنوع من الترتيب والتوفيق، ليس هو النوع
ج/ 19 ص -127-الذي سلكه غيره، وكذلك في عباداته وتوجهاته، وقد يتمسك هذا بآية أو حديث وهذا بحديث أو آية أخرى.
وكذلك في العلم، من العلماء من يسلك بالاتباع طريقة ذلك العالم، فتكون هي شرعهم حتى يسمعوا كلام غيره، ويروا طريقته، فيرجح الراجح منهما، فتتنوع في حقهم الأقوال والأفعال السالفة لهم من هذا الوجه، وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أمرت الرسل بذلك، ومأمورون بألا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة، كما أمرت الرسل بذلك، وهؤلاء آكد، فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد.
وأما القدر الذي تنازعوا فيه فلا يقال: إن الله أمر كلاًّ منهم باطنًا وظاهرًا بالتمسك بما هو عليه كما أمر بذلك الأنبياء، وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام، فإنما يقال: إن الله أمر كلاًّ منهم أن يطلب الحق بقدر وُسْعِه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال المؤمنون: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" [البقرة: 286]، وقال الله: قد فعلت. وقال تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ" [الأحزاب: 5]، فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدي، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله، وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدي، واتبع هواه بغير هدى
ج/ 19 ص -128-من الله، ومن فعل ما أمر به بحسب حاله؛ من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل، فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [البقرة: 286]، فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه ﷺ وهو محسن، ويدوم على هذا الإسلام، فإسلام وجهه إخلاصه ﷺ وإحسان فعله الحسن. فتدبر هذا فإنه أصل جامع نافع عظيم.
ج/ 19 ص -129-وقال شيخ الإسلام:
هذه قاعدة عظيمة جامعة متشعبة. وللناس في تفاصيلها اضطراب عظيم، حتى منهم من صار في طرفي نقيض في كلا نوعي الأحكام العلمية، والأحكام العينية النظرية، وذلك أن كل واحد من العلوم والاعتقادات والأحكام والكلمات، بل والمحبة والإرادات؛ إما أن يكون تابعًا لمتعلقه مطابقًا له، وإما أن يكون متبوعه تابعًا له مطابقًا له.
ولهذا انقسمت الحق والحقائق والكلمات إلى: موجود ومقصود، إلى كوني وديني، إلى قدري وشرعي، كما قد بينته في غير هذا الموضع، وقد تنازع النظار في العلم: هل هو تابع للمعلوم غير مؤثر فيه؟ بل هو انفعإلى كما يقوله كثير من أهل الكلام؟ أو المعلوم تابع له والعلم مؤثر فيه وهو فعلى كما يقوله كثير من أهل الفلسفة؟
والصواب أن العلم نوعان: أحدهما: تابع، والثاني: متبوع. والوصفان يجتمعان في العلم غالبًا أو دائمًا، فعلمنا بما لا يفتقر إلى علمنا كعلمنا بوجود السموات والأرض، وكذلك علمنا بالله وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والنبيين، وغير ذلك
ج/ 19 ص -130-علم تابع انفعإلى. وعلمنا بما يقف على علمنا مثل ما نريده من أفعالنا علم فعلى متبوع، وهو سبب لوجود المعلوم. وكذلك علم الله بنفسه المقدسة تابع غير مؤثر فيها، وأما علمه بمخلوقاته فهو متبوع وبه خلق الله الخلق، كما قال تعالى: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" [الملك: 14]، فإن الإرادة مستلزمة للعلم في كل مريد، كما أن هذه الصفات مستلزمة للحياة، فلا إرادة إلا بعلم، ولا إرادة وعلم إلا بحياة، وقد يجوز أن يقال: كله علم، فهو تابع للمعلوم مطابق؛ سواء كان سببًا في وجود المعلوم، أو لم يكن، فيكون إطلاق المتكلمين أحسن وأصوب من إطلاق المتفلسفة: أن كل علم فهو فعلى متبوع.
وما أظن العقلاء من الفريقين إلا يقصدون معني صحيحًا، وهو أن يشيروا إلى ما تصوروه، فينظر هؤلاء في أن العلم تابع لمعلومه مطابق له، ويشير هؤلاء إلى ما في حسن العلم في الجملة، من أنه قد يؤثر في المعلوم وغيره ويكون سببًا له، وأن وجود الكائنات كان بعلم الله وعلم الإنسان بما هو حق أو باطل، وهدى أو ضلال، ورشاد أو غَي، وصدق أو كذب، وصلاح أو فساد من اعتقاداته وإراداته، وأقواله وأعماله، ونحو ذلك يجتمع فيه الوصفان، بل غالب العلم أو كله يجتمع فيه الأمران.
ولهذا كان الإيمان قولاً وعملاً قول القلب وعمله، وقول الجسد
ج/ 19 ص -131-وعمله، فإنه من عرف الله أحبه، فعمله بالله تابع للمعلوم ومتبوع لحبه ﷺ، ومن عرف الشيطان أبغضه، فمعرفته به تابعة للمعلوم ومتبوعة لبغضه، وكذلك عامة العلم لابد أن يتبعه أثر ما في العالم من حب أو غيره، حتى علم الرب سبحانه بنفسه المقدسة يتبعه صفات وكلمات وأفعال متعلقة بنفسه المقدسة، فما من علم إلا ويتبعه حال ما،وعمل ما،فيكون متبوعًا مؤثرًا فاعلاً بهذا الاعتبار، وما من علم إلا وهو مطابق لمعلومه موافق له؛ سواء كان المعلوم مستغنيًا عنه، أو كان وجود المعلوم بوجوده، فيكون تابعًا منفعلاً مطابقًا بهذا الاعتبار، لكن كل علم، وإن كان له تأثير، فلا يجب أن يكون تأثيره في معلومه، فإن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأحب الله وملائكته وأنبياءه والجنة، وأبغض النار لم يكن علمه بذلك مؤثرًا في المعلوم، وإنما أثر في محبة المعلوم وإرادته، أو في بغضه وكراهته لذلك.
وإن كان كل علم فإنه مطابق للمعلوم، لكن قد يكون ثبوت المعلوم في ذهن العالم وتصوره قبل وجوده في الخارج،كتصور الإنسان لأقواله وأعماله، وقد يكون وجوده في الخارج قبل تصور الإنسان له وعلمه،أو بدون تصور الإنسان له،فلهذا التفريق حصل التقسيم الذي قدمناه،من أنه ينقسم إلى: مؤثر في المعلوم، وغير مؤثر فيه، وإلى:تابع للمعلوم، وغير تابع له، وإن كان كل علم فإن له أثرًا في نفس العالم، وإن كان
ج/ 19 ص -132-كل علم فإنه تابع تبع المطابقة والموافقة، وإن لم يكن بعضه تابعًا تبع التأخر والتأثر والافتقار والتعلل.
فهذه مقدمة جامعة نافعة جدًا في أمور كثيرة. إذا تبين هذا في جنس العلم ظهر ذلك في الاعتقاد والرأي والظن، ونحو ذلك الذي قد يكون علمًا، وقد لا يكون علمًا، بل يكون اعتقادًا صحيحًا، أو غير صحيح، أو ظنًا صحيحًا، أو غير صحيح، أو غير ذلك من أنواع الشعور والإحساس والإدراك؛ فإن هذا الجنس هو الأصل في الحركات والأفعال الروحانية والجسمانية ما كان من جنس الحب والبغض، وغير ذلك، وما كان من جنس القيام والقعود وغير ذلك، فإن جميع ذلك تابع للشعور مفتقر إليه مسبوق به، والعلم أصل العمل مطلقًا وإن كان قد يكون فرعًا لعلوم غير العمل كما تقدم.
فالاعتقاد؛ تارة يكون فرعًا للمعتقد تابعًا له، كاعتقاد الأمور الخارجة عن كسب العبد، كاعتقاد المؤمنين والكفار في الله تعالى وفي اليوم الآخر، وقد يكون أصلاً للمعتقد متبوعًا له؛ كاعتقاد المعتقد وظنه أن هذا العمل يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة؛ إما في الدنيا، وإما في الآخرة، مثل اعتقاده أن أكل هذا الطعام يشبعه، وأن تناول هذا السم يقتله، وأن هذه الرَّمْيَة تصيب هذا الغرض، وهذه الضربة تقطع هذا العُنُق، وهذا البيع والتجارة يورثه ربحًا أو خسارة، وأن
ج/ 19 ص -133-صلاته وزكاته وحجه وبره وصدقه، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة يورثه السعادة في الدنيا والآخرة، وأن كفره وفسوقه وعصيانه يورثه الشقاوة في الدنيا والآخرة.
وهذا باب واسع تدخل فيه الديانات والسياسات وسائر الأعمال الدينية والدنيوية، ويشترك فيه الدين الصحيح والفاسد. لكن هذا الاعتقاد العملي لابد أن يتعلق أيضًا بأمور غير العمل، فإن اعتقاده أن هذا العمل ينفعه في الدنيا والآخرة، أو يضره يتعلق أيضًا بصفات ثابتة الأعيان لا يتعلق باعتقاده، كما أن الاعتقاد النظري، وإن كان معتقده غير العمل، فإنه يتبعه عمل، كما تقدم أن كلاًّ من الاعتقادين تابع متبوع.
والأحكام أيضًا من جنس الاعتقادات، فإنه أيضًا ينقسم قسمين: أحكام عينية تابعة للمحكوم فيه؛ كالحكم بما يستحقه الله تعالى من الحمد والثناء، وما يتقدس عنه من الفقر والشركاء. وأحكام عملية يتبعها المحكوم فيه؛ كالحكم بأن هذا العمل حسن أو قبيح، صالح أو فاسد، خير أو شر، نافع أو ضار، واجب أو محرم، مأمور به أو منهى عنه، رشاد أو غَي، عدل أو ظلم.
وكذلك الكلمات فإنها تنقسم إلى: خبرية وإنشائية، فالكلمات الخبرية
ج/ 19 ص -134-تطابق المخبر عنه وتتبعه، وهي موافقة للعلم التابع والاعتقاد التابع والحكم التابع. والكلمات الإنشائية مثل الأمر والنهي والإباحة، تستتبع المتكلم فيه المأمور به والمنهى عنه والمباح، وتكون سببًا في وجوده أو عدمه؛ كالعلم المتبوع والاعتقاد المتبوع، وهو الحكم العملي.
إذا عرف هذان النوعان، فمن الناس من يسمي العلم والاعتقاد والحكم والقول الخبري التابع: علم الأصول، وأصول الدين، أو علم الكلام، أو الفقه الأكبر، ونحو ذلك من الأسماء المتقاربة، وإن اختلفت فيها المقاصد والاصطلاحات. ويسمي النوع الآخر: علم الفروع، وفروع الدين، وعلم الفقه والشريعة، ونحو ذلك من الأسماء. وهذا اصطلاح كثير من المتفقهة والمتكلمة المتأخرين.
ومن الناس من يجعل أصول الدين اسمًا لكل ما اتفقت فيه الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير؛ سواء كان علميًا أو عمليًا، سواء كان من القسم الأول أو الآخر، حتى يجعل عبادة الله وحده ومحبته وخشيته، ونحو ذلك من أصول الدين، وقد يجعل بعض الأمور الاعتقادية الخبرية من فروعه، ويجعل اسم الشريعة ينتظم العقائد والأعمال، ونحو ذلك، وهذا اصطلاح غلب على أهل الحديث والتصوف، وعليه أئمة الفقهاء وطائفة من أهل الكلام.
ج/ 19 ص -135-فَصْل
إذا تبين هذا، فمن الناس من صار في طَرَفي نقيض، فحكى عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها، يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد، وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل، وإنما هو من جنس ما يحكى أن السوفسطائية أنكروا الحقائق ولم يثبتوا حقيقة ولا علمًا بحقيقة، وأن لهم مقدمًا يقال له: سوفسطا كما يذكره فريق من أهل الكلام.
وزعم آخرون أن هذا القول لا يعرف أن عاقلًا قاله، ولا طائفة تسمى بهذا الاسم، وإنما هي كلمة معربة من اللغة اليونانية ومعناها: الحكمة المموهة، يعنون الكلام الباطل الذي قد يشبه الحق، كما قد يتخيله الإنسان لفساد عقله أو مزاجه أو اشتباه الأمر عليه، وجعلوا
ج/ 19 ص -136-هذا نوعًا من الكلام والرأى يعرض للنفوس، لا أنه صنف من الآدميين.
وبكل حال، فمعلوم أن التخيلات الفاسدة كثيرًا ما تعرض لبنى آدم، بل هي كثيرة عليهم، وهم يجحدون الحق؛ إما عنادًا، وإما خطأ في أمور كثيرة وفي أحوال كثيرة، وإن كان الجاحد قد يقر بحق آخر، أو يقر بذلك الحق في وقت آخر، فالجهل والعناد الذي هو السفسطة هو فيهم خاص مقيد، لا أنه عام مطلق، قد يبتلى به بعضهم مطلقًا وإن لم يستمر به الأمر، وقد يبتلى به في شيء بعينه على سبيل الدوام، وأما ابتلاء الشخص المعين به، فقد يكون؛ إما مع فساد العقل المسقط للتكليف وهو الجنون،وإما مع صحة العقل المشروط في التكليف، فما أعلم شخصًا جاهلًا بكل شيء معاندًا لكل شيء حتى يكون سوفسطائيًا.
ومما يبين أن هذا لم يقع عند المتكلمة أيضًا أن كثيرًا من متكلمة أهل الحديث والسنة وغيرهم يقولون: إن العقل المشروط في التكليف نوع من العلوم الضرورية؛ كالعلم بوجوب الواجبات، وجواز الجائزات، وامتناع الممتنعات. واستدلوا على ذلك بأن العاقل لا يخلو من علم شيء من ذلك، وهذا قول القاضي أبي بكر، وابن البَاقِلانى، وأبي الطيب الطبري، والقاضي أبي يَعْلى، وابن عقيل، وغيرهم، فمن كان هذا
ج/ 19 ص -137-قوله لم يصح أن يحكى عن عاقل أنه أنكر العلوم جميعها إلا على سبيل العناد. ومعلوم أن العناد لا يكون إلا لغرض، وليس لأحدٍ غرضٌ أن يعاند في كل شيء، ويجحده على سبيل الدوام.
ومن الناس بإزاء هؤلاء مَنْ قد يتوهم أنه لا تأثير للعقائد في المعتقدات، ولا تختلف الأحكام باختلاف العقائد، بل يتخيل أنه إذا اعتقد وجوب فعل، أو تحريمه كان من خرج عن اعتقاده مبطلًا مرتكبًا للمحرم، أو تاركًا للواجب، وأنه يستحق من الذم والعقاب ما يستحقه جنس من ترك الواجب، أو فعل المحرم، وإذا عورض بأنه متأول، أو مجتهد لم يلتفت إلى هذا، وقال: هو ضال مخطئ مستحق للعقاب، وهذا أيضًا على إطلاقه وعمومه لا يعتقده صحيح العقل والدين، ما أعلم قائلًا به على الإطلاق والعموم كالطرف الأول، وإنما أعلم أقوامًا وطوائف يُبْتَلون ببعض ذلك ولوازمه في بعض الأشياء، فإن من غالب من يقول بعصمة الأنبياء والأئمة الاثنى عشر عن الخطأ في الأقوال والأعمال مَنْ قد يرى أنه لو أخطأ الإمام في فعلٍ لكان ذلك عيبًا وذمًا، وبين هذين الطرفين المتباعدين أطراف أيضًا نشأ عنها اختلاف الناس في تصويب المجتهدين وتخطئتهم في الأصول والفروع، كما سننبه عليه إن شاء اللّه.
ج/ 19 ص -138-فصل
والمتحقق أن الأحكام والأقوال والاعتقادات كما تقدم نوعان: عَيْنيٌّ، وعملي، تابع للمعتقد، ومتبوع للمعتقد، فرع للمعتقد، وأصل له.
فأما الأول وهو العينى التابع للمعتقد المتفرع عليه فهذا لا تؤثر فيه الاعتقادات ولا يختلف باختلافها، فإن حقائق الموجودات ثابتة في نفسها؛ سواء اعتقدها الناس، أو لم يعتقدوها، وسواء اتفقت عقائدهم فيها، أو اختلفت، وإذا اختلف الناس فيها على قولين متناقضين لم يكن كل مجتهد مصيبًا، بمعنى أن قوله مطابق للمعتقد موافق له، لا يقول ذلك عاقل كما تقدم. ومن حكى عن أحد من علماء المسلمين سواء كان عبيد اللّه بن الحسن العَنْبَرِى، أو غيره أنه قال: كل مجتهد في الأصول مصيب، بمعنى أن القولين المتناقضين صادقان مطابقان فقد حكى عنه الباطل بحسب توهمه، وإذا رد هذا القول وأبطله فقد أحسن في رده وإبطاله، وإن كان هذا القول المردود لا قائل به.
ولكن المنازعات والمخالفات في هذا الجنس تشتمل على أقسام، وذلك أن التنازع؛ إما أن يكون في اللفظ فقط، أو في المعنى فقط، أو في كل منهما، أو في مجموعهما.
ج/ 19 ص -139-فإن كان في المعنى مع اللفظ أو بدونه، فلا يخلو؛ إما أن يتناقض المعنيان، أو يمكن الجمع بينهما، فإن كان النزاع في المعنيين المتناقضين فأحد القولين صواب والآخر خطأ، وأما بقية الأقسام فيمكن فيها أن يكون القولان صوابًا، ويمكن أن يكون الجميع خطأ، ويمكن أن يكون كل منهما أو أحدهما صوابًا من وجه، خطأ من وجه، وحيث كان القولان خطأ وقد لا يكون، وإذا لم يكن كفرًا فقد يكون فسوقًا وقد لا يكون. فمن قال: إن المتنازعين كل منهما صواب بمعنى الإصابة في بعض الأقسام المتقدمة، أو بمعنى أنه لا يعاقب على ذلك فهذا ممكن، وأما تصويب المتناقضين فمحال، فإنه كثيرًا ما يكون النزاع في المعنى نزاع تنوع، لا نزاع تضاد وتناقض، فيثبت أحدهما شيئًا، وينفي الآخر شيئًا آخر، ثم قد لا يشتركان في لفظ ما نفاه أحدهما وأثبته الآخر، وقد يشتركان في اللفظ، فيكون التناقض والاختلاف في اللفظ، وأما المعنى فلا يختلفان فيه ولا يتناقضان.
ثم قد يكونان متفقين عليه يقوله كل منهما، وقد يكون أحدهما قاله أو يقوله والآخر لا يتعرض له بإثبات ولا نفي، وقد يكون النزاع اللفظي مع اتحاد المعنى لا تنوعه، وكثير من تنازع الأمة في دينهم هو من هذا الباب في الأصول والفروع والقرآن والحديث، وغير ذلك.
مثال التنوع الذي ليس فيه نزاع لفظى أن يقول أحدهما: الصراط
ج/ 19 ص -140-المستقيم هو الإسلام. ويقول الآخر: هو السنة والجماعة. ويقول الآخر: هو القرآن. ويقول الآخر: هو طريق العبودية. فإن هذا تنوع في الأسماء والصفات التي يبين بها الصراط المستقيم بمنزلة أسماء اللّه وأسماء رسوله وكتابه، وليس بينها تضاد، لا في اللفظ ولا في المعنى.
وكذلك إذا قال بعضهم في السابق والمقتصد والظالم أقوالًا، يذكر فيها كل قوم نوعًا من المسميين، ويكون الاسم متناولًا للجميع من غير منافاة.
ومثال التنوع الذي فيه نزاع لفظي لأجل اشتراك اللفظ كما قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء تنازع قوم في أن محمدًا رأى ربه في الدنيا أو في الآخرة؟ فقال قوم:رآه في الدنيا؛ لأنه رآه قبل الموت. وقال آخرون: بل في الآخرة؛ لأنه رآه وهو فوق السموات ولم يره وهو في الأرض. والتحقيق أن لفظ الآخرة يراد به الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ويراد به الدار الدنيا والدار الآخرة، ومحمد رأى ربه في الحياة الدنيا في الدار الآخرة.
وكذلك كثير ممن يتنازعون في أن اللّه في السماء، أو ليس في السماء. فالمثبتة تطلق القول بأن اللّه في السماء، كما جاءت به النصوص، ودلت عليه. بمعنى أنه فوق السموات على عرشه بائن من خلقه. وآخرون ينفون
ج/ 19 ص -141-القول بأن اللّه في السماء، ومقصودهم أن السماء لا تحويه ولا تحصره ولا تحمله ولا تقله، ولا ريب أن هذا المعنى صحيح أيضًا. فإن اللّه لا تحصره مخلوقاته، بل وسع كرسيه السموات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، وكذلك ليس هو مفتقرًا إلى غيره، محتاجًا إليه، بل هو الغنى عن خلقه، الحي القيوم الصمد، فليس بين المعنيين تضاد، ولكن هؤلاء أخطؤوا في نفي اللفظ الذي جاء به الكتاب والسنة، وفي توهم أن إطلاقه دَالٌّ على معنى فاسد.
وقد يعذر بعضهم إذا رأى من أطلق هذا اللفظ، وأراد به أن السماء تقله أو تظله، وإذا أخطأ من عنى هذا المعنى فقد أصاب، وأما الأول فقد أصاب في اللفظ لإطلاقه ما جاء به النص، وفي المعنى الذي تقدم؛ لأنه المعنى الحق الذي دل عليه النص، لكن قد يخطئ بعضهم في تكفير من يطلق اللفظ الثاني إذا كان مقصوده المعنى الصحيح، فإن من عنى المعنى الصحيح لم يكفر بإطلاق لفظ، وإن كان مسيئًا، أو فاعلًا أمرًا محرمًا. وأما من فسر قوله: إنه ليس في السماء، بمعنى أنه ليس فوق العرش، وإنما فوق السموات عدم محض، فهؤلاء هم الجهمية الضلال، المخالفون لإجماع الأنبياء، ولفطرة العقلاء.
ج/ 19 ص -142-فصل
ونحن نذكر من ذلك أصولًا:
أحدها: تأثير الاعتقادات في رفع العذاب والحدود، فنقول: إن الأحكام الشرعية التي نصبت عليها أدلة قطعية معلومة، مثل الكتاب والسنة المتواترة والإجماع الظاهر؛ كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصيام وتحريم الزنا والخمر والربا. إذا بلغت هذه الأدلة للمكلف بلاغًا يمكنه من اتباعها فخالفها تفريطًا في جنب اللّه وتعديًا لحدود اللّه فلا ريب أنه مخطئ آثم، وأن هذا الفعل سبب لعقوبة اللّه في الدنيا والآخرة، فإن اللّه أقام حجته على خلقه بالرسل الذين بعثهم إليهم مبشرين ومنذرين "رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" [النساء: 165]، قال تعالى عن أهل النار:"تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ" [الملك: 8، 9]، وقال تعالى: "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ " [الزمر: 71].
ج/ 19 ص -143-وأما إذا كان في الفعل والحادثة والمسألة العملية نص لا يتمكن المكلف من معرفته ومعرفة دلالته، مثل أن يكون الحديث النبوي الوارد فيها عند شخص لم يعلم به المجتهد ولم يشعر بما يدله عليه، أو تكون دلالته خفية لا يقدر المجتهد على فهمها، أو لم يكن فيها نص بحال، فهذا مَوْرِد نزاع؛ فذهب فريق من أهل الكلام، مثل أبي على وأبي هاشم والقاضي أبي بكر والغزالي إلى قول مُبْتَدَع يشبه في المجتهدات قول الزنادقة الإباحية في المنصوصات، وهو أنه ليس لهذه الحادثة حكم عند اللّه في نفس الأمر، وإنما حكمه في حق كل مكلف يتبع اجتهاده واعتقاده، فمن اعتقد وجوب الفعل فهو واجب عليه، ومن اعتقد تحريمه فهو حرام عليه، وبنوا ذلك على مقدمتين:
إحداهما: أن الحكم إنما يكون بالخطاب، فما لا خطاب فيه لا حكم للّه فيه، فإذا لم يكن للعقل فيه حكم؛ إما لعدم الحكم العقلى مطلقًا، أو في هذه الصورة علم أنه لا حكم فيه يكون من أصابه مصيبًا ومن أخطأه مخطئًا.
الثاني: أنه قد علم أن من اعتقد وجوب شيء فعليه فعله، ومن
ج/ 19 ص -144-اعتقد تحريمه فعليه اجتنابه، فالحكم فيه يتبع الاعتقاد. قالوا: والأحكام الشرعية تختلف باختلاف أحوال المكلفين في اجتهاداتهم وغير اجتهاداتهم، بدليل اتفاق الفقهاء وأهل السنة على أن الاجتهاد والاعتقاد يؤثر في رفع الإثم والعقاب كما جاءت به النصوص، وأن الوجوب والتحريم يختلف بالإقامة والسفر والطهارة والحيض والعجز والقدرة وغير ذلك، فيجوز أن تختلف الأحكام باختلاف الاعتقادات، ويكون الحكم في حق المجتهد عند عدم النص ما اعتقده. هذا ملخص قولهم. وأما السلف والفقهاء والصوفية والعامة وجمهور المتكلمين فعلى إنكار هذا القول، وأنه مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، بل هو مخالف للعقل الصريح، حتى قال أبو إسحاق الإسْفِرَائيني وغيره: هذا المذهب أوله سَفْسَطة وآخره زندقة، يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه. فمن قال: إن الإيجاب والتحريم يتبع الاعتقادات فقد سفسط في الأحكام العملية، وإن لم يكن مسفسطًا في الأحكام العينية، وقد قدمنا أنه لم تَجْرِ العادة بأن عاقلا يسفسط في كل شيء؛ لا خطأ ولا عمدًا، لا ضلالًا ولا عنادًا، لا جهلًا ولا تجاهلًا، وأما كون آخره زندقة؛ فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب، وإن شاء
ج/ 19 ص -145-أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال، وهذا كفر وزندقة.
وجماع الكلام على هؤلاء في مقامين:
أحدهما: امتناع هذا القول في نفسه واستحالته، وذلك معلوم بالعقل.
والثاني: أنه لو كان جائزًا في العقل، لكن لم يرد به الشرع، بل هو مخالف له، وتعرف مخالفته للنص والإجماع.
أما الأول فمن وجوه:
أحدها: أنه قد تقدم أن كل علم واعتقاد وحكم لابد له من معلوم معتقد، محكوم به، يكون الاعتقاد مطابقًا له موافقًا؛ سواء كان للاعتقاد تأثير في وجوده، أو لم يكن؛ فإن الاعتقادات العملية المؤثرة في المعتقد مثل: اعتقاد أن أكل هذا الخبز يشبع، واعتقاد أن أكل هذا السم يقتل، وإن كان هذا الاعتقاد يؤثر في وجود الأكل مثلًا فلابد له من معتقد ثابت بدونه، وهو كون أكل ذلك الخبز موصوفًا بتلك الصفة والأكل، فإن كان معدومًا قبل وجوده فإن محله وهو الخبز والأكل موجودان، فإن لم يكن الخبز متصفًا بالإشباع إذا أكل، والأكل متصفًا بأنه يشبع إذا أكله لم يكن الاعتقاد صحيحًا، بل
ج/ 19 ص -146-فاسدًا. كما لو اعتقد في شيء أنه رغيف فأكله إذا هو جَصٌّ أو جبصين، فإن اعتقاده، وإن أقدم به على الأكل، فإنه لا يشبعه لفساد الاعتقاد، وهكذا من اعتقد في شيء أنه ينفعه أو يضره فإن الاعتقاد يدعوه إلى الفعل أو الترك، ويبعثه على ذلك، فإن كان مطابقًا حصلت المنفعة، واندفعت المضرة إذا انتفت الموانع، وإلا فمجرد الانتفاع بالفعل أو الضرر به لا يوجب حصول المنفعة والمضرة، وإنما هذا قول بعض جهال الكفار: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه، فيجعلون الانتفاع بالشيء تبعًا لظن المنفعة فيه.
وقد اعتقد المشركون الانتفاع بالأصنام التي قال اللّه فيها: "يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ " [الحج: 13]، فإذا اعتقد المعتقد أن هذا الفعل مأمور به أمر استحباب يثيب اللّه عليه ثواب الفعل المستحب، أو أمر إيجاب يعاقب من تركه عقوبة العاصي، أو اعتقد أن اللّه نهي عنه كذلك، فهو معتقد؛ إما صفة في ربه فقط من الأمر والنهي وهي صفة إضافية للفعل، كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإما صفة في الفعل فقط من الحسن والقبح والأمر والنهي كاشفة لذلك؛ كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإما ثبوت الصفتين جميعًا للأمر والمأمور به؛ كما عليه جمهور الفقهاء. وهو إنما يعتقد وجود تلك الصفة التي هي الحكم الشرعي لاعتقاده أنها ثابتة في
ج/ 19 ص -147-نفسها موجودة بدون اعتقاده، لا أنه يطلب باعتقاده أن يثبت للأمر والفعل صفة لم تكن له قبل ذلك؛ إذ ليس لأحد من المجتهدين غرض في أن يثبت للأفعال أحكامًا باعتقاده، ولا أن يشرع دينًا لم يأذن به اللّه. وإنما مطلوبه أن يعتقد حكم اللّه ودينه، ولا له مقصود أن يجيء إلى الأفعال المتساوية في ذواتها وفي أمر اللّه، فيعتقد في أحدها الوجوب على نفسه، وفي الآخر التحريم من غير سبب تختص به الأفعال.
فهذا موضع ينبغي تدبره. فإن المؤمن الطالب لحكم اللّه إذا علم أن تلك الأفعال عند اللّه سواء، لم يميز بعضها عن بعض بأمر ولا نهي، وهي في أنفسها سواء، لم يميز بعضها عن بعض بحسن ولا سوء ولا مصلحة ولا مفسدة. فإن هذا الاعتقاد منه موجب لاستوائها وتماثلها، فاعتقاده بعد هذا أن هذا واجب يذم تاركه، وهذا حرام يعاقب فاعله تناقض في العقل وسفسطة، وكفر في الدين وزندقة.
أما الأول: فلأن اعتقاد التساوي والتماثل ينافي اعتقاد الرجحان والتفضيل، فضلًا عن وجوب هذا وتحريم هذا، فكيف يجمع العاقل بين الاعتقادين المتناقضين؟ إلا أن يكون أَخْرَق كافرًا، فيقول: أنا أوجب هذا وأحرم هذا، بلا أمر من اللّه، ولا مرجح لأحدهما من جهة العقل، فإذا فعل هذا كان شارعًًا من الدين لما لم يأذن به اللّه، وهو مع هذا دين معلوم الفساد بالعقل، حيث جعل الأفعال المستوية
ج/ 19 ص -148-بعضها واجب وبعضها محرم، بلا سبب يوجب التخصيص، إلا محض التحكم الذي لا يفعله حيوان أصلًا، لا عاقل ولا مجنون، إذ لو فرض اختصاص أحد الفعلين لشهوة أو لذة أمكن أن يقال: تلك جهة توجب الترجيح، وهي جهة حُسْن عند من يقول بالتحسين العقلى فيجب لذلك، والغرض انتفاء ذلك جميعه، وإذا انتفي ذلك كله علم أن اعتقاد حسن الفعل وقبحه ووجوبه وتحريمه يتبع أمرًا ثابتًا في نفسه، يكون مطابقًا له أو غير مطابق. وإذا كان كذلك، فالاعتقاد المطابق صواب، والاعتقاد المخالف ليس بصواب، لا أن الحكم يتبع الاعتقاد من كل وجه.
الثاني: أن الطالب المستدل بالدليل ليستبين له الأحكام هو يطلب العلم بمدلول الدليل، فإن لم يكن للدليل مدلول وإنما مدلول الدليل يحصل عقب التأمل لم يكن مطلوبه العلم بالمدلول، وإنما مطلوبه وجود المدلول، وليس هذا شأن الأدلة التي تبين المدلولات، وإنما هو شأن الأسباب والعلل توجد المسببات، وفرق كثير بين الدليل المقتضي للعلم القائم بالقلب، وبين العلم المقتضي للوجود القائم في الخارج، فإن مقتضى الأول الاعتقاد الذهني، ومقتضى الثاني الوجود الخارجي، وأحد النوعين مباين للآخر.
ج/ 19 ص -149-فصل
وأما الأحكام والاعتقادات والأقوال العملية التي يتبعها المحكوم، فهي الأمر والنهي والتحسين والتقبيح واعتقاد الوجوب والتحريم، ويسميها كثير من المتفقهة والمتكلمة: الأحكام الشرعية، وتسمى الفروع والفقه، ونحو ذلك. وهذه تكون في جميع الملل والأديان، وتكون في الأمور الدنيوية من السياسات والصناعات والمعاملات، وغير ذلك، وهي التي قصدنا الكلام عليها في هذه القاعدة، حيث قلنا: إن الاعتقادات قد تؤثر في الأحكام الشرعية، فهذه أيضًا الناس فيها طرفان ووسط:
الطرف الأول: طرف الزنادقة الإباحية الكافرة بالشرائع والوعيد والعقاب في الدار الآخرة، الذين يرون أن هذه الأحكام تتبع الاعتقاد مطلقًا والاعتقاد هو المؤثر فيها، فلا يكون الشيء واجبًا إلا عند من اعتقد تحريمه، ويرون أن الوعيد الذي يلحق هؤلاء هو عذاب نفوسهم بما اعتقدوه من الأمر والنهي والإيجاب والتحريم، وما اعتقدوه من أنهم إذا فعلوا المحرمات، وتركوا الواجبات عذبوا وعوقبوا، فيبقى في
ج/ 19 ص -150-نفوسهم خوف وتألم وتوهم للعذاب وتخيل له، فيزعمون أن هذا الألم الناشئ عن هذا الاعتقاد والتخيل هو عقابهم وعذابهم وذاك ناشئ عما اعتقدوه؛ كمن اعتقد أن هنا أسدًا أو لصًا أو قاطع طريق من غير أن يكون له وجود، فيتألم ويتضرر بخوفه من هذا المحذور الذي اعتقده. فاجتمع اعتقاد غير مطابق، ومعتقد يؤلم وجوده، فتألمت النفس بهذا الاعتقاد والتخيل. وقد يقول حُذَّاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة وقوم يتصوفون أو يتكلمون وهم غالية المرجئة : إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة، بمنزلة ما يخوف العقلاء الصبيان والبُلْهَ بما لا حقيقة له لتأديبهم، وبمنزلة مخادعة المحارب لعدوه إذا أوهمه أمرًا يخافه لينزجر عنه، أو ليتمكن هو من عدوه، وغير ذلك.
وهؤلاء هم الكفار برسل اللّه وكتبه واليوم الآخر، المنكرون لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وما ضربه اللّه في القرآن من الأمثال وقصه من أخبار الأمم المكذبة للرسل، فهو متناول لهؤلاء، ويكفي ما عاقب اللّه به أهل الكفر والفسوق والعصيان في الدنيا من أنواع المثُلات؛ فإنه أمر محسوس مشاهد لا يمكن دفعه، وما من أحد إلا قد سمع من ذلك أنواعا، أو رأى بعضه. وأهل الأرض متفقون على أن الصادق البار العادل ليس حاله كحال
ج/ 19 ص -151-الكاذب الفاجر الظالم، بل يرون من ثواب الحسنات وعقوبة السيئات ما فيه عِبْرة ومُزْدَجَر، كما كانوا عليه في الجاهلية قبل الرسل، فلما جاءت الرسالة بوعيد الآخرة بين ذلك ما كان الناس عنه غافلين.
الطرف الثاني: طرف الغالية المتشددين، الذين لا يرون للاعتقاد أثرًا في الأفعال، بل يقول غاليتهم كقوم من متكلمة المعتزلة : إن للّه حكمًا في كل فعل، مَنْ أخطأه كان آثمًا معاقبًا، فيرون المسلم العالم المجتهد متى خفي عليه دليل شرعي وقد اجتهد واستفرغ وسعه في طلب حكم اللّه أنه آثم معاقب على خطئه، فهذا قولهم في الاجتهاد والاعتقاد، ثم إذا ترك واجبًا، أو فعل محرمًا قالوا بنفوذ الوعيد فيه، فيوجبون تخليد فساق أهل الملة في النار، وهذا قول جمهور المعتزلة والخوارج، ولكن الخوارج يكفِّرون بالذنب الكبير أو الصغير عند بعضهم. وأما المعتزلة فيقولون: هو في منزلة بين منزلتين، لا مؤمن ولا كافر.
وأما الأمة الوسط، فعلى أن الاعتقاد قد يؤثر في الأحكام، وقد لا يؤثر بحسب الأدلة والأسباب، كما أن ذلك هو الواقع في الأمور الطبيعية، فالأغذية والأدوية قد يختلف حكمها بحسب اعتقاد الطبيب والمتداوى وقد لا يختلف، وقد يعتقد الإنسان في الشيء صفة نافعة أو ضارة فينتفع به أو يتضرر، وإن لم يكن كذلك، وقد يعتقد ذلك
ج/ 19 ص -152-فلا يؤثر، فلو اعتقد في الخبز واللحم أنه غير مشبع لم يؤثر ذلك، بل هو مشبع ولو اعتقد ضد ذلك.
فصل
مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم. وأما أفعالهم فقد اختلف أصحابنا في فعل الإمام أحمد، هل يؤخذ منه مذهبه؟ على وجهين:
أحدهما: لا؛ لجواز الذنب عليه، أو أن يعمل بخلاف معتقده، أو يكون عمله سهوًا أو عادة أو تقليدًا، أو لسبب ما غير الاعتقاد الذي يفتى به، فإن عمل المرء بعلمه في كل حادثة، وألا يعمل إلا بعلم يفتى به في كل حادثة يفتقر إلى أن يكون له في ذلك رأى، وأن يذكره، وأن يكون مريدًا له من غير صارف؛ إذ الفعل مع القدرة يقف على الداعى، والداعى هو الشعور وميل القلب.
والثاني: بل يؤخذ منه مذهبه؛ لما عرف من تقوى أبي عبد الله وورعه وزهده، فإنه كان من أبعد الناس عن تعمد الذنب، وإن لم نَدَّعِ فيه العصمة، لكن الظاهر والغالب أن عمله موافق لعلمه، فيكون الظاهر فيما عمله أنه مذهبه. وهكذا القول فيمن يغلب عليه التقوى
ج/ 19 ص -153-والورع، وبعضهم أشد من بعض، فكل ما كان الرجل أتقى لله وأخشى له كان ذلك أقوى فيه. وأبو عبد الله من أتقى الأمة وأعظمهم زهدًا وورعًا، بل هو في ذلك سابق ومقدم، كما تشهد به سيرته، وسيرة غيره المعروفة عند الخاص والعام.
وكذلك أصحاب الشافعي لما رأوا نصه أنه لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، ثم إنه اشتراه في مرضه، فاختلف أصحابه، هل يخرج له في ذلك مذهب؟ على وجهين، وقد ذكروا مثل هذا في إقامة جمعتين في مكان واحد لما دخل بغداد، فإذا قلنا: هو مذهب الإمام أحمد، فهل يقال فيما فعله: إنه كان أفضل عنده من غيره؟ هذا أضعف من الأول، فإن فعله يدل على جوازه فيما ليس من تعبداته، وإذا كان متعبدًا به دل على أنه مستحب عنده أو واجب. أما كونه أفضل من غيره عنده فيفتقر إلى دليل منفصل، وكثيرًا ما يعدل الرجل عن الأفضل إلى الفاضل؛ لما في الأفضل من الموانع، وما يفتقر إليه من الشروط، أو لعدم الباعث، وإذا كان فعله جائزًا، أو مستحبًا، أو أفضل فإنه لا عموم له في جميع الصور، بل لا يتعدى حكمه إلا إلى ما هو مثله، فإن هذا شأن جميع الأفعال لا عموم لها، حتى فعل النبي ﷺ لا عموم له.
ثم يقال: فعل الأئمة وتركهم ينقسم كما تنقسم أفعال النبي
ج/ 19 ص -154-ﷺ؛ تارة يفعله على وجه العبادة والتدين، فيدل على استحبابه عنده، وأما رجحانه ففيه نظر. وأما على غير وجه التعبد ففي دلالته الوجهان، فعلى هذا ما يذكر عن الأئمة من أنواع التعبدات والتزهدات والتورعات يقف على مقدمات:
إحداها: هل يعتقد حسنها بحيث يقوله ويفتى به، أو فعله بلا اعتقاد لذلك، بل تأسيًا بغيره أو ناسيًا؟ على الوجهين، كالوجهين في المباح.
والثانية: هل فيه إرادة لها توافق اعتقاده؟ فكثيرًا ما يكون طبع الرجل يخالف اعتقاده.
والثالثة: هل يرى ذلك أفضل من غيره، أو يفعل المفضول لأغراض أخرى مباحة؟ والأول أرجح.
والرابعة: أن ذلك الرجحان هل هو مطلق، أو في بعض الأحوال؟ والله أعلم.