أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

شرح حديث "إني حرمت الظلم على نفسي"

    ج/ 18 ص -136- سئل شيخ الإسلام عن معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال‏:‏ ‏"‏ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏.‏ يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم‏.‏ يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم‏.‏ ياعبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم‏.‏ ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم‏.‏ ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‏.‏ ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم مازاد ذلك في ملكي شيئًا‏.‏ ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا‏.‏ يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر‏.‏ يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم

    ج/ 18 ص -137- إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله -عز وجل- ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ أما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي‏"‏ ففيه مسألتان كبيرتان، كل منهما ذات شعبوفروع‏:‏
    إحداهما‏:‏ في الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفاه عن نفسه بقوله‏:‏
    ‏"‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ‏"‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏"‏ [‏ فصلت‏:‏ 46‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏ ، ونفي إرادته بقوله‏:‏ ‏"‏وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 108‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ‏"‏[‏غافر‏:‏ 31‏]‏ ، ونفي خوف العباد له بقوله‏:‏ ‏"‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏ ، فإن الناس تنازعوا في معنى هذا الظلم تنازعًا صاروا فيه بين طرفين متباعدين ووسط بينهما، وخيار الأمور أوساطها، وذلك بسبب البحث في القدر ومجامعته للشرع؛ إذ الخوض في ذلك بغير علم تام أوجب ضلال عامة الأمم؛ ولهذا نهى النبي ﷺ أصحابه عن التنازع فيه‏.‏

    ج/ 18 ص -138- فذهب المكذبون بالقدر القائلون‏:‏ بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يرد أن يكون إلا ما أمر بأن يكون‏.‏ وغلاتهم المكذبون بتقدم علم الله وكتابه بما سيكون من أفعال العباد من المعتزلة وغيرهم، إلى أن الظلم منه هو نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه ومثلوه في الأفعال بأفعال العباد، حتى كانوا هم ممثلة الأفعال، وضربوا لله الأمثال، ولم يجعلوا له المثل الأعلى، بل أوجبوا عليه وحرموا ما رأوا أنه يجب على العباد ويحرم، بقياسه على العباد، وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وقالوا عن هذا‏:‏ إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالمًا له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالًا، كما قالوا‏:‏ إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا‏:‏ إذا أمر اثنين بأمر واحد وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا، إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلمًا‏.‏
    وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرًا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم، وإن كان ذلك الاستحقاق خلقه لحكمة أخرى عامة أو خاصة‏.‏
    وهذا الموضع زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، فعارض هؤلاء آخرون من أهل الكلام المثبتين للقدر، فقالوا‏:‏ ليس للظلم منه حقيقة

    ج/ 18 ص -139- يمكن وجودها، بل هو من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوز أن يكون مقدورًا ولا أن يقال‏:‏ إنه هو تارك له باختياره ومشيئته‏.‏ وإنما هو من باب الجمع بين الضدين، وجعل الجسم الواحد في مكانين، وقلب القديم محدثًا، والمحدث قديمًا، وإلا فمهما قدر في الذهن وكان وجوده ممكنًا والله قادر عليه فليس بظلم منه، سواء فعله أو لم يفعله‏.‏
    وتلقي هذا القول عن هؤلاء طوائف من أهل الإثبات من الفقهاء وأهل الحديث، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ومن شراح الحديث ونحوهم، وفسروا هذا الحديث بما ينبني على هذا القول، وربما تعلقوا بظاهر من أقوال مأثورة، كما روينا عن إياس ابن معاوية أنه قال‏:‏ ما ناظرت بعقلي كله أحدًا إلا القدرية، قلت لهم‏:‏ ما الظلم‏؟‏ قالوا‏:‏ أن تأخذ ما ليس لك، أو أن تتصرف فيما ليس لك‏.‏ قلت‏:‏ فلله كل شيء‏.‏ وليس هذا من إياس إلا ليبين أن التصرفات الواقعة هي في ملكه، فلا يكون ظلمًا بموجب حدهم، وهذا مما لا نزاع بين أهل الإثبات فيه؛ فإنهم متفقون مع أهل الإيمان بالقدر على أن كل ما فعله الله فهو عدل‏.‏
    وفي حديث الكرب الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ
    ‏:‏ ‏"‏ما أصاب عبدًا قط هم ولا حزن فقال‏:‏ اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك،

    ج/ 18 ص -140- ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحًا‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفلا نتعلمهن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن‏"‏، فقد بين أن كل قضائه في عبده عدل؛ ولهذا يقال‏:‏ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل‏.‏ ويقال‏:‏ أطعتك بفضلك والمنة لك، وعصيتك بعلمك أو بعدلك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك على وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي‏.‏
    وهذه المناظرة من إياس كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن لغيلان حين قال له غيلان‏:‏ نشدتك الله‏!‏ أتري الله يحب أن يعصي‏؟‏ فقال‏:‏ نشدتك الله‏!‏ أتري الله يعصي قسرًا‏؟‏ يعني‏:‏ قهرًا‏.‏ فكأنما ألقمه حجرًا فإن قوله‏:‏ يحب أن يعصي لفظ فيه إجمال، وقد لا يتأتي في المناظرة تفسير المجملات خوفًا من لدد الخصم فيؤتي بالواضحات، فقال‏:‏ أفتراه يعصي قسرًا‏؟‏ فإن هذا إلزام له بالعجز الذي هو لازم للقدرية، ولمن هو شر منهم من الدهرية الفلاسفة وغيرهم‏.‏
    وكذلك إياس رأي أن هذا الجواب المطابق لحدهم خاصم لهم، ولم يدخل معهم في التفصيل الذي يطول‏.‏

    ج/ 18 ص -141- وبالجملة،فقوله تعالى‏:‏‏"‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏"‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏ ، قال أهل التفسير من السلف‏:‏ لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم فينقص من حسناته، ولا يجوز أن يكون هذا الظلم هو شيء ممتنع غير مقدور عليه، فيكون التقدير‏:‏ لا يخاف ما هو ممتنع لذاته، خارج عن الممكنات والمقدورات، فإن مثل هذا إذا لم يكن وجوده ممكنًا حتى يقولوا‏:‏ إنه غير مقدور، ولو أراده كخلق المثل له فكيف يعقل وجوده‏؟‏ فضلًا أن يتصور خوفه حتى ينفي خوفه، ثم أي فائدة في نفي خوف هذا‏؟‏ وقد علم من سياق الكلام أن المقصود بيان أن هذا العامل المحسن لا يجزي على إحسانه بالظلم والهضم‏.‏ فعلم أن الظلم والهضم المنفي يتعلق بالجزاء كما ذكره أهل التفسير، وأن الله لا يجزيه إلا بعمله؛ ولهذا كان الصواب الذي دلت عليه النصوص‏:‏ أن الله لا يعذب في الآخرة إلا من أذنب؛ كما قال‏:‏ ‏"‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏"‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ ، فلو دخلها أحد من غير أتباعه لم تمتلئ منهم؛ ولهذا ثبت في الصحيحين في حديث تحاج الجنة والنار من حديث أبي هريرة وأنس‏:‏ ‏"‏أن النار لا تمتلئ ممن كان ألقي فيها حتى ينزوي بعضها إلى بعض، وتقول قط قط‏!‏ بعد قولها‏:‏ ‏"‏هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏ وأما الجنة فيبقي فيها فضل عمن يدخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها خلقًا آخر‏"‏‏.‏‏.‏

    ج/ 18 ص -142- ولهذا كان الصواب الذي عليه الأئمة فيمن لم يكلف في الدنيا من أطفال المشركين، ونحوهم ما صح به الحديث، وهو‏:‏ أن الله أعلم بما كانوا عاملين، فلا نحكم لكل منهم بالجنة ولا لكل منهم بالنار، بل هم ينقسمون بحسب ما يظهر من العلم إذا كلفوا يوم القيامة في العرصات كما جاءت بذلك الآثار‏.‏
    وكذلك قوله تعالى‏:‏
    ‏"‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعليها وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ ، يدل الكلام على أنه لا يظلم محسنًا، فينقصه من إحسانه أو يجعله لغيره، ولا يظلم مسيئًا، فيجعل عليه سيئات غيره، بل لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏"‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏ 36‏:‏ 39‏]‏ ، فأخبر أنه ليس على أحد من وزر غيره شيء، وأنه لا يستحق إلا ما سعاه، وكلا القولين حق على ظاهره، وإن ظن بعض الناس أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ينافي الأول فليس كذلك؛ إذ ذلك النائح يعذب بنوحه لا يحمل الميت وزره، ولكن الميت يناله ألم من فعل هذا، كما يتألم الإنسان من أمور خارجة عن كسبه وإن لم يكن جزاء الكسب‏.‏ والعذاب أعم من العقاب، كما قال ﷺ‏:‏ ‏"‏السفر قطعة من العذاب‏"‏‏.‏

    ج/ 18 ص -143- وكذلك ظن قوم أن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحي ينافي قوله‏:‏ ‏"‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏"‏ [‏النجم‏:‏ 39‏]‏ ، فليس الأمر كذلك؛ فإن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحي بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالعبادات المالية، ومن ادعي أن الآية تخالف أحدهما دون الآخر فقوله ظاهر الفساد، بل ذلك بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالدعاء والاستغفار والشفاعة، وقد بينا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلًا شرعيا يبين انتفاع الإنسان بسعي غيره؛ إذ الآية إنما نفت استحقاق السعي وملكه، وليس كل مالًا يستحقه الإنسان ولا يملكه لا يجوز أن يحسن إليه مالكه ومستحقه بما ينتفع به منه، فهذا نوع وهذا نوع، وكذلك ليس كل ما لا يملكه الإنسان لا يحصل له من جهته منفعة؛ فإن هذا كذب في الأمور الدينية والدنيوية‏.‏
    وهذه النصوص النافية للظلم تثبت العدل في الجزاء، وأنه لا يبخس عامل عمله، وكذلك قوله فيمن عاقبهم‏:‏
    ‏"‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ‏"‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 76‏]‏ ، بين أن عقاب المجرمين عدلًا لذنوبهم، لا لأنا ظلمناهم فعاقبناهم بغير ذنب‏.‏ والحديث الذي في السنن‏:‏ ‏"‏لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم‏"‏ يبين أن العذاب لو وقع؛ لكان لاستحقاقهم ذلك، لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من

    ج/ 18 ص -144- الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب‏.‏
    وكذلك قوله تعالى‏:‏
    ‏"‏وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عليكم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ‏"‏[‏غافر‏:‏30‏:‏ 31‏]‏ ، يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلمًا؛ لاستحقاقهم ذلك، وأن الله لا يريد الظلم، والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها، فعلم أن الله قادر على مانزه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله، وبذلك يصح قوله‏:‏ ‏"‏إني حرمت الظلم على نفسي‏"‏، وأن التحريم هو المنع، وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته، فلا يصلح أن يقال‏:‏ حرمت على نفسي أو منعت نفسي من خلق مثلي، أو جعل المخلوقات خالقة، ونحو ذلك من المحالات‏.‏ وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه‏:‏ إني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورًا لا يكون مني‏.‏ وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الرب، وأنه يجب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله، إذ هو مع كونه شبه التكرير وإيضاح الواضح ليس فيه مدح ولا ثناء، ولا ما يستفيده المستمع، فعلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور عليه لكنه لا يفعله؛ لأنه حرمه على نفسه، وهو سبحانه منزه عن فعله مقدس عنه‏.‏

    ج/ 18 ص -145- يبين ذلك أن ما قاله الناس في حدود الظلم يتناول هذا دون ذلك، كقول بعضهم‏:‏ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كقولهم‏:‏ من أشبه أباه فما ظلم‏.‏ أي‏:‏ فما وضع الشبه غير موضعه، ومعلوم أن الله سبحانه حكم عدل لا يضع الأشياء إلا مواضعها، ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعًا لذاته، بل هو ممكن لكنه لا يفعله؛ لأنه لا يريده، بل يكرهه ويبغضه، إذ قد حرمه على نفسه‏.‏
    وكذلك من قال‏:‏ الظلم إضرار غير مستحق‏.‏ فإن الله لا يعاقب أحدًا بغير حق‏.‏ وكذلك من قال‏:‏ هو نقص الحق وذكر أن أصله النقص كقوله‏:
    ‏ ‏"‏كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏ ‏.‏
    وأما من قال‏:‏ هو التصرف في ملك الغير فهذا ليس بمطرد ولا منعكس، فقد يتصرف الإنسان في ملك غيره بحق ولا يكون ظالمًا، وقد يتصرف في ملكه بغير حق فيكون ظالمًا، وظلم العبد نفسه كثير في القرآن‏.‏ وكذلك من قال‏:‏ فعل المأمور خلاف ما أمر به، ونحو ذلك إن سلم صحة مثل هذا الكلام فالله سبحانه قد كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، فهو لا يفعل خلاف ما كتب ولا يفعل ما حرم‏.‏
    وليس هذا الجواب موضع بسط هذه الأمور التي نبهنا عليها فيه

    ج/ 18 ص -146- وإنما يشير إلى النكت، وبهذا يتبين القول المتوسط، وهو أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه مثل‏:‏ أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي ينزه الرب عنها لقسطه وعدله وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد والثناء؛ لأنه ترك هذا الظلم وهو قادر عليه‏.‏ وكما أن الله منزه عن صفات النقص والعيب فهو - أيضًا - منزه عن أفعال النقص والعيب‏.‏
    وعلى قول الفريق الثاني ما ثم فعل يجب تنزيه الله عنه أصلًا، والكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها يدل على خلاف ذلك، ولكن متكلمو أهل الإثبات لما ناظروا متكلمة النفي ألزموهم لوازم لم ينفصلوا عنها إلا بمقابلة الباطل بالباطل، وهذا مما عابه الأئمة وذموه، كما عاب الأوزاعي والزبيدي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم مقابلة القدرية بالغلو في الإثبات، وأمروا بالاعتصام بالكتاب والسنة، وكما عابوا أيضًا على من قابل الجهمية نفاة الصفات بالغلو في الإثبات حتى دخل في تمثيل الخالق بالمخلوق‏.‏ وقد بسطنا الكلام في هذا وهذا، وذكرنا كلام السلف والأئمة في هذا في غير هذا الموضع‏.‏
    ولو قال قائل‏:‏ هذا مبني على ‏[‏مسألة تحسين العقل وتقبيحه‏]‏ ، فمن قال‏:‏ العقل يعلم به حسن الأفعال وقبحها فإنه ينزه الرب عن بعض

    ج/ 18 ص -147- الأفعال، ومن قال‏:‏ لا يعلم ذلك إلا بالسمع فإنه يجوز جميع الأفعال عليه لعدم النهي في حقه، قيل له‏:‏ ليس بناء هذه على تلك بلازم، وبتقدير لزومها ففي تلك تفصيل وتحقيق قد بسطناه في موضعه، وذلك أنا فرضنا أنا نعلم بالعقل حسن بعض الأفعال وقبحها، لكن العقل لا يقول‏:‏ إن الخالق كالمخلوق، حتى يكون ما جعله حسنًا لهذا أو قبيحًا له جعله حسنًا للآخر أو قبيحًا له، كما يفعل مثل ذلك القدرية؛ لما بين الرب والعبد من الفروق الكثيرة‏.‏ وإن فرضنا أن حسن الأفعال وقبحها لا يعلم إلا بالشرع، فالشرع قد دل على أن الله قد نزه نفسه عن أفعال وأحكام - فلا يجوز أن يفعلها- تارة بخبره مثنيا على نفسه بأنه لا يفعلها، وتارة بخبره أنه حرمها على نفسه‏.‏
    وهذا يبين المسألة الثانية‏.‏ فنقول‏:‏ الناس لهم في أفعال الله باعتبار ما يصلح منه ويجوز وما لا يجوز منه ثلاثة أقوال‏:‏ طرفان ووسط‏.‏
    فالطرف الواحد‏:‏ طرف القدرية، وهم الذين حجروا عليه أن يفعل إلا ما ظنوا بعقلهم أنه الجائز له، حتى وضعوا له شريعة التعديل والتجويز، فأوجبوا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، وحرموا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، لا بمعنى أن العقل آمر له وناهٍ؛ فإن هذا لا يقوله عاقل‏.‏ بل بمعنى أن تلك الأفعال مما

    ج/ 18 ص -148- علم بالعقل وجوبها وتحريمها، ولكن أدخلوا في ذلك المنكرات ما بنوه على بدعتهم في التكذيب بالقدر وتوابع ذلك‏.‏
    والطرف الثاني‏:‏ طرف الغلاة في الرد عليهم، وهم الذين قالوا‏:‏ لا ينزه الرب عن فعل من الأفعال، ولا نعلم وجه امتناع الفعل منه إلا من جهة خبره أنه لا يفعله، المطابق لعلمه بأنه لا يفعله‏.‏ وهؤلاء منعوا حقيقة ما أخبر به من أنه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، قال اللّه تعالى ‏:‏
    ‏"‏وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏"‏ ‏[‏ الأنعام‏:‏ 54‏]‏ ‏.‏
    وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ
    قال‏:‏ ‏"‏إن اللّه لما قضي الخلق كتب على نفسه كتابا، فهو موضوع عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتي تغلب غضبي‏"‏، ولم يعلم هؤلاء أن الخبر المجرد المطابق للعلم لا يبين وجه فعله وتركه؛ إذ العلم يطابق المعلوم، فعلمه بأنه يفعل هذا وأنه لا يفعل هذا ليس فيه تعرض؛ لأنه كتب هذا على نفسه وحرم هذا على نفسه، كما لو أخبر عن كائن من كان أنه يفعل كذا ولا يفعل كذا، لم يكن في هذا بيان؛ لكونه محمودًا ممدوحًا على فعل هذا وترك هذا، ولا في ذلك ما يبين قيام المقتضي لهذا والمانع من هذا؛ فإن الخبر المحض كاشف عن المخبر عنه، ليس فيه بيان ما يدعو إلى الفعل ولا إلى الترك، بخلاف قوله‏:‏ ‏"‏كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]

    ج/ 18 ص -149- ‏"‏وحرم على نفسه الظلم‏"‏ فإن التحريم مانع من الفعل، وكتابته على نفسه داعية إلى الفعل، وهذا بين واضح؛ إذ ليس المراد بذلك مجرد كتابته أنه يفعل، وهو كتابة التقدير، كما قد ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏أنه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء‏"‏؛ فإنه قال‏:‏‏"‏كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏"‏، ولو أريد كتابة التقدير لكان قد كتب على نفسه الغضب، كما كتب على نفسه الرحمة؛ إذ كان المراد مجرد الخبر عما سيكون، ولكان قد حرم على نفسه كل ما لم يفعله من الإحسان كما حرم الظلم‏.‏
    وكما أن الفرق ثابت في حقنا بين قوله‏:‏ ‏
    "‏كُتِبَ عليكم الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏ وبين قوله‏:‏ ‏"‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ‏"‏ ‏[‏القمر‏:‏ 52‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏فيبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له‏:‏ اكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد‏"‏‏.‏ فهكذا الفرق أيضًا ثابت في حق اللّه‏.‏
    ونظير ما ذكره من كتابته على نفسه كما تقدم قوله تعالى‏:‏
    ‏"‏وَكَانَ حَقًّا علينَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏ ، وقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏يامعاذ، أتدري ماحق اللّه على عباده‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ اللّه

    ج/ 18 ص -150-ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا‏.‏ أتدري ماحق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ اللّه ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏حقهم عليه ألا يعذبهم‏"‏، ومنه قوله في غير حديث‏:‏ ‏"‏كان حقًا على الله أن يفعل به كذا‏"‏‏.‏ فهذا الحق الذي عليه هو أحقه على نفسه بقوله‏.‏
    ونظير تحريمه على نفسه وإيجابه على نفسه ما أخبر به من قسمه ليفعلن وكلمته السابقة، كقوله‏
    :‏ ‏"‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ‏"‏[‏يونس‏:‏ 19‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ‏"‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ ،و ‏"‏لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 13‏]‏ ، ‏"‏فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏ ، ‏"‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهمْ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 6‏]‏ ، ونحو ذلك من صِيَغ القسم المتضمنة معنى الإيجاب والمعني، بخلاف القسم المتضمن للخبر المحض‏.‏
    ولهذا قال الفقهاء‏:‏ اليمين إما أن توجب حقًا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا‏.‏ وإذا كان معقولا في الإنسان أنه يكون آمرًا مأمورًا كقوله‏:‏
    ‏"‏إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 53‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏"‏[‏النازعات‏:‏ 40‏]‏ ، مع أن العبد له آمر وناهٍ فوقه، والرب الذي ليس فوقه أحد لأن يتصور أن يكون هو الآمر الكاتب على نفسه الرحمة، والناهي المحرم على نفسه الظلم أولي

    ج/ 18 ص -151- وأحري، وكتابته على نفسه ذلك تستلزم إرادته لذلك ومحبته له ورضاه بذلك، وتحريمه الظلم على نفسه يستلزم بغضه لذلك وكراهته له، وإرادته ومحبته للفعل توجب وقوعه منه، وبغضه له وكراهته لأن يفعله يمنع وقوعه منه‏.‏ فأما ما يحبه ويبغضه من أفعال عباده فذلك نوع آخر، ففرق بين فعله هو وبين ماهو مفعول مخلوق له، وليس في مخلوقه ماهو ظلم منه وإن كان بالنسبة إلى فاعله الذي هو الإنسان هو ظلم، كما أن أفعال الإنسان هي بالنسبة إليه تكون سرقة وزنا وصلاة وصوما، واللّه تعالى خالقها بمشيئته، وليست بالنسبة إليه كذلك؛ إذ هذه الأحكام هي للفاعل الذي قام به هذا الفعل، كما أن الصفات هي صفات للموصوف الذي قامت به لا للخالق الذي خلقها وجعلها صفات، واللّه - تعالى - خلق كل صانع وصنعته كما جاء ذلك في الحديث، وهو خالق كل موصوف وصفته‏.‏
    ثم صفات المخلوقات ليست صفات له؛ كالألوان والطعوم والروائح لعدم قيام ذلك به‏.‏ وكذلك حركات المخلوقات ليست حركات له ولا أفعالا له بهذا الاعتبار؛ لكونها مفعولات هو خلقها‏.‏ وبهذا الفرق تزول شبه كثيرة‏.‏ والأمر الذي كتبه على نفسه يستحق عليه الحمد والثناء وهو مقدس عن ترك هذا الذي لو ترك لكان تركه نقصًا، وكذلك الأمر الذي حرمه على نفسه يستحق الحمد والثناء على تركه، وهو مقدس عن فعله الذي لو كان لأوجب نقصًا‏.‏

