ج/ 19 ص -93-وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه ونور ضريحه:
الحمد لله رب العالمين.
قاعدة نافعة
في وجوب الاعتصام بالرسالة، وبيان أن السعادة والهدى في متابعة الرسول ﷺ، وأن الضلال والشقاء في مخالفته، وأن كل خير في الوجود؛ إما عام، وإما خاص فمنشأه من جهة الرسول، وأن كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول، أو الجهل بما جاء به، وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة.
والرسالة ضرورية للعباد، لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله
ج/ 19 ص -94-تعالى: "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا" [الأنعام:122]،فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات. وسمي الله تعالى رسالته روحًا، والروح إذا عُدِم فقد فقدت الحياة، قال الله تعالى : "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلىكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا" [الشوري:52]، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح، والنور. فالروح الحياة، والنور النور.
وكذلك يضرب الله الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورًا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض، وبالنار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ" [الرعد: 17].
فشبه العلم بالماء المنزل من السماء؛ لأن به حياة القلوب، كما أن
ج/ 19 ص -95-بالماء حياة الأبدان، وشبه القلوب بالأودية؛ لأنها محل العلم، كما أن الأودية محل الماء، فقلب يسع علمًا كثيرًا، ووادٍ يسع ماء كثيرًا، وقلب يسع علمًا قليلاً وواد يسع ماء قليلاً، وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنه يذهب جُفَاءً، أي: يرمي به ويخفي، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، فإذا تَرَابَي فيها الحق ثارت فيها تلك الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاء ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس، وقال: "وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ" [الرعد: 17]، فهذا المثل الآخر وهو الناري، فالأول للحياة، والثاني للضياء. ونظير هذين المثالين: المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً" إلى قوله: "أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء" إلى آخر الآية [البقرة: 17 19]. وأما الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حي، وإن كانت حياته حياة بَهِيمِيَّة، فهو عادم الحياة الروحانية العُلْوِية التي سببها سبب الإيمان، وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة؛ فإن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه.
ج/ 19 ص -96-فالأصل الأول: يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم.
والأصل الثاني: يتضمن تفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
والأصل الثالث: يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب.
وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومَنْ يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه.
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب؛ فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتًا لا تُرْجي الحياة معه أبدًا، أو شَقِي
ج/ 19 ص -97-شقاوة لا سعادة معها أبدًا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فإن الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، كما قال تعالى: "فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 157] أي: لا مفلح إلا هم، كما قال تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران: 104]، فخص هؤلاء بالفلاح، كما خص المتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم، ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة وبالهدى والفلاح، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودًا وعدمًا.
وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبعث به جميع الرسل؛ ولهذا قص الله علىنا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقي آثارهم وديارهم عِبْرَةً لمن بعدهم وموعظة، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به، وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة، وأخذه بأنواع العقوبات، وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاؤوا به، واتخاذهم أولياء من دونه. وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله، وأعرض عما جاؤوا به
ج/ 19 ص -98-واتبع غير سبيلهم؛ ولهذا أبقي الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ؛ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى: "إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" [العنكبوت: 34، 35]، وقال تعالى: "ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" [الصافات: 136-138] أي: تمرون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال: "أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، وقال تعالى في مدائن قوم لوط: "وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ" [الحجر: 74 76] يعني: مدائنهم بطريق مقيم يراها المارُّ بها، وقال تعالى: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ" [الروم: 9].
وهذا كثير في الكتاب العزيز؛ يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أَتْبَاع المرسلين؛ ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب. ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله: "فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" [الشعراء: 158، 159]، فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة، وهو: "الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله وأتباعهم برحمته.
ج/ 19 ص -99-فصل
والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره. والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده، وحِصْنه الذي من دخله كان آمنًا.
وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس؛ فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان والتوحيد، والعدل والبر، والتصدق والإحسان، والأمانة والعفة، والشجاعة والحلم، والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل ﷺ والتوكل عليه، والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه،
ج/ 19 ص -100-وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف مِنَّةٍ عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبَين لهم الصراط المستقيم. ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالاً منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأَسْوَأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم.
وفي الصحيح من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غَيْثٍ أصاب أرضا، فكانت منها طائفة قَبِلَت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجَادِب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخري إنما هي قِيعَان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" متفق على صحته.
ج/ 19 ص -101-فالحمد ﷺ الذي أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا، يتلو علىنا آيات الله ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين. وقال أهل الجنة: "الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ" [الأعراف: 43]. والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم، فإذا دَرَسَتْ آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خَرَّبَ الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة.
وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر، والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهىه، وهم السفراء بينه وبين عباده.
وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبد الله ﷺ يقول: "يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مُهْدَاة"، وقال الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" [الأنبياء: 107]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل،
ج/ 19 ص -102-فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله ﷺ، فبعثه رحمة للعالمين ومَحَجَّة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، وافترض على العباد طاعته ومحبته، وتعزيره وتوقيره، والقيام بأداء حقوقه، وسد إليه جميع الطرق، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين، وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين.
أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وعَلَّم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينًا عُمْيًا، وآذانًا صُما، وقلوبًا غُلْفًا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء، وأوضح بها المحجة البيضاء، وشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ورفع ذِكْره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله على حين فَتْرة من الرسل، ودروس من الكتب حين حُرِّف الكلم، وبُدِّلت الشرائع، واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق، وأوضح به الطريق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وجعله قسيم الجنة والنار، وفرق ما بين الأبرار والفجار، وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته،
ج/ 19 ص -103-والضلال والشقاء في معصيته ومخالفته.
وامتحن به الخلائق في قبورهم، فهم في القبور عنه مسؤولون، وبه ممتحنون، يؤتي العبد في قبره فيقال: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه، فيقال له: صدقت، على هذا حَيِيت وعليه مِتَّ، وعليه تبعث إن شاء الله، نَمْ نومة العروس، لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، ثم يفسح له في قبره وينور له فيه، ويفتح له باب إلى الجنة، فيزداد غبطة وسرورًا.
وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيقال له: قد كنا نعلم ذلك، وعلى ذلك حييت وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يضرب بِمِرْزَبَّةٍ من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان.
وقد أمر الله بطاعة رسوله ﷺ في أكثر من ثلاثين موضعًا من القرآن، وقَرَن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا ذكر معه، قال ابن عباس
ج/ 19 ص -104-رضي الله عنه في قوله تعالى: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" [الشرح: 4]، قال: لا أُذْكَر إلا ذُكِرْتَ معي. وهذا كالتشهد والخطب والأذان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فلا يصح الإسلام إلا بذكره والشهادة له بالرسالة.
وكذلك لا يصح الأذان إلا بذكره والشهادة له، ولا تصح الصلاة إلا بذكره والشهادة له، ولا تصح الخطبة إلا بذكره والشهادة له.
وحَذَّر الله سبحانه وتعالى من العذاب والكفر لمن خالفه، قال تعالى: "لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : أي فتنة هي؟ إنما هي الكفر.
وكذلك ألبس الله سبحانه الذلة والصَّغَار لمن خالف أمره، كما في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر، عن النبي ﷺ أنه قال: "بعثت بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تَشَبَّه بقوم فهو منهم".
ج/ 19 ص -105-وكما أن من خالفه وشاقه وعاداه هو الشقي الهالك، فكذلك من أعرض عنه وعما جاء به واطمأن إلى غيره ورَضِي به بدلاً منه هو هالك أيضًا. فالشقاء والضلال في الإعراض عنه، وفي تكذيبه، والهدى والفلاح في الإقبال على ما جاء به، وتقديمه على كل ما سواه، فالأقسام ثلاثة: المؤمن به، وهو المتبع له، المحب له، المقدم له على غيره. والمعادي له والمنابذ له. والمعرض عما جاء به. فالأول هو السعيد، والآخران هما الهالكان.
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من المتبعين له، المؤمنين به، وأن يحيينا على سنته ويتوفانا عليها، لا يفرق بيننا وبينها، إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم والوكيل، والحمد ﷺ رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين.