ج/ 18 ص -244- وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ اللّه: شرح حديث إنما الأعمال بالبنيات
بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه المستوجب لصفات المدح والكمال، المستحق للحمد على كل حال، لا يحصي أحد ثناءً عليه، بل هو كما أثني على نفسه بأكمل الثناء وأحسن المقال، فهو المنعم على العباد بالخلق، وبإرسال الرسل إليهم، وبهداية المؤمنين منهم لصالح الأعمال. وهو المتفضل عليهم بالعفو عنهم، وبالثواب الدائم، بلا انقطاع ولا زوال. له الحمد في الأولى والآخرة، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، متصلا بلا انفصال.
وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي هدي به من الضلال، وأمر المؤمنين بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ووضع عنهم الآصار والأغلال، فصلى اللّه عليه وعلى آله خير
ج/ 18 ص -245- آل ، وعلى أصحابه الذين كانوا نصرة للدين، حتى ظهر الحق وانطمست أعلام الضلال.
أما بعد: فإن اللّه تعالى خلق الخلق لما شاء من حكمته، وأسبغ عليهم ما لا يحصونه من نعمته، وكَرَّمَ بني آدم بأصناف كرامته، وخص عباده المؤمنين باصطفائه وهدايته، وجعل أمة محمد ﷺ خير أمة أخرجت للناس من بَرِيَّته. وبعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعلمون صدقه وأمانته وجميل سيرته، يتلو عليهم آياته؛ ليخرجهم من ظلمة الكفر وحيرته، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويدعوهم إلى عبادته.
وأنزل عليهم أفضل كتاب أنزله إلى خليقته، وجعله آية باقية إلى قيام ساعته، معجزة باهرة مُبْدِية عن حجته، وبينة ظاهرة موضحة لدعوته، يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويدلهم على طريق جنته. فالسعيد من اعتصم بكتاب اللّه، واتبع الرسول في سنته وشريعته. والمهتدي بمناره، المقْتَفِي لآثاره هو أفضل الخلق في دنياه وآخرته، والمحيي لشيء من سنته له أجرها وأجر من عمل بها من غير نقصان في أجر طاعته، فإن اللّه لا يظلم مثقال ذرة، بل يضاعف الحسنات بفضله ورحمته.
ج/ 18 ص -246- وإحياء سنته يشمل أنواعا من البر لسعة فضل اللّه وكرامته، فيكون بالتبليغ لها والبيان لأجل ظهور الحق ونصرته، ويكون بالإعانة عليها بإنفاق المال والجهاد؛ إعانة على دين اللّه وعلو كلمته، فالجهاد بالمال مقرون بالجهاد بالنفس، قد ذكره اللّه تعالى قبله وفي غير موضع لعظم منزلته وثمرته، وقد قال النبي ﷺ: "من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خَلَفَهُ في أهله بخير فقد غزا" وقال: "من فطر صائما فله مثل أجره" ومثوبته، لا سيما ما يبقي نفعه بعد موت الإنسان ومصيره إلى تربته، كما قال في الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، فهذه الثلاث هي من أعماله الباقية بعد ميتته، بخلاف ما ينفعه بعد موته من أعمال غيره من الدعاء والصدقة والعتق؛ فإن ذلك ليس من سعيه، بل من سَعْي غيره وشفاعته، وكما يلحق بالمؤمن من يدخله اللّه الجنة من ذريته.
وأصل العمل الصالح هو إخلاص العبد للّه في نيته، فإنه سبحانه إنما أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الخلق لعبادته، وهي دعوة الرسل لكافة بريته، كما ذكر ذلك في كتابه على ألسنة رسله بأوضح دلالته؛ ولهذا كان السلف يستحبون أن يفتتحوا مجالسهم وكتبهم وغير ذلك بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" في أول الأمر وبدايته فنجري في ذلك على منهاجهم؛ إذ كانوا أفضل جيش الإسلام ومقدمته، فنقول
ج/ 18 ص -247- مستعينين بالله على سلوك سبيل أهل ولايته وأحبته :
عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التَّيمِي، عن علقمة بن وَقَّاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
هذا حديث صحيح متفق على صحته، تَلَقَّتْه الأمة بالقبول والتصديق، مع أنه من غرائب الصحيح؛ فإنه، وإن كان قد روي عن النبي ﷺ من طرق متعددة، كما جمعها ابن مِنْدَه وغيره من الحفاظ، فأهل الحديث متفقون على أنه لا يصح منها إلا من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه المذكورة، ولم يروه عنه إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد إلا يحيي بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة.
ورواه عن يحيي بن سعيد أئمة الإسلام، يقال: إنه رواه عنه نحو من مائتي عالم، مثل: مالك، والثوري، وابن عيينة، وحماد، وحماد، وعبد الوهاب الثقفي، وأبي خالد الأحمر، وزائدة، ويحيي بن سعيد
ج/ 18 ص -248- القطان، ويزيد بن هارون، وغير هؤلاء خلق من أهل مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام، وغيرها، من شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق وطبقتهم، ويحيي بن معين، وعلي بن المديني، وأبي عبيد.
ولهذا الحديث نظائر من غرائب الصحاح، مثل: حديث ابن عمر، عن النبي ﷺ: أنه نهى عن بيع الولاء وهبته. أخرجاه، تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
ومثل حديث أنس: أن النبي ﷺ دخل مكة وعلى رأسه المغفر فقيل: إن ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه" أخرجاه، تفرد به الزهري عن أنس، وقيل: تفرد به مالك عن الزهري، فالحديث الغريب: ما تفرد به واحد، وقد يكون غريب المتن، أو غريب الإسناد، ومثل أن يكون متنه صحيحًا من طريق معروفة، وروي من طريق أخرى غريبة.
ومن الغرائب ما هو صحيح، وغالبها غير صحيح، كما قال أحمد: اتقوا هذه الغرائب فإن عامتها عن الكذابين؛ ولهذا يقول الترمذي في بعض الأحاديث: إنه غريب من هذا الوجه.
والترمذي أول من قسم الأحاديث إلى صحيح، وحسن، وغريب،
ج/ 18 ص -249- وضعيف، ولم يعرف قبله هذا التقسيم عن أحد، لكن كانوا يقسمون الأحاديث إلى صحيح، وضعيف، كما يقسمون الرجال إلى ضعيف، وغير ضعيف، والضعيف عندهم نوعان: ضعيف لا يحتج به، وهو الضعيف في اصطلاح الترمذي، والثاني: ضعيف يحتج به، وهو الحسن في اصطلاح الترمذي، كما أن ضعف المرض في اصطلاح الفقهاء نوعان: نوع يجعل تبرعات صاحبه من الثلث، كما إذا صار صاحب فراش، ونوع يكون تبرعات صاحبه من رأس المال، كالمرض اليسير الذي لا يقطع صاحبه، ولهذا يوجد في كلام أحمد وغيره من الفقهاء أنهم يحتجون بالحديث الضعيف؛ كحديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهَجْري وغيرهما؛ فإن ذلك الذي سماه أولئك ضعيفًا هو أرفع من كثير من الحسن، بل هو مما يجعله كثير من الناس صحيحًا، والترمذي قد فسر مراده بالحسن أنه ما تعددت طرقه، ولم يكن فيها متهم، ولم يكن شاذًا.
فصل
والمعني الذي دل عليه هذا الحديث: أصل عظيم من أصول الدين، بل هو أصل كل عمل؛ ولهذا قالوا: مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث فذكروه منها، كقول أحمد حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، و"مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" "والحلال بَيِّنٌ والحرام
ج/ 18 ص -250- بين"، ووجه هذا الحديث أن الدين فِعْلُ ما أمر الله به، وتَرْك ما نهى عنه.
فحديث الحلال بين فيه بيان ما نهى عنه. والذي أمر الله به نوعان: أحدهما: العمل الظاهر، وهو ما كان واجبًا أو مستحبًا، والثاني: العمل الباطن، وهو إخلاص الدين لله. فقوله: "من عمل عملا" إلخ ينفي التقرب إلى الله بغير ما أمر الله به؛ أمر إيجاب أو أمر استحباب.
وقوله: "إنما الأعمال بالنيات" إلخ يبين العمل الباطن، وأن التقرب إلى الله إنما يكون بالإخلاص في الدين لله؛ كما قال الفضيل في قوله تعالى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [الملك: 2] ، قال: أخلصه وأصوبه، قال: فإن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، وعلى هذا دل قوله تعالى: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف: 110] ، فالعمل الصالح هو ما أمر الله به ورسوله؛ أمر إيجاب أو أمر استحباب، وألا يشرك العبد بعبادة ربه أحدًا، وهو إخلاص الدين لله.
وكذلك قوله تعالى: "بَلَي مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ" الآية [البقرة: 112] وقوله: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا" [النساء: 125]،
ج/ 18 ص -251-وقوله: "وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي" [لقمان: 22]، فإن إسلام الوجه لله يتضمن إخلاص العمل لله، والإحسان هو إحسان العمل لله وهو فعل ما أمر به فيه كما قال تعالى: "إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" [الكهف: 30]، فإن الإساءة في العمل الصالح تتضمن الاستهانة بالأمر به، والاستهانة بنفس العمل، والاستهانة بما وعده الله من الثواب، فإذا أخلص العبد دينه لله وأحسن العمل له كان ممن أسلم وجهه لله وهو محسن، فكان من الذين لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فصل
لفظ [النية] في كلام العرب من جنس لفظ القصد والإرادة، ونحو ذلك، تقول العرب: نواك الله بخير، أي: أرادك بخير، ويقولون: نَوَي مَنْوِيه، وهو المكان الذين ينويه، يسمونه نوي، كما يقولون: قبض بمعني مقبوض، والنية يعبر بها عن نوع من إرادة، ويعبر بها عن نفس المراد، كقول العرب: هذه نيتي، يعني: هذه البقعة هي التي نويت إتيانها، ويقولون: نيته قريبة أو بعيدة، أي: البقعة التي
ج/ 18 ص -252- نوي قصدها، لكن من الناس من يقول: إنها أخص من الإرادة؛ فإن إرادة الإنسان تتعلق بعمله وعمل غيره، والنية لا تكون إلا لعمله، فإنك تقول: أردت من فلان كذا، ولا تقول: نويت من فلان كذا.
فصل
وقد تنازع الناس في قوله ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات" هل فيه إضمار، أو تخصيص؟ أو هو على ظاهره وعمومه؟ فذهب طائفة من المتأخرين إلى الأول، قالوا: لأن المراد بالنيات الأعمال الشرعية التي تجب أو تستحب، والأعمال كلها لا تشترط في صحتها هذه النيات، فإن قضاء الحقوق الواجبة من الغُصُوب والعَوَارِي والودائع والديون تَبْرَأ ذمة الدافع، وإن لم يكن له في ذلك نية شرعية، بل تبرأ ذمته منها من غير فعل منه، كما لو تسلم المستحق عين ماله، أو أطارت الريح الثوب المودع أو المغصوب، فأوقعته في يد صاحبه، ونحو ذلك.
ثم قال بعض هؤلاء: تقديره إنما ثواب الأعمال المترتبة عليها بالنيات، أو إنما تقبل بالنيات، وقال بعضهم: تقديره إنما الأعمال الشرعية،
ج/ 18 ص -253- أو إنما صحتها، أو إنما إجزاؤها، ونحو ذلك.
وقال الجمهور: بل الحديث على ظاهره وعمومه، فإنه لم يرد بالنيات فيه الأعمال الصالحة وحدها، بل أراد النية المحمودة والمذمومة، والعمل المحمود والمذموم؛ ولهذا قال في تمامه: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" إلخ، فذكر النية المحمودة بالهجرة إلى الله ورسوله فقط، والنية المذمومة وهي الهجرة إلى امرأة أو مال، وهذا ذكره تفصيلا بعد إجمال، فقال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، ثم فصل ذلك بقوله: "فمن كانت هجرته" إلخ.
وقد رُوِي أن سبب هذا الحديث: أن رجلا كان قد هاجر من مكة إلى المدينة لأجل امرأة كان يحبها تُدْعي أم قيس، فكانت هجرته لأجلها، فكان يسمي مهاجر أم قيس، فلهذا ذكر فيه: "أو امرأة يتزوجها وفي رواية ينكحها" فخص المرأة بالذكر لاقتضاء سبب الحديث لذلك. والله أعلم.
والسبب الذي خرج عليه اللفظ العام لا يجوز إخراجه منه باتفاق الناس، والهجرة في الظاهر هي: سفر من مكان إلى مكان، والسفر جنس تحته أنواع مختلفة تختلف باختلاف نية صاحبه. فقد يكون سفرًا واجبًا، كحج أو جهاد متعين، وقد يكون محرمًا؛ كسفر العَادِي لقطع
ج/ 18 ص -254- الطريق، والباغي على جماعة المسلمين، والعبد الآبق. والمرأة الناشز.
ولهذا تكلم الفقهاء في الفرق بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فقالوا: إذا سافر سفرًا مباحًا؛ كالحج والعمرة والجهاد جاز له فيه القصر والفطر باتفاق الأئمة الأربعة، وإن عصي في ذلك السفر. وأما إذا كان عاصيًا بسفره؛ كقطع الطريق، وغير ذلك فهل يجوز له الترخص برخص السفر كالفطر والقصر؟ فيه نزاع:
فمذهب مالك، والشافعي، وأحمد: أنه لا يجوز له القصر والفطر، ومذهب أبي حنيفة يجوز له ذلك، وإذا كان النبي ﷺ قد ذكر هذا السفر وهذا السفر علم أن مقصوده ذكر جنس الأعمال مطلقًا، لا نفس العمل الذي هو قربة بنفسه كالصلاة والصيام، ومقصوده ذكر جنس النية، وحينئذ يتبين أن قوله: "إنما الأعمال بالنيات" مما خصه الله تعالى به من جوامع الكلم، كما قال: "بعثت بجوامع الكلم"، وهذا الحديث من أجمع الكلم الجوامع التي بعث بها، فإن كل عمل يعمله عامل من خير وشر هو بحسب ما نواه، فإن قصد بعمله مقصودًا حسنًا كان له ذلك المقصود الحسن، وإن قصد به مقصودًا سيئًا كان له ما نواه.
ج/ 18 ص -255-فصل
ولفظ [النية] يراد بها النوع من المصدر،ويراد بها المنوي، واستعمالها في هذا لعله أغلب في كلام العرب، فيكون المراد إنما الأعمال بحسب ما نواه العامل،أي:بحسب منويه؛ولهذا قال في تمامه:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" فذكر ما ينويه العامل ويريده بعمله وهو الغاية المطلوبة له،فإن كل متحرك بالإرادة لابد له من مراد.
ولهذا قال ﷺ: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأقبحها حرب ومرة، وأصدقها حارث وهمام" فإن كل آدمي حارث وهمام، والحارث هو العامل الكاسب، والهمام الذي يهم ويريد. قال تعالى: "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ" [الشوري: 20] ، فقوله حرث الدنيا أي: كسبها وعملها؛ ولهذا وضع الحريري مقاماته على لسان الحارث بن همام؛ لصدق هذا الوصف على كل أحد.
ج/ 18 ص -256-فصل
ولفظ [النية] يجري في كلام العلماء على نوعين: فتارة يريدون بها تمييز عمل من عمل، وعبادة من عبادة، وتارة يريدون بها تمييز معبود عن معبود، ومعمول له عن معمول له.
فالأول: كلامهم في النية: هل هي شرط في طهارة الأحداث؟ وهل تشترط نية التعيين والتبييت في الصيام؟ وإذا نوي بطهارته ما يستحب لها هل تجزيه عن الواجب؟ أو أنه لابد في الصلاة من نية التعيين ونحو ذلك ؟
والثاني: كالتمييز بين إخلاص العمل لله، وبين أهل الرياء والسمعة، كما سألوا النبي ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة وحَمِيَّة ورياءً، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وهذا الحديث يدخل فيه سائر الأعمال، وهذه النية تميز بين من يريد الله بعمله والدار الآخرة، وبين من يريد الدنيا؛ مالا وجاها ومدحًا وثناءً وتعظيمًا، وغير ذلك، والحديث دل على هذه النية بالقصد، وإن كان قد يقال: إن عمومه يتناول
ج/ 18 ص -257- النوعين، فإنه فرق بين من يريد الله ورسوله،وبين من يريد دنيا أو امرأة، ففرق بين معمول له ومعمول له. ولم يفرق بين عمل وعمل.
وقد ذكر الله تعالى الإخلاص في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" [البينة: 5] ، وقوله: "فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" [الزمر: 2، 3] . وقوله: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي" [الزمر: 14] ، وغير ذلك من الآيات.
وإخلاص الدين هو أصل دين الإسلام؛ ولذلك ذم الرياء في مثل قوله: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصلينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ" [الماعون: 46] ، وقوله: "وَإِذَا قَامُواْ إلى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلًا" [النساء: 142] ، وقال تعالى:"كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ" الآية [البقرة:264] ، وقوله تعالى: "وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ" الآية [النساء: 38] .
فصل
وقد اتفق العلماء على أن العبادة المقصودة لنفسها؛ كالصلاة والصيام والحج لا تصح إلا بنية، وتنازعوا في الطهارة، مثل: مَنْ يكون عليه جنابة فينساها، ويغتسل للنظافة، فقال مالك والشافعي وأحمد: النية
ج/ 18 ص -258- شرط لطهارة الأحداث كلها. وقال أبو حنيفة: لا تشترط في الطهارة بالماء بخلاف التيمم، وقال زُفَر: لا تشترط لا في هذا ولا في هذا، وقال بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد: تشترط لإزالة النجاسة، وهذا القول شاذ؛ فإن إزالة النجاسة لا يشترط فيها عمل العبد، بل تزول بالمطر النازل، والنهر الجاري، ونحو ذلك، فكيف تشترط لها النية؟!
وأيضًا، فإن إزالة النجاسة من باب التروك لا من باب الأعمال؛ ولهذا لو لم يخطر بقلبه في الصلاة أنه مجتنب النجاسة صَحَّت صلاته إذا كان مجتنبًا لها؛ ولهذا قال مالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه : لو صلى وعليه نجاسة لم يعلم بها إلا بعد الصلاة لم يُعِد؛ لأنه من باب التروك.
وقد ذكر الله عن المؤمنين قولهم: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" [البقرة: 286] . وثبت عن النبي ﷺ: "أن الله تعالى قال قد فعلت" فمن فعل ما نهى عنه ناسيًا أو مخطئًا فلا إثم عليه، بخلاف من ترك ما أمر به، كمن ترك الصلاة فلابد من قضائها.
ولهذا فرق أكثر العلماء في الصلاة والصيام والإحرام بين من فعل المحظور ناسيًا، وبين من ترك الواجب ناسيًا، كمن تكلم في الصلاة ناسيًا، ومن أكل في الصيام ناسيًا، ومن تطيب أو لبس ناسيًا في الإحرام. والذين يوجبون النية في طهارة الأحداث يحتجون بهذا الحديث على
ج/ 18 ص -259- أبي حنيفة، وأبو حنيفة يسلم أن الطهارة غير المنوية ليست عبادة ولا ثواب فيها، وإنما النزاع في صحة الصلاة بها، فقوله ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات" لا يدل على محل النزاع إلا إذا ضمت إليه مقدمة أخري، وهو أن الطهارة لا تكون إلا عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وهذه المقدمة إذا سلمت لم تَحْتَجْ إلى الاستدلال بهذا، فإن الناس متفقون على أن ما لا يكون إلا عبادة لا يصح إلا بنية، بخلاف ما يقع عبادة وغير عبادة، كأداء الأمانات وقضاء الديون.
وحينئذ، فالمسألة مدارها على أن الوضوء هل يقع غير عبادة؟ والجمهور يحتجون بالنصوص الواردة في ثوابه، كقوله: "إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء" وأمثال ذلك، فيقولون: ففيه الثواب لعموم النصوص، والثواب لا يكون إلا مع النية، فالوضوء لا يكون إلا بنية.
وأبو حنيفة يقول: الطهارة شرط من شرائط الصلاة، فلا تشترط لها النية؛ كاللباس وإزالة النجاسة، وأولئك يقولون: اللباس والإزالة يقعان عبادة وغير عبادة؛ ولهذا لم يَرِد نص بثواب الإنسان على جنس اللباس والإزالة، وقد وردت النصوص بالثواب على جنس الوضوء.
وأبو حنيفة يقول: النصوص وردت بالثواب على الوضوء المعتاد،
ج/ 18 ص -260- وعامة المسلمين إنما يتوضؤون بالنية، والوضوء الخالي عن النية نادر لا يقع إلا لمثل من أراد تعليم غيره، ونحو ذلك، والجمهور يقولون: هذا الوضوء الذي اعتاده المسلمون هو الوضوء الشرعي الذي تصح به الصلاة، وما سوي هذا لا يدخل في نصوص الشارع، كقوله ﷺ:"لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، فإن المخاطبين لا يعرفون الوضوء المأمور به إلا الوضوء الذي أثني عليه، وحث عليه، وغير هذا لا يعرفونه، فلا يقصد إدخاله في عموم كلامه، ولا يتناوله النص.
فصل
وأما النية التي هي إخلاص الدين لله فقد تكلم الناس في حَدِّها، وحد الإخلاص، كقول بعضهم: المخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مَثَاقِيل الذَّرِّ من عمله، وأمثال ذلك من كلامهم الحسن. لكن كلامهم يتضمن الإخلاص في سائر الأعمال، وهذا لا يقع من سائر الناس، بل لا يقع من أكثرهم، بل غالب المسلمين يخلصون لله في كثير من أعمالهم؛ كإخلاصهم في الأعمال المشتركة بينهم،
ج/ 18 ص -261- مثل صوم شهر رمضان، فغالب المسلمين يصومونه لله، وكذلك مَنْ داوم على الصلوات فإنه لا يصلي إلا لله عز وجل، بخلاف من لم يحافظ عليها فإنما يصلي حياءً، أو رياء، أو لعلة دنيوية؛ ولهذا قال ﷺ فيما رواه الترمذي: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله تعالى يقول: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ"" الآية [التوبة: 18] .
ومن لم يصل إلا بوضوء واغتسال فإنه لا يفعل ذلك إلا لله؛ ولهذا قال ﷺ فيما رواه أحمد، وابن ماجة من حديث ثوبان عنه أنه قال: "استقيموا ولن تُحْصُوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، فإن الوضوء سر بين العبد وبين الله عز وجل"، وقد ينتقض وضوؤه ولا يدري به أحد، فإذا حافظ عليه لم يحافظ عليه إلا لله سبحانه، ومن كان كذلك لا يكون إلا مؤمنا، والإخلاص في النفع المتعدي أقل منه في العبادات البدنية؛ ولهذا قال في الحديث المتفق على صحته: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" الحديث.
ج/ 18 ص -262-فصل
والنية محلها القلب باتفاق العلماء؛ فإن نوي بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم، وقد خَرَّج بعض أصحاب الشافعي وجهًا من كلام الشافعي غلط فيه على الشافعي؛ فإن الشافعي إنما ذكر الفرق بين الصلاة والإحرام بأن الصلاة في أولها كلام، فظن بعض الغالطين أنه أراد التكلم بالنية، وإنما أراد التكبير، والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله فلابد أن ينويه ضرورة، كمن قدم بين يديه طعامًا ليأكله فإذا علم أنه يريد الأكل فلابد أن ينويه، وكذلك الركوب وغيره، بل لو كُلِّف العباد أن يعملوا عملًا بغير نية كلفوا ما لا يطيقون؛ فإن كل أحد إذا أراد أن يعمل عملًا مشروعًا، أو غير مشروع فعلمه سابق إلى قلبه، وذلك هو النية، وإذا علم الإنسان أنه يريد الطهارة والصلاة والصوم فلابد أن ينويه إذا علمه ضرورة، وإنما يتصور عدم النية إذا لم يعلم ما يريد، مثل: من نسي الجنابة واغتسل للنظافة أو للتبرد، أو من يريد أن يُعَلِّم غيره الوضوء ولم يرد أنه يتوضأ لنفسه، أو من لا يعلم أن غدًا من رمضان فيصبح غير ناوٍ للصوم.
ج/ 18 ص -263- وأما المسلم الذي يعلم أن غدًا من رمضان وهو يريد صوم رمضان فهذا لابد أن ينويه ضرورة، ولا يحتاج أن يتكلم به، وأكثر ما يقع عدم التبييت والتعيين في رمضان عند الاشتباه، مثل: من لا يعلم أن غدًا من رمضان أم لا، فينوي صوم رمضان مطلقًا أو يقصد تطوعًا، ثم يتبين أنه من رمضان، ولو تكلم بلسانه بشيء وفي قلبه خلافه كانت العبرة بما في قلبه لا بما لفظ به، ولو اعتقد بقاء الوقت فنوي الصلاة أداء، ثم تبين خروج الوقت، أو اعتقد خروجه فنواها قضاء، ثم تبين له بقاؤه أجزأته صلاته بالاتفاق.
ومن عرف هذا تبين له أن النية مع العلم في غاية اليسر لا تحتاج إلى وسوسة وآصار وأغلال؛ ولهذا قال بعض العلماء: الوسوسة إنما تحصل للعبد من جهل بالشرع أو خَبَل في العقل.
وقد تنازع الناس: هل يستحب التلفظ بالنية؟ فقالت طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: يستحب ليكون أبلغ، وقالت طائفة من أصحاب مالك وأحمد: لا يستحب ذلك، بل التلفظ بها بدعة؛ فإن النبي ﷺ وأصحابه والتابعين لم ينقل عن واحد منهم أنه تكلم بلفظ النية لا في صلاة، ولا طهارة، ولا صيام، قالوا: لأنها تحصل مع العلم بالفعل ضرورة، فالتكلم بها نَوْعُ هَوَسٍ وعبث وهَذَيَان، والنية تكون في قلب الإنسان ويعتقد أنها ليست في قلبه، فيريد
ج/ 18 ص -264- تحصيلها بلسانه، وتحصيل الحاصل مُحَال، فلذلك يقع كثير من الناس في أنواع من الوسواس.
واتفق العلماء على أنه لا يسوغ الجهر بالنية، لا لإمام، ولا لمأموم، ولا لمنفرد، ولا يستحب تكريرها، وإنما النزاع بينهم في التكلم بها سرًا: هل يكره أو يستحب؟
فصل
لفظة [إنما] للحصر عند جماهير العلماء، وهذا مما يعرف بالاضطرار من لغة العرب، كما تعرف معاني حروف النفي والاستفهام والشرط، وغير ذلك، لكن تنازع الناس: هل دلالتها على الحصر بطريق المنطوق أو المفهوم؟ على قولين، والجمهور على أنه بطريق المنطوق، والقول الآخر قول بعض مثبتي المفهوم، كالقاضي أبي يعلى في أحد قوليه، وبعض الغلاة من نفاته، وهؤلاء زعموا أنها تفيد الحصر، واحتجوا بمثل قوله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ" [الأنفال: 2] .
وقد احتج طائفة من الأصوليين على أنها للحصر بأن حرف [إن] للإثبات وحرف [ما] للنفي فإذا اجتمعا حصل النفي والإثبات جميعًا،
ج/ 18 ص -265- وهذا خطأ عند العلماء بالعربية؛ فإن [ما] هنا هي ما الكافَّة، ليست ما النافية، وهذه الكافة تدخل على إن وأخواتها فتكفها عن العمل، وذلك لأن الحروف العاملة أصلها أن تكون للاختصاص؛ فإذا اختصت بالاسم أو بالفعل ولم تكن كالجزء منه عملت فيه، فإن وأخواتها اختصت بالاسم فعملت فيه، وتسمي الحروف المشبهة للأفعال؛ لأنها عملت نصبًا ورفعًا وكثرت حروفها، وحروف الجر اختصت بالاسم فعملت فيه، وحروف الشرط اختصت بالفعل فعملت فيه، بخلاف أدوات الاستفهام فإنها تدخل على الجملتين ولم تعمل، وكذلك ما المصدرية.
ولهذا القياس في ما النافية ألا تعمل أيضًا على لغة تميم، ولكن تعمل على اللغة الحجازية التي نزل بها القرآن في مثل قوله تعالى: "مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ" [المجادلة: 2] ، و "مَا هَذَا بَشَرًا" [يوسف: 31] ، استحسانًا لمشابهتها [ليس] هنا، لما دخلت ما الكافة على إن أزالت اختصاصها، فصارت تدخل على الجملة الإسمية والجملة الفعلية فبطل عملها، كقوله: "إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ" [الرعد: 7] ، وقوله:"إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" [الطور:16] .
وقد تكون ما التي بعد إن اسمًا لا حرفًا، كقوله: "إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" [طه: 69] ، بالرفع، أي: أن الذي صنعوه كيد ساحر، خلاف قوله: "إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" [طه: 72] ، فإن القراءة بالنصب لا تستقيم إذا كانت ما بمعني الذي، وفي كلا المعنيين الحصر موجود، لكن إذا
ج/ 18 ص -266-كانت ما بمعني الذي فالحصر جاء من جهة أن المعارف هي من صِيَغ العموم، فإن الأسماء إما معارف وإما نكرات، والمعارف من صيغ العموم والنكرة في غير الموجب كالنفي وغيره من صيغ العموم، فقوله: "إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ" [طه: 69] ، تقديره: إن الذي صنعوه كيد ساحر.
وأما الحصر في [إنما] فهو من جنس الحصر بالنفي والاستثناء، كقوله تعالى: "مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا" [الشعراء: 154] ، "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ" [آل عمران: 144] .
والحصر قد يعبر عنه بأن الأول محصور في الثاني، وقد يعبر عنه بالعكس، والمعني واحد، وهو أن الثاني أثبته الأول، ولم يثبت له غيره، مما يتوهم أنه ثابت له، وليس المراد أنك تنفي عن الأول كل ما سوي الثاني، فقوله: "إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ" [الرعد: 7] ، أي: إنك لست ربا لهم، ولا محاسبًا، ولا مجازيًا، ولا وكيلًا عليهم، كما قال: "لَّسْتَ عليهم بِمُصَيْطِرٍ" [الغاشية: 22] وكما قال: "فَإِنَّمَا عليكَ الْبَلاَغُ" [آل عمران: 20] ، "مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ" [المائدة: 75] ، ليس هو إلهًا ولا أمه إلهة، بل غايته أن يكون رسولًا، كما غاية محمد أن يكون رسولًا، وغاية مريم أن تكون صديقة.
وهذا مما استدل به على بطلان قول بعض المتأخرين: إنها نبية، وقد حَكَي الإجماع على عدم نبوة أحد من النساء القاضي أبو بكر
ج/ 18 ص -267- بن الطيب والقاضي أبو يعلى، والأستاذ أبوالمعالي الجويني، وغيرهم.
وكذلك قوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ" [آل عمران:144] ، أي: ليس مخلدًا في الدنيا لا يموت ولا يقتل، بل يجوز عليه ما جاز على إخوانه المرسلين من الموت أو القتل، "أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ على أَعْقَابِكُمْ" [آل عمران: 144] ، نزلت يوم أحد لما قيل: إن محمدًا قد قتل، وتلاها الصديق يوم مات رسول الله ﷺ، فقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حَي لا يموت، وتلا هذه الآية، فكأن الناس لم يسمعوها حتى تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فكان لا يوجد أحد إلا يتلوها.
فصل
وأما قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" الآية [الأنفال: 2] فهذه الآية أثبت فيها الإيمان لهؤلاء، ونفاه عن غيرهم، كما نفاه النبي ﷺ عمن نفاه عنه في الأحاديث مثل قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، فإياكم وإياكم" وكذلك قوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، ومن هذا
ج/ 18 ص -268-الباب قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا" الآية [الحجرات: 15] ، وقوله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ" الآية [النور:62].
وهذه المواضع قد تنازع الناس في نفيها، والذي عليه جماهير السلف وأهل الحديث وغيرهم: أن نفي الإيمان لانتفاء بعض الواجبات فيه، والشارع دائمًا لا ينفي المسمي الشرعي إلا لانتفاء واجب فيه، وإذا قيل: المراد بذلك نفي الكمال فالكمال نوعان: واجب، ومستحب، فالمستحب؛ كقول بعض الفقهاء: الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ، أي: كامل المستحبات، وليس هذا الكمال هو المنفي في لفظ الشارع، بل المنفي هو الكمال الواجب وإلا فالشارع لم ينف الإيمان ولا الصلاة ولا الصيام ولا الطهارة، ولا نحو ذلك من المسميات الشرعية لانتفاء بعض مستحباتها؛ إذ لو كان كذلك لانتفي الإيمان عن جماهير المؤمنين، بل إنما نفاه لانتفاء الواجبات، كقوله عليه الصلاة والسلام : "لا صيام لمن لم يبيت النية"، و"لا صلاة إلا بأم القرآن".
وقد رويت عنه ألفاظ تنازع الناس في ثبوتها عنه، مثل: قوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، "ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، من ثبتت عنده هذه الألفاظ فعليه أن يقول بموجبها،
ج/ 18 ص -269- فيوجب ما تضمنته من التبييت، وذكر اسم الله، وإجابة المؤذن، ونحو ذلك. ثم إذا ترك الإنسان بعض واجبات العبادة، هل يقال: بطلت كلها، فلا ثواب له عليها؟ أم يقال: يثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه؟ وهل عليه إعادة ذلك؟ هذا يكون بحسب الأدلة الشرعية، فمن الواجبات في العبادة ما لا تبطل العبادة بتركه ولا إعادة على تاركه، بل يجبر المتروك؛ كالواجبات في الحج التي ليست أركانًا، مثل: رمي الجمار، وأن يحرم من غير الميقات، ونحو ذلك.
وكذلك الصلاة عند الجمهور؛ كمالك وأحمد، وغيرهم، فيها واجب لا تبطل الصلاة بتركه عندهم، كما يقول أبو حنيفة في الفاتحة والطمأنينة. وكما يقول مالك وأحمد في التشهد الأول، لكن مالك وأحمد يقولان: ما تركه من هذا سهوًا فعليه أن يسجد للسهو، وأما إذا تركه عمدًا فتبطل صلاته، كما تبطل الصلاة بترك التشهد الأول عمدًا في المشهور من مذهبيهما، لكن أصحاب مالك يسمون هذا سنة مؤكدة، ومعناه معني الواجب عندهم.
وأما أبو حنيفة فيقول: من ترك الواجب الذي ليس بفرض عمدًا أساء ولا إعادة عليه، والجمهور يقولون: لا نعهد في العبادة واجبًا فيما يتركه الإنسان إلى غير بدل، ولا إعادة عليه، فلابد من وجوب البدل للإعادة. ولكن مع هذا اتفقت الأئمة على أن من ترك
ج/ 18 ص -270- واجبًا في الحج ليس بركن، ولم يجبره بالدم الذي عليه لم يبطل حجه، ولا تجب إعادته، فهكذا يقول جمهور السلف وأهل الحديث: أن من ترك واجبًا من واجبات الإيمان الذي لا يناقض أصول الإيمان - فعليه أن يجبر إيمانه؛ إما بالتوبة، وإما بالحسنات المكفرة. فالكبائر يتوب منها، والصغار تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن لم يفعل لم يحبط إيمانه جملة.
وأصلهم أن الإيمان يتبعَّض، فيذهب بعضه ويبقي بعضه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، ولهذا مذهبهم أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
وأما الذين أنكروا تبعضه وتفاضله كأنهم قالوا: متى ذهب بعضه ذهب سائره، ثم انقسموا قسمين: فقالت الخوارج والمعتزلة: فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان، فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلًا بحال.
ثم قالت الخوارج: هو كافر، وقالت المعتزلة: ليس بكافر ولا مؤمن، بل هو فاسق، ننزله منزلةً بين المنزلتين، فخالفوا الخوارج في الاسم ووافقوهم في الحكم، وقالوا: إنه مخلد في النار، لا يخرج منها
ج/ 18 ص -271- بشفاعة ولا غيرها.والحزب الثاني:وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان؛ لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال، وقالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ لأن الله فَرَّق بين الإيمان والأعمال في كتابه. ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول:إن الإيمان هو تصديق اللسان وقول القلب، وهذا المنقول عن حماد بن أبي سليمان ومن وافقه؛ كأبي حنيفة وغيره، وقال جَهْم والصَّالحي ومن وافقهما من أهل الكلام كأبي الحسن وغيره: إنه مجرد تصديق القلب.
وفصل الخطاب في هذا الباب أن اسم الإيمان قد يذكر مجردًا، وقد يذكر مقرونًا بالعمل أو بالإسلام. فإذا ذكر مجردًا تناول الأعمال كما في الصحيحين: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذي عن الطريق"، وفيهما أنه قال لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمس ما غنمتم"، وإذا ذكر مع الإسلام كما في حديث جبريل أنه سأل النبي ﷺ عن
ج/ 18 ص -272-الإيمان والإسلام والإحسان فَرَّق بينهما، فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله"، إلى آخره. وفي المسند عن النبي ﷺ: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب"، فلما ذكرهما جميعًا ذكر أن الإيمان في القلب، والإسلام ما يظهر من الأعمال.
وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة؛ لأنها لوازم ما في القلب؛ لأنه متى ثبت الإيمان في القلب، والتصديق بما أخبر به الرسول وجب حصول مقتضي ذلك ضرورة؛ فإنه ما أَسَرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفَلَتَات لسانه، فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة، فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر.
ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: "وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إليهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أولياء" [المائدة: 81] ، وقوله: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" الآية [المجادلة: 22] ، ونحوها فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيمًا إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلابد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي ﷺ: "ألا إن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب"،
ج/ 18 ص -273-وقال عمر لمن رآه يعبث في صلاته: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وفي الحديث: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه".
ولهذا كان الظاهر لازمًا للباطن من وجه وملزومًا له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزومًا، لا من جهة كونه لازمًا؛ فإن الدليل ملزوم المدلول، يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه، والدليل يَطَّرِدُ ولا ينعكس، بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس.
وتنازعوا في العلة هل يجب طردها، بحيث تبطل بالتخصيص والانتقاض؟ والصواب أن لفظ العلة يعبر به عن العلة التامة، وهو مجموع ما يستلزم الحكم، فهذه يجب طردها، ويعبر به عن المقتضي للحكم الذي يتوقف اقتضاؤه على ثبوت الشروط، وانتفاء الموانع، فهذه إذا تخلف الحكم عنها لغير ذلك بطلت.
وكذلك تنازعوا في انعكاسها، وهو أنه هل يلزم من عدم الحكم عدمها؟ فقيل: لا يجب انعكاسها؛ لجواز تعليل الحكم بعلتين. وقيل:يجب الانعكاس؛ لأن الحكم متى ثبت مع عدمها لم تكن مؤثرة فيه، بل كان غنيًا عنها، وعدم التأثير مبطل للعلة. وكثير من الناس يقول
ج/ 18 ص -274-بأن عدم التأثير يبطل العلة، ويقول بأن العكس ليس بشرط فيها، وآخرون يقولون: هذا تناقض.
والتحقيق في هذا أن العلة إذا عُدِمت عُدِم الحكم المتعلق بها بعينه، لكن يجوز وجود مثل ذلك الحكم بعلة أخري، فإذا وجد ذلك الحكم بدون علة أخرى علم أنها عديمة التأثير وبطلت، وأما إذا وجد نظير ذلك الحكم بعلة أخرى كان نوع ذلك الحكم معللا بعلتين، وهذا جائز، كما إذا قيل في المرأة المرتدة: كفرت بعد إسلامها، فتقتل قياسًا على الرجل؛ لقول النبي ﷺ: "لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدي ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زني بعد إحصانه، أو قتل نفسًا فقتل بها". فإذا قيل له لا تأثير لقولك: كفر بعد إسلامه، فإن الرجل يقتل بمجرد الكفر، وحينئذ فالمرأة لا تقتل بمجرد الكفر، فيقول: هذه علة ثابتة بالنص، وبقوله: "من بَدَّل دينه فاقتلوه" وأما الرجل فما قتلته لمجرد كفره، بل لكفره وجراءته؛ ولهذا لا أقتل من كان عاجزًا عن القتال؛ كالشيخ الهرم، ونحوه. وأما الكفر بعد الإسلام فعلة أخرى مبيحة للدم؛ ولهذا قتل بالردة من كان عاجزًا عن القتال كالشيخ الكبير.
وهذا قول مالك وأحمد،وإن كان ممن يري أن مجرد الكفر
ج/ 18 ص -275-يبيح القتال كالشافعي؛ قال: الكفر وحده علة، والكفر بعد الإسلام علة أخري.
وليس هذا موضع بسط هذه الأمور، وإنما ننبه عليها.
والمقصود أن لفظ الإيمان تختلف دلالته بالإطلاق والاقتران، فإذا ذُكِر مع العمل أريد به أصل الإيمان المقتضي للعمل، وإذا ذُكر وحده دخل فيه لوازم ذلك الأصل.
وكذلك إذا ذكر بدون الإسلام كان الإسلام جزءًا منه، وكان كل مسلم مؤمنًا، فإذا ذكر لفظ الإسلام مع الإيمان تميز أحدهما عن الآخر، كما في حديث جبريل، وكما في قوله تعالى: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" [الأحزاب: 35] ، ولهذا نظائر كلفظ المعروف والمنكر، والعدل والإحسان، وغير ذلك، ففي قوله: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" [الأعراف: 157] ، يدخل في لفظ المعروف كل مأمور به، وفي لفظ المنكر كل مَنهي عنه، وفي قوله تعالى: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" [العنكبوت: 45] ، جعل الفحشاء غير المنكر، وقوله: "وَيَنهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ" [النحل: 90] جعل الفحشاء والبغي غير المنكر.
وإذا قيل: هذا من باب عطف الخاص على العام، والعام على الخاص
ج/ 18 ص -276- فللناس هنا قولان: منهم من يقول: الخاص دخل في العام وخص بالذكر، فقد ذكر مرتين. ومنهم من يقول: تخصيصه بالذكر يقتضي أنه لم يدخل في العام، وقد يعطف الخاص على العام، كما في قوله: "وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ" [البقرة: 98] ، وقوله: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ" الآية [الأحزاب: 7] ، وقد يعطف العام على الخاص، كما في قوله تعالى: "وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا" [الأحزاب:27] .
وأصل الشبهة في الإيمان أن القائلين: أنه لا يتبعض قالوا: إن الحقيقة المركبة من أمور متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، كالعشرة المركبة من آحاد، فلو قلنا: إنه يتبعض لزم زوال بعض الحقيقة مع بقاء بعضها، فيقال لهم: إذا زال بعض أجزاء المركب تزول الهيئة الاجتماعية الحاصلة بالتركيب، لكن لا يلزم أن يزول سائر الأجزاء، والإيمان المؤلف من الأقوال الواجبة، والأعمال الواجبة الباطنة والظاهرة هو المجموع الواجب الكامل، وهذه الهيئة الاجتماعية. تزول بزوال بعض الأجزاء، وهذه هي المنفية في الكتاب والسنة في مثل قوله: "لا يزني الزاني" إلخ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا" الآيات [الحجرات: 15] ، ولكن لا يلزم أن تزول سائر الأجزاء، ولا أن سائر الأجزاء الباقية لا تكون من الإيمان بعد زوال بعضه. كما أن واجبات الحج من الحج الواجب الكامل، وإذا زالت زال
ج/ 18 ص -277- هذا الكمال ولم يزل سائر الحج.
وكذلك الإنسان الكامل يدخل في مسماه أعضاؤه كلها، ثم لو قطعت يداه ورجلاه لم يخرج عن اسم الإنسان، وإن كان قد زال منه بعض ما يدخل في الاسم الكامل.
وكذلك لفظ الشجرة والباب والبيت والحائط، وغير ذلك، يتناول المسمي في حال كمال أجزائه بعد ذهاب بعض أجزائه.
وبهذا تزول الشبهة التي أوردها الرازي ومن اتبعه، كالأصبهاني وغيره على الشافعي؛ فإن مذهبه في ذلك مذهب جمهور أهل الحديث والسلف، وقد اعترض هؤلاء بهذه الشبهة الفاسدة على السلف.
والإيمان يتفاضل من جهة الشارع، فليس ما أمر الله به كل عبد هو ما أمر الله به غيره، ولا الإيمان الذي يجب على كل عبد يجب على غيره، بل كانوا في أول الإسلام يكون الرجل مؤمنا كامل الإيمان، مستحقًا للثواب إذا فعل ما أوجبه الله عليه ورسوله، وإن كان لم يقع منه التصديق المفصل بما لم ينزل من القرآن، ولم يصم رمضان، ولم يحج البيت، كما أن من آمن في زمننا هذا إيمانًا تاما، ومات قبل دخول وقت صلاة عليه مات مستكملًا للإيمان الذي وجب عليه، كما أنه مستحق للثواب على إيمانه ذلك.
ج/ 18 ص -278- وأما بعد نزول ما نزل من القرآن وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله من الواجبات وتمكن من فعل ذلك فإنه لا يكون مستحقًا للثواب بمجرد ما كان يستحق به الثواب قبل ذلك، فلذلك يقول هؤلاء: لم يكن هذا مؤمنا بما كان به مؤمنا قبل ذلك، وهذا لأن الإيمان الذي شرع لهذا أعظم من الإيمان الذي شرع لهذا، وكذلك المستطيع الحج يجب عليه ما لا يجب على العاجز عنه، وصاحب المال يجب عليه من الزكاة ما لا يجب على الفقير، ونظائره متعددة.
وأما تفاصيله من جهة العبد؛ فتارة يقوم هذا من الإقرار والعمل بأعظم مما يقوم به هذا. وكل أحد يعلم أن ما في القلب من الأمور يتفاضل، حتى إن الإنسان يجد نفسه أحيانًا أعظم حبًا لله ورسوله وخشية لله، ورجاء لرحمته وتوكلًا عليه، وإخلاصًا منه في بعض الأوقات.
وكذلك المعرفة والتصديق تتفاضل في أصح القولين، وهذا أصح الروايتين عن أحمد، وقد قال غير واحد من الصحابة، كعمر بن حبيب الخَطْمِي وغيره: الإيمان يزيد وينقص، فإذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه.
ولهذا سُنَّ الاستثناء في الإيمان، فإن كثيرًا من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم استثنوا في الإيمان، وآخرون أنكروا الاستثناء فيه،
ج/ 18 ص -279- وقالوا: هذا شك. والذين استثنوا فيه منهم من أوجبه، ومنهم من لم يوجبه، بل جَوَّز تركه باعتبار حالتين، وهذا أصح الأقوال، وهذان القولان في مذهب أحمد وغيره، فمن استثني لعدم علمه بأنه غير قائم بالواجبات كما أمر الله ورسوله فقد أحسن، وكذلك من استثني لعدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثني تعليقًا للأمر بمشيئة الله تعالى لا شكا، ومن جزم بما هو في نفسه في هذه الحال كمن يعلم من نفسه أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فجزم بما هو متيقن حصوله في نفسه فهو محسن في ذلك.
وكثير من منازعات الناس في مسائل الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام هي منازعات لفظية، فإذا فصل الخطاب زال الارتياب. والله سبحانه أعلم بالصواب.
فصل
قوله ﷺ: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" ليس هو تحصيل للحاصل، لكنه إخبار بأن من نوي بعمله شيئًا فقد حصل له ما نواه، أي: من قصد بهجرته الله ورسوله حصل له ما قصده، ومن كان قَصْده الهجرة إلى دنيا أو امرأة فليس له إلا ذلك،فهذا تفصيل لقوله: "إنما الأعمال بالنيات"
ج/ 18 ص -280- ولما أخبر أن لكل امرئ ما نوي ذكر أن لهذا ما نواه ولهذا ما نواه.
والهجرة مشتقة من الهَجْر، وقد صَحَّ عن النبي ﷺ أنه قال: "المهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله"، كما قال: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أَمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم"، وهذا بيان منه لكمال مسمي هذا الاسم، كما قال: "ليس المسكين بهذا الطواف" إلخ، وقد يشبه هذا قوله: "ما تعُدُّون المفلس فيكم؟" قالوا: من ليس له درهم ولا دينار. قال: "ليس هذا المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم يَبْقَ له حسنة أُخِذَ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار". وقال: "ما تعدون الرَّقُوب فيكم؟" قالوا: من لا يُولد له. قال: "الرقوب من لم يُقِدِّم من ولده شيئًا"، ومثله قوله: "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
لكن في هذه الأحاديث مقصود وبيان ما هو أحق بأسماء المدح والذم مما يظنونه. فإن الإفلاس حاجة وذلك مكروه، فبين أن حقيقة الحاجة إنما تكون يوم القيامة، وكذلك عدم الولد تكرهه النفوس لعدم الولد النافع، فبين أن الانتفاع بالولد حقيقة إنما يكون في الآخرة لمن
ج/ 18 ص -281- قَدَّم أولاده بين يديه، وكذلك الشدة والقوة محبوبة، فبين أن قوة النفوس أحق بالمدح من قوة البدن، وهو أن يملك نفسه عند الغضب، كما قيل لبعض سادات العرب: ما بال عبيدكم أَصْبَر منكم عند الحرب وعلى الأعمال؟ قال: هم أصبر أجسادًا، ونحن أصبر نفوسًا.
وأما قوله: في اسم المسلمين فهو من جنس قوله: في المسلم والمؤمن والمهاجر والمجاهد، وهذا مطابق لما تقدم من أن الشارع لا ينفي مسمي اسْمٍ شرعي إلا لانتفاء كماله الواجب؛ فإن هَجْرَ ما نهى الله عنه واجب، وسلامة المسلمين من عدوان الإنسان بلسانه ويده واجب، والمؤمن على دمائهم وأموالهم لا يكون من أمنه الناس إلا إذا كان أمينًا والأمانة واجبة، والمسكين الذي لا يسأل ولا يعرف هو أحق بالإعطاء ممن أظهر حاجته وسؤاله، وعطاؤه واجب، وتخصيص السائل بالعطاء دون هذا لا يجوز، بل تخصيص الذي لا يسأل أولى وأوجب وأحب.
وقد قال ﷺ:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية؛ وإذا اسْتُنْفِرتم فانفروا"، وقال: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو" وكلاهما حق. فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه، وهي الهجرة إلى المدينة من مكة وغيرها من أرض العرب، فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها، فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام، ودخلت العرب في الإسلام
ج/ 18 ص -282- صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام، فقال: "لا هجرة بعد الفتح". وكون الأرض دار كفر ودار إيمان أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها، بل هي صفة عارضة بحسب سكانها، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت، فإن سكنها غير ما ذكرنا وتبدلت بغيرهم فهي دارهم.
وكذلك المسجد إذا تبدل بخمارة، أو صار دار فسق، أو دار ظلم، أو كنيسة يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه، وكذلك دار الخمر والفسوق، ونحوها، إذا جعلت مسجدًا يعبد الله فيه جل وعز كان بحسب ذلك، وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقًا والكافر يصير مؤمنًا، أو المؤمن يصير كافرًا،أو نحو ذلك، كُلُّ بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال، وقد قال تعالى: "وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً" الآية [النحل: 112] ، نزلت في مكة لما كانت دار كفر، وهي ما زالت في نفسها خير أرض الله وأحب أرض الله إليه، وإنما أراد سكانها. فقد روي الترمذي مرفوعًا، أنه قال لمكة وهو واقف بالحَزْوَرَةِ: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت". وفي رواية: "خير أرض الله وأحب أرض الله إلى" فبين أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله، وكان مقامه بالمدينة ومقام
ج/ 18 ص -283-من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة؛ لأجل أنها دار هجرتهم؛ ولهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة والمدينة، كما ثبت في الصحيح: "رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وجري عليه عمله، وأجري رزقه من الجنة وأَمِنَ الفَتَّان".
وفي السنن، عن عثمان، عن النبي ﷺ، أنه قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود؛ ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أَطْوَع لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوي والطاعة والخشوع والخضوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يقدس العبد عمله. وكان النبي ﷺ قد آخي بين سلمان وأبي الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا.
وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام : "سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ" [الأعراف:145] ، وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة، ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين، وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة،
ج/ 18 ص -284-وأرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل، فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلمًا، وتارة كافرًا، وتارة مؤمنًا، وتارة منافقًا، وتارة برًا تقيًا، وتارة فاسقًا، وتارة فاجرًا شقيًا.
وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة، والله تعالى قال: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ" [الأنفال:75] .
قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة، وهكذا قوله تعالى: "لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" [النحل: 110] ، يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه، أو أوقعه في معصية، ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو، وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وغير ذلك وصبر على ما أصابه من قول أو فعل. والله سبحانه وتعالى أعلم.