    ج/ 18 ص -152- وهذا كله بين - وللّه الحمد - عند الذين أوتوا العلم والإيمان، وهو أيضًا مستقر في قلوب عموم المؤمنين، ولكن القدرية شبهوا على الناس بشبههم، فقابلهم من قابلهم بنوع من الباطل، كالكلام الذي كان السلف والأئمة يذمونه؛ وذلك أن المعتزلة قالوا‏:‏ قد حصل الاتفاق على أن اللّه ليس بظالم، كما دل عليه الكتاب والسنة، والظالم من فعل الظلم، كما أن العادل من فعل العدل، هذا هو المعروف عند الناس من مسمي هذا الاسم سمعًا وعقلا، قالوا‏:‏ ولو كان الله خالقًا لأفعال العباد التي هي الظلم لكان ظالمًا‏.‏ فعارضهم هؤلاء بأن قالوا‏:‏ ليس الظالم من فعل الظلم، بل الظالم من قام به الظلم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الظالم من اكتسب الظلم وكان منهيًا عنه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الظالم من فعل محرما عليه أو ما نهي عنه‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ من فعل الظلم لنفسه‏.‏ وهؤلاء يعنون‏:‏ أن يكون الناهي له والمحرم عليه غيره الذي يجب عليه طاعته؛ ولهذا كان تصور الظلم منه ممتنعًا عندهم لذاته؛ كامتناع أن يكون فوقه آمر له وناه‏.‏ ويمتنع عند الطائفتين أن يعود إلى الرب من أفعاله حكم لنفسه‏.‏
    وهؤلاء لم يمكنهم أن ينازعوا أولئك في أن العادل من فعل العدل بل سلموا ذلك لهم، وإن نازعهم بعض الناس منازعة عنادية‏.‏

    ج/ 18 ص -153- والذي يكشف تلبيس المعتزلة أن يقال لهم‏:‏الظالم والعادل الذي يعرفه الناس، وإن كان فاعلا للظلم والعدل فذلك يأثم به أيضًا، ولا يعرف الناس من يسمي ظالمًا ولم يقم به الفعل الذي به صار ظالمًا، بل لا يعرفون ظالمًا إلا من قام به الفعل الذي فعله وبه صار ظالمًا، وإن كان فعله متعلقًا بغيره وله مفعول منفصل عنه‏.‏ لكن لا يعرفون الظالم إلا بأن يكون قد قام به ذلك، فكونكم أخذتم في حد الظالم أنه من فعل الظلم وعنيتم بذلك من فعله في غيره - فهذا تلبيس وإفساد للشرع والعقل واللغة، كما فعلتم في مسمي المتكلم حيث قلتم‏:‏ هو من فعل الكلام ولو في غيره‏.‏ وجعلتم من أحدث كلاما منفصلا عنه قائمًا بغيره متكلما وإن لم يقم به هو كلام أصلا‏.‏ وهذا من أعظم البهتان والقرمطة والسَّفْسَطة‏.‏
    ولهذا ألزمهم السلف أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات، وكذلك أيضًا ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق وإنما قالت الجلود‏:‏
    ‏"‏أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ ، ولم تقل‏:‏ نطق اللّه بذلك؛ ولهذا قال من قال من السلف كسليمان بن داود الهاشمي وغيره ما معناه‏:‏ إنه على هذا يكون الكلام الذي خلق في فرعون حتى قال‏:‏ ‏"‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏"‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ ، كالكلام الذي خلق في الشجرة حتى قالت‏:‏ ‏"‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا‏"‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ ، فإما أن يكون فرعون محقًا، أو

    ج/ 18 ص -154- تكون الشجرة كفرعون‏.‏ وإلى هذا المعنى يَنْحُو الاتحادية من الجهمية وينشدون‏:‏

    وكل كلام في الوجود كلامه سواء علىنا نثره ونظامه

    وهذا يستوعب أنواع الكفر؛ ولهذا كان من الأمر البين للخاصة والعامة أن مَنْ قال‏:‏ المتكلم لا يقوم به كلام أصلا - فإن حقيقة قوله أنه ليس بمتكلم؛ إذ ليس المتكلم إلا هذا؛ ولهذا كان أولوهم يقولون‏:‏ ليس بمتكلم‏.‏ ثم قالوا‏:‏ هو متكلم بطريق المجاز، وذلك لما استقر في الفطر أن المتكلم لابد أن يقوم به كلام وإن كان مع ذلك فاعلا له، كما يقوم بالإنسان كلامه وهو كاسب له‏.‏ أما أن يجعل مجرد أحداث الكلام في غيره كلاما له - فهذا هو الباطل‏.‏
    وهكذا القول في الظلم، فَهَبْ أن الظالم من فعل الظلم فليس هو من فعله في غيره، ولم يقم به فعل أصلا، بل لابد أن يكون قد قام به فعل، وإن كان متعديا إلى غيره، فهذا جواب‏.‏ ثم يقال لهم‏:‏ الظلم فيه نسبة وإضافة، فهو ظلم من الظالم، بمعنى أنه عدوان وبغي منه، وهو ظلم للمظلوم، بمعنى أنه بغي واعتداء عليه‏.‏ وأما من لم يكن متعدي عليه به ولا هو منه عدوان على غيره فهو في حقه ليس بظلم، لا منه ولا له‏.‏

    ج/ 18 ص -155- واللّه سبحانه إذا خلق أفعال العباد فذلك من جنس خلقه لصفاتهم فهم الموصوفون بذلك، فهو سبحانه إذا جعل بعض الأشياء أسود، وبعضها أبيض، أو طويلا، أو قصيرًا، أو متحركا، أو ساكنًا‏.‏ أو عالمًا، أو جاهلا، أو قادرًا، أو عاجزًا، أو حيًا، أو ميتًا‏.‏ أو مؤمنًا أو كافرًا، أو سعيدًا، أو شقيًا، أو ظالمًا‏.‏ أو مظلومًا كان ذلك المخلوق هو الموصوف بأنه الأبيض والأسود، والطويل والقصير، والحي والميت، والظالم والمظلوم، ونحو ذلك‏.‏ واللّه سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وإنما إحداثه للفعل الذي هو ظلم من شخص وظلم لآخر بمنزلة إحداثه الأكل والشرب الذي هو أكل من شخص وأكل لآخر، وليس هو بذلك آكلا ولا مأكولا‏.‏
    ونظائر هذا كثيرة، وإن كان في خلق أفعال العباد لازمها ومتعديها حكم بالغة، كما له حكمة بالغة في خلق صفاتهم وسائر المخلوقات، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك‏.‏ وقد ظهر بهذين الوجهين تَدْليس القدرية‏.‏
    وأما تلك الحدود التي عورضوا بها فهي دعاوي ومخالفة أيضًا للمعلوم من الشرع واللغة والعقل، أو مشتملة على نوع من الإجمال، فإن قول القائل‏:‏ الظالم من قام به الظلم يقتضي أنه لابد أن يقوم به، لكن يقال له‏:‏ وإن لم يكن فاعلا له آمرًا له لابد أن يكون فاعلا له

    ج/ 18 ص -156- مع ذلك، فإن أراد الأول كان اقتصاره على تفسير الظالم بمن قام به الظلم كاقتصار أولئك على تفسير الظالم في فعل الظلم، والذي يعرفه الناس عامهم وخاصهم أن الظالم فاعل للظلم وظلمه فعل قائم به، وكل من الفريقين جحد بعض الحق‏.‏
    وأما قولهم‏:‏ من فعل محرما عليه أو منهيًا عنه ونحو ذلك، فالإطلاق صحيح‏.‏ لكن يقال‏:‏ قد دل الكتاب والسنة على أن اللّه تعالى كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين، وكان حقًا عليه أن يجزي المطيعين، وأنه حرم الظلم على نفسه، فهو سبحانه الذي حرم بنفسه على نفسه الظلم، كما أنه هو الذي كتب بنفسه على نفسه الرحمة لا يمكن أن يكون غيره محرما عليه أو موجبا عليه، فضلا عن أن يعلم ذلك بعقل أو غيره، وإذا كان كذلك فهذا الظلم الذي حرمه على نفسه هو ظلم بلا ريب، وهو أمر ممكن مقدور عليه، وهو سبحانه يتركه مع قدرته عليه بمشيئته واختياره؛ لأنه عادل ليس بظالم، كما يترك عقوبة الأنبياء والمؤمنين، وكما يترك أن يحمل البريء ذنوب المعتدين‏.‏
    ف
    bصل
    قوله‏:‏ ‏"‏وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا‏"‏ ينبغي أن يعرف أن هذا الحديث شريف القدر، عظيم المنزلة؛ ولهذا كان الإمام أحمد

    ج/ 18 ص -157-يقول‏:‏ هو أشرف حديث لأهل الشام، وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جَثَا على ركبتيه‏.‏ وراويه أبو ذر الذي ما أَظَلَّتِ الخضراء ولا أَقَلَّتِ الغبراء أصدق لهجة منه، وهو من الأحاديث الإلهية التي رواها الرسول ﷺ عن ربه، وأخبر أنها من كلام اللّه تعالى وإن لم تكن قرآنًا‏.‏
    وقد جمع في هذا الباب زاهر الشحامي وعبد الغني المقدسي وأبو عبد الله المقدسي وغيرهم ‏.‏
    وهذا الحديث قد تضمن من قواعد الدين العظيمة في العلوم والأعمال والأصول والفروع؛ فإن تلك الجملة الأولي وهي قوله‏:‏ ‏"‏حرمت الظلم على نفسي‏"‏ يتضمن جل مسائل الصفات والقدر إذا أعطيت حقها من التفسير، وإنما ذكرنا فيها ما لابد من التنبيه عليه من أوائل النكت الجامعة‏.‏
    وأما هذه الجملة الثانية وهي قوله‏:‏ ‏"‏وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏"‏ فإنها تجمع الدين كله؛ فإن ما نهي اللّه عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل؛ ولهذا قال تعالى‏:‏
    ‏"‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان؛ لأجل قيام الناس بالقسط‏.‏ وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق،

    ج/ 18 ص -158- فالكتاب يهدي والسيف ينصر،وكفي بربك هاديا ونصيرًا‏.‏
    ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف‏:‏ صنفان إذا صلحوا صلح الناس‏:‏ الأمراء والعلماء‏.‏ وقالوا في قوله تعالى‏:‏
    ‏"‏أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ ، أقوالا تجمع العلماء والأمراء؛ ولهذا نص الإمام أحمد وغيره على دخول الصنفين في هذه الآية؛ إذ كل منهما تجب طاعته فيما يقوم به من طاعة اللّه، وكان نواب رسول اللّه ﷺ في حياته؛ كعلي، ومعاذ، وأبي موسي، وعتاب بن أسيد، وعثمان بن أبي العاص، وأمثالهم، يجمعون الصنفين‏.‏ وكذلك خلفاؤه من بعده؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ونوابهم‏.‏
    ولهذا كانت السنة أن الذي يصلي بالناس صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد صاحب الحديد‏.‏ إلى أن تفرق الأمر بعد ذلك، فإذا تفرق صار كل من قام بأمر الحرب من جهاد الكفار وعقوبات الفجار يجب أن يطاع فيما يأمر به من طاعة اللّه في ذلك، وكذلك من قام بجمع الأموال وقسمها يجب أن يطاع فيما يأمر به من طاعة اللّه في ذلك، وكذلك من قام بالكتاب بتبليغ أخباره وأوامره وبيانها يجب أن يصدق ويطاع فيما أخبر به من الصدق في ذلك، وفيما يأمر به من طاعة اللّه في ذلك‏.‏

    ج/ 18 ص -159- والمقصود هنا أن المقصود بذلك كله هو أن يقوم الناس بالقسط؛ ولهذا لما كان المشركون يحرمون أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ويأمرون بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، أنزل الله في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما يذمهم على ذلك، وذكر ما أمر به هو وما حرمه هو فقال‏:‏ ‏"‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ على اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ ‏.‏
    وهذه الآية تجمع أنواع المحرمات كما قد بيناه في غير هذا الموضع‏.‏ وتلك الآية تجمع أنواع الواجبات كما بيناه أيضًا، وقوله‏:‏
    ‏"‏أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ ، أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا أصل الدين، وضده هو الذنب الذي لا يغفر، قال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ ، وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل، وأرسلهم به إلى جميع الأمم، قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ ،

    ج/ 18 ص -160-وقال تعالى‏:‏‏"‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏"‏[‏الشوري‏:‏ 13‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 51، 52‏]‏ ‏.‏
    ولهذا ترجم البخاري في صحيحه ‏[‏باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد‏]‏ وذكر الحديث الصحيح في ذلك، وهو الإسلام العام الذي اتفق عليه جميع النبيين‏.‏ قال نوح عليه السلام‏:‏
    ‏"‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏ وقال تعالى في قصة إبراهيم‏:‏ ‏"‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 131، 132‏]‏ ،‏"‏وَقَالَ مُوسَي يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعليه تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ‏"‏ [‏يونس‏:‏ 84‏]‏ ، و قال تعالى‏:‏ ‏"‏قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏ ‏.‏ وقال في قصة بلقيس‏:‏ ‏"‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ ‏.‏

    ج/ 18 ص -161- وهذا التوحيد - الذي هو أصل الدين-هو أعظم العدل،وضده وهو الشرك أعظم الظلم، كما أخرجا في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏"‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ ، شق ذلك على أصحاب النبي ﷺ، وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏:‏ إن الشرك لظلم عظيم‏"‏‏؟‏‏.‏ وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تجعل لله نِدّا وهو خلقك‏"‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ثم أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَم معك‏"‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تُزَاني بحليلة جارك‏"‏‏.‏ فأنزل الله تصديق ذلك‏:‏ ‏"‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ‏"‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ ‏.‏
    وقد جاء عن غير واحد من السلف، وروي مرفوعًا ‏"‏الظلم ثلاثة دواوين‏:‏ فديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا؛ فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا فهو الشرك؛ فإن الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏ وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فهو ظلم العباد بعضهم بعضًا؛ فإن الله لابد أن ينصف المظلوم من الظالم‏.‏ وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين

    ج/ 18 ص -162- ربه‏"‏ أي‏:‏ مغفرة هذا الضرب ممكنة بدون رضا الخلق؛ فإن شاء عذب هذا الظالم لنفسه وإن شاء غفر له‏.‏
    وقد بسطنا الكلام في هذه الأبواب الشريفة والأصول الجامعة في القواعد، وبينا أنواع الظلم، وبينا كيف كان الشرك أعظم أنواع الظلم، ومسمي الشرك جليله ودقيقه؛ فقد جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏الشرك في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل‏"‏‏.‏ وروي أن هذه الآية نزلت في أهل الرياء
    ‏"‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ ، وكان شداد بن أوس يقول‏:‏ يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية‏.‏ قال أبو داود السجستاني صاحب السنن المشهورة ‏:‏ الخفية حب الرياسة‏.‏ وذلك أن حب الرياسة هو أصل البغي والظلم، كما أن الرياء هو من جنس الشرك أو مبدأ الشرك‏.‏
    والشرك أعظم الفساد كما أن التوحيد أعظم الصلاح؛ ولهذا قال تعالى‏:
    ‏ ‏"‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏"‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ ، إلى أن ختم السورة بقوله‏:‏ ‏"‏تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا‏"‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ ، وقال‏:‏

    ج/ 18 ص -163- ‏"‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا على بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏"‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ ، وقالت الملائكة‏:‏ ‏"‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء‏"‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ ‏.‏
    فأصل الصلاح‏:‏ التوحيد والإيمان، وأصل الفساد‏:‏ الشرك والكفر‏.‏ كما قال عن المنافقين‏:‏
    ‏"‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11، 12‏]‏ ، وذلك أن صلاح كل شيء أن يكون بحيث يحصل له وبه المقصود الذي يراد منه؛ ولهذا يقول الفقهاء‏:‏ العقد الصحيح ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده‏.‏ والفاسد ما لم يترتب عليه أثره ولم يحصل به مقصود، والصحيح المقابل للفاسد في اصطلاحهم هو الصالح‏.‏
    وكان يكثر في كلام السلف‏:‏ هذا لا يصلح أو يصلح، كما كثر في كلام المتأخرين يصح ولا يصح، والله تعالى إنما خلق الإنسان لعبادته، وبدنه تَبَعٌُ لقلبه، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏
    ‏"‏ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد‏.‏ وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏"‏ وصلاح القلب‏:‏ في أن يحصل له وبه المقصود الذي خلق له من

    ج/ 18 ص -164- معرفة الله ومحبته وتعظيمه، وفساده في ضد ذلك‏.‏ فلا صلاح للقلوب بدون ذلك قط‏.‏
    والقلب له قوتان‏:‏ العلم، والقصد‏.‏ كما أن للبدن الحس، والحركة الإرادية، فكما أنه متي خرجت قوي الحس والحركة عن الحال الفطري الطبيعي فَسَدت‏.‏ فإذا خرج القلب عن الحال الفطرية التي يولد عليها كل مولود وهي أن يكون مقرًا لربه، مريدًا له، فيكون هو منتهي قصده وإرادته وذلك هي العبادة؛ إذ العبادة‏:‏ كمال الحب بكمال الذل، فمتي لم تكن حركة القلب ووجهه وإرادته لله تعالى كان فاسدًا؛ إما بأن يكون معرضًا عن الله وعن ذكره غافلًا عن ذلك مع تكذيب أو بدون تكذيب، أو بأن يكون له ذكر وشعور، ولكن قصده وإرادته غيره؛ لكون الذكر ضعيفًا لم يجتذب القلب إلى إرادة الله ومحبته وعبادته‏.‏ وإلا فمتي قوي علم القلب وذكره أوجب قصده وعلمه، قال تعالى‏:‏
    ‏"‏فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّي عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏ 29، 30‏]‏ ، فأمر نبيه بأن يعرض عمن كان معرضًا عن ذكر الله، ولم يكن له مراد إلا ما يكون في الدنيا‏.‏
    وهذه حال من فسد قلبه، ولم يذكر ربه، ولم ينب إليه، فيريد وجهه ويخلص له الدين‏.‏ ثم قال‏:‏
    ‏"‏ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ‏"‏[‏النجم‏:‏ 30‏]‏ فأخبر أنهم

    ج/ 18 ص -165- لم يحصل لهم علم فوق ما يكون في الدنيا، فهي أكبر همهم ومبلغ علمهم‏.‏ وأما المؤمن فأكبر همه هو الله، وإليه انتهي علمه وذكره‏.‏ وهذا الآن باب واسع عظيم قد تكلمنا عليه في مواضعه‏.‏
    وإذا كان التوحيد أصل صلاح الناس، والإشراك أصل فسادهم، والقسط مقرون بالتوحيد؛ إذ التوحيد أصل العدل، وإرادة العلو مقرونة بالفساد؛ إذ هو أصل الظلم -فهذا مع هذا وهذا مع هذا كالملزوزين في قرن، فالتوحيد وما يتبعه من الحسنات هو صلاح وعدل؛ ولهذا كان الرجل الصالح هو القائم بالواجبات، وهو البر، وهو العدل‏.‏ والذنوب التي فيها تفريط أو عدوان في حقوق الله تعالى وحقوق عباده هي فساد وظلم؛ ولهذا سمي قطاع الطريق مفسدين، وكانت عقوبتهم حقًا لله -تعالى- لاجتماع الوصفين، والذي يريد العلو على غيره من أبناء جنسه هو ظالم له باغ؛ إذ ليس كونك عاليا عليه بأولى من كونه عاليا عليك، وكلاكما من جنس واحد‏.‏ فالقسط والعدل أن يكونوا إخوة كما وصف الله المؤمنين بذلك‏.‏
    والتوحيد، وإن كان أصل الصلاح، فهو أعظم العدل؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبابا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ ؛ ولهذا كان تخصيصه

    ج/ 18 ص -166- بالذكر في مثل قوله‏:‏‏"‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ ، لا يمنع أن يكون داخلا في القسط، كما أن ذكر العمل الصالح بعد الإيمان لا يمنع أن يكون داخلا في الإيمان، كما في قوله‏:‏‏"‏وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ ، و ‏"‏مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ ، هذا إذا قيل‏:‏ إن اسم الإيمان يتناوله‏.‏ سواء قيل‏:‏ إنه في مثل هذا يكون داخلًا في الأول، فيكون مذكورًا مرتين، أو قيل‏:‏ بل عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلًا فيه هنا وإن كان داخلًا فيه منفردًا، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين، وأمثال ذلك مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران‏.‏ لكن المقصود أن كل خير فهو داخل في القسط والعدل، وكل شر فهو داخل في الظلم‏.‏
    ولهذا كان العدل أمرًا واجبًا في كل شيء وعلى كل أحد، والظلم محرمًا في كل شيء ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلًا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا أو كان ظالمًا، بل الظلم إنما يباح، أو يجب فيه العدل عليه أيضًا، قال تعالى‏:‏
    ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ لا يحملنكم شنآن، أي‏:‏ بغض قوم وهم الكفار على عدم العدل ‏"‏قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي‏"‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَمَنِ اعْتَدَي عليكُمْ فَاعْتَدُواْ عليه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عليكُمْ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ‏"‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 40‏]‏ ‏.‏
    وقد دل على هذا قوله في الحديث‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إني حرمت

    ج/ 18 ص -167-الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا‏"‏ فإن هذا خطاب لجميع العباد ألا يظلم أحد أَحَدًا،وأمر العالم في الشريعة مَبنْي على هذا،وهو العدل في الدماء والأموال والأبضاع والأنساب، والأعراض؛ ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك، ومقابلة العَادي بمثل فعله‏.‏ لكن المماثلة قد يكون علمها أو عملها متعذرًا أو متعسرًا؛ ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان، ويقال‏:‏ هذا أمثل، وهذا أشبه‏.‏ وهذه الطريقة المثلي لما كان أمثل بما هو العدل والحق في نفس الأمر إذ ذاك معجوز عنه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ ،فذكر أنه لم يكلف نفسًا إلا وسعها حين أمر بِتَوْفِية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لابد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات، وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه، فقال تعالى‏:‏ ‏"‏لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ ‏.‏
    ولهذا كان القصاص مشروعًا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف، كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عَظْم‏.‏ وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل، فإذا كان الجَنْفُ واقعًا في الاستيفاء عُدِل إلى بدله وهو

    ج/ 18 ص -168- الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه، وهذه حجة من رأي من الفقهاء أنه لا قَوَدَ إلا بالسيف في العنق‏.‏ قال‏:‏ لأن القتل بغير السيف، وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة، بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط، ونحو ذلك أشد إيلاما‏.‏ لكن الذين قالوا‏:‏ يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل، فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل‏.‏ وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته‏.‏
    وأما إذا قطع يديه ورجليه، ثم وسطه، فقوبل ذلك بضرب عنقه بالسيف، أو رَضّ رأسه بين حجرين فضرب بالسيف، فهنا قد تيقنا عدم المعادلة والمماثلة‏.‏ وكنا قد فعلنا ما تيقنا انتفاء المماثلة فيه، وأنه يتعذر معه وجودها، بخلاف الأول فإن المماثلة قد تقع؛ إذ التفاوت فيه غير متيقن‏.‏
    وكذلك القصاص في الضربة واللطمة، ونحو ذلك، عدل عنه طائفة من الفقهاء إلى التعزير؛ لعدم إمكان المماثلة فيه‏.‏ والذي عليه الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الصحابة، وهو مَنْصُوص أحمد‏:‏ ما جاءت به سنة رسول الله ﷺ من ثبوت القصاص به؛ لأن ذلك أقرب إلى العدل والمماثلة‏.‏ فإنا إذا تحرينا أن نفعل به من جنس فعله ونقرب

    ج/ 18 ص -169- القدر من القدر كان هذا أمثل من أن نأتي بجنس من العقوبة تخالف عقوبته جنسًا وقدرًا وصفة‏.‏
    وهذا النظر أيضًا في ضمان الحيوان والعقار، ونحو ذلك بمثله تقريبًا أو بالقيمة، كما نص أحمد على ذلك في مواضع ضمان الحيوان وغيره‏.‏ ونص عليه الشافعي فيمن خرب حائط غيره، أنه يبنيه كما كان‏.‏ وبهذا قضي سليمان عليه السلام في حكومة الحَرْث التي حكم فيها هو وأبوه، كما قد بين ذلك في موضعه‏.‏
    فجميع هذه الأبواب المقصود للشريعة فيها تحري العدل بحسب الإمكان، وهو مقصود العلماء، لكن أفهمهم من قال بما هو أشبه بالعدل في نفس الأمر، وإن كان كل منهم قد أوتي علمًا وحكمًا؛ لأنه هو الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل، وضده الظلم، كما قال سبحانه‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏"‏‏.‏
    ولما كان العدل لابد أن يتقدمه علم -إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل‏؟‏ والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه فصار عالمًا عادلًا- صار الناس من القضاة وغيرهم ثلاثة أصناف‏:‏العالم الجائر، والجاهل الظالم؛فهذان من أهل النار، كما قال النبي ﷺ‏:‏

    ج/ 18 ص -170- ‏"‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة‏:‏ رجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة، ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار‏"‏ فهذان القسمان كما قال‏:‏ ‏"‏من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار‏"‏‏.‏
    وكل من حكم بين اثنين فهو قاض، سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام‏.‏ ولما كان الحكام مأمورين بالعدل والعلم، وكان المفروض إنما هو بما يبلغه جهد الرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏"‏‏.‏
    فصل
    فلما ذكر في أول الحديث ما أوجبه من العدل وحرمه من الظلم على نفسه وعلى عباده- ذكر بعد ذلك إحسانه إلى عباده مع غناه عنهم وفقرهم إليه‏.‏ وأنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم ولا دفع مضرة إلا أن يكون هو الميسر لذلك‏.‏ وأمر العباد أن يسألوه ذلك، وأخبر

    ج/ 18 ص -171- أنهم لا يقدرون على نفعه ولا ضره مع عظم ما يوصل إليهم من النعماء، ويدفع عنهم من البلاء‏.‏ وجلب المنفعة ودفع المضرة؛ إما أن يكون في الدين أو في الدنيا، فصارت أربعة أقسام‏:‏ الهداية والمغفرة، وهما‏:‏ جلب المنفعة ودفع المضرة في الدين‏.‏ والطعام والكسوة، وهما‏:‏ جلب المنفعة ودفع المضرة في الدنيا‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ الهداية والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو ملك البدن، وهو الأصل في الأعمال الإرادية‏.‏ والطعام والكسوة يتعلقان بالبدن؛ الطعام لجلب منفعته، واللباس لدفع مضرته‏.‏
    وفتح الأمر بالهداية فإنها، وإن كانت الهداية النافعة، هي المتعلقة بالدين، فكل أعمال الناس تابعة لهدي الله إياهم، كما قال سبحانه‏:‏ ‏
    "‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعلى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَي‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏ ، وقال موسي‏:‏ ‏"‏رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَي‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏"[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا‏"‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ ‏.‏
    ولهذا قيل‏:‏ الهدي أربعة أقسام‏:‏
    أحدها‏:‏ الهداية إلى مصالح الدنيا؛ فهذا مشترك بين الحيوان الناطق والأعجم ، وبين المؤمن والكافر‏.‏

    ج/ 18 ص -172-والثاني‏:‏ الهدي بمعني دعاء الخلق إلى ما ينفعهم وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب، فهذا أيضًا يشترك فيه جميع المكلفين، سواء آمنوا أو كفروا، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَي على الْهُدَي‏"‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏"‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏‏"‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 52‏]‏ ، فهذا مع قوله‏:‏ ‏"‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏"‏ ‏[‏القصص‏:‏ 65‏]‏ ، يبين أن الهدي الذي أثبته هو البيان والدعاء، والأمر والنهي، والتعليم وما يتبع ذلك، ليس هو الهدي الذي نفاه، وهو القسم الثالث الذي لا يقدر عليه إلا الله‏.‏
    والقسم الثالث‏:‏ الهدي الذي هو جعل الهدي في القلوب‏.‏ وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام والإرشاد، وبعضهم يقول‏:‏ هو خلق القدرة على الإيمان؛ كالتوفيق عندهم، ونحو ذلك، وهو بناء على أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل‏.‏ فمن قال ذلك من أهل الإثبات جعل التوفيق والهدي، ونحو ذلك خلق القدرة على الطاعة‏.‏
    وأما من قال‏:‏ إنهما استطاعتان‏:‏
    إحداهما‏:‏ قبل الفعل، وهي الاستطاعة المشروطة في التكليف، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَلِلّهِ على النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سَبِيلًا‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ ،

    ج/ 18 ص -173- وقال النبي ﷺ لعمران بن حصين‏:‏ ‏"‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏ وهذه الاستطاعة يقترن بها الفعل تارة، والترك أخري، وهي الاستطاعة التي لم تعرف القدرية غيرها، كما أن أولئك المخالفين لهم من أهل الإثبات لم يعرفوا إلا المقارنة‏.‏ وأما الذي عليه المحققون من أئمة الفقه والحديث والكلام وغيرهم فإثبات النوعين جميعًا، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع؛ فإن الأدلة الشرعية والعقلية تثبت النوعين جميعًا‏.‏
    والثانية‏:‏ المقارنة للفعل، وهي الموجبة له، وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله‏:‏
    ‏"‏مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 20‏]‏ ، وفي قوله‏:‏ ‏"‏لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 101‏]‏ ‏.‏ وهذا الهدي الذي يكثر ذكره في القرآن في مثل قوله‏:‏ ‏"‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ ، وفي قوله‏:‏ ‏"‏مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏ ، وأمثال ذلك‏.‏
    وهذا هو الذي تنكر القدرية أن يكون الله هو الفاعل له، ويزعمون أن العبد هو الذي يهدي نفسه‏.‏ وهذا الحديث وأمثاله حجة عليهم، حيث قال‏:‏ ‏"‏يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم‏"‏ ، فأمر العباد بأن يسألوه الهداية، كما أمرهم بذلك في أم

    ج/ 18 ص -174- الكتاب في قوله‏:‏ ‏"‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ ،وعند القدرية أن الله لا يقدر من الهدي إلا على ما فعله من إرسال الرسل، ونصب الأدلة، وإزاحة العلة، ولا مزية عندهم للمؤمن على الكافر في هداية الله -تعالى، ولا نعمة له على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر في باب الهدي‏.‏
    وقد بين الاختصاص في هذه بعد عموم الدعوة في قوله‏:‏
    ‏"‏وَاللّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏ ، فقد جمع الحديث تنزيهه عن الظلم الذي يجوزه عليه بعض المثبتة، وبيان أنه هو الذي يهدي عباده، ردًا على القدرية‏.‏ فأخبر هناك بعدله الذي يذكره بعض المثبتة، وأخبر هنا بإحسانه وقدرته الذي تنكره القدرية، وإن كان كل منهما قصده تعظيمًا لا يعرف ما اشتمل عليه قوله‏.‏
    والقسم الرابع‏:‏ الهدي في الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الْحَمِيدِ‏"‏[‏الحج‏:‏ 23، 24‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏"‏[‏يونس‏:‏ 9‏]‏ ، فقوله‏:‏ ‏"‏يّهًدٌيهٌمً رّبٍَهٍمً بٌإيمّانٌهٌمً‏"‏ كقوله‏:‏

    ج/ 18 ص -175- ‏"‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ‏"‏ [‏الطور‏:‏ 21‏]‏ ، على أحد القولين في الآية‏.‏ وهذا الهدي ثواب الاهتداء في الدنيا، كما أن ضلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا، وكما أن قصد الشر في الدنيا جزاؤه الهدي إلى طريق النار، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏\احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22، 23‏]‏ ‏.‏
    وقال‏:‏ ‏"‏وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَي فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَي وَأَضَلُّ سَبِيلًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 72‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًي فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَيوَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليوْمَ تُنسَي‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 123‏:‏ 126‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أولياء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا‏"‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ ، فأخبر أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عميًا وبكما وصما، فإن الجزاء - أبدًا - من جنس العمل، كما قال ﷺ‏:‏ ‏"‏الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا

    ج/ 18 ص -176- والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار‏"‏‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"‏وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 149‏]‏ ، وأمثال هذا كثير في الكتاب والسنة‏.‏
    ولهذا -أيضًا- يجزي الرجل في الدنيا على ما فعله من خير الهدي بما يفتح عليه من هدي آخر؛ ولهذا قيل‏:‏ من عمل بما علم وَرَّثه الله علم ما لم يعلم‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏مُّسْتَقِيمًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 66‏:‏ 68‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏"‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ ، فسروه بالنصر والنجاة، كقوله‏:‏ ‏"‏يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏"‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ ‏.‏ وقد قيل‏:‏ نور يفرق به بين الحق والباطل‏.‏ ومثله قوله‏:‏ ‏"‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏ ، وعد المتقين بالمخارج من الضيق وبرزق المنافع‏.‏
    ومن هذا الباب قوله‏:‏ ‏
    "‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًي وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ‏"‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏ ،

    ج/ 18 ص -177-وقوله‏:‏ ‏"‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًي‏"‏[‏الكهف‏:‏ 13‏]‏ ‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏"‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا‏"‏[‏الفتح‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏ ‏.‏
    وبإزاء ذلك أن الضلال والمعاصي تكون بسبب الذنوب المتقدمة، كما قال الله‏:‏
    ‏"‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏"‏[‏الصف‏:‏ 5‏] ،‏"‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏ ، ‏"‏بَلْ طَبَعَ اللّهُ عليها بِكُفْرِهِمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً‏"[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏يَعْمَهُونَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 109، 110‏]‏ ‏.‏ وهذا باب واسع‏.‏
    ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها‏.‏ وقد شاع في لسان العامة أن قوله‏:‏
    ‏"‏وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ ، من الباب الأول؛ حيث يستدلون بذلك على أن التقوي سبب تعليم الله، وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل؛ واتقوا الله ويعلمكم، ولا قال‏:‏ فيعلمكم‏.‏ وإنما أتي بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني، وقد يقال‏:‏ العطف قد يتضمن معني الاقتران والتلازم، كما يقال‏:‏ زرني وأزورك، وسلم علينا ونسلم

    ج/ 18 ص -178- عليك، ونحو ذلك مما يقتضي اقتران الفعلين والتعاوض من الطرفين، كما لو قال لسيده‏:‏ اعتقني ولك على ألف، أو قالت المرأة لزوجها‏:‏ طلقني ولك ألف، أو اخلعني ولك ألف، فإن ذلك بمنزلة قولها‏:‏ بألف أو على ألف‏.‏
    وكذلك - أيضًا - لو قال‏:‏ أنت حر وعليك ألف، أو أنت طالق وعليك ألف، فإنه كقوله‏:‏ على ألف أو بألف عند جمهور الفقهاء‏.‏ والفرق بينهما قول شاذ‏.‏ ويقول أحد المتعاوضين للآخر‏:‏ أعطيك هذا وآخذ هذا، ونحو ذلك من العبارات، فيقول الآخر‏:‏ نعم وإن لم يكن أحدهما هو السبب للآخر دون العكس‏.‏ فقوله‏:‏
    ‏"‏وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ ، قد يكون من هذا الباب، فكل من تعليم الرب وتقوي العبد يقارن الآخر ويلازمه ويقتضيه، فمتي علمه الله العلم النافع اقترن به التقوي بحسب ذلك، ومتي اتقاه زاده من العلم، وهَلُمَّ جَرّا‏.‏
    فصل
    وأما قوله‏:‏ ‏"‏يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم‏"‏ فيقتضي أصلين عظيمين‏:‏

    ج/ 18 ص -179-أحدهما‏:‏ وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جَلْب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة‏.‏ وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"‏وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏ ، فالمأمور به هو المقدور للعباد، وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ‏"‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14‏:‏ 16‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‏"‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ‏"‏ [‏يس‏:‏ 47‏]‏ فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر‏.‏
    ومن هنا، يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب؛ ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏
    فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخَلَّ بواجب التوحيد؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء

    ج/ 18 ص -180- إذا اعتمدوا على الأسباب‏.‏ فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله، كما قال على - رضي الله عنه -‏:‏ لا يرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏"‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏"‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ ‏.‏
    وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركًا لما أمر به من الأسباب فهو أيضًا جاهل ظالم، عاص لله بترك ما أمره، فإن فعل المأمور به عبادة لله‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه‏"‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه مَتَابِ‏"‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ ، وقال شعيب عليه السلام ‏:‏ "‏عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ‏"‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ‏"‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عليكَ تَوَكَّلْنَا وَإليكَ أَنَبْنَا وَإليكَ الْمَصِيرُ‏"‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ ،

    ج/ 18 ص -181-فليس من فعل شيئًا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فعل توكلًا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه، وهما، مع اشتراكهما في جنس الذنب، فقد يكون هذا أَلْوَم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب‏.‏
    وقد روي أبو داود في سننه أن النبي ﷺ قضي بين رجلين‏.‏ فقال المقضي عليه‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏ فقال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس، فإن غلبك أمر فقل‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏"‏‏.‏
    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قَدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏، ففي قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز‏"‏ أمر بالتسبب المأمور به، وهو الحرص على المنافع‏.‏ وأمر مع

    ج/ 18 ص -182- ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله، فمن اكتفي بأحدهما فقد عصي أحد الأمرين، ونهي عن العجز الذي هو ضد الكيس‏.‏ كما قال في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس‏"‏، وكما في الحديث الشامي‏:‏ ‏"‏الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أَتْبَع نفسه هواها وتمني على الله‏"‏، فالعاجز في الحديث مقابل الكيس، ومن قال‏:‏ العاجز هو مقابل البر فقد حرف الحديث ولم يفهم معناه‏.‏ ومنه الحديث‏:‏ ‏"‏كل شيء بقدر حتى العجز والكيس‏"‏‏.‏
    ومن ذلك ما روي البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، يقولون‏:‏ نحن المتوكلون‏.‏ فإذا قدموا سألوا الناس فقال الله تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي‏"‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ ، فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجًا كان مطيعًا لله في هذين الأمرين، بخلاف من ترك ذلك ملتفتًا إلى أزْواد الحجيج، كَلًا على الناس، وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين، فهو ملتفت إلى الجملة، لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج، فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به‏.‏

    ج/ 18 ص -183- وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف؛طائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصًا، أو قدحًا في التوحيد والتوكل، وأن تركه من كمال التوكل والتوحيد، وهم في ذلك ملبوس عليهم، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوي في إخلاد النفس إلى البطالة؛ ولهذا تجد عامة هذا الضرب - التاركين لما أمروا به من الأسباب يتعلقون بأسباب دون ذلك، فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة، وإما أن يتركوا لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك، كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء أو نيل رزقه بلا سعي فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف، والسعي اليسير، وصرف تلك الهمة، والتوجه في عمل صالح ، أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم، أو نحوه‏.‏
    وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء أيضًا نقصًا وانقطاعًا عن الخاصة؛ ظنًا أن ملاحظة ما فرغ منه في القدر هو حال الخاصة‏.‏
    وقد قال في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏فاستكسوني أكسكم‏"‏ وفي الطبراني أو غيره عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسْعُ نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر‏"‏‏.‏ وهذا قد يلزمه أن يجعل أيضًا استهداء الله وعمله بطاعته من ذلك

    ج/ 18 ص -184- وقولهم يوجب دفع المأمور به مطلقًا، بل دفع المخلوق والمأمور، وإنما غلطوا من حيث ظنوا أن سبق التقدير يمنع أن يكون بالسبب المأمور به، كمن يتزندق فيترك الأعمال الواجبة، بناء على أن القدر قد سبق بأهل السعادة وأهل الشقاوة، ولم يعلم أن القدر سبق بالأمور على ما هي عليه، فمن قدره الله من أهل السعادة كان مما قدره الله تيسيره لعمل أهل السعادة، ومن قدره من أهل الشقاء كان مما قدره أنه ييسره لعمل أهل الشقاء، كما قد أجاب النبي ﷺ عن هذا السؤال في حديث على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وسراقة بن جُعْشُم، وغيرهم‏.‏
    ومنه حديث الترمذي‏:‏ حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه‏.‏ قال‏:‏ سألت النبي ﷺ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوي بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏
    ‏"‏هي من قدر الله‏"‏‏.‏
    وطائفة تظن أن التوكل إنما هو من مقامات الخاصة المتقربين إلى الله بالنوافل، وكذلك قولهم في أعمال القلوب وتوابعها، كالحب والرجاء والخوف والشكر، ونحو ذلك‏.‏ وهذا ضلال مبين، بل جميع هذه الأمور فروض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، ومن تركها بالكلية

    ج/ 18 ص -185- فهو إما كافر، وإما منافق، لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، ونصوص الكتاب والسنة طَافِحَة بذلك، وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور علمًا وعملًا بأقل لوما من التاركين لما أمروا به من أعمال ظاهرة مع تلبسهم ببعض هذه الأعمال، بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من ترك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة، وإن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة وأصولها، والأمور الظاهرة كمالها وفروعها التي لا تتم إلا بها‏.
    فصل
    وأما قوله‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي‏"‏ ‏"‏فاستغفروني أغفر لكم‏"‏ فالمغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ المغفرة لمن تاب، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ‏"‏ إلى قوله‏:‏ " ‏"‏ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 53، 54‏]‏ ، فهذا السياق مع سبب نزول الآية يبين أن المعني لا ييأس مذنب من مغفرة الله، ولو كانت ذنوبه ما كانت، فإن الله

    ج/ 18 ص -186- سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب‏.‏ وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب، فإن الله تعالى يغفر ذلك لمن تاب منه، قال تعالى‏:‏ ‏"‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ ، وقال في الآية الأخري‏: ‏"‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏"[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏[‏المائدة‏:‏73، 74‏]‏ ‏.‏
    وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب، كقول بعضهم‏:‏ إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا؛ للحديث الإسرائيلي الذي فيه‏:‏ ‏"‏فكيف من أضللت‏"‏‏.‏
    وهذا غلط؛ فإن الله قد بين في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر، الذين هم أعظم من أئمة البدع ‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏"‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ ، قال الحسن البصري‏:‏ انظروا إلى هذا الكرم‏!‏ عذبوا أولياءه وفتنوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة‏.‏

    ج/ 18 ص -187- وكذلك توبة القاتل ونحوه، وحديث أبي سعيد، المتفق عليه، في الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا يدل على قبول توبته، وليس في الكتاب والسنة ما ينافي ذلك، ولا نصوص الوعيد فيه وفي غيره من الكبائر بمنافية لنصوص قبول التوبة، فليست آية الفرقان بمنسوخة بآية النساء؛ إذ لا منافاة بينهما، فإنه قد علم يقينًا أن كل ذنب فيه وعيد فإن لُحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة؛ إذ نصوص التوبة مبينة لتلك النصوص، كالوعيد في الشرك وأكل الربا، وأكل مال اليتيم والسحر، وغير ذلك من الذنوب‏.‏ ومن قال من العلماء‏:‏ توبته غير مقبولة‏.‏ فحقيقة قوله التي تلائم أصول الشريعة أن يراد بذلك أن التوبة المجردة تسقط حق الله من العقاب‏.‏
    وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة، وهذا حق‏.‏ ولا فرق في ذلك بين القاتل وسائر الظالمين‏.‏ فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلابد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا استوفي المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسًا‏.‏ ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوض المظلوم من عنده فلا راد لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء؛ ولهذا في حديث القصاص الذي ركب فيه جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن

    ج/ 18 ص -188- أنيس شهرًا حتى شَافَهَهُ به، وقد رواه الإمام أحمد، وغيره، واستشهد به البخاري في صحيحه، وهو من جنس حديث الترمذي صِحَاحه أو حسانه، قال فيه‏:‏ ‏"‏إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر‏.‏ ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ‏:‏ أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا لأحد من أهل النار قِبَلَه مظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولا لأحد من أهل الجنة حتى أقصه منه‏"‏‏.‏ فبين في الحديث العدل والقصاص بين أهل الجنة وأهل النار‏.‏
    وفي صحيح مسلم، من حديث أبي سعيد‏:‏ ‏"‏أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة‏"‏ ، وقد قال سبحانه لما قال‏:‏ ‏
    "‏وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا‏"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ والاغتياب من ظلم الأعراض قال‏:‏ ‏"‏أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ ‏.‏فقد نبههم على التوبة من الاغتياب وهو من الظلم‏.‏
    وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏من كان عنده لأخيه مظلمة في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحل منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم

    ج/ 18 ص -189- ولا دينار إلا الحسنات والسيئات‏.‏ فإن كان له حسنات وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه، ثم يلقي في النار‏"‏ أو كما قال‏.‏ وهذا فيما علمه المظلوم من العِوَض، فأما إذا اغتابه أو قذفه ولم يعلم بذلك فقد قيل‏:‏ من شرط توبته إعلامه، وقيل‏:‏ لا يشترط ذلك، وهذا قول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد‏.‏ لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات، كالدعاء له، والاستغفار، وعمل صالح يهدي إليه، يقوم مقام اغتيابه وقذفه‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته‏.‏
    وأما الذنوب التي يطلق الفقهاء فيها نفي قبول التوبة، مثل قول أكثرهم‏:‏ لا تقبل توبة الزنديق وهو المنافق، وقولهم‏:‏ إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه تسقط عنه حدود الله، وكذلك قول كثير منهم أو أكثرهم في سائر الجرائم، كما هو أحد قولي الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد، وقولهم في هؤلاء‏:‏ إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام لم تقبل توبتهم فهذا إنما يريدون به رفع العقوبة المشروعة عنهم، أي‏:‏ لاتقبل توبتهم بحيث يخلي بلا عقوبة، بل يعاقب‏:‏ إما لأن توبته غير معلومة الصحة، بل يظن به الكذب فيها، وإما لأن رفع العقوبة بذلك يفضي إلى انتهاك المحارم وسد باب العقوبة على الجرائم، ولا يريدون بذلك أن من تاب من هؤلاء توبة صحيحة فإن الله لا يقبل توبته في الباطن؛ إذ

    ج/ 18 ص -190- ليس هذا قول أحد من أئمة الفقهاء، بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عليهمْ وَكَانَ اللّهُ علىمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 17، 18‏]‏ ‏.‏
    قال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب محمد ﷺ عن ذلك، فقالوا لي‏:‏ كل من عصي الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب‏.‏ وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال‏:‏ أنا الله، فلما أدركه الغرق قال‏:‏ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‏.‏ قال الله‏:‏ ‏
    "‏آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏"‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏ ، وهذا استفهام إنكار بَين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، فإن استفهام الإنكار؛ إما بمعني النفي إذا قابل الإخبار، وإما بمعني الذم والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا‏.‏
    ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا‏"‏ الآية ‏[‏غافر‏:‏ 83‏:‏ 84‏]‏ ‏.‏

    ج/ 18 ص -191-بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده؛ كفرعون وغيره، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ‏"‏، وروي‏:‏ ‏"‏ما لم يعاين‏"‏‏.‏
    وقد ثبت في الصحيحين أنه ﷺ عرض على عمه التوحيد في مرضه الذي مات فيه، وقد عاد يهوديًا كان يخدمه فعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال‏:‏
    ‏"‏الحمد لله الذي أنقذه بي من النار‏"‏، ثم قال لأصحابه‏:‏ ‏"‏آووا أخاكم‏"‏‏.
    ومما يبين أن المغفرة العامة في ‏[‏الزمر‏]‏ هي للتائبين أنه قال في سورة ‏[‏النساء‏]‏ ‏:‏ ‏
    "‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏ ، فقيد المغفرة بما دون الشرك وعلقها على المشيئة، وهناك أطلق وعمم، فدل هذا التقييد والتعليق على أن هذا في حق غير التائب؛ ولهذا استدل أهل السنة بهذه الآية على جواز المغفرة لأهل الكبائر في الجملة، خلافًا لمن أوجب نفوذ الوعيد بهم من الخوارج والمعتزلة، وإن كان المخالفون لهم قد أسرف فريق منهم من المرجئة، حتى توقفوا في لحوق الوعيد بأحد من أهل القبلة، كما يذكر عن غلاتهم أنهم نفوه مطلقًا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ونصوص الكتاب والسنة مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر

    ج/ 18 ص -192- من يعذب، وأنه لا يبقي في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏.‏
    النوع الثاني‏:‏ من المغفرة العامة التي دل عليها قوله‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا‏"‏ المغفرة بمعني تخفيف العذاب، أو بمعني تأخيره إلى أجل مسمي، وهذا عام مطلقًا؛ ولهذا شفع النبي ﷺ في أبي طالب مع موته على الشرك فنقل من غمرة من نار، حتى جعل في ضَحْضَاحٍ من نار، في قدميه نعلان من نار يغلي منهما دماغه‏.‏قال‏
    :‏ ‏"‏ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏"‏، وعلى هذا المعني دل قوله سبحانه‏:‏ ‏"‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ‏"‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏ ، ‏"‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عليها مِن دَآبَّةٍ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏ ، ‏"‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 30‏]‏ ‏.‏
    فصل
    وأما قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‏"‏ فإنه هو بين بذلك أنه ليس هو فيما يحسن به إليهم من إجابة الدعوات، وغفران الزلات بالمستعيض

    ج/ 18 ص -193- بذلك منهم جلب منفعة أو دفع مضرة، كما هي عادة المخلوق الذي يعطي غيره نفعًا ليكافئه عليه بنفع، أو يدفع عنه ضررًا؛ ليتقي بذلك ضرره، فقال‏:‏ ‏"‏إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني‏"‏، فلست إذا أخصكم بهداية المستهدي وكفاية المستكفي المستطعم والمستكسي بالذي أطلب أن تنفعوني، ولا أنا إذا غفرت خطاياكم بالليل والنهار أتقي بذلك أن تضروني، فإنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني؛ إذ هم عاجزون عن ذلك، بل ما يقدرون عليه من الفعل لا يقدرون عليه إلا بتقديره وتدبيره، فكيف بما لا يقدرون عليه‏؟‏ فكيف بالغني الصمد، الذي يمتنع عليه أن يستحق من غيره نفعًا أو ضرًا‏؟‏ وهذا الكلام كما بين أن ما يفعله بهم من جلب المنافع ودفع المضار فإنهم لن يبلغوا أن يفعلوا به مثل ذلك، فكذلك يتضمن أن ما يأمرهم به من الطاعات وما ينهاهم عنه من السيئات فإنه لا يتضمن استجلاب نفعهم، كأمر السيد لعبده، أو الوالد لولده، والأمير لرعيته، ونحو ذلك‏.‏ ولا دفع مضرتهم، كنهي هؤلاء أو غيرهم لبعض الناس عن مضرتهم‏.‏
    فإن المخلوقين يبلغ بعضهم نفع بعض ومضرة بعض، وكانوا في أمرهم ونهيهم قد يكونون كذلك، والخالق سبحانه مقدس عن ذلك، فبين تنزيهه عن لحوق نفعهم وضرهم في إحسانه إليهم بما يكون من

    ج/ 18 ص -194- أفعاله بهم وأوامره لهم، قال قتادة‏:‏ إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم‏.‏
    فصل
    ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن برهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غاية ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدني نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية، وينقص ملكه بالمعصية‏.‏ وإذا أعطي الناس ما يسألونه أنفد ما عنده ولم يغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفو وأمر ونهي لرجاء المنفعة وخوف المضرة‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا‏.‏ يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا‏"‏، إذ ملكه هو قدرته على التصرف‏.‏ فلا تزداد بطاعتهم ولا تنقص بمعصيتهم، كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم، وتنقص بقلة المطيعين لهم، فإن ملكه متعلق

    ج/ 18 ص -195- بنفسه، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء‏.‏
    والملك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير، ويراد به نفس التدبير والتصرف، ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كله‏.‏ وبكلٍّ حال، فليس بر الأبرار وفجور الفجار موجبًا لزيادة شيء من ذلك ولا نقصه، بل هو بمشيئته وقدرته يخلق ما يشاء، فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع، كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك، ولو شاء ألا يخلق مع بر الأبرار شيئًا مما خلقه لم يكن برهم محوجًا له إلى ذلك، ولا معينًا له كما يحتاج الملوك ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين‏.‏
    فصل
    ثم ذكر حالهم في النوعين سؤال بره وطاعة أمره اللذين ذكرهما في الحديث، حيث ذكر الاستهداء والاستطعام والاستكساء، وذكر الغفران والبر والفجور، فقال‏:‏ ‏"‏لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته

    ج/ 18 ص -196- ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أدخل البحر‏"‏،والخياط والمخيط‏:‏ما يخاط به، إذ الفعال والمفعل والمفعال من صيغ الآلات التي يفعل بها، كالمسعر، والمخلاب، والمنشار‏.‏ فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا وهم في مكان واحد وزمان واحد فأعطي كل إنسان منهم مسألته، لم ينقصه ذلك مما عنده إلا كما ينقص الخياط وهي الإبرة إذا غمس في البحر‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏"‏لم ينقص مما عندي‏"‏ فيه قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه يدل على أن عنده أمورًا موجودة يعطيهم منها ما سألوه إياه، وعلى هذا فيقال‏:‏ لفظ النقص على حاله؛ لأن الإعطاء من الكثير، وإن كان قليلا، فلابد أن ينقصه شيئًا ما‏.‏ ومن رواه‏:‏ ‏"‏لم ينقص من ملكي‏"‏ يحمل على ما عنده، كما في هذا اللفظ؛ فإن قوله‏:‏ ‏"‏مما عندي‏"‏ فيه تخصيص ليس هو في قوله‏:‏ ‏"‏من ملكي‏"‏‏.‏ وقد يقال‏:‏ المعطي؛ إما أن يكون أعيانًا قائمة بنفسها، أو صفات قائمة بغيرها‏.‏ فأما الأعيان فقد تنقل من محل إلى محل، فيظهر النقص في المحل الأول‏.‏ وأما الصفات فلا تنقل من محلها، وإن وجد نظيرها في محل آخر، كما يوجد نظير علم المعلم في قلب المتعلم من غير زوال علم المعلم، وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى

    ج/ 18 ص -197- الثاني‏.‏ وعلى هذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئًا، وهي من المسؤول كالهدي‏.‏
    وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات ألا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول؛ كاللون الذي ينقص، وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول، كما دعا النبي ﷺ على حمى المدينة أن تنقل إلى مَهيَعَة وهي الجحفة، وهل مثل هذا الانتقال بانتقال عين العرض الأول، أو بوجود مثله من غير انتقال عينه‏؟‏ فيه للناس قولان‏:‏ إذ منهم من يجوز انتقال الأعراض، بل من يجوز أن تجعل الأعراض أعيانًا، كما هو قول ضرار والنجار وأصحابهما، كبرغوث وحفص الفرد، لكن إن قيل‏:‏ هو بوجود مثله من غير انتقال عينه فذلك يكون مع استحالة العرض الأول وفنائه، فيعدم عن ذلك المحل ويوجد مثله في المحل الثاني‏.‏
    القول الثاني‏:‏ أن لفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسي والخضر الذي في الصحيحين من حديث ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي ﷺ، وفيه‏:‏
    ‏"‏أن الخضر قال لموسي لما وقع عصفور على قارب السفينة فنقر في البحر فقال‏:‏ يا موسي، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏"‏‏.‏ ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه لا يزول منه

    ج/ 18 ص -198- شيء بتعلم العباد، وإنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ما علق بمنقار العصفور إلى البحر‏.‏
    ومن هذا الباب كون العلم يورث، كقوله‏:‏ ‏"‏العلماء ورثة الأنبياء‏"‏ ومنه قوله‏:‏
    ‏"‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ‏"‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏ ، ومنه توريث الكتاب أيضًا كقوله‏:‏ ‏"‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا‏"‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ ، ومثل هذه العبارة من النقص، ونحوه تستعمل في هذا، وإن كان العلم الأول ثابتًا، كما قال سعيد بن المسيب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعًا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه، وقال‏:‏ نَزَفْتَنِي يا أعمى‏!‏ وإنْزَاف القليب، ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقي فيه شيء‏.‏ ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يَزُلْ علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب، لكن قد يقال‏:‏ التعليم إنما يكون بالكلام، والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه؛ ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏
    ويقال‏:‏ قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا، فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته‏.‏ ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه وكلمه فارقه أمور قامت به من حركات وأصوات،

    ج/ 18 ص -199- بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفًا، ومما يقوي هذا المعني أن الإنسان، وإن كان علمه في نفسه، فليس هو أمرًا لازمًا للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل، وقد ينساه ثم يذكره، فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخري‏.‏ وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تَكِلُّ النفس وتعي، حتى لا يقوي على استحضاره إلا بعد مدة، فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالمًا بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع، ومن قال هذا يقول‏:‏ كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولًا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو سبحانه منزهًا عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه، أو عن زوال علمه عنه، لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم‏.‏
    وتحقيق الأمر أن المراد ما أخذ علمي وعلمك من علم الله، وما نال علمي وعلمك من علم الله، وما أحاط علمي وعلمك من علم الله، كما قال‏:‏
    ‏"‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏"‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ، إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر، أي‏:‏ نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبه به جسمًا ينتقل من محل إلى محل ويزول

    ج/ 18 ص -200- عن المحل الأول، وليس المشبه كذلك؛ فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس، كما قال ﷺ‏:‏ ‏"‏إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر‏"‏، فشبه الرؤية بالرؤية، وهي، وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها، لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي، فكذلك هنا شبه النقص بالنقص، وإن كان كل من الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبه به، ليس مثل الناقص والمنقوص، والمنقوص منه المشبه به‏.‏
    ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم، بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث، يقتبس منه كل أحد، ويأخذون ما شاؤوا من الشهب، وهو باق بحاله، وهذا تمثيل مطابق، فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارًا من جنس تلك النار، وإن كان قد يقال‏:‏ إنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية، كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم؛ ولهذا قال على رضي الله عنه ‏:‏ العلم يزكو على العمل، أو قال‏:‏ على التعليم، والمال ينقصه النفقة‏.‏ وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏"‏مما عندي‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏من ملكي‏"‏ هو من هذا الباب، وحينئذ فله وجهان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يكون ما أعطاهم خارجًا عن مسمي ملكه ومسمي ما

    ج/ 18 ص -201- عنده، كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسي والخضر‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء، وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده، ولكن نسبته إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة‏.‏ ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روي هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر مرفوعًا، فيه‏:‏ ‏"‏لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، ورطبكم ويابسكم، سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني، ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جَوَادٌ ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له‏:‏ كن فيكون‏"‏، فذكره سبحانه أن عطاءه كلام، وعذابه كلام، يدل على أنه هو أراد بقوله‏:‏ ‏"‏من ملكي‏"‏ و‏"‏مما عندي‏"‏ أي‏:‏ من مقدوري، فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم، والله أعلم‏.‏
    ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر‏:‏ ‏"‏لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا إلا كما ينقص البحر‏"‏، وهذا قد يقال فيه‏:‏ إنه استثناء منقطع، أي‏:‏ لم ينقص من ملكي شيئًا، لكن يكون حاله حال هذه النسبة، وقد يقال‏:‏ بل هو تام، والمعني على ما سبق‏.‏

    ج/ 18 ص -202-فصل
    ثم ختمه بتحقيق ما بينه فيه من عدله وإحسانه، فقال‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلُومَنَّ إلا نفسه‏"‏، فبين أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانًا يستحق به الحمد؛ لأنه هو المنعم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها، ثم إحصائها، ثم توفية جزائها‏.‏ فكل ذلك فضل منه وإحسان؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو، وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين كما تقدم بيانه فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض، الذي يكون عدلًا لا فضلا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض فاستحق المعاوضة، وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسن إليه؛ ولهذا لم يكن المتعاوضان ليخص أحدهما بالتفضل على الآخر لتكافئهما، وهو قد بين في الحديث أن العباد لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، بل هو الذي أَحَقَّ الحق على نفسه بكلماته، فهو المحسن بالإحسان وبإحقاقه

    ج/ 18 ص -203- وكتابته على نفسه، فهو في كتابة الرحمة على نفسه، وإحقاقه نصر عباده المؤمنين، ونحو ذلك محسن إحسانًا مع إحسان‏.‏
    فليتدبر اللبيب هذه التفاصيل التي يتبين بها فصل الخطاب في هذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب، فمن بَيْن مُوجبٍ على ربه بالمنع أن يكون محسنًا متفضلًا، ومن بين مُسَوٍّ بين عدله وإحسانه وما تنزه عنه من الظلم والعدوان، وجاعل الجميع نوعا واحدًا‏.‏ وكل ذلك حَيْدٌ عن سنن الصراط المستقيم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏.‏
    وكما بَيَّنَ أنه محسن في الحسنات، متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها، بين أنه عادل في الجزاء على السيئات، فقال‏:‏ ‏"‏ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏ كما تقدم بيانه في مثل قوله‏:
    ‏ ‏"‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏ ‏.‏ وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري؛ عن شداد بن أوس؛ عن النبي ﷺ، أنه قال‏:‏ ‏"‏سيد الاستغفار أن يقول العبد‏:‏ اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏، ففي قوله‏:‏ ‏"‏أبوء لك بنعمتك على‏"‏ اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏وأبوء بذنبي‏"‏

    ج/ 18 ص -204- اعتراف منه بأنه مذنب، ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورًا لربه مستغفرًا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير، وغفران الشر من الشكور الغفور، الذي يشكر اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلل‏.‏
    وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم، فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له على القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه، ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسري‏.‏ وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم، ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين، الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر، كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي‏:‏ أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري‏.‏ أي مذهب وافق هواك تمذهبت به‏.‏
    وخير الأقسام، وهو القسم المشروع، وهو الحق الذي جاءت به الشريعة‏:‏ أنه إذا أحسن شكر نعمة الله عليه وحمده؛ إذ أنعم عليه بأن جعله محسنًا ولم يجعله مسيئًا، فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته وجميع حركاته وسكناته إلى ربه، ولا حول ولا قوة إلا به، فلو لم يهده لم يهتد، كما قال أهل الجنة‏:‏ ‏
    "‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ ، وإذا

    ج/ 18 ص -205- أساء اعترف بذنبه، واستغفر ربه وتاب منه، وكان كأبيه آدم الذي قال‏:‏ ‏"‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ ، ولم يكن كإبليس الذي قال‏:‏ ‏"‏بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39، 40‏]‏ ‏.‏ ولم يحتج بالقدر على ترك مأمور ولا فعل محظور، مع إيمانه بالقدر خيره وشره، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ونحو ذلك‏.‏
    وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله في قوله في هذا الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏، ولكن بسط ذلك وتحقيق نسبة الذنب إلى النفس مع العلم بأن الله خالق أفعال العباد فيه أسرار ليس هذا موضعها، ومع هذا فقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏"‏[‏النساء‏:‏ 78، 79‏]‏ ، ليس المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي، كما يظنه كثير من الناس حتى يحرف بعضهم القرآن ويقرأ‏:‏‏"‏فَمِن نَّفْسِكَ‏"‏‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ ، ومعلوم أن معني هذه القراءة يناقض القراءة المتواترة، وحتى يضمر بعضهم القول على وجه الإنكار له، وهو قول

    ج/ 18 ص -206- الله الحق، فيجعل قول الله الصدق الذي يحمد ويرضي قولًا للكفار يكذب به ويذم، ويسخط بالإضمار الباطل الذي يدعيه، من غير أن يكون في السياق ما يدل عليه‏.‏
    ثم إن من جهل هؤلاء ظنهم أن في هذه الآية حجة للقدرية واحتجاج بعض القدرية بها؛ وذلك أنه لا خلاف بين الناس في أن الطاعات والمعاصي سواء من جهة القدر‏.‏ فمن قال‏:‏ إن العبد هو الموجد لفعله دون الله، أو هو الخالق لفعله، وأن الله لم يخلق أفعال العباد، فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية‏.‏
    ومن أثبت خلق الأفعال وأثبت الجبر أو نفاه، أو أمسك عن نفيه وإثباته مطلقًا، وفصل المعني أو لم يفصله فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية‏.‏ فتبين أن إدخال هذه الآية في القدر في غاية الجهالة؛ وذلك أن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها المسار والمضار دون الطاعات والمعاصي، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏"
    ‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏ ، وهو الشر والخير في قوله‏:‏ ‏"‏وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏"‏ [‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ ‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏
    ‏"‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 10‏]

    ج/ 18 ص -207-،وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏"‏ [‏الأعراف‏:‏ 94، 95‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ‏"‏[‏ الأعراف‏:‏ 131‏]‏ ‏.‏
    فهذه حال فرعون وملئه مع موسي ومن معه، كحال الكفار والمنافقين والظالمين مع محمد وأصحابه، إذا أصابهم نعمة وخير قالوا‏:‏ لنا هذه ، أو قالوا‏:‏ هذه من عند الله، وإن أصابهم عذاب وشر تطيروا بالنبي والمؤمنين، وقالوا‏:‏ هذه بذنوبهم، وإنما هي بذنوب أنفسهم لا بذنوب المؤمنين، وهو سبحانه ذكر هذا في بيان حال النَّاكِلِين عن الجهاد الذين يلومون المؤمنين على الجهاد، فإذا أصابهم نصر، ونحوه قالوا‏:‏ هذا من عند الله، وإن أصابتهم محنة قالوا‏:‏ هذه من عند هذا الذي جاءنا بالأمر والنهي والجهاد، قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ‏"‏ ، إلى قوله‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عليهمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ علينَا الْقِتَالَ‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 71‏:‏ 78‏]‏ ، أي هؤلاء المذمومين ‏"‏يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ‏"‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ ، أي بسبب أمرك ونهيك،

    ج/ 18 ص -208- قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏"‏[‏النساء‏:‏ 78، 79‏]‏ ، أي‏:‏ من نعمة ‏"‏فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ ، أي‏:‏ فبذنبك‏.‏ كما قال‏:‏ ‏"‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 30‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏"‏ ‏[‏الروم‏:‏ 36‏]‏ ‏.‏
    وأما القسم الثالث في هذا الباب‏:‏ فهم قوم لبسوا الحق بالباطل، وهم بين أهل الإيمان أهل الخير وبين شرار الناس وهم الخائضون في القدر بالباطل، فقوم يرون أنهم هم الذين يهدون أنفسهم ويضلونها، ويوجبون لها فعل الطاعة وفعل المعصية، بغير إعانة منه وتوفيق للطاعة، ولا خذلان منه في المعصية‏.‏ وقوم لا يثبتون لأنفسهم فعلًا ولا قدرة ولا أمرًا‏.‏
    ثم من هؤلاء من يَنْحَلُّ عن الأمر والنهي فيكون أكفر الخلق، وهم في احتجاجهم بالقدر متناقضون؛ إذ لا بد من فِعْلٍ يحبونه وفعل يبغضونه، ولابد لهم ولكل أحد من دفع الضرر الحاصل بأفعال المعتدين، فإذا جعلوا الحسنات والسيئات سواسية لم يمكنهم أن يذموا أحدا، ولا يدفعوا ظالمًا، ولا يقابلوا مسيئًا، وأن يبيحوا للناس من أنفسهم كل ما يشتهيه مُشْتَهٍ، ونحو ذلك من الأمور التي لا يعيش

    ج/ 18 ص -209- عليها بنو آدم؛إذ هم مضطرون إلى شرع فيه أمر ونهي أعظم من اضطرارهم إلى الأكل واللباس‏.‏
    وهذا باب واسع لشرحه موضع غير هذا‏.‏ وإنما نبهنا على ما في الحديث من الكلمات الجامعة والقواعد النافعة بنُكَتٍ مختصرة، تنبه الفاضل على ما في الحقائق من الجوامع والفوارق، التي تفصل بين الحق والباطل في هذه المضائق، بحسب ما احتملته أوراق السائل‏.‏ والله ينفعنا وسائر إخواننا المؤمنين بما علمناه، ويعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، وأستغفر الله العظيم لي ولجميع إخواننا المؤمنين‏.‏
    والحمد لله رب العالمين‏.‏ وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML