ج/ 19 ص -66-قال شيخ الإِسلام رَحِمهُ اللَّه:
فَصل
في الاكتفاء بالرسالة، والاستغناء بالنبي ﷺ عن اتباع ما سواه اتباعًا عامًا، وأقام اللّه الحجة على خلقه برسله فقال تعالى: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ" إلى قوله: "لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء: 163 165].
فدلت هذه الآية على أنه لا حجة لهم بعد الرسل بحال، وأنه قد يكون لهم حجة قبل الرسل.
فالأول يبطل قول من أَحْوَج الخلق إلى غير الرسل حاجة عامة كالأئمة.
والثأني يبطل قول من أقام الحجة عليهم قبل الرسل من المتفلسفة والمتكلمة.
ج/ 19 ص -67-وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ" [النساء: 59]، فأمر بطاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء إذا لم يتنازعوا، وهو يقتضى أن اتفاقهم حجة، وأمرهم بالرد عند التنازع إلى اللّه والرسول، فأبطل الرد إلى إمام مقلد أو قياس عقلي فاضل.
وقال تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ" [البقرة: 213]، فبين أنه بالكتاب يحكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه.
وقال تعالى: "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [الشورى: 10]، وقال تعالى: "كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ"
[الأعراف: 2، 3]، ففرض اتباع ما أنزله من الكتاب والحكمة، وحظر اتباع أحد من دونه. وقال تعالى: "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ" [العنكبوت: 51]، فزجر من لم يكتف بالكتاب المنزل. وقال تعالى: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي" الآيات [الأنعام: 130]، وقال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" [الإسراء: 51]، وقال تعالى: "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا" الآيات [الزمر: 71]، وقال تعالى: "كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا" الآيتين [الملك: 8]. فدلت هذه
ج/ 19 ص -68-الآيات على أن من أتاه الرسول فخالفه فقد وجب عليه العذاب، وإن لم يأته إمام ولا قياس. وأنه لا يعذب أحد حتى يأتيه الرسول وإن أتاه إمام أو قياس.
وقال تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" [النساء: 69]، "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ" الآية [النساء: 13، 14]. وقد ذكر سبحانه هذا المعنى في غير موضع، فبين أن طاعة الله ورسوله موجبة للسعادة، وأن معصية الله موجبة للشقاوة، وهذا يبين أن مع طاعة الله ورسوله لا يحتاج إلى طاعة إمام أو قياس، ومع معصية الله ورسوله لا ينفع طاعة إمام أو قياس.
ودليل هذا الأصل كثير في الكتاب والسنة،وهو أصل الإسلام [شهادة أن لا إله إلا اللّه، وشهادة أن محمدًا رسول اللّه] وهو متفق عليه بين الذين أوتوا العلم والإيمان قولًا واعتقادًا؛ وإن خالفه بعضهم عملًا وحالًا. فليس عالم من المسلمين يشك في أن الواجب على الخلق طاعة اللّه ورسوله، وأن ماسواه إنما تجب طاعته حيث أوجبها اللّه ورسوله.
ج/ 19 ص -69-وفي الحقيقة، فالواجب في الأصل إنما هو طاعة اللّه، لكن لا سبيل إلى العلم بمأموره وبخبره كله إلا من جهة الرسل، والمبلغ عنه إما مبلغ أمره وكلماته فتجب طاعته وتصديقه في جميع ما أمر وأخبر، وأما ما سوى ذلك فإنما يطاع في حال دون حال، كالأمراء الذين تجب طاعتهم في محل ولايتهم ما لم يأمروا بمعصية اللّه، والعلماء الذين تجب طاعتهم على المستفتى والمأمور فيما أوجبوه عليه مبلغين عن اللّه، أو مجتهدين اجتهادًا تجب طاعتهم فيه على المقلد، ويدخل في ذلك مشائخ الدين ورؤساء الدنيا حيث أمر بطاعتهم، كاتباع أئمة الصلاة فيها، واتباع أئمة الحج فيه، واتباع أمراء الغزو فيه، واتباع الحكام في أحكامهم، واتباع المشايخ المهتدين في هديهم، ونحو ذلك.
والمقصود بهذا الأصل أن من نَصَّبَ إمامًا، فأوجب طاعته مطلقًا اعتقادًا أو حالًا فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية؛ حيث جعلوا في كل وقت إمامًا معصومًا تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء، والذين عينوهم من أهل البيت منهم من كان خليفة راشدًا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو على. ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين؛ كعلى بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، ومنهم دون ذلك.
ج/ 19 ص -70-وكذلك من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا استثناء، وأفرده عن نظرائه؛ كالشيخ عدى، والشيخ أحمد، والشيخ عبد القادر، والشيخ حَيْوَة، ونحوهم.
وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم في كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقًا، كالأئمة الأربعة.
وكذلك من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة والولاة في كل ما يأمرون وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء، لكن هؤلاء لا يدعون العصمة لمتبوعيهم إلا غإلىة أتباع المشايخ؛ كالشيخ عَدِىّ وسعد المَدِينى بن حَمَوَيْه، ونحوهما؛ فإنهم يدعون فيهم نحوًا مما تدعيه الغإلىة في أئمة بنى هاشم من العصمة، ثم من الترجيح على النبوة، ثم من دعوى الإلهية.
وأما كثير من أتباع أئمة العلم ومشايخ الدين فحالهم وهواهم يضاهي حال من يوجب اتباع متبوعه، لكنه لا يقول ذلك بلسانه ولا يعتقده علمًا، فحاله يخالف اعتقاده، بمنزلة العصاة أهل الشهوات، وهؤلاء أصلح ممن يرى وجوب ذلك ويعتقده. وكذلك أتباع الملوك والرؤساء هم كما أخبر اللّه عنهم بقوله: "وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا" [الأحزاب: 67] فهم مطيعون حالًا وعملًا وانقيادًا، وأكثرهم من غير عقيدة دينية، وفيهم
ج/ 19 ص -71-من يقرن بذلك عقيدة دينية. ولكن طاعة الرسول إنما تمكن مع العلم بما جاء به والقدرة على العمل به، فإذا ضعف العلم والقدرة صار الوقت وقت فترة في ذلك الأمر، فكان وقت دعوة ونبوة في غيره، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع جدًا. واللّه أعلم.
وكذا من نصَّب القياس أو العقل أو الذوق مطلقا من أهل الفلسفة والكلام والتصوف، أو قدمه بين يدى الرسول من أهل الكلام والرأى والفلسفة والتصوف؛ فإنه بمنزلة من نَصَّبَ شخصًا، فالاتباع المطلق دائر مع الرسول وجودًا وعدمًا.
فَصل
أول البدع ظهورًا في الإسلام، وأظهرها ذَما في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة؛ فإن أولهم قال للنبي ﷺ في وجهه: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، وأمر النبي ﷺ بقتلهم وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبي ﷺ مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب.
والأحاديث عن النبي ﷺ مستفيضة بوصفهم وذمهم
ج/ 19 ص -72-والأمر بقتالهم. قال أحمد بن حنبل: صَحَّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، قال النبي ﷺ: "يَحْقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة". ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم:
أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي ﷺ حيث قال له ذو الخُوَيْصِرَة التميمي: اعدل فإنك لم تعدل، حتى قال له النبي ﷺ: "ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل". فقوله: فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي ﷺ سفهًا وترك عدل، وقوله: [اعدل] أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة.
ج/ 19 ص -73-والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن.
وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا؛ فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكى عن عمرو بن عبيد في حديث
الصادق المصدوق، وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة؛ إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول، فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن.
الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم.فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله ﷺ وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرًا.
ج/ 19 ص -74-فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين، وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم.
وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة، ومن كَفّر المسلمين بما رآه ذنبًا سواء كان دينًا أو لم يكن دينًا وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة. وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين. أما الأول فشبه التأويل الفاسد أو القياس الفاسد؛ إما حديث بلغه عن الرسول لا يكون صحيحًا، أو أثر عن غير الرسول قلده فيه ولم يكن ذلك القائل مصيبًا، أو تأويل تأوله من آية من كتاب الله أو حديث عن رسول الله ﷺ صحيح أو ضعيف، أو أثر مقبول أو مردود ولم يكن التأويل صحيحًا، وإما قياس فاسد، أو رَأْي رآه اعتقده صوابًا وهو خطأ.
فالقياس والرأي والذوق هو عامة خطأ المتكلمة والمتصوفة وطائفة من المتفقهة.
وتأويل النصوص الصحيحة أو الضعيفة عامة خطأ طوائف المتكلمة والمحدثة والمقلدة والمتصوفة والمتفقهة.
ج/ 19 ص -75-وأما التكفير بذنب، أو اعتقاد سني فهو مذهب الخوارج.
والتكفير باعتقاد سني مذهب الرافضة والمعتزلة وكثير من غيرهم.
وأما التكفير باعتقاد بدعي فقد بينته في غير هذا الموضع، ودون التكفير قد يقع من البغض والذم والعقوبة وهو العدوان أو من ترك المحبة والدعاء والإحسان وهو التفريط ببعض هذه التأويلات ما لا يسوغ، وجماع ذلك ظلم في حق الله تعالى أو حق المخلوق، كما بينته في غير هذا الموضع؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل لبعض أصحابه: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس.