أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل عن أحاديث "سبعة لا تموت ولا تفنى" و"أوتيت جوامع الكلم" و"أن تجعل القرآن ربيع صدري"

    ج/ 18 ص -306- وَقَالَ شيخ الإسلام رَحِمهُ الله‏:‏
    فصل
    وأما قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏مثل أمتي كمثل الغَيْثِ، لا يدري أوله خَيْرٌ أو آخره‏"‏، فهذا قد رواه أحمد في المسند، وقد ضعفه بعض الناس، وبعضهم لم يضعفه، لكن قال معناه‏:‏ أنه يكون في آخرالأمة من يقارب أولهم في الفضل، وإن لم يكن منهم ، حتى يشتبه على الناظر أيهما أفضل، وإن كان الله يعلم أن الأول أفضل، كما يقال في الثوب المتشابه الطرفين‏:‏ هذا الثوب لا يدري أي طرفيه خير، مع العلم بأن أحد طرفيه خير من الآخر؛ وذلك لأنه قال‏:‏ لا يدري أوله خير، أو آخره، ومن المعلوم أن الله يعلم أيهما خير، إذا كان الأمر كذلك، وإنما ينفي العلم عن المخلوق، لا عن الخالق؛ لأن المقصود التشابه والتقارب، وما كان كذلك اشتبه على المخلوق أيهما خير‏.‏

    ج/ 18 ص -307- وسئل عن حديث أنس بن مالك، عن النبي ﷺ، أنه قال‏:‏ ‏"‏سبعة لا تموت ولا تَفْني ولا تذوق الفناء‏:‏ النار وسكانها، واللوح، والقلم، والكرسي، والعرش‏"‏ فهل هذا الحديث صحيح أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذا الخبر بهذا اللفظ ليس من كلام النبي ﷺ، وإنما هو من كلام بعض العلماء‏.‏ وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفني بالكلية؛ كالجنة والنار، والعرش، وغير ذلك‏.‏ ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجَهْم بن صفوان، ومن وافقه من المعتزلة، ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع سلف الأمة وأئمتها‏.‏ كما في ذلك من الدلالة على بقاء الجنة وأهلها، وبقاء غير ذلك مما لا تتسع هذه الورقة لذكره‏.‏ وقد استدل طوائف من أهل الكلام والمتفلسفة على امتناع فناء جميع المخلوقات بأدلة عقلية‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 18 ص -308-وَقَالَ شيخ الإسلام‏:‏
    فصل
    قال ﷺ‏:‏ ‏"‏أُعْطِيت جوامع الكَلِم‏"‏ وروي ‏"‏وخواتمه‏"‏ وروي ‏"‏وفواتحه، وخواتمه‏"‏ وقال في حديث‏:‏ ‏"‏أعطي نبيكم جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه‏"‏‏.‏
    وهذا حديث شريف جامع؛ وذلك أن الكلم نوعان‏:‏ إنشائية فيها الطلب، والإرادة، والعمل‏.‏ وإخبارية فيها الاعتقاد والعلم، وكل واحد من العلم والإرادة الذي هو الخبر والطلب فيه فروع كثيرة، وله أصول محيطة‏.‏ وهي نوعان‏:‏ كلية جامعة عامة‏.‏ وأولية علية، فالعلوم الكلية والأولية والإرادات والتدابير والأوامر الكلية والأولية هي‏:‏ جماع أمر الوجود كله‏.‏ والخبر المطلوب كله الحق الموجود، والحق المقصود؛ ولهذا كان القياس العقلي والشرعي وغيرهما نوعين‏:‏ قياس شمول، وقياس تعليل‏.‏ فإن قياس التمثيل مُنْدَرِج في أحدهما؛ لأن القدر المشترك بين المثلين إن كان هو محل الحكم فهو قياس شمول،

    ج/ 18 ص -309-وإن كان مناط الحكم فهو قياس تعليل‏.‏
    وذلك أن العلوم والإرادات، وما يُظْهِر ذلك من الكلمة الخبرية والطلبية إذا كانت عامة جامعة كلية فقد دخل فيها كل مطلوب، فلم يبق مما يطلب علمه شيء، وكل مقصود من الخبر، فلم يبق فيها مما يطلب قصده شيء، ثم ذلك علم وإرادة لنفسها وذاتها، سواء كانت مفردة أو مركبة‏.‏ ثم لابد أن يتعلق بها علتان‏:‏
    إحداهما‏:‏ السبب وهي العلة الفاعلة‏.‏
    والثاني‏:‏ الحكمة‏:‏ وهي العلة الغائية‏.‏ فذلك هو العلم والإرادة للأمور الأولية‏.‏ فإن السبب والفاعل أدل في الوجود العيني‏.‏والحكمة والغاية أدل في الوجود العلمي الإرادي؛ ولهذا كانت العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية‏.‏ وكانت هي في الحقيقة علة العلل لتقدمها علمًا وقصدًا، وأنها قد تستغني عن المعلول،والمعلول لا يستغني عنها، وأن الفاعل لا يكون فاعلًا إلا بها، وأنها هي كمال الوجود وتمامه؛ ولهذا قدمت في قوله‏:‏
    ‏"‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏ فإذا كانت الحكم المظهرة للعلم والطلب فيها الفواتح، وفيها الخواتم، جمعت نَوْعَي العلتين الأوليين‏.‏ وإذا كانت جامعة كانت علة عامة‏.‏

    ج/ 18 ص -310-وَقَالَ شيخ الإسلام رَحِمهُ الله‏:‏
    قوله
    في حديث الكرب الذي رواه أحمد من حديث ابن مسعود‏:‏ ‏"‏اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن رَبِيعَ قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذَهَاب همي وغَمِّي إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله به فرحًا‏"‏‏.‏
    الربيع‏:‏ هو المطر المنبت للربيع، ومنه قوله في دعاء الاستسقاء‏:‏ ‏"‏اللهم اسقنا غَيثًا مُغِيثًا، ربيعًا، مُرْبِعًا‏"‏ وهو المطر الوَسْمِي الذي يَسِمُ الأرض بالنبات، ومنه قوله‏:‏ ‏"‏القرآن ربيع للمؤمن‏"‏‏.‏ فسأل الله أن يجعله ماء يحيي به قلبه كما يحيي الأرض بالربيع، ونورًا لصدره‏.‏
    والحياة والنور جماع الكمال، كما قال‏:‏ ‏
    "‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ ، وفي خطبة أحمد بن حنبل‏:‏ يحيون بكتاب الله الموتي، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمي؛ لأنه

    ج/ 18 ص -311-بالحياة يخرج عن الموت، وبالنور يخرج عن ظلمة الجهل، فيصير حيًا عالمًا ناطقًا، وهو كمال الصفات في المخلوق‏.‏ وكذلك قد قيل في الخالق، حتى النصارى فسروا الأب والابن وروح القدس بالموجود الحي العالم‏.‏ والغزالي رد صفات الله إلى الحي العالم، وهو موافق في المعني لقول الفلاسفة‏:‏ عاقل، ومعقول، وعقل؛ لأن العلم يتبع الكلام الخبري، ويستلزم الإرادة، والكلام الطلبي؛ لأن كل حي عالم فله إرادة وكلام، ويستلزم السمع والبصر، لكن هذا ليس بجيد؛ لأنه يقال‏:‏ فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها؛ ولهذا كان أعظم آية في القرآن‏:‏ ‏"‏اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ‏.‏ وهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتفي بالحي، وهذا ينفع في الدلالة والوجود، لكن لا يصح أن يجعل معني العالم هو معني المريد، فإن الملزوم ليس هو عين اللازم، وإلا فالذات المقدسة مستلزمة لجميع الصفات‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فلِمَ جمع في المطلوب لنا بين ما يوجب الحياة والنور فقط دون الاقتصار على الحياة، أو الازدياد من القدرة وغيرها‏؟‏
    قيل‏:‏ لأن الأحياء الآدميين فيهم من يهتدي إلى الحق، وفيهم من لا يهتدي‏.‏ فالهداية كمال الحياة، وأما القدرة فشرط في

    ج/ 18 ص -312- التكليف لا في السعادة، فلا يضر فَقْدها، ونور الصدر يمنع أن يريد سواه‏.‏
    ثم قوله‏:‏ ‏"‏ربيع قلبي ونور صدري‏"‏ لأنه والله أعلم الحَيَا لا يتعدي محله، بل إذا نزل الربيع بأرض أحياها‏.‏ أما النور، فإنه ينتشر ضوؤه عن محله‏.‏ فلما كان الصدر حاويًا للقلب جعل الربيع في القلب والنور في الصدر لانتشاره، كما فسرته المشكاة في قوله‏:‏
    ‏"‏مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ‏"‏[‏النور‏:‏35‏]‏ ، وهو القلب‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML