ج/ 19 ص -9-فَصل: في عموم رسالة الرسول للثقلين
يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدًا ﷺ إلي جميع الثقلين: الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلَّل الله ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله، ويحبوا ما أحبه الله ورسوله، ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله، وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد ﷺ من الإنس والجن فلم يؤمن به؛ استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول.
وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين: أهل السنة والجماعة، وغيرهم رضي
ج/ 19 ص -10-الله عنهم أجمعين لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمدًا ﷺ إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصاري، فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك. وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين؛ كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك.
وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضًا قائمة بالإنسان أو غيره، كما يزعمه بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترًا عن الأنبياء تواترًا ظاهرًا تعرفه العامة والخاصة؛ لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم، كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة، ولا إنكار معاد الأبدان ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له، ولا إنكار أن يرسل الله رسولاً من الإنس إلي خلقه، ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترًا تعرفه العامة والخاصة، كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسي إلي فرعون وغرق فرعون، ومجيء المسيح إلي اليهود وعداوتهم له، وظهور محمد
ج/ 19 ص -11-ﷺ بمكة وهجرته إلي المدينة، ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة، وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه، كتكثير الطعام والشراب، والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله، وغير ذلك.
ولهذا أمر الله رسوله ﷺ بسؤال أهل الكتاب عما تواتر عندهم كقوله:"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [النحل: 43]؛ فإن من الكفار من أنكر أن يكون الله رسول بشر، فأخبر الله أن الذين أرسلهم قبل محمد كانوا بشرًا، وأمر بسؤال أهل الكتاب عن ذلك لمن لا يعلم.
وكذلك سؤالهم عن التوحيد وغيره مما جاءت به الأنبياء، وكفر به الكافرون، قال تعالى: "قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" [الرعد: 43]، وقال تعالى : "فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ" [يونس:94]، وقال تعالى: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ" [الأحقاف: 10].
وكذلك شهادة أهل الكتاب بتصديق ما أخبر به من أنباء الغيب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي، وقد علموا أن محمدًا لم يتعلم
ج/ 19 ص -12-من أهل الكتاب شيئًا.
وهذا غير شهادة أهل الكتاب له نفسه بما يجدونه من نعته في كتبهم، كقوله تعالى: "أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ" [الشعراء: 197]، وقوله تعالى: "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ" [الأنعام: 114]، وأمثال ذلك.
وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم، كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض، فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من أهل الجهل والضلال؛ ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة، كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما، دخول الجن في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا، وإن كانوا مخطئين في ذلك؛ ولهذا ذكر الأشعري في [مقالات أهل السنة والجماعة] أنهم يقولون: إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ" [البقرة: 275]، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قومًا يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي. فقال: يابني، يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه. وهذا مبسوط في موضعه.
ج/ 19 ص -13-والمقصود هنا أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن،وكذلك جمهور الكفار، كعامة أهل الكتاب، وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد سام، والهند وغيرهم من أولاد حام، وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث، فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن، بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم، سواء أكان ذلك سائغًا عند أهل الإيمان أو كان شركًا، فإن المشركين يقرؤون من العزائم والطلاسم والرقي ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم، وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقي التي لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن. ولهذا نهي علماء المسلمين عن الرقي التي لا يفقه معناها؛ لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك. وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشْجَعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يارسول الله، كيف تري في ذلك؟ فقال: "اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك". وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر قال: نهي رسول الله ﷺ عن الرقي، فجاء آل عمرو بن حزم إلي رسول الله ﷺ فقالوا: يارسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقي، قال: فعرضوها عليه، فقال: "ما أرى بأسًا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه".
ج/ 19 ص -14-وقد كان للعرب ولسائر الأمم من ذلك أمور يطول وصفها، وأخبار العرب في ذلك متواترة عند من يعرف أخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم، ولكن المسلمين أخْبَرُ بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم؛ إذ كان خير القرون كانوا عربًا، وكانوا قد عاينوا وسمعوا ما كانوا عليه في الجاهلية، وكان ذلك من أسباب نزول القرآن، فذكروا في كتب التفسير والحديث والسير والمغازي والفقه، فتواترت أيام جاهلية العرب في المسلمين، وإلا فسائر الأمم المشركين هم من جنس العرب المشركين في هذا، وبعضهم كان أشد كفرًا وضلالاً من مشركي العرب، وبعضهم أخف.
والآيات التي أنزلها الله على محمد ﷺ فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن؛ إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجودًا في العرب، فليس شيء من الآيات مختصًا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين، وإنما تنازعوا: هل يختص بنوع السبب المسؤول عنه؟ وأما بعين السبب فلم يقل أحد من المسلمين: إن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية.
وهذا الذي يسميه بعض الناس: تَنقِيح المناط، وهو أن يكون
ج/ 19 ص -15-الرسول ﷺ حكم في معين، وقد علم أن الحكم لا يختص به، فيريد أن ينقح مناط الحكم، ليعلم النوع الذي حكم فيه، كما أنه لما أمر الأعرابي الذي واقع امرأته في رمضان بالكفارة، وقد علم أن الحكم لا يختص به، وعلم أن كونه أعرابيًا أو عربيًا أو الموطوءة زوجته لا أثر له، فلو وطئ المسلم العجمي سَرِيَّته كان الحكم كذلك.
ولكن هل المؤثر في الكفارة كونه مجامعًا في رمضان أو كونه مفطرًا؟ فالأول: مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، والثاني: مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو رواية منصوصة عن أحمد في الحجامة فغيرها أولي، ثم مالك يجعل المؤثر جنس المفطر، وأبو حنيفة يجعلها المفطر كتنوع جنسه، فلا يوجبه في ابتلاع الحصاة والنواة.
وتنازعوا: هل يشترط أن يكون أفسد صومًا صحيحًا؟ وأحمد لا يشترط ذلك، بل كل إمساك وجب في شهر رمضان أوجب فيه الكفارة، كما يوجب الأربعة مثل ذلك في الإحرام الفاسد، فالصيام الفاسد عنده كالإحرام الفاسد، كلاهما يجب إتمامه والمضي فيه، والشافعي وغيره لا يوجبونها إلا في صوم صحيح، والنزاع فيمن أكل ثم جامع أو لم ينو الصوم ثم جامع، ومن جامع وكفَّر ثم جامع.
ومثل قوله لمن أحرم بالعمرة في جُبَّةٍ مُتضَمخًا بالخلوق: "انزع
ج/ 19 ص -16-عنك الجبَّة واغسل عنك أثر الصُّفرة"، هل أمره بالغسل لكون المحرم لا يستديم الطيب كما يقوله مالك؟ أو لكونه نهي أن يتزعفر الرجل فلا يمنع من استدامة الطيب كقول الثلاثة؟ وعلى الأول فهل هذا الحديث منسوخ بتطييب عائشة له في حجة الوداع؟.
ومثل قوله لما سئل عن فأرة وقعت في سَمْنٍ: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم"، هل المؤثر عدم التغير بالنجاسة، أو بكونه جامدًا، أو كونها فأرة وقعت في سمن، فلا يتعدي إلي سائر المائعات؟ ومثل هذا كثير، وهذا لابد منه في الشرائع، ولا يسمي قياسًا عند كثير من العلماء كأبي حنيفة ونفاة القياس؛ لاتفاق الناس على العمل به كما اتفقوا على تحقيق المناط، وهو: أن يعلق الشارع الحكم بمعني كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان، كأمره باستقبال الكعبة، وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضي من الشهداء، وكتحريمه الخمر والميسر، وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة، وكتفريقه بين الفدية والطلاق، وغير ذلك.
فيبقي النظر في بعض الأنواع: هل هي خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق؟ وفي بعض الأعيان: هل هي من هذا النوع؟ وهل هذا المصلي مستقبل القبلة؟ وهذا الشخص عدل مرضي؟ ونحو ذلك؛ فإن هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين، بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم وطاعة ولاة أمورهم ومصالح دنياهم وآخرتهم.
ج/ 19 ص -17-وحقيقة ذلك يرجع إلي تمثيل الشيء بنظيره وإدراج الجزئي تحت الكلي، وذاك يسمي قياس التمثيل، وهذا يسمي قياس الشمول، وهما متلازمان، فإن القدر المشترك بين الأفراد في قياس الشمول الذي يسميه المنطقيون: الحد الأوسط هو القدر المشترك في قياس التمثيل الذي يسميه الأصوليون: الجامع، والمناط، والعلة، والأمارة، والداعي، والباعث، والمقتضي، والموجب، والمشترك، وغير ذلك من العبارات.
وأما تخريج المناط وهو: القياس المحض، وهو: أن ينص على حكم في أمور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها؛ إما لانتفاء الفارق، أو للاشتراك في الوصف الذي قام الدليل على أن الشارع علق الحكم في الأصل، فهذا هو القياس الذي تقر به جماهير العلماء وينكره نفاة القياس. وإنما يكثر الغلط فيه لعدم العلم بالجامع المشترك الذي علق الشارع الحكم به، وهو الذي يسمي سؤال المطالبة، وهو: مطالبة المعترض للمستدل بأن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم، أو دليل العلة. فأكثر غلط القَائِسِين من ظنهم علة في الأصل ما ليس بعلة؛ ولهذا كثرت شناعاتهم على أهل القياس الفاسد. فأما إذا قام دليل على إلغاء الفارق، وأنه ليس بين الأصل والفرع فرق يفرق الشارع لأجله بين الصورتين، أو قام
ج/ 19 ص -18-الدليل على أن المعني الفلاني هو الذي لأجله حكم الشارع بهذا الحكم في الأصل وهو موجود في صورة أخري، فهذا القياس لا ينازع فيه إلا من لم يعرف هاتين المقدمتين. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن دعوة محمد ﷺ شاملة للثقلين: الإنس والجن على اختلاف أجناسهم، فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلاً، بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر، ومؤمن ومنافق، وبر وفاجر، ومحسن وظالم، وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث، وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة، ولكن بعض العلماء ظن ذلك في بعض الأحكام وخالفه الجمهور، كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بألا يسترقوا، وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون، كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة، حيث استرق بني المصطلق وفيهم جويرية بنت الحارث، ثم أعتقها وتزوجها، وأعتق بسببها من استرق من قومها.
وقال في حديث هوازن: "اختاروا إحدي الطائفتين: إما السَّبْي، وإما المال"، وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله ﷺ؛ أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده
ج/ 19 ص -19-لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات؛ كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل".
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة، أنه كانت سَبْيةٌ من سبي هوازن عند عائشة فقال: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل"، وعامة من استرقه الرسول ﷺ من النساء والصبيان كانوا عربًا، وذكر هذا يطول.
ولكن عمر بن الخطاب لما رأي كثرة السبي من العجم، واستغناء الناس عن استرقاق العرب، رأي أن يعتقوا العرب، من باب مشورة الإمام وأمره بالمصلحة، لا من باب الحكم الشرعي الذي يلزم الخلق كلهم، فأخذ من أخذ بما ظنه من قول عمر، وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركي العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين.
وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم، ثم منهم من يجوز أخذها من كل مشرك، ومنهم من لا يأخذها إلا من أهل الكتاب والمجوس؛ وذلك أن النبي ﷺ لم يأخذ الجزية من مشركي العرب وأخذها من المجوس وأهل الكتاب.
فمن قال: تؤخذ من كل كافر.قال: إن آية الجزية لما نزلت
ج/ 19 ص -20-أسلم مشركو العرب، فإنها نزلت عام تبوك، ولم يبق عربي مشرك محاربًا، ولم يكن النبي ﷺ ليغزو النصاري عام تبوك بجميع المسلمين إلا من عذر الله ويدع الحجاز وفيه من يحاربه، ويبعث أبا بكر عام تسع فنادي في الموسم: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ونبذ العهود المطلقة، وأبقي المؤقتة، مادام أهلها موفين بالعهد، كما أمر الله بذلك في أول سورة التوبة، وَأنْظَر الذين نبذ إليهم أربعة أشهر، وأمر عند انسلاخها بغزو المشركين كافة، قالوا: فدان المشركون كلهم كافة بالإسلام، ولم يرض بذل أداء الجزية؛ لأنه لم يكن لمشركي العرب من الدين بعد ظهور دين الإسلام ما يصبرون لأجله على أداء الجزية عن يد وهم صاغرون؛ إذ كان عامة العرب قد أسلموا، فلم يبق لمشركي العرب عز يعتزون به، فدانوا بالإسلام حيث أظهره الله في العرب بالحجة والبيان والسيف والسِّنان.
وقول النبي ﷺ: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة"، مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم. وكان النبي ﷺ قبل نزول [براءة] يعاهد من عاهده من الكفار
ج/ 19 ص -21-من غير أن يعطي الجزية عن يد، فلما أنزل الله براءة وأمره بنبذ العهود المطلقة؛ لم يكن له أن يعاهدهم كما كان يعاهدهم، بل كان عليه أن يجاهد الجميع كما قال:"فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [التوبة: 5]، وكان دين أهل الكتاب خيرًا من دين المشركين، ومع هذا فأمروا بقتالهم حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا كان أهل الكتاب لا تجوز معاهدتهم كما كان ذلك قبل نزول براءة، فالمشركون أولي بذلك ألا تجوز معاهدتهم بدون ذلك.
قالوا: فكان في تخصيص أهل الكتاب بالذكر؛ تنبيهًا بطريق الأولي على ترك معاهدة المشركين بدون الصَّغَار والجزية، كما كان يعاهدهم في مثل هدنة الحديبية، وغير ذلك من المعاهدات.
قالوا: وقد ثبت في الصحيح من حديث بُريدَة قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمرَّ أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولاتمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلي ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم
ج/ 19 ص -22-وكف عنهم؛ ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلي التحول من دارهم إلي دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تَخْفُروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا".
قالوا: ففي الحديث أمره لمن أرسله أن يدعو الكفار إلي الإسلام ثم إلي الهجرة إلي الأمصار، وإلا فإلي أداء الجزية، وإن لم يهاجروا كانوا كأعراب المسلمين، والأعراب عامتهم كانوا مشركين، فدل على أنه دعا إلي أداء الجزية من حاصره من المشركين وأهل الكتاب. والحصون كانت باليمن كثيرة بعد نزول آية الجزية، وأهل اليمن كان
ج/ 19 ص -23-فيهم مشركون وأهل كتاب، وأمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا، ولم يميز بين المشركين وأهل الكتاب، فدل ذلك على أن المشركين من العرب آمنوا كما آمن من آمن من أهل الكتاب، ومن لم يؤمن من أهل الكتاب أدي الجزية.
وقد أخذ النبي ﷺ الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا، وأسلمت عبد القيس وغيرهم من أهل البحرين طوعًا، ولم يكن النبي ﷺ ضرب الجزية على أحد من اليهود بالمدينة ولا بخيبر، بل حاربهم قبل نزول آية الجزية، وأقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية إلي أن أجلاهم عمر؛ لأنهم كانوا مهادنين له، وكانوا فلاحين في الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم، ثم أمر بإجلائهم قبل موته، وأمر بإخراج اليهود والنصاري من جزيرة العرب، فقيل: هذا الحكم مخصوص بجزيرة العرب، وقيل: بل هو عام في جميع أهل الذمة إذا استغني المسلمون عنهم أجلوهم من ديار الإسلام، وهذا قول ابن جرير وغيره. ومن قال: إن الجزية لا تؤخذ من مشرك قال: إن آية الجزية نزلت والمشركون موجودون فلم يأخذها منهم.
والمقصود أنه لم يخص العرب بحكم، وإن قيل: إنه خص جزيرة العرب التي هي حول المسجد الحرام، كما خص المسجد الحرام بقوله:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا" [التوبة: 28].
ج/ 19 ص -24-وكذلك من قال من العلماء: إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه. فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه، ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول، وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء، وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم، بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله، كالدم والميتة، والمنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة، وأكيلة السبع؛ وما أهل به لغير الله، وكانوا بل خيارهم يكرهون أشياء لم يحرمها الله، حتي لحم الضب كان النبي ﷺ يكرهه، وقال: "لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، وقال مع هذا: [إنه ليس بمحرم] وأكل على مائدته وهو ينظر، وقال فيه: "لا آكله ولا أحرمه".
وقال جمهور العلماء: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعًا لآكله في دينه، والخبيث ماكان ضارًا له في دينه. وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته، فما أورث الآكل بغيا وظلمًا وحرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع؛ لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي، فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان.
ج/ 19 ص -25-وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب، فإذا اغتذي منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل؛ ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر.
ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء، لا يعاف شيئًا، والله لم يحرم على أمة محمد شيئًا من الطيبات، وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب، كما قال تعالى: "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ" [النساء:160]، وقال تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ" [الأنعام: 146].
وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث، كالدم المسفوح، فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه، بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر؛ ولهذا عفي جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح، وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولي أن يعفي عنه.
وكذلك ريق الكلب يعفي عنه عند جمهور العلماء في الصيد، كما هو
ج/ 19 ص -26-مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر القولين في مذهبه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وإن وجب غسل الإناء من ولوغه عند جمهورهم، إذ كان الريق في الولوغ كثيرًا ساريا في المائع لا يشق الاحتراز منه، بخلاف ما يصيب الصيد فإنه قليل ناشف في جامد يشق الاحتراز منه.
وكذلك التقديم في إمامة الصلاة بالنَّسَب لا يقول به أكثر العلماء، وليس فيه نص عن النبي ﷺ، بل الذي ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا"، فقدمه ﷺ بالفضيلة العلمية ثم بالفضيلة العملية، وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة، ثم الأسبق إلى الدين باختياره، ثم الأسبق إلى الدين بسنه، ولم يذكر النَّسب.
وبهذا أخذ أحمد وغيره، فرتب الأئمة كما رتبهم النبي ﷺ ولم يذكر النسب، وكذلك أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة لم يرجحوا بالنسب، ولكن رجح به الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد، كالخرقي وابن حامد والقاضي وغيرهم، واحتجوا بقول سلمان
ج/ 19 ص -27-الفارسي: إن لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم.
والأولون يقولون: إنما قال سلمان هذا تقديمًا منه للعرب على الفرس، كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه: حقك علي كذا، وليس قول سلمان حكمًا شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يجب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله، ولكن من تأسى من الفرس بسلمان فله به أسوة حسنة؛ فإن سلمان سابق الفرس.
وكذلك اعتبار النسب في أهل الكتاب، ليس هو قول أحد من الصحابة، ولا يقول به جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه، ولكن طائفة منهم ذكرت عنه روايتين، واختار بعضهم اعتبار النسب موافقة للشافعي، والشافعي أخذ ذلك عن عطاء، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن النبي ﷺ إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض، فأمر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان، ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان، لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية؛ إذ كانت دعوته لجميع البرية، لكن نزل القرآن بلسانهم، بل نزل بلسان قريش، كما ثبت
ج/ 19 ص -28-عن عمر بن الخطاب أنه قال لابن مسعود: أقرئ الناس بلغة قريش فإن القرآن نزل بلسانهم. وكما قال عثمان للذين يكتبون المصحف من قريش والأنصار: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة هذا الحي من قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم. وهذا لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولًا ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره الله بتبليغ قومه أولًا، ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه، كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب.
وما ذكره كثير من العلماء من أن غير العرب ليسوا أكفاء للعرب في النكاح، فهذه مسألة نزاع بين العلماء، فمنهم من لا يرى الكفاءة إلا في الدين، ومن رآها في النسب أيضًا فإنه يحتج بقول عمر: لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء؛ لأن النكاح مقصوده حسن الألفة، فإذا كانت المرأة أعلى منصبًا اشتغلت عن الرجل فلا يتم به المقصود. وهذه حجة من جعل ذلك حقًا لله، حتى أبطل النكاح إذا زوجت المرأة بمن لا يكافئها في الدين أو المنصب، ومن جعلها حقًا لآدمي قال: إن في ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها، والأمر إليهم في ذلك.
ثم هؤلاء لا يخصون الكفاءة بالنسب، بل يقولون: هي من الصفات التي تتفاضل بها النفوس، كالصناعة واليسار والحرية وغير ذلك، وهذه مسائل اجتهادية ترد إلى الله والرسول؛ فإن جاء عن الله ورسوله
ج/ 19 ص -29-ما يوافق أحد القولين فما جاء عن الله لا يختلف، وإلا فلا يكون قول أحد حجة على الله ورسوله.وليس عن النبي ﷺ نص صحيح صريح في هذه الأمور، بل قد قال ﷺ: "إن الله أذهب عنكم عُبْيَة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي"، وفي صحيح مسلم عنه ﷺ؛ أنه قال:"أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم"، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: "إن الله اصطفي كنانة من بني إسماعيل، واصطفي قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفسًا وخيركم نسبًا".
وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، وجنس بني هاشم خير من غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عنه ﷺ؛ أنه قال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة،خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا".
لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد، فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب،
ج/ 19 ص -30-وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم، كما قال رسول الله ﷺ: "إن خير القرون القرن الذين بُعْثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وفي القرون المتأخرة من هو خير من كثير من القرن الثاني والثالث، ومع هذا فلم يخص النبي ﷺ القرن الثاني والثالث بحكم شرعي، كذلك لم يخص العرب بحكم شرعي، بل ولا خص بعض أصحابه بحكم دون سائر أمته، ولكن الصحابة لما كان لهم من الفضل أخبر بفضلهم، وكذلك السابقون الأولون لم يخصهم بحكم، ولكن أخبر بما لهم من الفضل لما اختصوا به من العمل، وذلك لا يتعلق بالنسب.
والمقصود هنا أنه أُرسل إلى جميع الثقلين: الإنس والجن،فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية، ولكن خص قريشًا بأن الإمامة فيهم، وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم؛ وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان، وليست الإمامة أمرًا شاملًا لكل أحد منهم، وإنما يتولاها واحد من الناس. وأما تحريم الصدقة، فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلًا لتطهيرهم ودفعًا للتهمة عنه، كما لم يورث، فلا يأخذ ورثته درهمًا ولا دينارًا،
ج/ 19 ص -31-بل لا يكون له ولمن يُمونه من مال الله إلا نفقتهم، وسائر مال الله يصرف فيما يحبه الله ورسوله، وذوو قرباه يعطون بمعروف من مال الخمس، والفيء الذي يعطي منه في سائر مصالح المسلمين لا يختص بأصناف معينة كالصدقات، ثم ما جعل لذوي القربي قد قيل: إنه سقط بموته كما يقوله أبو حنيفة، وقيل: هو لقربي من يلي الأمر بعده، كما روي عنه: "ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر بعده"، وهذا قول أبي ثور وغيره. وقيل: إن هذا كان مأخذ عثمان في إعطاء بني أمية، وقيل: هو لذوي قربى الرسول ﷺ دائمًا.
ثم من هؤلاء من يقول: هو مقدر بالشرع وهو خمس الخمس، كما يقوله الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وقيل: بل الخمس والفيء يصرف في مصالح المسلمين باجتهاد الإمام، ولا يقسم على أجزاء مقدرة متساوية، وهذا قول مالك وغيره. وعن أحمد أنه جعل خمس الزكاة فيئًا، وعلى هذا القول يدل الكتاب وسيرة الخلفاء الراشدين، وبسط هذه الأمور له موضع آخر. والمقصود هنا أن بعض آيات القرآن، وإن كان سببه أمورًا كانت في العرب، فحكم الآيات عام يتناول ما تقتضيه الآيات لفظًا
ج/ 19 ص -32-ومعني في أي نوع كان، ومحمد ﷺ بعث إلى الإنس والجن.
وجماهير الأمم يقر بالجن ولهم معهم وقائع يطول وصفها، ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال المتفلسفة والأطباء ونحوهم، وأما أكابر القوم فالمأثور عنهم؛ إما الإقرار بها، وإما ألا يحكي عنهم في ذلك قول. ومن المعروف عن بُقْراط أنه قال في بعض المياه: إنه ينفع من الصرع، لست أعني الذي يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعني الصرع الذي يعالجه الأطباء. وأنه قال: طِبُّنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا.
وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي، وإنما معه عدم العلم؛ إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك، كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه، وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن، وإن كان قد علم من غير طبه أن للنفس تأثيرًا عظيمًا في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية، وكذلك للجن تأثير في ذلك، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: [إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم]، وفي الدم الذي هو البخار الذي تسميه الأطباء: الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن، كما
ج/ 19 ص -33-قد بسط هذا في موضع آخر.
والمراد هنا أن محمدًا ﷺ أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، وقد أخبر الله في القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به، كما قال تعالى: "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا" إلى قوله: "أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" [الأحقاف:29 - 32]، ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال تعالى: "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا" [الجن: 1] إلخ، فأمره أن يقول ذلك ليعلم الإنس بأحوال الجن، وأنه مبعوث إلى الإنس والجن؛ لما في ذلك من هدى الإنس والجن ما يجب عليهم من الإيمان بالله ورسله وإلىوم الآخر، وما يجب من طاعة رسله ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم، كما قال في السورة: "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا" [الجن: 6].
كان الرجل من الإنس ينزل بالوادي والأودية مَظَانُّ الجن، فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعإلى الأرض فكان الإنسي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فلما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بها زاد طغيانهم وغيرهم، وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم، فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه،
ج/ 19 ص -34-فيحصل لهم بذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سُؤْلِهِمْ، لاسيما وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدرًا، فإذا خضعت الإنس لهم واستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضي له حاجته.
ثم الشياطين منهم من يختار الكفر والشرك ومعاصي الرب، وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر، ويلتذون به ويطلبونه، ويحرصون عليه بمقتضي خبث أنفسهم، وإن كان موجبًا لعذابهم وعذاب من يغوونه، كما قال إبليس: "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" [ص: 82، 83]، وقال تعالى: "قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً" [الإسراء: 62]، وقال تعالى: "وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" [سبأ: 20].
والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقًا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله، والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك؛ صار ذلك كالرشوة والبِرْطِيل [البِرطِيل بالكسر: حجر، أو حديد طويل صُلب خِلْقة، ينقر به الرحى، والمعول، والرِّشوة] لهم. فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالًا
ج/ 19 ص -35-ليقتل له من يرىد قتله، أو يعينه على فاحشة، أو ينال معه فاحشة.
ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما غيرهما إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة. أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم؛ إما تَغْوِير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به، وإما غير ذلك.
وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته؛ فإنهم كثيرون جدًا.
والمقصود أن محمدًا ﷺ بعث إلى الثقلين، واستمع الجن لقراءته وولوا إلى قومهم منذرين كما أخبر الله عز وجل وهذا متفق عليه بين المسلمين. ثم أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون: إنهم جاؤوه بعد هذا، وأنه قرأ عليهم القرآن وبايعوه، وسألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال لهم: "لكم كل عظم
ج/ 19 ص -36-ذكر اسم الله عليه يعود أوفر مايكون لحمًا، ولكم كل بَعْرة علف لدوابكم" قال النبي ﷺ: "فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم من الجن"، وهذا ثابت في صحيح مسلم، وغيره من حديث ابن مسعود.
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، من حديث أبي هريرة نهيه ﷺ عن الاستنجاء بالعظم والروث في أحاديث متعددة.
وفي صحيح مسلم وغيره، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِرَاءة، قال: فقال: أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي بِرَجِيعٍ أو عظم. وفي صحيح مسلم وغيره أيضًا عن جابر قال: نهى رسول الله ﷺ أن نتمسح بعظم أو ببعر، وكذلك النهى عن ذلك في حديث خزيمة بن ثابت وغيره.
وقد بَيَّنَ علة ذلك في حديث ابن مسعود، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن مسعود؛ أن النبي ﷺ قال: "أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن"، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع
ج/ 19 ص -37-في أيديكم لحمًا، وكل بَعْرة علف لدوابكم"، فقال النبي ﷺ: "فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم". وفي صحيح البخاري وغيره، عن أبي هريرة؛ أنه كان يحمل مع النبي ﷺ إدَاوَة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها قال: "من هذا؟" قلت: أبا هريرة، قال: "ابغني أحجارًا أسْتَنْفضُ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة" فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: "هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نَصِيبين ونعم الجن فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا".
ولما نهى النبي ﷺ عن الاستنجاء بما يفسد طعام الجن وطعام دوابهم؛ كان هذا تنبيهًا على النهي عما يفسد طعام الإنس وطعام دوابهم بطريق الأولى، لكن كراهة هذا والنفور عنه ظاهر في فطر الناس، بخلاف العظم والروثة فإنه لا يعرف نجاسة طعام الجن؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة المتعددة بالنهي عنه. وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه خاطب الجن وخاطبوه، وقرأ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس؛ أنه كان يقول: إن النبي
ج/ 19 ص -38-ﷺ لم ير الجن ولا خاطبهم، ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن. وابن عباس قد علم ما دل عليه القرآن من ذلك، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجن إليه ومخاطبته إياهم، وأنه أخبره بذلك في القرآن وأمره أن يخبر به، وكان ذلك في أول الأمر لما حُرِسَتِ السماء، وحِيلَ بينهم وبين خبر السماء، وملئت حرسًا شديدًا، وكان في ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة، كما قد بسط في موضع آخر، وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن، وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وصار كلما قال: "فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" [الرحمن: 13] قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد.
وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل، كقوله تعالى: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا" [الأنعام: 130]، وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا: "وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا " [الجن: 11] أي: مذاهب شَتَّي؛ مسلمون وكفار، وأهل سنة وأهل بدعة، وقالوا: "وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا"
[الجن: 14، 15]، والقاسط: الجائر،يقال: قسط إذا جار وأقسط إذا عدل.
وكافرهم معذب في الآخرة باتفاق العلماء، وأما مؤمنهم فجمهور
ج/ 19 ص -39-العلماء على أنه في الجنة، وقد روي: "أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة، تراهم الإنس من حيث لا يرونهم] وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقيل: إن ثوابهم النجاة من النار، وهو مأثور عن أبي حنيفة. وقد احتج الجمهور بقوله: "لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ" [الرحمن: 56]، قالوا: فدل ذلك على تأتي الطَّمْثُ منهم؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة.
فَصْل
وإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعقاب وقد أرسل إليهم النبي ﷺ فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله في الإنس من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إلى الله كما شرع الله ورسوله، وكما دعاهم النبي ﷺ، ويعاملهم إذا اعتدوا بما يعامل به المعتدون، فيدفع صَوْلهم بما يدفع صَوْل الإنس.
وصَرْعُهُم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق، كما يتفق للإنس مع الإنس، وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد! وهذا كثير معروف، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه، وكره أكثر
ج/ 19 ص -40-العلماء على أنه في الجنة، وقد روي: "أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة، تراهم الإنس من حيث لا يرونهم] وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقيل: إن ثوابهم النجاة من النار، وهو مأثور عن أبي حنيفة. وقد احتج الجمهور بقوله: "لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ" [الرحمن: 56]، قالوا: فدل ذلك على تأتي الطَّمْثُ منهم؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة.
فَصْل
وإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعقاب وقد أرسل إليهم النبي ﷺ فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله في الإنس من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إلى الله كما شرع الله ورسوله، وكما دعاهم النبي ﷺ، ويعاملهم إذا اعتدوا بما يعامل به المعتدون، فيدفع صَوْلهم بما يدفع صَوْل الإنس.
وصَرْعُهُم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق، كما يتفق للإنس مع الإنس، وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد! وهذا كثير معروف، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه، وكره أكثر
ج/ 19 ص -41-والفلوات، ويوجدون في مواضع النجاسات؛ كالحمامات والحُشُوش والمزابل والقمامين والمقابر. والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين، وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية، يأوون كثيرًا إلى هذه الأماكن التي هي مأوي الشياطين.
وقد جاءت الآثار بالنهي عن الصلاة فيها؛ لأنها مأوي الشياطين، والفقهاء منهم من علل النهى بكونها مظنة النجاسات. ومنهم من قال: إنه تَعَبُّدٌ لا يعقل معناه. والصحيح أن العلة في الحمام وأعْطَان الإبل، ونحو ذلك أنها مأوي الشياطين، وفي المقبرة أن ذلك ذريعة إلى الشرك، مع أن المقابر تكون أيضًا مأوي للشياطين.
والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه الشرعي، ولهم أحيانًا مكاشفات ولهم تأثيرات يأوون كثيرًا إلى مواضع الشياطين التي نهى عن الصلاة فيها؛ لأن الشياطين تتنزل عليهم بها وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام، وتكلم عابدي الأصنام، وتعينهم في بعض المطالب، كما تعين السحرة، وكما تعين عباد الأصنام وعباد الشمس والقمر والكواكب إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها؛ من تسبيح لها، ولباس، وبخور، وغير ذلك؛ فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها: روحانية الكواكب، وقد تقضي بعض حوائجهم؛ إما قتل بعض أعدائهم، أو
ج/ 19 ص -42-إمراضه، وإما جلب بعض من يهوونه، وإما إحضار بعض المال، ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع، بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع.
والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجن بها، فإنه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان لما مات كتبت الشياطين كتب سحر وكفر وجعلتها تحت كرسيه، وقالوا: كان سليمان يستخدم الجن بهذه، فطعن طائفة من أهل الكتاب في سليمان بهذا. وآخرون قالوا: لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان، فَضَلَّ الفريقان، هؤلاء بقدحهم في سليمان، وهؤلاء باتباعهم السحر، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى: "وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ"
إلى قوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ" [البقرة: 101103]، بين سبحانه أن هذا لا يضر ولا ينفع؛ إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح، والضرر هو الشر الخالص أو الراجح، وشر هذا إما خالص، وإما راجح.
والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، كما يفعل
ج/ 19 ص -43-بالإنس؛ لأن الله يقول:"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" [الإسراء: 15]، وقال تعالى:"يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا" [الأنعام: 130]؛ ولهذا نهى النبي ﷺ عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثًا، كما في صحيح مسلم، وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ﷺ: "إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا، فمن رأي شيئًا من هذه العَوَامِر فليؤذنه ثلاثًا، فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان".
وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي السائب مولي هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلى فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عَرَاجِين في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها، فأشار إلى أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أتري هذا البيت؟ فقلت: نعم. فقال: كان فيه فتي منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله ﷺ إلى الخندق، فكان ذلك الفتي يستأذن رسول لله ﷺ بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا فقال له رسول الله ﷺ: "خذ عليك سلاحك فإني أخشي عليك قريظة" فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأَهْوَى إليها بالرمح ليطعنها به، وأصابته غِيَرة. فقالت:
ج/ 19 ص -44-اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة مُنْطَوِيةً على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فَرَكَّزَه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتًا الحية أم الفتي؟ قال: فجئنا إلى رسول الله ﷺ فذكرنا له ذلك، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، قال: [استغفروا لصاحبكم] ثم قال: "إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان"، وفي لفظ آخر لمسلم أيضًا : فقال رسول الله ﷺ: "إن لهذه البيوت عَوَامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فَحَرِّجوا [وقوله: [حَرِّجوا] أي: ضيقوا عليه ثلاثًا] عليه ثلاثًا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر" وقال لهم: "اذهبوا فادفنوا صاحبكم".
وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز، كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق، والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدًا ولو كان كافرًا، بل قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " [المائدة: 8]، والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم، والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، كما أتي الشيطان قريشًا في صورة سُرَاقَة بن مالك بن جُعْشُم لما أرادوا الخروج إلى بدر، قال تعالى:
ج/ 19 ص -45-"وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ"، إلى قوله: "وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [الأنفال: 48].
وكما رُوِي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة: هل يقتلوا الرسول، أو يحبسوه، أو يخرجوه؟ كما قال تبارك وتعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" [الأنفال: 30]، فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنًا فتؤذن ثلاثًا فإن ذهبت وإلا قتلت، فإنها إن كانت حية قتلت، وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك، والعادي: هو الصَّائِل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلًا، وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز.
وأهل العزائم والأقسام يقسمون على بعضهم ليعينهم على بعض، تارة يبرون قسمه، وكثيرًا لا يفعلون ذلك، بأن يكون ذلك الجني معظمًا عندهم، وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضي إعانتهم على ذلك؛ إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذي يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه، وهذا تختلف أحواله، فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه، وقد يكون ذاك منيعًا، فأحوالهم شبيهة بأحوال
ج/ 19 ص -46-الإنس، لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفي بالعهد، والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر.
والمقصود أن أرباب العزائم، مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر، لا تجوز العزيمة والقسم به، فهم كثيرًا ما يعجزون عن دفع الجني، وكثيرًا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه، فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه، ويكون ذلك تخييلًا وكذبًا، هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقًا في الرؤية، فإن عامة ما يعرفونه لمن يرى دون تعريفه؛ إما بالمكاشفة والمخاطبة، إن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين، وإما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يرىدون تعريفه، فإذا رأي المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال، وقد يوهمونه أنه نفس المرئي، وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضإلىن من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين، إذا استغاث به بعض محبيه فقال: يا سيدي فلان، فإن الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي، فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت، وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة.
ج/ 19 ص -47-فصل
وكثيرًا ما يتصور الشيطان بصورة المدعو المنادى المستغاث به إذا كان ميتًا. وكذلك قد يكون حيًا ولا يشعر بالذي ناداه، بل يتصور الشيطان بصورته، فيظن المشرك الضال المستغيث بذلك الشخص أن الشخص نفسه أجابه وإنما هو الشيطان، وهذا يقع للكفار المستغيثين بمن يحسنون به الظن من الأموات والأحياء؛ كالنصارى المستغيثين بجرجس وغيره من قداديسهم، ويقع لأهل الشرك والضلال من المنتسبين إلى الإسلام الذين يستغيثون بالموتى والغائبين، يصور لهم الشيطان في صورة ذلك المستغاث به وهو لا يشعر.
وأعرف عددًا كثيرًا وقع لهم في عدة أشخاص يقول لي كل من الأشخاص: أني لم أعرف أن هذا استغاث بي، والمستغيث قد رأى ذلك الذي هو على صورة هذا، وما اعتقد أنه إلا هذا. وذكر لي غير واحد أنهم استغاثوا بي، كل يذكر قصة غير قصة صاحبه، فأخبرت كلا منهم أني لم أجب أحدًا منهم ولا علمت باستغاثته، فقيل:
ج/ 19 ص -48-هذا يكون ملكًا، فقلت: الملك لا يغيث المشرك، إنما هو شيطان أراد أن يضله.
وكذلك يتصور بصورته ويقف بعرفات، فيظن من يحسن به الظن أنه وقف بعرفات، وكثير منهم حمله الشيطان إلى عرفات أو غيرها من الحرم، فيتجاوز الميقات بلا إحرام ولا تلبية، ولا يطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة، وفيهم من لا يعبر مكة، وفيهم من يقف بعرفات ويرجع ولا يرمي الجمار، إلى أمثال ذلك من الأمور التي يضلهم بها الشيطان حيث فعلوا ما هو منهي عنه في الشرع، إما محرم وإما مكروه ليس بواجب ولا مستحب، وقد زين لهم الشيطان أن هذا من كرامات الصالحين، وهو من تلبيس الشيطان، فإن اللّه لا يُعبَد إلا بما هو واجب أو مستحب، وكل من عبد عبادة ليست واجبة ولا مستحبة وظنها واجبة أو مستحبة فإنما زين ذلك له الشيطان، وإن قدر أنه عفي عنه لحسن قصده واجتهاده، لكن ليس هذا مما يكرم اللّه به أولياءه المتقين، إذ ليس في فعل المحرمات والمكروهات إكرام، بل الإكرام حفظه من ذلك ومنعه منه؛ فإن ذلك ينقصه لا يزيده، وإن لم يعاقب عليه بالعذاب فلابد أن يَخْفِضَه عما كان ويخفض أتباعه الذين يمدحون هذه الحال ويعظمون صاحبها، فإن مدح المحرمات والمكروهات وتعظيم صاحبها هو من الضلال عن سبيل اللّه، وكلما ازداد العبد في
ج/ 19 ص -49-البدع اجتهادًا ازداد من اللّه بعدًا؛ لأنها تخرجه عن سبيل اللّه سبيل الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى بعض سبيل المغضوب عليهم والضالين.
فَصل
إذا عرف الأصل في هذا الباب فنقول: يجوز بل يستحب، وقد يجب أن يُذَبَّ عن المظلوم وأن يُنْصَرَ؛ فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان، وفي الصحيحين حديث البراء بن عازب قال: أمرنا رسول اللّه ﷺ بسبعٍ، ونهانا عن سبع؛ أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب، وعن شُرْب بالفضة، وعن المَيَاثِر، وعن القِسِيِّ، ولبس الحرير، والإستبرق، والديباج. وفي الصحيح عن أنس قال: قال رسول ﷺ: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلوما" قلت: يارسول اللّه، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه".
وأيضًا، ففيه تفريج كربة هذا المظلوم. وفي صحيح مسلم، عن أبي
ج/ 19 ص -50-هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "من نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبَة من كُرَبِ الدنيا نفس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر اللّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره اللّه في الدنيا والآخرة، واللّه في عَوْن العبد ما كان العبد في عون أخيه". وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر أن رسول اللّه ﷺ لما سئل عن الرقى قال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
لكن ينصر بالعدل كما أمر اللّه ورسوله، مثل: الأدعية والأذكار الشرعية، ومثل: أمر الجنى ونهيه، كما يؤمر الإنسى وينهى، ويجوز من ذلك ما يجوز مثله في حق الإنسى، مثل: أن يحتاج إلى انتهار الجنى وتهديده ولعنه وسبه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي الدرداء قال: قام رسول اللّه ﷺ فسمعناه يقول: "أعوذ باللّه منك ثم قال: ألعنك بلعنة اللّه ثلاثًا" وبسط يده كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يارسول اللّه، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك! قال: "إن عدو اللّه إبليس جاء بِشِهَاب من نار ليجعله في وجهى فقلت: أعوذ باللّه منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة اللّه التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، وواللّه لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة" ففي هذا الحديث الاستعاذة منه
ج/ 19 ص -51-ولعنته بلعنة اللّه، ولم يستأخر بذلك فمد يده إليه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "إن الشيطان عَرَضَ لي فَشَدَّ على ليقطع الصلاة على، فأمكننى اللّه منه فَذَعَتُّه، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول أخى سليمان:"قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي" [ص: 35] فرده اللّه خاسئًا".
فهذا الحديث يوافق الأول ويفسره، وقوله: [ذَعَتُّه] أى: خنقته، فبين أن مد اليد كان لخنقه، وهذا دفع لعدوانه بالفعل وهو الخنق، وبه اندفع عدوانه فرده اللّه خاسئًا.
وأما الزيادة وهو ربطه إلى السارية فهو من باب التصرف الملكى الذي تركه لسليمان، فإن نبينا ﷺ كان يتصرف في الجن كتصرفه في الإنس تصرف عَبْد رسول، يأمرهم بعبادة اللّه وطاعته لا يتصرف لأمر يرجع إليه وهو التصرف الملكي؛ فإنه كان عبدًا رسولا وسليمان نبي ملك، والعبد الرسول أفضل من النبي الملك، كما أن السابقين المقربين أفضل من عموم الأبرار أصحاب إلىمين، وقد روى النسائي على شرط البخاري عن عائشة أن النبي ﷺ كان يصلي فأتاه الشيطان، فأخذه فصرعه فخنقه، قال رسول اللّه ﷺ: "حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدى، ولولا
ج/ 19 ص -52-دعوة سليمان لأصبح موثقًا حتى يراه الناس". ورواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد، وفيه:"فأهويت بيدى، فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْدَ لعابه بين أصبعي هاتين: الإبهام والتي تليها"، وهذا فعله في الصلاة، وهذا مما احتج به العلماء على جواز مثل هذا في الصلاة، وهو كدفع المارّ، وقتل الأسودين، والصلاة حال المُسَايَفَة.
وقد تنازع العلماء في شيطان الجن إذا مر بين يدي المصلي، هل يقطع؟ على قولين هما قولان في مذهب أحمد، كما ذكرهما ابن حامد وغيره:
أحدهما: يقطع لهذا الحديث؛ ولقوله لما أخبر أن مرور الكلب الأسود يقطع للصلاة: "الكلب الأسود شيطان"، فعلل بأنه شيطان. وهو كما قال رسول اللّه ﷺ؛ فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرًا، وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة.
ومما يتقرب به إلى الجن الذبائح، فإن من الناس من يذبح للجن وهو من الشرك الذي حرمه اللّه ورسوله، ورُوى أنه نهى عن ذبائح الجن، وإذا برئ المصاب بالدعاء والذكر وأمر الجن ونهيهم وانتهارهم
ج/ 19 ص -53-وسبهم ولعنهم، ونحو ذلك من الكلام حصل المقصود، وإن كان ذلك يتضمن مرض طائفة من الجن أو موتهم فهم الظالمون لأنفسهم، إذا كان الراقى الداعى المعالج لم يتعد عليهم كما يتعدى عليهم كثير من أهل العزائم، فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله، وقد يحبسون من لا يحتاج إلى حبسه؛ ولهذا قد تقاتلهم الجن على ذلك، ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه، وفيهم من يفعل ذلك بأهله وأولاده أو دوابه.
وأما من سلك في دفع عداوتهم مسلك العدل الذي أمر اللّه به ورسوله فإنه لم يظلمهم، بل هو مطيع للّه ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعى التي ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق، ومثل هذا لا تؤذيه الجن؛ إما لمعرفتهم بأنه عادل، وإما لعجزهم عنه. وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه، فينبغى لمثل هذا أن يحترز لقراءة العوذ، مثل آية الكرسي والمعوذات، والصلاة، والدعاء، ونحو ذلك مما يقوى الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه، فإنه مجاهد في سبيل اللّه، وهذا من أعظم الجهاد، فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه، وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها، فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق.
ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي، فقد ثبت في صحيح
ج/ 19 ص -54-البخاري حديث أبي هريرة قال: وَكَّلَنى رسول اللّه ﷺ بحفظ زكاة رمضان، فأتأني آتٍ فجعل يَحْثُو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه ﷺ، قال: أني محتاج وعلى عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال رسول اللّه ﷺ: "يا أبا هريرة، مافعل أسيرك البارحة؟" قلت: يارسول اللّه، شكى حاجة شديدة وعيالًا فرحمته وخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول اللّه ﷺ، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه ﷺ، قال: دعنى فأني محتاج وعلى عيال لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه ﷺ: "يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك؟" قلت: يارسول اللّه، شكى حاجة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه ﷺ وهذا آخر ثلاث مرات، تزعم أنك لا تعود ثم تعود، قال: دعنى أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها، قلت: ماهن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة: 255] حتى تختم الآية، فإنك لن يزال علىك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى
ج/ 19 ص -55-تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه ﷺ: "مافعل أسيرك البارحة؟" قلت: يا رسول اللّه، زعم أنه يعلمنى كلمات ينفعنى اللّه بها فخليت سبيله، قال: ما هى؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية:"اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة:255]، وقال لي: لن يزال علىك من اللّه حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي ﷺ: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟" قلت:لا. قال:"ذاك شيطان".
ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته، فإن لها تأثيرًا عظيمًا في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين، مثل: أهل الظلم والغضب، وأهل الشهوة والطرب، وأرباب السماع المُكَاء والتَّصْدِية، إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين، وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان، ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطأني، إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء اللّه
ج/ 19 ص -56-المتقين، وإنما هى من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين.والصَّائِل المعتدى يستحق دفعه سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وقد قال النبي ﷺ: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد"، فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادى، فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته؟! فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه، وقد يفعل معه فاحشة إنسى بإنسى، وإن لم يندفع إلا بالقتل جاز قتله.
وأما إسلام صاحبه والتخلي عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين، وهذا فرض على الكفاية مع القدرة، ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه"، فإن كان عاجزًا عن ذلك أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب، وإن كان قادرًا وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه.
وأما قول السائل: هل هذا مشروع؟ فهذا من أفضل الأعمال، وهو من أعمال الأنبياء والصالحين؛ فإنه ما زال الأنبياء والصالحون
ج/ 19 ص -57-يدفعون الشياطين عن بنى آدم بما أمر اللّه به ورسوله، كما كان المسيح يفعل ذلك، وكما كان نبينا ﷺ يفعل ذلك، فقد روى أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال: حدثتني أم أَبَان بنت الوازع بن زارع بن عامر العبدي، عن أبيها؛ أن جدها الزارع انطلق إلى رسول اللّه ﷺ، فانطلق معه بابن له مجنون أو ابن أخت له قال جدى: فلما قدمنا على رسول اللّه ﷺ قلت: إن معي ابنًا لي أو ابن أخت لي مجنون، أتيتك به تدعو اللّه له. قال: "ائتني به" قال: فانطلقت به إليه وهو في الركاب، فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين، وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول اللّه ﷺ، فقال: "ادْنُهُ مني، اجعل ظهره مما يليني" قال: بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله، فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه، ويقول: "اخرج عدو اللّه! اخرج عدو اللّه !" فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول، ثم أقعده رسول اللّه ﷺ بين يديه، فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول اللّه ﷺ يفضل عليه.
وقال أحمد في المسند: ثنا عبد اللّه بن نُمَيْرٍ، عن عثمان بن حكيم، أنا عبد الرحمن ابن عبد العزيز، عن يعلى بن مرة قال: لقد رأيت من
ج/ 19 ص -58-رسول اللّه ﷺ ثلاثًا ما رآها أحد قبلي، ولا يراها أحد بعدي، لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها، فقالت: يا رسول اللّه، هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال: "ناولينيه"، فرفعته إليه، فجعله بينه وبين واسطة الرَّحْل، ثم فَغَرَ فَاهُ فنفث فيه ثلاثًا، وقال: "بسم اللّه أنا عبد اللّه اخْسَأ عدو اللّه" ثم ناولها إياه، فقال: القينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل، قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث، فقال: "ما فعل صبيك؟" فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئًا حتى الساعة فاجْتَرِر هذه الغنم، قال: "انزل خذ منها واحدة ورد البقية". وذكر الحديث بتمامه".
ثنا وكيع قال: ثنا الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن يعلى بن مرة، عن أبيه قال وَكِيع: مرة يعنى الثقفي، ولم يقل: مرة عن أبيه؛ أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ معها صبي لها به لمم، فقال النبي ﷺ: "اخرج عدو اللّه أنا رسول اللّه" قال: فبرأ، قال: فأهدت إليه كبشين، وشيئًا من أقط، وشيئًا من سمن. قال: فقال رسول اللّه ﷺ: "خذ الأقْطَ والسمن، وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر".
ج/ 19 ص -59-ثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن عطاء بن السائب، عن عبد اللّه بن حفص، عن يعلى بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول اللّه ﷺ وذكر الحديث، وفيه قال: ثم سرنا فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جِنَّةٌ، فأخذ النبي ﷺ بمنخره فقال: "اخرج إني محمد رسول اللّه" قال: ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته المرأة بجزر ولبن، فأمرها أن ترد الجزر، وأمر أصحابه فشربوا من اللبن، فسألها عن الصبي فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبًا بعدك. ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء؛ لكون الشياطين لم تكن تقدر تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا، فقد أمرنا اللّه ورسوله من نصر المظلوم والتنفيس عن المكروب ونفع المسلم بما يتناول ذلك.
وقد ثبت في الصحيحين حديث الذين رَقَوا بالفاتحة، وقال النبي ﷺ: "وما أدراك أنها رقية"، وأذن لهم في أخذ الجعل على شفاء اللديغ بالرقية، وقد قال النبي ﷺ للشيطان الذي أراد قطع صلاته:"أعوذ باللّه منك، ألعنك بلعنة اللّه التامة ثلاث مرات". وهذا كدفع ظالمي الإنس من الكفار والفجار، فإن النبي ﷺ وأصحابه، وإن كانوا لم يروا الترك ولم يكونوا يرمون بالقِسِيِّ الفارسية ونحوها مما يحتاج إليه في قتال، فقد
ج/ 19 ص -60-ثبت عن النبي ﷺ أنه أمر بقتالهم، وأخبر أن أمته ستقاتلهم"، ومعلوم أن قتالهم النافع إنما هو بالقسي الفارسية، ولو قوتلوا بالقسي العربية التي تشبه قوس القطن لم تغن شيئًا، بل استطالوا على المسلمين بقوة رميهم، فلابد من قتالهم بما يقهرهم.
وقد قال بعض المسلمين لعمر بن الخطاب: إن العدو إذا رأيناهم قد لبسوا الحرير وجدنا في قلوبنا روعة، فقال: وأنتم فالبسوا كما لبسوا. وقد أمر النبي ﷺ أصحابه في عمرة القضية بالرَّمَل والاضْطِبَاع؛ لِيُرِىَ المشركين قوتهم، وإن لم يكن هذا مشروعا قبل هذا، ففعل لأجل الجهاد مالم يكن مشروعا بدون ذلك.
ولهذا قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب، فيضرب ضربا كثيرًا جدًا، والضرب إنما يقع على الجنى ولا يحس به المصروع، حتى يفيق المصروع ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ولا يؤثر في بدنه، ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر وأقل، بحيث لو كان على الإنسى لقتله، وإنما هو على الجنى، والجنى يصيح ويصرخ، ويحدث الحاضرين بأمور متعددة، كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين.
ج/ 19 ص -61-وأما الاستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه فلا يشرع، لا سيما إن كان فيه شرك؛ فإن ذلك محرم. وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك، وقد يقرؤون مع ذلك شيئًا من القرآن ويظهرونه، ويكتمون ما يقولونه من الشرك، وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله.
والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال؛ لأن ذلك محرم في كل حال، وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه؛ فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه، ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر. والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده وأيضًا فإن المكره مضطر إلى التكلم به ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين:
أحدهما: أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم، فلا يؤثر بل يزيده شرًا.
والثأني: أن في الحق ما يغني عن الباطل.
ج/ 19 ص -62-والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس، وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة، فهؤلاء يكذبون بالموجود، وهؤلاء يعصون، بل يكفرون بالمعبود. والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود، وتؤمن بالإله الواحد المعبود، وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه، فتدفع شياطين الإنس والجن.
وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم، فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسؤول فهو حرام، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن معاوية ابن الحكم السلمى قال: قلت: يا رسول اللّه، أمورًا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان، قال: "فلا تأتوا الكهان"، وفي صحيح مسلم أيضًا عن عبيد اللّه، عن نافع، عن صفية، عن بعض أزواج النبي ﷺ، عن النبي ﷺ قال: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا".
وأما إن كان يسأل المسؤول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز، كما ثبت في الصحيحين: أن النبي ﷺ سأل ابن صَيَّاد فقال: "ما يأتيك؟" فقال: يأتيني صادق وكاذب، قال: "ما ترى؟" قال: أرى عرشا على الماء، قال: "فأني قد خبأت لك خبيئًا"، قال: الدُّخُّ الدُّخُّ [والدُّخُّ بضم الدال وفتحها : الدُّخان]، قال: "اخسأ فلن
ج/ 19 ص -63-تعدو قدرك، فإنما أنت من إخوان الكهان".
وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن، كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به، وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا" [الحجرات: 6]، وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة ويفسرونها بالعربية، فقال النبي ﷺ: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وقولوا: "وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" [العنكبوت: 46] ، فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه.
وقد روى عن أبي موسى الأشعرى أنه أبطأ عليه خبر عمر، وكان هناك امرأة لها قرين من الجن، فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يَسِمُ إبل الصدقة. وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشًا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم، وشاع الخبر، فسأل عمر عن ذلك فذكر له، فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن، وسيأتى بريد الإنس بعد ذلك، فجاء بعد ذلك بعدة أيام.
ج/ 19 ص -64-فَصْل
ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئًا من كتاب اللّه وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى، كما نص على ذلك أحمد وغيره، قال عبد اللّه بن أحمد: قرأت على أبي، ثنا يَعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن محمد بن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب: بسم اللّه لا إله إلا اللّه الحليم الكريم، سبحان اللّه رب العرش العظيم، الحمد للّه رب العالمين "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا" [النازعات: 46]، "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ"
[الأحقاف: 35]. قال أبي: ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه، وقال: يكتب في إناء نظيف فيسقى، قال أبي: وزاد فيه وكيع: فتسقى وينضح ما دون سرتها، قال عبد الله: رأيت أبي يكتب للمرأة في جَامٍ أو شيء نظيف.
وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحِيرى: أنا الحسن بن سفيان النَّسَويّ، حدثني عبد اللّه بن أحمد بن شبويه، ثنا علي بن
ج/ 19 ص -65-الحسن بن شَقِيق، ثنا عبد اللّه بن المبارك، عن سفيان، عن ابن أبي ليلي، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب: بسم اللّه لا إله إلا اللّه العلى العظيم لا إله إلا اللّه الحليم الكريم، سبحان اللّه وتعالى رب العرش العظيم والحمد للّه رب العالمين "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا" [النازعات: 46] "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ"
[الأحقاف: 35]. قال على: يكتب في كاغَدَة [كاغدة: الكاغَدُ: القرطاس، مُعَرَّب] فيعلق على عضد المرأة، قال على: وقد جربناه فلم نر شيئًا أعجب منه، فإذا وضعت تحله سريعًا، ثم تجعله في خرقة أو تحرقه. آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللّه روحه، ونَوَّر ضريحه.